عن محمد حسنين هيكل مفكر العربي المصري ملاحضة لو كان للعرب متل هيكل لاكنا في خير
موضوعي هذه الليلة هو وقفة طويلة أمام يوم طويل جدا وهو يوم 27 يوليو سنة 1956 أي غداة إعلان قرار تأميم شركة قناة السويس والتداعيات والمواقف التي كانت بعده وتجلت كلها على طول يوم 27 يوليو، وأنا وصفته بأنه كان يوم طويل وأيضا يوم خطير، إلا أنني سوف أستأذن في وقفة قصيرة أمام شعور شخصي، في هذا الصيف بالطبع كنت أعد لهذه المجموعة من الحلقات وأنا أعلم موضوعها، وكنت سافرت كثيرا في هذا الصيف، وطول الوقت كان معي ضمن حقائبي حقيقة هي أثقل حقائبي وفيها مجموعة من أوراقي ومجموعة من الكتب وكنت أشعر وأنا أتنقل بين ثلاثة أشياء، أتنقل بين: واحد، دراسة أوراقي لكي أستطيع أن أربط الصور في ذهني لكي أجلس وأتكلم، أيضا هناك قراءاتي وقد لاحظت أن قراءاتي حتى في هذا، مع أنني حاولت أن أجعل قراءاتي بعيدة عن موضوعي، إلا أنه يبدو أن مطالبنا تتسرب إلى مشاعرنا حتى دون أن ندري أحيانا لأنني وجدت نفسي في فلورانس على سبيل المثال أقرأ ماكيافيللي للمرة العشرين وأقرأ كلاوسفيتس للمرة الثلاثين، واحد عن الأمير وصراع السلطة، وواحد عن الحرب وصراع المقادير والمصائر، وفي نفس الوقت أنتقل من أماكن مثل فلورانس إلى أماكن مثل لندن وباريس وروما وأثينا، عواصم حيث أقابل ساسة وأسمع بلا حدود عما يجري من ساسة وصحفيين وأساتذة جامعات ودارسين، أسمع الكثير مما كان عن أشياء جرت وعن أشياء تجري وتتداخل الصور، ثم أعود بالبصر وبالذاكرة أو حتى من خلال قراءة الصحف وأتابع ما يجري سواء بالسماع أو بالقراءة ثم أشعر بتناقضات شديدة جدا أحس معها أن هذه المنطقة، أن منطقتنا منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت وكانت لزمن طويل جدا ملعبا لصراعات العالم وكنا نأمل في لحظة من اللحظات أن نكون ضمن اللاعبين ثم لم نجد في النهاية دورا في خاتمة مطاف متعب ومرهق جدا لم نجد إلا دورا، دور الأرض ودور الكرة، أرض يجري عليها آخرون وكرة تتقاذفها أرجل الآخرين ثم أتذكر كلمة كان الدكتور محمود فوزي وزير خارجية مصر العتيد في ذلك الوقت في نصف الخمسينات الثاني وأوائل الستينات كان وزيرا للخارجية أو مستشارا أو مساعدا لرئيس الجمهورية للشؤون الخارجية وهو رجل حكيم وكانت تشغله باستمرار عبارة يرددها مرات خصوصا في السبعينات، في السبعينات كان شديد الألم لبعض ما يجري وأنا فاكره في آخر مرة قبل أن يرحل عن عالمنا وهو يقول لي ما يقلقه بشدة يعني، تعبيره كده، ما يقلقني "الحوادث كبيرة والرجال صغار". وعدت إلى أرض الوطن بعد غياب طويل إلى حد ما معي أوراقي ومعي ما توصلت إليه ومعي ربطي للوقائع والحوادث بوثائقه وهي كثيرة جدا، لهذا اليوم، اليوم الذي أتحدث عنه وهو 27، يبدو أمامي وأنا أترك الملاحظات الشخصية التي تعبر عن مشاعر إنسانية وعميقة وبعضها مرات تصيب بإحباط شديد جدا بين الأمل وبين الواقع وبين التصور وبين الممكن حتى وبين ما جرى وأحس - لا أستطيع أن أمنع نفسي- بنوع شديد جدا من الأسى وأنا أشعر بأنه لم يكن ينبغي ربما أن أثقل على الناس بمثل هذه الملاحظة في البداية لكنه لا يستطيع أي إنسان أن يغوص بين الأفكار وأن يتجول بين عواصم العالم وأن يرتد بصره إلى ما يجري عندنا إلا ويشعر بأنه - بمثل شعوري- أنه كثير جدا مما جرى لم يكن لازما. لكن الدكتور فوزي له حق: "حوادث كبيرة ورجال صغار"، أصغر قوي على أي حال من التحديات. أرجع إلى يوم 27 موضوعه مباشرة، يلفت نظري في يوم 27 يوليو 1956 أنه كانت هناك صورتان، صورة على السطح مباشرة وهي يصفها على سبيل المثال تقرير سير هامفري ترافيليان، وهو السفير البريطاني الموجود في مصر في ذلك الوقت، فهو بيصف كيف فاجأه قرار تأميم شركة قناة السويس وكيف علم به وهو في الإسماعيلية يقضي إجازة أيام صيف على أي حال لأنه في يوليو، ولم يكن يتوقع شيء لكنه فاجأه خبر تأميم قناة السويس وعاد، وأول برقية له يذكر فيها -كتر خيره- اسمي، فيقول بوضوح كده، رجعت القاهرة ومصر كلها فيها مظارهات حافلة وفيها بطل ظهر فجأة من وسط الحوادث وتبدى على الساحة بملء منطقة الشرق الأوسط وفي تطورات خطيرة، لكن أنا عايز أقول حاجه -هو بيقولها يعني- بيقول إن ده طبقا لما كتبه هيكل - تكرم ونسب لي الموضوع- إن هذا موضوع لا دخل له بقرار سحب السد العالي، حتى وإن كان قرار سحب السد العالي هو الـ trigger. لكن بيقول إن هيكل كتب مقالة -والغربية جدا المقالة موجودة أمامي وألاقي السفارة البريطانية يومها ترجمت لها ترجمة كاملة كاملة بكل حرف فيها وبتقول فيها- وأنا كنت بقول فيها إنه خلوا بالكم أنه ولو أن هذا القرار صدر ردا على، أو يبدو ردا وهو كذلك، ردا على سحب العرض بتمويل السد العالي لكنه في الحقيقة أمر هذا القرار أعمق بكثير جدا من مشروع السد العالي لأن كذا وكذا. وأنا شرحت أن هذا موجود في الضمير المصري وجاهز وفي تفكير فيه والعقبات فيه هي عقد، ليس فقط عقد الشركة الذي ينتهي 68 ولكن أخطر منه معاهدة القسطنطينية 1988 وعلى أي حال ففي قرار أن تقسيم المواجهة بين الاثنين أول الشركة وبعدين نشوف موضوع اتفاقية القسطنطينية والقيود التي تفرضها على مصر، لكن في على ظاهر الصورة في مصر في عملية يقظة شعبية مست بشكل ما أعماق الضمير المصري وتلتها أو ردت عليها يقظة هائلة في العالم العربي، على أي حال أعطته إحساس أننا نستطيع وأننا نقدر إذا أردنا وإذا واتتنا شجاعة ومواجهة أن نكون لاعبين على أرضنا وليس مجرد ملعب للآخرين وليس مجرد كرة في أقدام الآخرين. أنا أشوف قدامي على طول تنبهوا لأهمية القرار، الصحافة العالمية في الخارج تنبهت لأهمية القرار في الإستراتيجية العالمية خصوصا بالنسبة للموقع بالنسبة لموارد البترول وألاقي الجرائد -وأنا لو كنت أقدر كنت جبت الجرائد كنت جبت أطنان منها- لكن الجرائد كلها حافلة بأشياء، والخطورة الإستراتيجية للقرار على موارد البترول ومواقع نقله وبطرق نقله سواء بالبحر أو بالأنابيب، لكن العالم الغربي كله مستثار ومخضوض ومندهش، وأظن حتى في بعض المواقع كان هناك اندهاش لا يخلو من إعجاب لأنه بدت العملية، بدا فيها التحدي أو الاستفزاز الذي مثله صاحب عرض تمويل السد العالي أو المشاركة في تمويل السد العالي لحقه قرار لم يكن أحد يتصوره وتابعت هذا القرار إمكانيات هائلة في المنطقة من ناحية، على أقل تقدير، يقظة وعي إلى حق، مش مسألة استثارة عاطفية فقط لكن وعي وعزز منه أن المصريين تسلموا، محمود يونس -الشهادة لله- ومجموعته، تسلموا قناة السويس بالليل، وصباح 27 والعالم يتوقع أن تختل الأمور في القناة، القناة تسير في وضع طبيعي جدا. وأنا أسأل محمود يونس كل شوي أقول له: إيه الأخبار؟ وحقيقي قلق، وده طبيعي يعني وأيضا كصحفي بالدرجة الأولى كمان يعني، فمحمود يونس بعد شوي يبدو لي الرئيس بيكلمه، الرئيس عبد الناصر بيكلمه، فهو بيقول له إن هيكل كان معي على التليفون كذا مرة فكان لقيت الرئيس عبد الناصر بيكلمني بيقول لي: سيب محمود يونس عنده مسؤوليات، أنت بتكلمه كثير قوي وهو اشتكى لي - وهو ما اشتكاش الحقيقة يعني- هو اشتكى لي وأنا حسيت أنك أنت بتسأله كثير قوي، لكن خلي كل الأسئلة، قلت له بس حأكلمه والله مرة بس كل ثلاث ساعات، بس أطمئن. لأنني أشعر أن العالم كله معلقة أنفاسه بالقرار الذي اتخذ، والعالم العربي الذي تحمس قد تكون خيبة كبيرة إذا اكتشف على آخر اليوم الأول للإدارة المصرية لقناة السويس أنه آه طلعنا قرار واستولينا على القناة لكننا عجزنا عن تسيير الملاحة، وبعدين تبقى مش بس فضيحة، فضيحة وتكأة. وأظن أن التردد في الفترة الأولى كان ما بين هل نتركهم، نترك المصريين في عواصم الغرب -يعني باتكلم عن لندن وباريس في ذلك الوقت- هل نترك المصريين ليغرقوا من اليوم الأول أو نساعدهم؟ بعدين تبين اليوم الأولى أن مسائل الملاحة ماشية طبيعية وقدروا المصريين يتصرفوا، وأنه حتى عدد من الأدلاء، المرشدين Pilots بتوع شركة القناة، وفيهم يونانيين كثير وفيهم جنسيات مختلفة كلها لم تجد مانعا أو لم تجد عقبة أنها تؤدي شغلها الطبيعي طالما لم تصدر لها أوامر أخرى، باتكلم على Pilots على المرشدين، لكن اللي حصل أنه على آخر النهار كان بدا أن قرارا قد اتخذ، وأن إمكانيات نجاحه قد ظهرت، إمكانيات نجاحه في تسيير ما استولى عليه بالليل، في الليلة الفائتة، وأن الملاحة ماشية طبيعية في قناة السويس فإذا بلندن وباريس تبعث للشركة في الإسماعيلية تقول لهم تعاونوا لغاية ما تأخذوا أوامر أخرى، لكن تعاونوا في أضيق الحدود لكي لا يبدو أنكم في حالة عصيان. لأنه كمان على قبال بعد الظهر والقناة ماشية بدأ محمود يونس يتشجع فعلى طول كده قال إن كل من لا يتعاون معه حيطلعه من مباني إدارة القناة، أو إذا أحد فيهم صمم يقعد مخالفا الأوامر سوف يصدر أمر باعتقاله. لكن اللي حل بيوم 27 تجلى أنه إذا كان هناك من ملك شجاعة اتخاذ قرار فهناك من ملك كفاءة تنفيذه على أرض الواقع والمسائل ماشية بطريقة ملفتة للنظر، وهنا ده للناس اللي عاشوا هذه الأيام وعاشوا في كواليسها وعاشوا في دخائلها وأحسوا بالمشاعر التي ملأت الناس وأحسوا بأن الناس قادرين إذا ما أعطوا الفرصة، هذه الشعوب اللي تبدو قدامي هذه اللحظة شبه محبطة وشبه يائسة وشبه ممزقة، هذه شعوب تقدر إذا أعطيت المثل، هذه الشعوب تقدر إذا أعطيت الفرصة، هذه الشعوب تقدر على أن تكون لاعبا على أرضها وليس مجرد يلعب عليه آخرون وليس كرة في أقدامهم. هذا ظاهر الصورة ولكن داخل الصورة، وراء الصورة، ألاقي قدامي حاجة ملفتة حقيقة، ألاقي قدامي سبع خطط غزو عسكرية تجهز نفسها للتصرف، سبع خطط، الخطة الأولى كانت خطة سابقة قديمة وهي خطة، خطة Stockpiles وأنا تكلمت عليها هي خطة أميركية لتزويد إسرائيل بالسلاح على أساس أن إسرائيل تستطيع إنجاز المهمة، في هذه الفترة وبعد صفقة السلاح وبعد رفض مصر في ذلك الوقت، والعالم العربي كله الحقيقة الشهادة لله يعني، وبعد العالم العربي كله خصوصا في الأردن، في الأردن في الملك حسين طالع غلوب بصرف النظر عن إية ملابسات. الشعوب الموجودة، النظام الموجود الحاكم في العراق، تحت ضغط شديد جدا بسبب موضوع الأحلاف، الأسرة الهاشمية مهددة، في نوع من يقظة، من عودة الروح إلى المنطقة بشكل أو آخر، والأميركان متضايقين من ده جدا، جاءت صفقة الأسلحة وحاولوا تنفيذ الخطة، الخطة ألفا اللي كانوا عاملينها في الأول لإغراء مصر بصلح منفرد مع إسرائيل، لم تنجح. الخطة أوميغا اللي هي الضغط والحصر والخناق وصلت إلى مراحلها الأخيرة دون أن تحقق نجاحا فيما يبدو. وهنا بتكلم بقى على يونيه، يوليو بدأ الأميركان ينفذوا خطة، أنا سبق أن تكلمت عنها وهي خطة Stockpiles تجهيز أسحلة حجم كبير. حتى الاسم موحي، دائما الأسماء الرمزية موحية، Stockpiles هي كومة السلاح، أي كوم، كوم تخزين، أكوام التخزين، فتصور الموجود، وتصور تشرحه وثائق أبا إبان وغيره، كلهم بيروحوا الأميركان والخطة أوميغا وكلهم بيعرفوا عنها في الضغط والحصار والخنق لم تنجح، فأبا إبان بيروح يقول لأميركا ويتكلم مع وزير الخارجية جون فوستر ده ويقول له بوضوح كده، نحن جاهزون. واحد، جاهزون لأن نواجه مصر المرحلة الأخيرة من الخطة أوميغا، أعطونا الوسائل ونحن ننفذ المهمة، نحن جاهزون لما هو أكثر، نحن جاهزون -وهذه ملفتة- لتأديب أي أحد في المنطقة، ومش بس عاوزين نخدم الأميركان ليس فقط، -هو هنا كان الكلام بيتقال بصراحة- ليس فقط في موضوع مصر ولكنه حيث تقوم مشاكل وحيث يقوم توتر، إسرائيل جاهزة للقيام بدورها بس يعني نكمل تعاون، مشروع سحب السد العالي. وجاء رد عليه قناة السويس، هنا في اللي لمحه كريستيان بينو، اللي أنا قفلت فيه آخر الكلمة في الحلقة الماضية أنه قال فيه، الله ده يظهر الأميركان عندهم خطة واضحة بيخلعونا من قواعدنا الإستراتيجية الموجودة في العالم لكي يحلوا محلنا. صحيح إلى أبعد مدى، وكل الوثائق قدامي صحيحة لأن هناك بدأ، عرض السد العالي حاجة غريبة جدا، الناس كلها متصورة أن هذه الضربة من أميركا ردت عليها مصر وبالتالي الدور جاي على أميركا ترد على الضربة، ترد على الرد، يعني على الرد المصري. لكن نفاجأ، يفاجأ الجميع أنه بشكل ما أميركا بدت وهي ترى الإنجليز والفرنساويين متحمسين لعمليات عسكرية بهذا الشكل بدأت أميركا تتكلم كلام ثاني مختلف يبدو مفاجئا، يبدو على السطح مفاجئا، لأنه هنا انتقلت اللعبة على الشطرنج الدولي من موقع إلى موقع آخر. أميركا آه كانت عاوزة تضرب وعاوزة تخلي إسرائيل تعمل معركة وعاوزة تدي لإسرائيل السلاح لكي تنفذ المهمة، لكن بتأميم شركة قناة السويس كل الناس كده بوضوح، وضح أن أجهزة طبخ القرار في أميركا، يبدو أن مجلس الأمن القومي ووكالات اللي عاملة تحته من أول (السي. آي. إيه)، وكالة المخابرات العامة، مجلس الأمن القومي نفسه وخبراء البيت الأبيض الموجودين فيه، يبدو واضحا أنه في نقلة صغيرة جدا في المواقع، لأنه بدا أن أميركا بتطلع هي من الموضوع وتسيب إنجلترة وفرنسا يتورطوا فيه أو يخشوا فيه إلى مداه، وإذا كان في عمل عسكري فألاقي الرئيس آيزنهاور على طول كده بيحدد موقفه، يقول إيه؟ يقول، غريبة قوي، ويتساءل.. هو إيدن بعث له ثاني يوم على طول الصبحية، بعث له إيدن رسالة طويلة جدا يشرح فيها له الوضع ويقول له إن هذا القرار سوف يسمح أولا بدخول سوفياتي كبير، نمرة اثنين سوف يقلص نفوذ الغرب في المنطقة وإذا بدؤوا بشركة قناة السويس، إذا بدؤوا بها في الإفطار، فالغداء سوف تكون الوجبة هي شركات البترول، ومواقع الغرب الإستراتيجية كلها سوف تنهار ونحن أمام قرار يتعدى شركة ويتعدى دولة
موضوعي هذه الليلة هو وقفة طويلة أمام يوم طويل جدا وهو يوم 27 يوليو سنة 1956 أي غداة إعلان قرار تأميم شركة قناة السويس والتداعيات والمواقف التي كانت بعده وتجلت كلها على طول يوم 27 يوليو، وأنا وصفته بأنه كان يوم طويل وأيضا يوم خطير، إلا أنني سوف أستأذن في وقفة قصيرة أمام شعور شخصي، في هذا الصيف بالطبع كنت أعد لهذه المجموعة من الحلقات وأنا أعلم موضوعها، وكنت سافرت كثيرا في هذا الصيف، وطول الوقت كان معي ضمن حقائبي حقيقة هي أثقل حقائبي وفيها مجموعة من أوراقي ومجموعة من الكتب وكنت أشعر وأنا أتنقل بين ثلاثة أشياء، أتنقل بين: واحد، دراسة أوراقي لكي أستطيع أن أربط الصور في ذهني لكي أجلس وأتكلم، أيضا هناك قراءاتي وقد لاحظت أن قراءاتي حتى في هذا، مع أنني حاولت أن أجعل قراءاتي بعيدة عن موضوعي، إلا أنه يبدو أن مطالبنا تتسرب إلى مشاعرنا حتى دون أن ندري أحيانا لأنني وجدت نفسي في فلورانس على سبيل المثال أقرأ ماكيافيللي للمرة العشرين وأقرأ كلاوسفيتس للمرة الثلاثين، واحد عن الأمير وصراع السلطة، وواحد عن الحرب وصراع المقادير والمصائر، وفي نفس الوقت أنتقل من أماكن مثل فلورانس إلى أماكن مثل لندن وباريس وروما وأثينا، عواصم حيث أقابل ساسة وأسمع بلا حدود عما يجري من ساسة وصحفيين وأساتذة جامعات ودارسين، أسمع الكثير مما كان عن أشياء جرت وعن أشياء تجري وتتداخل الصور، ثم أعود بالبصر وبالذاكرة أو حتى من خلال قراءة الصحف وأتابع ما يجري سواء بالسماع أو بالقراءة ثم أشعر بتناقضات شديدة جدا أحس معها أن هذه المنطقة، أن منطقتنا منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت وكانت لزمن طويل جدا ملعبا لصراعات العالم وكنا نأمل في لحظة من اللحظات أن نكون ضمن اللاعبين ثم لم نجد في النهاية دورا في خاتمة مطاف متعب ومرهق جدا لم نجد إلا دورا، دور الأرض ودور الكرة، أرض يجري عليها آخرون وكرة تتقاذفها أرجل الآخرين ثم أتذكر كلمة كان الدكتور محمود فوزي وزير خارجية مصر العتيد في ذلك الوقت في نصف الخمسينات الثاني وأوائل الستينات كان وزيرا للخارجية أو مستشارا أو مساعدا لرئيس الجمهورية للشؤون الخارجية وهو رجل حكيم وكانت تشغله باستمرار عبارة يرددها مرات خصوصا في السبعينات، في السبعينات كان شديد الألم لبعض ما يجري وأنا فاكره في آخر مرة قبل أن يرحل عن عالمنا وهو يقول لي ما يقلقه بشدة يعني، تعبيره كده، ما يقلقني "الحوادث كبيرة والرجال صغار". وعدت إلى أرض الوطن بعد غياب طويل إلى حد ما معي أوراقي ومعي ما توصلت إليه ومعي ربطي للوقائع والحوادث بوثائقه وهي كثيرة جدا، لهذا اليوم، اليوم الذي أتحدث عنه وهو 27، يبدو أمامي وأنا أترك الملاحظات الشخصية التي تعبر عن مشاعر إنسانية وعميقة وبعضها مرات تصيب بإحباط شديد جدا بين الأمل وبين الواقع وبين التصور وبين الممكن حتى وبين ما جرى وأحس - لا أستطيع أن أمنع نفسي- بنوع شديد جدا من الأسى وأنا أشعر بأنه لم يكن ينبغي ربما أن أثقل على الناس بمثل هذه الملاحظة في البداية لكنه لا يستطيع أي إنسان أن يغوص بين الأفكار وأن يتجول بين عواصم العالم وأن يرتد بصره إلى ما يجري عندنا إلا ويشعر بأنه - بمثل شعوري- أنه كثير جدا مما جرى لم يكن لازما. لكن الدكتور فوزي له حق: "حوادث كبيرة ورجال صغار"، أصغر قوي على أي حال من التحديات. أرجع إلى يوم 27 موضوعه مباشرة، يلفت نظري في يوم 27 يوليو 1956 أنه كانت هناك صورتان، صورة على السطح مباشرة وهي يصفها على سبيل المثال تقرير سير هامفري ترافيليان، وهو السفير البريطاني الموجود في مصر في ذلك الوقت، فهو بيصف كيف فاجأه قرار تأميم شركة قناة السويس وكيف علم به وهو في الإسماعيلية يقضي إجازة أيام صيف على أي حال لأنه في يوليو، ولم يكن يتوقع شيء لكنه فاجأه خبر تأميم قناة السويس وعاد، وأول برقية له يذكر فيها -كتر خيره- اسمي، فيقول بوضوح كده، رجعت القاهرة ومصر كلها فيها مظارهات حافلة وفيها بطل ظهر فجأة من وسط الحوادث وتبدى على الساحة بملء منطقة الشرق الأوسط وفي تطورات خطيرة، لكن أنا عايز أقول حاجه -هو بيقولها يعني- بيقول إن ده طبقا لما كتبه هيكل - تكرم ونسب لي الموضوع- إن هذا موضوع لا دخل له بقرار سحب السد العالي، حتى وإن كان قرار سحب السد العالي هو الـ trigger. لكن بيقول إن هيكل كتب مقالة -والغربية جدا المقالة موجودة أمامي وألاقي السفارة البريطانية يومها ترجمت لها ترجمة كاملة كاملة بكل حرف فيها وبتقول فيها- وأنا كنت بقول فيها إنه خلوا بالكم أنه ولو أن هذا القرار صدر ردا على، أو يبدو ردا وهو كذلك، ردا على سحب العرض بتمويل السد العالي لكنه في الحقيقة أمر هذا القرار أعمق بكثير جدا من مشروع السد العالي لأن كذا وكذا. وأنا شرحت أن هذا موجود في الضمير المصري وجاهز وفي تفكير فيه والعقبات فيه هي عقد، ليس فقط عقد الشركة الذي ينتهي 68 ولكن أخطر منه معاهدة القسطنطينية 1988 وعلى أي حال ففي قرار أن تقسيم المواجهة بين الاثنين أول الشركة وبعدين نشوف موضوع اتفاقية القسطنطينية والقيود التي تفرضها على مصر، لكن في على ظاهر الصورة في مصر في عملية يقظة شعبية مست بشكل ما أعماق الضمير المصري وتلتها أو ردت عليها يقظة هائلة في العالم العربي، على أي حال أعطته إحساس أننا نستطيع وأننا نقدر إذا أردنا وإذا واتتنا شجاعة ومواجهة أن نكون لاعبين على أرضنا وليس مجرد ملعب للآخرين وليس مجرد كرة في أقدام الآخرين. أنا أشوف قدامي على طول تنبهوا لأهمية القرار، الصحافة العالمية في الخارج تنبهت لأهمية القرار في الإستراتيجية العالمية خصوصا بالنسبة للموقع بالنسبة لموارد البترول وألاقي الجرائد -وأنا لو كنت أقدر كنت جبت الجرائد كنت جبت أطنان منها- لكن الجرائد كلها حافلة بأشياء، والخطورة الإستراتيجية للقرار على موارد البترول ومواقع نقله وبطرق نقله سواء بالبحر أو بالأنابيب، لكن العالم الغربي كله مستثار ومخضوض ومندهش، وأظن حتى في بعض المواقع كان هناك اندهاش لا يخلو من إعجاب لأنه بدت العملية، بدا فيها التحدي أو الاستفزاز الذي مثله صاحب عرض تمويل السد العالي أو المشاركة في تمويل السد العالي لحقه قرار لم يكن أحد يتصوره وتابعت هذا القرار إمكانيات هائلة في المنطقة من ناحية، على أقل تقدير، يقظة وعي إلى حق، مش مسألة استثارة عاطفية فقط لكن وعي وعزز منه أن المصريين تسلموا، محمود يونس -الشهادة لله- ومجموعته، تسلموا قناة السويس بالليل، وصباح 27 والعالم يتوقع أن تختل الأمور في القناة، القناة تسير في وضع طبيعي جدا. وأنا أسأل محمود يونس كل شوي أقول له: إيه الأخبار؟ وحقيقي قلق، وده طبيعي يعني وأيضا كصحفي بالدرجة الأولى كمان يعني، فمحمود يونس بعد شوي يبدو لي الرئيس بيكلمه، الرئيس عبد الناصر بيكلمه، فهو بيقول له إن هيكل كان معي على التليفون كذا مرة فكان لقيت الرئيس عبد الناصر بيكلمني بيقول لي: سيب محمود يونس عنده مسؤوليات، أنت بتكلمه كثير قوي وهو اشتكى لي - وهو ما اشتكاش الحقيقة يعني- هو اشتكى لي وأنا حسيت أنك أنت بتسأله كثير قوي، لكن خلي كل الأسئلة، قلت له بس حأكلمه والله مرة بس كل ثلاث ساعات، بس أطمئن. لأنني أشعر أن العالم كله معلقة أنفاسه بالقرار الذي اتخذ، والعالم العربي الذي تحمس قد تكون خيبة كبيرة إذا اكتشف على آخر اليوم الأول للإدارة المصرية لقناة السويس أنه آه طلعنا قرار واستولينا على القناة لكننا عجزنا عن تسيير الملاحة، وبعدين تبقى مش بس فضيحة، فضيحة وتكأة. وأظن أن التردد في الفترة الأولى كان ما بين هل نتركهم، نترك المصريين في عواصم الغرب -يعني باتكلم عن لندن وباريس في ذلك الوقت- هل نترك المصريين ليغرقوا من اليوم الأول أو نساعدهم؟ بعدين تبين اليوم الأولى أن مسائل الملاحة ماشية طبيعية وقدروا المصريين يتصرفوا، وأنه حتى عدد من الأدلاء، المرشدين Pilots بتوع شركة القناة، وفيهم يونانيين كثير وفيهم جنسيات مختلفة كلها لم تجد مانعا أو لم تجد عقبة أنها تؤدي شغلها الطبيعي طالما لم تصدر لها أوامر أخرى، باتكلم على Pilots على المرشدين، لكن اللي حصل أنه على آخر النهار كان بدا أن قرارا قد اتخذ، وأن إمكانيات نجاحه قد ظهرت، إمكانيات نجاحه في تسيير ما استولى عليه بالليل، في الليلة الفائتة، وأن الملاحة ماشية طبيعية في قناة السويس فإذا بلندن وباريس تبعث للشركة في الإسماعيلية تقول لهم تعاونوا لغاية ما تأخذوا أوامر أخرى، لكن تعاونوا في أضيق الحدود لكي لا يبدو أنكم في حالة عصيان. لأنه كمان على قبال بعد الظهر والقناة ماشية بدأ محمود يونس يتشجع فعلى طول كده قال إن كل من لا يتعاون معه حيطلعه من مباني إدارة القناة، أو إذا أحد فيهم صمم يقعد مخالفا الأوامر سوف يصدر أمر باعتقاله. لكن اللي حل بيوم 27 تجلى أنه إذا كان هناك من ملك شجاعة اتخاذ قرار فهناك من ملك كفاءة تنفيذه على أرض الواقع والمسائل ماشية بطريقة ملفتة للنظر، وهنا ده للناس اللي عاشوا هذه الأيام وعاشوا في كواليسها وعاشوا في دخائلها وأحسوا بالمشاعر التي ملأت الناس وأحسوا بأن الناس قادرين إذا ما أعطوا الفرصة، هذه الشعوب اللي تبدو قدامي هذه اللحظة شبه محبطة وشبه يائسة وشبه ممزقة، هذه شعوب تقدر إذا أعطيت المثل، هذه الشعوب تقدر إذا أعطيت الفرصة، هذه الشعوب تقدر على أن تكون لاعبا على أرضها وليس مجرد يلعب عليه آخرون وليس كرة في أقدامهم. هذا ظاهر الصورة ولكن داخل الصورة، وراء الصورة، ألاقي قدامي حاجة ملفتة حقيقة، ألاقي قدامي سبع خطط غزو عسكرية تجهز نفسها للتصرف، سبع خطط، الخطة الأولى كانت خطة سابقة قديمة وهي خطة، خطة Stockpiles وأنا تكلمت عليها هي خطة أميركية لتزويد إسرائيل بالسلاح على أساس أن إسرائيل تستطيع إنجاز المهمة، في هذه الفترة وبعد صفقة السلاح وبعد رفض مصر في ذلك الوقت، والعالم العربي كله الحقيقة الشهادة لله يعني، وبعد العالم العربي كله خصوصا في الأردن، في الأردن في الملك حسين طالع غلوب بصرف النظر عن إية ملابسات. الشعوب الموجودة، النظام الموجود الحاكم في العراق، تحت ضغط شديد جدا بسبب موضوع الأحلاف، الأسرة الهاشمية مهددة، في نوع من يقظة، من عودة الروح إلى المنطقة بشكل أو آخر، والأميركان متضايقين من ده جدا، جاءت صفقة الأسلحة وحاولوا تنفيذ الخطة، الخطة ألفا اللي كانوا عاملينها في الأول لإغراء مصر بصلح منفرد مع إسرائيل، لم تنجح. الخطة أوميغا اللي هي الضغط والحصر والخناق وصلت إلى مراحلها الأخيرة دون أن تحقق نجاحا فيما يبدو. وهنا بتكلم بقى على يونيه، يوليو بدأ الأميركان ينفذوا خطة، أنا سبق أن تكلمت عنها وهي خطة Stockpiles تجهيز أسحلة حجم كبير. حتى الاسم موحي، دائما الأسماء الرمزية موحية، Stockpiles هي كومة السلاح، أي كوم، كوم تخزين، أكوام التخزين، فتصور الموجود، وتصور تشرحه وثائق أبا إبان وغيره، كلهم بيروحوا الأميركان والخطة أوميغا وكلهم بيعرفوا عنها في الضغط والحصار والخنق لم تنجح، فأبا إبان بيروح يقول لأميركا ويتكلم مع وزير الخارجية جون فوستر ده ويقول له بوضوح كده، نحن جاهزون. واحد، جاهزون لأن نواجه مصر المرحلة الأخيرة من الخطة أوميغا، أعطونا الوسائل ونحن ننفذ المهمة، نحن جاهزون لما هو أكثر، نحن جاهزون -وهذه ملفتة- لتأديب أي أحد في المنطقة، ومش بس عاوزين نخدم الأميركان ليس فقط، -هو هنا كان الكلام بيتقال بصراحة- ليس فقط في موضوع مصر ولكنه حيث تقوم مشاكل وحيث يقوم توتر، إسرائيل جاهزة للقيام بدورها بس يعني نكمل تعاون، مشروع سحب السد العالي. وجاء رد عليه قناة السويس، هنا في اللي لمحه كريستيان بينو، اللي أنا قفلت فيه آخر الكلمة في الحلقة الماضية أنه قال فيه، الله ده يظهر الأميركان عندهم خطة واضحة بيخلعونا من قواعدنا الإستراتيجية الموجودة في العالم لكي يحلوا محلنا. صحيح إلى أبعد مدى، وكل الوثائق قدامي صحيحة لأن هناك بدأ، عرض السد العالي حاجة غريبة جدا، الناس كلها متصورة أن هذه الضربة من أميركا ردت عليها مصر وبالتالي الدور جاي على أميركا ترد على الضربة، ترد على الرد، يعني على الرد المصري. لكن نفاجأ، يفاجأ الجميع أنه بشكل ما أميركا بدت وهي ترى الإنجليز والفرنساويين متحمسين لعمليات عسكرية بهذا الشكل بدأت أميركا تتكلم كلام ثاني مختلف يبدو مفاجئا، يبدو على السطح مفاجئا، لأنه هنا انتقلت اللعبة على الشطرنج الدولي من موقع إلى موقع آخر. أميركا آه كانت عاوزة تضرب وعاوزة تخلي إسرائيل تعمل معركة وعاوزة تدي لإسرائيل السلاح لكي تنفذ المهمة، لكن بتأميم شركة قناة السويس كل الناس كده بوضوح، وضح أن أجهزة طبخ القرار في أميركا، يبدو أن مجلس الأمن القومي ووكالات اللي عاملة تحته من أول (السي. آي. إيه)، وكالة المخابرات العامة، مجلس الأمن القومي نفسه وخبراء البيت الأبيض الموجودين فيه، يبدو واضحا أنه في نقلة صغيرة جدا في المواقع، لأنه بدا أن أميركا بتطلع هي من الموضوع وتسيب إنجلترة وفرنسا يتورطوا فيه أو يخشوا فيه إلى مداه، وإذا كان في عمل عسكري فألاقي الرئيس آيزنهاور على طول كده بيحدد موقفه، يقول إيه؟ يقول، غريبة قوي، ويتساءل.. هو إيدن بعث له ثاني يوم على طول الصبحية، بعث له إيدن رسالة طويلة جدا يشرح فيها له الوضع ويقول له إن هذا القرار سوف يسمح أولا بدخول سوفياتي كبير، نمرة اثنين سوف يقلص نفوذ الغرب في المنطقة وإذا بدؤوا بشركة قناة السويس، إذا بدؤوا بها في الإفطار، فالغداء سوف تكون الوجبة هي شركات البترول، ومواقع الغرب الإستراتيجية كلها سوف تنهار ونحن أمام قرار يتعدى شركة ويتعدى دولة