المنصور الموحدي
التعريف به ونشأته
أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي الملقب بالمنصور الموحدي.
ولد سنة 554هـ، ولاه أبوه الوزارة فاستفاد من ذلك معرفة بأحوال الناس وسياسة الحكم، ولما مات أبوه اجتمع الموحدون وبنو عبد المؤمن على توليته، فبايعوه وعقدوا له الولاية ولقبوه بالمنصور[1].
أهم المعارك ودوره فيها
(موقعة الرك)
غزا أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن، صاحب بلاد المغرب والأندلس، بلاد الفرنج بالأندلس؛ وسبب ذلك أن ألفنش ملك الفرنج بها، ومقر ملكه مدينة طليطلة، كتب إلى يعقوب كتابًا نسخته: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض؛ أما بعد أيها الأمير، فإنه لا يخفى على كل ذي عقل لازب، ولا ذي لب وذكاء ثاقب، إنك أمير الملة الحنيفية، كما أنا أمير الملة النصرانية، وأنك من لا يخفى عليه ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل، وإهمال الرعية، واشتمالهم على الراحات، وأنا أسومهم الخسف وأخلي الديار، وأسبي الذاراري، وأمثل بالكهول، وأقتل الشباب، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم، وقد أمكنتك يد القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفًا، فقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم، ونحن الآن نقاتل عددًا منكم بواحد منا، ولا تقدرون دفاعًا، ولا تستطيعون امتناعًا.ثم حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتمطل نفسك عامًا بعد عام، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، ولا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك.ثم حكي لي عنك أنك لا تجد سبيلاً للحرب لعلك ما يسوغ لك التقحم فيها، فها أنا أقول لك ما فيه الراحة، وأعتذر عنك، ولك أن توافيني بالعهود والمواثيق والأيمان أن تتوجه بجملة من عندك في المراكب والشواني، وأجوز إليك بجملتي وأبارزك في أعز الأماكن عندك، فإن كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك، وهدية مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحققت إمارة الملتين، والتقدم على الفئتين، والله يسهل الإرادة، ويوفق السعادة بمنه لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
فلما وصل كتابه وقرأه يعقوب كتب في أعلاه هذه الآية:
(ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون)
النمل 37،
وأعاده إليه، وجمع العساكر العظيمة من المسلمين وعبر المجاز إلى الأندلس.
وقيل: كان سبب عبوره إلى الأندلس أن يعقوب لما قاتل الفرنج سنة ست وثمانين وصالحهم، بقي طائفة من الفرنج لم ترض الصلح، كما ذكرناه، فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعًا من الفرنج، وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقتلوا وسبوا وغنموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثًا شديدًا، فانتهى ذلك إلى يعقوب، فجمع العساكر، وعبر المجاز إلى الأندلس في جيش يضيق عنهن الفضاء، فسمعت الفرنج بذلك، فجمعت قاصيهم ودانيهم، وأقبلوا إليه مجدين على قتاله، واثقين بالظفر لكثرتهم، فالتقوا، تاسع شعبان، شمالي قرطبة عند قلعة رياح، بمكان يعرف بمرج الحديد، فاقتتلوا قتالاً شديدًا، فكانت الدائرة أولاً على المسلمين، ثم عادت على الفرنج، فانهزموا أقبح هزيمة وانتصر المسلمون عليهم،
"وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
(التوبة: 40).
وكان عدد من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفًا، وأسر ثلاثة عشر ألفًا، وغنم المسلمون منهم شيئًا عظيمًا، فمن الخيام مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفًا، ومن الخيل ستة وأربعون ألفًا، ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير مائة ألف. وكان يعقوب قد نادى في عسكره: من غنم شيئًا فهو له سوى السلاح؛ وأحصى ما حمل إليه منه، فكان زيادة على سبعين ألف لبس، وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفًا.
ولما انهزم الفرنج اتبعهم أبو يوسف، فرآهم قد أخذوا قلعة رياح، وساروا عنها من الرعب والخوف، فملكها، وجعل فيها واليًا، وجندًا يحفظونها، وعاد إلى مدينة إشبيلية.
وأما ألفنش، فإنه لما انهزم حلق رأسه، ونكس صليبه، وركب حمارًا، وأقسم أن لا يركب فرسًا ولا بغلاً حتى تنصر النصرانية، فجمع جموعًا عظيمة، وبلغ الخبر بذلك إلى يعقوب، فأرسل إلى بلاد الغرب مراكش وغيرها يستنفر الناس من غير إكراه، فأتاه من المتطوعة والمرتزقين جمع عظيم، فالتقوا في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها، وتوجه إلى مدينة طليلطة فحصرها، وقاتلها قتالاً شديدًا، وقطع أشجارها، وشن الغارة على ما حولها من البلاد، وفتح فيها عدة حصون، فقتل رجالها، وسبى حريمها، وخرب دورها، وهدم أسوارها، فضعفت النصرانية حينئذ، وعظم أمر الإسلام بالأندلس، وعاد يعقوب إلى إشبيلية فأقام بها.
فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين سار عنها إلى بلاد الفرنج، وذلوا، واجتمع ملوكها، وأرسلوا يطلبون الصلح، فأجابهم إليه بعد أن كان عازمًا على الامتناع مريدًا لملازمة الجهاد إلى أن يفرغ منهم، فأتاه خبر علي بن إسحق الملثم الميورقي أنه فعل بإفريقية ما نذكره من الأفاعيل الشنيعة، فترك عزمه، وصاحلهم مدة خمس سنين، وعاد إلى مراكش آخر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة[2].
ووصفها صاحب كتاب نفح الطيب فقال: ومعركة الأرك تضاهي وقعة الزلاقة أو تزيد، والأرك موضع نواحي بطليوس وكانت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وغنم فيها المسلمون ما عظم قدره وكان عدة من قتل من الفرنج فيما قيل مائة ألف وستة وأربعين ألفًا، وعدة الأساري ثلاثين ألفًا، وعدة الخيام مائة ألف وخمسين ألف خيمة، والخيل ثمانين ألفًا، والبغال مائة ألف، والحمير أربعمائة ألف، جاء بها الكفار لحمل أثقالهم؛ لأنهم لا إبل لهم، وأما الجواهر والأموال فلا تحصى وبيع الأسير بدرهم والسيف بنصف درهم والفرس بخمسة دراهم والحمار بدرهم، وقسم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع[3].
وقال الشاعر أبو العباس الجراوي شاعر البلاط الموحدي في قصيدته واصفًا موقعة الأرك:
هو الفتح أعيى وصفه النظم والنثرا ... وعمَّت جميع المسلمين به البشرى
وأنجد في الدنيا وغار حديثه ... فراقت به حسنًا وطابت به نشرا
لقد أورد الأذفونش[4] شيعته الردى ... وساقهمُ جهلاً إلى البطشة الكبرى
حكى فعل إبليس بأصحابه الألى ... تبرَّأ منهم حين أوردهم بدرا
رأى الموت للأبطال حوليه ينتقي ... فطار إلى أقصى مصارعه ذعرا
ألوفٌ غدتْ مأهولة بهم الفلا ... وأمست خلاء منهمُ دورهم قفرا
ودارت رحى الهيجا عليهمْ فأصبحوا ... هشيمًا طحينًا في مهبِّ الصبا مذرى[5].
أخلاقه
لما نجا الفنش ملك النصارى إلى طليطلة في أسوإ حال فحلق رأسه ولحيته ونكس طليبه وآلا أن لا ينام على فراش ولا يقرب النساء ولا يركب فرسا ولا دابة حتى يأخذ بالثأر وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعد ثم لقيه يعقوب وهزمه وساقه خلف بلاده ولم يبق إلا فتحها فخرجت إليه والدة الأذفونش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه وسألنه إبقاء البلد عليهن فرق لهن ومن عليهن بها ووهب لهن من الأموال والجواهر ما جل وردهن مكرمات وعفا بعد القدرة وعاد إلى قرطبة فأقام شهرا يقسم الغنائم وجاءته رسل الفنش بطلب الصلح فصالحه وأمن الناس مدته وفيه يقول بعض شعراء عصره:
أهل بأن يُسْعى إليه ويرتجى ... ويزار من أقصى البلاد على الرجا
مَنْ قد غدا بالمكرمات مُقَلَّدًا ... وموشَّحا ومختَّمًا ومتوَّجا
عمرتْ مقاماتِ الملوكِ بذِكْرِهِ ... وتعطَّرت منه الرياح تأرّجا[6].
وفاته
توفي المنصور الموحدي في 22 ربيع الأول سنة 595هـ، وأوصى أن يُدفن على قارعة الطريق ليترحم عليه من يمر به، فرحمه الله وأحسن مثواه[7].
قالوا عنه
قال عنه علي بن حزمون:
حيتك معـطـرة الـنـفـس ... نفحات الفتـح بـأنـدلـس
فذر الكفـار ومـأتـمـهـم ... إن الإسلام لـفـي عـرس
أإمـام الـحـقِّ ونـاصـره ... وطهرت الأرض من الدنس!
وملأت قلوب النـاس هـدى ... فدنا التوفيق لمـلـتـمـس
ورفعت منار الـدين عـلـى ... عمد شـمٍّ وعـلـى أسـس
وصدعت رداء الكفر كـمـا ... صدع الديجور سنا قـبـس[8].
[1] موقع الشبكة الإسلامية، الرابط: http://www.islamweb.net/.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
[3] نفح الطيب 1/443، 444.
[4] (ألفونسو الثامن).
[5] الأبيات من الطويل، منتدى موقع التاريخ، الرابط: http://www.altareekh.com/vb/archive/...p/t-40161.html.
[6] الأبيات من الكامل، انظر: نفح الطيب 1/ 443، 444.
[7] موقع الشبكة الإسلامية، الرابط: http://www.islamweb.net/
[8] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب.
عن موقع قصة الاسلام
التعريف به ونشأته
أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي الملقب بالمنصور الموحدي.
ولد سنة 554هـ، ولاه أبوه الوزارة فاستفاد من ذلك معرفة بأحوال الناس وسياسة الحكم، ولما مات أبوه اجتمع الموحدون وبنو عبد المؤمن على توليته، فبايعوه وعقدوا له الولاية ولقبوه بالمنصور[1].
أهم المعارك ودوره فيها
(موقعة الرك)
غزا أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن، صاحب بلاد المغرب والأندلس، بلاد الفرنج بالأندلس؛ وسبب ذلك أن ألفنش ملك الفرنج بها، ومقر ملكه مدينة طليطلة، كتب إلى يعقوب كتابًا نسخته: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض؛ أما بعد أيها الأمير، فإنه لا يخفى على كل ذي عقل لازب، ولا ذي لب وذكاء ثاقب، إنك أمير الملة الحنيفية، كما أنا أمير الملة النصرانية، وأنك من لا يخفى عليه ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل، وإهمال الرعية، واشتمالهم على الراحات، وأنا أسومهم الخسف وأخلي الديار، وأسبي الذاراري، وأمثل بالكهول، وأقتل الشباب، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم، وقد أمكنتك يد القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفًا، فقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم، ونحن الآن نقاتل عددًا منكم بواحد منا، ولا تقدرون دفاعًا، ولا تستطيعون امتناعًا.ثم حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتمطل نفسك عامًا بعد عام، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، ولا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك.ثم حكي لي عنك أنك لا تجد سبيلاً للحرب لعلك ما يسوغ لك التقحم فيها، فها أنا أقول لك ما فيه الراحة، وأعتذر عنك، ولك أن توافيني بالعهود والمواثيق والأيمان أن تتوجه بجملة من عندك في المراكب والشواني، وأجوز إليك بجملتي وأبارزك في أعز الأماكن عندك، فإن كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك، وهدية مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحققت إمارة الملتين، والتقدم على الفئتين، والله يسهل الإرادة، ويوفق السعادة بمنه لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
فلما وصل كتابه وقرأه يعقوب كتب في أعلاه هذه الآية:
(ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون)
النمل 37،
وأعاده إليه، وجمع العساكر العظيمة من المسلمين وعبر المجاز إلى الأندلس.
وقيل: كان سبب عبوره إلى الأندلس أن يعقوب لما قاتل الفرنج سنة ست وثمانين وصالحهم، بقي طائفة من الفرنج لم ترض الصلح، كما ذكرناه، فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعًا من الفرنج، وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقتلوا وسبوا وغنموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثًا شديدًا، فانتهى ذلك إلى يعقوب، فجمع العساكر، وعبر المجاز إلى الأندلس في جيش يضيق عنهن الفضاء، فسمعت الفرنج بذلك، فجمعت قاصيهم ودانيهم، وأقبلوا إليه مجدين على قتاله، واثقين بالظفر لكثرتهم، فالتقوا، تاسع شعبان، شمالي قرطبة عند قلعة رياح، بمكان يعرف بمرج الحديد، فاقتتلوا قتالاً شديدًا، فكانت الدائرة أولاً على المسلمين، ثم عادت على الفرنج، فانهزموا أقبح هزيمة وانتصر المسلمون عليهم،
"وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
(التوبة: 40).
وكان عدد من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفًا، وأسر ثلاثة عشر ألفًا، وغنم المسلمون منهم شيئًا عظيمًا، فمن الخيام مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفًا، ومن الخيل ستة وأربعون ألفًا، ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير مائة ألف. وكان يعقوب قد نادى في عسكره: من غنم شيئًا فهو له سوى السلاح؛ وأحصى ما حمل إليه منه، فكان زيادة على سبعين ألف لبس، وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفًا.
ولما انهزم الفرنج اتبعهم أبو يوسف، فرآهم قد أخذوا قلعة رياح، وساروا عنها من الرعب والخوف، فملكها، وجعل فيها واليًا، وجندًا يحفظونها، وعاد إلى مدينة إشبيلية.
وأما ألفنش، فإنه لما انهزم حلق رأسه، ونكس صليبه، وركب حمارًا، وأقسم أن لا يركب فرسًا ولا بغلاً حتى تنصر النصرانية، فجمع جموعًا عظيمة، وبلغ الخبر بذلك إلى يعقوب، فأرسل إلى بلاد الغرب مراكش وغيرها يستنفر الناس من غير إكراه، فأتاه من المتطوعة والمرتزقين جمع عظيم، فالتقوا في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها، وتوجه إلى مدينة طليلطة فحصرها، وقاتلها قتالاً شديدًا، وقطع أشجارها، وشن الغارة على ما حولها من البلاد، وفتح فيها عدة حصون، فقتل رجالها، وسبى حريمها، وخرب دورها، وهدم أسوارها، فضعفت النصرانية حينئذ، وعظم أمر الإسلام بالأندلس، وعاد يعقوب إلى إشبيلية فأقام بها.
فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين سار عنها إلى بلاد الفرنج، وذلوا، واجتمع ملوكها، وأرسلوا يطلبون الصلح، فأجابهم إليه بعد أن كان عازمًا على الامتناع مريدًا لملازمة الجهاد إلى أن يفرغ منهم، فأتاه خبر علي بن إسحق الملثم الميورقي أنه فعل بإفريقية ما نذكره من الأفاعيل الشنيعة، فترك عزمه، وصاحلهم مدة خمس سنين، وعاد إلى مراكش آخر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة[2].
ووصفها صاحب كتاب نفح الطيب فقال: ومعركة الأرك تضاهي وقعة الزلاقة أو تزيد، والأرك موضع نواحي بطليوس وكانت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وغنم فيها المسلمون ما عظم قدره وكان عدة من قتل من الفرنج فيما قيل مائة ألف وستة وأربعين ألفًا، وعدة الأساري ثلاثين ألفًا، وعدة الخيام مائة ألف وخمسين ألف خيمة، والخيل ثمانين ألفًا، والبغال مائة ألف، والحمير أربعمائة ألف، جاء بها الكفار لحمل أثقالهم؛ لأنهم لا إبل لهم، وأما الجواهر والأموال فلا تحصى وبيع الأسير بدرهم والسيف بنصف درهم والفرس بخمسة دراهم والحمار بدرهم، وقسم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع[3].
وقال الشاعر أبو العباس الجراوي شاعر البلاط الموحدي في قصيدته واصفًا موقعة الأرك:
هو الفتح أعيى وصفه النظم والنثرا ... وعمَّت جميع المسلمين به البشرى
وأنجد في الدنيا وغار حديثه ... فراقت به حسنًا وطابت به نشرا
لقد أورد الأذفونش[4] شيعته الردى ... وساقهمُ جهلاً إلى البطشة الكبرى
حكى فعل إبليس بأصحابه الألى ... تبرَّأ منهم حين أوردهم بدرا
رأى الموت للأبطال حوليه ينتقي ... فطار إلى أقصى مصارعه ذعرا
ألوفٌ غدتْ مأهولة بهم الفلا ... وأمست خلاء منهمُ دورهم قفرا
ودارت رحى الهيجا عليهمْ فأصبحوا ... هشيمًا طحينًا في مهبِّ الصبا مذرى[5].
أخلاقه
لما نجا الفنش ملك النصارى إلى طليطلة في أسوإ حال فحلق رأسه ولحيته ونكس طليبه وآلا أن لا ينام على فراش ولا يقرب النساء ولا يركب فرسا ولا دابة حتى يأخذ بالثأر وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعد ثم لقيه يعقوب وهزمه وساقه خلف بلاده ولم يبق إلا فتحها فخرجت إليه والدة الأذفونش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه وسألنه إبقاء البلد عليهن فرق لهن ومن عليهن بها ووهب لهن من الأموال والجواهر ما جل وردهن مكرمات وعفا بعد القدرة وعاد إلى قرطبة فأقام شهرا يقسم الغنائم وجاءته رسل الفنش بطلب الصلح فصالحه وأمن الناس مدته وفيه يقول بعض شعراء عصره:
أهل بأن يُسْعى إليه ويرتجى ... ويزار من أقصى البلاد على الرجا
مَنْ قد غدا بالمكرمات مُقَلَّدًا ... وموشَّحا ومختَّمًا ومتوَّجا
عمرتْ مقاماتِ الملوكِ بذِكْرِهِ ... وتعطَّرت منه الرياح تأرّجا[6].
وفاته
توفي المنصور الموحدي في 22 ربيع الأول سنة 595هـ، وأوصى أن يُدفن على قارعة الطريق ليترحم عليه من يمر به، فرحمه الله وأحسن مثواه[7].
قالوا عنه
قال عنه علي بن حزمون:
حيتك معـطـرة الـنـفـس ... نفحات الفتـح بـأنـدلـس
فذر الكفـار ومـأتـمـهـم ... إن الإسلام لـفـي عـرس
أإمـام الـحـقِّ ونـاصـره ... وطهرت الأرض من الدنس!
وملأت قلوب النـاس هـدى ... فدنا التوفيق لمـلـتـمـس
ورفعت منار الـدين عـلـى ... عمد شـمٍّ وعـلـى أسـس
وصدعت رداء الكفر كـمـا ... صدع الديجور سنا قـبـس[8].
[1] موقع الشبكة الإسلامية، الرابط: http://www.islamweb.net/.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
[3] نفح الطيب 1/443، 444.
[4] (ألفونسو الثامن).
[5] الأبيات من الطويل، منتدى موقع التاريخ، الرابط: http://www.altareekh.com/vb/archive/...p/t-40161.html.
[6] الأبيات من الكامل، انظر: نفح الطيب 1/ 443، 444.
[7] موقع الشبكة الإسلامية، الرابط: http://www.islamweb.net/
[8] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب.
عن موقع قصة الاسلام