الخصي الأمين : نوادر من ساسة العصر.

طويق (!)

عضو
إنضم
24 مارس 2013
المشاركات
2,872
التفاعل
6,174 49 0
الدولة
Saudi Arabia

أهدأوا ، سيطروا على عواطفكم ، الحديث ليس عن الدول العربية ، بل عن وسط افريقيا ، وإن أردتم ، عن دولة في كوكب المريخ ، المهم أهدأوا ، ثم، صفوا النية ، رحمكم الله ، فنحن نتحدث عن "شيء" من نوع آخر ، لا عن ما تظنون، وبالأحرى "نوعين" وليس واحد ، وقبل أن نصل معا للمعنى الحرفي للكلمة ، دعونا نعّرف بصاحبنا من النوع الأول ، فهو قامة فكرية وعلمية في محيط مجتمعه ، وفي الخارج أيضاً ، وسيم ، مفوه ، ممشوق القوام ، يرتدي البدلة مع ربطة عنق عصرية، اختاره رجل من النوع الآخر ، عسكري ، لا يملك أي درجة علمية إدارية واقتصادية أو فكرية أبداً ، فكره متصل بمبدأ السمع والطاعة العسكري، وتنفيذ الأوامر بلا أي تفكير وسؤال ، إلا أنه ، ومع ذلك كله ، فهو فخامة رئيس البلاد ، ليكون ذلك الأول، رئيس مجلس الوزراء في البلد ، فوضع في مكتب واسع ، هو حقاً ، جميل وفخم ، غير أنه لم يستطع أن يفتح أي درج ودولاب فيه بالمرة، علم في النهاية ، أن مفتاح "الأدراج" في مكان آخر ، ووجد فقط على سطح المكتب عدة أوراق ، تحتاج توقيعه لا أكثر ، وبعد أخذ ورد ، أكتشف أنه رئيس بلا صلاحيات ، واجهة براقة لقرارات الرجل الثاني، فإن كان الأول "مدير بلا مفتاح" ، فالآخر ، "قفل" مكسور فيه المفتاح ، والقفل هنا ، بالتعبير المجازي المصري ، قفل في تفكيره ، لا يأخذ مشورة ، لا يسأل عن رأي ، وزيادة في البؤس ، مكسور فيه المفتاح ، بلا أمل في أي إصلاح ، فأي نجاح يرجى من خصي الصلاحيات ، وخصي الفكر.

نوادر العصر من الساسة في العالم ، محصورون في هذين النوعين من "الرجال" ، والحمد لله أنهما من النوادر، إنما المأساة الحقيقية ، هي في ذلك الشعب البائس الصبور، الوفي لوطنه، فرغم المعاناة ، إلا أنه صابر وراضي بما هو فيه ، يملك جنسية وطن مسلوب أرادته ، منهوبة خيراته ، ليهاجر أبنائه للخارج ، بحثاً عن لقمة عيش يرسلونها لآبائهم وأطفالهم في ذلك الوطن ، والذي يذكرني، مع فارق التشبيه بالطبع ، بقصة في الأدب العربي القديم ، حول شكوى الزوجة لزوجها من فقرهم وحالهم البائس ، إذ تقول ، شاكية الحال والمآل : حتى وجود الفأر في بيتنا ، هو وجود وفاء ومواطنة ، وإلا فهو يقتات من بيت الجيران.​
 
كتب داود الشريان نص جميل في مثل هذا الموضوع :

فجل يا كلاب​

كان اسمه جنكيز. ضابطا كبيرا في الجيش، متجهما، لا يبتسم إلا لنفسه. عاش سنوات الهيبة، يحيي بيده في خيلاء، ويصيح فينتصب له الجنود صفا. لم يعرف التواضع، ولا الحاجة، ولا حتى الرد على السلام. ثم تقاعد. تقاعد دون وداع. لا موكب، ولا خبر في جريدة. عاد إلى بيته. لا خدم، لا ضجيج . بيت ضيق، وأسرة أنهكتها الرتبة، ثم الفقر. لم يعد أحد يناديه بـ"سيادة اللواء " . جلس في مقهى الحي، يدخن بشراهة، ويحدث الجميع عن أمجاده، وخطط أنقذت البلاد. لكن أحدا لم يصغ ، وبعض الشباب أنصتوا له ساخرين. لم يفهم. لم يعتد السخرية. تدهورت أحواله. زوجته تستدين، أطفاله يخجلون من السؤال، وكيس الخبز بات عبئا. الكرامة التي تغنى بها، أصبحت سكينا في البيت. أهل الحي رق قلبهم. عرضوا عليه عملا ؛ حارسا، بائعا، صاحب كشك شاي ، فكان ينفخ صدره ويرد ؛ " أنا ضابط ، لست حمالا . " وذات يوم، بعد جدال حاد في السوق على سعر البصل، اجتمعوا وقرروا مساعدته بطريقتهم. اشتروا له صندوقا خشبيا، وملأوه بالفجل، ثم قال له أحدهم بحزم ؛ هذا عملك يا جنكيز بك. تبيع لتأكل لا لتأمر. رفض أولا وغضب ، ثم هدأ. فالجوع لا يحترم الرتبة. في اليوم التالي، شوهد جنكيز يمشي في الحي، يحمل الصندوق على رأسه، وينادي بصوت أجش غاضب: " فجل يا كلاب! " ضحك بعضهم. وبكى آخرون. أما هو، فكان كلما صاح، يصرخ في داخله ؛ " أنا لست بائع فجل ، أنا كنت ضابطا. كنت شيئا . " لكن أحدا لم يعد يهتم بما كان. فالحي لا يعيش على الذكريات ، بل على ما في الصندوق.
 
عودة
أعلى