العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,781
التفاعل
17,898 114 0
العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب



ولد العلامة المجاهد محمود شيت خطاب في مدينة الموصل الحدباء سنة 1338هـ 1919م من أبوين عربيين، أبوه من قبيلة الدلم - فرع الصقور وأمه ابنة الشيخ مصطفى بن خليل قرة مصطفى وكان من علماء الموصل المشهورين بعلمهم وورعهم، كفلته جدته بعد أن استاثر أخوه الذي يصغره سنا بحنان أمه؛ فعاش في كنف الجدة المتدينة، فقرأ القرآن على يدي أحد المشائخ، ودرس علوم التفسير والحديث والفقه على يدي علماء الموصل، وكان يحضر مع والده مجالس الحي والأعيان التي يُقَصُّ فيها الكثير من الأخبار والعلوم والثقافة؛ فتاثر بذلك تاثرا كبير، أدى فريضة الحج وله من العمر خمسة عشر عام.
أكمل تعليمه الثانوي، ثم انتقل إلى بغداد وبدأ بالتعرف على معالمها لأول مرة فكان اسمه على رأس من أُعْلِن قبولهم كطلاب في الكلية العسكرية سنة 1937م وتبدأ رحلته في السلك العسكري.

* وقد حصل على الشهادات التالية:
الليسانس من الكلية العسكرية العراقية عام 1938م
الماجستير من كلية الأركان والقيادة عام 1948م
شهادة دراسات عسكرية عليا من كلية الضباط القدمين العراقية 1954م
دبلوم دراسات عليا من بريطانيا 1955م
حصل على 24 دورة تدريبية داخل وخارج العراق
إن استمرار صاحبنا في السلك العسكري هذه المدة الطويلة أمر يثير العجب والدهشة ذلك أن من يعرف واقع كثير من الجيوش العربية في ظل الأنظمة الاستعمارية والعلمانية والحزبية يقدر مدى الصبر والمعاناة والمرارة التي عاشها ضابط بإسلامه وعقيدته، مستقيم في سلوكه، معتز بدينه منذ كان شاب.
ذلك أن القائمين على تلك الجيوش فرضوا على عناصرها الكفر والإلحاد والاستهزاء بالدين، كما فرضوا عليهم كافة أنواع الفساد والمحرمات من خمر وزنا وغيرها.. وما نجا من ذلك إلا القليل ومن اكتُشف منهم أُبعد وطرد لأنه في نظرهم يمثل خطرا عليهم وعلى أمن البلاد
ويحدثنا عن ذلك فيقول:
تتابعت أسئلة قائد السرية التي انتسب اليها في أول لقاء به: هل تعاقر الخمر؟ هل تلعب الميسر؟ هل تغازل الغيد الحسان؟
وتكرر جوابي على أسئلته المتكررة بالنفي.
فغضب وقال: لماذا أصبحت ضابط؟!!
ولماذا لا تموت فالموت أفضل من الحياة؟!!!!
ولكنه لم يستغرب ذلك لأن الجميع على هذه الشاكلة وبعد ذلك حاول معه قائد الكتيبة وهو برتبة عقيد أن يشرب الخمر في احتفال كبير أمام الحضور فقال له- وقد أقسم عليه أن يشرب الكاس- قال له: إنني أطيعك في تنفيذ أوامرك العسكرية، وأطيع الله في أوامره فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق! إنك تحمل فوق كتفيك اثنتي عشرة نجمة؛ فانظر إلى سماء الله لترى كم تحمل من نجوم.
وبهت القائد وردد: السماء.. السماء.. نجوم السماء
وقد صمم ليثبت للجميع أن التدين ليس تخلفا
فبدأ العمل الجاد الدؤوب في جميع أعماله التي توكل اليه حتى أثبت للجميع أنه محل الثقة والتقدير من خلال أعماله وحتى أصبحت الوحدات التابعة له مثلا يحتذى به
يقول: (( بهذا الجهد الجهيد استطعت تكذيب ما أُلصق بالمتدينين من التهم الباطلة، واستطعت الاستحواذ على ثقة قادتي وجنودي، وتسنم مناصب عسكرية لا يحلم بها أحد من زملائي في الرتبة والقدم

(( وتأتي ميزة الكاتب اللواء الركن محمود شيت خطاب، الذي قدم للمكتبة

الإسلامية نحو مائة وستة وعشرين كتاباً و بحثاً بجهوده الفردية في هذا المجال، وذلك ما لم

تستطع تقديمه كثير من المؤسسات والجامعات والجماعات...

لقد بدأ خطوة رائدة على طريق تدوين سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم،

وسير قادة الفتح الإسلامي من خلال تصور إسلامي واضح لعوامل النصر والهز يمة المادية

والمعنوية، و تخصص عسكري رفيع، ولغة عربية مطواعة.

اللواء الركن محمود شيت خطاب من العسكريين الذين نعتز بهم؛ لأنه أبى السقوط في تربية الاستعمار والتزام مناهجه.

تتميز كتاباته بأنها ليست كتابات تراثية فقط، يعيش فيها الماضي دون أن يكون قادراً على التعامل مع الواقع الحاضر ومتابعة رحلة المستقبل من خلال رؤياه الإسلامية )) من كتاب العسكرية العربية الإسلامية
تولى منصب الوزارة في عهد عبد السلام عارف بعد انقضاء حكم عبد الكريم قاسم،
ثم قدم استقالته ليتفرغ للعلم والتعليم بعد أن عرضت عليه الوزارة عدة مرات فرفضها ليتفرغ لبحوثه ودراساته وللتأليف والتدريس في المدارس والجامعات والمعاهد العسكرية،
وقد اختير لعضوية عدد من الهيئات والمجامع العربية والإسلامية منها:
المجمع العراقي العلمي، ومجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، والمجلس التأسيسي لرابطة العالم الاسلامي، ومجمع اللغة العربية في دمشق، ومجمع اللغة العربية في الأردن، والمجلس الأعلى للمساجد، ومجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة. توفي عام 1419هـ 1998م، رحمه الله رحمة واسعة.

عن موقع قصة الإسلام
 
رد: العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب

اللواء الركن محمود شيت خطاب
بقلم: محمد فاروق البطل

(1) رحم الله الفقيد القائد العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطّاب رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وأجزل مثوبته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين كل خير، فقد أعطى لدينه ولأمته الكثير، وبذل الكثير، وعانى الكثير.. ولم يأخذ من دنيا الناس، ولا من هذه الدنيا الغرور إلا القليل، وأحسب أنه قد لقي وجه ربه بجهاد كبير، وزهد عجيب، وخُلق رفيع، وإخلاص نادر، وتواضع جم، وأعمال جليلة، وقلب ظل يخفق بحب الله، وحب رسوله –صلى الله عليه وسلم- وحب الصحابة الأبرار –رضي الله تعالى عنهم- وحب الإسلام العظيم، حباً ملك عليه ليله ونهاره، وعقله وفكره، وقلبه وعاطفته، وطيلة عمره المبارك، أحسبه كذلك، ولا أزكيه على الله تعالى.

(2) وُلد العلامة المجاهد الركن محمود شيت خطّاب في مدينة الموصل الحدباء(1) سنة 1338هـ/ 1919م من أبوين عربيين، أبوه من قبيلة الدليم –فرع الصقور- الذين يتصل نسبهم بالنبي –صلى الله عليه وسلم- من جهة الحسن بن علي بن فاطمة الزهراء –رضي الله تعالى عنهم- وأمه قيسية، وهي ابنة الشيخ مصطفى بن خليل قره مصطفى، وكان من علماء الموصل المشهورين بعلمهم وورعهم(2).

احتضنته أمه عاماً أو بعض عام، ثم تخلت عنه مكرهة، لأن شقيقه الذي ولد بعده بسنة استأثر مكانه، فكفلته جدته أم والده، فأثرت فيه أبلغ التأثير، فقد كانت امرأة صالحة متدينة ومن بيت رفيع التدين، تقضي أكثر ساعات الليل في تهجد وتسبيح، فإذا غلبها الخشوع أجهشت بالبكاء من خشية الله، كان يصحبها إلى المساجد وسماع المواعظ.

وهكذا نشأ الفقيد في بيت علم يتلى عليه القران الكريم صباح مساء، وتقام فيه الصلوات، ويحرص على الالتزام بالدين الحنيف، ويضم مكتبة عامرة بالمصادر المطبوعة والمخطوطة.

قرأ القران على يد أحد الشيوخ، وحفظ شطراً من كتاب الله، ثم أتم مراحل المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينة الموصل، وخلال سني هذه المراحل درس علوم اللغة والتفسير والحديث على أيدي شيوخ مدينة الموصل، وفي مساجدها العامرة بالحلقات العلمية، وخلال شهور العطلة الصيفية.

وكان من أشد ما أثر في تكوينه الثقافي والعلمي- وهو يافع السن- مجلس الحي الذي يحضره بمعية والده، حيث يلتقي خيار رجال العلم والقضاء لقص الأخبار، وقراءة كتب الفقه والحديث والتاريخ.. يقول- رحمه الله- لقد كنت ألازم مجلس والدي مع أني لم أتجاوز الصف السادس الابتدائي، فلقد وقع اختيار والدي علي لقراءة كتب التاريخ على الحضور الذين كان معظمهم من أهل العلم المتقنين للغة العربية، لذلك فقد كنت مضطراً للعناية بقواعد اللغة العربية وضبط الألفاظ، لكي لا أقع عرضة للانتقادات أو اللوم من والدي)(3) ولا شك أن حضوره مثل هذا المجلس العلمي بلور اتجاهه على اللغة والتاريخ.

ومما يؤكد نشأته المتدينة أنّه أدى فريضة الحج عام 1935م ضمن رحلة مدرسية، ولم يكن له من العمر إلا خمسة عشر عاماً. وقد كان لأدائه الحج في هذه السن المبكرة أثر كبير، وخلف في نفسه معاني عظيمة.

(3) لما حصل الفقيد- رحمه الله تعالى- على شهادة الدراسة الثانوية تطلعت نفسه إلى دراسة الحقوق، لكن إرادة الله شاءت له غير ذلك( وكل ميسر لما خلق له). فقد أعلنت وزارة الدفاع العراقية عن حاجتها الكبيرة لمنتسبين للكلية العسكرية، فتقدم بطلبه مع عدد من رفاقه، وسافر إلى بغداد، وبدأ بالتعرف على معالمها لأول مرة، لأنه لم يكن قد زارها من قبل، فكان اسمه على رأس من أعلن قبولهم كطلاب في الكلية العسكرية سنة 1937م. وتبدأ رحلة الفقيد في السلك العسكري. وحصل على الشهادات التالية:

1- الليسانس من الكلية العسكرية العراقية 1938م

2- الماجستير من كلية الأركان والقيادة العراقية برتبة نقيب عام 1948م.

3- شهادة دراسات عسكرية عليا من كلية الضباط الأقدمين العراقية عام 1954م.

4- دبلوم دراسات عسكرية عليا بدرجة ممتاز من كلية الضباط الأقدمين في إنجلترا عام 1955م وقد كان ترتيبه الأول بين مائة ضابط من مختلف الجنسيات.

5- شهد أربعاًَ وعشرين دورة تدريبية عسكرية في العراق وشمال أفريقيا وإنجلترا، ومنها دورات في الفروسية والأسلحة والتعبية... وسواها(4)

(4) إن استمرار الخطَّاب في السلك العسكري هذه المدة الطويلة أمر يثير العجب والدهشة، ذلك أن من يعرف واقع كثير من الجيوش العربية في ظل الأنظمة الاستعمارية أولاً والأنظمة العلمانية والحزبية ثانياً يقدر مدى الصبر والمعاناة والمرارة التي عاناها ضابط ملتزم بإسلامه وعقيدته، مستقيم في سلوكه، معتز بدينه وتراثه، مثل الضابط محمود شيت خطاب مذ كان شاباً. ذلك أن القائمين على هذه الجيوش فرضوا على عناصرها الإلحاد، والهزء بالدين، والسخرية بالإسلام، واحتقار التديّن، كما فرضوا عليهم كافة ألوان الفساد والمحرمات من خمر وزنا و.. و.. وما نجا من ذلك إلا القليل، ومن كُشف منهم على غير ذلك سُرّح وأُبعد عن الجيش، واعتُبر خطراً على أمته وأمن البلد!!.. حقيقة مؤلمة مبكية، لكنها الواقع!! يحدثنا اللواء الخطاب عن هذا الواقع المرّ، وهذه الحقيقة المفجعة فيقول –محدثاً عن نفسه وعن تجربته الشخصية- (تتابعت أسئلة قائد السرية التي انتسبت إليها، في أول لقاء به وأول يوم رأيته وتعرفت إليه: هل تعاقر الخمر؟ هل تلعب الميسر؟ هل تغازل الغيد الحِسان؟).

(وتكرر جوابي على أسئلته المتعاقبة بالنفي، فظهرت على وجهه بوادر خيبة الأمل وندَبَ حظه العاثر لالتحاقي بسريته، ثم عبس وتولّى وهو يقول: لماذا أصبحت ضابطاً؟! ولماذا اخترتَ سلاح الفرسان؟ ولماذا تعيش؟! الأفضل لك أن تموت).

(وكان ذلك أول درس عملي تلقيته من قائد سريتي، في أول يوم من حياتي العسكرية العملية في الوحدات العاملة، ثم توالت عليّ الدروس المماثلة كاللحن المكرر يُعاد على مسامعي صباح مساء).

(ولم أُباغت بما سمعته من قائد السرية، فقد تكاثرت عليّ نصائح المجربين منذ اعتزمت الالتحاق بالكلية العسكرية: أن أبتعد عن تعاليم الدين الحنيف، وأكيّف نفسي لتلائم مناخ العسكريين).

(وبعد تخرجي ضابطاً في الكلية سنة 1938م التحقتُ بمدرسة الخيّالة في بغداد، فانهالت عليّ الدعوات الشخصية الرسمية التي يسيل الخمر فيها أنهاراً، وانهالت معها عليّ النصائح والانتقادات، وكان اعتذاري عن حضور تلك الحفلات يُقابل بالنقد اللاذع والسخط المرير).

(ولكنني كنت أتلقى النصح تارة، والنقد تارة أخرى من لِداتي الذين لم يتجاوزوا العشرين، وهم شباب في عمر الورد لا ينقصهم المال والفراغ، ولم أكن أتوقع أبداً أن أسمع نفس النصح أو النقد من قائد سرية تجاوز الأربعين من عمره، وأمضى في الخدمة العسكرية ما يزيد على العشرين عاماً!!).

(وشاء القدر ألا يطول استغرابي من تصرف قائد السرية، لأنني وجدت تصرف قائد الكتيبة نحوي –وهو الذي تجاوز الخمسين من عمره- وكان ضابطاً مخضرماً قضى شطراً من خدمته العسكرية في الجيش العثماني، وشهد الحرب العالمية الأولى لا يختلف في شيء عن تصرف قائد السرية نحوي، كلاهما يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف).

(وكان من تقاليد الجيش أن تولم الوحدات لضباطها الجدد وليمة، تطلق عليها اسم: (وليمة التعارف والاستقبال) تقدم فيها الخمر مع ما لذّ وطاب من الأطعمة الشهية، وقد يصاحب ذلك أنغام الموسيقى والرقص زيادة في الحفاوة والتكريم!!).

(واستدعاني قائد السرية قبيل انتهاء الدوام الرسمي، وبلّغني بأن الكتيبة ستقيم وليمة التعارف والاستقبال في دار الضباط مساء، فلم أستطع التخلف عن حضورها، لأنها أقيمت من أجلي وأجل خمسة ضباط آخرين جدد، هم زملاء دورتي في الكلية العسكرية ومدرسة الخيالة).

(وقبل أن يسمح لي قائد السرية بالانصراف غمز عينيه، وهو يبتسم ابتسامة الواثق بنفسه ويقول لعلك تراجع فكرك اليوم، ولعلي أهديك إلى سر الحياة!!).

(وشهدتُ الحفلة مع زملائي في الوقت الموعود، وقدِم قائد الكتيبة يتبختر، فاستقبله الضباط وقوفاً، ثم قدّم إليه قادة السرايا ضباطهم الجدد، وقدّمني قائد سريتي قائلاً: الملازم ضابط خام يدّعي أنه لم يذق طعم الخمر في حياته).

(وقال قائد الكتيبة: كيف يكون في سلاح الفرسان ولا يعاقر الخمر؟! هذا غير معقول! وتحرّج موقفي، وتجمّع الضباط من حولي يرجونني ويطالبونني، ثم يلحّون ويلحّون، وجاء قائد الكتيبة، وقد ملأ كأساً بالخمر، وأمر أن أبدأ صفحة جديدة من حياتي العسكرية بشرب المدام، وأن أتخلى عن تزمّتي لأصبح ضابطاً حقاً.. ثم أقسم بشرفه العسكري أن أفعل، وأقسم قائد سريتي ألا أرد يد القائد الهمام).

(وكان الليل البهيم قد أرخى سدوله، وكانت السماء صافية تتلألأ على صفحات النجوم، وكانت مياه دجلة تعكس النجوم فتزيدها بهاءً ورونقاً).

(وكان قائد الكتيبة برتبة عقيد، يحمل على كتفيه رتبته العسكرية، وهي بحساب النجوم اثنتا عشرة نجمة، على كل كتف تاج يعادل أربع نجوم، ونجمتان مع التاج، فيكون مجموع النجوم على الكتفين: اثنتي عشرة نجمة).

(ويومها قلتُ له: إنني أطيعك في تنفيذ أوامرك العسكرية، وأطيع الله في أوامره، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنك تحمل على كتفيك اثنتي عشرة نجمة، فانظر إلى سماء الله لترى كم تحمل من نجوم).

(وبهت القائد، وردّد: السماء..ّ! نجوم السماء..! وأشاح قائد الكتيبة بوجهه عني، ومضى غضبان آسفاَ وهو يقول: هذا الضابط لا يفيد.. لا يفيدنا أبداً).

(ويومئذ شعرتُ بأن موقفي ليس مصاولة بيني وبين القائد، ولكنها مبارزة بين إرادته بشراً وإرادة الله خالق البشر).

(وجلست وحيداً أتأمل.. وجلس الضباط جميعاً، ترتفع ضحكاتهم إلى عنان السماء).

(كان الاعتقاد السائد بين أكثر الضباط أن التدين تخلف وجمود وأن التقوى بلادة وتواكل، وصممت أن أُثبت أن تلك المفاهيم خاطئة، وأن الضابط المتدين حريٌّ بالتفوق، وأن الدين يستثير الهمم والعزائم، فعزمتُ ألا أرضى بالنجاح وحده، بل بالتفوق في النجاح، وكان سبيلي إلى ذلك العمل الدائب وإتقانه، والحرص الشديد على أداء الواجب وإحسانه، واستيعاب العلوم العسكرية بدقائقها، والسهر على تدريب الجنود وحل مشاكلهم، حتى أصبح رعيلي نموذجياً، يقصده الزائرون من الوحدات الأخرى والأجانب، ويحوز قصب السبق تدريباً وتهذيباً وضبطاً على رعائل الكتيبة).

(كنت أحضر الثكنة قبل شروق الشمس، وكنت أغادرها الهزيع الأول من الليل، وكنت أقضي وقتي متعلماً ومعلماً ومتدرباً ومدرباً، وكان من الأمور الاعتيادية أن يصدح بوق النهوض وأنا في الثكنة، فيجدني جنودي منتصب القامة في قاعة نومهم، فشاع بين الضباط أنني أصلي الفجر في الثكنة، ولا أغادرها إلا بعد صلاة العشاء...).

(وبهذا الجهد الجهيد استطعت تكذيب ما أُلصق بالمتدينين ظلماً وعدواناً، واستطعتُ الاستحواذ على ثقة قادتي وجنودي، وتسنّم مناصب عسكرية لا يحلم بها زملائي في الرتبة والقدم)(5).

وللقارئ الكريم أن يتصور مدى جهد اللواء الخطاب ومدى معاناته، وكيف صبر وصابر؟ وكم تحمّل وكابد؟ حتى وصل إلى أعلى رتبة عسكرية في الجيش العراقي وبشكل طبيعي، ودون ترقيات استثنائية.

أقول: إنه صبر ولا شك، ولكن الله أعانه، ولحكمة يعلمها، ولعل الحكمة الربانية في هذا التوفيق أن يفتح الله عليه كتابة هذه المؤلفات والبحوث العسكرية المتخصصة وغير المسبوقة، وخاصة ما يتعلق بإعادة صياغة التاريخ العسكري لأمتنا العربية الإسلامية بأسلوب فني وعلمي متخصص بدءاً من عهد الرسالة وانتهاء بعهد الفتوحات، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل خير.

(5) وبهذا الجهد الجهيد –كما يقول الخطاب- ومع الاستقامة على أمر الله والاستعانة به سبحانه، فرض احترامه على رؤسائه، وارتقى في السلك العسكري ضابطاً محترماً، رتبة بعد رتبة حتى حصل على رتبة اللواء الركن واستمر في هذه الرتبة حتى اعتُقل في العهد الشيوعي –عهد عبد الكريم قاسم- وقد اعتُقل ثمانية عشر شهراً من أواخر سنة 1959م إلى منتصف عام 1961م ثم أُفرج عنه، بعد أن ترك التعذيب أثره في جسده في (42) كسراً في عظامه(6) لم يحفظوا له سناً ولا رتبة ولا علماًَ ولا قدراً (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).

يقول –رحمه الله- في ذلك: (لم يكن عبد الكريم قاسم شيوعياً، ولكن كان مضطراً للاستعانة بهم، وبخاصة في تلك الأثناء التي اندلعت فيها ثورة الشوّاف في الموصل، فأطلق أيديهم يعملون ما يشاؤون، ولم يكن بوسعهم الصبر على موقفي منهم(7)، فبعث إلى المنطقة بضابط يصلح لتحقيق رغبات الشيوعيين، وما لبثوا أن تجمّعوا حوله ليخطب فيهم داعياً إياهم إلى سحل كل ضابط وفدائي يقف في طريقهم، أو لا يؤيد ثورتهم، فكان عليّ أن أتدارك ما أمكن من الخطأ، فدخلت على هذا الضابط أحذره مغبة تصرفه، فما كان منه إلا أن اتصل بعبد الكريم قاسم لإقصائي عن طريقه، وهكذا تم لهم ما يشاءون، وكان ذلك في الهزيع الأخير من إحدى ليالي رمضان، حيث أوقفني ثلاثة من جنودهم فاعتقلوني ثم حملوني في حراسة مشددة إلى السجن المخصص لأعداء الثورة في بغداد، واستمر وجودي ثمانية عشر شهراً مشحونة بأنواع من التعذيب الذي يعجز الوصف عنه، وفي جسدي اثنان وأربعون كسراً في العظام(8)).

(6) لم يكن اللواء الخطاب مجرد ضابط موظف محترف، بل خبر العلوم العسكرية، وتبحّر في هذا التخصص، واجتهد فيه يشهد له بذلك الإمام الجليل الشيخ محمد أبو زهرة –رحمه الله تعالى- فيقول: (قائد يعرف خصمه، فيدرك مراميه، حتى إنه ليتوقع الحرب أو الهجوم من عدوه في ميقاتها، وقبل أن يعلنها، وقبل أن يفكر فيها من سيكونون حطبها، لأنه يعلم الخصم ومآربه وحاله، ويتعرف من ذلك مآله، علم بهجوم اليهود سنة 1967م قبل أن يعلنوه، وقبل أن يقدره الذين كانوا في زعمهم يدبرون الأمور، ويلبسون لكل حال لبوسها(9). يشير العلامة أبو زهرة بهذا إلى بحث كان قد نشره اللواء الخطاب قبل هذه الحرب المأساة، تحت عنوان: (حرب أو لا حرب) قال فيه: (إن نفير إسرائيل سيكتمل يوم الخامس من يونيو/ حزيران سنة 1967م فتكون إسرائيل جاهزة للحرب في هذا اليوم وستهاجم إسرائيل العرب في هذا اليوم حتماً) ثم قال –رحمه الله- وبكل تواضع، وبعد أن حدث بالضبط ما توقعه: (وقد صدقتِ الأحداث ما توقعته، ولست نبياً، ولكن الفن العسكري أصبح علماً له قواعد وأسس، عليها استندتُ في كل ما كتبته من مقالات)(10).

(7) كان من جهاده العسكري –رحمه الله تعالى- أنه شهد الحرب العراقية البريطانية في العراق عام 1941م في ثورة رشيد عالي الكيلاني –رحمه الله تعالى- ثم خاض معظم المعارك التي التقى فيها الجيش العراقي بقوات الإنجليز، وكان أثناء ذلك برتبة ضابط ركن في لواء الخيالة المرابطة بأبي غريب –على بعد (50)كم من الأنبار- التي جرت في ساحتها أهوال المعارك، ونتيجة قصف الطيران المعادي الشديد، أصيب اللواء الخطاب بقنبلة توزعت شظاياها في كل موقع من جسمه، وكان أمل الأطباء في بقائه على قيد الحياة ضئيلاً، ولكن شاءت إرادة الله أن يشفى القائد ليتابع جهاده في خدمة دينه وأمته(11).

ومن جهاده العسكري كذلك أنه لما تخرج من كلية الأركان عام 1948م قدّم طلباً إلى وزارة الدفاع العراقية ليتطوّع مقاتلاً في معارك التحرير لإنقاذ فلسطين. يقول –رحمه الله= بعد أن تمت الموافقة على تطوعه: ذهبت إلى منصب ضابط ركن اللواء الرابع في مدينة جنين الفلسطينية، وبقيت هناك نحو سنة، حتى عدت مع الجيش العراقي(12).. ويسجل ذكرياته في هذه الساحة الجهادية فيقول: انتصر فوج واحد يبلغ تعداده (822) ضابطاً وجندياً على عشرة آلاف صهيوني كانت خسائرهم في تلك المعركة أكثر من تعداد الجنود العراقيين /30/ شهيداً، ولم يكن أي من المنتسبين إلى الجيش العراقي قد سمع بـ (جنين) أو يعرف حتى مكانها، ولا توجد لديهم خرائط.. وكان بين قتلة اليهود ابنة (ابن جوريون) رئيس وزراء إسرائيل(13)..

(8) بعد انقضاء حكم عبد الكريم قاسم تولى منصب الوزارة في عهد الرئيس عبد السلام عارف عدة مرات، ولكنه انتهز أول فرصة فاستقال للتفرغ للعلم وحده، وقد عُرضت عليه الوزارة في كل حكومة شكلت بعد سنة 1964م، ولكنه اعتذر باستمرار، وفي سنة 1968م في 17 تموز عُيّن وزيراً للمواصلات، وكان يومها في مصر رئيساً للجنة توحيد المصطلحات العسكرية فاعتذر عن قبول هذا المنصب وآثر العمل في المجالات العلمية على العمل في المناصب الحكومية، وبقي في القاهرة حتى أخرج للناس المعجمات العسكرية الموحدة الأربعة المعروفة، والتي أعيد طبعها مرات كثيرة، وكان هو الذي اقترح توحيد هذه المصطلحات وهو الذي وضعها في حيز التنفيذ.

وعاد من مصر إلى العراق سنة 1973م، فعرضت عليه عدة مناصب حكومية رفيعة، ولكن اعتذر عن قبولها، وتفرغ كلياً لبحوثه ودراساته وللتأليف والتدريس في المدارس والمعاهد والجامعات العسكرية في أرجاء البلاد العربية كلها، ما وجد إلا ذلك سبيلاً(14).

(9) تألّقت شخصية اللواء الخطاب العسكرية والعلمية والدعوية على مستوى العالمين العربي والإسلامي فاختير عضواً فاعلاً في كثير من الهيئات والمجامع العلمية منها:

أ – المجمع العلمي العراقي –عضو كامل- منذ سنة 1963م.

ب – مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف منذ سنة 1968م عضو كامل.

ج – مجمع اللغة العربية في القاهرة –عضو مراسل- منذ سنة 1966م.

د – المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي –عضو كامل- منذ سنة 1964م.

هـ - مجمع اللغة العربية في دمشق –عضو مراسل – منذ سنة 1966م.

و – مجمع اللغة العربية الأردني – عضو مؤازر- منذ سنة 1979م.

ح – المجلس الأعلى العالمي للمساجد بمكة المكرمة – عضو مؤسس- منذ سنة 1975م.

ط – مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة –عضو مؤسس- منذ سنة 1977م(15).

(10) تتجلى هذه المكانة الرفيعة والسمعة الطيبة فيما كتبه العلامة الفقيه الإمام الشيخ محمد أبو زهرة –رحمه الله تعالى- تقريظاً لكتاب اللواء الخطاب (بين العقيدة والقيادة) قال: (وإن صديقي الكريم اللواء الركن محمود شيت خطاب، القائد العظيم المدرك والوزير المخلص –وقليل ما هم- سعدت بمعرفته من نحو أربع سنين أو أقل(16)، والمدة في الحالين لا تزيد، ولكني بمجرد أن التقيت به أحسست بأني أعرفه منذ سنين تُعد بالعشرات، لا بالآحاد، وكأن الأرواح قد تعارفت قبل أن تتلاقى الأشباح، وكأن الصورة قد رأيتها، وما لقيتها، لأن الأرواح تتآلف وتسبق الائتلاف، وتتقارب وتسبق الاقتراب، ولذلك سرعان ما تصادقنا عندما التقيت به، وكأن صداقتنا ترجع بالماضي على آماد، لا إلى وقت قريب.

إذا اجتمعنا منفردين أو في جَمع، وتبادلنا الأفكار، أحسست بأني لا أنوي فكرة إلا سبقني إليها، وقد أسارع إلى القول بما في خاطره، قبل أن يبديه، وكان ذلك لامتزاج نفوسنا، وصفاء ما في نفسه، وابتعاده عن الالتواء في القول أو الفكر أو الاتجاه، فهو يسير بفكره وقوله وعمله في خط مستقيم، كاستقامة قامته، والخط المستقيم يُعرف ابتداؤه كما يعرف وسطه وانتهاؤه.

وكانت مجالس نتبادل فيها الحديث عن نور من الله، وروحانية نفوس، واستقامة قلوب بيننا، فكنت أتذكر في هذه الصحبة قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إن لله ناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم من الله" قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: قوم تحابوا بروح من الله على غير أرحام تربطهم، ولا أموال يتعاطونها، والله إنهم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم تلا قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

تذكرت هذا الأثر النبوي إذ اكتمل بالعمل جمعنا، لكني ولست ممن يتسامى إلى هذه المكانة، وأحسب أن صاحبي يتسامى إليها، أو أني أرجو له ذلك.

وقد جمع الله تعالى لصديقنا اللواء خطاب من الصفات ما تسمو به واحدة منها عن سفاسف الأمور، وتتجه به إلى معاليها.

أولها: الإخلاص في القول والعمل، والإخلاص إذا كان في قلب أشرق، وقذف الله تعالى فيه بنور الحكمة، وكان تفكيره مستقيماً ولسانه قوياً، وعمله حكيماً، فلا يكون التواء ولا عوج.

ثانيها: الإدراك الواسع، والعلم بما حوله، وتعرّف الأمور من وجوهها، وإدراكها من مصادرها فقلمه نقي، وفكره ألمعي..

وثالثها: إيمان صادق بالله، ورسوله النبي الأمين، ولذلك يتّبع سيرة السالفين، ويجعل منهم نوراً يُهتدى به، ويعلم منه أعلام الهداية.

ويكمل هذه الصفات التي هي بمنزلة السجايا والملكات، همة عالية، وتجربة ماضية، وخبرة بالعلم والحروب، وخصوصاً ما كان بين العرب واليهود.

(وهو عالم في العربية، وملم إلماماً عظيماً بشؤون الدين، وقارئ يتقصّى الحقائق فيما يقرأ، يتعرّف ما تسطره الأقلام، وما وراء ما تسطره، ينفر من تقليد الفرنجة، ويؤثر ما في القرآن والسنة وما كان عليه السلف الصالح، وهو ممن يؤثرون الاتّباع، ولا يرضون عن الابتداع، سلفي في إيمانه وعمله، قوي في تفكيره، ويهضم ما جدّ في العصر بما في قلبه من إيمان راسخ، واتباع مستقيم، وله مع كل هذا قلم بارع مصور، وكتابته من قبيل السهل الممتنع، وفقّهه الله تعالى وهداه)(17).

حسب اللواء الخطاب هذه الشهادة الحقة المنصفة المحبة الصادقة تأتي من إمام زمانه، وفقيه عصره العلامة الشيخ محمد أبو زهرة الذي ترجم لأعلام الفقه وأئمة الاجتهاد أبي حنيفة ومالك الشافعي وأحمد وغيرهم فأوفى وأبدع، رحمه الله رحمة واسعة، وأجزل مثوبته، وطيّب ثراه.

(11) وكان من جهاده الدعوي –رحمه الله تعالى- أنه سخّر قلمه وفكره في الدعوة إلى الله سبحانه إيماناً به، ويقيناً بنصره، واعتزازاً بدينه، ودعوة إلى إقامة شرعه، وإعلاء كلمته، وجهاداً في سبيله، واقتداء برسوله، وتأسياً بصحابة نبيه، وتعريفاً بسيرة المصطفى –صلى الله عليه وسلم- وسيرة القادة الفاتحين –رضي الله تعالى عنهم- وإبرازاً لعظمة الأمة الإسلامية، وعظمة تاريخها، وعظمة حضارتها، وعظمة الانتماء إلى أمجادها، ودعوة لا تعرف الملل ولا السأم إلى إعلان الحرب الحقيقية والصادقة على الاستعمار بكل أشكاله وألوانه، وخاصة الاستعمار الفكري ومن يمثله من المستشرقين والعلمانيين والملحدين والمتحللين ودعاة التغريب والتقليد.

وكشاهد على ما أقول، فقد كتب تقريظاً لكتاب غزوة بدر الكبرى تأليف الشيخ محمد أحمد باشميل(18) –رحمه الله تعالى- قال فيه: (لقد كان الرسول القائد –صلوات الله وتسليمه عليه- أسوة حسنة لأصحابه بأعماله لا بأقواله، وشتان بين الأعمال والأقوال، فلا موعظة في كلام لم يمتلئ من نفس صاحبه ليكون عملاً، فيتحول في النفوس الأخرى عملاً ولا يبقى كلاماً.

ذلك هو الرسول القائد –صلى الله عليه وسلم- أما جنوده فكان أمرهم كله عجباً.. كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ويؤثرون عقيدتهم على آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم وأموالهم، بل يؤثرون عقيدتهم على أنفسهم، فيتسابقون إلى الشهادة، فيقول أحدهم للآخر: (هنيئاً لك الشهادة) وتقول الأمهات والأخوات والزوجات حين يعلمن باستشهاد ذويهن (الحمد لله الذي أكرمهم بالشهادة).

وهؤلاء قادة وجنوداً يبنون للمستقبل، فيعتبرون العلم فريضة لا نافلة، ويعتبرونه عبادة لا تجارة، ويعتبرونه غاية لا وسيلة..!

كانوا إخوة في الله يحب أحدهم لأخيه ما يحبه لنفسه، وكانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وكانوا كالجسد السليم المعافى إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى!

هؤلاء قادة وجنوداً، كانوا يبنون ولا يهدمون، ويعمرون ولا يخربون، ويفعلون ولا يقولون.

كان انتصار المسلمين في بدر، إيذاناً بمولد دولة الإسلام عملياً، فقاد المسلمون بعدها العالم إلى الخير والصلاح، والمدنية والنور، قروناً طويلة.

وكان انتصارهم بالإسلام، ولن ينتصروا بغيره، وتاريخ المسلمين خير دليل على ذلك.

وكان العرب في الجاهلية متفرقين فتوحدوا بالإسلام، وكانوا أعداء فألف الإسلام بين قلوبهم، وكانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم الإسلام منها، فأصبح العرب بالإسلام وحدة رصينة ودولة عظيمة، وأمة متماسكة، وقوة ضارية، وجدت لها متنفساً بالفتح الإسلامي العظيم، فسارت رايات العرب المسلمين تهدي الدنيا، وتحضّر العالم، وتمدّن الناس، فامتدت دولة الإسلام من سيبيريا شمالاً إلى فرنسا غرباً، إلى الصين شرقاً، إلى المحيط جنوباً.

كانوا ضعفاء فأصبحوا بالإسلام أقوياء، وكانوا أعداء فأصبحوا إخوة، وكانوا مستعبدين فأصبحوا فاتحين.

ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فأصبحوا مستعمَرين مستعبدين، أذلاء غثاء كغثاء السيل، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

أصبح هؤلاء الخلف يستوردون المبادئ من الشرق والغرب، مبهورين متخاذلين، وأصبحوا يتعشقون تراث الأجنبي، ويحتقرون تراثهم، ويتدارسون تاريخ أعدائهم، ويتركون تاريخهم وراءهم ظهرياً، حتى أصبحنا نسمع بعض العرب المسلمين يقولون ويكتبون ويذيعون علناً باسم الثقافة وباسم التحرر ما لم يستطع أن يقوله أو يكتبه أو يذيعه المبشرون وأعداء الإسلام.

وإذا كان أكثر المستشرقين قد بذلوا قصارى جهدهم لتعميق آثار الاستعمار الفكري بين العرب والمسلمين، فما عذر المستغربين من العرب المسلمين.

إن الدعوة التي تبناها المبشرون وعملاء الاستعمار وأذنابهم في إبعاد الدين الإسلامي عن الحياة دعوة مربية، هدفها إبعاد العرب عن الناحية المعنوية في حياتهم، فالعرب جسم والإسلام روحه، ولا بقاء للجسم بدون روح.

والدعوة التي تبناها هؤلاء لاستعمال العامية بدل العربية الفصحى دعوة مريبة، هدفها أن يجعلوا من الأمة العربية أمماً، ومن الشعب العربي شعوباً، لأن اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ولغة الرسول –صلى الله عليه وسلم- ولغد قادة الفتح وجنوده، ولغة الفكر وجنوده.

والدعوة التي تبناها هؤلاء لإشاعة الفاحشة والتخنث في العرب خلافاً لعقيدتهم وتقاليدهم، دعوة مريبة، لا تخدم غير الاستعمار وأعداء العرب، وإسرائيل، وكيف تنتظر من الديوثين والبغايا أن يبذلوا أرواحهم في ميادين الشرف والفداء؟؟!!

إني أتحدّى كل من يزعم أن هناك عقيدة أفضل من عقيدتنا، وأن هناك رجالاً أعظم من رجالنا، وأن هناك تاريخاً أنصع من تاريخنا، وأن هناك تراثاً أروع من تراثنا..

والذين يزعمون أنهم طردوا الاستعمار العسكري والاستعمار السياسي والاستعمار الاقتصادي من بلادهم ثم يعملون ليلاً ونهاراً على ترسيخ الاستعمار الفكري في بلادهم، لم يصنعوا شيئاً أكثر من إخراج الاستعمار من باب ضيق، وإدخاله بمحض إرادتهم من باب فسيح.

نطرد الاستعمار، ثم نترجم قوانينه، ونعمل بها نصاً وروحاً، فنشيع في بلادنا فجور القانون.

ونتخلص من الاستعمار ثم نستورد مبادئه ونطبقها حرفياً فنستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

ونحارب الاستعمار، ثم نستورد منه التحلل الخلقي، فنفسد جيلنا الصاعد، ونشيع بينهم الفاحشة والمنكر، عقوبة السارق في الإسلام قطع اليد، فيقول عن ذلك الجهلاء منا: إن ذلك رجعية، وهذا همجية، وهو لا يتفق مع روح القرن العشرين!!

عقوبة السارق في أعظم دول الاشتراكية الإعدام، فيقول عن ذلك الجهلاء منا: هذه تقدمية وهذه مثالية، وهذا يتفق مع روح القرن العشرين؟؟!!

فلمصلحة من هذا التهافت الذليل!!؟ وأي استعمار فكري شنيع نعاني؟؟!

إن الذين يدّعون بأن السلوك السياسي لا علاقة له بالسلوك الشخصي التزاماً بالمبادئ الخلقية الرفيعة واهمون كل الوهم، أو أغبياء كل الغباوة، أو عملاء كل العمالة.

والذين يريدون إشاعة الفحشاء والتخنث في أبنائنا لا يخدمون غير الاستعمار وإسرائيل.

إن عقيدتنا المستمدة من رسالة السماء، وتاريخنا الذي هو التطبيق العملي لتعاليم الإسلام، ورجالنا الذين هم الترجمة العملية لروح الإسلام، وتراثنا الذي هو حصيلة الفكر الإسلامي هي أعظم وأرفع وأنصع وأروع وأنقى وأطهر وأسمى وأبهر من كل ما وجد على الأرض من عقائد وتواريخ وتراث.

وأتحدى كل من يدعي خلاف ذلك، إلا أن يكون جاهلاً أو غبياً أو عميلاً، فلا يجدي شيء مع الجهلاء والأغبياء والعملاء..

إن الماضي هو أساس الحاضر والمستقبل، فكيف نتنكر لماضينا المجيد؟ وهل هناك عاقل يبدأ ببناء البنيان أول ما يبدأ من قمته؟!!

إننا سُدنا بالإسلام عقيدة وعملاً وتضحية وفداء، ولن نسود بغيره أبداً مهما نحاول من محاولات.

إن الإسلام مفخرة الدنيا ومعجزة العالم، فيجب أن نهاجم به أعداء الإسلام.

يا أتباع محمد –صلى الله عليه وسلم- في كل مكان من دار الإسلام!

يجب أن تهاجموا بالإسلام أعداء الإسلام، فلا يقولن قائل بعد اليوم: إنني أدافع عن الإسلام لأن الإسلام أقوى من أن يدافع عنه إنسان. (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوّان كفور، أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا إنّ الله على نصرهم لقدير)(19).

تمسكوا بالإسلام بما فيه من تكاليف التضحية والفداء، وبذلك وحده تعودون إلى قيادة العالم كما فعل أجدادكم من قبل، وصدق الله العظيم: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا افتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(20).

رددوا معي ما كان يردده السلف الصالح من رجالنا الغرّ الميامين: (يا نصر الله اقترب).

إننا مع المسلمين في كل مكان على أعدائهم في كل مكان، فهم إخواننا في الدين، وهم إخواننا في الله والله يقول: (إنما المؤمنون إخوة)(21) وعلينا واجب نصرهم، والذي لا ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً عليه ألا يدّعي الإسلام.

إننا مع لغة القرآن لغة النبي –صلى الله عليه وسلم- ولغة العرب الفاتحين، على دعاة العامية الذين يتظاهرون بالشعارات الزائفة، ويخفون مالا يظهرون.

وكل من لا يكون مع مبادئ القرآن ولغة القرآن، منحرف عن الحق، يعمل لحساب الاستعمار وإسرائيل ولو تظاهر بالعروبة والإسلام.

وإلى هؤلاء المنحرفين، أقول مذكراً ومنذراً ما قاله الله تعالى في القرآن الكريم: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال)(22).

وحّد الله العرب من المحيط إلى الخليج تحت لواء الإسلام، وجعل وحدتهم قاعدة رصينة لوحدة المسلمين من المحيط إلى المحيط، فالعرب بالإسلام كل شيء.

والحمد لله كثيراً وصلى الله على سيدي ومولاي رسول الله، سيد القادات وقائد السادات، ورجل الرجال وبطل الأبطال، ورضي الله عن أصحابه، وعن كل من يخدم العرب والإسلام بأمانة وإخلاص.

هذه السطور تحكي –في مجملها- المنهج الدعوي الذي التزمه الداعية المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب، بدأ فيه وأعاده في سائر كتبه وبحوثه، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويدعو بالعلم والحجة والبرهان، يوقظ في الأمة مشاعر الإيمان واليقين، ويحيي فيهم عزة الانتماء إلى الإسلام، ويجدد فيهم الأمل والرجاء، ويحارب لديهم اليأس والقنوط، ويعطيهم من نماذج القدوة والأسوة ما ينمي فيهم العواطف الدينية، ويولد عندهم مشاعر الحب لله سبحانه ولسيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وللقادة الفاتحين والأئمة الأعلام، وما سينهض هممهم وعزائمهم للدعوة إلى الله، والذود عن دين الله، ومواجهة أعداء الله، بكل عزة وشجاعة وحمية، واستبسال وإخلاص.

(12) ويبدع الراحل الكريم أيما إبداع في ميدان الجهاد العلمي، فقد قدّم للمكتبة العربية والإسلامية (354)(23) إنجازاً علمياً منها (126) كتاباً و(228) بحثاً، أما البحوث فقد نشرت في مختلف المجلات العلمية والدينية والتربوية والعسكرية المتخصصة(24) أما كتبه فأكثرها مطبوع، وبعضها في طريقه للطبع، وبعضها الآخر لا يزال غير مطبوع، ينتظر دور النشر الملتزمة بهذا العلاّمة القائد الرائد المؤمن، والذين قرؤوا كتبه أو بعض كتبه –وخاصة ما كتبه في ميدان السيرة النبوية، والتأريخ لحركة الفتح الإسلامي- يعرفون الجهد الضخم والهائل الذي بذله في إعادة صياغة التاريخ العسكري لأمتنا العربية الإسلامية بأسلوب فني متخصص، وبمصطلحات عسكرية حديثة، وكأن الله سبحانه قد هيّأه ليسد ثغرة ضخمة في المكتبة الإسلامية الحديثة، لا تقوى عليها مؤسسات علمية ولا جامعات، كما قال الأخ الكريم الأستاذ عمر عبيد حسنة: (تأتي ميزة كتب اللواء الركن محمود شيت خطاب الذي قدّم للمكتبة الإسلامية نحو مائة وستة وعشرين(25) كتاباً وبحثاً بجهوده الفردية في هذا المجال، وذلك ما لم تستطع تقديمه كثير من المؤسسات والجامعات والجماعات.

لقد بدأ خطوة رائدة على طريق تدوين سيرة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وسيرة قادة الفتح الإسلامي من خلال تصور إسلامي واضح لعوامل النصر والهزيمة المادية والمعنوية، وتخصص عسكري، ولغة عربية مطواعة.

اللواء الركن محمود شيت خطّاب من العسكريين الذين نعتز بهم، لأنه أبى السقوط في تربية الاستعمار والتزام منهجه..

تتميز كتاباته بأنها ليست كتابات تراثية فقط، ينبش فيها الماضي دون أن يكون قادراً على التعامل مع الواقع الحاضر، ومتابعة رحلة المستقبل من خلال رؤياه الإسلامية(26).

"كتب دراسات حديثة كثيرة حاول فيها أن يجاهد بقلمه، دفاعاً عن الأمة المسلمة، وتبصيراً لها.."(27) مثل هذه الغزارة في الإنتاج العلمي تدل وبالتأكيد على أن الراحل الكريم كان مباركاً في جهده ووقته وعلمه، ملحوظاً بعناية الله، ومسدداً بتوفيقه، ومشمولاً برعايته.

ويزداد قارئ كتبه، والدارس لإنتاجه العلمي الضخم عجباً، لوفرة المصادر والمراجع العربية والأجنبية من أمهات الكتب والأصول التي اعتمدها المؤلف –رحمه الله- في كل معلومة أو خبر وردت في أي كتاب من كتبه أو أي بحث من بحوثه، إضافة إلى الخرائط والرسوم ووسائل الإيضاح التي امتازت بها كتبه.

ويزداد القارئ عجباً لهذه الكتب الضخمة الرائدة، والمتابع لهذا الإنتاج العلمي الغزير، أكثر فأكثر إذا علم أن الفقيد العزيز لم يكن متفرغاً، وإنما كان ضابطاً في الجيش ويعيش في المعسكرات والثكنات، وبين الجند والمهمات، وفي ساحات التدريب وعلى صهوات الجياد(28)، وفي ميادين التعبية والسلاح والجهاد، وتحت ضغط الأعصاب، ورهق الجسم، وظروف الاستفزاز، وغربة الروح والفكر والتوجه في وسط جيش يقوده علمانيون، ويتحكم فيه ملحدون مفسدون، وحزبيون مما سبق أن تحدث عنه الراحل الكريم.

ويزداد كاتب هذا البحث عجباً، وقد شرفه الله بنشر جزء من تراث الراحل الكريم، وأشرف على طباعتها، وصحح بعضها، يعجب كيف كان يكتب مؤلفاته على ورق كبير يُصطلح عليه عند أهل الطباعة (a3) يملأ الصفحة من أولها حتى آخرها، وتكاد السطور يلتصق بعضها ببعض، ولولا أن خطه جميل وحروفه واضحة والحبر الذي يستعمله ظاهر، لما أمكن قراءة ما كتب –رحمه الله تعالى-.

حقاً لقد كان القائد الخطّاب رجلاً صبوراًَ دؤوباً، يواصل الليل بالنهار، صاحب رسالة ودعوة، من ذوي الهمم والعزائم.

أقدر أن العلامة الخطاب لم يتفرغ كلياً للتأليف والكتابة إلا بعد أن قارب الخمسين من العمر، وبعد أن سُرّح من الجيش إثر اعتقاله في عهد عبد الكريم قاسم، يقول –رحمه الله تعالى-: (في سنة 1968م تموز عينتُ وزيراً للمواصلات، وكنت يومها في مصر رئيساً للجنة توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية التي أعدت المعجمات العسكرية الأربعة الموحدة، فاعتذرت عن قبول هذا المنصب، وآثرت العمل في المجالات العلمية على العمل في المناصب الحكومية، وبقيت في القاهرة حتى أخرجتُ للناس المعجمات العسكرية الموحدة الأربعة، والتي أعيد طبعها مرات كثيرة، وكنت أنا الذي اقترحت توحيد هذه المصطلحات، ثم يسّر الله عليّ إذ وضعتها في حيز التنفيذ.

وعدت من مصر إلى العراق سنة 1973م فعُرضت عليّ عدة مناصب حكومية رفيعة، ولكني اعتذرت عن قبولها، وتفرغت كلياً لبحوثي ودراساتي، وللتأليف والتدريس في المدارس والمعاهد والجامعات العسكرية في أرجاء البلاد العربية كلها، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً..)(29).

(13) غذّى –رحمه الله- ببحوثه ومقالاته مختلف الصحف والمجلات العلمية العربية والإسلامية وعلى نطاق البلاد العربية والإسلامية ومنذ سنة 1954م يصعب حصرها، ولكن أشير إلى أهمها: مجلة المجمع العلمي العربي – مجلة اللغة العربية المصري – مجلة مجمع اللغة العربية السوري – مجلة العربي الكويتية – مجلة الأزهر المصرية – مجلة الفيصل السعودية – مجلة الحرس الوطني السعودية – مجلة الأمة القطرية – مجلة دعوة الحق المغربية – مجموعة بحوث مجمع اللغة العربية المصري – مجموعة بحوث مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف – مجلة المورد العراقية – مجلة رسالة الخليج العربي – مجلة التربية الإسلامية العراقية – مجلة الرسالة المصرية – مجلة حضارة الإسلام السورية – مجلة المسلمون – مجلة كلية الملك خالد العسكرية – مجلة الجندي المسلم السعودية – مجلة التمدن الإسلامي السورية – مجلة المجمع الفقهي (مكة المكرمة) – مجلة الوثيقة البحرانية – مجلة المؤرخ العربي – مجلة الحضارة الإسلامية التي يصدرها مجمع البحوث الإسلامية الأردني – مجلة الوعي الإسلامي الكويتية.

في كل هذه المجلات العلمية وعلى مختلف أرجاء الوطن العربي أسهم الراحل الكريم في نشر بحوثه ومقالاته، وفي مختلف الموضوعات العسكرية والتاريخية والتربوية والأدبية والروحية والاجتماعية والسياسية.. نثراً أو قصة أو شعراً، هذا غير إسهاماته في عشرات الصحف اليومية في العراق وغيرها.

(14) وكان للراحل برامج إذاعية وتلفازية في معظم الإذاعات العربية(30)، قدّم من خلالها أفكاره ومبادئه ومعارفه في السيرة النبوية والتاريخ العربي العسكري وقادة الفتح الإسلامي والعدو الصهيوني والأسلحة المتطورة واللغة العسكرية والدفاع عن العربية والإسلام ديناً.

ثم يقول –رحمه الله- في نهاية ترجمته لنفسه والتي كتبها وبخطه: (وصاحب الترجمة متفرغ تفرغاً كاملاً لدراساته وبحوثه وتأليفه، ولولا تفرغه الكامل لما استطاع أن يصنع شيئاً يذكر، فقد بدّد عمله الوظيفي وقته سُدى، وما أكثر الذين يحبون الوظائف الحكومية، وبخاصة الرفيعة منها، التي غالباً ما تُثري الجيب وتفرح القلب، وما أقل الذين يحبون التفرغ للعلم وحده، وأجره على الله).

ويقول كذلك عن نفسه بصيغة الغائب –تواضعاً- إنه يحب التفرغ الكامل المطلق للعلم وحده، بقدر كرهه للمناصب الحكومية، مهما تكن منزلتها، فلولا فضل الله تعالى وتوفيقه له، الذي أتاح له التفرغ الكامل المطلق، لما استطاع أن ينجز (354) كتاباً وبحثاً.

وصدق الإمام الشافعي –رضي الله عنه- في قولته: (لو كلفت شراء بصلة لما استطعت حل مسألة) فالحمد لله على توفيقه، والشكر له على تسديده، فما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله(31).

(15) تنوعت الموضوعات التي كتب فيها العلامة الخطاب كتبه وبحوثه، وقد صنف هذه الموضوعات في خمسة محاور هي:

أ – محور السيرة النبوية والتاريخ العربي الإسلامي من الناحية العسكرية:

للراحل الكريم اللواء الخطاب في هذا المجال الكتب التالية: الرسول القائد –صلى الله عليه وسلم- بين العقيدة والقيادة- الشورى العسكرية في عهد الرسالة – جيش الرسول –صلى الله عليه وسلم- سفراء النبي صلى الله عليه وسلم- السفارات النبوية- الشورى في المواثيق والمعاهدات النبوية- الأنصار والأمم قبل الفتح الإسلامي وفي أيامه- قادة فتح العراق والجزيرة- قادة فتح بلاد فارس- قادة فتح بلاد الشام ومصر- قادة فتح بلاد المغرب العربي- قادة فتح السند وأفغانستان- قادة فتح أرمينيا- قادة فتح بلاد الروم- قادة فتح بلاد ما وراء النهر- قادة فتح الأندلس- الصديق القائد- خالد بن الوليد- عقبة بن نافع الفهري- دروس في الكتمان من الرسول القائد عليه الصلاة والسلام- غزوة بدر الكبرى- غزوة بدر الكبرى وعبرتها لحاضر المسلمين ومستقبلهم- ومضات من نور المصطفى (مختصر السيرة).. وكتب العلامة المؤرخ الخطاب بحوثاً كثيرة في هذا المجال، منشورة في أرقى المجلات العربية المعتمدة(32).

ويعلل اللواء الخطاب اهتماماته بالكتابة في هذا المحور بقوله: كنت في بداية حياتي العسكرية أقرأ عن القادة الأجانب الذين غزوا البلاد العربية، ومعارك الأجانب التي استعمروا بها البلاد العربية، ولم تكن المدارس والمعاهد والكليات العسكرية العربية تدرس تلاميذها وطلابها العرب عن قادة الفتح الإسلامي، ولا عن معارك الفتوح الإسلامية ولا عن غزوات النبي –صلى الله عليه وسلم- وبعد مثابرة مني بدأت قبل أربعين سنة، واستمرت بدون كلل ولا ملل –حتى اليوم- تبدّل الحال غير الحال –والحمد لله- فأصبحت المدارس والمعاهد والجامعات العسكرية تعج بنشاطها المثمر في دراسة قادة الفتح الإسلامي ومعارك الفتوح وغزوات الرسول القائد عليه الصلاة والسلام(33).

ب – محور اللغة العسكرية:

للعلامة اللواء الركن محمود شيت خطاب الكتب التالية: المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم(34) –المصطلحات العسكرية في كتاب المخصص لابن سيدة- المعجمات العسكرية الموحدة الأربعة للجيوش العربية (وكانت هذه المعجمات محل فخر واعتزاز اللواء الخطاب بصورة خاصة، ذلك لأن توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية كانت حلمه، ووضعت باقتراحه، ونُفذت بجهده، واعتُمدت برأيه، يقول متحدثاً بنعمة الله عليه: فشاعت لغة القرآن الكريم في الجيوش العربية، بدلاً من لغات المستعمر الصليبي، ويكفي أن أذكر أن أحد الجيوش العربية كانت كل مصطلحاته العسكرية فرنسية، فأصبح اليوم ولله الحمد كل مصطلحاته العسكرية عربية، وأن أذكر أن نصف مصطلحات جيش مصر العسكرية –بلد الأزهر الشريف- كانت تركية وبريطانية، فأصبحت كل مصطلحات جيش مصر عربية خالصة)(35).

ويشمل هذا المحور مؤلفاته التالية: أهمية توحيد المصطلحات العسكرية – المعجم العسكري الموحد (عربي – إنجليزي – بالاشتراك) المعجم العسكري الموحد (فرنسي – عربي بالاشتراك) – المعجم العسكري الموحد (عربي – فرنسي بالاشتراك) تعريب المصطلحات العسكرية وتوحيدها – دراسات في الوحدة العسكرية العربية – الوحدة العسكرية العربية – الأدلة الرسمية في التعابي (تحقيق)(36).

ويمكن أن نشير في هذا المجال اللغوي أنه قد سبق للعلامة الخطاب –رحمه الله- أن اقترح على مجمع البحوث بالأزهر الشريف أن يؤلف معجماً للقرآن الكريم، يشرح الألفاظ اللغوية، والأسماء التاريخية والجغرافية والعلمية، بحسب المعجمات العربية المعروفة، كما هو الحال في معجمات الكتب المقدسة الأخرى، والتي صدرت بمختلف اللغات، ومنها العربية، لغرض الاستفادة منها، أي من معجم القرآن الكريم، لاستخراج معاني الكلمات بسهولة وسرعة، مما يكون المسلم بحاجة إليه من معاني القرآن الكريم لغة وتاريخاً وجغرافية وعلوماً.. وافق مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف على هذا الاقتراح، وقرر تشكيل لجنة للنهوض بهذا المشروع، ولكن ظروف العراق في الحرب(37) عرقلت تحقيق المشروع، وكان –رحمه الله- حتى آخر لحظة في حياته يؤمل أن ينجز هذا المشروع، وأن يرى النور، فيقول: والأمل وطيد في تحقيقه في المستقبل القريب –بإذن الله بعد أن وضعت الحرب(38) أوزارها، وزالت الظروف التي حالت دون تحقيقه(39).

ج – المحور الثالث: محور العدو الصهيوني:

هدف اللواء الخطاب في هذا الميدان –كما يقول(40)-: أن يعرف العرب والمسلمون عدوهم على حقيقته، لا كما يحلو للعدو الصهيوني أن يعرف العرب والمسلمون عنه وتأتي أهمية التأليف والكتابة في هذا الميدان وفي ذلك الوقت أن المعلومات الميسرة عن العدو الصهيوني كانت قليلة ومضللة أيضاً بالنسبة للعرب بخاصة والمسلمين بعامة، فكان هذا الجهل المطبق بالعدو الصهيوني من أهم أسباب نكسة 1976م التي أصيب بها العرب والمسلمون في الحرب العربية الصهيونية، هي قلة المعلومات الميسّرة عن العدو الصهيوني لدى العرب، وغزارة المعلومات الميسّرة عن العرب لدى عدوهم الصهيوني، فقاتل العرب في تلك الحرب عدواً لا يكادون يعرفون عنه شيئاً، فكانوا كمن يقاتل عدوه في ظلام دامس، في منطقة مجهولة، وهو معصوب العينين!!

وكان من الصعب للغاية أن يحاضر المحاضر، أو يؤلف المؤلف بعد تلك الحرب في العسكرية الصهيونية، لأن المصادر العربية يومئذ كانت نادرة أو لا وجود لها، ولأن المصادر الأجنبية ممنوعة في البلاد العربية فلا تصل إلى المحاضر أو المؤلف العربي، ولأن كشف الحقائق عن العدو الصهيوني بالنسبة للمحاضر العربي والمؤلف العربي قد يؤدي إلى اتهامه بالانحياز إلى العدو، وإذا لم يكشف المحاضر أو المؤلف الحقائق كان مقصراً في حق عقيدته وأمته وأمانته..

فلا عجب أن يعتذر كل من فوتح بأن يحاضر أو يؤلف عن العدو الصهيوني في حينه، أي بعد حرب (1976م)(41) لكن الرائد القائد اللواء الركن محمود شيت خطاب اقتحم هذا الميدان بجرأة وكفاءة عالية واقتدار، وقرر أن يحاضر ويؤلف في العسكرية الإسرائيلية، وبدأ بإلقاء محاضراته على طلاب معهد الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة، وكان عدد الطلاب يومئذ لا يزيدون عن مائة طالب، ولكن الذين كانوا يحضرون هذه المحاضرات أكثر من ثلاثمائة عدداً، بينهم عدد لا يستهان به من ضباط المخابرات المصرية، ثم امتدت المحاضرات إلى الكليات والجامعات المصرية وغيرها من الأقطار العربية، فكان أول من بدأ بإلقاء محاضرات عامة عن عسكرية العدو الصهيوني، وأول من ألف في هذا الموضوع(42)..

صدر للواء الخطاب في هذا المحور الكتب التالية: أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية –الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها- حقيقة إسرائيل – الوجيز في العسكرية الإسرائيلية – العسكرية الإسرائيلية – العدو الصهيوني والأسلحة المتطورة(43).

ولعله من المناسب أن نضيف هنا وفي هذا المحور كتباً ألّفها الخطاب يستنهض فيها همم المسلمين وعزائمهم، لمواجهة العدو الصهيوني المتغطرس، وللجهاد لإعزاز دين الله، ونصرة شريعته، وتحرير الأرض الإسلامية المقدسة، فلسطين والأقصى الشريف.. من هذه الكتب التي ألفها الخطاب في هذا الميدان: إرادة الجهاد في الجهاد الإسلامي – طريق النصر في معركة الثأر – الوحدة العسكرية العربية – بين العقيدة والقيادة(44)..

د – المحور الرابع: محور الدعوة الإسلامية والدفاع عن الإسلام ديناً والعربية لغة:

في هذا المحور ألف الداعية اللواء الركن الخطاب الكتب التالية: دروس في الكتمان من الرسول القائد عليه الصلاة والسلام – الرسالة العسكرية للمسجد – طريق النصر في معركة الثأر – ومضات من نور المصطفى – أقباس روحانية – نفحات روحانية – الإسلام والنصر – عدالة السماء (قصص هادفة) – تدابير القدر (قصص هادفة) – سفراء النبي صلى الله عليه وسلم- الرقيب العتيد (قصص هادفة) – اليوم الموعود (قصص هادفة) السفارات النبوية..

والداعية الخطاب –عليه رحمة الله ورضوانه- يعتبر خادماً في ميدان الدعوة إلى الله ولهذا الدين العظيم، في كل ما كتب وألّف، يقول: والواقع أن المحاور الأربعة هي في واقعها تنصب في محور الدعوة، فمحور التاريخ العسكري العربي الإسلامي هو لاستعادة معنويات العرب والمسلمين إليهم، واستعادة ثقتهم بدينهم الذي يقودهم إلى النصر، كما قاد أجدادهم إلى النصر، ومحور كشف العدو الصهيوني للعرب والمسلمين، هو دعوة إلى الله أيضاً، ليستعيد العرب والمسلمون أسباب النصر على عدوهم، لأن العزة لله ولرسوله والمؤمنين، ومحور اللغة العسكرية هو الاعتزاز بلغة القرآن الكريم، والإثبات عملياً أنها صالحة لغة للعلم في مختلف الظروف والأحوال، والأمكنة والأزمنة(45).

وكان اللواء الخطاب يعتزّ باللغة العربية، ويفتخر بها، ويحرص في دروسه ومحاضراته على الحديث باللغة العربية الفصحى، ولا عجب في ذلك فقد تمرّس بالنطق بالعربية مذ كان طالباً في المرحلة الإعدادية، حين كان يقرأ في مجلس الحي –ويحضره والده وكبار علماء الموصل وفقهائها- كتب التاريخ على مسامعهم، ومن ثم فقد كان مضطراً للعناية بقواعد اللغة العربية وضبط الألفاظ، لكي لا يقع عرضة للانتقادات أو اللوم من والده، بل قرأ عليهم كتاب المستدرك لسيبويه، ونتيجة لذلك فقد كان فذاً في علم النحو الصرف(46).

يقول –رحمه الله- محدثاً بنعمة الله عليه ومظهراً اعتزازه بلغة القرآن الكريم، اللغة العربية: أحرص حرصاً لا مزيد عليه على تدريس العلوم كافة في الجامعات العربية باللغة العربية الفصحى، ولا أرضى أبداً باستعمال اللغة العامية المحلية في معاهد العلم، لأنني أرى في ذلك تفريقاً للأمة العربية التي تجمعها الفصحى، وتفرقها العامية، ولا أقبل باستبدال الأرقام العربية بالأرقام الفرنجية المستعملة في قسم من أقطار المغرب العربي لأنني أرى أن الأرقام المستعملة في المشرق العربي هي الأصل، والأرقام المستعملة في المغرب العربي عربية بالاسم لا بالواقع.

ثم ذكر أنه يعمل في المجمع العلمي العراقي في اللجان التالية: لجنة الحضارة – لجنة الهندسة – لجنة الزراعة – اللجنة العامة لإقرار مصطلحات لجان المجامع، مجتهداً في مجال وضع المصطلحات العربية لمصطلحات تلك العلوم بالتعاون مع أعضاء تلك اللجان من أعضاء المجمع العلمي العراقي، ومن الخبراء المتخصصين.

هذا بالإضافة إلى ترؤسه للجنة توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية، ويسعى الخطاب في هذا الميدان سعياً حثيثاً دائباً على وضع المصطلحات العسكرية باللغة العربية، عوضاً عن المصطلحات العسكرية المستخدمة في اللغات الأجنبية(47).

ولولا خشيتي أن تطول هذه المقدمة فيملّ القارئ الكريم لتحدثت عن الجانب الشعري في حياة الخطاب كشاهد على تفوقه في اللغة العربية، وحبه لها، واعتزازه بها وأنه –رحمه الله- طرق كل فنونها نثراً وقصة وشعراً، ولكني أترك ذلك للأدباء والنقاد وأرباب الاختصاص، أو عسى أن يبارك الله لي في الوقت والجهد فأصدر كتاباً موسعاً في ترجمة القائد اللواء الركن محمود شيت خطاب، ويكون شعره فصلاً من فصول هذا الكتاب، أسأل الله أن يوفقني إلى ذلك، وأن يعينني عليه، وأن يفيدني مما سكبه في قلبي من حب لهذا الرجل، وتقدير له.

هـ - المحور الخامس: في الميدان العسكري التخصصي والفني:

أشار اللواء الخطاب لهذا المحور في مقدمة حديثه عن المحاور التي كتب فيها مؤلفاته وبحوثه، وقد فصّل في الكلام في المحاور الأربعة(48)، لكنه ترك التفصيل في المحور الخامس.

وبالرجوع إلى قائمة كتب الخطاب –رحمه الله- استنتجت هذا المحور، وهذا العنوان. وقد كتب في هذا الميدان الكتب التالية: الأدلة الرسمية في التعابي الحربية (تحقيق) – المشير فون ردشتر.. التدريب الفردي ليلاً (يجري التدريب بموجبه في كثير من جيوش الدول العربية، وقد صدرت منه عدة طبعات) – القضايا الإدارية في الميدان (وهو كتاب تدريبي فني)(49)، ولاشك أن كل ما كتبه مما سبق الحديث عنه كان في ميدان تخصصه.

وما أظن إلا أن القارئ الكريم يشاركني الرأي بعد الإطلاع على هذا التراث العلمي الضخم والمتعدد الجوانب، والذي تفرّد اللواء الخطاب في الإبداع في كثير من هذه الجوانب، وكان له فيه فضل السبق والريادة.

بالتأكيد سيشاركني القارئ الكريم الرأي أن اللواء الركن محمود شيت خطاب، كان واحداً من عظماء الأمة في القرن العشرين، وواحداً من قادتها المخلصين، وروادها الأعلام، ودعاتها المخلصين الأبرار الذين قرنوا العلم بالعمل، والقول بالفعل، وأنه سدّ ثغرة ضخمة في المكتبة العسكرية والتاريخية والحضارية، وأنه قام وحده بعبء علمي ضخم تعجز عنه جامعات ومعاهد بأكملها، رحمه الله رحمة واسعة وأجزل مثوبته.

(16) وفي ختام هذه الترجمة الموجزة لحياة اللواء الركن محمود شيت خطاب أستأذن الأخ القارئ الكريم أن أحكي قصة لقائي به، وتعرفي عليه، والشرف العظيم الذي أنالني إياه بانتدابه لي لخدمته ونشر كتبه، وتفويضي بتوقيع العقود عنه لنشر مخطوطاته التي لم تطبع بعد، وإعادة نشر كتبه التي طبعت في السابق.

لقيت الفقيد العزيز في منزله الكائن في بغداد –حي اليرموك- مرتين، وصحبة الأخوين العزيزين: الأديب الأستاذ عبد الله الطنطاوي، والشاعر الأستاذ محمد محمود الحسناوي، وذلك أواخر الثمانينات ولقيته مرة ثالثة مع الأديبة الكبيرة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) رحمها الله فقد كانت متلهفة للقائه، ولا تعرف بيته ولا عنوانه، ولا أدري من أرشدها إليّ حتى أصحبها للقاء العلامة اللواء الخطاب، فلما التقيناه أقبلت عليه محجبة بأدب ودود واحترام بالغ، وتواضع جم، وأرادت أن تقبل يده كأنها تلقى أباها أو عمها.

لقيته شيخاً جليلاً، وعالماً وقوراً، يغلبه هم المسلمين، ويبكي مآسيهم، ويتحرق لعمل يستنقذ فيه أمة العرب والإسلام، ويستحث همم جلسائه وزواره، ويحرك عزائمهم، ويثير فيهم الغيرة الدينية للنهوض بواجب الإسلام، والدعوة إليه، والعمل لإعزازه وإعادة مجده.

ويشهد الله أنني منذ لقيته –أول مرة- أحببته في الله، وعزمت على خدمته، تقرباً إلى الله، ونشراً لعمله، وإشفاقاً على شيخوخته، ورحمة به في مرضه، ولكونه لم يرزق أولاداً ذكوراً يتحركون بين يديه، أضف إلى ذلك أنه لا يتمكن من مغادرة العراق لمرضه وشيخوخته وظروف بلده –التي لا تخفى على أحد-

وأثار ألمي حين حكى لي أمر بعض دور النشر التي ابتُلي بها –وفيها من يدّعي الإسلام وخدمة الكتاب الإسلامي- حكى وبأسلوب مؤثر محزن كيف أن هذه الدور التي تعاقدت معه ولطبعة واحدة، تطبع كتبه مرة بعد مرة دون إذنه أو علمه!! تنشرها وتستثمرها وتأكل ثمنها مالاً حراماً، ولا تدفع درهماً واحداً لمن واصل الليل والنهار في تأليفها، وأراق ماء عيونه على صفحاتها، ودفع عشرات الألوف ثمن مراجعها، وزهد بالمنصب الرفيع، والوزارة الكريمة(50)، وتفرغ تفرغاً كاملاً، وانقطع عن دنيا الناس، من أجل أن يكتب لهم، ولأجيالهم القادمة، تاريخ الإسلام، وتاريخ فتوحه، وتاريخ حضارته، وتاريخ قادته بأسلوب جديد ومتميز ومتخصص، مستثمراً علومه العسكرية التي تلقاها في أرقى الكليات والأكاديميات العسكرية.

كان الأولى بهذه الدور أن يعينوه على تفرغه وأداء رسالته وهم يعلمون بالتأكيد أنه يعيش على راتب(51) تقاعدي قليل، ويعول أسراً فقيرة كثيرة –كما صرح لي بذلك- وعددها /16/ أسرة.

ووالله لقد سمعته يدعو على دور النشر هذه، يدعو عليهم بقلب محروق ونفس شاكية إلى ربها ظلم الأدعياء وعدوان اللصوص.

وشرفني يومها بتفويضي الكامل بنشر إنتاجه العلمي، وحمّلني ما لديه من مخطوطات وكتب، يود تجديد نشرها، وأعطاني حتى توقيع العقود مع دور النشر في السعودية –حيث أقيم في جدة منذ عام 1401هـ و1980ن ولم يكن لي يومها خبرة ولا دراية مع دور النشر ولا معرفة بأساليبها، ولكن الراحل الكريم زودني بخطاب لشخصية مرموقة يمتلك دار نشر، وأشهد أن الرجل قد أحسن استقبالي، وتحمّس لنشر كتب اللواء الركن محمود شيت خطاب –إذ كانت تربطهما علاقات وثيقة، ومحبة متبادلة، وتقدير –وسرعان ما وقعت العقود مع هذه الدار ولكن.. ظللت أغدو وأروح على هذه الدار أربع سنوات دون جدوى، وبعد هذا العناء الطويل قال لي مدير الدار –غفر الله له- نعتذر عن متابعة النشر، فنحن لا نملك المال اللازم، واللواء الخطاب يحتاج إلى دار نشر خاصة به ذات ميزانية ضخمة!! وهكذا استرددت المخطوطات بعد طول انتظار مرهق.

ثم وجهني الراحل الكريم، إلى دار نشر أخرى في الرياض، فذهبت إلى حيث وجهني، وقابلت صاحب دار النشر هذه، وحملت له المخطوطات، ولشد ما كانت دهشتي واستغرابي وألمي حين عرض عليّ مبلغ خمسة آلاف ريال فقط، ويأخذ حق نشرها جميعاً!! فرفضت ورفض اللواء الخطاب هذا العرض الشحيح الذي يدل بالتأكيد كما يقول اللواء الخطاب –أنهم لا يعرفون قيمة هذه الكتب والمخطوطات ولا يقدرونها حق قدرها، وعرض أحد الأخوة الناشرين الصادقين أن ينشر كتاب (بين العقيدة والقيادة) ووقعت العقد معه، وأرسل الكتاب إلى مصر، ووعده بالسرعة في إنجازه، ثم أخبروه كذباً أنهم سيعرضون الكتاب في معرض القاهرة في شهر رمضان المبارك، ولكن جاء رمضان، وبعده رمضان.. فلم نجد شيئاً ولم تصلنا نسخة، واتصلنا بهم هاتفياً، وأرسلنا مندوباً لكننا لم نظفر منهم بشيء!! حسبنا الله ونعم الوكيل.

ثم تبيّنت السر وراء هذه المعوقات –لم أكن أعلمه من قبل حتى تكونت لديّ بعض الخبرة في شؤون النشر- السر هو تخوف بعض دور النشر الضعيفة من طواغيت ومتسلطين في عالم نشر الكتاب الإسلامي وغيره، فما أسهل –على من فقد الرقابة لله والخوف من يوم الحساب- أن يسرق الكتاب، ويصوره ويبيعه بأبخس الأثمان، طالما أنه لا يدفع للمؤلف جهده، وحق عيونه، وحق سهره، وحق تفرغه، وحق مراجعه!! ومن ثم فلا يكلفه الكتاب إلا قيمة الورق وأجر الآلة الناسخة، وكلفة التجليد، وبالنتيجة فإنه يحقق أرباحاً خيالية من كسب حرام ومال خبيث على حساب الناشر الضعيف الملتزم بعقد النشر، وعلى حساب المؤلف المجهد المسكين!

ويزداد تخوف الناشرين الملتزمين الضعفاء من طواغيت النشر في سوق الكتاب ممن سبق أن وقعوا عقداً مع المؤلف لطبعة واحدة، إذ يزعم هؤلاء أنهم ملكوا الكتاب، وملكوا طباعته في الوقت الذي يريدون دون أن يستأذنوا المؤلف، ودون أن يلتزموا حقاً مالياً تجاهه، كما هي مشكلة اللواء الركن العلامة محمود شيت خطاب مع الذين تولوا له النشر أولاً –إلا من رحم الله وقليل ما هم-.

وفي مقابل هذه المعاناة والصدمات والمشاعر المحيطة أشهد أن إخوة كراماً من أصحاب دور النشر تعاقدوا معي –وبشكل صادق وإيجابي- في طباعة كتب الخطاب، ودفعوا النسبة(52) المقررة واللائقة بالعلامة اللواء الخطاب الذي قرّت عيناه بذلك، فشكر لهم، ودعا لهم.

ومن قبيل التحدث بنعمة الله وفضله، فقد أشرفتُ على نشر الكتب التالية من مؤلفات اللواء الخطاب وصححت بعضها، وهي:

1 – الشورى العسكرية في عهد الرسالة – الطبعة الأولى 1413هـ - 1992م صدر عن دار القبلة بجدة، يقع في 151 صفحة.

2 – قادة النبي(53) –صلى الله عليه وسلم- الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م صدر عن دار القلم والدار الشامية – دمشق وصدرت له الطبعة الثانية 1420هـ - 1999م. يقع في (669) صفحة بإشراف الأستاذ محمد علي دولة.

3 – سفراء النبي –صلى الله عليه وسلم- الطبعة الأولى 1417هـ -1997م صدر عن دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع جدة، يقع الجزء الأول في (902) صفحة ويقع الجزء الثاني في (360) صفحة.

4 – قادة فتح السند وأفغانستان – الطبعة الأولى 1418هـ-1998م وهو الجزء الخامس من سلسلة قادة الفتح الإسلامي صدر عن دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع –جدة، يقع في (422) صفحة.

5 – قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر – الطبعة الأولى 1418هـ-1998م وهو الجزء الثامن من سلسلة قادة الفتح الإسلامي صدر عن دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع –جدة، يقع في (524) صفحة.

6 – قادة الفتح الإسلامي في أرمينيا – الطبعة الأولى 1419هـ-1998م وهو الجزء السادس من سلسلة قادة الفتح الإسلامي صدر عن دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع –جدة، يقع في (504) صفحة(54).

7 – بين العقيدة والقيادة –تقديم الإمام أبي زهرة – الطبعة الأولى(55) – 1419هـ-1998م –يقع في (608) صفحة صدر عن دار القلم (دمشق) والدار الشامية (بيروت).

8 – قادة فتح الأندلس –جزءان- ويقع قرابة (1000) صفحة، وهو الجزء التاسع من سلسلة قادة الفتح الإسلامي، هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ ويطبع لأول مرة بإذن الله بإشراف الأستاذ محمد أديب كاتبة.

9 – قادة فتح بلاد الروم –جزءان- يقع في قرابة (1000) صفحة كذلك وهو الجزء السابع من سلسلة قادة الفتح الإسلامي، وهو معد للنشر، سيطبع لأول مرة إن شاء الله.

10 – الصدّيق القائد –رضي الله عنه- يقع في (320) صفحة، وهو معد للنشر، سيطبع لأول مرة إن شاء الله.

11 – السفارات النبوية، وهو كتابه: (سفراء النبي صلى الله عليه وسلم) يقع في (625) صفحة، وهو قيد النشر، وسيصدر بإذن الله تعالى قريباً عن المكتبة المكية في مكة المكرمة بإشراف الأستاذ غسان نويلاتي –كما وعد- والكتاب سبق أن أصدره المجمع العلمي العراقي عام 1409هـ -1989م، ولطبعة واحدة لم يطبع بعدها أبداً.

وأجد واجباً عليّ أن أشكر هؤلاء الإخوة الناشرين الذين أسهموا معي في خدمة هذا العالم الجليل، وأدخلوا على قلبه السعادة، وأقروا عيونه بنشر تراثه العلمي، ورؤية حصاد فكره وقلمه، وأعانوه على أداء رسالته تجاه دينه وأمته وحضارته، أجزل اله مثوبتهم، وتقبل منهم صالح عملهم.

وإنني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن الراحل الكريم وأسرته الكريمة لأتوجه بأعمق الشكر إلى كل من أسهم معي في إخراج هذه المخطوطات والكتب إلى عالم النور.

وبحكم الأمانة والمسؤولية التي حُمّلتها أمانة التفويض(56) التي شُرّفت بها في حياة اللواء الركن محمود شيت خطاب –وبعد مماته من قبل ورثته وأهل بيته- ومسؤولية الدَين الثقيل تجاه أسرته الكريمة، أتطلع إلى دار نشر أو مجموعة دور نشر لتأخذ على عاتقها نشر تراث اللواء الركن محمود شيت خطاب كاملاً –كما كان الفقيد يطمح ويتمنى- في طباعة جديدة وأنيقة تليق بقدر هذا العالم الجليل، وتليق بإنتاجه، وستبقى الأمة العربية والإسلامية وأجيالها المتلاحقة بحاجة إلى قراءة هذه الصفحات المشرقة من عصرها الذهبي، وحضارتها الزاهرة، وتاريخها التليد، وعظمائها الأماجد.. فهل من مجيب؟ وهل من رائد خيّر يموّل هذا المشروع؟ بالتأكيد لن تعدم الأمة مثل هؤلاء الرجال.. وإنا لمنتظرون.

(17) لفت نظري وأنا أقرأ سيرة حياته –كما كتبها بخط يده- أن اللواء الخطاب لم يتحدث عن الجانب السياسي في حياته، ولا عن الوزارات التي شغلها، ولا عن المناصب التي أداها، ولا عن الملوك والرؤساء الذين قابلهم –وقد رأيت صوره معهم- ولا عن الشخصيات السياسية وكبار القوم الذين لقيهم(57) كل هذا لم يأت اللواء الخطاب على ذكره لا فيما كتب ولا فيما كتِب عنه، ولا تحدث عنه في مجالسه مع أن الكتابة في مثل هذه الأمور أو الحديث في مثل هذه الشؤون يمكن أن يكون موضع فخر ومباهاة عند بعض الأشخاص، أو يمكن أن يكون –إن أحسنا الظن- شريطاً لمذكرات وذكريات وهذه –بلا شك- تفيد كمرجع من مراجع التاريخ الحديث.

ولكن الرجل لم يفعل هذا ولا ذاك، لم يكتب شيئاً في هذا الشأن!! وكأني به –رحمه الله- وبالزهد الذي عاش به، وبالعلم الذي تفرغ له، وبالرسالة التي شغل نفسه بها، كان يؤثر أن يعيش في الظل، بعيداً من أهل الرئاسة والجاه، وبعيداً عن موقع السلطة والنفوذ، وبعيداً عن أهل الثراء والمال، لذلك كنت تراه في ثوبه بسيطاً وفي مسكنه بسيطاً وفي مجلسه بسيطاً(58)..

وفي رأيي وتحليلي المتواضع أن الرجل –طيب الله ثراه- كان يريد أن يقدم نفسه من خلال علمه، ومن خلال كتبه، ومن خلال رسالته في هذه الحياة التي أعطاها جهده وحياته، وأعطاها ليله ونهاره، وأعطاها عصارة فكره ونتاج علمه –أجزل الله مثوبته- هكذا إذا كانت النفوس كباراً، تترفع عن الفخر الزائف، والادعاء الفارغ، والمباهاة التافهة، والاعتزاز السخيف بالمناصب والأشخاص والهيئات!! كان –رحمه الله- يؤثر رضوان الله، وخدمة إسلامه، وإعزاز أمته، ولا يعتز إلا بمثل هذا.

طلبت ذات يوم من قائد عسكري فذ برتبة مشير، تولى رئاسة جمهورية قطر عربي شقيق، أن يكتب مقدمة لكتاب (بين العقيدة والقيادة) وقد أُعجب بما قرأ منه –فأجابني- حفظه الله- بكل سرور سأجيبك إلى طلبك، ولي الفخر والشرف أن يقترن اسمي باسم القائد العظيم والعلامة الجليل اللواء الركن محمود شيت خطاب على صفحات هذا الكتاب، فلما أخبرت اللواء الخطاب بذلك ظننت أنه سيفرح وسيقرني على اقتراحي، لكن فوجئت أنه اعتذر عن هذا الاقتراح، وطلب إليّ إبلاغ فخامة الرئيس المشير(59).. شكره وتقديره وتحياته.

وحكت لي زوجة اللواء الخطاب –حفظها الله- أن وفداً من علماء البلد وأعيانها رغبوا إليه أن يصحبهم لمقابلة مسئول في أمر عام –لكنهم لم يبلغوه أنها مقابلة مع رئيس بلد(60)- فذهب معهم ولكن في ثوب عادي الدشداشة على جسمه، والنعل في قدميه!

كان رحمه الله عالماً زاهداً بسيطاً متواضعاً، مع أنه كان جبلاً في العلم والفضل والأخلاق، وكان يعتبر ما تولى من مناصب ابتلاء من الله –سبحانه- يقول: (وجاءت سنة 1383هـ-1963م) فابتلاني الله بالعمل في السياسة مكرهاً لا بطلاً – كما يقول المثل العربي المشهور- فشمل اتصالي بالعاملين في السفارات العربية كافة، ولم يقتصر على الاتصال بالعاملين في السفارات لدولة عربية واحدة، فلم أجد فرقاً ظاهراً بين زمرة العاملين في السفارات العربية من العرب، كلهم من غير الصفوة المختارة إلا من رحم الله، وقليل ما هم(61).

(18) لقي العلامة الكبير، والقائد المجاهد، والداعية العامل، والمؤرخ الأديب اللواء الركن محمود شيت خطاب، لقي وجه ربه الجليل بتاريخ 24 شعبان عام 1419هـ الموافق 10 كانون الأول (ديسمبر) 1998م في منزله الكائن في حي اليرموك ببغداد عاصمة الجمهورية العراقية.

وقد كان قسم الدراسات الإسلامية التابع لكلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز في جدة، قد اتخذ توصية بترشيح اللواء الركن محمود شيت خطاب لجائزة الملك فيصل التقديرية بتاريخ 4 شعبان 1419هـ وكذلك أصدرت جامعة الإيمان نفس التوصية، وكان المتوقع أن تصدر توصيات أخرى وعن جامعات أخرى في هذا الشأن ولكن سبق قدر الله، واختاره مولاه إلى جواره، وتوقف كل بحث في أمر الترشيح، وكان رحمه الله أحق من يكرم بهذه الجائزة.

ويشاء الله أن تتوالى محن الأمة الإسلامية بفقد علمائها العاملين ووفاة شيوخها الأبرار ورحيل قممها العلمية الشامخة، فبعد وفاة العلامة الخطاب بشهرين توفى مفتي المملكة العربية السعودية العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز حيث وافته المنية بتاريخ 27 محرم عام 1420هـ وبعد خمسة أسابيع وبتاريخ 4 ربيع الأول من نفس العام توفي العلامة الأديب القاضي الشيخ علي الطنطاوي، وبعد أسبوعين من هذا التاريخ توفي فقيه العصر وعالم الأمة الشيخ مصطفى الزرقا حيث وافته المنية بتاريخ 19 ربيع الأول عام 1420هـ، وبعد هذا التاريخ بأسبوع كذلك توفي العالمان الجليلان الشيخ مناع القطان عميد قسم الدراسات العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، والشيخ عطية سالم مدرس الحرم النبوي الشريف حيث لقيا وجه الله الجليل بتاريخ 6 ربيع الآخر عام 1420هـ.

وفي نفس المدة توفي الأديب الشاعر الداعية الشيخ محمد المجذوب.

وهكذا.. وفي شهور قليلة.. فجعت الأمة الإسلامية بوفاة هذه الكوكبة من العلماء والفقهاء والدعاة والأدباء والقادة من أعلام القرن العشرين، وفجيعة الأمة بالعلماء والمفكرين لا تعوّض –إلا أن يشاء الله- خاصة هذا الزمان الذين قلّ فيه العلماء العاملون والدعاة المخلصون، وإنها لثلم في حياة الأمة لا تُرتَق إلى يوم القيامة –كما أخبرنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم- رحمهم الله رحمة واسعة، وأجزل مثوبتهم، وتقبلهم في عباده الصالحين، ورزقهم صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وعوّض عنهم أمة العرب والمسلمين، وأمدّ في عمر العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، والقادة الناصحين، والمجاهدين الصادقين.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.


رابطة ادباء الشام​
 
رد: العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب

مشكور اخي العزيز على الموضوع الاكثر من رائع والجميل
انه يستحق التثبيت
 
رد: العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب

محمود شيت خطاب عسكريا وباحثا وإنسانا
تحقيق - الدكتور ابراهيم العلاف ::


من الرجال الذين كانت لهم بصمات واضحة في مجال البحث والتأليف في العلوم العسكرية والعقدية طوال سنوات عديدة. فضلا عن قيامه بتأليف القصص التي تضم الكثير من العظات والعبر.. وكان رحمه الله غيورا على اللغة العربية والأخلاق العربية والإسلامية الحميدة وتستحق سيرته أن تقرأ وتوضع بين أيدي الأولاد والأحفاد .ولد في مدينة الموصل سنة 1919 .ونشأ في أسرة تعمل في التجارة، وقد كفلته جدته التي كان لها دور الكبير في زرع مبادئ الإسلام في نفسه منذ صغره. ودرس في حلقات الكتاتيب في المساجد، فتعلم التجويد والكتابة ثم التحق بالمدرسة الابتدائية، رغب بعد تخرجه بدراسة الحقوق، ولكن القدر قاده للالتحاق بالكلية العسكرية عام 1937م، وتخرج منها برتبة ملازم في سلاح الخيالة .
أرسل خطاب في دورة إلي بريطانيا لمدة سنتين ..وصل إلى رتبة لواء ركن . شارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941م،وفي حرب فلسطين 1948 .. واعتقل أيام عبد الكريم قاسم 1959 لتوجهه العروبي الإسلامي ، وناله تعذيب شديد وأصابته كسور كثيرة. عمل في سلك التدريس في الكليات العسكرية في العراق ومصر، وكان من فراسته ودقة دراسته للعدو الصهيوني، أنه حدد اليوم الذي تعتزم فيه إسرائيل أن تضرب ضربتها وهو يوم 5 حزيران 1967م، ونشر هذا التوقع في جريدة "العرب" الصادرة في بغداء يوم 1 حزيران 1967م، حتى أن المؤلف الإسرائيلي صاحب كتاب "الحرب بين العرب وإسرائيل" أثنى على عبقرية شيت خطاب ووصفه بأنه أكبر عقل إستراتيجي في الوطن العربي، لكن لا يوجد من يستفيد منه.
اختير خطاب رئيسا للجنة توحيد المصطلحات العسكرية في الجيوش العربية، فدعا لوضع معجم عسكري موحد، وصدر المعجم في أربعة أجزاء، بثلاث لغات هي : العربية والإنجليزية والفرنسية. كما ألف كتاب "المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم"، وقد شارك في عضوية كثير من المجامع العلمية واللغوية والمؤسسات الإسلامية ، فكان:
ـ عضو المجمع العلمي العراقي.
ـ عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
ـ رئيس لجنة توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية في جامعة الدول العربية.
ـ عضوا مؤسسا لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
ـ عضوا في المجلس الأعلى العالمي للمساجد بمكة المكرمة.
ـ وتقلد مناصب وزارية لعدة مرات.
وهو إلى جانب ذلك يكتب الشعر، وله فيه إسهام طيب، وإن كان مقلا فيه.
زار الكويت أواخر سنة 1969م وألقى سلسلة من المحاضرات منها "إرادة القتال" وعبر عن قناعته بأن الحكومات العربية غير جادة في محاربة إسرائيل، وتحدث عن الاضطهاد الذي يمارس ضد الشعوب، وتصرف الحكام في مقدرات البلاد وفق أهوائهم ونزواتهم، وابتعادهم عن التعبئة الإيمانية للجنود، فكانت الأغاني الوطنية القومية هي زاد الجنود، وصور الزعيم والممثلين والممثلات والمغنين والمغنيات هي سلاحهم، من هنا كانت الهزيمة الكبرى وضياع المقدسات، وانتهاك الحرمات. من وجهة نظره.
له أكثر من مائة وعشرين كتابا منها:
الرسول القائد، الوجيز في العسكرية الإسرائيلية، حقيقة إسرائيل دراسات في الوحدة العسكرية العربية، أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية، طريق النصر في معركة الثأر، الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها، بين العقيدة والقيادة، الإسلام والنصر عدالة السماء تدابير القدر، تاريخ جيش النبي، دروس عسكرية في السيرة النبوية، غزوة بدر الكبرى، العسكرية العربية الإسلامية، المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم، الصديق القائد، الفاروق القائد، عمرو بن العاص، خالد بن الوليد المخزومي، قادة فتح المغرب العربي، قادة فتح مصر، القتال في الإسلام، جيش النبي، العدو الصهيوني والأسلحة المتطورة التصور الصهيوني للتفتيت الطائفي، التدريب الفردي ليلا، القضايا الإدارية في الميدان، تعريف المصطلحات العسكرية وتوحيدها المجمع العسكري الموحد، الشورى في المواثيق والمعاهدات النبوية ومضات من نور المصطفى، قادة فتح الجزيرة، قادة فتح فارس، إرادة القتال في الجهاد الإسلامي، الشورى العسكرية النبوية، قادة النبي، قادة فتح السند وأفغانستان، قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر، قادة الفتح الإسلامي في بلاد أرمينيا، سفراء النبي صلى الله عليه وسلم، عقبة بن نافع الفهري، قادة فتح بلاد الشام، قادة فتح بلاد الروم، قادة فتح بلاد الأندلس، الرسالة العسكرية للمسجد، دروس في الكتمان، أسباب انتصار الرسول القائد، التوجيه المعنوي للحرب، الرقيب العتيد، اليوم الموعود، أقباس روحانية، نفحات روحانية، السفارات النبوية، أسرار الحرب العالمية الثانية، الأمثال العسكرية في كتاب "مجمع الأمثال"،أهمية توحيد المصطلحات العسكرية. وله عدد كبير من الأبحاث والمقالات المنشورة في معظم الصحف والمجلات العربية والإسلامية.
مقتطفات من شعره
قال في رثاء جدته :
أجهدت نفسك فاستريحي قليلا ... قد كان عبئك في الحياة ثقيلا
نزلت عليك مصائب الدنيا ولو ... نزلت على جبل لخر مهــيلا
وجد القنوط إلى الرجال سبيله ... وإليك لم يجد القنوط سبيــلا
ولرب فرد في سمو فعاله ... وعلوه خلقا يعادل جيــلا
معركة جنين وقال بعد استرداد قواته لمدينة جنين من الصهاينة، وقبل أنصراف قواته إلى العراق بعد الهدنة:
هذي قبور الخالدين وقد قضوا ... شهداء حتى ينقذوا الأوطانا
المخلصون تسربلوا بقبورهم ... والخائنون تسنموا البنيانـا
لا تعذلوا جيش العراق وأهله ... بلواكم ليست سوى بلوانـا
أجنين يا بلـد الكرام تـجلـدي ... ما ضاع حق ضرجته دمانا
مواقفه
كان لمحمود خطاب موقف مجيد في الدفاع عن اللغة العربية، ومحاربة الدعوة إلى اللهجة العامية الدارجة، والشعر الحر وأن الشعر الموزون المقفى هو من دعائم اللغة العربية، كما حارب الدعوة لكتابة العربية بالأحرف اللاتينية، ورحب بالجانب العلمي من الحضارة الغربية، ورفض ما عداه من المبادئ والأخلاق والعادات والسلوك الغربي الذي أنحدر إلى الحضيض في العلاقات الجنسية والإباحية وغيرها من المبادئ المادية وما تتركه من آثار على إنسانية الإنسان وروحه وسلوكه. وقد كانت الصهيونية أعدى أعدائه، ومحور تفكيره وهمومه، وكان يرى أن العلاج لها هو القوة، فإسرائيل لا تفهم غير لغة القوة وهي الطريق لتحرير فلسطين..
قالوا عنه
يقول الدكتور يوسف إبراهيم السلوم:
"زرته بالمستشفى العسكري بالرياض عام 1410هـ قبل وبعد العملية التي أجريت له في القلب، ولمست منه الشجاعة الأدبية والإيمان القوي، والرضاء بالقدر، وصبره على الآلام، مع كبر سنه، ورغم ذلك كانت حقيبته لا تخلو من بعض المؤلفات الجديدة له، وتفضل مشكورا بإهدائي بعض النسخ منها، كان يتحدث مع زواره بروح عالية، فازددت تعلقا به، ومحاولة معرفة المزيد من سيرته و حياته، وكنت أتابع ما يصدر له من كتب ومؤلفات وبحوث ومقالات، فأجد فيها المعين لي في حياتي العسكرية لتأصيل العلوم والثقافة العسكرية حتى أصبحت مدرسة متميزة".
ويقول الأديب عبد الله الطنطاوي:
"عاش اللواء خطاب عصرا متفجرا من أعنف العصور، وكان نصيب العراق كبيرا من الحرائق والمعاول بعد فلسطين الذبيحة وكان اللواء خطاب شاهد القرن على تلك الكوارث والمآسي التي اجتاحت العراق والشعوب العربية والإسلامية، فكان ميلاد إسرائيل، ثم شهد هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران/يونيو سنة 1967 م.
عاش محمود شيت خطاب عصره بكل ما فيه، وناله الكثير مما فيه ووعاه بعقله وذكاء قلبه.
وفاته
في صباح اليوم الثالث عشر من شهر ديسمبر سنة 1998 م كان اللواء خطاب يجلس على كرسي عتيق تحت درج منزله، وجاءت ابنته تودعه قبل أن تغادر المنزل إلى الجامعة، طلب منها أن تجلس إلى جانبه لتقرأ سورة يس فجلست وجاءت زوجته وجلست وقرأت البنت سورة يس، وكان يقرأ معها، فأحس بجفاف في حلقه بعد الانتهاء من قراءة السورة، فطلب من زوجته أن تأتيه بكاس من الشراب، وأسرعت الزوجة إلى المطبخ وهي تسمع زوجها يردد : أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله. وكررها مرارا ثم سكت، وأبنته تنظر إليه وتردد معه شهادة الحق، فأسرعت زوجته إليه لتراه كالنائم، قد أسلم الروح لبارئها. رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل الخير
عن ملتقى أبناء الموصل
 
رد: العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب

وهذه مشاركة من السيد محمد عدنان على نفس الموضوع المشار إليه في المشاركة 4 أعلاه :

أكبر عقل إستراتيجي في العالم العربي يعرفه اليهود ولا يعرفه اهله

استعرض لحضراتكم عن تجربه العالم المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب في فلسطين نتحدث عن سيرة رجل عراقيٍّ شهير من خيرة الرجال، وعن بطل مجاهد بسيفه وقلمه،لم يتوانَ عن الجهاد يوماً بكليهما، إنَّه اللواء الركن محمود شيت خطاب - رحمه الله - القائد الشهير، والوزير المعتذر عن منصبه في سبيل التأليف والتصنيف، واللغوي في أكثر من دارة ومجمع، والعضو في أكثر من مؤتمر ومنتدى، والمحاضِر في أكثر من جامعة وكلية. ولندع كلَّ الأوسمة التي توشَّح بها، ولنسلط الضوء على وسامه الفلسطيني. وما علاقة عراقيٍّ مثل هذا الرجل المقدام بفلسطينَ التي قد تجلب المتاعب لمن يبحث عن منصب أو حظوة في هذا العالم الظالم؟ كان يرابطُ قبل ستين عاماً في فلسطين - بالتحديد في مدينة جنين - يرابط في حقولها الواسعة، وفي أزقَّتها الضيقة، وفي مساجدها العتيقة، ويحضر مجالسها العامرة، لقد عقد روابط صداقة متينة مع أهلها، حتَّى صار واحداً منهم، وصاروا لهم إخوة. ولكن من هُوَ؟ وما الذي أوصله إلى جنين؟ أما كيف وصل إلى فلسطين؛ فهاكم كُتُبَ مَن كتبَ عنهُ، فاقرؤوها. نقلوا عنه قوله: كنتُ طالباً في كلية الأركان، فلمَّا تخرَّجت عام 1948م، قدَّمت طلباً إلى وزارة الدفاع العراقية أن أتطوعَ في فلسطينَ، فأُرسلت إليها ضابط ركن، للواء الرابع في مدينة جنين الفلسطينية، وبقيتُ هناك قدر عامٍ، حتى عدت مع الجيش العراقي[1]. فالمتخرج الجديد من كلية الأركان والقيادة العراقية - والحاصل على شهادة الماجستير منها بتقدير جيد جدّاً - لم يصطبر على ما حلَّ بفلسطين من احتلال وانتهاك، فها هو يقدم طلبه عن طيب خاطر؛ للالتحاق بأرض المعركة، ليشهدَ الحرب هناك، ويكون بعدها عليها شهيدًا، وسرعان ما نال سؤله؛ فتحققت أمنيته في جهاد من لا يرعون إلاًّ ولا ذمةً.. ولم تكن تلك بداية علاقته بالفلسطينيين في ذلك التاريخ؛ بل بدأت علاقته بهم قبل أن يكمل عامه العشرين؛ يقول: "وكنتُ أعرف قسماً من الفلسطينيين قبل عام 1948، فقد كنت على اتصال وثيق بالمجاهدين الفلسطينيين منذ عام 1938، حين كان الشهيدان البطلان: العقيد الركن صلاح الدين الصباغ، والعقيد الركن محمد فهمي سعيد، يمدَّان الثورة الفلسطينية بالسلاح والعتاد سرًّا، وكنت يومها أسلمُ السِّلاح والعتادَ لهؤلاء المجاهدين الفلسطينيين في منطقة "أبي غريب" من ضواحي بغداد[2]. حيِّيت يا محمود من شابٍّ نشأ في طاعة الله، جعلتَ قادة الفتح الإسلامي نبراسًا لك منذ صغرك، فها أنت تخاطر بنفسك وتنقل السلاح للمجاهدين الفلسطينيين وأنت ابن تسعة عشر عامًا، لقد اكتشفتُ سرًّا في حياتك الحافلة بالعطاء!! الآن عرفت أنَّ وَلَعَكَ بقادة الأمة كتابةً قد سبقه ولعٌ بمحاكاتهم في سلوكهم وجهادهم، لقد عرفتُ لمَ كان اهتمامك بقادة فتح العراق والجزيرة، وقادة فتح الأندلس وبلاد الشام ومصر والمغرب، وبالفاروق، وبسيف الله المسلول، وقبلهم بالرسول القائد - عليه الصلاة والسلام - وكأن لسانك يقول منذ نعومة أظفارك: فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَم تَكُونُوا مِثلَهُم إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالكِرَامِ فَلاحُ وهذا ما ترجمتَه على أرض الواقع في حياتك كلها، ولا يسعنا في هذه العجالة إلا أن نسلط الضوء على سَنَةٍ - فقط - من حياتك، قضيتَها بين أهلك وأحبائك في فلسطين، وبالتحديد في جنين. جهاده في جنين: اشتُهر عند الشعب الفلسطيني أنَّ الجيشَ العراقيَّ لم يدافع عن فلسطينَ كما يجب، بل خابَ ظنُّه فيه، وأنه كلما راجع الوجهاءُ وأهلُ الحلِّ والعقد قيادةَ الجيش من أجل قتال اليهود، أو صدِّ هجومهم، كانت العبارة المشهورة: "ماكو أوامر"، التي ما زالت تتردَّد إلى يومنا هذا، إذ أصبحت جزءًا من ثقافتنا الشعبية، وتعني أن أوامر الدفاع عن فلسطين لم تصل بعد من قيادة الجيش في بغداد، ولكن يبدو أن اللواء محمود شيت خطاب لم تكن تعنيه أوامر قيادته في بغداد؛ فهو يتصرف من حسِّه الديني والوطني، يقول: "وكان أهل جنين منسجمين إلى أبعد الحدود مع الجيش العراقي؛ لأن هذا الجيش أعاد جنين إلى العرب في ذلك الوقت، وانتصر فوجٌ واحدٌ، بلغ تعداده (822) ضابطاً وجندياً على عشرة آلاف صهيوني، كانت خسائرهم في تلك المعركة أكثر من تعداد الجنود العراقيين، بينما خسائر العراقيين 30 شهيداً، مع أن المعركة (تصادفية)، ولم يكن أيٌّ من المنتسبين إلى الجيش العراقي قد سمع بـ (جنين)، أو يعرف حتى مكانها! ولا توجد لديهم خرائط؛ بل إن الهجوم كان ليلاً، ومع ذلك انتصر العراقيون"[3]. ويكمل المرحوم محمود شيت خطاب حديثه: "ومن الذكريات التي ما زالت عالقة، أن قتلى الصهاينة كان بينهم ابنة "ابن جوريون"، فكان يأتي مع الضباط الصهاينة، برفقة ممثلي الهدنة، ويتوسل بإلحاح شديدٍ؛ ليأخذ جثة ابنته"[4]. ومن خلال حديث الأستاذ المرحوم؛ نجد إصرار "ابن جوريون" - رئيس وزراء ما سمِّي بإسرائيل - على تسلُّم جثة ابنته، مع قبول الشروط المهينة التي فرضها الجيشُ العراقيُّ والمقاتلون الفلسطينيون بحقهم، فقد وافق المذكور أن ينسحب إلى منطقة بعمق 12كم، تمتد من جنين إلى أم الفحم من أجل استعادة جثة ابنته فقط، في حين لم يطالب بجثث الصهاينة الآخرين!! هذه هي الأخلاق اليهودية التي أوصلته إلى قمة هرم السلطة في دولة الكيان الصهيوني. ونستشفُّ من حديثه أن الوطني والمخلص يستطيع أن يتحايل ويلتف على القرارات السياسية من أجل وطنه، أو من أجل المبادئ التي يؤمن بها؛ فليس هناك أبيض وأسود في السياسة إلا عند ضعاف النفوس، يقول: "وكانت هناك تعليماتٌ بعدم التعرُّض للعدو الصهيوني، إلا بأوامر صريحة، ولكنني استطعتُ أن أتَّفق مع اثني عشر فلسطينياً، منهم المرحوم فوزي الجرَّار، نتواعد تحت القنطرة ليلاً؛ لنهاجم إحدى القرى .. وحدثَ أن هاجمْنا قرية "فقوعة" بعد منتصف الليل؛ فوجدنا الصهاينة نائمين، وما كادوا يحسُّون بالحركة ووقع الأقدام؛ حتى هربوا تاركينَ سيارةَ الجيب وأسلحتهم، وتجهيزاتهم في تلكَ القرية، وبعد ذلك عدنا بالسيارة والتجهيزات قبل شروق الشَّمس بساعتين، وأوينا إلى فُرُشنا، كأنَّ شيئاً لم يحدث!! وهذا مثالٌ واحدٌ تكرَّر مرارًا"[5]. أيُّ جبنٍ هذا من قِبَل اليهود؟! وأيُّ خوفٍ ذاقوه تلك الليلة، من أبطال لو تُركت لهم الحرية في المقاومة؛ لما حلَّ بنا ما نحن فيه اليوم؟!. علاقته بأهل جنين: لا شكَّ أنَّ أيَّ مسؤول عسكري – أو غير عسكري - يتمتع بالصفات التي ذكرناها؛ لابُدَّ أن تكون علاقته مع أهل البلد التي يعمل بها من أفضل العلاقات، لاسيما إذا كان البلد ينتمي للدين والثقافة التي ينتمي إليها المسؤول؛ فعلاقة محمود شيت خطاب بأهل جنين كانت من أقوى العلاقات، فبعد سنة قضاها هناك؛ صار كأنه من أهل البلد، يستشيرونه في أمورهم، ويدعونه إلى حفلاتهم، ويحضر أفراحهم، وقبلها أتراحهم، يتناول الطعام معهم، وما إلى ذلك من أواصر المحبة والصداقة، يقول في تقديمه لكتاب صالح مسعود أبو بصير "جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن": "لم أكن غريباً عن أهل فلسطين عندما قدمتها مع الجيش العراقي الذي استقر في المثلث العربي: (نابلس – طولكرم – جنين)؛ ولكنني بعد مكوثي فيها سنةً كاملةً؛ ازددت علماً بها، فربطتني بأهلها – خاصةً أهل جنين الكرام – روابط من الصداقة، والثقة المتبادلة، والحب الصادق، تلك الروابط التي لا تزداد مع الأيام إلا قوةً ومتانةً، فكنتُ أتَّصلُ بهم بالرسائل، وأرعى أولادهم من التلاميذ والطلاب، الذين يدرسون في مدارس العراق ومعاهده وجامعاته. كانت رسائلهم تردني تباعاً - كل يوم تقريباً - قبل نكبة 5 حزيران (يونيو) 1967، وكان أكثرهم يحلُّ ضيفاً بداري ببغداد كلما زاروا العراق، وكان أولادهم ولا يزالون أولادي، يزوروني وأزورهم، ويعرضون عليَّ مشاكلهم كلما حزبهم أمرٌ من الأمور، فإذا غابوا عني مدة من الزمن، فتَّشت عنهم في مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم؛ أسائلهم عن دروسهم، وأتسقَّط أخبار أهلهم، فأفرح لفرحهم، وأحزن لحزنهم، وما أكثر أحزانهم وأقل أفراحهم اليوم! ذكرتُ ذلك لأني أريد أن أنبه على ما طوَّقني به وطوَّق به أهلُ جنين الأكارم كلَّ العراقيين، من فضلٍ لا يُنسى أبداً. كان أهل جنين يرعون العراقيين رعايةً لا توصف: بيوتهم مفتوحة للجميع، يتلقونهم بالأحضان، ويغدقون عليهم من كرمهم وأريحيتهم، فكانوا بحقٍّ أهلهم بعد أهلهم، وقد أنسوهم - بما بذلوه من كرم ولطف - أنهم بعيدون عن وطنهم، وأشعروهم بأنهم بين ذويهم الأقربين. أذكرُ أنني كنت أتناول الطعام في منازلهم أكثر مما كنت أتناوله في مطعم الضباط، وقد تدخلوا حتى في أيسر شؤوني الإدارية، وكنت إذا مرضتُ عادوني، وإذا غبتُ عنهم سألوا عني. لقد كانوا أهلي، وكانت جنين بلدي، ولا أزال حتى اليوم أتحسَّر على تلك الأيام التي قضيتها بين أهلي - أهل جنين - وفي بلدي جنين. وما يُقال عني، يُقال عن العراقيين الآخرين. تلك هي لمحاتٌ من إنسانية أهل فلسطين، ممثَّلة بأهل جنين؛ فماذا عن جهادهم الذي لمسته فيهم يوم كنتُ مع الجيش العراقي في الأرض المقدسة؟ منذ حللتُ أرضَ فلسطين، كانت أفواج الفلسطينيين تتقاطر على المقرَّات العسكرية؛ تطالب بالسلاح وبالتدريب العسكري، وبإلقاء مهمَّات عسكرية على عاتقها للنهوض بها. وكانت إسرائيل قد احتلَّت جنين في شهر حزيران (يونيو) 1948، فاستطاع الجيش العراقي طرد الصهاينة من جنين بمعاونة المتطوعين الفلسطينيين. وقد جرت معاركُ طاحنةٌ بين جيش إسرائيل والجيش العراقي؛ لاستعادة قرية عارة، وقرية عرعرة، وقرية صندلة من قرى جنين، وكان للمتطوعين الفلسطينيين أثرٌ أيّ أثر في انتصار الجيش العراقي على القوات الإسرائيلية، وإعاده هذه القرى وغيرها إلى العرب. وكان للمتطوعين الفلسطينيين جهادٌ مشكورٌ في منطقة طولكرم، وفي المناطق الفلسطينية الأخرى، وكان لجماعة (الجهاد المقدس) جهادٌ عظيمٌ في منطقة القدس، إذا نسيه الناس؛ فلن ينساه ربُّ الناس، وكان للشهيد عبد القادر الحسيني - رضوان الله عليه - جهادٌ عظيمٌ في منطقة القدس، حتى قدَّم حياته الغالية في معركة القسطل ..."[6]. ويقول في موضعٍ آخر: "بلغت علاقتي بهم حدًّا أنَّ الذي كان يريد أن يتزوج فتاة من فتيات آل جنين؛ يسألني أن أذهب لأبيها، ولم يحدث أن أحدًا من الآباء ردَّني خائبًا، والسرُّ في ذلك أن علاقتي بهؤلاء المقربين نشأت في المسجد، فصداقة المسجد لها نكهةٌ خاصةٌ، ووفاءٌ خاصٌّ، وثقةٌ بغير حدود، وما زلتُ إلى اليوم تصلني رسائلُ من أولاد جنين المقيمين في فرنسا وأسبانيا، يطلبون العون، فلا أتأخر عنهم أبدًا"[7]. شيت خطاب شاعراً: غريبٌ أمر هذا الضابط؛ فمع مهماته العسكرية والقتالية، كان كاتباً ومؤلِّفاً، كما عُرف بقَرْض الشعر، وقد بلغت مؤلفاته نحو 126 كتاب، وله نحو 320 بحث، كما قرض العديد من القصائد الشعرية، وكيف لا يكون على درجة من الثقافة وهو الذي يقول: "كنتُ أحمل وأصحب معي - طَوال أيام عملي في العسكرية - أربعةَ كتبٍ ترافقني في حلِّي وترحالي، وهي: القرآن الكريم، والمنتقى في أخبار المصطفى لابن تيمية، ووحي القلم للرافعي، والقاموس المحيط للفيروزآبادي"[8]. فإذا كانت هذه عُدَّة الضابط مع سلاحه؛ فحريٌّ به أن يكون أديباً وشاعراً، في عصر عزَّ فيه الشعر والأدب في ضباطنا الأجلاء، أصحاب الأوسمة المفتخرة، وهي ذخيرة القادة المخلصين من قادة الفتح الإسلامي الأماجد، أمثال: خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجرَّاح، ومحمد بن القاسم، وصلاح الدين، ونور الدين الشهيد، ومحمد الفاتح، وعمر المختار، وغيرهم ممَّن غيروا خريطة العالم نحو الحضارة والرقيِّ. يقول: "رأيتُ من واجبي أن أودِّع أهل جنين بشيء من القول يستحقونه؛ فعكفت في غرفتي وأنا في غاية التأثر من جرَّاء العودة للعراق، لفراق من أحبُّ من أهل جنين، وخوفاً عليهم من العدو الصهيوني، الذي كان يُرى بالعين المجرَّدة. في ذلك الجو من الانفراد والتأثر، انطلق قلمي في شعرٍ، أتذكر منه اليوم أبياتٍ فيها: هَذِي قُبُورُ الْخَالِدِينَ وَقَدْ قَضَوا شُهَداءَ حَتَّى يُنْقِذُوا الأَوْطَانَا قَدْ صَاوَلُوا الْعُدْوَانَ حَتَّى اسْتُشْهِدُوا مَاتُوا بِسَاحَاتِ الْوَغَى شُجْعَانَا أَجِنِينُ يَا بَلَدَ الْكِرَامِ تَجَلَّدِي مَا ضَاعَ حَقٌّ ضَرَّجَتْهُ دِمَانَا إِنِّي لأَشْهَدُ أَنَّ أَهْلَكِ قَاوَمُوا غَزْوَ الْيَهُودِ وَصَاوَلُوا الْعُدْوانَا المُخْلِصُونَ تَسَرْبَلُوا بِقُبُورِهِم وَالْخَائِنُونَ تَسَنَّمُوا الْبُنْيَانَا لاَ تَعْذِلُوا جَيْشَ الْعِرَاقِ وَأَهْلَهُ بَلْوَاكُمُ لَيْسَتْ سِوىَ بَلْوَانَا إِنَّ السِّنَانَ يَكُونُ عِنْدَ مُكَبَّلٍ بِالْقَيْدِ فِي رِجْلَيْهِ لَيْسَ سِنَانَا فَإِذَا نُكِبْتَ فَلَسْتَ أَوَّلَ صَارِمٍ بَهَظَتْهُ أَعْبَاءُ الْجِهَادِ فَلانَا مَرْجُ ابْنِ عَامِرَ خَضَّبَتْهُ دِمَاؤنَا أَيَصِيرُ مِلْكاً لِلْيَهُودِ مُهَانَا؟ وَهُوَ الْخُلُودُ لِمَنْ يَمُوتُ مُجَاهِداً لَيْسَ الْخُلُودُ لِمَنْ يَعِيشُ جَبَانَا "[9] خطاب يتوقع حرب 1976م: وكان من فراسته ودقة دراسته للعدو الصهيوني؛ أنه حدد اليوم الذي تعتزم فيه إسرائيل شن حربها يوم 5/6/1967، ونشر توقُّعه في جريدة "العرب"، الصادرة في بغداد يوم 1/6/1967، تحت عنوان: (حربٌ أو لا حرب)، قال فيه: "إن نفير إسرائيل سيكتمل يوم الخامس من يونيو/ حزيران سنة 1967م؛ فتكون إسرائيل جاهزة للحرب في هذا اليوم، وستهاجم إسرائيل العرب في هذا اليوم حتماً"، ولكن لا مجيب!! ثم قال بعد أن حدثت المأساة: "وقد صدَّقت الأحداثُ ما توقعته، ولستُ نبيّاً، ولكنَّ الفنَّ العسكري أصبح علماً له قواعد وأسس، إليها استندتُ في كل ما كتبته من مقالات". حتى إن المؤلف الإسرائيلي صاحب كتاب "الحرب بين العرب وإسرائيل" أثنى على عبقرية محمود شيت خطاب، ووصفه بأنه أكبر عقل إستراتيجي في العالم العربي، لكن لا يوجد من يستفيد منه. هذه لمحةٌ خاطفةٌ عن سيرة الرجل في فلسطين، بيد أن حياته مملوءة بالجدِّ والعطاء في فلسطين وغيرها، واكتفينا بتسليط الضوء على فلسطين؛ علَّ هذه السيرة العطرة تعيد الثقة بين الشعبَيْن الكريمَيْن إلى ما كانت عليه. منقول للفائده
 
عودة
أعلى