اغتيال كريم بلقاسم، من الفاعل؟
لا أخفي عليكم أن اغتيال كريم بلقاسم قضية قد أثارت فضولي منذ فترة بعيدة جدا، فمن جهة كان عمي رحمة الله عليه، يكلمني كثيرا عن هذا الرجل، الذي التحق بجبال الجرجرة سنين قبل اندلاع الثورة، ليبدأ التحضير لحرب، ستنهي 132 سنة من الاستعمار الغاشم، كما كان كثير الكلام على صديقه كريم بلقاسم ذلك السياسي المحنك والخطيب المفوه، والزعيم الثوري الذي لا يشق له غبار، ولعل أكثر أحاديثه وهو يتجرع مرارة الواقعة، حين كان يكلمني عن ظروف هروبه للخارج، ليعيش فارا متنقلا بين الدول، وكيف تمكن منه الأعداء فاغتالوه بطريقة مشينة، ليموت موتة لا تليق برجل مثله. نعم أقولها علنا ولا أخفيها، كان عمي رحمة الله عليه، صديقا مقربا من كريم بلقاسم أثناء الثورة، لكن الاستقلال فرق بينهما، ففي الوقت الذي ترك فيه كريم بلقاسم المجموعة، ليشق طريقه بمفرده، التحق عمي بمجموعة وجدة، واختار بن بلة صديقه القديم من أيام النضال في الكشافة الإسلامية الجزائرية وحزب الشعب، على البقاء وفيا للرجل الذي اشتغل معه لسنين طويلة في وزارة القوات المسلحة، ثم الداخلية، فوزارة الخارجية قبل الاستقلال بمدة وجيزة.
أثناء زياراتي المتكررة والمستمرة لعمي خصوصا خلال فترة مرضه التي سبقت وفاته بمدة، كنت أمضي معه ساعات طوال في الحديث عن كل شيء يتعلق بالجزائر، انطلاقا من حزب الشعب الجزائري، مرورا بثورة التحرير، ووصولا لمرحلة الاستقلال، التي فرقت بين الإخوة لتجعلهم أعداء، لم يتوانوا في ضرب بعضهم البعض تحت الحزام، ذلك الكم الهائل من المعلومات التي حصلتها من خلال احتكاكي بعمي رحمة الله عليه، أثارت فضولي ودفعتني دفعا للبحث في قضية اغتيال رئيس وفد جبهة التحرير الوطني خلال مفاوضات إيفيان، وأحد أقوى قادة الثورة، وأحد أكبر زعمائها، ليبدأ سؤال واحد يطرح نفسه علي باستمرار وهو:
معلوم ان الرئيس بومدين كان ينبذ العنف والقتل، والدليل على ذلك هو عفوه على الذين أطلقوا عليه النار فيما هو معروف بمؤامرة قصر الحكومة أو مؤامرة أبريل 1968، كما تطابقت الكثير من المصادر عندي على أنه كان رجلا لا يلجئ لاستعمال القوة إلا عند الضرورة الشديدة، فهل من الممكن أن يكون بومدين هو من أمر بتصفية كريم بلقاسم، كما هو مروج له؟ ثم لماذا ضمن ذلك العدد الهائل من المعارضين الذين انشقوا عنه وهربوا للعيش في الخارج مثل: أحمد محساس، البشير بومعزة، محمد لبجاوي، وغيرهم، لماذا لم تتم تصفية إلا ثلاث عناصر اثنان في فترة حكم الرئيس بومدين وهما: محمد خيضر عام 1967، ثم كريم بلقاسم عام 1970، وعنصر واحد فقط لا غير خلال فترة حكم الرئيس الشاذلي هو علي مسيلي رحمهم الله جميعا؟ بينما كان بإمكان قاصدي مرباح تصفية جميع المعارضين جملة واحدة؟ كل هذه الأسئلة دفعتني لإجراء بحث معمق وطويل على مدار 5 سنوات ونصف، لم أترك خلالها أي شخص له علاقة بالموضوع إلا واتصلت به طالبا شهادته، فمنهم من تهرب وقطع الاتصال منذ أول لقاء، ومنهم من كان سخيا في شهادته مثل المجاهد الطاهر تينويلين، بينما تحفظت الأغلبية، مما صعب من عملي وجعله شبه مستحيل التحقيق.
كدت أن أتوقف نهائيا عن البحث في الموضوع بسبب شح المعلومة، وتهرب الفاعلين عن تقديم شهاداتهم حتى التقيت صدفة بالعقيد قاصدي مرباح الذي كان حينها قد ترك السلطة، وأسس حزبا سياسيا معارضا، أثناء اللقاء الذي جمعني به، أعجب قاصدي مرباح باقدامي ورغبتي الجامحة في البحث، فأكد لي ثلاث نقاط أساسية:
أولها: أن الرئيس بومدين، والنظام ككل بريء من دم كريم بلقاسم.
ثانيا: أن كريم زج به في قضية كبيرة جدا كان الهدف منها ضرب الاستقرار والأمن الوطني في صميمه.
ثالثا: أن الرئيس بومدين كلف رئيس المكتب المركزي للتعاون الدولي برئاسة الجمهورية النقيب (ب ب) بمهمة الاتصال بكل المعارضين في الخارج وعلى رأسهم كريم بلقاسم، ليعرض عليهم اختيار واحد من اثنان: العودة للجزائر والعيش بشرف، وفق الشروط التي يتم تحديدها بين الطرفين، ثانيا: البقاء في الخارج مع التكفل بهم ماديا فإذا احتاجوا أي مساعدة مالية فالجزائر أولى بتقديمها لهم، وكان الهدف من ذلك حمايتهم من أي ابتزاز أو اغراء مالي تقدمه أجهزة المخابرات الأجنبية.
لقد فتح لي قاصدي مرباح بابا وضعني في مركز القضية، مما شجعني على الاتصال بذلك الضابط الذي كان قمة في التربية والثقافة والآدب، ليقص علي العقيد (ب ب) حيثيات القضية، ويقدم لي البراهين الساحقة الماحقة، على أن المخابرات الإسرائيلية هي من تقف خلف عملية اغتيال كريم بلقاسم.
فبالمختصر المفيد، بعد حرب الستة أيام عام 1967، قدم الرئيس هواري بومدين دعما ماليا لكل من مصر وسوريا قدر حينها بـ200 مليون دولار، يمثل هذا الغلاف المالي، ميزانية الجزائر المخصصة لتمويل مشاريع المخطط الرباعي الأول 1967-1970، بفضل ذلك المال اعادت مصر وسوريا بناء قواتها المسلحة التي دمرت خلال حرب 67، كما أشرف الرئيس بومدين بنفسه على المفاوضات مع قيادة الاتحاد السوفيتي، لتمرير صفقات شراء الأسلحة لصالح الجيشين المصري والسوري، ثم أرسل حوالي 14 طائرة حربية التي كانت تمثل حينها القوة الجوية الجزائرية فأهداها لمصر لمساعدتها على إعادة بناء سلاحها الجوي الذي دمر 90 % منه خلال تلك الحرب.
كل هذه المعطيات، جعلت من الرئيس بومدين شخصية سياسية عربية يجب التخلص منها سريعا، لأنه أصبح يهدد الأمن القومي الإسرائيلي، فوضع اسمه (أي اسم الرئيس بومدين) في قائمة الشخصيات العربية الواجب تصفيتها ضمن عملية القيثارة الهادئة.
خلال الفترة الممتدة بين عام 1967 إلى 1970، تعرض الرئيس بومدين لمحاولة انقلابية فاشلة عرفت بحركة 14 ديسمبر 1967، التي كان على رأسها العقيد الطاهر الزبيري، ثم محاولة اغتياله باستعمال الرصاص الحي عند خروجه من اجتماع مجلس الوزراء بقصر الحكومة بتاريخ 25 أبريل 1968، ليتم اكتشاف في نهاية عام 1968 عملية خطيرة جدا كان الهدف منها اسقاط الرئيس بومدين من خلال انقلاب عسكري دموي، ليُحَالَ جميع المتهمين ضمن هذه القضية أمام المحكمة الثورية بوهران في شهر أبريل عام 1969، ويصدر حكما بالإعدام في حق كريم بلقاسم.
كان من بين المتهمين الرئيسيين في هذه القضية (قضية التخطيط لقلب نظام الحكم عام 1969) شخص عرفته عن قرب، وكنت كثير التردد على بيته هو المجاهد (ب ح ح) الذي قص علي بالتدقيق، كيف اتصل كريم بلقاسم سرا بالمسمى (ب ت م) عن طريق صديق مشترك بينهما هو المجاهد (ح ل)، ليبلغه أن كريم يريد منه ان يوفد له على جناح السرعة، شخصية موثوق فيها لأمر مهم جدا؛ اتصل (ب ت م) بـ (ب ح ح) وطلب منه زيارته في بيته بمدينة مستغانم لأمر مهم ومستعجل، فما كان من (ب ح ح ) إلا ان انتقل من وهران نحو مستغانم للقاء (ب ت م).
خلال لقائهما أبلغ (ب ت م) صديقه ورجل ثقته (ب ح ح) أن كريم بلقاسم طلب منه زيارته في باريس، أو ايفاد له شخصية موثوق فيها لأمر مهم، وبما ان الأول (أي ب ت م) كان مراقب من طرف الأمن العسكري، اتفق الاثنان على أن يسافر (ب ح ح) لباريس قصد استطلاع الأمر، على أن يؤخر قضية سفره لفرنسا مدة أسبوع عن الأقل حتى لا تربط أجهزة الأمن، بين اللقاء الذي تم بين الرجلين، و سفره السريع نحو فرنسا.
كان المرحوم (ب ح ح) صديقا مقربا من السياسي السويسري جون زيغلر، فحتى لا يثير انتباه أجهزة الأمن، انتقل أولا نحو سويسرا قصد زيارة صديقه السالف الذكر، ثمن من سويسرا توجه سرا وبجواز سفر مزور، نحو العاصمة الفرنسية باريس، للقاء كريم بلقاسم الذي كان مرفوقا بسليمان عميرات، ومحفوظ عبدو.
يتبع