بداية النهضة في مجال العلوم العسكرية وتطويره
(( الإسلام وتنظيم شئون الحرب:
الواقع أن الإسلام باعتباره حضارة كاملة، وأنه نظم كافة أمور الحياة ديناً ودنيا، قد عالج أمور الحرب باعتبارها ظاهرة اجتماعية، ووضع خير المناهج والمباديء بكل ما يتصل بها من حيث أهدافها وقوانينها وآدابها. والباحث المحقق لا يجد في الإسلام كل ما تحتويه النظريات العسكرية المعمول بها في الشرق أو الغرب فحسب، بل إنه ليكتشف بالتحليل والمقارنة أن نظريات الإسلام الحربية تتجاوز تلك النظريات وتتفوق عليها سواء من الناحية الفنية البحتة أو من حيث نبل المقاصد والأهداف.
وقد نشأت في المدينة بعد الهجرة أول مدرسة عسكرية في تاريخ العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدها ومعلمها الأول، وعلى أساس مباديء القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة القولية والعملية والتقريرية قامت نظريات العسكرية الإسلامية في مختلف شؤون الحرب والقتال، مثل: أسباب الحرب وأهدافها –آداب الحرب- بناء الجيش القوي – بناء المقاتل – إعداد القادة – التدريب على القتال – الحرب النفسية – المخابرات والأمن ومقاومة الجاسوسية – الانضباط والجندية وتقاليدها – بناء الروح المعنوية وإرادة القتال – إعداد الأمة للحرب – الصناعة الحربية واقتصاديات الحرب... الخ
* وهكذا تكوَّن أول جيش في تاريخ الإسلام والمسلمين، وتعلم رجاله في المدرسة العسكرية الإسلامية على يد قائدها ومعلمها الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذِنَ اللهُ لهم بالقتال طبّقوا ما تعلموه في المعركة؛ فكانوا مضرب الأمثال في الكفاية القتالية والشجاعة والعبقرية الحربية، وكانوا دائماً منصورين على أعدائهم بإذن الله، وجملة القول أن تنظيم الإسلام لأمور الحرب قامت عليه وعلى نظرياته المدرسةُ العسكرية الإسلامية كما قام أيضاً جيش الإسلام بقادته ورجاله، ودخل الجيش الإسلامي بوتقة الحرب....)) اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ.
وقد فرض الله عز وجل فريضة الجهاد في سبيله، وأمر المسلمين بحمل كره القتال واحتماله في سبيله، وهو في غنى عن قوة المسلمين فهو القوي العزيز، ولكن هذا التكليف لخير أمة أخرجت للناس إنما كان لصلاح الدنيا، ولهداية الناس لما فيه خيرهم وصلاح أمرهم في الدارين، ولم يترك الله عز وجل فريضة الجهاد حرة ولا محرومة من الضوابط الناظمة للفريضة والموجهة لها. فالحرب في الإسلام حتمية، والقتال من طبيعة الحياة على أرض الله، حتى ينتصر الحق على الباطل، وحتى تظهر الفضيلة على الرذيلة، ويعلو الخير على الشر، كما في قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهو فلا عدوان إلا على الظالمين"..
* هذه الآيات وغيرها تحدد منهجاً أو مذهباً إسلامياً عسكرياً واضح المعالم، فالقتال هو في سبيل الله، ولكن ليس عدواناً، وإنما هو فعل فالقتل هو العقاب العادل، وهو القصاص الحق، وإخراج المسلمين من ديارهم هو عدوان يفرض عليهم القتال حتى يتم لهم إخراج عدوهم من حيث أخرجهم.
ونظراً لارتباط هذه المبادئ بالإسلام كدين يشمل كل مظاهر الحياة نستطيع أن نقول إن بداية النهضة الإسلامية في مجال الحروب العسكرية بدأت مع اطلاق المشروع الإسلامي في النشر والدعوة، وفرض الجهاد على المسلمين من خلال الضوابط المذكورة في الوحي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه المحاربين بألا يقتلوا طفلاً ولا امرأة وألا يقطعوا شجراً وأن يخلُّو بين الراهب وعبادته..
فكان ذلك إضافة للإنسانية وضَوْءًا جديدًا في الطريق العسكري الذي لا يرتبط في أذهان الناس سوى بالقتل العشوائي والهمجي، ولم يكن ثمة تقنين لدى العرب أو غيرهم قبل الإسلام يحد من عشوائية القتل والتخريب أثناء الحروب فكان الإسلام ـ بحق ـ تطبيقاً عملياً لكل ماتحلم به الإنسانية وتتمناه في هذه المضمار..
وحدد الله عز وجل موقف المسلمين من الذين يعتدون عليهم ويخرجونهم من ديارهم بقوله:
" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون "
فإخراج المسلم من دياره من موجبات القتال؟ إذ إنه لولا اعتناقه للإسلام ما تعرض للعدوان وما تعرض للطرد..
وكذلك حَثَّ الله المسلمين أن يكون ردهم على نفس المستوى من العدوان فقال عز وجل:
"وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين"..
كذلك فقد أمر عز وجل بقتال فئة مسلمة انحرفت عن إجماع المسلمين، واعتبر ذلك إصلاحاً للمسلمين وذلك في قوله تعالى:
"وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم تُرحمون"..
هكذا دشن الفكر الإسلامي لمبادئ جديدة على حياة الناس مثلت بداية حضارة عسكرية تأخذ مساراً إيجابياً في الدفاع عن المجتمع وأرواح الأفراد.
ولا تعرف العدوان ( إن الله لا يحب المعتدين)، تلك الحضارة التي تجعل القتال في سبيل الله، وتجرد المحاربين من نزعاتهم الشخصية والطائفية، وتقدم للعالم أنموذجاً حياً للإنسانية الشاملة، والرحمة المفقودة، والمساواة الغائبة، والعدل المنشود..
هذا على المستوى التنظيري أو تقنين مسائل الحرب فكانت بحق نهضة المبادئ العسكرية في العالم.
أما على المستوى التطبيقي أو العملي فقد حارب المسلمون في بداية معاركهم بطريقة لا تختلف كثيراً عما عهده العرب، إلا أنهم نظموا الجيوش فبعد أن كان العرب قد اعتادوا على طريقة الكرِّ والفرِّ في الحروب، نظم الإسلام شأن الجيش، وعبأه بشكل إيجابي، فكانت المقدمة والوسط والجناحان والساقة، ويُعَدُّ استخدامُ الرسول صلى الله عليه وسلم للمنجنيق والدبابات في مطاردة فلول ثقيف تغيراً نوعياً في سياسة الحروب في ذلك العهد، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من استخدم المنجنيق في الإسلام، فكان المحاربون المسلمون يدخلون في جوف الدبابات ويزحفون بها إلى الحصن لينقبوه. كذلك كان خالد بن الوليد رضي الله عنه أول من استخدم حرب الأعصاب ضد الأعداء، ذلك أن المسلمين حين حاصروا قنسرين تحصن أهلها منهم، فأرسل إليهم خالد يقول: "لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا".. فألقوا السلم وفتحوا مدينتهم للمسلمين، كذلك كان استخدام النبي صلى الله عليه وسلم للحَسك (وهو شوك مدحرج لا يكاد أحد يمشي عليه إذا يبس ) نقلة جديدة في عالم الحروب، حيث أحاط به عسكره ليمنع العدو من جنده ولعلها لا تختلف كثيراً عن فكرة الأسلاك الشائكة..
كانت هذه مؤشرات بنهوض قام به المسلمون بوسائل وأسلحة جديدة -إلى جانب أفكارهم الحربية الجديدة- يؤذن بظهور طور جديد أو حقبة متطورة في عالم الحرب، وبالفعل تطور وضع المسلمين عسكرياً أيما تطوير...
أبرز القادة العسكريين
لم يحفل مجال تقدم فيه المسلمون وعلموه من خلاله العالم بقادة ورواد مثلما حفل المجال العسكري، فالقادة المسلمون العسكريون النبلاء لا يحصيهم عدد، ولا يحويهم إحصاء، وقد يكون ذلك راجعاً إلى كثرة الحروب والمواجهات التي واجهها المسلمون أثناء نشر دعوتهم، أمر للدفاع عن أنفسهم وديارهم.
فلن ينسى العالم أعلام الأمة الإسلامية من أمثال: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، والمثنى بن حارثة، والقعقاع بن عمرو، وقيس بن هبيرة، وعقبة بن نافع، وصلاح الدين الأيوبي، ومحمد الفاتح، وعبد الرحمن الداخل، ونور الدين محمود.. وغيرهم من عظماء العسكريين المسلمين الذين قادوا المعارك ببصيرة حربية مذهلة، واستطاعوا أن يجعلوا من الجهاد في سبيل الله تجارب عملية وتطبيقات فدائية يشيب لها قادة العدو.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خير النماذج العسكرية المسلمة على الإطلاق، فكان قائداً محنكاً وزعيماً عسكرياً فذاً، يشارك جنوده المعارك جنباً إلى جنب، ويشاروهم في أمورهم الحربية، ويكفينا ذكراً هنا أن هؤلاء القادة من أصحابه صلى الله عليه وسلم كانوا ثمرة تربيته وفكره وتوجيهه ومبادئه العسكرية الجهادية..
لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول هزيمة المسلمين في أحد إلى نصر سياسي وعسكري، ولو أن قائداً مكانه صلى الله عليه وسلم لَنَدَبَ حظه، أو لحاكَمَ الرماةَ محاكمة عسكرية قاسية، ولكنه لم يفعل ذلك فهو خير البشر، خرج في اليوم التالي لغزوة أحد واشترط ألا يخرج معه إلا من شَهِد أُحُداً، فما كان من قريش إلا أن انسحبت، فحفظ ماء وجه المسلمين ورُدَّتْ إلى المسلمين كرامتهم.
وموقفه صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين بعد أن فَرَّ جيشه ولم يثبت إلا هو وقلة لا تتجاوز المائة على أكثر التقديرات، فاستطاع بشجاعة القائد والفدائي أن يعيد جنوده إلى مضمار المعركة بعد أن غامر بحياته، ورفع صوته على مقربة من الأعداء منادي: "أنا النبي لا كذب أن، ابن عبد المطلب"؛ ليلتف حوله أصحابه وجنوده الكرام، ويعودوا بكل حماس وإصرار، ويحولوا الهزيمة إلى نصر.
فصلِّ الله وسلِّمْ على قائدنا وزعيمنا الكريم، فقد قاد صلى الله عليه وسلم ثماني وعشرين غزوةً مع جنده.
وإذا سألنا أنفسنا ما الذي دفع مفكراً أمريكياً مثل "مايكل هارت" أن يورد محمداً صلى الله عليه وسلم في صدارة كتابه "العظماء المائة"؟
سيكون جوابنا أن غير المسلمين من المنصفين لا يسعهم إلا أن يقدروا لنبي الإسلام قدره من باب الإنصاف لا أكثر.
وإذا انتقلنا إلى باقي القادة العسكريين المسلمين من بعد نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم لوجدنا قائدا قلما توفر إخلاصه وذكاؤه وحبه لجيشه وجنوده وأمته في قائد عسكري. إنه سيف الله المسلول:
* (( خالد بن الوليد
هو "أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة"، ينتهي نسبه إلى "مرة بن كعب بن لؤي" الجد السابع للنبي (صلى الله عليه وسلم) و"أبي بكر الصديق" رضي الله عنه.
وأمه هي "لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية"، وقد ذكر "ابن عساكر" – في تاريخه – أنه كان قريبًا من سن "عمر بن الخطاب".
أما أبوه فهو "عبد شمس الوليد بن المغيرة المخزومي"، وكان ذا جاه عريض وشرف رفيع في "قريش"، وكان معروفًا بالحكمة والعقل؛ فكان أحدَ حكام "قريش" في الجاهلية، وكان ثَريًّا صاحب ضياع وبساتين لا ينقطع ثمرها طوال العام.
* فارس عصره
تعلم خالد بن الوليد الفروسية كغيره من أبناء الأشراف، ولكنه أبدى نبوغًا ومهارة في الفروسية منذ وقت مبكر، وتميز على جميع أقرانه، كما عُرف بالشجاعة والجَلَد والإقدام، والمهارة وخفة الحركة في الكرِّ والفرِّ.
واستطاع "خالد" أن يثبت وجوده في ميادين القتال، وأظهر من فنون الفروسية والبراعة في القتال ما جعله فارس عصره بلا منازع. )) ( إسلام أون لاين )
(( شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء قتاله للمشركين أن خالد بن الوليد يتمتع بشخصية قيادية متميزة وفكر عسكري عميق، فكان يرجو أن يستفيد المسلمون من هذه الطاقة في حركة الجهاد الإسلامي؛ فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل عن خالد ؛ قال ابن سعد رحمه الله: ( وكان خالد من فرسان المشركين وأشدائهم... ثم قذف الله في قلبه حب الإسلام لما أراد الله به من الخير ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية مكة؛ فتغيب خالد؛ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاه؛ فقال: " أين خالد؟ " ثم قال: "... ما مثل خالد يجهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين؛ لكان خيرا له، ولقدمناه على غيره ")) القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: د / عبد الله محمد الرشيد
* وكان هذا من أسباب مجيء خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وقد كان سيدنا خالد ابن الوليد يتمتع بعقلية عسكرية فذة ونادرة مما أهله ليتبوأ هذه المكانة العالية في قيادة الجيوش الإسلامية،
* وقد ذكر صاحب كتاب ( القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ) الصفات القيادية التي كان يتحلى بها خالد بن الوليد رضي الله عنها ومنه:
القدرة على إصدار القرار الصحيح والسريع، والإدارة القوية الثابتة، وتحمل المسئولية، وثبات النفس، وبُعْد النظر، ومعرفة النفسيات والقابليات، والثقة والمحبة المتبادلة بينه وبين جنوده، وقوة الشخصية، والماضي المجيد الذي كان يتمتع به، والشجاعة والقابلية البدنية، ومعرفة وتطبيق مباديء القيادة والتي تتلخص في: اختيار المقصد وإدامته، والتعرض، والمباغتة، وحشد القوة، والاقتصاد بالمجهود، وتطبيق مبدأ الأمن من أجل المحافظة على سلامة قواته، والمرونة، والقدرة على تأمين التعاون بين صفوف قطعات الجيش من جهة، وبين تشكيلاتها التعبوية من جهة أخرى في يسر وسهولة، وإدامة المعنويات، ويقوم هذا المبدأ على دعامتين رئيسيتين هم: الثقة المتبادلة والإيمان الراسخ، والأمور الإدارية وخفة الحركة، والمحافظة على الهدف. القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم د / عبد الله محمد الرشيد ص 591 وما بعدها بتصرف.
* أحد مواقفه العسكرية الرائعة:
في غزوة مؤتة وبعد أن استشهد القواد الثلاثة (( قدَّر خالد رضي الله عنه بفكره العسكري المتميز خطورة الموقف الذي يتعرض له المسلمون في هذه المعركة، فآثر الانسحاب بالجيش دون أن يعلم الأعداء بهذا التدبير.
وقد ابتكر رضي الله عنه خطة حربية تقوم على الايهام والخداع، لتحقيق هذا الهدف. وقد ذكر أهل المغازي والسير تلك الخطة الحربية ولخصها أحد القادة العسكريين المعاصرين بأسلوب عسكري يبرز مدى ما يتمتع به خالد من عبقرية عسكرية متميزة.
قال اللواء الركن محمود شيت خطاب: لقد قاتل يومه قتالا شديد، فلما أظلم الليل غير نظام جيشه فجعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وكذلك فعل بالميمنة، والميسرة، أي أنه سحب جيشه من ساحة المعركة وأبقى ساقته تحمي الانسحاب، نشر هذه الساقة؛ ليحتل فرسانها مساحة شاسعة من الأرض، وأمرهم أن يحدثوا أصواتا مرتفعة بما لديهم من أبواق وطبول وأدوات حربية وإثارة الغبار بالخيل تدور بسرعة في دوائر ضيقة، كل ذلك جعل الروم لا يشعرون بانسحاب قوات القسم الأكبرمن المسلمين ليل، من جهة، ويعتقدون أن إمدادات قوية جاءتهم ليل، لهذا لم يقدم الروم على مطاردة المسلمين فَسَهَّلَ ذلك على خالد مهمته في سحب رجاله من ساحة المعركة بأمان، ودون أن ينقلب الانسحاب إلى هزيمة، كما سهل عليه مهمة سحب الساقة التي سترت انسحاب القسم الأكبر من قوات المسلمين وذلك بعد أن اطمأن إلى أن القسم الأكبر من قواته قد وصل إلى مأمنه. ومع ذلك لم يكن سحب الساقة سهل، لأنها كانت بتماس شديد بالعدو،من جهة، ولأنها كانت تشغل منطقة واسعة من الأرض من جهة أخرى. )) القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم د / عبد الله محمد الرشيد
* عمرو بن العاص:
هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم القرشي السهمي. أبو عبد الله. أرسلته قريش إلى الحبشة ليطلب من النجاشي تسليمه المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وإعادتهم إلى مكة فلم يستجب له النجاشي ورده. أسلم سنة ثمان للهجرة هووخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، وقدموا إلى المدينة مسلمين. ولاه عمر بن الخطاب قيادة جيوش فلسطين والأردن بعد موت يزيد بن أبي سفيان، ثم سيره لفتح مصر فافتتحه، وأقرَّه الخليفة عثمان عليه، ثم عزله عنها.
* الجانب العسكري في حياة القائد عمرو بن العاص
تحلى عمرو بن العاص رضي الله عنه بصفات قيادية أهلته لهذا المنصب حتى أصبح من كبار القادة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهم.
وقد توافرت في عمرو الصفات القيادية الآتية:
الشجاعة، والرأي السديد والعقل الراجح، وبُعد النظر، والقدرة على جمع المعلومات، والماضي الناصع المجيد، واتخاذ القرارات الصحيحة وتنفيذها في الوقت المناسب،
ومن المباديء العسكرية التي طبقها عمرو بن العاص الحرص على تطوير القدرة الحركية، والشدة على أعداء المسلمين، وادخار القوى، وخفة الحركة.... ( القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم د / عبد الله محمد الرشيد ) بإيجاز شديد
في مجال العلوم العسكرية أهم الإنجازات
إنجازات العسكرية الإسلامية في التاريخ:
يقول اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ:
إن أعظم الأدلة التي تبرز النتائجَ التي حققتها العسكرية الإسلامية شهادةُ التاريخ.. فلقد حققت الجيوش الإسلامية من المهام والإنجازات ما أصبح من الحقائق التاريخية التي لا تُنَازَع والتي نذكر منها على سبيل المثال:
* أولاً – تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية:
وهذا ما حققه جيش الإسلام في عصر النبوة، الذي حارب فيه المسلمون أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم، وكانوا في كل معاركهم يواجهون عدواً متفوقاً عليهم في العَدَدِ والعُدَّة، لكن نصر الله كان حليفهم.
* ثانياً – الفتوحات الإسلامية:
وفي أقل من مائة عام امتدت الفتوحات الإسلامية من حدود الصين شرقاً إلى شاطئ الأطلسي غرباً، وقد بلغ عدد القادة الفاتحين في أيام الفتح الإسلامي ستة وخمسين ومائتي قائد (256) منهم ستة عشر ومائتان (216) من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم مؤسس المدرسة العسكرية الإسلامية ومعلمها الأول، وأربعون من التابعين بإحسان رضي الله عنهم.
ولو أردنا أن نلخص ما ينطوي عليه هذا الإنجاز العظيم في تاريخ المسلمين في كلمة واحدة؛ فإننا نقول: إن معناه الواضح هو أن »العسكرية الإسلامية« قد هزمت كلا من العسكرية الفارسية والعسكرية البيزنطية.
* ثالثاً – إتقان الحرب البحرية:
ولقد أتقن العرب – أبناء البادية – بناء الأساطيل وفنون الحرب البحرية، وبلغوا درجة من الكفاية استطاعوا بها هزيمة أسطول بيزنطة وهو أعظم قوة بحرية في زمانهم. يقول ابن خلدون: »إن المسلمين تغلبوا على لجة بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) وإن أساطيلهم سارت فيها جائية وذاهبة من صقلية إلى تونس، والرومان والصقالبة والفرنجة تهرب أساطليهم أمام البحرية العربية، ولا تحاول الدنو من أساطيل المسلمين التي ضريت عليه كضراء الأسد على فريسته«.
* رابعاً – القدرة على الحرب في جبهتين:
ومن أعظم إنجازات العسكرية الإسلامية أن الأمة الإسلامية الناشئة استطاعت أن تفتح جبهتين، وأن تدير دفة الحرب في كل منهما بكل كفاية واقتدار، وكان ذلك في مواجهة أعظم قوتين عالميتين في ذلك الوقت هما فارس وبيزنطة.. وذلك مثل فريد في التاريخ الحربي لم تبلغه أقوى الأمم وأعظمها خبرة في الحروب..
فالمعروف من وجهة نظر فن الحرب أن الحرب في جبتهين من أصعب المواقف التي تواجه القيادة، فهي تنطوي على مشكلات بالغة الصعوبة والتعقيد وتتطلب كفاية إلى أقصى حد في الإدراة والتخطيط والقتال، ويكفي أن نعلم أن العسكرية الألمانية لم تهزم في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إلا حين فتح الحلفاء أمامها جبهة ثانية للقتال.
* خامساً – إتقان كل أشكال العمليات الحربية:
ولقد أثبت المسلمون عملياً أنهم – طبقاً للمعايير المقررة في العلم العسكري – قادرون على القيام بجميع العمليات الحربية على اختلاف أشكالها ومستوياتها بكفاية عالية مثل الدفاع والهجوم والمطاردة والانسحاب والقتال في المدن والقرى ومهاجمة المواقع الحصينة والحصار واقتحام الأسوار وعبور الأنهار ومسير الاقتراب الطويل وأعمال الوقاية والحراسة وأعمال المخابرات والحرب النفسية ومفارز (دوريات) الاستطلاع والقتال والإغارة.. الخ.
ويقول كلاوس فيتز: »يمكن للقوات العسكرية المدربة جيداً أن تقوم بجميع الأعمال الحربية..«
* سادساً – الحرب فوق مختلف أنواع الأراضي:
والمعروف أن أساليب القتال تختلف طبقاً لطبيعة الأرض التي يجري فوقها القتال، فهناك مثلاً فرق كبير بين القتال في الأراضي الصحراوية والقتال في الأراضي الزراعية وهكذا.. ويحتاج كل نوع من هذه الأراضي إلى إعداد خاص للقوات التي تقاتل عليه من حيث التدريب والتسليح وتشكيلات القتال..
ولقد أثبت المسلمون قدرتهم الفائقة على القتال فوق مختلف أنواع الأراضي، فلقد حاربوا فوق الأراضي الصحراوية والجبلية والزراعية، وحاربوا داخل المدن والقرى وواجهوا الموانع المائية كالأنهار فعبروها، هذا فضلاً عن الحرب البحرية.
* سابعاً – مواجهة كل أشكال التنظيم الحربي:
حارب المسلمون أشكالاً مختلفة من أشكال التنظيم الحربي؛ فقد واجهوا الجيوش المنظمة وغير المنظمة، وحتى الجيوش المنظمة لم تكن على نمط واحد من التنظيم، فبدهي أن تنظيم جيوش فارس كان مختلفاً عن تنظيم جيوش بيزنطة، فضلاً عن اختلاف نظريات كل جيش في إدارة المعارك. وعلى الرغم مما ينطوي عليه ذلك من مشاكل معقدة فإن المسلمين استطاعوا أن يقهروا أعداءهم على اختلاف تنظيماتهم.. كذلك أثبت المسلمون قدرتهم وكفايتهم في إدارة البلاد المفتوحة وهو أمر ينطوي على الكفاية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية بالإضافة إلى الكفاية العسكرية..
* دراسة العسكرية الإسلامية واجب حضاري أرأيت عظمة الإنجازات العسكرية الإسلامية؟!!
أليس في كل ذلك ما يستحق الدراسة على النحو الذي يتكافأ وقدر هذه الأمة وبطولاتها الخالدة؟
أليس من الأمور الغريبة التي تلفت النظر أن رجال العسكرية في كثير من الدول العربية والإسلامية لا يدرسون إلا ما يُنقَل إليهم من الغرب أو الشرق من نظريات حربية وأعمال قادة وتاريخ حربي؟!!
إن أخطر ما يترتب على ذلك من آثار هو أن يرسخ في الأذهان الاعتقاد الخاطئ بأنه ليس للإسلام نظريات حربية، ولا أعمال قادة، ولا تاريخ حربي يستحق الدراسة، وهو أمر لا تخفى بواعثه على الفطن »والمؤمن كيّس فطن«، فإن ترسيخ هذا الاعتقاد هو جانب من الحرب الحضارية التي تستهدف طمس معالم الحضارة الإسلامية، ومنع قيامها من جديد، كما تستهدف طمس معالم العسكرية الإسلامية التي هي بحق أحد الجوانب الرائدة من حضارة الإسلام.
من أجل ذلك فإن واجب الأمة الإسلامية وهي تسعى نحو بناء نهضتها الحضارية الشاملة أن تتصدى لكل محاولة تستهدف تحويل أبنائها عن مقوماتهم الأساسية وقطعهم عن كل ما هو أصيل من حياتهم، وتحويل اتجاهاتهم بعيداً عن كل ما يتصل بالقيم والدين والأخلاق والكيان النفسي الذاتي.. يقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: »كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني إنها شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها«. مجلة الأمة، العدد الرابع، ربيع الآخر 1401 هـ موقع الفسطاط
وإذا تجاوزنا ما قدمه المسلمون من إسهامات، وأفكار وخطط وأسلحة مبتكرة وأدوات حرب، ووقفنا أمام أضخم وأعظم إنجاز حربي قدمه المسلمون للعالم ولدينهم، حتى وإن ظل أعداء الإسلام يعتبرونه سقطة تاريخية من وراء حقد دفين، إنها الفتوحات الإسلامية للبلدان، فكم حرر الإسلام من شعوب عاشت تحت سير طغيان حكامها، وقهرهم وتحكمهم!! ويكفي ما كان يبديه الإسلام في فتوحاته من معاملة طيبة لأهل الكتاب المسلمين، ليتعرف العالم على السبب الذي يجعلنا نسمي هذه الفتوحات إنجازات إنسانية قبل أن تكون إنجازات حربية.. لقد استطاع المسلمون نشر دينهم من الفتوحات بأقل عدد من القتلى على الجانبين، ولو تخيلت شعوب مصر وليبيا والمغرب و غيرها من دول شمال إفريقية أنفسها بدون فتح إسلامي لصار مآلهم إلى الاستعماريين، ومبددي الثروات، وغاصبي الأرض، الذين ما كانوا يمارسون ضد شعوبهم سوى العنف والقهر والعمل بالسخرة إلى أن جاء الإسلام ورحبت به الشعوب من أجل الإنقاذ، فحماهم الإسلام وقدَّم مبادئه التي لا يختلف اثنان على موضوعيتها وسماحتها.
أما على مستوى التسليح لم يقدم المسلمون ابتكاراً أو اختراعاً حربياً للعالم في قيمة اختراع البارود وتقديم شكل أولي للمدفع.
يقر بذلك رينو وفافيه بأن البارود والمدفع اختُرِعا في سوريا أو في مصر، ويقول سيديو: إن المصريين استعملوا البارود في القرن الثالث عشر، ويؤيد آخرون هذا الرأي، حيث يقر جوانفيل فارس ومؤرخ الحملة الصليبية التي قادها لويس التاسع ضد مصر (1249 ـ 1250م) أن المسلمين كانوا يقذفونهم بالنار الإغريقية التي تحدث صوتاً كالرعد، والنار الإغريقية كانت معروفة قبل ذلك الوقت بخمسة قرون على الأقل وما كان استخدامها ليحدث رعباً كالذي أحدثه المسلمين لدى ملك الصليبيين لويس، مما يلوح بأن هذا الصوت وهذا السلاح ما كان إلا شيئاً جديداً، وأهم ما يذكر في هذا السياق كتاب (في الناريات) كتبه الحسن الرماح السوري حوالي سنة 1280م.
تحت عنوان "كتاب الفروسية والمناصب الحربية" وفيه أول شرح على مدار التاريخ لعملية تنقية نترات البوتاسيوم من الشوائب وهي العملية الجوهرية لصناعة البارود فضلاً عن المركبات الكثيرة التي شرحها والتي لها خاصية الانفجار، كل هذا يدل على معرفة المؤلف الأكيدة بالبارود باعتباره مادة متفجرة، ثم إن حسن الرماح وصف الزخيرة التي تُدَكُ في المدفع وبيّن نسبتها، قال: "تؤخذ عشرة دراهم من البارود، ودرهمان من الفحم، ودرهم ونصف من الكبريت، وتسحق جيداً حتى تصبح كالغبار، ويملأ منها ثلث المدفع فقط خوفاً من انفزاره، ويصنع الخراط من أجل ذلك مدفعاً من خشب تناسب جسامة فوهته، وتدك الزخيرة فيه بشدة ويضاف إليها إما بندق أو نبل، ثم تشعل ويكون قياس المدفع مناسباً لثقبه، فإذا كان عميقاً أكثرمن اتساع الفوهة كان ناقصاً.
وبهذا يكون المسلمون قد قدموا شكلاً أولياً للمدفع كما هو موجود بشكله الآن وإن كانت أشكاله قد تعددت. هذا بالإضافة إلى أن أول صورة للمدفع ظهرت في مخطوطة أوروبية هي مخطوطة لوالتر ميليميت تاريخها 1326م، توجد في كرايست تشرس ويقول بارتنجتون: إن نص المخطوطة لا يشير إلى المدفع، ولكن وجه المدفعجي يميل إلى السمرة.
وقد اشتُهِر أن هذه الصورة لعربي إشارة إلى ناقل الاختراع أو صاحبه.
* المخطوطات العسكرية الإسلامية " موقع إسلام ست "
لقد اهتم المسلمون بالدراسات العسكرية النظرية، وألفوا الكثير من المخطوطات في كل المجالات فمنها دراسات حول صناعة السلاح وتطويره، ومنها دراسات عن التدريب على السلاح واستعمالاته، ومنها دراسات عن الخطط العسكرية وفنون التعبئة وتحريك الجيوش.
وقد أحصى المؤرخ الاسلامي ابن النديم الكتب والمراجع في هذه المجالات فإذا بالتراث العلمي العسكري الإسلامي من أغنى المراجع في التاريخ، وقد كتب هذا الباب بعنوان (فيما كتب في الفروسية وحمل آلات الحرب والتدبير الحربي)
* ويتكون هذا التراث العلمي من قسمين: قسم ألفه العرب والمسلمون وقسم مترجم نقلوه عن الفرس والروم والهنود، فمن الكتب المترجمة عن الاغريقية كتاب "فن الحركات الحربية" لمؤلفه إليانوس الإغريقي. وهناك كتب ترجمت عن الدولة الرومانية (4) مثل كتاب Taktikon، " عن التكتيك الحربي لمؤلفه ليون السادس وكتاب Stratigikon،وهو عن الإستراتيجية لمؤلفه ككاومنوس في القرن العاشر الميلادي.
أما المؤلفات العربية فهي نوعان: نوع يدخل في كتب التاريخ والأدب العربي وفيه وصف لمعارك الاسلام، مع توضيح للخطط الحربية والتدبير العسكري ومُلابسات المعارك،ومن ذلك كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة "والعقد الفريد" لابن عبدربه "وسراج الملوك " للطرطوشي.
وهناك أيضا المؤلفات المتخصصة في علوم الحرب: فمن ذلك كتب في الرمي بالنبال وإصابة الهدف، وأخرى في صفات الأسلحة وأساليب استعمالها مثل "كتاب الدبابات والمنجنيقات "، وكتب في الخيل والفروسية والعناية بالخيل مثل كتاب "فضل الخيل " لمؤلفه الفارس الإسلامي عبد المؤمن الدمياطي وكتاب "رشحات المداد في الصافنات الجياد".
- كذلك هناك مخطوطات في الخطط الحربية أو الخدعة مثل كتاب "الحيل والمكايد" وكتب التدريب التعبوي ككتاب "أدب الحرب " وكتب عن "فتح الحصون والمدائن وتربيض الكمائن " وكتب عن "توجيه الجواسيس والطلائع والسرايا ".
والكثير من هذا المخطوطات التي عددها ابن النديم قد فقدت من العالم العربي، ومنها النادر الموجود في مكتبات أوروبا حيث تُرْجِم عدة مرات واستفادوا منها قرونا طويلة. فمن أهم هذه المراجع مؤلفات القائد العسكري الإسلامي حسن الرَّمَّاح الذي توفي في سوريا 1294 م وقد ألف كتاب "الفروسية والمكائد الحربية" وكتاب "نهاية السؤل والأمنية في تعلم الفروسية" ومن أهم كتبه كتاب (غاية المقصود من العلم والعمل) وهو كتاب عن صناعة البارود وتحضيره وتنقيته من الشوائب. ويلمح سارتون في كتابه (مقدمة الى تاريخ العلم) الى أن روجر باكون قد نقل صناعة البارود من هذا الكتاب، ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى مخطوط إسلامي (6) عسكري هام ظهر أخيرا في مراكش يعود الى سنه 1583 ومؤلف هذا الكتاب هو "ابراهيم بن أحمد بن غانم بن محمد بن زكريا" وكان إبراهيم هذا من بقايا مسلمي الأندلس الذين أخفوا إسلامهم.. وعندما علم الاسبان بأمره،طردوه الى مراكش بعد أن قضى في سجونهم سبع سنوات.. وكان إبراهيم خبيرا بالمدفعية وبصناعة.. وقد ورث هذا العلم أبا عن جد منذ عصور الاندلس، اما الكتاب فاسمه (العز والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع) ويعتبر هذا الكتاب أول كتاب من نوعه في التاريخ متخصص في صناعة المدافع وحدها، وفيه يصف مؤلفه صناعة المدافع ابتداء من عصور الإسلام الى استعمالها وتطويرها في الجيوش الإسبانية، وقد وصف الكتاب اثنين وثلاثين نوعا من المدافع المختلفة الأحجام والصناعة والأغراض، ووصف أنواع الحجارة وأحجامها التي يقذفها المدفع،ووصف صناعة المدفع وطريقة وزنه بميزان خاص للتأكد من دقة إصابته للهدف،ثم يختم هذا المخطوط ببيان طريف بعنوان عن (تذويب المدفع اذا كان ثقيلا كي لا يغنمه الاعداء) والكتاب محلى بالصور العلمية التوضحية الملونة.. ولا تقتصر أهمية هذا المخطوط على ما فيه من معلومات قيمة عن المدفعية في إسبانيا في مرحلة التحول عن الإسلام. ولكنه يعتبر آخر صيحة من أحد بقايا مسلمي الأندلس الى العالم الإسلامي كله تدعوه الى اليقظة وإعداد السلاح المتطور لمواجهة أعداء الاسلام عملا بقوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" حتى لا يواجهوا مصير أهل الأندلس من الإبادة الجماعية وفي ذلك يقول في مقدمة كتابه:
"ما قصدت به نفعا دنيويا، بل الإخلاص لله تعالى راجيا أن يصل إلى جميع بلاد المسلمين؛ ليحصل به النفع ويحصل لهم الأجر عند الله سبحانه وتعالى بتفريج المسلمين بإتقان أعمالهم وتخويف أعدائهم الكافرين."
أبرز خصائص المذهب العسكري الإسلامي
* أ - قدم هذا المذهب وأصالته: فقد ظهر المذهب العسكري منذ بداية الفتوح قبل أربعة عشر قرن، واستمر في تطوره حتى الأزمنة الحديثة، دونما انقطاع. ولقد عملت بعض المذاهب العسكرية الحديثة على ربط مذاهبها الحديثة بجذور قديمة ولعلها نجحت في ذلك، غير أن هناك انقطاع زمني بين التطبيقات والتجارب القديمة وبين التكوين الحديث لتلك المذاهب العسكرية. في حين بقي المذهب العسكري الإسلامي مستمرا في تطوره عبر البُعدين: الجغرافي والزماني.
* ب - تنوع تجاربه القتالية: فقد عرف المذهب العسكري عبر استمراره وتطوره جميع أنواع الحروب: النظامية والأهلية والثورية، وإذا كانت ( وقعة الجمل سنة 36 هـ 656 م )، ( ووقعة صفين سنة 37 هـ 657م ) تمثل النموذج المبكر للحروب الأهلية. فإن حرب عبد الملك بن مروان ضد عبد الله بن الزبير سنة 72 هـ 692 م لم تكن بدورها إلا حربا أهلية. كذلك لم تكن عملية انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين إلا نوعا من الحرب الأهلية. وكان المتحاربون في هذه الحروب يرفعون راية المنافسة لتطبيق الشريعة الإسلامية على أهل الإسلام وفي ديار الإسلام. فكان المذهب العسكري الإسلامي وتطبيقاته قاسما مشتركا بين الأطراف المتحاربة. ولقد عرف العصر العباسي بدوره حروبا أهلية كثيرة. كما عرف الحكم الأموي في الأندلس. وكما عرفتها الدولة العثمانية بعدئذ ( حروب العثمانيين ضد الصفويين في بلاد فارس ). وكانت عامة المسلمين تقف إلى جانب السلطة الشرعية حفاظا على الطاعة والجماعة، والتزاما بقوله تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ". وتجدر الإشارة إلى أن قادة الحروب الثورية في الأزمنة الحديثة قد حرصوا في معظم الأحيان على تنظيم ( المحاكم الشرعية ) لمحاكمة المنحرفين عن منهج الثورة الإسلامية، ومحاكمة عملاء العدو وجواسيسه، والحكم وفقا لشريعة الله، واحقاقا للحق والعدل، ولتجنب الظلم.
* جـ - القدرة على التطور: والمذهب العسكري الإسلامي بعد ذلك مميز من حيث قدرته على التطور. فقد بدأ تكوين المذهب العسكري في عصر الأسلحة البيضاء ( ما قبل الأسلحة النارية ) واستمر تطوره عندما ظهرت الأسلحة الحديثة ( المدفعية، الهندسية ) وظهر ذلك بشكل واضح أيام العثمانيين، حيث أمكن استيعاب التطورات الحديثة في تنظيم الأسلحة البرية والبحرية وقد جرى ذلك التطور أخذا والتزاما بالآية الكريمة " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ".
* د - الاعتماد على مباديء الحرب: لقد اعتمد المذهب العسكري الإسلامي منذ نشأته الأولى وخلال مراحل تطوره على ( مباديء الحرب ) وفقا لما تمت صياغتها والتعبير عنها في الأزمنة الحديثة. وقد يكون من المثير ملاحظة أن لكل مبدأ من تلك المباديء جذوره العميقة في معظم التجارب القتالية التي خاضها المسلمون: فالمباغتة والمبادأة، واستخدام القدرة الحركية للهجوم والمناورة، وحماية المؤخرات، وأمن القوات، والحرص على الإمداد تبرز جميعها واضحة خلال عمليات الفتح الأولى، كما تظهر تطوراتها عبر مسيرة الأعمال القتالية خلال كل مراحل التاريخ.
وكان ( التاريخ العسكري ) هو المدرسة التي حفظت للمذهب العسكري تجاربه بصورة دقيقة مما سمح للقادة المسلمين الذين كانوا يتناقلون الخبرات في بداية أمرهم عن طريق التواتر ومن جيل إلى جيل، ثم جاء المؤرخون المسلمون فسجلوا بأمانة مثيرة دقائق الأعمال القتالية فكان ذلك عاملا مهما في تطوير المذهب العسكري عبر التجارب الذاتية. كذلك كان لأدب الحرب ( الشعر خاصة ) دوره في تطوير المذهب العسكري الإسلامي. وهو ما يتطابق في الأزمنة الحديثة مع ما يتم تسجيله في ( يوميات الحرب الوثائقية ) من جهة، علاوة على ما تتضمنه المذكرات الشخصية للقادة من جهة أخرى. وما من حاجة للقول إن هذا النهج الذي يعتمده الباحثون في الأزمنة الحديثة لدراسة تطور فن الحرب. إذ لم تظهر كتابات وأبحاث ( كلاوزفيتز - وجيميني -وليدل هارت - وفوللر - وفوش ) وسواهم إلا من خلال المادة التاريخية وإلا من خلال ما يمكن استخلاصه من أدب الحرب باعتباره تسجيلا أمينا للأحداث - ولو كان من زاوية خاصة -. تبقى هناك ظاهرة مهمة في المذهب العسكري الإسلامي، هي أنه ما من قائد ألزم نفسه بقواعد الشريعة الإسلامية وحرص على تطبيق المذهب العسكري الإسلامي إلا وكان النصر حليفه، وإذا ما أمكن تجاوز الجيل الأول من قادة الفتوح، فهناك أسماء كثيرة تبدو متشابهة في فضائله، متطابقة في طبيعته، ومن تلك الأسماء مثالا لا حصر: يمين الدولة محمود بن سبكتكين ( ت سنة 421 هـ 1030م ) وكانت له فتوحاته الكثيرة في الهند، والسلطان السلجوقي ألب أرسلان ( 420 - 465 هـ 1029 - 1072م ) قائد معركة ملاذكرد الشهيرة، وأمير المرابطين يوسف بن تاشفين ( 410 - 500 هـ 1019 - 1106 م ) الذي أنقذ الأندلس في معركة الزلاقة، وأمير الموحدين يعقوب المنصور ( 554 - 595 هـ 1160 - 1198 م ) الذي قاد المسلمين في الأندلس وخاض معركة الأرك الحاسمة، ونور الدين زنكي ( الشهير بالشهيد ) ( 509 - 569 ه، 1115 - 1173 م ) الذي أعاد تنظيم المسلمين وحرر إمارة (الرها) من الفرنج، ووحد بلاد الشام ومصر ضد الفرنج الصليبيين، وصلاح الدين الأيوبي ( 532 - 589 ه،1137 - 1193م ) الذي اشتهر بمعركة (حطين) الخالدة وبتحرير القدس وكانت له وقائع كثيرة ضد الفرنج، ومن بعد المظفر قطز ( ت 658 هـ 1259 م ) الذي اقترن اسمه بمعركة عين جالوت وهزيمة المغول ( التتار )، والظاهر بيبرس ( 607 - 676 ه، 1210 - 1272 م ) الذي كان له دوره في طرد الفرنج من معظم بلاد الشام، وأمثالهم كثير، كانوا جميعا أعلاما في فن الحرب، وفي تطوير المذهب العسكري الإسلامي.
وبعدُ ؛ فما كان للمذهب العسكري الإسلامي أن يأخذ أبعاده الزمنية المستمرة، وخصائصه المميزة لولا تلك الجموع من المجاهدين في سبيل الله الذين تعاقبوا جيلا بعد جيل، وهم يتوارثون فضائل الجهاد ويلتزمون بفريضته، ويختارون الشهادة ابتغاء رضوان الله، وأملا في مثوبته، وتصديقا بوعده الحق. (( المذاهب العسكرية في العالم: بسام العسلي ص 31 وما بعدها ))
* ومما تتميز به العسكرية الإسلامية أيضا الإنسانية:
وأنسنة الحرب ـ( مصطلح استخدم في الأدبيات العسكرية، بمعنى: مراعاة العامل الإنساني في الحروب بما يخفف من آثارها التدميرية، ويتجنبها قدر الإمكان، ويعني فيما يعنيه: الالتزام بالاتفاقيات الدولية حول تجنب ايذاء المدنيين، وحسن معاملة الأسرى) ـ في الإسلام
بعد هجرة النبي للمدينة بدأت الحروب الإسلامية بمعركة بدر، ثم تتالت المعارك والغزوات بإشرافه وقيادته، فكانت تلك المعارك معيناً لا ينضب في ترسيخ مبادئ الإدارة العسكرية التي غدت منهاجاً حربياً لدى المسلمين.
وقد جمع الرسول كل الشمائل القيادية، والسياسية، والإدارية، والإنسانية؛ مستمداً إياها من الوحي الإلهي الذي يتنزل عليه. ومن إيمانه بالله تعالى الذي أعطاه القوة، والثبات، والشجاعة، ودرايته بمبادئ الحرب، والعلم العسكري، وكان وفياً لعهوده ومواثيقه، يعمل الفكر، ويستمحص الرأي؛ ليخلص إلى التخطيط الجيد، والتنظيم المثالي، ولم يرَ في الحرب أبداً وسيلة للسلطة، أو الانتقام؛ بل أرادها وسيلة لردع الطغاة، ونشر مبادئ العدل، والخير، والسلام، التي جاء بها الإسلام الحنيف، فنهج منهجاً يتجنب اللجوء إلى الحرب في حال وجود وسائل أخرى تؤدي الغاية التي من أجلها بعث إلى كافة الناس رسولاً ونبياً؛ ليبلغ دين الله تعالى؛ فإذا ما تحققت الغاية فيجب التوقف عن الحرب، وفي جميع الأحوال يجب أن تقتصر أعمال الحرب على المقاتلين، دون المدنيين، فكان أول من وضع مبادئ أنسنة الحروب التي فشلت المعاهدات الدولية، وجهود المنظمات الإنسانية المعنية في العصر الحديث فيها، ومن تلك المبادئ الإسلامية في أنسنة الحروب:
* الإنذار قبل القتال:
أدرك النبي ما للحروب من آثار تدميرية، فأوجب على المسلمين عدم قطع سبل تجنبها مهما كانت قوتهم، وضمانهم النصر على الأعداء، ومن هذه السبل: دعوة العدو وإنذاره قبل القتال؛ وفي الإنذار تخيير للعدو بين القبول بمطالب المسلمين أو القتال، فإن لم تُلَبَّ كانت الحربُ، وهو ما فعله المسلمون في سرية عبد الرحمن بن عوف، وسرية خالد بن الوليد إلى دومة الجندل، وإلى بني الحارث؛ وقد اتبع النبي التخيير مع أغلب أعدائه، وكان يميل إليه، ويحب أن يرى الناس كلهم قد دخلوا الإسلام بدون قتال (1).
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أَمَّرَ أميراً على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزوا في سبيل الله باسم الله، قاتلوا كل من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، اُدْعُهُم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا فأخبرهم أن يكونوا كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين..."(2) إلى آخر ما كان يوصي به النبي أمراء الجيوش، وقادة السرايا وكلها تنطلق من رغبته عليه الصلاة والسلام في أن يتجنب المسلمون الحروب ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فإن خاضوها فلتكن بعيدة عن الحقد والتدمير، والإساءة للمدنيين، وبذلك كان من شرط الحرب: بلوغ الدعوة باتفاق، أي: لا يجوز حربهم حتى تبلغهم الدعوة، وذلك شيء متفق عليه عند المسلمين(3)، وقد أكد بعض الفقهاء على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام يحرم على المسلمين قتاله غرّة وبياتاً ؛ ويحرم أن نبدأهم بالقتال قبل إظهار الدعوة دعوة الإسلام لهم(4)، وقد أوضح القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة ذلك قائلاً: "لم يقاتل رسول الله فيما بلغنا قوماً قطُّ حتى يدعوهم إلى الإسلام"(5)؛ وقال الطبري: "أجمعت الحجة أن رسول الله لم يقاتل أعداءه من أهل الشرك إلا بعد إظهار الدعوة، وإقامة الحجة، وأنه كان يأمر السرايا بدعوة من لم تبلغه الدعوة"(6).
وقد حرص المسلمون على هذا المبدأ الإنساني حرصاً قوياً، وحافظوا على الوفاء به في كل قتالهم؛ بل صار شعاراً لهم؛ فكان نضالهم من أجل المباديء السامية التي جاء بها الإسلام؛ فحققوا الانتصارات المتتالية والكبيرة؛ مصرِّين في كل مرة على دعوة الأعداء إلى السلام، وتجنب الحرب بالدخول في الإسلام، أو الخضوع لسلطان المسلمين، والأمثلة أكثر من أن تحصى، منها: أن الرسول بعث إلى قريش أبا سفيان يدعوها إلى الإسلام يوم فتح مكة، رغم أن قريشاً كانت أول من عرف الدعوة الإسلامية، وعندما حاصر أحد الجيوش الإسلامية بقيادة سلمان الفارسي أحد القصور الفارسية؛ قال المسلمون له: يا أبا عبدالله، ألا ننهدُّ إليهم؟ فقال: دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله يدعو، فأتاهم فقال لهم: إنما أنا رجل منكم والعرب يطيعونني؛ فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا، وعليكم ما علينا؛ وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم وأعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، ورطن إليهم بالفارسية؛ فقالوا: ما نحن بالذي يعطي الجزية؛ ولكن نقاتلكم، فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا، ثم قال: انهدّوا إليهم. فانهدّ المسلمون إليهم وفتحوا القصر(6).
ومن مباديء الحرب عند الرسول التي اتبعها المسلمون في سائر حروبهم: أنه لابد قبل الشروع في القتال بعد الإنذار من مضي ثلاثة أيام تكرر فيها الدعوة، ولا يجوز البدء بالحرب إلا في اليوم الرابع مالم يُعاجَل الجيش الإسلامي بالقتال، أو يكون الجيش قليلاً، ويخشى أن يقاتل، وهو مانص عليه أغلب الأئمة؛ بينما قال الشافعية: إن الإمام له الخيار بحسب المصلحة؛ إما أن يكرر الإنذار أو لا يكرره(7).
وقد يسأل السائل: ألا يشكل الإنذار، وتكرار الدعوة ثلاثة أيام إلغاء لعنصر المباداة والمفاجأة التي هي من أسباب تحقيق النصر في المعركة؟ ثم أليست مدة الإنذار والدعوة هي إفساح المجال للأعداء؛ كي يتجهزوا، ويتحصنوا، ويجمعوا قوتهم؛ ليواجهوا بها المسلمين؟
في الواقع أن هذا السؤال بحد ذاته دليل على المنهج الإسلامي في أنسنة الحروب؛ فالإنذار توجهه القوات الإسلامية للطرف المستهدف وهي في أوج قوتها، وبإمكانها أن تحقق النصر بدون اللجوء للإنذار والدعوة، ولكن بما أن الحرب ليست هدفاً بحد ذاتها، بل الهدف هو نشر المباديء الإسلامية، فيجب أن يسعى القائد العسكري المسلم إلى تجنب الحرب، وعدم الحكم بالغيب، فقد يقبل الأعداء بما يطلبه الجيش المسلم؛ وبذلك يتم حقن الدماء الإنسانية، سواء كانت من دماء المسلمين أو الأعداء باعتبار أن للإنسان قيمة كبرى في الشريعة الإسلامية، وهذا مبدأ عام في أنسنة الحروب؛ فإذا ما قامت الحرب بإصرار الأعداء على رفضهم للدعوة والإنذار فللجيش المسلم أن يمارسها بما يحقق النصر له مستعملاً كل الفنون الحربية، ولكن مع الاستمرار في تجنب استهداف المدنيين، والمنشآت، والممتلكات المدنية؛ إلا في حدود ما تقتضيه المصلحة.
* معاملة الأسرى:
منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم فشلت الجهود الدولية في وضع أسس يتم تطبيقها في مجال معاملة الأسرى؛ فبقيت معاهدات لندن وجنيف حبراً على ورق، والحروب المعاصرة تكشف عن مجازر مهولة يتم ارتكابها بحق الأسرى، ومثالنا القريب: المقابر الجماعية التي تم الكشف عنها في البوسنة لآلاف المسلمين الذين أسرتهم القوات الصربية؛ وأغلبهم من المدنيين، ثم قامت بقتلهم بعد تعذيبهم بدون رحمة، وهكذا في كوسوفا، والشيشان، وأفغانستان، وفلسطين وغيرها، بينما يتفق المستشرقون المنصفون، والعلماء العسكريون على أن النبي كان أول من وضع أسساً إنسانية واضحة في معاملة الأسرى؛ فقد قبل الفداء من أسرى بدر؛ فمن لم يملك المال جعل فداءه أن يعلم عشرة من غلمان المسلمين، وفدى الأسيرين اللذين أُسِرَا في سرية عبدالله بن جحش.
لقد عامل الرسول الأسرى معاملة فيها رفق، وشفقة، وعناية، وإنسانية، وأوصى بهم خيراً، وعفا عنهم حين ظفر بهم، وأرخى وثاق أحدهم حين سمع أنينه، وكان نتيجة هذه المعاملة أن دخل أغلبهم في الإسلام؛ رغبة منهم في هذا الدين الجديد. ولقد حَضَّ القرآن الكريم على إطعام الأسير، وأوصى الرسول على إطعامه، فآثر المسلمون الأسرى على أنفسهم في الأكل، فكان عزيز بن عمير وهو أسير يأكل أطايب الطعام، أما الذين أسروه فيأكلون التمر وما تبقى، وكذلك فإن الأسير كان يُكسى الكساء المناسب؛ إذ أعطى النبي العباس قميصاً، وأعطى سفانة بنت حاتم الطائي كسوة ونفقة، ومنَّ عليها(8).
وكان لا يستكره الأسير على الإدلاء بالمعلومات العسكرية المحظورة، ولا يضربه إن أدلى بمعلومات كاذبة قاصداً بها خداع المسلمين، ولا يعذبه أبداً إن لم يدل على أسرار العدو، فإن أدلى بها فمن نفسه، وهذا السلوك الإنساني هو ما حاولت اتفاقية جنيف إلزام الجيوش به في العصر الحديث؛ إذ نصت اتفاقية لندن الموقعة عام 1954م على ضرورة عدم استخدام العنف، والإكراه، والتعذيب للحصول على معلومات عسكرية من الأسرى العسكريين، وجاء في المادة (14) من اتفاقية لاهاي لعام 1977م حول معاملة الأسرى العسكريين في الحروب ما يلي:
"يحق للجهة التي تأسر عسكريين أن تحصل على اسم الأسير، ورتبته، وتاريخ التحاقه بالخدمة العسكرية، ولا يحق للجهة الآسرة أن تحصل بالتعذيب، والإكراه، والتهديد، واستعمال العنف المادي والمعنوي على أية معلومات من الأسير تتعلق بأسرار الجيش الذي قاتل فيه..."(9)؛ ولكن بقي معظم هذه الاتفاقيات كلاماً نظرياً؛ في حين كان النبي أول من أحسن إلى أسرى حروبه، وكذلك فعل المسلمون من بعده في سائر حروبهم؛ مستمدين من تعاليم الإسلام العظيمة ما يفوق كل التنظيرات المعاصرة من اتفاقيات.
* الوفاء بالعهود:
ضمن منهجه العسكري الذي سعى إلى أنسنة الحروب ركز النبي على ضرورة احترام العهود والمواثيق؛ لما لهذا الاحترام من دور كبير في المحافظة على السلام وأهميته في فض المنازعات، وحل المشكلات، وتسوية الخلافات، وحقن الدماء، وما احترام العهود والمواثيق، والوفاء بها، وتحريم الغدر والخيانة إلا من أحكام الإسلام القطعية النافذة على الأفراد والجماعات، فقد أمر الله تعالى بها، فقال:" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " {المائدة: 1}، وقال: "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا" {الإسراء: 34}. وقد عد الله سبحانه من صفات المؤمنين: رعاية العهد، فقال: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون" {النحل: 91}. وقال: "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" {المؤمنون: 8}.
وقال النبي: "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؛ من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان"(10).
وبذلك كان شرط الوفاء بالعهد من الدعائم الأولى التي حافظت على كيان المسلمين وهيبتهم، وأدام لهم عزّتهم؛ وليس هناك من قانون في الدنيا يجعل احترام العهد نابعاً من الإيمان والعقيدة مثل الإسلام، وقد قال النبي: "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره"(11)، واعتبر الإسلام العهد اعتباراً تاماً، وأحكمه إحكاماً، حتى إن نقضه يعد من أكبر الإثم إلا أن ينقضه الطرف الآخر، أي المعاهد فيقابل بالمثل.
هذه التعاليم والأوامر حول الوفاء بالعهود التي طبقه، وأمر بها الرسول جعلت الثقة بالمسلمين في تعاملاتهم العسكرية كبيرة من قبل الأعداء والحلفاء، وتاريخ الفتوحات الإسلامية يوضح كيف أن كثيراً من الفتوحات تمت سلماً بعد أن أيقن الطرف الآخر أن الجيش الإسلامي حريص على احترام معاهداته، وعدم نقضها، حتى في الحالات التي يكون في نقضها تحقيق النصر السريع والحاسم له، فكان الطرف الآخر يدخلون في الإسلام طواعية، ويسلمون البلاد للمسلمين بعد أن تيقنوا بأن هؤلاء المسلمين لا يريدون الحرب، مع أنهم يمتلكون مقومات القوة فيها؛ بل يريدون السلم المبني على نشر مباديء الإسلام التي هي مبادئ الخير، والمحبة، والسلام.
إنها جوانب من أنسنة الحروب في الإسلام، كما طبقها الرسول والمسلمون من بعده، فقد بُعِثَ النبي للناس جميعاً، كما في قوله تعالى:" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" {الأعراف: 158}، وقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا" {سبأ: 28}. وقوله تعالى:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" {الأنبياء: 107} لا يفرق بين أحد منهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، فكانت حروبه كلها لغايات عالية؛ فلم تكن قاتلة تصيب البريء قبل المذنب كما في وقتنا الحاضر. ( موقع مجلة الجندي المسلم )
* نصائح المتخصصين:
لعلنا نلمح اليوم مدى تراجع الأمة الإسلامية على المستوى العسكري أو الحربي، وقد نجحت الحكومات العربية والإسلامية في وضع المتخصصين في هذا المجال في جو فكري معين يحمل في ثناياه تراجعاً في معنى الأمة والوحدة الإسلامية، ولكن يجب على المتخصصين أن يعيدوا -أولاً- معاني فقدوها على المستوى الفكري والعقدي هم في أشد الحاجة إليها الآن، فالمتخصصون العسكريون المسلمون عليهم العودة إلى نقطة البدء: لماذا نقاتل؟ لماذا نتعلم فنون الحرب؟ وأن يعيدوا الربط بين الهدف من العسكرية وبين مصالح أمتهم والتحديات التي تواجهها، وأن يتخلوا عن أفكار تحجم من دورهم..
وعلى المتخصصين العسكريين أيضاً أن يعيدوا نشاطات العرب والمسلمين إلى مستوى الابتكار والاختراع، فقد قَلَّ لدينا هذا النوع من العسكريين، وارتبط الجندي أو الضابط -فقط- بالعمليات العسكرية، لماذا لا يجتهد العرب في صناعة الأسلحة مرة أخرى؟ وفي إعادة روح الاختلاق والابتكار في هذا المجال مرة ثانية؟
لا ينكر أحد أننا في الإطار العسكري صرنا مستقبلين فقط لمخلفات اختراعات الحضارة الغربية بعد أن علمناهم صناعة البارود، والأسلحة النارية..
وعلى المتخصصين أيضاً أن يعيدوا ضرب الأمثلة البارعة في القيادة العسكرية، ولعلنا نجحنا بعض النجاح في هذا الإطار، ولكننا في حاجة أشد إلى ذلك، في حاجة إلى من يستكمل دورالشهيد عبد المنعم رياض والشهيد أحمد حمدي والصاغ محمود لبيب وكثيرين من القادة العسكريين الذين أرهقوا أعداءهم في العصر الحديث.
على المتخصصين العسكريين أن يعيدوا للعسكرية وضعها الصحيح، فَتَرَاجُعُ الأمة عسكرياً هي حقيقة مؤلمة عليهم أن يمحوها..
ظلت الاخلاق وستظل داعماً قوياً للجيوش ورمزاً طاهراً وعنواناً لطبيعة الجنود والقادة، ومن الأخلاق الرديئة التي سادت في جيوش أمتنا الإسلامية الأثرة والنظرة الشخصية، فعلى المتخصصين العسكريين أن يعيدوا معاني الإيثار والتضحية والفداء، فالناظر في شئون جيوشنا اليوم يجد الأفراد لا تبحث إلا عن مصالحها الشخصية والتقرب من القادة بغية ذلك. وأصبحت الجيوش في عالمنا العربي اليوم تدور حول شخص واحد، يسعى الكل من أجل إرضائه وكأن الجيش ملكية شخصية له، والكل يقبل بأي عيش وأي شأن من أجل رضا هذا الشخص عنه، ابتداءً من الجندي وانتهاء بأعلى الرتب، إن هذا الوضع يدفع الأمة نحو الاضمحلال بصورة أعمق مما هي عليه، يدفع الأمة إلى المزيد من انعدام الإرادة والحرية والكرامة. فإذا تَفَهَّم المتخصصون كل هذه المعاني، وعملوا على تعديل وضع جيوش الأمة بإعادة الإيثار ووضع مصالح الأمة في أعلى مقام، وإنزال الأشخاص منازلهم بلا مبالغة، والاقتداء بالنماذج العسكرية العظيمة من السابقين، عادت للأمة مكانتها العسكرية وسبقها الحربي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منقول من موقع : قصة الإسلام
(( الإسلام وتنظيم شئون الحرب:
الواقع أن الإسلام باعتباره حضارة كاملة، وأنه نظم كافة أمور الحياة ديناً ودنيا، قد عالج أمور الحرب باعتبارها ظاهرة اجتماعية، ووضع خير المناهج والمباديء بكل ما يتصل بها من حيث أهدافها وقوانينها وآدابها. والباحث المحقق لا يجد في الإسلام كل ما تحتويه النظريات العسكرية المعمول بها في الشرق أو الغرب فحسب، بل إنه ليكتشف بالتحليل والمقارنة أن نظريات الإسلام الحربية تتجاوز تلك النظريات وتتفوق عليها سواء من الناحية الفنية البحتة أو من حيث نبل المقاصد والأهداف.
وقد نشأت في المدينة بعد الهجرة أول مدرسة عسكرية في تاريخ العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدها ومعلمها الأول، وعلى أساس مباديء القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة القولية والعملية والتقريرية قامت نظريات العسكرية الإسلامية في مختلف شؤون الحرب والقتال، مثل: أسباب الحرب وأهدافها –آداب الحرب- بناء الجيش القوي – بناء المقاتل – إعداد القادة – التدريب على القتال – الحرب النفسية – المخابرات والأمن ومقاومة الجاسوسية – الانضباط والجندية وتقاليدها – بناء الروح المعنوية وإرادة القتال – إعداد الأمة للحرب – الصناعة الحربية واقتصاديات الحرب... الخ
* وهكذا تكوَّن أول جيش في تاريخ الإسلام والمسلمين، وتعلم رجاله في المدرسة العسكرية الإسلامية على يد قائدها ومعلمها الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذِنَ اللهُ لهم بالقتال طبّقوا ما تعلموه في المعركة؛ فكانوا مضرب الأمثال في الكفاية القتالية والشجاعة والعبقرية الحربية، وكانوا دائماً منصورين على أعدائهم بإذن الله، وجملة القول أن تنظيم الإسلام لأمور الحرب قامت عليه وعلى نظرياته المدرسةُ العسكرية الإسلامية كما قام أيضاً جيش الإسلام بقادته ورجاله، ودخل الجيش الإسلامي بوتقة الحرب....)) اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ.
وقد فرض الله عز وجل فريضة الجهاد في سبيله، وأمر المسلمين بحمل كره القتال واحتماله في سبيله، وهو في غنى عن قوة المسلمين فهو القوي العزيز، ولكن هذا التكليف لخير أمة أخرجت للناس إنما كان لصلاح الدنيا، ولهداية الناس لما فيه خيرهم وصلاح أمرهم في الدارين، ولم يترك الله عز وجل فريضة الجهاد حرة ولا محرومة من الضوابط الناظمة للفريضة والموجهة لها. فالحرب في الإسلام حتمية، والقتال من طبيعة الحياة على أرض الله، حتى ينتصر الحق على الباطل، وحتى تظهر الفضيلة على الرذيلة، ويعلو الخير على الشر، كما في قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهو فلا عدوان إلا على الظالمين"..
* هذه الآيات وغيرها تحدد منهجاً أو مذهباً إسلامياً عسكرياً واضح المعالم، فالقتال هو في سبيل الله، ولكن ليس عدواناً، وإنما هو فعل فالقتل هو العقاب العادل، وهو القصاص الحق، وإخراج المسلمين من ديارهم هو عدوان يفرض عليهم القتال حتى يتم لهم إخراج عدوهم من حيث أخرجهم.
ونظراً لارتباط هذه المبادئ بالإسلام كدين يشمل كل مظاهر الحياة نستطيع أن نقول إن بداية النهضة الإسلامية في مجال الحروب العسكرية بدأت مع اطلاق المشروع الإسلامي في النشر والدعوة، وفرض الجهاد على المسلمين من خلال الضوابط المذكورة في الوحي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه المحاربين بألا يقتلوا طفلاً ولا امرأة وألا يقطعوا شجراً وأن يخلُّو بين الراهب وعبادته..
فكان ذلك إضافة للإنسانية وضَوْءًا جديدًا في الطريق العسكري الذي لا يرتبط في أذهان الناس سوى بالقتل العشوائي والهمجي، ولم يكن ثمة تقنين لدى العرب أو غيرهم قبل الإسلام يحد من عشوائية القتل والتخريب أثناء الحروب فكان الإسلام ـ بحق ـ تطبيقاً عملياً لكل ماتحلم به الإنسانية وتتمناه في هذه المضمار..
وحدد الله عز وجل موقف المسلمين من الذين يعتدون عليهم ويخرجونهم من ديارهم بقوله:
" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون "
فإخراج المسلم من دياره من موجبات القتال؟ إذ إنه لولا اعتناقه للإسلام ما تعرض للعدوان وما تعرض للطرد..
وكذلك حَثَّ الله المسلمين أن يكون ردهم على نفس المستوى من العدوان فقال عز وجل:
"وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين"..
كذلك فقد أمر عز وجل بقتال فئة مسلمة انحرفت عن إجماع المسلمين، واعتبر ذلك إصلاحاً للمسلمين وذلك في قوله تعالى:
"وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم تُرحمون"..
هكذا دشن الفكر الإسلامي لمبادئ جديدة على حياة الناس مثلت بداية حضارة عسكرية تأخذ مساراً إيجابياً في الدفاع عن المجتمع وأرواح الأفراد.
ولا تعرف العدوان ( إن الله لا يحب المعتدين)، تلك الحضارة التي تجعل القتال في سبيل الله، وتجرد المحاربين من نزعاتهم الشخصية والطائفية، وتقدم للعالم أنموذجاً حياً للإنسانية الشاملة، والرحمة المفقودة، والمساواة الغائبة، والعدل المنشود..
هذا على المستوى التنظيري أو تقنين مسائل الحرب فكانت بحق نهضة المبادئ العسكرية في العالم.
أما على المستوى التطبيقي أو العملي فقد حارب المسلمون في بداية معاركهم بطريقة لا تختلف كثيراً عما عهده العرب، إلا أنهم نظموا الجيوش فبعد أن كان العرب قد اعتادوا على طريقة الكرِّ والفرِّ في الحروب، نظم الإسلام شأن الجيش، وعبأه بشكل إيجابي، فكانت المقدمة والوسط والجناحان والساقة، ويُعَدُّ استخدامُ الرسول صلى الله عليه وسلم للمنجنيق والدبابات في مطاردة فلول ثقيف تغيراً نوعياً في سياسة الحروب في ذلك العهد، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من استخدم المنجنيق في الإسلام، فكان المحاربون المسلمون يدخلون في جوف الدبابات ويزحفون بها إلى الحصن لينقبوه. كذلك كان خالد بن الوليد رضي الله عنه أول من استخدم حرب الأعصاب ضد الأعداء، ذلك أن المسلمين حين حاصروا قنسرين تحصن أهلها منهم، فأرسل إليهم خالد يقول: "لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا".. فألقوا السلم وفتحوا مدينتهم للمسلمين، كذلك كان استخدام النبي صلى الله عليه وسلم للحَسك (وهو شوك مدحرج لا يكاد أحد يمشي عليه إذا يبس ) نقلة جديدة في عالم الحروب، حيث أحاط به عسكره ليمنع العدو من جنده ولعلها لا تختلف كثيراً عن فكرة الأسلاك الشائكة..
كانت هذه مؤشرات بنهوض قام به المسلمون بوسائل وأسلحة جديدة -إلى جانب أفكارهم الحربية الجديدة- يؤذن بظهور طور جديد أو حقبة متطورة في عالم الحرب، وبالفعل تطور وضع المسلمين عسكرياً أيما تطوير...
أبرز القادة العسكريين
لم يحفل مجال تقدم فيه المسلمون وعلموه من خلاله العالم بقادة ورواد مثلما حفل المجال العسكري، فالقادة المسلمون العسكريون النبلاء لا يحصيهم عدد، ولا يحويهم إحصاء، وقد يكون ذلك راجعاً إلى كثرة الحروب والمواجهات التي واجهها المسلمون أثناء نشر دعوتهم، أمر للدفاع عن أنفسهم وديارهم.
فلن ينسى العالم أعلام الأمة الإسلامية من أمثال: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، والمثنى بن حارثة، والقعقاع بن عمرو، وقيس بن هبيرة، وعقبة بن نافع، وصلاح الدين الأيوبي، ومحمد الفاتح، وعبد الرحمن الداخل، ونور الدين محمود.. وغيرهم من عظماء العسكريين المسلمين الذين قادوا المعارك ببصيرة حربية مذهلة، واستطاعوا أن يجعلوا من الجهاد في سبيل الله تجارب عملية وتطبيقات فدائية يشيب لها قادة العدو.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خير النماذج العسكرية المسلمة على الإطلاق، فكان قائداً محنكاً وزعيماً عسكرياً فذاً، يشارك جنوده المعارك جنباً إلى جنب، ويشاروهم في أمورهم الحربية، ويكفينا ذكراً هنا أن هؤلاء القادة من أصحابه صلى الله عليه وسلم كانوا ثمرة تربيته وفكره وتوجيهه ومبادئه العسكرية الجهادية..
لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول هزيمة المسلمين في أحد إلى نصر سياسي وعسكري، ولو أن قائداً مكانه صلى الله عليه وسلم لَنَدَبَ حظه، أو لحاكَمَ الرماةَ محاكمة عسكرية قاسية، ولكنه لم يفعل ذلك فهو خير البشر، خرج في اليوم التالي لغزوة أحد واشترط ألا يخرج معه إلا من شَهِد أُحُداً، فما كان من قريش إلا أن انسحبت، فحفظ ماء وجه المسلمين ورُدَّتْ إلى المسلمين كرامتهم.
وموقفه صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين بعد أن فَرَّ جيشه ولم يثبت إلا هو وقلة لا تتجاوز المائة على أكثر التقديرات، فاستطاع بشجاعة القائد والفدائي أن يعيد جنوده إلى مضمار المعركة بعد أن غامر بحياته، ورفع صوته على مقربة من الأعداء منادي: "أنا النبي لا كذب أن، ابن عبد المطلب"؛ ليلتف حوله أصحابه وجنوده الكرام، ويعودوا بكل حماس وإصرار، ويحولوا الهزيمة إلى نصر.
فصلِّ الله وسلِّمْ على قائدنا وزعيمنا الكريم، فقد قاد صلى الله عليه وسلم ثماني وعشرين غزوةً مع جنده.
وإذا سألنا أنفسنا ما الذي دفع مفكراً أمريكياً مثل "مايكل هارت" أن يورد محمداً صلى الله عليه وسلم في صدارة كتابه "العظماء المائة"؟
سيكون جوابنا أن غير المسلمين من المنصفين لا يسعهم إلا أن يقدروا لنبي الإسلام قدره من باب الإنصاف لا أكثر.
وإذا انتقلنا إلى باقي القادة العسكريين المسلمين من بعد نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم لوجدنا قائدا قلما توفر إخلاصه وذكاؤه وحبه لجيشه وجنوده وأمته في قائد عسكري. إنه سيف الله المسلول:
* (( خالد بن الوليد
هو "أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة"، ينتهي نسبه إلى "مرة بن كعب بن لؤي" الجد السابع للنبي (صلى الله عليه وسلم) و"أبي بكر الصديق" رضي الله عنه.
وأمه هي "لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية"، وقد ذكر "ابن عساكر" – في تاريخه – أنه كان قريبًا من سن "عمر بن الخطاب".
أما أبوه فهو "عبد شمس الوليد بن المغيرة المخزومي"، وكان ذا جاه عريض وشرف رفيع في "قريش"، وكان معروفًا بالحكمة والعقل؛ فكان أحدَ حكام "قريش" في الجاهلية، وكان ثَريًّا صاحب ضياع وبساتين لا ينقطع ثمرها طوال العام.
* فارس عصره
تعلم خالد بن الوليد الفروسية كغيره من أبناء الأشراف، ولكنه أبدى نبوغًا ومهارة في الفروسية منذ وقت مبكر، وتميز على جميع أقرانه، كما عُرف بالشجاعة والجَلَد والإقدام، والمهارة وخفة الحركة في الكرِّ والفرِّ.
واستطاع "خالد" أن يثبت وجوده في ميادين القتال، وأظهر من فنون الفروسية والبراعة في القتال ما جعله فارس عصره بلا منازع. )) ( إسلام أون لاين )
(( شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء قتاله للمشركين أن خالد بن الوليد يتمتع بشخصية قيادية متميزة وفكر عسكري عميق، فكان يرجو أن يستفيد المسلمون من هذه الطاقة في حركة الجهاد الإسلامي؛ فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل عن خالد ؛ قال ابن سعد رحمه الله: ( وكان خالد من فرسان المشركين وأشدائهم... ثم قذف الله في قلبه حب الإسلام لما أراد الله به من الخير ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية مكة؛ فتغيب خالد؛ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاه؛ فقال: " أين خالد؟ " ثم قال: "... ما مثل خالد يجهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين؛ لكان خيرا له، ولقدمناه على غيره ")) القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: د / عبد الله محمد الرشيد
* وكان هذا من أسباب مجيء خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وقد كان سيدنا خالد ابن الوليد يتمتع بعقلية عسكرية فذة ونادرة مما أهله ليتبوأ هذه المكانة العالية في قيادة الجيوش الإسلامية،
* وقد ذكر صاحب كتاب ( القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ) الصفات القيادية التي كان يتحلى بها خالد بن الوليد رضي الله عنها ومنه:
القدرة على إصدار القرار الصحيح والسريع، والإدارة القوية الثابتة، وتحمل المسئولية، وثبات النفس، وبُعْد النظر، ومعرفة النفسيات والقابليات، والثقة والمحبة المتبادلة بينه وبين جنوده، وقوة الشخصية، والماضي المجيد الذي كان يتمتع به، والشجاعة والقابلية البدنية، ومعرفة وتطبيق مباديء القيادة والتي تتلخص في: اختيار المقصد وإدامته، والتعرض، والمباغتة، وحشد القوة، والاقتصاد بالمجهود، وتطبيق مبدأ الأمن من أجل المحافظة على سلامة قواته، والمرونة، والقدرة على تأمين التعاون بين صفوف قطعات الجيش من جهة، وبين تشكيلاتها التعبوية من جهة أخرى في يسر وسهولة، وإدامة المعنويات، ويقوم هذا المبدأ على دعامتين رئيسيتين هم: الثقة المتبادلة والإيمان الراسخ، والأمور الإدارية وخفة الحركة، والمحافظة على الهدف. القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم د / عبد الله محمد الرشيد ص 591 وما بعدها بتصرف.
* أحد مواقفه العسكرية الرائعة:
في غزوة مؤتة وبعد أن استشهد القواد الثلاثة (( قدَّر خالد رضي الله عنه بفكره العسكري المتميز خطورة الموقف الذي يتعرض له المسلمون في هذه المعركة، فآثر الانسحاب بالجيش دون أن يعلم الأعداء بهذا التدبير.
وقد ابتكر رضي الله عنه خطة حربية تقوم على الايهام والخداع، لتحقيق هذا الهدف. وقد ذكر أهل المغازي والسير تلك الخطة الحربية ولخصها أحد القادة العسكريين المعاصرين بأسلوب عسكري يبرز مدى ما يتمتع به خالد من عبقرية عسكرية متميزة.
قال اللواء الركن محمود شيت خطاب: لقد قاتل يومه قتالا شديد، فلما أظلم الليل غير نظام جيشه فجعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وكذلك فعل بالميمنة، والميسرة، أي أنه سحب جيشه من ساحة المعركة وأبقى ساقته تحمي الانسحاب، نشر هذه الساقة؛ ليحتل فرسانها مساحة شاسعة من الأرض، وأمرهم أن يحدثوا أصواتا مرتفعة بما لديهم من أبواق وطبول وأدوات حربية وإثارة الغبار بالخيل تدور بسرعة في دوائر ضيقة، كل ذلك جعل الروم لا يشعرون بانسحاب قوات القسم الأكبرمن المسلمين ليل، من جهة، ويعتقدون أن إمدادات قوية جاءتهم ليل، لهذا لم يقدم الروم على مطاردة المسلمين فَسَهَّلَ ذلك على خالد مهمته في سحب رجاله من ساحة المعركة بأمان، ودون أن ينقلب الانسحاب إلى هزيمة، كما سهل عليه مهمة سحب الساقة التي سترت انسحاب القسم الأكبر من قوات المسلمين وذلك بعد أن اطمأن إلى أن القسم الأكبر من قواته قد وصل إلى مأمنه. ومع ذلك لم يكن سحب الساقة سهل، لأنها كانت بتماس شديد بالعدو،من جهة، ولأنها كانت تشغل منطقة واسعة من الأرض من جهة أخرى. )) القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم د / عبد الله محمد الرشيد
* عمرو بن العاص:
هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم القرشي السهمي. أبو عبد الله. أرسلته قريش إلى الحبشة ليطلب من النجاشي تسليمه المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وإعادتهم إلى مكة فلم يستجب له النجاشي ورده. أسلم سنة ثمان للهجرة هووخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، وقدموا إلى المدينة مسلمين. ولاه عمر بن الخطاب قيادة جيوش فلسطين والأردن بعد موت يزيد بن أبي سفيان، ثم سيره لفتح مصر فافتتحه، وأقرَّه الخليفة عثمان عليه، ثم عزله عنها.
* الجانب العسكري في حياة القائد عمرو بن العاص
تحلى عمرو بن العاص رضي الله عنه بصفات قيادية أهلته لهذا المنصب حتى أصبح من كبار القادة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهم.
وقد توافرت في عمرو الصفات القيادية الآتية:
الشجاعة، والرأي السديد والعقل الراجح، وبُعد النظر، والقدرة على جمع المعلومات، والماضي الناصع المجيد، واتخاذ القرارات الصحيحة وتنفيذها في الوقت المناسب،
ومن المباديء العسكرية التي طبقها عمرو بن العاص الحرص على تطوير القدرة الحركية، والشدة على أعداء المسلمين، وادخار القوى، وخفة الحركة.... ( القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم د / عبد الله محمد الرشيد ) بإيجاز شديد
في مجال العلوم العسكرية أهم الإنجازات
إنجازات العسكرية الإسلامية في التاريخ:
يقول اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ:
إن أعظم الأدلة التي تبرز النتائجَ التي حققتها العسكرية الإسلامية شهادةُ التاريخ.. فلقد حققت الجيوش الإسلامية من المهام والإنجازات ما أصبح من الحقائق التاريخية التي لا تُنَازَع والتي نذكر منها على سبيل المثال:
* أولاً – تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية:
وهذا ما حققه جيش الإسلام في عصر النبوة، الذي حارب فيه المسلمون أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم، وكانوا في كل معاركهم يواجهون عدواً متفوقاً عليهم في العَدَدِ والعُدَّة، لكن نصر الله كان حليفهم.
* ثانياً – الفتوحات الإسلامية:
وفي أقل من مائة عام امتدت الفتوحات الإسلامية من حدود الصين شرقاً إلى شاطئ الأطلسي غرباً، وقد بلغ عدد القادة الفاتحين في أيام الفتح الإسلامي ستة وخمسين ومائتي قائد (256) منهم ستة عشر ومائتان (216) من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم مؤسس المدرسة العسكرية الإسلامية ومعلمها الأول، وأربعون من التابعين بإحسان رضي الله عنهم.
ولو أردنا أن نلخص ما ينطوي عليه هذا الإنجاز العظيم في تاريخ المسلمين في كلمة واحدة؛ فإننا نقول: إن معناه الواضح هو أن »العسكرية الإسلامية« قد هزمت كلا من العسكرية الفارسية والعسكرية البيزنطية.
* ثالثاً – إتقان الحرب البحرية:
ولقد أتقن العرب – أبناء البادية – بناء الأساطيل وفنون الحرب البحرية، وبلغوا درجة من الكفاية استطاعوا بها هزيمة أسطول بيزنطة وهو أعظم قوة بحرية في زمانهم. يقول ابن خلدون: »إن المسلمين تغلبوا على لجة بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) وإن أساطيلهم سارت فيها جائية وذاهبة من صقلية إلى تونس، والرومان والصقالبة والفرنجة تهرب أساطليهم أمام البحرية العربية، ولا تحاول الدنو من أساطيل المسلمين التي ضريت عليه كضراء الأسد على فريسته«.
* رابعاً – القدرة على الحرب في جبهتين:
ومن أعظم إنجازات العسكرية الإسلامية أن الأمة الإسلامية الناشئة استطاعت أن تفتح جبهتين، وأن تدير دفة الحرب في كل منهما بكل كفاية واقتدار، وكان ذلك في مواجهة أعظم قوتين عالميتين في ذلك الوقت هما فارس وبيزنطة.. وذلك مثل فريد في التاريخ الحربي لم تبلغه أقوى الأمم وأعظمها خبرة في الحروب..
فالمعروف من وجهة نظر فن الحرب أن الحرب في جبتهين من أصعب المواقف التي تواجه القيادة، فهي تنطوي على مشكلات بالغة الصعوبة والتعقيد وتتطلب كفاية إلى أقصى حد في الإدراة والتخطيط والقتال، ويكفي أن نعلم أن العسكرية الألمانية لم تهزم في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إلا حين فتح الحلفاء أمامها جبهة ثانية للقتال.
* خامساً – إتقان كل أشكال العمليات الحربية:
ولقد أثبت المسلمون عملياً أنهم – طبقاً للمعايير المقررة في العلم العسكري – قادرون على القيام بجميع العمليات الحربية على اختلاف أشكالها ومستوياتها بكفاية عالية مثل الدفاع والهجوم والمطاردة والانسحاب والقتال في المدن والقرى ومهاجمة المواقع الحصينة والحصار واقتحام الأسوار وعبور الأنهار ومسير الاقتراب الطويل وأعمال الوقاية والحراسة وأعمال المخابرات والحرب النفسية ومفارز (دوريات) الاستطلاع والقتال والإغارة.. الخ.
ويقول كلاوس فيتز: »يمكن للقوات العسكرية المدربة جيداً أن تقوم بجميع الأعمال الحربية..«
* سادساً – الحرب فوق مختلف أنواع الأراضي:
والمعروف أن أساليب القتال تختلف طبقاً لطبيعة الأرض التي يجري فوقها القتال، فهناك مثلاً فرق كبير بين القتال في الأراضي الصحراوية والقتال في الأراضي الزراعية وهكذا.. ويحتاج كل نوع من هذه الأراضي إلى إعداد خاص للقوات التي تقاتل عليه من حيث التدريب والتسليح وتشكيلات القتال..
ولقد أثبت المسلمون قدرتهم الفائقة على القتال فوق مختلف أنواع الأراضي، فلقد حاربوا فوق الأراضي الصحراوية والجبلية والزراعية، وحاربوا داخل المدن والقرى وواجهوا الموانع المائية كالأنهار فعبروها، هذا فضلاً عن الحرب البحرية.
* سابعاً – مواجهة كل أشكال التنظيم الحربي:
حارب المسلمون أشكالاً مختلفة من أشكال التنظيم الحربي؛ فقد واجهوا الجيوش المنظمة وغير المنظمة، وحتى الجيوش المنظمة لم تكن على نمط واحد من التنظيم، فبدهي أن تنظيم جيوش فارس كان مختلفاً عن تنظيم جيوش بيزنطة، فضلاً عن اختلاف نظريات كل جيش في إدارة المعارك. وعلى الرغم مما ينطوي عليه ذلك من مشاكل معقدة فإن المسلمين استطاعوا أن يقهروا أعداءهم على اختلاف تنظيماتهم.. كذلك أثبت المسلمون قدرتهم وكفايتهم في إدارة البلاد المفتوحة وهو أمر ينطوي على الكفاية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية بالإضافة إلى الكفاية العسكرية..
* دراسة العسكرية الإسلامية واجب حضاري أرأيت عظمة الإنجازات العسكرية الإسلامية؟!!
أليس في كل ذلك ما يستحق الدراسة على النحو الذي يتكافأ وقدر هذه الأمة وبطولاتها الخالدة؟
أليس من الأمور الغريبة التي تلفت النظر أن رجال العسكرية في كثير من الدول العربية والإسلامية لا يدرسون إلا ما يُنقَل إليهم من الغرب أو الشرق من نظريات حربية وأعمال قادة وتاريخ حربي؟!!
إن أخطر ما يترتب على ذلك من آثار هو أن يرسخ في الأذهان الاعتقاد الخاطئ بأنه ليس للإسلام نظريات حربية، ولا أعمال قادة، ولا تاريخ حربي يستحق الدراسة، وهو أمر لا تخفى بواعثه على الفطن »والمؤمن كيّس فطن«، فإن ترسيخ هذا الاعتقاد هو جانب من الحرب الحضارية التي تستهدف طمس معالم الحضارة الإسلامية، ومنع قيامها من جديد، كما تستهدف طمس معالم العسكرية الإسلامية التي هي بحق أحد الجوانب الرائدة من حضارة الإسلام.
من أجل ذلك فإن واجب الأمة الإسلامية وهي تسعى نحو بناء نهضتها الحضارية الشاملة أن تتصدى لكل محاولة تستهدف تحويل أبنائها عن مقوماتهم الأساسية وقطعهم عن كل ما هو أصيل من حياتهم، وتحويل اتجاهاتهم بعيداً عن كل ما يتصل بالقيم والدين والأخلاق والكيان النفسي الذاتي.. يقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: »كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني إنها شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها«. مجلة الأمة، العدد الرابع، ربيع الآخر 1401 هـ موقع الفسطاط
وإذا تجاوزنا ما قدمه المسلمون من إسهامات، وأفكار وخطط وأسلحة مبتكرة وأدوات حرب، ووقفنا أمام أضخم وأعظم إنجاز حربي قدمه المسلمون للعالم ولدينهم، حتى وإن ظل أعداء الإسلام يعتبرونه سقطة تاريخية من وراء حقد دفين، إنها الفتوحات الإسلامية للبلدان، فكم حرر الإسلام من شعوب عاشت تحت سير طغيان حكامها، وقهرهم وتحكمهم!! ويكفي ما كان يبديه الإسلام في فتوحاته من معاملة طيبة لأهل الكتاب المسلمين، ليتعرف العالم على السبب الذي يجعلنا نسمي هذه الفتوحات إنجازات إنسانية قبل أن تكون إنجازات حربية.. لقد استطاع المسلمون نشر دينهم من الفتوحات بأقل عدد من القتلى على الجانبين، ولو تخيلت شعوب مصر وليبيا والمغرب و غيرها من دول شمال إفريقية أنفسها بدون فتح إسلامي لصار مآلهم إلى الاستعماريين، ومبددي الثروات، وغاصبي الأرض، الذين ما كانوا يمارسون ضد شعوبهم سوى العنف والقهر والعمل بالسخرة إلى أن جاء الإسلام ورحبت به الشعوب من أجل الإنقاذ، فحماهم الإسلام وقدَّم مبادئه التي لا يختلف اثنان على موضوعيتها وسماحتها.
أما على مستوى التسليح لم يقدم المسلمون ابتكاراً أو اختراعاً حربياً للعالم في قيمة اختراع البارود وتقديم شكل أولي للمدفع.
يقر بذلك رينو وفافيه بأن البارود والمدفع اختُرِعا في سوريا أو في مصر، ويقول سيديو: إن المصريين استعملوا البارود في القرن الثالث عشر، ويؤيد آخرون هذا الرأي، حيث يقر جوانفيل فارس ومؤرخ الحملة الصليبية التي قادها لويس التاسع ضد مصر (1249 ـ 1250م) أن المسلمين كانوا يقذفونهم بالنار الإغريقية التي تحدث صوتاً كالرعد، والنار الإغريقية كانت معروفة قبل ذلك الوقت بخمسة قرون على الأقل وما كان استخدامها ليحدث رعباً كالذي أحدثه المسلمين لدى ملك الصليبيين لويس، مما يلوح بأن هذا الصوت وهذا السلاح ما كان إلا شيئاً جديداً، وأهم ما يذكر في هذا السياق كتاب (في الناريات) كتبه الحسن الرماح السوري حوالي سنة 1280م.
تحت عنوان "كتاب الفروسية والمناصب الحربية" وفيه أول شرح على مدار التاريخ لعملية تنقية نترات البوتاسيوم من الشوائب وهي العملية الجوهرية لصناعة البارود فضلاً عن المركبات الكثيرة التي شرحها والتي لها خاصية الانفجار، كل هذا يدل على معرفة المؤلف الأكيدة بالبارود باعتباره مادة متفجرة، ثم إن حسن الرماح وصف الزخيرة التي تُدَكُ في المدفع وبيّن نسبتها، قال: "تؤخذ عشرة دراهم من البارود، ودرهمان من الفحم، ودرهم ونصف من الكبريت، وتسحق جيداً حتى تصبح كالغبار، ويملأ منها ثلث المدفع فقط خوفاً من انفزاره، ويصنع الخراط من أجل ذلك مدفعاً من خشب تناسب جسامة فوهته، وتدك الزخيرة فيه بشدة ويضاف إليها إما بندق أو نبل، ثم تشعل ويكون قياس المدفع مناسباً لثقبه، فإذا كان عميقاً أكثرمن اتساع الفوهة كان ناقصاً.
وبهذا يكون المسلمون قد قدموا شكلاً أولياً للمدفع كما هو موجود بشكله الآن وإن كانت أشكاله قد تعددت. هذا بالإضافة إلى أن أول صورة للمدفع ظهرت في مخطوطة أوروبية هي مخطوطة لوالتر ميليميت تاريخها 1326م، توجد في كرايست تشرس ويقول بارتنجتون: إن نص المخطوطة لا يشير إلى المدفع، ولكن وجه المدفعجي يميل إلى السمرة.
وقد اشتُهِر أن هذه الصورة لعربي إشارة إلى ناقل الاختراع أو صاحبه.
* المخطوطات العسكرية الإسلامية " موقع إسلام ست "
لقد اهتم المسلمون بالدراسات العسكرية النظرية، وألفوا الكثير من المخطوطات في كل المجالات فمنها دراسات حول صناعة السلاح وتطويره، ومنها دراسات عن التدريب على السلاح واستعمالاته، ومنها دراسات عن الخطط العسكرية وفنون التعبئة وتحريك الجيوش.
وقد أحصى المؤرخ الاسلامي ابن النديم الكتب والمراجع في هذه المجالات فإذا بالتراث العلمي العسكري الإسلامي من أغنى المراجع في التاريخ، وقد كتب هذا الباب بعنوان (فيما كتب في الفروسية وحمل آلات الحرب والتدبير الحربي)
* ويتكون هذا التراث العلمي من قسمين: قسم ألفه العرب والمسلمون وقسم مترجم نقلوه عن الفرس والروم والهنود، فمن الكتب المترجمة عن الاغريقية كتاب "فن الحركات الحربية" لمؤلفه إليانوس الإغريقي. وهناك كتب ترجمت عن الدولة الرومانية (4) مثل كتاب Taktikon، " عن التكتيك الحربي لمؤلفه ليون السادس وكتاب Stratigikon،وهو عن الإستراتيجية لمؤلفه ككاومنوس في القرن العاشر الميلادي.
أما المؤلفات العربية فهي نوعان: نوع يدخل في كتب التاريخ والأدب العربي وفيه وصف لمعارك الاسلام، مع توضيح للخطط الحربية والتدبير العسكري ومُلابسات المعارك،ومن ذلك كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة "والعقد الفريد" لابن عبدربه "وسراج الملوك " للطرطوشي.
وهناك أيضا المؤلفات المتخصصة في علوم الحرب: فمن ذلك كتب في الرمي بالنبال وإصابة الهدف، وأخرى في صفات الأسلحة وأساليب استعمالها مثل "كتاب الدبابات والمنجنيقات "، وكتب في الخيل والفروسية والعناية بالخيل مثل كتاب "فضل الخيل " لمؤلفه الفارس الإسلامي عبد المؤمن الدمياطي وكتاب "رشحات المداد في الصافنات الجياد".
- كذلك هناك مخطوطات في الخطط الحربية أو الخدعة مثل كتاب "الحيل والمكايد" وكتب التدريب التعبوي ككتاب "أدب الحرب " وكتب عن "فتح الحصون والمدائن وتربيض الكمائن " وكتب عن "توجيه الجواسيس والطلائع والسرايا ".
والكثير من هذا المخطوطات التي عددها ابن النديم قد فقدت من العالم العربي، ومنها النادر الموجود في مكتبات أوروبا حيث تُرْجِم عدة مرات واستفادوا منها قرونا طويلة. فمن أهم هذه المراجع مؤلفات القائد العسكري الإسلامي حسن الرَّمَّاح الذي توفي في سوريا 1294 م وقد ألف كتاب "الفروسية والمكائد الحربية" وكتاب "نهاية السؤل والأمنية في تعلم الفروسية" ومن أهم كتبه كتاب (غاية المقصود من العلم والعمل) وهو كتاب عن صناعة البارود وتحضيره وتنقيته من الشوائب. ويلمح سارتون في كتابه (مقدمة الى تاريخ العلم) الى أن روجر باكون قد نقل صناعة البارود من هذا الكتاب، ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى مخطوط إسلامي (6) عسكري هام ظهر أخيرا في مراكش يعود الى سنه 1583 ومؤلف هذا الكتاب هو "ابراهيم بن أحمد بن غانم بن محمد بن زكريا" وكان إبراهيم هذا من بقايا مسلمي الأندلس الذين أخفوا إسلامهم.. وعندما علم الاسبان بأمره،طردوه الى مراكش بعد أن قضى في سجونهم سبع سنوات.. وكان إبراهيم خبيرا بالمدفعية وبصناعة.. وقد ورث هذا العلم أبا عن جد منذ عصور الاندلس، اما الكتاب فاسمه (العز والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع) ويعتبر هذا الكتاب أول كتاب من نوعه في التاريخ متخصص في صناعة المدافع وحدها، وفيه يصف مؤلفه صناعة المدافع ابتداء من عصور الإسلام الى استعمالها وتطويرها في الجيوش الإسبانية، وقد وصف الكتاب اثنين وثلاثين نوعا من المدافع المختلفة الأحجام والصناعة والأغراض، ووصف أنواع الحجارة وأحجامها التي يقذفها المدفع،ووصف صناعة المدفع وطريقة وزنه بميزان خاص للتأكد من دقة إصابته للهدف،ثم يختم هذا المخطوط ببيان طريف بعنوان عن (تذويب المدفع اذا كان ثقيلا كي لا يغنمه الاعداء) والكتاب محلى بالصور العلمية التوضحية الملونة.. ولا تقتصر أهمية هذا المخطوط على ما فيه من معلومات قيمة عن المدفعية في إسبانيا في مرحلة التحول عن الإسلام. ولكنه يعتبر آخر صيحة من أحد بقايا مسلمي الأندلس الى العالم الإسلامي كله تدعوه الى اليقظة وإعداد السلاح المتطور لمواجهة أعداء الاسلام عملا بقوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" حتى لا يواجهوا مصير أهل الأندلس من الإبادة الجماعية وفي ذلك يقول في مقدمة كتابه:
"ما قصدت به نفعا دنيويا، بل الإخلاص لله تعالى راجيا أن يصل إلى جميع بلاد المسلمين؛ ليحصل به النفع ويحصل لهم الأجر عند الله سبحانه وتعالى بتفريج المسلمين بإتقان أعمالهم وتخويف أعدائهم الكافرين."
أبرز خصائص المذهب العسكري الإسلامي
* أ - قدم هذا المذهب وأصالته: فقد ظهر المذهب العسكري منذ بداية الفتوح قبل أربعة عشر قرن، واستمر في تطوره حتى الأزمنة الحديثة، دونما انقطاع. ولقد عملت بعض المذاهب العسكرية الحديثة على ربط مذاهبها الحديثة بجذور قديمة ولعلها نجحت في ذلك، غير أن هناك انقطاع زمني بين التطبيقات والتجارب القديمة وبين التكوين الحديث لتلك المذاهب العسكرية. في حين بقي المذهب العسكري الإسلامي مستمرا في تطوره عبر البُعدين: الجغرافي والزماني.
* ب - تنوع تجاربه القتالية: فقد عرف المذهب العسكري عبر استمراره وتطوره جميع أنواع الحروب: النظامية والأهلية والثورية، وإذا كانت ( وقعة الجمل سنة 36 هـ 656 م )، ( ووقعة صفين سنة 37 هـ 657م ) تمثل النموذج المبكر للحروب الأهلية. فإن حرب عبد الملك بن مروان ضد عبد الله بن الزبير سنة 72 هـ 692 م لم تكن بدورها إلا حربا أهلية. كذلك لم تكن عملية انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين إلا نوعا من الحرب الأهلية. وكان المتحاربون في هذه الحروب يرفعون راية المنافسة لتطبيق الشريعة الإسلامية على أهل الإسلام وفي ديار الإسلام. فكان المذهب العسكري الإسلامي وتطبيقاته قاسما مشتركا بين الأطراف المتحاربة. ولقد عرف العصر العباسي بدوره حروبا أهلية كثيرة. كما عرف الحكم الأموي في الأندلس. وكما عرفتها الدولة العثمانية بعدئذ ( حروب العثمانيين ضد الصفويين في بلاد فارس ). وكانت عامة المسلمين تقف إلى جانب السلطة الشرعية حفاظا على الطاعة والجماعة، والتزاما بقوله تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ". وتجدر الإشارة إلى أن قادة الحروب الثورية في الأزمنة الحديثة قد حرصوا في معظم الأحيان على تنظيم ( المحاكم الشرعية ) لمحاكمة المنحرفين عن منهج الثورة الإسلامية، ومحاكمة عملاء العدو وجواسيسه، والحكم وفقا لشريعة الله، واحقاقا للحق والعدل، ولتجنب الظلم.
* جـ - القدرة على التطور: والمذهب العسكري الإسلامي بعد ذلك مميز من حيث قدرته على التطور. فقد بدأ تكوين المذهب العسكري في عصر الأسلحة البيضاء ( ما قبل الأسلحة النارية ) واستمر تطوره عندما ظهرت الأسلحة الحديثة ( المدفعية، الهندسية ) وظهر ذلك بشكل واضح أيام العثمانيين، حيث أمكن استيعاب التطورات الحديثة في تنظيم الأسلحة البرية والبحرية وقد جرى ذلك التطور أخذا والتزاما بالآية الكريمة " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ".
* د - الاعتماد على مباديء الحرب: لقد اعتمد المذهب العسكري الإسلامي منذ نشأته الأولى وخلال مراحل تطوره على ( مباديء الحرب ) وفقا لما تمت صياغتها والتعبير عنها في الأزمنة الحديثة. وقد يكون من المثير ملاحظة أن لكل مبدأ من تلك المباديء جذوره العميقة في معظم التجارب القتالية التي خاضها المسلمون: فالمباغتة والمبادأة، واستخدام القدرة الحركية للهجوم والمناورة، وحماية المؤخرات، وأمن القوات، والحرص على الإمداد تبرز جميعها واضحة خلال عمليات الفتح الأولى، كما تظهر تطوراتها عبر مسيرة الأعمال القتالية خلال كل مراحل التاريخ.
وكان ( التاريخ العسكري ) هو المدرسة التي حفظت للمذهب العسكري تجاربه بصورة دقيقة مما سمح للقادة المسلمين الذين كانوا يتناقلون الخبرات في بداية أمرهم عن طريق التواتر ومن جيل إلى جيل، ثم جاء المؤرخون المسلمون فسجلوا بأمانة مثيرة دقائق الأعمال القتالية فكان ذلك عاملا مهما في تطوير المذهب العسكري عبر التجارب الذاتية. كذلك كان لأدب الحرب ( الشعر خاصة ) دوره في تطوير المذهب العسكري الإسلامي. وهو ما يتطابق في الأزمنة الحديثة مع ما يتم تسجيله في ( يوميات الحرب الوثائقية ) من جهة، علاوة على ما تتضمنه المذكرات الشخصية للقادة من جهة أخرى. وما من حاجة للقول إن هذا النهج الذي يعتمده الباحثون في الأزمنة الحديثة لدراسة تطور فن الحرب. إذ لم تظهر كتابات وأبحاث ( كلاوزفيتز - وجيميني -وليدل هارت - وفوللر - وفوش ) وسواهم إلا من خلال المادة التاريخية وإلا من خلال ما يمكن استخلاصه من أدب الحرب باعتباره تسجيلا أمينا للأحداث - ولو كان من زاوية خاصة -. تبقى هناك ظاهرة مهمة في المذهب العسكري الإسلامي، هي أنه ما من قائد ألزم نفسه بقواعد الشريعة الإسلامية وحرص على تطبيق المذهب العسكري الإسلامي إلا وكان النصر حليفه، وإذا ما أمكن تجاوز الجيل الأول من قادة الفتوح، فهناك أسماء كثيرة تبدو متشابهة في فضائله، متطابقة في طبيعته، ومن تلك الأسماء مثالا لا حصر: يمين الدولة محمود بن سبكتكين ( ت سنة 421 هـ 1030م ) وكانت له فتوحاته الكثيرة في الهند، والسلطان السلجوقي ألب أرسلان ( 420 - 465 هـ 1029 - 1072م ) قائد معركة ملاذكرد الشهيرة، وأمير المرابطين يوسف بن تاشفين ( 410 - 500 هـ 1019 - 1106 م ) الذي أنقذ الأندلس في معركة الزلاقة، وأمير الموحدين يعقوب المنصور ( 554 - 595 هـ 1160 - 1198 م ) الذي قاد المسلمين في الأندلس وخاض معركة الأرك الحاسمة، ونور الدين زنكي ( الشهير بالشهيد ) ( 509 - 569 ه، 1115 - 1173 م ) الذي أعاد تنظيم المسلمين وحرر إمارة (الرها) من الفرنج، ووحد بلاد الشام ومصر ضد الفرنج الصليبيين، وصلاح الدين الأيوبي ( 532 - 589 ه،1137 - 1193م ) الذي اشتهر بمعركة (حطين) الخالدة وبتحرير القدس وكانت له وقائع كثيرة ضد الفرنج، ومن بعد المظفر قطز ( ت 658 هـ 1259 م ) الذي اقترن اسمه بمعركة عين جالوت وهزيمة المغول ( التتار )، والظاهر بيبرس ( 607 - 676 ه، 1210 - 1272 م ) الذي كان له دوره في طرد الفرنج من معظم بلاد الشام، وأمثالهم كثير، كانوا جميعا أعلاما في فن الحرب، وفي تطوير المذهب العسكري الإسلامي.
وبعدُ ؛ فما كان للمذهب العسكري الإسلامي أن يأخذ أبعاده الزمنية المستمرة، وخصائصه المميزة لولا تلك الجموع من المجاهدين في سبيل الله الذين تعاقبوا جيلا بعد جيل، وهم يتوارثون فضائل الجهاد ويلتزمون بفريضته، ويختارون الشهادة ابتغاء رضوان الله، وأملا في مثوبته، وتصديقا بوعده الحق. (( المذاهب العسكرية في العالم: بسام العسلي ص 31 وما بعدها ))
* ومما تتميز به العسكرية الإسلامية أيضا الإنسانية:
وأنسنة الحرب ـ( مصطلح استخدم في الأدبيات العسكرية، بمعنى: مراعاة العامل الإنساني في الحروب بما يخفف من آثارها التدميرية، ويتجنبها قدر الإمكان، ويعني فيما يعنيه: الالتزام بالاتفاقيات الدولية حول تجنب ايذاء المدنيين، وحسن معاملة الأسرى) ـ في الإسلام
بعد هجرة النبي للمدينة بدأت الحروب الإسلامية بمعركة بدر، ثم تتالت المعارك والغزوات بإشرافه وقيادته، فكانت تلك المعارك معيناً لا ينضب في ترسيخ مبادئ الإدارة العسكرية التي غدت منهاجاً حربياً لدى المسلمين.
وقد جمع الرسول كل الشمائل القيادية، والسياسية، والإدارية، والإنسانية؛ مستمداً إياها من الوحي الإلهي الذي يتنزل عليه. ومن إيمانه بالله تعالى الذي أعطاه القوة، والثبات، والشجاعة، ودرايته بمبادئ الحرب، والعلم العسكري، وكان وفياً لعهوده ومواثيقه، يعمل الفكر، ويستمحص الرأي؛ ليخلص إلى التخطيط الجيد، والتنظيم المثالي، ولم يرَ في الحرب أبداً وسيلة للسلطة، أو الانتقام؛ بل أرادها وسيلة لردع الطغاة، ونشر مبادئ العدل، والخير، والسلام، التي جاء بها الإسلام الحنيف، فنهج منهجاً يتجنب اللجوء إلى الحرب في حال وجود وسائل أخرى تؤدي الغاية التي من أجلها بعث إلى كافة الناس رسولاً ونبياً؛ ليبلغ دين الله تعالى؛ فإذا ما تحققت الغاية فيجب التوقف عن الحرب، وفي جميع الأحوال يجب أن تقتصر أعمال الحرب على المقاتلين، دون المدنيين، فكان أول من وضع مبادئ أنسنة الحروب التي فشلت المعاهدات الدولية، وجهود المنظمات الإنسانية المعنية في العصر الحديث فيها، ومن تلك المبادئ الإسلامية في أنسنة الحروب:
* الإنذار قبل القتال:
أدرك النبي ما للحروب من آثار تدميرية، فأوجب على المسلمين عدم قطع سبل تجنبها مهما كانت قوتهم، وضمانهم النصر على الأعداء، ومن هذه السبل: دعوة العدو وإنذاره قبل القتال؛ وفي الإنذار تخيير للعدو بين القبول بمطالب المسلمين أو القتال، فإن لم تُلَبَّ كانت الحربُ، وهو ما فعله المسلمون في سرية عبد الرحمن بن عوف، وسرية خالد بن الوليد إلى دومة الجندل، وإلى بني الحارث؛ وقد اتبع النبي التخيير مع أغلب أعدائه، وكان يميل إليه، ويحب أن يرى الناس كلهم قد دخلوا الإسلام بدون قتال (1).
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أَمَّرَ أميراً على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزوا في سبيل الله باسم الله، قاتلوا كل من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، اُدْعُهُم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا فأخبرهم أن يكونوا كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين..."(2) إلى آخر ما كان يوصي به النبي أمراء الجيوش، وقادة السرايا وكلها تنطلق من رغبته عليه الصلاة والسلام في أن يتجنب المسلمون الحروب ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فإن خاضوها فلتكن بعيدة عن الحقد والتدمير، والإساءة للمدنيين، وبذلك كان من شرط الحرب: بلوغ الدعوة باتفاق، أي: لا يجوز حربهم حتى تبلغهم الدعوة، وذلك شيء متفق عليه عند المسلمين(3)، وقد أكد بعض الفقهاء على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام يحرم على المسلمين قتاله غرّة وبياتاً ؛ ويحرم أن نبدأهم بالقتال قبل إظهار الدعوة دعوة الإسلام لهم(4)، وقد أوضح القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة ذلك قائلاً: "لم يقاتل رسول الله فيما بلغنا قوماً قطُّ حتى يدعوهم إلى الإسلام"(5)؛ وقال الطبري: "أجمعت الحجة أن رسول الله لم يقاتل أعداءه من أهل الشرك إلا بعد إظهار الدعوة، وإقامة الحجة، وأنه كان يأمر السرايا بدعوة من لم تبلغه الدعوة"(6).
وقد حرص المسلمون على هذا المبدأ الإنساني حرصاً قوياً، وحافظوا على الوفاء به في كل قتالهم؛ بل صار شعاراً لهم؛ فكان نضالهم من أجل المباديء السامية التي جاء بها الإسلام؛ فحققوا الانتصارات المتتالية والكبيرة؛ مصرِّين في كل مرة على دعوة الأعداء إلى السلام، وتجنب الحرب بالدخول في الإسلام، أو الخضوع لسلطان المسلمين، والأمثلة أكثر من أن تحصى، منها: أن الرسول بعث إلى قريش أبا سفيان يدعوها إلى الإسلام يوم فتح مكة، رغم أن قريشاً كانت أول من عرف الدعوة الإسلامية، وعندما حاصر أحد الجيوش الإسلامية بقيادة سلمان الفارسي أحد القصور الفارسية؛ قال المسلمون له: يا أبا عبدالله، ألا ننهدُّ إليهم؟ فقال: دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله يدعو، فأتاهم فقال لهم: إنما أنا رجل منكم والعرب يطيعونني؛ فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا، وعليكم ما علينا؛ وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم وأعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، ورطن إليهم بالفارسية؛ فقالوا: ما نحن بالذي يعطي الجزية؛ ولكن نقاتلكم، فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا، ثم قال: انهدّوا إليهم. فانهدّ المسلمون إليهم وفتحوا القصر(6).
ومن مباديء الحرب عند الرسول التي اتبعها المسلمون في سائر حروبهم: أنه لابد قبل الشروع في القتال بعد الإنذار من مضي ثلاثة أيام تكرر فيها الدعوة، ولا يجوز البدء بالحرب إلا في اليوم الرابع مالم يُعاجَل الجيش الإسلامي بالقتال، أو يكون الجيش قليلاً، ويخشى أن يقاتل، وهو مانص عليه أغلب الأئمة؛ بينما قال الشافعية: إن الإمام له الخيار بحسب المصلحة؛ إما أن يكرر الإنذار أو لا يكرره(7).
وقد يسأل السائل: ألا يشكل الإنذار، وتكرار الدعوة ثلاثة أيام إلغاء لعنصر المباداة والمفاجأة التي هي من أسباب تحقيق النصر في المعركة؟ ثم أليست مدة الإنذار والدعوة هي إفساح المجال للأعداء؛ كي يتجهزوا، ويتحصنوا، ويجمعوا قوتهم؛ ليواجهوا بها المسلمين؟
في الواقع أن هذا السؤال بحد ذاته دليل على المنهج الإسلامي في أنسنة الحروب؛ فالإنذار توجهه القوات الإسلامية للطرف المستهدف وهي في أوج قوتها، وبإمكانها أن تحقق النصر بدون اللجوء للإنذار والدعوة، ولكن بما أن الحرب ليست هدفاً بحد ذاتها، بل الهدف هو نشر المباديء الإسلامية، فيجب أن يسعى القائد العسكري المسلم إلى تجنب الحرب، وعدم الحكم بالغيب، فقد يقبل الأعداء بما يطلبه الجيش المسلم؛ وبذلك يتم حقن الدماء الإنسانية، سواء كانت من دماء المسلمين أو الأعداء باعتبار أن للإنسان قيمة كبرى في الشريعة الإسلامية، وهذا مبدأ عام في أنسنة الحروب؛ فإذا ما قامت الحرب بإصرار الأعداء على رفضهم للدعوة والإنذار فللجيش المسلم أن يمارسها بما يحقق النصر له مستعملاً كل الفنون الحربية، ولكن مع الاستمرار في تجنب استهداف المدنيين، والمنشآت، والممتلكات المدنية؛ إلا في حدود ما تقتضيه المصلحة.
* معاملة الأسرى:
منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم فشلت الجهود الدولية في وضع أسس يتم تطبيقها في مجال معاملة الأسرى؛ فبقيت معاهدات لندن وجنيف حبراً على ورق، والحروب المعاصرة تكشف عن مجازر مهولة يتم ارتكابها بحق الأسرى، ومثالنا القريب: المقابر الجماعية التي تم الكشف عنها في البوسنة لآلاف المسلمين الذين أسرتهم القوات الصربية؛ وأغلبهم من المدنيين، ثم قامت بقتلهم بعد تعذيبهم بدون رحمة، وهكذا في كوسوفا، والشيشان، وأفغانستان، وفلسطين وغيرها، بينما يتفق المستشرقون المنصفون، والعلماء العسكريون على أن النبي كان أول من وضع أسساً إنسانية واضحة في معاملة الأسرى؛ فقد قبل الفداء من أسرى بدر؛ فمن لم يملك المال جعل فداءه أن يعلم عشرة من غلمان المسلمين، وفدى الأسيرين اللذين أُسِرَا في سرية عبدالله بن جحش.
لقد عامل الرسول الأسرى معاملة فيها رفق، وشفقة، وعناية، وإنسانية، وأوصى بهم خيراً، وعفا عنهم حين ظفر بهم، وأرخى وثاق أحدهم حين سمع أنينه، وكان نتيجة هذه المعاملة أن دخل أغلبهم في الإسلام؛ رغبة منهم في هذا الدين الجديد. ولقد حَضَّ القرآن الكريم على إطعام الأسير، وأوصى الرسول على إطعامه، فآثر المسلمون الأسرى على أنفسهم في الأكل، فكان عزيز بن عمير وهو أسير يأكل أطايب الطعام، أما الذين أسروه فيأكلون التمر وما تبقى، وكذلك فإن الأسير كان يُكسى الكساء المناسب؛ إذ أعطى النبي العباس قميصاً، وأعطى سفانة بنت حاتم الطائي كسوة ونفقة، ومنَّ عليها(8).
وكان لا يستكره الأسير على الإدلاء بالمعلومات العسكرية المحظورة، ولا يضربه إن أدلى بمعلومات كاذبة قاصداً بها خداع المسلمين، ولا يعذبه أبداً إن لم يدل على أسرار العدو، فإن أدلى بها فمن نفسه، وهذا السلوك الإنساني هو ما حاولت اتفاقية جنيف إلزام الجيوش به في العصر الحديث؛ إذ نصت اتفاقية لندن الموقعة عام 1954م على ضرورة عدم استخدام العنف، والإكراه، والتعذيب للحصول على معلومات عسكرية من الأسرى العسكريين، وجاء في المادة (14) من اتفاقية لاهاي لعام 1977م حول معاملة الأسرى العسكريين في الحروب ما يلي:
"يحق للجهة التي تأسر عسكريين أن تحصل على اسم الأسير، ورتبته، وتاريخ التحاقه بالخدمة العسكرية، ولا يحق للجهة الآسرة أن تحصل بالتعذيب، والإكراه، والتهديد، واستعمال العنف المادي والمعنوي على أية معلومات من الأسير تتعلق بأسرار الجيش الذي قاتل فيه..."(9)؛ ولكن بقي معظم هذه الاتفاقيات كلاماً نظرياً؛ في حين كان النبي أول من أحسن إلى أسرى حروبه، وكذلك فعل المسلمون من بعده في سائر حروبهم؛ مستمدين من تعاليم الإسلام العظيمة ما يفوق كل التنظيرات المعاصرة من اتفاقيات.
* الوفاء بالعهود:
ضمن منهجه العسكري الذي سعى إلى أنسنة الحروب ركز النبي على ضرورة احترام العهود والمواثيق؛ لما لهذا الاحترام من دور كبير في المحافظة على السلام وأهميته في فض المنازعات، وحل المشكلات، وتسوية الخلافات، وحقن الدماء، وما احترام العهود والمواثيق، والوفاء بها، وتحريم الغدر والخيانة إلا من أحكام الإسلام القطعية النافذة على الأفراد والجماعات، فقد أمر الله تعالى بها، فقال:" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " {المائدة: 1}، وقال: "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا" {الإسراء: 34}. وقد عد الله سبحانه من صفات المؤمنين: رعاية العهد، فقال: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون" {النحل: 91}. وقال: "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" {المؤمنون: 8}.
وقال النبي: "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؛ من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان"(10).
وبذلك كان شرط الوفاء بالعهد من الدعائم الأولى التي حافظت على كيان المسلمين وهيبتهم، وأدام لهم عزّتهم؛ وليس هناك من قانون في الدنيا يجعل احترام العهد نابعاً من الإيمان والعقيدة مثل الإسلام، وقد قال النبي: "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره"(11)، واعتبر الإسلام العهد اعتباراً تاماً، وأحكمه إحكاماً، حتى إن نقضه يعد من أكبر الإثم إلا أن ينقضه الطرف الآخر، أي المعاهد فيقابل بالمثل.
هذه التعاليم والأوامر حول الوفاء بالعهود التي طبقه، وأمر بها الرسول جعلت الثقة بالمسلمين في تعاملاتهم العسكرية كبيرة من قبل الأعداء والحلفاء، وتاريخ الفتوحات الإسلامية يوضح كيف أن كثيراً من الفتوحات تمت سلماً بعد أن أيقن الطرف الآخر أن الجيش الإسلامي حريص على احترام معاهداته، وعدم نقضها، حتى في الحالات التي يكون في نقضها تحقيق النصر السريع والحاسم له، فكان الطرف الآخر يدخلون في الإسلام طواعية، ويسلمون البلاد للمسلمين بعد أن تيقنوا بأن هؤلاء المسلمين لا يريدون الحرب، مع أنهم يمتلكون مقومات القوة فيها؛ بل يريدون السلم المبني على نشر مباديء الإسلام التي هي مبادئ الخير، والمحبة، والسلام.
إنها جوانب من أنسنة الحروب في الإسلام، كما طبقها الرسول والمسلمون من بعده، فقد بُعِثَ النبي للناس جميعاً، كما في قوله تعالى:" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" {الأعراف: 158}، وقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا" {سبأ: 28}. وقوله تعالى:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" {الأنبياء: 107} لا يفرق بين أحد منهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، فكانت حروبه كلها لغايات عالية؛ فلم تكن قاتلة تصيب البريء قبل المذنب كما في وقتنا الحاضر. ( موقع مجلة الجندي المسلم )
* نصائح المتخصصين:
لعلنا نلمح اليوم مدى تراجع الأمة الإسلامية على المستوى العسكري أو الحربي، وقد نجحت الحكومات العربية والإسلامية في وضع المتخصصين في هذا المجال في جو فكري معين يحمل في ثناياه تراجعاً في معنى الأمة والوحدة الإسلامية، ولكن يجب على المتخصصين أن يعيدوا -أولاً- معاني فقدوها على المستوى الفكري والعقدي هم في أشد الحاجة إليها الآن، فالمتخصصون العسكريون المسلمون عليهم العودة إلى نقطة البدء: لماذا نقاتل؟ لماذا نتعلم فنون الحرب؟ وأن يعيدوا الربط بين الهدف من العسكرية وبين مصالح أمتهم والتحديات التي تواجهها، وأن يتخلوا عن أفكار تحجم من دورهم..
وعلى المتخصصين العسكريين أيضاً أن يعيدوا نشاطات العرب والمسلمين إلى مستوى الابتكار والاختراع، فقد قَلَّ لدينا هذا النوع من العسكريين، وارتبط الجندي أو الضابط -فقط- بالعمليات العسكرية، لماذا لا يجتهد العرب في صناعة الأسلحة مرة أخرى؟ وفي إعادة روح الاختلاق والابتكار في هذا المجال مرة ثانية؟
لا ينكر أحد أننا في الإطار العسكري صرنا مستقبلين فقط لمخلفات اختراعات الحضارة الغربية بعد أن علمناهم صناعة البارود، والأسلحة النارية..
وعلى المتخصصين أيضاً أن يعيدوا ضرب الأمثلة البارعة في القيادة العسكرية، ولعلنا نجحنا بعض النجاح في هذا الإطار، ولكننا في حاجة أشد إلى ذلك، في حاجة إلى من يستكمل دورالشهيد عبد المنعم رياض والشهيد أحمد حمدي والصاغ محمود لبيب وكثيرين من القادة العسكريين الذين أرهقوا أعداءهم في العصر الحديث.
على المتخصصين العسكريين أن يعيدوا للعسكرية وضعها الصحيح، فَتَرَاجُعُ الأمة عسكرياً هي حقيقة مؤلمة عليهم أن يمحوها..
ظلت الاخلاق وستظل داعماً قوياً للجيوش ورمزاً طاهراً وعنواناً لطبيعة الجنود والقادة، ومن الأخلاق الرديئة التي سادت في جيوش أمتنا الإسلامية الأثرة والنظرة الشخصية، فعلى المتخصصين العسكريين أن يعيدوا معاني الإيثار والتضحية والفداء، فالناظر في شئون جيوشنا اليوم يجد الأفراد لا تبحث إلا عن مصالحها الشخصية والتقرب من القادة بغية ذلك. وأصبحت الجيوش في عالمنا العربي اليوم تدور حول شخص واحد، يسعى الكل من أجل إرضائه وكأن الجيش ملكية شخصية له، والكل يقبل بأي عيش وأي شأن من أجل رضا هذا الشخص عنه، ابتداءً من الجندي وانتهاء بأعلى الرتب، إن هذا الوضع يدفع الأمة نحو الاضمحلال بصورة أعمق مما هي عليه، يدفع الأمة إلى المزيد من انعدام الإرادة والحرية والكرامة. فإذا تَفَهَّم المتخصصون كل هذه المعاني، وعملوا على تعديل وضع جيوش الأمة بإعادة الإيثار ووضع مصالح الأمة في أعلى مقام، وإنزال الأشخاص منازلهم بلا مبالغة، والاقتداء بالنماذج العسكرية العظيمة من السابقين، عادت للأمة مكانتها العسكرية وسبقها الحربي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منقول من موقع : قصة الإسلام
التعديل الأخير: