طهران تحرك الميليشيات المرتبطة بها عقائديا لنشر الفوضى ومناكفة السلطات الجديدة.
الثلاثاء 2025/03/25
رهان على الفوضى لإعادة بناء النفوذ
حتى مع تحول المشهد السياسي في سوريا، تستمر البصمة الأيديولوجية لإيران في سوريا ما يزيد من الاضطرابات في وقت تكافح فيه السلطات الجديدة لبسط نفوذها. وفي ظل تقلبات السياسة السورية المستمرة، لا تزال إيران قوة لا ينبغي تجاهلها، إذ تمتلك القدرة على إعادة تشكيل نفسها.
تُظهِرُ المعطياتُ أنّ إيران التي فاجأتها “النّكسة السُورية”، وخروج دمشق من “محور المقاومة” بدأت محاولاتٍ ميدانيّةً للعودة إلى المشهد السُّوري من خلال الميليشيات المرتبطة بها عقائديا (الميليشيات الشيعيّة، والعلويّة)، أو تاريخيًّا (الميليشيات التي شكّلتها فلولُ النظام السّابق)، ليستمرّ التعامُل الإيرانيُّ مع سوريا بوصفها مسرحًا لحروب الوكالة.
وترغبُ إيران بشدّة في التأثير على المشهد السوري الذي اعتبرت خسارته نكسةً كبيرةً، وضربة مُوجعةً لمشروعها الإقليمي، ونظامها للرّدع الإستراتيجي. وفي هذا السياق، ينبغي النّظر إلى الاشتباكات الدّامية في السّاحل السُّوري، والتي شكّل العلويُّون، وبقايا النّظام السّابق فيها طرفًا، في وجه إدارة العمليّات العسكريّة التي أنهت في 8 ديسمبر الماضي هيمنتهم على المشهد السُّوري.
تشهدُ سوريا ما بعدَ الأسد اضطراباتٍ أمنيّة عديدة: اقتتالٌ داخليٌّ في الشّريط السّاحلي؛ حيثُ يتركّزُ فلولُ النّظام السابق، واقتتالٌ فصائليٌّ في مناطق الشّمال الشّرقي؛ حيثُ تلتقي مناطقُ سيطرة الميليشيات الكرديّة مع الفصائل الموالية لتركيا، واشتباكاتٌ على الحدود مع لبنان في ريف حمص؛ حيثُ تتركّز عصابات الاتّجار بالمخدّرات التّابعة لحزب الله اللبناني، ومواجهاتٌ على الشّريط الحدودي المحاذي للجولان المحتلّ؛ حيثُ تتقدّم القوات الإسرائيليّة، وتفرضُ سيطرتها الميدانيّة، برًّا وجوًّا على مناطق عدّة في مرتفعات الجولان، والجنوب السوري.
ويبدو طبيعيًّا أنْ تشهد سوريا مثل هذه الاختلالات الأمنيّة؛ فقد عانت البلادُ 14 عامًا من الحرب الأهلية والتّدخُّلات الخارجيّة، وأكثر من نصف قرنٍ من الاستبداد الفجّ الذي عمِدَ إلى تفكيك المجتمع السُّوري، وتهميش غالبيّة مُكوّناته، ووَضْعِها خارج دائرة القرار.
ويبدو طبيعيًّا كذلك، أنْ تنزلق المواجهة السياسيّة بين مُكوّنات الأمة السوريّة إلى مستوى الاقتتال بالسّلاح في بلدٍ عجِزَ نظامُهُ السياسيّ طوال العقد الأخير عن بَسْطِ سيَادتِه على كامل أراضيه، وحَصْر السّلاح بيد الحُكومة، وفي الوقت الذي تُعاني فيه البلاد من انعدام المؤسّسات المدنيّة، والسياسيّة الوسيطة، كما تُعاني الانكشاف الكامل أمام الأطماع، والتدخُّلات الخارجيّة.
ومع التّسليم بأننا أمام وصفة مُتكاملة للهشَاشة، فلن يكون من الصّواب إحالةُ الأسباب التي أدّت إلى الاقتتال الداخلي، والحدوديّ الذي تشهدُه سوريا منذُ مطلع مارس الجاري حَصْرًا إلى الخلافات الاجتماعية، والسياسيّة بين مكونات المجتمع السُّوري. فهذا التفسيرُ ليس كافيًا – إنْ لم يكُن مُضَلِّلا – لفهم منطق الاشتباكات التي حصَدت أرواح المئات من الضّحايا، ونكأت جرحًا غائرًا في الجسد السوريّ، لن يكون من السّهل اندماله؛ فسوريا اليوم ليست دولة بالمفهوم الطبيعي للدولة، بمقدار ما هي مسرحٌ شرق أوسطيّ لحروب الوكالة التي تخوضُها أطرافٌ إقليميّةٌ ودوليةٌ عدّة، منذُ نحو عَقْدٍ من الزمان؛ سواء من خلال التّواجُد الميداني المباشر، والحضُور الرّسمي لقواتها العسكريّة النظاميّة، أو من خلال مجموعةٍ واسعةٍ من الميليشيات المدجّجة بالسّلاح التي تخوضُ الحربَ بالوكالة عن تلك القُوى الإقليميّة والدوليّة.
ولا تزالُ “حروبُ الوكالة” متواصلةً حتى الآن في سوريا بالرّغم من سُقوط نظام الأسدَيْن الذي تسبّبَ بهذه الحروب، واستدعى الاحتلالات. وتبدو الاشتباكات المُسلّحة بين مختلف المكونات المحليّة، انعكاسًا مُباشرًا للمواجهة الإقليميّة الأوسع نطاقًا التي ظلّت الجغرافيا السُّورية ميدانًا مركزيًّا لها. ولذلك، يبقى من الأجدى البحثُ عن دلالاتِ تلك الاشتباكات في الأجندات الإقليميّة التي تُحاول بعض الأطراف المُؤثّرة/المتأثرة تطبيقها، لتترك بصمتها على تكوين المشهد السُّوري الصّاعد.
يُمكن توقُّع أنْ تتمكّن طهران عبر تحريك فُلول النظام والفصائل العقائدية من ترسيخ حالة الفوضى في سوريا
ولعلّ إيران أهمّ الأطراف الإقليميّة التي تدفعها رؤيتها إلى التطوُّرات نحو المحاولة الحثيثة لترك بصمتها على مشهد سوريا ما بعد الأسد. فهي القوّة الإقليمية التي هيمنت – في سياق مشروعها للتوسع الإقليمي – على المشهد السوري على مرّ أكثر من عَقْدٍ، وحوّلت سوريا إلى محطةٍ أساسيّةٍ ضمن منظومتها للرّدع الإستراتيجي، ومشروعها لتطويق إسرائيل. وطبّقت إيران هذه الهيمنة من خلال أدواتٍ صَلْبةٍ تمثّلت في فيلق القدس، وشبكةٍ واسعةٍ من الميليشيات الموالية له. وذلك بإسناد من نظام الأسد الذي كان في حاجةٍ إلى التدخُّل الإيراني لمواجهةِ خطرِ ميليشياتٍ أخرى تشكّلت بعد قَمْعِ الثورةِ الشعبيّةِ في البلاد، وكانت تطبّقُ أجنداتٍ إقليميّةً ودوليّةً مُختلفةً.
واعتبرت مراكز التفكير الإيرانية، وخاصةٍ تلك المقربة من الدولة العميقة والحرس الثوري سُقوطَ نظامِ الأسد نكسةً حقيقيّةً. ورأت فيه ضَرْبةً أساسيّةً، جرى توجيهُها إلى نظامها للردع الإستراتيجي، المبنيّ في جزءٍ كبيرٍ منه، على “محور المقاومة”، وإلى مشروعها الإقليمي الذي باتَ مُفكّكًا وهشًّا بعد ذلك السُّقوط.
وأدّت هذه النَّكْسَة من منظور العقل الإستراتيجي الإيراني إلى عدّة تداعياتٍ مصيريّة، من ضمنها: قطعُ الممرّ الأرضي لإسناد “حزب الله” الخارج للتوِّ من حربه مع إسرائيل، وفتحُ الأبواب أمام القوى المعادية للزّحف نحو السَّوَاتِر الأخرى لجبهة المقاومة في العراق واليمن، والقضاءُ على مشروعِ تطويقِ إسرائيلَ وخنقِها، والقضاءُ على حُلم الارتباط البرّي بشواطئ البحر الأبيض المتوسط من خلال “جادة المقاومة”، وانتهاءُ دور إيران الإستراتيجي المأمول في مُنافسَة الممَرّات الدوليّة.
إلّا أنّ تلك التداعياتِ – على أهميّتها – ليست كل ما عَنَتْهُ النّكسة السُّورية للعقل الإستراتيجي الإيراني؛ إذ إنّها عنَت أيضًا صُعود المشروع الإقليمي التركي البديل الذي كان يطمحُ طيلةَ أكثر من عقدٍ إلى إخراج الحلقة السُّورية من قَبْضَةِ المشروع الإيرانيّ، وإضافتها إلى سلّة الهيمنة التركيّة، سواءً على الصعيدَيْن؛ السياسي والعسكري أو على الصعيد الاقتصادي.
وليسَ مهمًّا أنْ يكون أيٌّ من ذلك قد حدث على أرضِ الواقع، بمقدار ما يهمّ أنّ هذا هو الانطباع العامّ الذي رسّخَهُ سقوطُ القلعة السُّورية في العقل الإستراتيجي الإيراني الذي تعامل مع سوريا من مُنطلَق اعتبارها مسرحًا لحروب الوكالة، وسعى في إطار ذلك إلى إضعاف “مؤسسة الدولة” في سوريا، وتحويلها إلى مؤسسة هشّة. وفي ضوء هذا الانطباع العامّ الذي انتشر داخل غرف التفكير المرتبطة بالدولة العميقة، ولم تعارضه مراكز التفكير المُستقلّة، جاءت المواقف الرّسمية الصّادرة عن مؤسّسة الدولة الإيرانية حيالَ مرحلة ما بعد الأسد، كما جاءت الخطوات الميدانية التي اتخذتها الدّولة العميقة للتعامل مع المشهد السوري الجديد.
أكّد القائد الإيراني الأعلى؛ آيات الله علي خامنئي أنّ خروج سوريا من “محور المقاومة” ما هو إلّا مرحلةٌ عابرةٌ، وأنّ سوريا سيتم تحريرُها على يد الجيل الشّاب من المقاومين. وكرّر الموقف ذاته قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال حسين سلامي، مُبيّنًا أنّ مرحلةَ تحرير سوريا على يد المقاومين ستكونُ وشيكةً.
من جانبه أعلن القائد الأسبق لقوات الحرس الثوري الجنرال مُحسن رضائي، أن الشعب السُّوري سيُحيي المقاومة في غضون عامٍ واحدٍ فقط، بينما قال ممثّل خامنئي في الجامعات: إنّ المقاومة في سوريا سيتم إحياؤها بما هو أقوى من ذي قبل.
ولم يقتصر الأمرُ على إظهار المواقف؛ إذْ أثبتت التطوُّرات الميدانيّة أنّ النظام الإيراني سعَى منذ اليوم الأول لسُقوط القلعة السورية، وبعد انسحابه من الأبواب، إلى العودة إلى المسرح السُّوري من النّوافذ. وفي هذا السّياق، قامت “مؤسسة الحوزة العلمية” التي لعبت دورًا مهمًّا في التمهيد العقائدي للحرب في سوريا، وروّجت لفكرة الدفاع عن حرم أهل البيت، بإطلاق حَمْلةٍ للترويج لضرورة الدفاع عن الأقليّة العلويّة، وعملت على استخراج مواقف من مراجع التقليد الشّيعة، تؤكّد انتماء هذه الأقليّة إلى الطائفة الشيعيّة. جاء ذلك بالتزامن مع تركيز صحافة الحرس الثوري على تغطية اجتماعاتٍ لشيعةِ سوريا في ضريحِ السّيدة خولة في بعلبك، في أوائل فبراير الماضي؛ حيثُ ندّد المشاركون بقتل الشيعة في ريف حمص، وطالبوا المرجع الشيعي علي السيستاني، والقائد الإيراني الأعلى علي خامنئي بالتدخُّل للدفاع عن الشّيعة في سوريا. وتلَت ذلك تطوراتٌ ميدانيّةٌ عدّة، منها: الإعلانُ عن إنشاء “المجلس الإسلاميّ العلويّ” في بداية فبراير، وإنشاء ميليشيا “أولي البأس” السُّورية، باعتبارها فصيلًا سوريًّا مُقاومًا في القنيطرة.
وفي التاسع من يناير 2025، تم الإعلان عن إنشاء “جبهة المُقاومة الإسلاميّة السوريّة” التي اعتبرت نفسها في البيان التأسيسيّ، مُنظّمة مُقاومة تهدفُ إلى الذّود عن الشّعب السُّوري لتُطالِبَ في بيانٍ آخر – صدر في السادس من مارس – النّظام الإيراني بالتدخُّل لتحريرِ سُوريا.
وفي السّياق ذاته، أعلنت الصحافة السُّورية في الرابع من مارس، إنشاءَ “المجلس العسكري لتحرير سوريا” بقيادة العماد غياث سليمان دلا، بعد أنْ كان “المجلس الإسلامي العلويّ” قد دعا الشعب السوري إلى التظاهر، والخروج ضدّ النظّام الجديد. وأكّدت صحافةٌ عربيّة أنّ القُوّات التي يقودُها العماد غياث سليمان دلا، تتلقى دعمًا ماليًّا ولوجستيًّا من ميليشيا حزب الله، وفصائل شيعيّة عراقيّة، وزعم البعضُ أنّها تتلقّى دعمًا بالأسلحة والعَتاد من قوّات سوريا الديمقراطية (قسد). بينما تقفُ خلفها وجوهٌ من نظام الأسد السابق، وقوةٌ إقليميّةٌ تقومُ بتقديمِ الدّعم العسكريّ واللوجستي.
تعي طهران تمامًا أنّها خسرت “القلعة السورية”، وأنّ حسابات القوة الإقليمية والدولية الرّاهنة لا تتركُ أملًا في إعادة سوريا إلى “محور المقاومة”، أو إعادة “المحور” إلى الحالة التي كان عليها بين عامي 2014 و2024؛ حيثُ الارتباط الأرضيّ مضمونٌ وسلسٌ، والمشروعُ الإقليميُّ صاعِدٌ. إذْ ثمّة إجماعًا دوليًّا، وآخر إقليميًّا اليوم، على ضرورة إخراج سوريا من قبضة النظام الإيراني، وتفكيكِ مشروع التوسُّع الإقليمي الذي مارسته إيران من خلال “محور المقاومة” وشبكة الميليشيات. لذلك لا تسعى طهران من هذه العودة إلى تحقيق “مكاسب إيجابية”، تتضمن استعادة هذه الحلقة من “محور المقاومة”، وإنما تسعى إلى تحقيق “مكاسب سلبيّة”، تشملُ: إفشالَ المشروع التركي البديل، وتكريسَ حالة الفوضى لحصد بعض الثّمار، مثل الحفاظ على خط إمداد “حزب الله” لترميم هياكل التنظيم الذي أنهكته الحرب مع إسرائيل، وفتحُ آلياتٍ لدعم التنظيمات الكردية في سوريا، وإيجاد طُرقٍ لوخز تركيا، ومعاقبتها. وكّلُّ ذلك من المنظور الإيراني.
ومن خلال تكريس الفوضى، تحاولُ إيران إرسالَ رسالةٍ إلى الأطراف الإقليميّة والدوليّة مفادُها: أنّ أيّ نظامٍ إقليميٍّ لا يُمكنُ أنْ يقومَ في المنطقة ما لم يأخُذُ المصالحَ الإيرانيّة بالحسبان، وأنّ إيران تمتلكُ من النفوذ الميدانيّ في سوريا، ما يُمكِّنُها من إجهاضِ أيّ مشاريعَ لا تأخُذ مصالحها بعين الاعتبار. وهو ما يمنحُ إيران بحسب هذا التصوُّر، بطاقةً قويّة للتفاوُض مع الأطراف الإقليميّة والدولية.
وفي منظورٍ أوسع، يأتي تكريسُ الفوضى في المشهد السوري في سياق الرّغبة الإيرانية بالرّد على ما تعتبرُه “الغدر التركي”؛ إذْ تعتقدُ طهران أنّ تركيا خطَفت سوريا منها بانتهازيّةٍ كاملة، في لحظةِ ضَعْفٍ أوجدَتْها المواجهةُ الدّاميَة بين إيران وإسرائيل. ولذلك فإنّ مشهدًا سُوريًّا مُصابًا بالفوضى يعني فشلًا تركيًّا تريدُه طهران. أما على الصعيد الاقتصادي، وهو الأهمّ فإنّ الفوضى ستحُولُ دون تحقُّق الأهداف الاقتصاديّة التركيّة، وتُحْبِطُ مشاريعَ ممرّاتِ النقل والطاقة التي تسعى أنقرة من خلالها إلى استكمال الطّوق من حول إيران، والذي بدأته في أذربيجان، ويهدفُ إلى عَزْل طهران عن ممرّات الطاقة والتّجارة الإقليميّة.
وترى إيرانُ نفسَها رابحةً أيضًا في حال أدّت الفوضى في سوريا إلى تفكيك الكيان السُّوري، ونشوء كيانات مستقلة؛ إذْ يُؤدي تقسيمُ سوريا إلى وَأْدِ المشروع التركي، ويخلِقُ كياناتٍ سياسيّةً مُقرّبةً من إيران على مقربةٍ من لبنان وإسرائيل (دويلة السّاحل)، وبما يُمكِّنُ طهران من التواجُد على المتوسّط، وإحياء قناة الدّعم للحليف اللبناني، واستعادة موضع القدم قرب الحدود الإسرائيلية.
وفي مفارقةٍ واضحةٍ، تتطابقُ الغايات التي تنشدُها إيران في المرحلة الرّاهنة إلى حدٍّ كبيرٍ، مع الغايات التي تنشدُها إسرائيل التي تبحثُ بدورها عن طرق لـضمانِ عدم تعافي سوريا، ومنع أيّ فرصةٍ لاستقواء النظام السُّوري الجديد، وتحجيم الطموحات التُّركية. مع ذلك، فقد أحجم الجانب الإسرائيليّ عن إعلان توفير الحماية للأقلية العلويّة، كما فعلَ حيالَ الأقليّة الدرزيّة التي يبدو أنّها لم تطلُب تلك الحماية أساسًا. ولعلّ المخاوف الإسرائيلية من عودة إيرانية إلى السّاحل السُّوري، وبُعد السّاحل عن ميدان الانتشار الإسرائيلي في الجنوب، دفعَا إسرائيل إلى عدم التفاعُل مع دعوات بعض فُلول النّظام المخلوع للحماية الإسرائيليّة.
• السيناريو الأول: تكريس الفوضى؛ إذْ يُمكن توقُّع أنْ تتمكّن طهران عبر تحريك فُلول النظام والفصائل العقائدية من ترسيخ حالة الفوضى في المشهد السوري. ويُعزّز فرص هذا السيناريو امتعاضُ الأقليّات من العمليّة السياسيّة، وخاصة الأقليّات: الكرديّة، والدرزيّة، والعلويّة. ويعني هذا السيناريو استفحال الهشاشة في سوريا، وإجهاض المشروع الذي تدعمه تركيا، وأطراف إقليميّة أخرى لبسط سيادة الدولة السورية الجديدة. ويعني أيضًا أنّ إيران استطاعت تحقيق الحدّ الأدنى الذي كانت تنشده من وراء العودة إلى البيت السوري. غير أن الإجماع الدولي والإقليمي الواضح حول منع تحقُّق مثل هذا المشروع، يضع عقباتٍ كبيرةً أمام طهران لتحقيقه.
• السيناريو الثاني: بَسْط سيادة الدولة السورية؛ ويعني أنْ تستطيع الدولة الجديدة في سوريا، بمساعدة تركيا، وأطراف إقليمية أخرى، وبمباركة أميركية، من بسط السيطرة، وفرض الاستقرار، وتوحيد المكونات السورية في نظام سياسي تشارُكيّ. وتُظهِرُ الخطوات التي تقوم بها إدارة الرئيس أحمد الشّرع رغبةً في ذلك؛ إذ سعت إلى فضّ الخلافات مع الأكراد، ومدّ الجسور مع مختلف المكوّنات، ومحاولة تحسينِ الحالة الاقتصاديّة. غير أنّ ثمّة عقباتٍ جمّة على طريق تحقيق هذا الهدف، معظمُها يعودُ إلى عوامل إقليميّة المنشأ، مثل: التدخُّل العسكري الإسرائيلي في جنوب سوريا، والمواقف الإسرائيليّة الدّاعمة لفئات محدّدة من المجتمع السوري مثل: الدروز، والأكراد. علاوةً على محاولات الاختراق الإيرانية التي تستهدف إجهاض مسعى توحيد الصفّ السُّوري. مع ذلك، يبقى هذا السيناريو هو المرجّح في ظل الإرادة المحليّة القويّة لعودة الاستقرار إلى سوريا، والتي ترفدها إرادة دولية وإقليمية داعمة.
• السيناريو الثالث: سيناريو الانقسام؛ ويفترض أنْ تذهبَ السّاحة السوريّة نحو المزيد من التّباعُد بين المكوّنات الاجتماعيّة، بما يُمهّدُ الطّريق أمامَ نُشوءِ كياناتٍ مُستقلّة، أهمّها في غرب سوريا، حيث العلويُّون، وفي جنوبها، حيث الدروز، وفي شمالها الشرقي، حيثُ الأكراد. وباعتباره مسارًا بديلًا، يحظى هذا السيناريو بدعم من إسرائيل، وإيران، كُلّ لأسبابه. فإسرائيلُ ترى في تقسيم سوريا حائلًا أمام استقوائها تحت حُكم الإسلاميين، وإفشالًا لمشروع الهيمنة الإقليميّة التركيّة. بينما ترى فيه إيران مدخلًا للتواجد على شطآن المتوسط، وممرًّا لدعم “حزب الله”، ومدخلًا لمعاقبة تركيا، وإفشال مشروعها الإقليمي البديل. ولا تُظهِرُ المعطيات أنّ طهران تُحاول في المرحلة الرّاهنة تطبيق هذا السيناريو، لكن من الوارد جدًا أنْ تستخدمه كورقة للضغط على النظام السياسي الجديد في سوريا، لضمان الحد الأدنى من المكتسبات.
وبشكلٍ عامّ، لا يُمكنُ تصوُّر حلولٍ ناجعةٍ للحالة السُّورية الرّاهنة، إلّا إذا تضمّنت تلك الحُلول، مناهجَ لتحجيم التدخُّلات الإقليميّة والدوليّة في الملف السُّوري، وخاصّة التدخُّلات الإيرانية والإسرائيلية، وإحالة الأمر إلى الشّارع السُّوري، ليتولّى السوريّون مهمّة التوصُّل إلى إجماعٍ داخليٍّ صعبٍ، لكنّه ضرورةٌ وجوديّةٌ لهم، ومخرجٌ وحيدٌ لسوريا من الحالة الرّاهنة باعتبارها “مسرحًا لحروب الوكالة”.
alarab.co.uk
الثلاثاء 2025/03/25

رهان على الفوضى لإعادة بناء النفوذ
حتى مع تحول المشهد السياسي في سوريا، تستمر البصمة الأيديولوجية لإيران في سوريا ما يزيد من الاضطرابات في وقت تكافح فيه السلطات الجديدة لبسط نفوذها. وفي ظل تقلبات السياسة السورية المستمرة، لا تزال إيران قوة لا ينبغي تجاهلها، إذ تمتلك القدرة على إعادة تشكيل نفسها.
تُظهِرُ المعطياتُ أنّ إيران التي فاجأتها “النّكسة السُورية”، وخروج دمشق من “محور المقاومة” بدأت محاولاتٍ ميدانيّةً للعودة إلى المشهد السُّوري من خلال الميليشيات المرتبطة بها عقائديا (الميليشيات الشيعيّة، والعلويّة)، أو تاريخيًّا (الميليشيات التي شكّلتها فلولُ النظام السّابق)، ليستمرّ التعامُل الإيرانيُّ مع سوريا بوصفها مسرحًا لحروب الوكالة.
وترغبُ إيران بشدّة في التأثير على المشهد السوري الذي اعتبرت خسارته نكسةً كبيرةً، وضربة مُوجعةً لمشروعها الإقليمي، ونظامها للرّدع الإستراتيجي. وفي هذا السياق، ينبغي النّظر إلى الاشتباكات الدّامية في السّاحل السُّوري، والتي شكّل العلويُّون، وبقايا النّظام السّابق فيها طرفًا، في وجه إدارة العمليّات العسكريّة التي أنهت في 8 ديسمبر الماضي هيمنتهم على المشهد السُّوري.
وصفة متكاملة للهشاشة
أحداث الساحل رسالة إيرانية بأنها تمتلك من النفوذ ما يُمكِّنُها من إجهاضِ أيّ مشاريع لا تأخذ مصالحها بعين الاعتبارتشهدُ سوريا ما بعدَ الأسد اضطراباتٍ أمنيّة عديدة: اقتتالٌ داخليٌّ في الشّريط السّاحلي؛ حيثُ يتركّزُ فلولُ النّظام السابق، واقتتالٌ فصائليٌّ في مناطق الشّمال الشّرقي؛ حيثُ تلتقي مناطقُ سيطرة الميليشيات الكرديّة مع الفصائل الموالية لتركيا، واشتباكاتٌ على الحدود مع لبنان في ريف حمص؛ حيثُ تتركّز عصابات الاتّجار بالمخدّرات التّابعة لحزب الله اللبناني، ومواجهاتٌ على الشّريط الحدودي المحاذي للجولان المحتلّ؛ حيثُ تتقدّم القوات الإسرائيليّة، وتفرضُ سيطرتها الميدانيّة، برًّا وجوًّا على مناطق عدّة في مرتفعات الجولان، والجنوب السوري.
ويبدو طبيعيًّا أنْ تشهد سوريا مثل هذه الاختلالات الأمنيّة؛ فقد عانت البلادُ 14 عامًا من الحرب الأهلية والتّدخُّلات الخارجيّة، وأكثر من نصف قرنٍ من الاستبداد الفجّ الذي عمِدَ إلى تفكيك المجتمع السُّوري، وتهميش غالبيّة مُكوّناته، ووَضْعِها خارج دائرة القرار.
ويبدو طبيعيًّا كذلك، أنْ تنزلق المواجهة السياسيّة بين مُكوّنات الأمة السوريّة إلى مستوى الاقتتال بالسّلاح في بلدٍ عجِزَ نظامُهُ السياسيّ طوال العقد الأخير عن بَسْطِ سيَادتِه على كامل أراضيه، وحَصْر السّلاح بيد الحُكومة، وفي الوقت الذي تُعاني فيه البلاد من انعدام المؤسّسات المدنيّة، والسياسيّة الوسيطة، كما تُعاني الانكشاف الكامل أمام الأطماع، والتدخُّلات الخارجيّة.
ومع التّسليم بأننا أمام وصفة مُتكاملة للهشَاشة، فلن يكون من الصّواب إحالةُ الأسباب التي أدّت إلى الاقتتال الداخلي، والحدوديّ الذي تشهدُه سوريا منذُ مطلع مارس الجاري حَصْرًا إلى الخلافات الاجتماعية، والسياسيّة بين مكونات المجتمع السُّوري. فهذا التفسيرُ ليس كافيًا – إنْ لم يكُن مُضَلِّلا – لفهم منطق الاشتباكات التي حصَدت أرواح المئات من الضّحايا، ونكأت جرحًا غائرًا في الجسد السوريّ، لن يكون من السّهل اندماله؛ فسوريا اليوم ليست دولة بالمفهوم الطبيعي للدولة، بمقدار ما هي مسرحٌ شرق أوسطيّ لحروب الوكالة التي تخوضُها أطرافٌ إقليميّةٌ ودوليةٌ عدّة، منذُ نحو عَقْدٍ من الزمان؛ سواء من خلال التّواجُد الميداني المباشر، والحضُور الرّسمي لقواتها العسكريّة النظاميّة، أو من خلال مجموعةٍ واسعةٍ من الميليشيات المدجّجة بالسّلاح التي تخوضُ الحربَ بالوكالة عن تلك القُوى الإقليميّة والدوليّة.
ولا تزالُ “حروبُ الوكالة” متواصلةً حتى الآن في سوريا بالرّغم من سُقوط نظام الأسدَيْن الذي تسبّبَ بهذه الحروب، واستدعى الاحتلالات. وتبدو الاشتباكات المُسلّحة بين مختلف المكونات المحليّة، انعكاسًا مُباشرًا للمواجهة الإقليميّة الأوسع نطاقًا التي ظلّت الجغرافيا السُّورية ميدانًا مركزيًّا لها. ولذلك، يبقى من الأجدى البحثُ عن دلالاتِ تلك الاشتباكات في الأجندات الإقليميّة التي تُحاول بعض الأطراف المُؤثّرة/المتأثرة تطبيقها، لتترك بصمتها على تكوين المشهد السُّوري الصّاعد.

ولعلّ إيران أهمّ الأطراف الإقليميّة التي تدفعها رؤيتها إلى التطوُّرات نحو المحاولة الحثيثة لترك بصمتها على مشهد سوريا ما بعد الأسد. فهي القوّة الإقليمية التي هيمنت – في سياق مشروعها للتوسع الإقليمي – على المشهد السوري على مرّ أكثر من عَقْدٍ، وحوّلت سوريا إلى محطةٍ أساسيّةٍ ضمن منظومتها للرّدع الإستراتيجي، ومشروعها لتطويق إسرائيل. وطبّقت إيران هذه الهيمنة من خلال أدواتٍ صَلْبةٍ تمثّلت في فيلق القدس، وشبكةٍ واسعةٍ من الميليشيات الموالية له. وذلك بإسناد من نظام الأسد الذي كان في حاجةٍ إلى التدخُّل الإيراني لمواجهةِ خطرِ ميليشياتٍ أخرى تشكّلت بعد قَمْعِ الثورةِ الشعبيّةِ في البلاد، وكانت تطبّقُ أجنداتٍ إقليميّةً ودوليّةً مُختلفةً.
واعتبرت مراكز التفكير الإيرانية، وخاصةٍ تلك المقربة من الدولة العميقة والحرس الثوري سُقوطَ نظامِ الأسد نكسةً حقيقيّةً. ورأت فيه ضَرْبةً أساسيّةً، جرى توجيهُها إلى نظامها للردع الإستراتيجي، المبنيّ في جزءٍ كبيرٍ منه، على “محور المقاومة”، وإلى مشروعها الإقليمي الذي باتَ مُفكّكًا وهشًّا بعد ذلك السُّقوط.
وأدّت هذه النَّكْسَة من منظور العقل الإستراتيجي الإيراني إلى عدّة تداعياتٍ مصيريّة، من ضمنها: قطعُ الممرّ الأرضي لإسناد “حزب الله” الخارج للتوِّ من حربه مع إسرائيل، وفتحُ الأبواب أمام القوى المعادية للزّحف نحو السَّوَاتِر الأخرى لجبهة المقاومة في العراق واليمن، والقضاءُ على مشروعِ تطويقِ إسرائيلَ وخنقِها، والقضاءُ على حُلم الارتباط البرّي بشواطئ البحر الأبيض المتوسط من خلال “جادة المقاومة”، وانتهاءُ دور إيران الإستراتيجي المأمول في مُنافسَة الممَرّات الدوليّة.
إلّا أنّ تلك التداعياتِ – على أهميّتها – ليست كل ما عَنَتْهُ النّكسة السُّورية للعقل الإستراتيجي الإيراني؛ إذ إنّها عنَت أيضًا صُعود المشروع الإقليمي التركي البديل الذي كان يطمحُ طيلةَ أكثر من عقدٍ إلى إخراج الحلقة السُّورية من قَبْضَةِ المشروع الإيرانيّ، وإضافتها إلى سلّة الهيمنة التركيّة، سواءً على الصعيدَيْن؛ السياسي والعسكري أو على الصعيد الاقتصادي.
وليسَ مهمًّا أنْ يكون أيٌّ من ذلك قد حدث على أرضِ الواقع، بمقدار ما يهمّ أنّ هذا هو الانطباع العامّ الذي رسّخَهُ سقوطُ القلعة السُّورية في العقل الإستراتيجي الإيراني الذي تعامل مع سوريا من مُنطلَق اعتبارها مسرحًا لحروب الوكالة، وسعى في إطار ذلك إلى إضعاف “مؤسسة الدولة” في سوريا، وتحويلها إلى مؤسسة هشّة. وفي ضوء هذا الانطباع العامّ الذي انتشر داخل غرف التفكير المرتبطة بالدولة العميقة، ولم تعارضه مراكز التفكير المُستقلّة، جاءت المواقف الرّسمية الصّادرة عن مؤسّسة الدولة الإيرانية حيالَ مرحلة ما بعد الأسد، كما جاءت الخطوات الميدانية التي اتخذتها الدّولة العميقة للتعامل مع المشهد السوري الجديد.
عودة المهزومين

أكّد القائد الإيراني الأعلى؛ آيات الله علي خامنئي أنّ خروج سوريا من “محور المقاومة” ما هو إلّا مرحلةٌ عابرةٌ، وأنّ سوريا سيتم تحريرُها على يد الجيل الشّاب من المقاومين. وكرّر الموقف ذاته قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال حسين سلامي، مُبيّنًا أنّ مرحلةَ تحرير سوريا على يد المقاومين ستكونُ وشيكةً.
من جانبه أعلن القائد الأسبق لقوات الحرس الثوري الجنرال مُحسن رضائي، أن الشعب السُّوري سيُحيي المقاومة في غضون عامٍ واحدٍ فقط، بينما قال ممثّل خامنئي في الجامعات: إنّ المقاومة في سوريا سيتم إحياؤها بما هو أقوى من ذي قبل.
ولم يقتصر الأمرُ على إظهار المواقف؛ إذْ أثبتت التطوُّرات الميدانيّة أنّ النظام الإيراني سعَى منذ اليوم الأول لسُقوط القلعة السورية، وبعد انسحابه من الأبواب، إلى العودة إلى المسرح السُّوري من النّوافذ. وفي هذا السّياق، قامت “مؤسسة الحوزة العلمية” التي لعبت دورًا مهمًّا في التمهيد العقائدي للحرب في سوريا، وروّجت لفكرة الدفاع عن حرم أهل البيت، بإطلاق حَمْلةٍ للترويج لضرورة الدفاع عن الأقليّة العلويّة، وعملت على استخراج مواقف من مراجع التقليد الشّيعة، تؤكّد انتماء هذه الأقليّة إلى الطائفة الشيعيّة. جاء ذلك بالتزامن مع تركيز صحافة الحرس الثوري على تغطية اجتماعاتٍ لشيعةِ سوريا في ضريحِ السّيدة خولة في بعلبك، في أوائل فبراير الماضي؛ حيثُ ندّد المشاركون بقتل الشيعة في ريف حمص، وطالبوا المرجع الشيعي علي السيستاني، والقائد الإيراني الأعلى علي خامنئي بالتدخُّل للدفاع عن الشّيعة في سوريا. وتلَت ذلك تطوراتٌ ميدانيّةٌ عدّة، منها: الإعلانُ عن إنشاء “المجلس الإسلاميّ العلويّ” في بداية فبراير، وإنشاء ميليشيا “أولي البأس” السُّورية، باعتبارها فصيلًا سوريًّا مُقاومًا في القنيطرة.
وفي التاسع من يناير 2025، تم الإعلان عن إنشاء “جبهة المُقاومة الإسلاميّة السوريّة” التي اعتبرت نفسها في البيان التأسيسيّ، مُنظّمة مُقاومة تهدفُ إلى الذّود عن الشّعب السُّوري لتُطالِبَ في بيانٍ آخر – صدر في السادس من مارس – النّظام الإيراني بالتدخُّل لتحريرِ سُوريا.
وفي السّياق ذاته، أعلنت الصحافة السُّورية في الرابع من مارس، إنشاءَ “المجلس العسكري لتحرير سوريا” بقيادة العماد غياث سليمان دلا، بعد أنْ كان “المجلس الإسلامي العلويّ” قد دعا الشعب السوري إلى التظاهر، والخروج ضدّ النظّام الجديد. وأكّدت صحافةٌ عربيّة أنّ القُوّات التي يقودُها العماد غياث سليمان دلا، تتلقى دعمًا ماليًّا ولوجستيًّا من ميليشيا حزب الله، وفصائل شيعيّة عراقيّة، وزعم البعضُ أنّها تتلقّى دعمًا بالأسلحة والعَتاد من قوّات سوريا الديمقراطية (قسد). بينما تقفُ خلفها وجوهٌ من نظام الأسد السابق، وقوةٌ إقليميّةٌ تقومُ بتقديمِ الدّعم العسكريّ واللوجستي.
عودة لتحقيق الحد الأدنى

تعي طهران تمامًا أنّها خسرت “القلعة السورية”، وأنّ حسابات القوة الإقليمية والدولية الرّاهنة لا تتركُ أملًا في إعادة سوريا إلى “محور المقاومة”، أو إعادة “المحور” إلى الحالة التي كان عليها بين عامي 2014 و2024؛ حيثُ الارتباط الأرضيّ مضمونٌ وسلسٌ، والمشروعُ الإقليميُّ صاعِدٌ. إذْ ثمّة إجماعًا دوليًّا، وآخر إقليميًّا اليوم، على ضرورة إخراج سوريا من قبضة النظام الإيراني، وتفكيكِ مشروع التوسُّع الإقليمي الذي مارسته إيران من خلال “محور المقاومة” وشبكة الميليشيات. لذلك لا تسعى طهران من هذه العودة إلى تحقيق “مكاسب إيجابية”، تتضمن استعادة هذه الحلقة من “محور المقاومة”، وإنما تسعى إلى تحقيق “مكاسب سلبيّة”، تشملُ: إفشالَ المشروع التركي البديل، وتكريسَ حالة الفوضى لحصد بعض الثّمار، مثل الحفاظ على خط إمداد “حزب الله” لترميم هياكل التنظيم الذي أنهكته الحرب مع إسرائيل، وفتحُ آلياتٍ لدعم التنظيمات الكردية في سوريا، وإيجاد طُرقٍ لوخز تركيا، ومعاقبتها. وكّلُّ ذلك من المنظور الإيراني.
ومن خلال تكريس الفوضى، تحاولُ إيران إرسالَ رسالةٍ إلى الأطراف الإقليميّة والدوليّة مفادُها: أنّ أيّ نظامٍ إقليميٍّ لا يُمكنُ أنْ يقومَ في المنطقة ما لم يأخُذُ المصالحَ الإيرانيّة بالحسبان، وأنّ إيران تمتلكُ من النفوذ الميدانيّ في سوريا، ما يُمكِّنُها من إجهاضِ أيّ مشاريعَ لا تأخُذ مصالحها بعين الاعتبار. وهو ما يمنحُ إيران بحسب هذا التصوُّر، بطاقةً قويّة للتفاوُض مع الأطراف الإقليميّة والدولية.
وفي منظورٍ أوسع، يأتي تكريسُ الفوضى في المشهد السوري في سياق الرّغبة الإيرانية بالرّد على ما تعتبرُه “الغدر التركي”؛ إذْ تعتقدُ طهران أنّ تركيا خطَفت سوريا منها بانتهازيّةٍ كاملة، في لحظةِ ضَعْفٍ أوجدَتْها المواجهةُ الدّاميَة بين إيران وإسرائيل. ولذلك فإنّ مشهدًا سُوريًّا مُصابًا بالفوضى يعني فشلًا تركيًّا تريدُه طهران. أما على الصعيد الاقتصادي، وهو الأهمّ فإنّ الفوضى ستحُولُ دون تحقُّق الأهداف الاقتصاديّة التركيّة، وتُحْبِطُ مشاريعَ ممرّاتِ النقل والطاقة التي تسعى أنقرة من خلالها إلى استكمال الطّوق من حول إيران، والذي بدأته في أذربيجان، ويهدفُ إلى عَزْل طهران عن ممرّات الطاقة والتّجارة الإقليميّة.
وترى إيرانُ نفسَها رابحةً أيضًا في حال أدّت الفوضى في سوريا إلى تفكيك الكيان السُّوري، ونشوء كيانات مستقلة؛ إذْ يُؤدي تقسيمُ سوريا إلى وَأْدِ المشروع التركي، ويخلِقُ كياناتٍ سياسيّةً مُقرّبةً من إيران على مقربةٍ من لبنان وإسرائيل (دويلة السّاحل)، وبما يُمكِّنُ طهران من التواجُد على المتوسّط، وإحياء قناة الدّعم للحليف اللبناني، واستعادة موضع القدم قرب الحدود الإسرائيلية.
وفي مفارقةٍ واضحةٍ، تتطابقُ الغايات التي تنشدُها إيران في المرحلة الرّاهنة إلى حدٍّ كبيرٍ، مع الغايات التي تنشدُها إسرائيل التي تبحثُ بدورها عن طرق لـضمانِ عدم تعافي سوريا، ومنع أيّ فرصةٍ لاستقواء النظام السُّوري الجديد، وتحجيم الطموحات التُّركية. مع ذلك، فقد أحجم الجانب الإسرائيليّ عن إعلان توفير الحماية للأقلية العلويّة، كما فعلَ حيالَ الأقليّة الدرزيّة التي يبدو أنّها لم تطلُب تلك الحماية أساسًا. ولعلّ المخاوف الإسرائيلية من عودة إيرانية إلى السّاحل السُّوري، وبُعد السّاحل عن ميدان الانتشار الإسرائيلي في الجنوب، دفعَا إسرائيل إلى عدم التفاعُل مع دعوات بعض فُلول النّظام المخلوع للحماية الإسرائيليّة.
السيناريوهات

• السيناريو الأول: تكريس الفوضى؛ إذْ يُمكن توقُّع أنْ تتمكّن طهران عبر تحريك فُلول النظام والفصائل العقائدية من ترسيخ حالة الفوضى في المشهد السوري. ويُعزّز فرص هذا السيناريو امتعاضُ الأقليّات من العمليّة السياسيّة، وخاصة الأقليّات: الكرديّة، والدرزيّة، والعلويّة. ويعني هذا السيناريو استفحال الهشاشة في سوريا، وإجهاض المشروع الذي تدعمه تركيا، وأطراف إقليميّة أخرى لبسط سيادة الدولة السورية الجديدة. ويعني أيضًا أنّ إيران استطاعت تحقيق الحدّ الأدنى الذي كانت تنشده من وراء العودة إلى البيت السوري. غير أن الإجماع الدولي والإقليمي الواضح حول منع تحقُّق مثل هذا المشروع، يضع عقباتٍ كبيرةً أمام طهران لتحقيقه.
• السيناريو الثاني: بَسْط سيادة الدولة السورية؛ ويعني أنْ تستطيع الدولة الجديدة في سوريا، بمساعدة تركيا، وأطراف إقليمية أخرى، وبمباركة أميركية، من بسط السيطرة، وفرض الاستقرار، وتوحيد المكونات السورية في نظام سياسي تشارُكيّ. وتُظهِرُ الخطوات التي تقوم بها إدارة الرئيس أحمد الشّرع رغبةً في ذلك؛ إذ سعت إلى فضّ الخلافات مع الأكراد، ومدّ الجسور مع مختلف المكوّنات، ومحاولة تحسينِ الحالة الاقتصاديّة. غير أنّ ثمّة عقباتٍ جمّة على طريق تحقيق هذا الهدف، معظمُها يعودُ إلى عوامل إقليميّة المنشأ، مثل: التدخُّل العسكري الإسرائيلي في جنوب سوريا، والمواقف الإسرائيليّة الدّاعمة لفئات محدّدة من المجتمع السوري مثل: الدروز، والأكراد. علاوةً على محاولات الاختراق الإيرانية التي تستهدف إجهاض مسعى توحيد الصفّ السُّوري. مع ذلك، يبقى هذا السيناريو هو المرجّح في ظل الإرادة المحليّة القويّة لعودة الاستقرار إلى سوريا، والتي ترفدها إرادة دولية وإقليمية داعمة.
• السيناريو الثالث: سيناريو الانقسام؛ ويفترض أنْ تذهبَ السّاحة السوريّة نحو المزيد من التّباعُد بين المكوّنات الاجتماعيّة، بما يُمهّدُ الطّريق أمامَ نُشوءِ كياناتٍ مُستقلّة، أهمّها في غرب سوريا، حيث العلويُّون، وفي جنوبها، حيث الدروز، وفي شمالها الشرقي، حيثُ الأكراد. وباعتباره مسارًا بديلًا، يحظى هذا السيناريو بدعم من إسرائيل، وإيران، كُلّ لأسبابه. فإسرائيلُ ترى في تقسيم سوريا حائلًا أمام استقوائها تحت حُكم الإسلاميين، وإفشالًا لمشروع الهيمنة الإقليميّة التركيّة. بينما ترى فيه إيران مدخلًا للتواجد على شطآن المتوسط، وممرًّا لدعم “حزب الله”، ومدخلًا لمعاقبة تركيا، وإفشال مشروعها الإقليمي البديل. ولا تُظهِرُ المعطيات أنّ طهران تُحاول في المرحلة الرّاهنة تطبيق هذا السيناريو، لكن من الوارد جدًا أنْ تستخدمه كورقة للضغط على النظام السياسي الجديد في سوريا، لضمان الحد الأدنى من المكتسبات.
وبشكلٍ عامّ، لا يُمكنُ تصوُّر حلولٍ ناجعةٍ للحالة السُّورية الرّاهنة، إلّا إذا تضمّنت تلك الحُلول، مناهجَ لتحجيم التدخُّلات الإقليميّة والدوليّة في الملف السُّوري، وخاصّة التدخُّلات الإيرانية والإسرائيلية، وإحالة الأمر إلى الشّارع السُّوري، ليتولّى السوريّون مهمّة التوصُّل إلى إجماعٍ داخليٍّ صعبٍ، لكنّه ضرورةٌ وجوديّةٌ لهم، ومخرجٌ وحيدٌ لسوريا من الحالة الرّاهنة باعتبارها “مسرحًا لحروب الوكالة”.

التسلل من النافذة: مساعي إيران للعودة إلى سوريا ما بعد الأسد | د. محمد الزغول | صحيفة العرب
طهران تحرك الميليشيات المرتبطة بها عقائديا لنشر الفوضى ومناكفة السلطات الجديدة.