أبرز خصائص المذهب العسكري الإسلامي
* أ - قدم هذا المذهب وأصالته:
فقد ظهر المذهب العسكري منذ بداية الفتوح قبل أربعة عشر قرن، واستمر في تطوره حتى الأزمنة الحديثة، دونما انقطاع. ولقد عملت بعض المذاهب العسكرية الحديثة على ربط مذاهبها الحديثة بجذور قديمة ولعلها نجحت في ذلك، غير أن هناك انقطاع زمني بين التطبيقات والتجارب القديمة وبين التكوين الحديث لتلك المذاهب العسكرية. في حين بقي المذهب العسكري الإسلامي مستمرا في تطوره عبر البُعدين: الجغرافي والزماني.
* ب - تنوع تجاربه القتالية:
فقد عرف المذهب العسكري عبر استمراره وتطوره جميع أنواع الحروب: النظامية والأهلية والثورية، وإذا كانت ( وقعة الجمل سنة 36 هـ 656 م )، ( ووقعة صفين سنة 37 هـ 657م ) تمثل النموذج المبكر للحروب الأهلية. فإن حرب عبد الملك بن مروان ضد عبد الله بن الزبير سنة 72 هـ 692 م لم تكن بدورها إلا حربا أهلية. كذلك لم تكن عملية انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين إلا نوعا من الحرب الأهلية. وكان المتحاربون في هذه الحروب يرفعون راية المنافسة لتطبيق الشريعة الإسلامية على أهل الإسلام وفي ديار الإسلام. فكان المذهب العسكري الإسلامي وتطبيقاته قاسما مشتركا بين الأطراف المتحاربة. ولقد عرف العصر العباسي بدوره حروبا أهلية كثيرة. كما عرف الحكم الأموي في الأندلس. وكما عرفتها الدولة العثمانية بعدئذ ( حروب العثمانيين ضد الصفويين في بلاد فارس ). وكانت عامة المسلمين تقف إلى جانب السلطة الشرعية حفاظا على الطاعة والجماعة، والتزاما بقوله تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ". وتجدر الإشارة إلى أن قادة الحروب الثورية في الأزمنة الحديثة قد حرصوا في معظم الأحيان على تنظيم ( المحاكم الشرعية ) لمحاكمة المنحرفين عن منهج الثورة الإسلامية، ومحاكمة عملاء العدو وجواسيسه، والحكم وفقا لشريعة الله، واحقاقا للحق والعدل، ولتجنب الظلم.
* جـ - القدرة على التطور:
والمذهب العسكري الإسلامي بعد ذلك مميز من حيث قدرته على التطور. فقد بدأ تكوين المذهب العسكري في عصر الأسلحة البيضاء ( ما قبل الأسلحة النارية ) واستمر تطوره عندما ظهرت الأسلحة الحديثة ( المدفعية، الهندسية ) وظهر ذلك بشكل واضح أيام العثمانيين، حيث أمكن استيعاب التطورات الحديثة في تنظيم الأسلحة البرية والبحرية وقد جرى ذلك التطور أخذا والتزاما بالآية الكريمة " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ".
* د - الاعتماد على مباديء الحرب:
لقد اعتمد المذهب العسكري الإسلامي منذ نشأته الأولى وخلال مراحل تطوره على ( مباديء الحرب ) وفقا لما تمت صياغتها والتعبير عنها في الأزمنة الحديثة. وقد يكون من المثير ملاحظة أن لكل مبدأ من تلك المباديء جذوره العميقة في معظم التجارب القتالية التي خاضها المسلمون: فالمباغتة والمبادأة، واستخدام القدرة الحركية للهجوم والمناورة، وحماية المؤخرات، وأمن القوات، والحرص على الإمداد تبرز جميعها واضحة خلال عمليات الفتح الأولى، كما تظهر تطوراتها عبر مسيرة الأعمال القتالية خلال كل مراحل التاريخ.
وكان ( التاريخ العسكري ) هو المدرسة التي حفظت للمذهب العسكري تجاربه بصورة دقيقة مما سمح للقادة المسلمين الذين كانوا يتناقلون الخبرات في بداية أمرهم عن طريق التواتر ومن جيل إلى جيل، ثم جاء المؤرخون المسلمون فسجلوا بأمانة مثيرة دقائق الأعمال القتالية فكان ذلك عاملا مهما في تطوير المذهب العسكري عبر التجارب الذاتية. كذلك كان لأدب الحرب ( الشعر خاصة ) دوره في تطوير المذهب العسكري الإسلامي. وهو ما يتطابق في الأزمنة الحديثة مع ما يتم تسجيله في ( يوميات الحرب الوثائقية ) من جهة، علاوة على ما تتضمنه المذكرات الشخصية للقادة من جهة أخرى. وما من حاجة للقول إن هذا النهج الذي يعتمده الباحثون في الأزمنة الحديثة لدراسة تطور فن الحرب. إذ لم تظهر كتابات وأبحاث ( كلاوزفيتز - وجيميني -وليدل هارت - وفوللر - وفوش ) وسواهم إلا من خلال المادة التاريخية وإلا من خلال ما يمكن استخلاصه من أدب الحرب باعتباره تسجيلا أمينا للأحداث - ولو كان من زاوية خاصة -. تبقى هناك ظاهرة مهمة في المذهب العسكري الإسلامي، هي أنه ما من قائد ألزم نفسه بقواعد الشريعة الإسلامية وحرص على تطبيق المذهب العسكري الإسلامي إلا وكان النصر حليفه، وإذا ما أمكن تجاوز الجيل الأول من قادة الفتوح، فهناك أسماء كثيرة تبدو متشابهة في فضائله، متطابقة في طبيعته، ومن تلك الأسماء مثالا لا حصر: يمين الدولة محمود بن سبكتكين ( ت سنة 421 هـ 1030م ) وكانت له فتوحاته الكثيرة في الهند، والسلطان السلجوقي ألب أرسلان ( 420 - 465 هـ 1029 - 1072م ) قائد معركة ملاذكرد الشهيرة، وأمير المرابطين يوسف بن تاشفين ( 410 - 500 هـ 1019 - 1106 م ) الذي أنقذ الأندلس في معركة الزلاقة، وأمير الموحدين يعقوب المنصور ( 554 - 595 هـ 1160 - 1198 م ) الذي قاد المسلمين في الأندلس وخاض معركة الأرك الحاسمة، ونور الدين زنكي ( الشهير بالشهيد ) ( 509 - 569 ه، 1115 - 1173 م ) الذي أعاد تنظيم المسلمين وحرر إمارة (الرها) من الفرنج، ووحد بلاد الشام ومصر ضد الفرنج الصليبيين، وصلاح الدين الأيوبي ( 532 - 589 ه،1137 - 1193م ) الذي اشتهر بمعركة (حطين) الخالدة وبتحرير القدس وكانت له وقائع كثيرة ضد الفرنج، ومن بعد المظفر قطز ( ت 658 هـ 1259 م ) الذي اقترن اسمه بمعركة عين جالوت وهزيمة المغول ( التتار )، والظاهر بيبرس ( 607 - 676 ه، 1210 - 1272 م ) الذي كان له دوره في طرد الفرنج من معظم بلاد الشام، وأمثالهم كثير، كانوا جميعا أعلاما في فن الحرب، وفي تطوير المذهب العسكري الإسلامي.
وبعدُ ؛ فما كان للمذهب العسكري الإسلامي أن يأخذ أبعاده الزمنية المستمرة، وخصائصه المميزة لولا تلك الجموع من المجاهدين في سبيل الله الذين تعاقبوا جيلا بعد جيل، وهم يتوارثون فضائل الجهاد ويلتزمون بفريضته، ويختارون الشهادة ابتغاء رضوان الله، وأملا في مثوبته، وتصديقا بوعده الحق. (( المذاهب العسكرية في العالم: بسام العسلي ص 31 وما بعدها ))
* ومما تتميز به العسكرية الإسلامية أيضا الإنسانية:
وأنسنة الحرب ـ( مصطلح استخدم في الأدبيات العسكرية، بمعنى: مراعاة العامل الإنساني في الحروب بما يخفف من آثارها التدميرية، ويتجنبها قدر الإمكان، ويعني فيما يعنيه: الالتزام بالاتفاقيات الدولية حول تجنب ايذاء المدنيين، وحسن معاملة الأسرى) ـ في الإسلام بعد هجرة النبي للمدينة بدأت الحروب الإسلامية بمعركة بدر، ثم تتالت المعارك والغزوات بإشرافه وقيادته، فكانت تلك المعارك معيناً لا ينضب في ترسيخ مبادئ الإدارة العسكرية التي غدت منهاجاً حربياً لدى المسلمين.
وقد جمع الرسول كل الشمائل القيادية، والسياسية، والإدارية، والإنسانية؛ مستمداً إياها من الوحي الإلهي الذي يتنزل عليه. ومن إيمانه بالله تعالى الذي أعطاه القوة، والثبات، والشجاعة، ودرايته بمبادئ الحرب، والعلم العسكري، وكان وفياً لعهوده ومواثيقه، يعمل الفكر، ويستمحص الرأي؛ ليخلص إلى التخطيط الجيد، والتنظيم المثالي، ولم يرَ في الحرب أبداً وسيلة للسلطة، أو الانتقام؛ بل أرادها وسيلة لردع الطغاة، ونشر مبادئ العدل، والخير، والسلام، التي جاء بها الإسلام الحنيف، فنهج منهجاً يتجنب اللجوء إلى الحرب في حال وجود وسائل أخرى تؤدي الغاية التي من أجلها بعث إلى كافة الناس رسولاً ونبياً؛ ليبلغ دين الله تعالى؛ فإذا ما تحققت الغاية فيجب التوقف عن الحرب، وفي جميع الأحوال يجب أن تقتصر أعمال الحرب على المقاتلين، دون المدنيين، فكان أول من وضع مبادئ أنسنة الحروب التي فشلت المعاهدات الدولية، وجهود المنظمات الإنسانية المعنية في العصر الحديث فيها، ومن تلك المبادئ الإسلامية في أنسنة الحروب:
* الإنذار قبل القتال:
أدرك النبي ما للحروب من آثار تدميرية، فأوجب على المسلمين عدم قطع سبل تجنبها مهما كانت قوتهم، وضمانهم النصر على الأعداء، ومن هذه السبل: دعوة العدو وإنذاره قبل القتال؛ وفي الإنذار تخيير للعدو بين القبول بمطالب المسلمين أو القتال، فإن لم تُلَبَّ كانت الحربُ، وهو ما فعله المسلمون في سرية عبد الرحمن بن عوف، وسرية خالد بن الوليد إلى دومة الجندل، وإلى بني الحارث؛ وقد اتبع النبي التخيير مع أغلب أعدائه، وكان يميل إليه، ويحب أن يرى الناس كلهم قد دخلوا الإسلام بدون قتال .
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أَمَّرَ أميراً على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزوا في سبيل الله باسم الله، قاتلوا كل من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، اُدْعُهُم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا فأخبرهم أن يكونوا كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين..." إلى آخر ما كان يوصي به النبي أمراء الجيوش، وقادة السرايا وكلها تنطلق من رغبته عليه الصلاة والسلام في أن يتجنب المسلمون الحروب ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فإن خاضوها فلتكن بعيدة عن الحقد والتدمير، والإساءة للمدنيين، وبذلك كان من شرط الحرب: بلوغ الدعوة باتفاق، أي: لا يجوز حربهم حتى تبلغهم الدعوة، وذلك شيء متفق عليه عند المسلمين ، وقد أكد بعض الفقهاء على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام يحرم على المسلمين قتاله غرّة وبياتاً ؛ ويحرم أن نبدأهم بالقتال قبل إظهار الدعوة دعوة الإسلام لهم، وقد أوضح القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة ذلك قائلاً: "لم يقاتل رسول الله فيما بلغنا قوماً قطُّ حتى يدعوهم إلى الإسلام"؛ وقال الطبري: "أجمعت الحجة أن رسول الله لم يقاتل أعداءه من أهل الشرك إلا بعد إظهار الدعوة، وإقامة الحجة، وأنه كان يأمر السرايا بدعوة من لم تبلغه الدعوة".
وقد حرص المسلمون على هذا المبدأ الإنساني حرصاً قوياً، وحافظوا على الوفاء به في كل قتالهم؛ بل صار شعاراً لهم؛ فكان نضالهم من أجل المباديء السامية التي جاء بها الإسلام؛ فحققوا الانتصارات المتتالية والكبيرة؛ مصرِّين في كل مرة على دعوة الأعداء إلى السلام، وتجنب الحرب بالدخول في الإسلام، أو الخضوع لسلطان المسلمين، والأمثلة أكثر من أن تحصى، منها: أن الرسول بعث إلى قريش أبا سفيان يدعوها إلى الإسلام يوم فتح مكة، رغم أن قريشاً كانت أول من عرف الدعوة الإسلامية، وعندما حاصر أحد الجيوش الإسلامية بقيادة سلمان الفارسي أحد القصور الفارسية؛ قال المسلمون له: يا أبا عبدالله، ألا ننهدُّ إليهم؟ فقال: دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله يدعو، فأتاهم فقال لهم: إنما أنا رجل منكم والعرب يطيعونني؛ فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا، وعليكم ما علينا؛ وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم وأعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، ورطن إليهم بالفارسية؛ فقالوا: ما نحن بالذي يعطي الجزية؛ ولكن نقاتلكم، فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا، ثم قال: انهدّوا إليهم. فانهدّ المسلمون إليهم وفتحوا القصر.
ومن مباديء الحرب عند الرسول التي اتبعها المسلمون في سائر حروبهم: أنه لابد قبل الشروع في القتال بعد الإنذار من مضي ثلاثة أيام تكرر فيها الدعوة، ولا يجوز البدء بالحرب إلا في اليوم الرابع مالم يُعاجَل الجيش الإسلامي بالقتال، أو يكون الجيش قليلاً، ويخشى أن يقاتل، وهو مانص عليه أغلب الأئمة؛ بينما قال الشافعية: إن الإمام له الخيار بحسب المصلحة؛ إما أن يكرر الإنذار أو لا يكرره.
وقد يسأل السائل: ألا يشكل الإنذار، وتكرار الدعوة ثلاثة أيام إلغاء لعنصر المباداة والمفاجأة التي هي من أسباب تحقيق النصر في المعركة؟ ثم أليست مدة الإنذار والدعوة هي إفساح المجال للأعداء؛ كي يتجهزوا، ويتحصنوا، ويجمعوا قوتهم؛ ليواجهوا بها المسلمين؟
في الواقع أن هذا السؤال بحد ذاته دليل على المنهج الإسلامي في أنسنة الحروب؛ فالإنذار توجهه القوات الإسلامية للطرف المستهدف وهي في أوج قوتها، وبإمكانها أن تحقق النصر بدون اللجوء للإنذار والدعوة، ولكن بما أن الحرب ليست هدفاً بحد ذاتها، بل الهدف هو نشر المباديء الإسلامية، فيجب أن يسعى القائد العسكري المسلم إلى تجنب الحرب، وعدم الحكم بالغيب، فقد يقبل الأعداء بما يطلبه الجيش المسلم؛ وبذلك يتم حقن الدماء الإنسانية، سواء كانت من دماء المسلمين أو الأعداء باعتبار أن للإنسان قيمة كبرى في الشريعة الإسلامية، وهذا مبدأ عام في أنسنة الحروب؛ فإذا ما قامت الحرب بإصرار الأعداء على رفضهم للدعوة والإنذار فللجيش المسلم أن يمارسها بما يحقق النصر له مستعملاً كل الفنون الحربية، ولكن مع الاستمرار في تجنب استهداف المدنيين، والمنشآت، والممتلكات المدنية؛ إلا في حدود ما تقتضيه المصلحة.
* معاملة الأسرى:
منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم فشلت الجهود الدولية في وضع أسس يتم تطبيقها في مجال معاملة الأسرى؛ فبقيت معاهدات لندن وجنيف حبراً على ورق، والحروب المعاصرة تكشف عن مجازر مهولة يتم ارتكابها بحق الأسرى، ومثالنا القريب: المقابر الجماعية التي تم الكشف عنها في البوسنة لآلاف المسلمين الذين أسرتهم القوات الصربية؛ وأغلبهم من المدنيين، ثم قامت بقتلهم بعد تعذيبهم بدون رحمة، وهكذا في كوسوفا، والشيشان، وأفغانستان، وفلسطين وغيرها، بينما يتفق المستشرقون المنصفون، والعلماء العسكريون على أن النبي كان أول من وضع أسساً إنسانية واضحة في معاملة الأسرى؛ فقد قبل الفداء من أسرى بدر؛ فمن لم يملك المال جعل فداءه أن يعلم عشرة من غلمان المسلمين، وفدى الأسيرين اللذين أُسِرَا في سرية عبدالله بن جحش.
لقد عامل الرسول الأسرى معاملة فيها رفق، وشفقة، وعناية، وإنسانية، وأوصى بهم خيراً، وعفا عنهم حين ظفر بهم، وأرخى وثاق أحدهم حين سمع أنينه، وكان نتيجة هذه المعاملة أن دخل أغلبهم في الإسلام؛ رغبة منهم في هذا الدين الجديد. ولقد حَضَّ القرآن الكريم على إطعام الأسير، وأوصى الرسول على إطعامه، فآثر المسلمون الأسرى على أنفسهم في الأكل، فكان عزيز بن عمير وهو أسير يأكل أطايب الطعام، أما الذين أسروه فيأكلون التمر وما تبقى، وكذلك فإن الأسير كان يُكسى الكساء المناسب؛ إذ أعطى النبي العباس قميصاً، وأعطى سفانة بنت حاتم الطائي كسوة ونفقة، ومنَّ عليها.
وكان لا يستكره الأسير على الإدلاء بالمعلومات العسكرية المحظورة، ولا يضربه إن أدلى بمعلومات كاذبة قاصداً بها خداع المسلمين، ولا يعذبه أبداً إن لم يدل على أسرار العدو، فإن أدلى بها فمن نفسه، وهذا السلوك الإنساني هو ما حاولت اتفاقية جنيف إلزام الجيوش به في العصر الحديث؛ إذ نصت اتفاقية لندن الموقعة عام 1954م على ضرورة عدم استخدام العنف، والإكراه، والتعذيب للحصول على معلومات عسكرية من الأسرى العسكريين، وجاء في المادة (14) من اتفاقية لاهاي لعام 1977م حول معاملة الأسرى العسكريين في الحروب ما يلي:
"يحق للجهة التي تأسر عسكريين أن تحصل على اسم الأسير، ورتبته، وتاريخ التحاقه بالخدمة العسكرية، ولا يحق للجهة الآسرة أن تحصل بالتعذيب، والإكراه، والتهديد، واستعمال العنف المادي والمعنوي على أية معلومات من الأسير تتعلق بأسرار الجيش الذي قاتل فيه..."؛ ولكن بقي معظم هذه الاتفاقيات كلاماً نظرياً؛ في حين كان النبي أول من أحسن إلى أسرى حروبه، وكذلك فعل المسلمون من بعده في سائر حروبهم؛ مستمدين من تعاليم الإسلام العظيمة ما يفوق كل التنظيرات المعاصرة من اتفاقيات.
* الوفاء بالعهود:
ضمن منهجه العسكري الذي سعى إلى أنسنة الحروب ركز النبي على ضرورة احترام العهود والمواثيق؛ لما لهذا الاحترام من دور كبير في المحافظة على السلام وأهميته في فض المنازعات، وحل المشكلات، وتسوية الخلافات، وحقن الدماء، وما احترام العهود والمواثيق، والوفاء بها، وتحريم الغدر والخيانة إلا من أحكام الإسلام القطعية النافذة على الأفراد والجماعات، فقد أمر الله تعالى بها، فقال عز وجل :
" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " {المائدة: 1}،
وقال سبحانه :
"وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا" {الإسراء: 34}.
وقد عد الله سبحانه من صفات المؤمنين: رعاية العهد، فقال سبحانه :
"وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون" {النحل: 91}.
وقال تعالى :
"والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" {المؤمنون: 8}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؛ من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان".
وبذلك كان شرط الوفاء بالعهد من الدعائم الأولى التي حافظت على كيان المسلمين وهيبتهم، وأدام لهم عزّتهم؛ وليس هناك من قانون في الدنيا يجعل احترام العهد نابعاً من الإيمان والعقيدة مثل الإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره"،
واعتبر الإسلام العهد اعتباراً تاماً، وأحكمه إحكاماً، حتى إن نقضه يعد من أكبر الإثم إلا أن ينقضه الطرف الآخر، أي المعاهد فيقابل بالمثل.
هذه التعاليم والأوامر حول الوفاء بالعهود التي طبقه، وأمر بها الرسول جعلت الثقة بالمسلمين في تعاملاتهم العسكرية كبيرة من قبل الأعداء والحلفاء، وتاريخ الفتوحات الإسلامية يوضح كيف أن كثيراً من الفتوحات تمت سلماً بعد أن أيقن الطرف الآخر أن الجيش الإسلامي حريص على احترام معاهداته، وعدم نقضها، حتى في الحالات التي يكون في نقضها تحقيق النصر السريع والحاسم له، فكان الطرف الآخر يدخلون في الإسلام طواعية، ويسلمون البلاد للمسلمين بعد أن تيقنوا بأن هؤلاء المسلمين لا يريدون الحرب، مع أنهم يمتلكون مقومات القوة فيها؛ بل يريدون السلم المبني على نشر مباديء الإسلام التي هي مبادئ الخير، والمحبة، والسلام.
إنها جوانب من أنسنة الحروب في الإسلام، كما طبقها الرسول والمسلمون من بعده، فقد بُعِثَ النبي للناس جميعاً، كما في قوله تعالى:
" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" {الأعراف: 158}،
وقوله تعالى:
"وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا" {سبأ: 28}.
وقوله تعالى:
" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" {الأنبياء: 107}
لا يفرق بين أحد منهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، فكانت حروبه كلها لغايات عالية؛ فلم تكن قاتلة تصيب البريء قبل المذنب كما في وقتنا الحاضر. ( موقع مجلة الجندي المسلم )
عن موقع قصة الإسلام