بقلم: رئيس تحرير الصحيفة ألوف بن
المصدر: هآرتس
في صيف 1966. كانت حرب فيتنام في أوجها، وكان مئات الآلاف من الجنود الأميركيين يقاتلون في أدغال آسيا ضد الفيتكونغ. فوردت فكرة لامعة في خاطر محرّري صحيفة "معاريف"، التي كانت الصحيفة الأكثر انتشاراً في إسرائيل آنذاك: إرسال موشيه دايان، الذي كان يشعر بالملل، كعضو كنيست في المعارضة، إلى الميدان للعمل محللاً عسكرياً. استجاب دايان لهذه المغامرة، وعلى مدى شهرين، تنقّل بين عواصم الغرب وميادين القتال، وشارك في جولات ميدانية وكمائن، والتقى قادة الحرب وضباطها.
إن مذكرات دايان، التي جُمعت في كتاب "يوميات فيتنام"، تثير غيرة الصحافيين. وكانت شهرة قائد حرب سيناء سبقته، وفتحت له كل الأبواب تقريباً. ففي لندن، التقى مونتغمري، بطل الحرب العالمية الثانية، وفي واشنطن، وزير الدفاع ماكنامارا، مهندس الحرب، وفي سايغون، اجتمع بالجنرال ويستمورلاند، الذي أصبح اسمه اليوم رمزاً لهزيمة مهينة، لكنه حينها، كان لا يزال يأمل بالنصر. كان المتحدثون معه متعطشين لنقده المهني، هذا الجنرال الإسرائيلي الذي فهم منذ اللحظة الأولى أن حرب الأميركيين لا طائل منها.
كانت كتابة دايان جذابة، وكان تحليله حاداً وقاسياً ("الموتى قد ماتوا، والأحياء أحياء"، كتب عن وحدة عسكرية تكبدت خسائر وعادت إلى القتال، مثلما قال عن قتلى الجيش الإسرائيلي في إحدى عمليات الرد في غزة). لكن قوة الكتاب لا تكمن فقط في جانبه التاريخي، بل أيضاً في صلته بالأحداث الراهنة. لقد بدا ضباط الإعلام الأميركيون، الذين عرضوا على الضيف الإسرائيلي إنجازات القتال، كأنهم يقدمون إحاطات الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي في الحرب الحالية: كذا وكذا قتلى للعدو، وكذا وكذا نسبة من الأرض تحت سيطرتنا. دايان لم ينبهر: لقد فهم أن الفيتكونغ يعيدون السيطرة على كلّ منطقة يُفترض أنها "طُهّرت" بمجرد انسحاب الأميركيين منها، تماماً مثل "حماس" في غزة، التي تعود إلى الحياة مع عشرين ألف مقاتل ومئات الكيلومترات من الأنفاق، بعد أن كان يُعتقد أنها هزِمت وقُتل قادتها.
لا يوجد وحلٌ في غزة مثل فيتنام، لكن التشابه بين الحربين مُلفت للنظر، ومثلما هي الحال في الجيش الإسرائيلي اليوم، أظهر القادة الأميركيون روحاً هجومية، واعتمدوا على قوة نارية هائلة وتكنولوجيا متقدمة لم تكن متوفرة لدى العدو، واحتقروا أرواح المدنيين الذين قُصفت مناطقهم وهُجّروا من قراهم، تماماً مثلما حدث مع الفلسطينيين في رفح والشجاعية وخان يونس. وطبعاً، هناك فروق: الأميركيون كانوا يعملون بعيداً عن الوطن، بينما الفيتكونغ لم يهاجموا أميركا، ولم يختطفوا مدنيين أميركيين، وحربهم في آسيا لم تكن بدافع "التعصب الديني"، مثلما هي الحال لدينا.
ومع ذلك، بعد عام ونصف العام على اندلاع الحرب، يبدو أن بنيامين نتنياهو ويسرائيل كاتس وأيال زامير يسيرون في الطريق المسدود ذاته الذي سلكه الرئيس جونسون والوزير ماكنامارا والجنرال ويستمورلاند. رئيس الحكومة توقف عن الوعد بتحقيق نصر حاسم، وعلّق آماله على دول بعيدة قد تستوعب الفلسطينيين، وتتيح لإسرائيل تنفيذ تطهير عرقي في غزة ("رحيل طوعي"). زامير يصور سلفه كخاسر، ويقدم نفسه على أنه صاحب وصفة النصر، إذا ما سُمح له فقط بتنفيذ خططه. هذا هو السياق لتغيير تقييمات الجيش الإسرائيلي بشأن إنجازاته في غزة، والتي انقلبت من حسم إلى تعثُّر مع تبدُّل رؤساء الأركان.
يبدو أن زامير يخشى من الخسائر أكثر من هرتسي هليفي، وبدلاً من تنفيذ عمليات "البحث والتدمير" البرية، فإن الجيش الإسرائيلي لا يجازف، بل يهاجم عناصر "حماس" من الجو، الأمر الذي يسبب قتلاً ودماراً هائلَين للفلسطينيين العزّل. وفي المقابل، تفعل "حماس"، تماماً مثلما فعل الفيتكونغ، هي التي تقرر متى وأين تقاتل، وتفضّل التواري، والسيطرة على السكان، وتجميع القوة، على أمل أن يجبر دونالد ترامب نتنياهو على وقف إطلاق النار والانسحاب، في مقابل الإفراج عن الأسرى. لكن، إذا فشل التفاوض، واستعد الجيش الإسرائيلي مجدداً لاحتلال القطاع، فمن الأفضل لزامير أن يقرأ "يوميات فيتنام" لدايان، قبل أن يُصدر الأمر للقوات الذي يقول "تحركوا". سيكون لديه ما يتعلمه.
المصدر: هآرتس
في صيف 1966. كانت حرب فيتنام في أوجها، وكان مئات الآلاف من الجنود الأميركيين يقاتلون في أدغال آسيا ضد الفيتكونغ. فوردت فكرة لامعة في خاطر محرّري صحيفة "معاريف"، التي كانت الصحيفة الأكثر انتشاراً في إسرائيل آنذاك: إرسال موشيه دايان، الذي كان يشعر بالملل، كعضو كنيست في المعارضة، إلى الميدان للعمل محللاً عسكرياً. استجاب دايان لهذه المغامرة، وعلى مدى شهرين، تنقّل بين عواصم الغرب وميادين القتال، وشارك في جولات ميدانية وكمائن، والتقى قادة الحرب وضباطها.
إن مذكرات دايان، التي جُمعت في كتاب "يوميات فيتنام"، تثير غيرة الصحافيين. وكانت شهرة قائد حرب سيناء سبقته، وفتحت له كل الأبواب تقريباً. ففي لندن، التقى مونتغمري، بطل الحرب العالمية الثانية، وفي واشنطن، وزير الدفاع ماكنامارا، مهندس الحرب، وفي سايغون، اجتمع بالجنرال ويستمورلاند، الذي أصبح اسمه اليوم رمزاً لهزيمة مهينة، لكنه حينها، كان لا يزال يأمل بالنصر. كان المتحدثون معه متعطشين لنقده المهني، هذا الجنرال الإسرائيلي الذي فهم منذ اللحظة الأولى أن حرب الأميركيين لا طائل منها.
كانت كتابة دايان جذابة، وكان تحليله حاداً وقاسياً ("الموتى قد ماتوا، والأحياء أحياء"، كتب عن وحدة عسكرية تكبدت خسائر وعادت إلى القتال، مثلما قال عن قتلى الجيش الإسرائيلي في إحدى عمليات الرد في غزة). لكن قوة الكتاب لا تكمن فقط في جانبه التاريخي، بل أيضاً في صلته بالأحداث الراهنة. لقد بدا ضباط الإعلام الأميركيون، الذين عرضوا على الضيف الإسرائيلي إنجازات القتال، كأنهم يقدمون إحاطات الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي في الحرب الحالية: كذا وكذا قتلى للعدو، وكذا وكذا نسبة من الأرض تحت سيطرتنا. دايان لم ينبهر: لقد فهم أن الفيتكونغ يعيدون السيطرة على كلّ منطقة يُفترض أنها "طُهّرت" بمجرد انسحاب الأميركيين منها، تماماً مثل "حماس" في غزة، التي تعود إلى الحياة مع عشرين ألف مقاتل ومئات الكيلومترات من الأنفاق، بعد أن كان يُعتقد أنها هزِمت وقُتل قادتها.
لا يوجد وحلٌ في غزة مثل فيتنام، لكن التشابه بين الحربين مُلفت للنظر، ومثلما هي الحال في الجيش الإسرائيلي اليوم، أظهر القادة الأميركيون روحاً هجومية، واعتمدوا على قوة نارية هائلة وتكنولوجيا متقدمة لم تكن متوفرة لدى العدو، واحتقروا أرواح المدنيين الذين قُصفت مناطقهم وهُجّروا من قراهم، تماماً مثلما حدث مع الفلسطينيين في رفح والشجاعية وخان يونس. وطبعاً، هناك فروق: الأميركيون كانوا يعملون بعيداً عن الوطن، بينما الفيتكونغ لم يهاجموا أميركا، ولم يختطفوا مدنيين أميركيين، وحربهم في آسيا لم تكن بدافع "التعصب الديني"، مثلما هي الحال لدينا.
ومع ذلك، بعد عام ونصف العام على اندلاع الحرب، يبدو أن بنيامين نتنياهو ويسرائيل كاتس وأيال زامير يسيرون في الطريق المسدود ذاته الذي سلكه الرئيس جونسون والوزير ماكنامارا والجنرال ويستمورلاند. رئيس الحكومة توقف عن الوعد بتحقيق نصر حاسم، وعلّق آماله على دول بعيدة قد تستوعب الفلسطينيين، وتتيح لإسرائيل تنفيذ تطهير عرقي في غزة ("رحيل طوعي"). زامير يصور سلفه كخاسر، ويقدم نفسه على أنه صاحب وصفة النصر، إذا ما سُمح له فقط بتنفيذ خططه. هذا هو السياق لتغيير تقييمات الجيش الإسرائيلي بشأن إنجازاته في غزة، والتي انقلبت من حسم إلى تعثُّر مع تبدُّل رؤساء الأركان.
يبدو أن زامير يخشى من الخسائر أكثر من هرتسي هليفي، وبدلاً من تنفيذ عمليات "البحث والتدمير" البرية، فإن الجيش الإسرائيلي لا يجازف، بل يهاجم عناصر "حماس" من الجو، الأمر الذي يسبب قتلاً ودماراً هائلَين للفلسطينيين العزّل. وفي المقابل، تفعل "حماس"، تماماً مثلما فعل الفيتكونغ، هي التي تقرر متى وأين تقاتل، وتفضّل التواري، والسيطرة على السكان، وتجميع القوة، على أمل أن يجبر دونالد ترامب نتنياهو على وقف إطلاق النار والانسحاب، في مقابل الإفراج عن الأسرى. لكن، إذا فشل التفاوض، واستعد الجيش الإسرائيلي مجدداً لاحتلال القطاع، فمن الأفضل لزامير أن يقرأ "يوميات فيتنام" لدايان، قبل أن يُصدر الأمر للقوات الذي يقول "تحركوا". سيكون لديه ما يتعلمه.