ونحن نتفيأ فضل الله علينا ببلوغ شهر الله المبارك شهر رمضان، ما أجمل أن تعود بنا الذكرى إلى ذلك الزمن الأجمل، الذي كانت فيه أنفاس محمد صلى الله عليه وسلم تعيش لحظات هذا الشهر المبارك، لنقرأ سوياً كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي يومه المبارك في هذا الشهر المبارك، وكيف حديث أفضل الخلق عن أفضل الشهور.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على اغتنام رمضان فيقول: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين»[1].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على الصيام، فقال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»[2].
وقد صام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات، حيث فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وتوفي صلى الله عليه وسلم في ربيع الثاني في السنة الحادية عشرة فلم يصم رمضان تلك السنة.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يعجل الفطور، وكان يقول: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر»[3].
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على السحور، ويقول: «تسحروا فإن في السحور بركة» [4]، وكان يؤخر السحور إلى قبيل الفجر، وقد وصف الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه قدر هذا التأخير فقال: «تسحرنا مع رسول الله ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية»[5].
وأما فطوره صلى الله عليه وسلم فقد بينه خادمه الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: «كان رسول الله يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء»[6].
وكان صلى الله عليه وسلم يحث على القيام في رمضان، فقال: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»[7].
غير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الليل في السنة وليس في رمضان فقط، يجلي هذا السؤال المبارك الذي وجهه التابعي الجليل أبو سلمة بن عبد الرحمن لعائشة رضي الله عنها حيث قال لها: «كيف كانت صلاة رسول الله في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة، «إن عيني تنامان ولا ينام قلبي» [8].
وهذه العناية بصلاة الليل تزيد مع العشر الأواخر من رمضان فيكون لها شأن خاص عند النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يتحرى فيها طلب ليلة القدر، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» [9].
ولهذا كان يعتكف في المسجد هذه العشر، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان»[10]، واستمر هديه في هذا حتى آخر سنة من حياته الشريفة عليه الصلاة والسلام فزاد هذه العشر عشراً أخرى، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً»[11].
فالعشر الأواخر لها شأن خاص، تصفه عائشة رضي الله عنها في وصفين كاشفين عن حقيقة هذا الاجتهاد النبوي الخاص فيها، فتقول: «كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره»[12]. وتقول: «كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله»[13].
غير أن قيام الليل آنذاك لم يكن في جماعة واحدة في المسجد، وإنما كانوا يصلون فرادى، وإنما صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم بعض ليالٍ منها ثم ترك، تبين ذلك عائشة رضي الله عنها فتقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناسٌ، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: «رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا خشية أن يُفرض عليكم». قالت: وذلك في رمضان[14].
فقد قصد النبي صلى الله عليه وسلم ترك صلاة الليل في رمضان جماعة خشية أن تفرض على الناس، وهذا من كمال عطفه وشفقته على أمته عليه الصلاة والسلام، وهذه الخشية قد زالت بعد وفاته فلا يكون في إقامتها أي مخالفةٍ لهديه، بل هي من هديه الذي يرتضيه لولا خشيته على أمته، ولهذا لما جاءت خلافة الخليفة الملهم الفقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج ليلة فإذا الناس أوزاعٌ متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجلُ فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل، فجمعهم على أبي بن كعب رضي الله عنه[15].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن في رمضان، وكان أجود ما يكون في رمضان، يصف هذا الخلق النبوي الصحابي الفقيه ابن عباس فيقول: «كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة»[16].
وكان عليه الصلاة والسلام يحث على الأخلاق الحسنة في هذا الشهر، فالصيام طريق للتقوى ورفعة الدرجات، غير أن ترك الطعام والشراب قد يتسبب في ضيق خلق بعض الناس، وهذا مما ينافي شعيرة الصيام، فقال عليه الصلاة السلام: «الصيام جُنَّة، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم»[17]. وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً أثر هذه الأخلاق: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»[18].
فلم يكن الصيام في رمضان سبباً لترك الواجبات أو تضييع الحقوق بدعوى التعب والمشقة التي يجدها الصائم كما هو حال كثيرٍ من أبناء عصرنا، بل إن بعض الأحداث الكبار المهمة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وقعت في رمضان، كغزوة بدر، وفتح مكة، وهي غزوات كبيرة شهدت انتصارات للإسلام، وقوة للمسلمين.
وسافر لفتح مكة وهو صائم ثم أفطر، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله عام الفتح في رمضان، فقام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وكان أصحابه يتتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم، وإنما أفطر النبي لما قيل له إن الصوم قد شق على الناس، فلما علم أن بعضهم ظل صائماً قال: «أولئك العصاة».
فهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، صيام في حسن خلق وقيام ليل، وقراءة للقرآن، وعبادة تحقق التقوى وتقرب إلى الله، ولا تمنع المسلم من بر ولا خير ولا تضعفه عن مصالح دينه أو دنياه.
رزقنا الله الاقتداء بهديه، واتباع سنته، والسير على طريقته.
مصادر الاحاديث النبوية في الموضوع
[1] أخرجه البخاري ومسلم.
[2] أخرجه البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري ومسلم، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري، من حديث أنس رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري.
[6] أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.
[7] أخرجه البخاري.
[8] أخرجه البخاري ومسلم.
[9] أخرجه البخاري.
[10] أخرجه مسلم.
[11] أخرجه البخاري.
[12] أخرجه مسلم.
[13] أخرجه البخاري ومسلم.
[14] أخرجه البخاري ومسلم.
[15] أخرجه البخاري.
[16] أخرجه البخاري.
[17] أخرجه أبو داود.
[18] أخرجه البخاري.