تغير النظام العالمي

هل يكون الجنوب العالمي بوابة الصين لبناء نظام عالمي جديد؟​

%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-225-1736354026.jpg

الرئيس الصيني (وسط) مع قادة الدول الأفريقية أثناء حفل افتتاح منتدى الصين الأفريقي 2024


لا تُخفي الصين منذ سنوات امتعاضها من النظام العالمي القائم، الذي تصفه بأنه نظام مبني على الهيمنة الغربية ويعامل الدول الأخرى بازدواجية ونظرة فوقية، وتؤكد أن هذا النظام فشل في حل الأزمات الدولية، مشددة على الحاجة إلى نظام جديد أكثر عدالة وفعالية.
وتشير الصين إلى أن النظام العالمي الحالي، "غير عادل ويُقصي مصالح الدول النامية" حسب وصفها، مستدلة بالتفاوتات الاقتصادية، والتدخلات السياسية، وفرض المعايير الغربية على غالبية دول العالم.
وفي السنوات الأخيرة، تصاعدت تصريحات الصين التي تدعو إلى إعادة تشكيل النظام الدولي بما يتناسب مع قيمها ومصالحها، ويعمل على حل الأزمات الدولية بشكل أكثر عدلا وفعالية.
وهو ما تدركه الولايات المتحدة، حيث قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في سبتمبر/أيلول 2022، إن العالم يقف على أعتاب حقبة جديدة من العلاقات والمنافسة على تحديد شكل النظام العالمي، وإن روابط الدول أصبحت متشابكة أكثر من أي وقت مضى.
وأوضح المستشار سوليفان في كلمته أمام المنتدى العالمي في دافوس، أن هناك منافسة حامية الوطيس انطلقت وعنوانها "الحق في تحديد شكل النظام العالمي الجديد"، وأشار إلى أن الولايات المتحدة تقوم بتعبئة العالم لعدم التخلي عن النظام الاقتصادي العالمي، وإنما تكييفه مع "تحديات اليوم والغد".
US National Security Advisor Jake Sullivan addresses the assembly at the World Economic Forum (WEF) annual meeting in Davos, on January 16, 2024. (Photo by Fabrice COFFRINI / AFP)
سوليفان: الولايات المتحدة تقوم بتعبئة العالم لعدم التخلي عن النظام الاقتصادي العالمي وإنما تكييفه مع التحديات

الجنوب العالمي​

ظهر مصطلح "الجنوب العالمي" في ستينيات القرن العشرين كبديل لمصطلحات مثل "العالم الثالث" و"البلدان النامية"، واستخدم للتأكيد على استقلالية هذه الدول وتحدي هيمنة الدول الغربية في السياسة الدولية والاقتصاد، ويُستخدم اليوم للإشارة إلى الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، ويشمل بلدانًا في أفريقيا، أميركا اللاتينية، وآسيا، وأيضا لتسليط الضوء على التفاوتات العالمية بين الشمال والجنوب.

ويعتبر كذلك مرادفا حاليا لمجموعة الـ77 التي يبلغ عددها الآن 134 دولة، وهي مجموعة من البلدان ما بعد الاستعمارية والبلدان النامية التي اتحدت في عام 1964 للدفاع المشترك عن مصالحها الاقتصادية وتعزيز قدرتها التفاوضية في الأمم المتحدة.
ويواجه هذا المصطلح تحديات بسبب اختلاف المصالح والتنوع بين أعضائه وهي دول تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا، من الناحية الاقتصادية والسياسية، مما يجعل من الصعب صياغة سياسات ورؤية موحدة تمثلها، إضافة للتهديدات الأميركية والتحذيرات الأوروبية.
كما ينظر إلى مصطلح "الجنوب العالمي" على كونه عامًا، يُغفل التنوع والتعقيدات الداخلية لكل دولة، ويفترض أن دوله كتلة واحدة يفترض أن تدعم مجموعة من القضايا الليبرالية الغربية، سواء تبنتها البلدان المصنّفة بالفعل أم لا.

الصين والجنوب العالمي​

تسعى بكين إلى تجاوز العداء الغربي ومخططات إيقاف صعودها، معتمدة على قوتها الاقتصادية ونفوذها المتزايد في "الجنوب العالمي"، الذي يمثل 85% من سكان العالم ونحو 39% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتعد الصين الدولة الوحيدة حاليا التي تُظهر طموحًا وقدرة على إعادة تشكيل النظام وهي لم تُخف طموحاتها.
ولتحقيق هذه الأهداف، طرحت سلسلة من المبادرات الكبرى على صعيد الاقتصاد والسياسة والتنمية والعلاقات الدولية ومشاريع متعددة، مثل مبادرة "الحزام والطريق" التي تهدف إلى تعزيز البنية التحتية والتجارة العالمية، و"مبادرة الأمن العالمي" لتعزيز السلام والاستقرار، و"مبادرة أصدقاء السلام" التي تركز على حل النزاعات السياسية.
ومبادرات التنمية والأمن والحضارة ومبادرات لحل الأزمات السياسية وخاصة الأزمة بين إيران والمملكة العربية السعودية والحرب الروسية الأوكرانية، انطلاقا من شعار "مجتمع من أجل مستقبل مشترك"، وهو الشعار الذي تتبناه بكين لتقديم نفسها كقوة دافعة للسلام والاستقرار العالميين.
إعلان

ترى الصين أنها أصبحت قوة عالمية عظمى، وبالتالي تريد أن تنعكس طموحاتها وسياستها وقيمها على النظام الدولي بالطريقة نفسها التي فرضت من خلالها الولايات المتحدة بصماتها على المؤسسات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وشركاؤها في هذا المشروع يشملون دول الجنوب العالمي، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا، إضافة إلى روسيا ودول الخليج.
Chinese President Xi Jinping attends a plenary session in the outreach/BRICS Plus format at the BRICS summit in Kazan on October 24, 2024. (Photo by Maxim Shemetov / POOL / AFP) شي جين بينغ استخدم مصطلح الجنوب العالمي 13 مرة خلال خطابه في قمة بريكس بلس 2024 (الفرنسية)
شي جين بينغ استخدم مصطلح الجنوب العالمي 13 مرة خلال خطابه في قمة بريكس بلس 2024 (الفرنسية)
ومع ذلك، تواجه هذه الطموحات عقبات كبيرة، أبرزها التناقضات بين المصالح الاقتصادية والسياسية لشركائها، خاصة داخل دول الجنوب العالمي، وتزايد الضغوط الأميركية والأوروبية، حيث تُظهر هذه الدول معارضة واضحة لأي مَساع لتقويض النظام القائم من قبل الصين، وعدم وجود رؤية وسياسة واضحة لهذا النظام الجديد وعدم قدرة الصين على تقديم نموذج شامل له.
وتحاول الصين تصدير صورة باعتبارها بطلة للجنوب العالمي، ولا تفوت فرصة للتأكيد على أنها "دولة نامية"، وهو ما أكده "لي شي" الممثل الخاص للرئيس الصيني شي جين بينغ، في قمة مجموعة الـ77 والصين التي عقدت في هافانا عاصمة كوبا سبتمبر/أيلول 2023، حيث قال "الصين هي أكبر دولة نامية في العالم وعضو طبيعي في الجنوب العالمي وستظل الصين باعتبارها أكبر دولة نامية في العالم عضوا بعائلة الدول النامية وعضوا بدول الجنوب العالمي إلى الأبد، مهما وصلت من مرحلة تنموية".
وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ استخدم المصطلح 13 مرة خلال خطابه في قمة "بريكس بلس" بأكتوبر/تشرين الأول 2024، في الترويج للنظام العالمي الجديد عبر الدعوة لتعزيز صوت الدول النامية، مشيرا إلى أهمية هذه الدول في تشكيل المستقبل العالمي، ورفض سياسات الهيمنة التي وصفها بأنها تعيق التعاون الدولي.
وتعمل الصين على تعزيز حضورها في المؤسسات الدولية، حيث نجحت الصين في توسيع نفوذها داخل الأمم المتحدة، لتصبح ثاني أكبر مساهم مالي في ميزانيتها، وفي مجلس الأمن، تستخدم نفوذها وحق النقض لتعزيز مواقف معينة وحشد الدول الأعضاء لدعم مواقفها.
Delegates and Government representatives attend the opening session of the Third South Summit of the Group of 77 and China (G77+China) in Kampala on January 21, 2024. - The G77+China is a coalition of developing countries designed to promote its member states economic interest and create negotiating capacity in the United Nations. (Photo by LUIS TATO / AFP)
مندوبو الحكومات وممثلوها في الجلسة الافتتاحية لقمة الجنوب الثالثة لمجموعة الـ77 والصين

بريكس​

كما تستغل بكين مؤسسات مثل "منظمة شنغهاي، ومجموعة "بريكس" التي تمثل أكثر من 40% من سكان العالم، لتوسيع دائرة نفوذها الاقتصادي والسياسي، حيث ضمت مؤخرًا دولًا جديدة مثل الأرجنتين ومصر وإيران إليها، إضافة لوجود البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا، كوسيلة لتعزيز رؤيتها للنظام الجديد، وتقديم بديل للنظام الاقتصادي والسياسي الحالي.
 
بدا منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 أن ثمة نظاماً دولياً جديداً في طور التشكيل حيث تراجع ملحوظ للهيمنة الغربية وللولايات المتحدة تحديداً، لقاء تحوّل اقتصادي وسياسي واضح لصالح آسيا والصين خاصة.

ويُقصد بالنظام الدولي، النظام الفوقي الحاكم لسلوك وتفاعلات الدول عبر مجموعة من المؤسسات والقواعد والمعايير.

ونشأ نظام دولي بعد الحرب العالمية الثانية عبر منظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد واحترام القانون الدولي ومنع انتشار السلاح النووي، وبعد انتهاء الحرب الباردة ترسخ النظام الدولي الجديد بقيادة الولايات المتحدة، التي بدورها قد عملت على فرض نظام ليبرالي سياسي واقتصادي جديد مدعوم بالعولمة والاعتماد المتبادل الدولي، وذلك أيضاً عبر مجموعة قواعد ومعايير من أهمها احترام حقوق الإنسان ونشر الديموقراطية والتدخل الدولي الإنساني والحوكمة العالمية وغيرها.

وارتهن النظام الدولي الجديد، وتحديداً بعد الحرب الباردة بالهيمنة الأميركية الأحادية الساحقة في العالم. إذاً، فإنه بخلاف أن هذا النظام الجديد قد تم فرضه أو ترسيخه بسلطان الإرادة الأميركية؛ فهو أيضاً نظام يشوبه الكثير جداً من المثالب والمعايير المزدوجة. فنذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، الكوارث التي نجمت عن الرأسمالية المتوحشة حتى في معاقلها الغربية.

وإزاء تراجع الهيمنة الأميركية الواضح في العالم منذ 2008، فضلاً عن بزوغ الكثير من المتغيرات والتحديات الدولية كتنامي دور الشركات متعددة الجنسيات، وتفشي أزمة المناخ والهجرة العالمية؛ بدأ يتشكّل نظام دولي جديد تعددي بامتياز من حيث انتشار مراكز القوى الدولية المؤثرة، وتوزع النفوذ الدولي ليشمل أفراداً ومنظمات دولية.

لكن وسط ذلك، برزت الصين باعتبارها القوة الأبرز في هذا النظام الدولي الجديد، وتحديداً على الصعيد الاقتصادي. والأهم من ذاك، أن الصين تسعى فعلياً بأن تكون محور هذا النظام الدولي الجديد التعددي. بحيث يُعاد تشكيله تدريجياً في إطار مجموعة المؤسسات والمعايير والقواعد الصينية.

منذ تولى الرئيس شي جينبينج، مقاليد القيادة في 2013، طرحت الصين مجموعة من المبادرات والأفكار والمعايير، التي تُشكّل في الوقت الراهن منافساً قوياً للنظام الليبرالي العالمي، وستمكن الصين في الأجل المنظور من تبوؤ القيادة الدولية.

وعلى رأس هذه المبادرات، تأتي مبادرة الحزام والطريق المبادرة الاقتصادية العملاقة غير المسبوقة في التاريخ. وانضم إلى المبادرة طوعياً ما يناهز 200 دولة تشمل قارات العالم الخمس.

ويتأتى ذلك من قناعة الدول المنضمة بالفوائد الاقتصادية المذهلة التي ستجنيها. إذ روجت الصين للمبادرة بحسبانها مبادرة قائمة على التعاون والمنفعة المشتركة للجميع، وأيضاً بحسبانها مبادرة ترمي إلى تقوية الروابط الثقافية بين الشعوب، وإحداث التكامل الصناعي ونقل التكنولوجيا وأهمية الحفاظ على البيئة.

وطرحت وروّجت الصين للمبادرة انطلاقاً من منظومة قيمها الخاصة المستمدة من تاريخها وحضارتها وثقافتها العريقة. إذ تروج للمبادرة تحت شعار «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، والتي تعني تبني نظام اقتصادي رأسمالي حر يوازن بين النمو والتنمية وتحقيق العدالة للجميع.

وبطبيعة الحال يعد هذا الأمر أو الشعار الذي لقي رواجاً وجذباً كبيراً حتى في الدول الأوروبية المنضمة للمبادرة، مناهض تماماً للرأسمالية الغربية المتوحشة.

ومبعث الانجذاب الكبير له أيضا يعزو إلى نجاح الصين الباهر في تطبيقه، إذ استندت التجربة الاقتصادية المذهلة للصين على المزج بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي وعدم ترك آليات السوق في التحكم تماماً حفاظاً على السلم والأمن الاجتماعي وتوفير فرص العمل. وكان من أبرز ثمار ذلك، انتشال ما يقرب من 300 مليون صيني من تحت خط الفقر المدقع.

وتمثل المبادئ الخمس للسياسة الخارجية الصينية، وتحديداً مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أبرز المرتكزات الرئيسية للمبادرة. وهذا عنصر يمثل عنصر جذب آخر مهماً للمبادرة وللصين كنموذج.

فالصين، على عكس ما يعتقده الكثيرون من عدم اكتراثها تماماً بقضايا حقوق الإنسان- إذ ما في الأمر، أن لدى الصين منظوراً مختلفاً تماماً في تلك المسألة. حيث ترى الصين أن منطلق حقوق الإنسان اقتصادي بحت.

فالعدالة والتنمية الاقتصادية من منظور الصين أسبق وأعمق، وستؤدي حتماً إلى تحقيق وترسيخ باقي الحقوق تباعاً. وتدلل الصين على ذلك بمستويات الفقر الآخذة في التزايد في الغرب، والتدني الرهيب في معايير الأخلاق، وهو ما أفضى إلى تنامي الشعبوية الغربية ممثلة في ترامب في الولايات المتحدة، والأحزاب اليمينة المتطرفة في أوروبا.

ومثلت كل من أزمتي كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية، أزمتين كاشفتين للغاية للنظام الدولي الجديد بالقيادة الصينية الضمنية. ففي حين تعثر الغرب بمؤسساته وخاصة منظمة الصحة العالمية في التصدي للأزمة، قامت الصين عبر «طريق الحرير الصحي» بجهود جبارة لمساعدة دول العالم على التصدي للأزمة وذلك من خلال مساعدات مالية وصحية ضخمة تُقدر بالمليارات.

وأزمة كورونا في حد ذاتها كانت كاشفة بامتياز لهشاشة النظام الغربي الاجتماعي والصحي الذي سقط بسرعة الصاروخ فور اندلاع الأزمة عالمياً، مقابل نظام اجتماعي وصحي واقتصادي متماسك للغاية للصين.

وفي ما يتعلّق بالحرب الأوكرانية، نجد أن الاقتصاد الصيني ظل ضمن اقتصادات قليلة في العالم متماسكاً للغاية. والأكثر من ذلك، ظل الموقف السياسي الصيني متماسكاً وصامداً متحدياً التكتل الغربي بعقوباته ضد روسيا. بل إنه مع تطور الحرب وتعقدها، أصبح الحل مرتهناً على نحو كبير بالإرادة الصينية القادرة إلى حد بعيد على عدم تطورها إلى حرب نووية على الأقل. وجدير بنا أن نذكر هنا أن هذه الحرب كانت كاشفة تماما لمدى تراجع الهيمنة الأميركية-الغربية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.

وأخيراً، بوسعنا القول، إن النظام الدولي في إطار نظام دولي تعددي جديد بقيادة الصين، أو أن تكون الصين مركز ثقله وتوازنه الرئيسي. إذ على الصعيد الجيوسياسى والسياسي العالمي، يتمدد النفوذ الصيني الناعم بشكل مذهل.

وعلى الصعيد الاقتصادي، تنافس الصين عبر مؤسساتها خاصة مبادرة الحزام والطريق والبنك الآسيوي للبنية التحتية مؤسسات النظام الليبرالي، خاصة البنك الدولي، وتصيغ الصين عبر هذه المؤسسات قيماً ومعايير جديدة اقتصادية ومعيارية جاذبة في الوقت ذاته.
 
لتفادي اي اجراءات عقابية او محاولة لكبح التقدم الصيني الإقتصادي تسعى الصين لتحقيق اكتفاء الذاتية في كل شيئ تقريبا و هو ما سيزيل ادوات الضغط و الحرب ضد الصين من قبل امريكا و الغرب و حلفائهم
 

عن الصين وأميركا والنظام العالمي الجديد​



إذا كانت الولايات المتحدة هي القوة العسكرية الأولى في العالم إنْ لم نَقُلْ الوحيدة التي يمكن أن تنشر جنوداً لها في مناطق مختلفة من العالم، فإن القوة العسكرية لم تعد العامل المحدد في إطار النظام العالمي الجديد، كما كان ذلك في فترة الحرب الباردة، لأنه في ظل العولمة ومحددات الفترة الراهنة، فإن هاته القوة لا يمكنها تحقيق الأهداف التقليدية التي كانت تحكم الصراعات القديمة، فبدأنا نشاهد مظاهر شتى لوهن الدول القوية ومظاهر أخرى لقوة الدول الضعيفة على الساحة الدولية؛ هذا الوهن الجديد الذي بدأ يسم قوى الدول العالمية مردُّه إلى الأزمات المتتالية التي تعرفها محددات هذا النظام الجديد المطبوع باللايقين والغموض والتوجس في عالم غير منظم.


كما أننا انتقلنا من مبدأ السيادة إلى صور متعددة من الارتباط والاعتماد المتبادل بين الدول، ومن قاعدة سمو القوة العسكرية إلى قدرة الدول الضعيفة أو الصاعدة (اقتصادياً) على زعزعة النظام العالمي القديم، ومن الترابية إلى مسألة «الحراك» و«التحرك» الدائمين، ومن القراءة الكلوزفيتزية للحرب المبنيّة على صراع الدول، إلى نوع من الصراع قائم على تفكك المجتمعات الداخلية، وبمعنى دقيق فإننا أمام انهيار النظام الفيستفالي الذي بُني ابتداءً من سنة 1648.


إن أميركا تعي أن الصين تفهم هاته القواعد الجديدة، والصين تعي أن أميركا تتخوف من هاته القواعد الجديدة؛ كما أن الصين واثقة بأن ما تقوم به هو الصحيح وأنها بنت لنفسها طريقاً تمكّنها من التموقع الجيد في النظام العالمي الجديد ومن عمليات المراوغة اللبقة وقواعد الحذر والرصانة دون تهييج ولا ضجيج ودون أي رغبة في الهيمنة على الآخر كيفما كان نوعه... ودولة الصين استطاعت فهم العولمة والارتماء في مبانيها بذكاء ونجاح؛ فالدولة ليست بدولة ذات طابع «دعوي» ترتكز على تصدير النموذج الفكري والمجتمعي والثقافي والاقتصادي والسياسي التي تمتلكه كما فعلت وتفعل الدول الغربية كالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا؛ فهاته الأخيرة، ويساعدها في ذلك منظِّرون وأكاديميون كثر، تظن أن دول العالم لا يمكنها أن تصل إلى بر الأمان إلا من خلال تطبيق نموذجها بالكامل وإلا ستبقى خارج التاريخ...


إن الصين كانت ولا تزال دولة تعمل بهدوء ودون إثارة المشكلات، وتمؤسس لقاعدة مفادها أنها دولة لا تتدخل في النموذج الحضاري والاقتصادي والسياسي للدول الأخرى، وأن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني ضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق - عدو» وإنما في إطار «رابح - رابح» win - win... لهذا عندما يشدد الرئيس بايدن خلال هاته الزيارة على أنه ما زال يعد شي «ديكتاتوراً»، مكرِّراً بذلك مصطلحاً يقوله سراً وعلناً رؤساء دول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، فإنه يُعيد تصوراً وفكراً تبنيه أميركا ويبنيه الغرب عن دول لا تنتمي إلى جغرافيتهم الآيديولوجية؛ وهذا الكلام اعتاد سماعه النظام الصيني ولم يعد يبالي به، كما أن ذلك يعبر عن استمرار اللافهم الدائم عند الغرب لما يجري في بيئات غير غربية مثل الصين؛ ولا أدل على ذلك من استدراك الرئيس الأميركي كلامه بالقول إنه ديكتاتور بمعنى أنه رجل «يدير دولة، دولة شيوعية، تقوم على نظام حكم يختلف تماماً عن نظامنا».


هذا الكلام لن يسمعه الرئيس الصيني في أكثر من ثلثي دول العالم التي يتعامل معها اليوم مثل الدول الأفريقية، التي بدأت تتخلى تدريجياً عن المستعمرات القديمة وعن الدول الغربية مجتمعةً لترتمي في علاقات تجارية جديدة مع دول مثل الصين وروسيا وغيرها؛ وهاته الدول لم تعد تستسيغ فرض تسيير العالم حسب قواعد، وفي بعض الأحيان، حسب أهواء القوى العالمية الغربية؛ فذلك لم يعد ممكناً؛ فالنظام الغربي في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لم يعد له نفس الجاذبية ونفس القدرة على التصدير الجاهز؛ كما أن الصين والهند مثلاً تحتاجان وحدهما إلى الفهم العميق لنظامهما الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي من طرف الدول الغربية؛ وهما تنجحان اليوم وباستمرار في التأثير على نظام عالمي بشكل مريح ومغرٍ.



generic

 
منذ عام ٢٠١٨، بدأت الصين بالتخلص من سندات الدين الأمريكية بالتزامن مع زيادة احتياطياتها من الذهب. وبحلول عام ٢٠٢٤، ستتسارع هذه العملية قدر الإمكان - بلومبرج.
 
عودة
أعلى