ماتريد معرفته عن رمضان المبارك

سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/لسان الذي يلحدون إليه أعجميّ


سلسلة رمضانيات

لسان الذي يلحدون إليه أعجميّ

الدكتور عثمان قدري مكانسي

منذ القديم وإلى هذه اللحظة يفتري الكافرون على نبي الإسلام ما يفترون ، ويدّعون ما يدّعون ، ويرمونه – عليه الصلاة والسلام – بأنه افترى هذا القرآن حين تعلّمه من غيره ! ومما يضحك له الإنسان – من ألمٍ – أن هذا الادعاء صبياني ، لا يقول به عاقل ، ومتى كان الكافرون عاقلين ؟. فالحجة التي بنَوَا عليها ادّعاءهم تافهة لا وزن لها – كبقية الاتهامات الأخرى – لكنّ تفاهة هذا الادّعاء ناتجة عن أن الصغير لا يقبل بها ، ويسخر من سردها .
فقد روى ابن إسحاق أنه كان في مكة فتى أعجميّ قرب الصفا ، يبيع بعض السلع البسيطة ، يمرّ عليه الرسول صلى اله عليه وسلم كما يمرّ عليه الناس ، ويكلمه كما يكلمه الآخرون ، ولم يكن هذا الأعجمي ينطق من العربية سوى كلمات وجمل يكاد لا يبينها ، ولا يُحسن نُطقها ، ادّعى كفار مكة أنه علّم النبيَّ عليه الصلاة والسلام القرآن والحكمة !!.
وعلى الرغم أنّ هذا الادّعاء لا وزن له إلا أنه ينبغي أن نشير إليه ، رادّين على تخرصات المتخرصين وادّعاء الكاذبين :
1- لو كان هذا الغلام ذا حكمة وفهم ما وضع نفسه في الموضع الذي هو فيه ، يمرّ عليه الجميع من كبار وصغار ، وينظر إليه الكثير نظرة ازدراء .
2- أنّى لهذا الفتى أن يعلّمَ رسول الله القرآن والحكمة – على فرَض وجودها عنده – وأداة التعليم واللغة وحسن البيان ليست فيه ؟! وفاقد الشيء لا يُعطيه .
3- كان أحرى بهذا الأعجميّ – الذي اتّصف بالعلم والحكمة على حد قول الكفار – أن ينسب القرآن إلى نفسه ، فيفخر بذلك على أهل مكة ومن حولها ، ويتبوّأ فيهم مركز الصدارة ، لا خانة النسيان !!.
4- ولِمَ تكاسلَ هؤلاء جميعاً ، فلَمْ يتعلّموا منه – إن صح زعمُهم – فأفادوا ، واستفادوا ، ونافسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته؟!!.
5- وعلى فرض أنه صلى الله عليه وسلم – حسب ادّعاء الكافرين – تعلّم من ذلك الأعجميّ القرآن والحكمة ، ثمّ صاغ ذلك بأسلوب عربي مبين ... أما كان أهلُ قريش – وهم أفصح العرب – أن يصوغوا الأفكار بقالب سامٍ من البلاغة ، مثَلُهم – في ذلك مثل النبي صلى الله عليه وسلم ؟!! لقد تحدّاهم القرآن أن يأتوا بمثله ، فعجَزوا ، وتحدّاهم أن يأتوا بعشر سور فقط من مثله ، فعجزوا أيضاً ، ثم تحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله فباءوا بالفشل .

صدق الله تعالى إذ يقول في الآية 103 من سورة النحل : " ولقد نعلم أنّهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يُلحدون إليه أعجميّ وهذا لسان عربيّ مبين "
أمة مشهورة بالبلاغة والفصاحة يأتيها رجل منهم بكلام من كلامهم ، ويتحدّاهم أن يكونوا مثله في حسن البلاغة والبيان ، فلا يستطيعون ، وينبهرون حين يتلو عليه الآيات القرآنية ، ثم يصمتون إعجاباً ... أحرى بها أن تصدّق أنه كلام الله المنزّل على رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولئن اجتمع المادّيّون الملحدون في روسيا الشيوعية عام أربعة وخمسين وتسع مئة وألف في مؤتمر المستشرقين يدّعون أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عمل فرد واحد – وهو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم – بل هو من عمل جماعة أدبية فكرية كبيرة ، وأنه لا يمكن أن يكون قد كُتِب في الجزيرة العربية وحدها ، بل إن بعض أجزائه قد كتبت خارج الجزيرة !!! .
إنّ هذا الافتراء الجاهلي في القرن العشرين أقل خطأ من افتراء الجاهلين في مكة إذ ذاك . ولا شك أن أقوال هؤلاء وهؤلاء خطأ كلها . . لكنّ جاهليي القرن العشرين أقرّوا أن رجلاً واحداً بل رجلين أو أكثر لا يستطيعون تأليف كتاب يتضمّن قواعد الحياة كلها وأسسها إلى يوم القيامة .
وغاب عن عقول ملاحدة القرن العشرين أن العالم كله – ماضيه وحاضره ومستقبله – لا يستطيع أن يأتي بمثله – إنسهم وجانّهم – لأنه كلام الله تعالى الذي " { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد(42) }(فصلت) " .

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/كم لبثتم في الأرض عدد سنين


سلسلة رمضانيات

كم لبثتم في الأرض عدد سنين

الدكتور عثمان قدري مكانسي

إنه لموقف عصيب لا يُحتمل ذلك الذي يوبخ فيه الله تعالى أولئك المشركين والكفار الذين حسروا أنفسهم في جهنم خالدين ، في سورة " المؤمنون " فالنار تلفح وجوههم ، وهم فيها كالحون ، والمليك سبحانه يؤنبهم لتكذيبهم آياته ورسله ، فيعترفون بخطئهم ، فلا يُقبل هذا الاعتراف الذي جاء بعد أوانه ، ويقرون بضلالهم وشقوتهم ، ثم يسألون الله تعالى أن يعيدهم إلى الدنيا ليعبدوه كما أمر فيأبى ذلك .

قال ابن كثير في هذا الموقف : هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار . يقول " اخسئوا فيها " وامكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء ، ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا فإنه لا جواب لكم عندي . وقال عبد الله بن عمرو قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثم يرد عليهم إنكم ماكثون . قال عبد الله بن عمرو : هانت دعوتهم والله على مالك ورب مالك . ثم يدعون ربهم فيقولون " ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " قال فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم " اخسئوا فيها ولا تكلمون " قال فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة واحدة وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم قال فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير، أوّلها زفير وآخرها شهيق .
وتسألهم الملائكة بعد ذلك : "كم لبثتم في الأرض عدد سنين " .. فالسؤال واضح لا لبس فيه ، إنه كم عشتم من السنوات في الأرض . فيكون جوابهم عجيباً لا يتناسب والسؤال لشدة ما يصيبهم من ضنك وألم وعذاب شديد ، فيقولون بالحرف الواحد " لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادّين " . لقد انقلبت سنوات حياتهم الدنيا بالنسبة لخلودهم في النار يوماً ، بل ساعات قصيرة ، ثم يعلمون أن ما عاشوه في الدنيا الفانية لا يساوي شيئاً مما يعانونه في جهنّم ، فيحيلون الجواب عن السؤال لمن كان معهم من الملائكة ، فهي التي تعرف الجواب الحقيقي . وهذا التعبير تصوير مخيف لما يلاقيه الكفار في عذاب جهنم حتى رأوا حياتهم في دنياهم لا تسوي سوى ساعاتٍ في خلودهم الطويل في النار والعياذ بالله .

نجد مثل هذا الرد في سورة الروم ، إذ يقول الله تعالى " وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) " فحين يطول يوم القيامة خمسين ألف سنة ، والمشركون تحت حر الشمس اللاهب ، والعرق يغمرهم ، فيقارنون بين هذا الموقف الطويل الشديد وبين حياتهم في الدنيا يرون قِصَر مقامهم فيها ، فيقسمون أنهم لم يعيشوا فيها سوى ساعة من نهار . وهذا ما نجده في سورة الأحقاف في قوله تعالى يخاطب الحبيب المصطفى يصبّره على ما يلاقي من المشركين ، ويأمره أن لا يستعجل عذاب المشركين فهو آتيهم لا محالة :
" فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) " لاتستعجل لهم حلول العقوبة بهم ، إن العقوبة قادمة لا محالة . وكقوله تبارك وتعالى:
" فذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا " وهي كقوله تعالى:
" فمهل الكافرين أمهلهم رويدا " . فمآل الكفار والمشركين النار ، أعاذنا الله منها .

أما مثيل قوله تعالى " كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ۚ " فقوله جل وعلا " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " فساعات الدنيا قليلة ، نعم ، قليلة إذا ما قيست بساعات الآخرة ، بل هي صفر في خط طويل ممتد إلى ما لا نهاية . وكقوله عز وجل " ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم " الآية 45 من سورة يونس
بل إن أعقل المسئولين – إن كان في الكافرين عقلاء ، ولن ترى - يظن أنه لبث في الدنيا يوماً واحداً ، بينما يقول غيره بصوت خافت إنه عاش عشرة أيام فقط ، واقرأ معي قوله تعالى في سورة طه : " يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ۚ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) "

اللهم إنا نسألك إيماناً بك يزداد ، وعملاً إلى رضاك ينقاد ، واجعلنا من أهل طاعتك ، وأدخلنا الجنة برحمتك ، اللهم آمين ، يا رب العالمين .

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/خطوات الشيطان

سلسلة رمضانيات

خطوات الشيطان

الدكتور عثمان قدري مكانسي

لو نظرنا في القرآن الكريم وهو يحذر من الشيطان لوجدنا التحذير من ( خطواته) . لا من الشيطان مباشرة فالشيطان خبيث في طرائق إغوائه البشرَ ، يعرف ضالته منهم ، فيدخل لكل واحد من الباب الواهي الذي تقوى فيه أهواؤه ورغباته ، فيدغدغ مشاعره ، ويمنّيه ، ويلبّس عليه الأمور ، فإذا رآه صد عليه باباً لم يمل منه ولم ينصرف عنه ، إنما بحث عن باب آخر ينفذ منه إليه ، ولا ينفك عنه مادام حياً . ألم يخبرنا الله تعالى عن دأب الشيطان في بذل كل الطرق لإغواء الإنسان ، فقال في سورة الأعراف:
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) }
فعن سبرة بن أبي الفاكه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك قال فعصاه وأسلم ، " قال " قعد له بطريق الهجرة فقال أتهاجر وتدع أرضك وسماءك ؟ وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول فعصاه وهاجر ، ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال فقال : تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ؟، قال فعصاه وجاهد ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة " . من كتاب عمدة التفسير ( غريب ) .

فالشيطان لا يألو يكيد للإنسان فهم عدوه الأول وبسببه خرج من الجنة ، ويسعى بكل ما يستطيع هو وأتباعه إلى أن يأخذ الإنسان معه إلى النار ، قال تعالى في سورة ص : " قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83) " .وذكر التحذير من خطوات الشيطان – في القرآن الكريم – أربع مرات :

1- في سورة البقرة " يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) ." تنبه للأكل الحلال والبعد عن الحرام .

2- في سورة البقرة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) ." تحث على الدخول في الإسلام ونبذ وسوسات الشيطان .

3- في سورة الأنعام " وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ۚ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ." توضح أن الله خلق الأنعام لنأكل من لحومها ونشرب من ألبانها ، فهي رزق سخره الله تعالى للناس .

4- في سورة النور " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) ." فالشيطان يحب الفاحشة ويدعو إليها ، ويزين المنكر ويسهّله ليقع الناس فيه ، ومن لجأ إلى الله أعاذه من الشيطان ووسوساته .
والملاحظ :
1- أنّ الآيات الثلاث الأولى انتهت بتنبيه مهم جداً ومباشر هو ملاك الفكرة في الآيات " إنه لكم عدو مبين " فعداوته واضحة بيّنة لكل ذي عينين .

2- أما الآية الرابعة فنبهت بطريق غير مباشر لعداوة الشيطان لنا ، وكأنه لوضوح التحذير مباشر ، " فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر" أفلا يكون عدواً مبيناً ؟ .

الشيطان لعنه الله مُربٍّ ، نعمْ هو مُرَبٍّ ، ولكنه شرّير يربي أتباعه على الكفر والفساد ، ويشدهم بالتدرّج إلى المهالك لينكسوا على رؤوسهم في جهنم معه ، ثم يتبرّأ منهم كعادة الخبيثين في كل زمان ومكان . يدّعي الإصلاح ليوقع أصحاب الأهواء في حبائله . يتابعهم خطوة خطوة ويمنّيهم مّرة وراء مّرة ، ويقسم لهم أغلظ الأيمان ليضلهم عن سبيل الله

وإليك هذا المثال في الإغواء بـ ( خطواته المتدرجة ) :
فالشيطان لا يأمرك بالزنا مباشرة لأنك ستعرف مقصده وتتعوّذ منه فوراً . وهو يريد ابتداء أن يكسب ثقتك ،
- انظر إلى هذه الفتاة الجميلة .
- أعوذ بالله ، إنه الفساد بعينه .
- ولم يا صاحبي ؟
- إن النظرة سهم قاتل من سهامك يا إبليس .
- هل تراني أسدد السهام إلى قلبك؟!
- إن النظرة بريد الزنا ، يشغل القلب ، ويبعده عن الله .
- أنا لا أريد أن تصل إلى هذا صدّقني .
- كيف أصدّقك وأنت تأمرني أن أنظر إليها ، والعين تزني ، وزناها النظر .
- إن الله جميل يحب الجمال ، وأنت رجل مؤمن يزيدك النظر إلى صنع الخالق الجميل إيماناً ، ويزيدك تقوى .فانظر إليها يا رجل واذكر الله تعالى ... ينظر إبليس إليها ، ويذكر الله مظهراً الخشوع .
- ينظر الفتى إليها فيشدَهُهُ جمالها ، ويذكر الله بقلبه ، ثم بلسانه فقط لأن إبليس يتمثل بها ، ويبدأ بإغوائه .
- ابتسم لها يا رجل .
- أعوذ بالله منك ، كيف ابتسم لها ؟
- كيف تبتسم لها؟ ! أتجهل طريقة الابتسام؟!
- لست أقصد هذا ولكن الابتسامة دعوة لها أن تجاملني . وبدء بحديث .
- أنسيت أن تبسّمك في وجه أخيك صدقة؟
- هي ليست رجلاً ، إنها امرأة ، وقد أتقدم بالابتسامة خطوة أخرى .
- إنها أختك في الله . بل إن تبسمك في وجهها جزء من الدعوة إلى الله تعالى .
ويبتسم لها . فتبادله الابتسام ويحييه إبليس المتمثل بها بابتسامة عريضة تأسره وتستجِرّ قلبه وعقله .أرأيت الحب الأخويّ الطاهر أيها المتزمّت؟
- نعم إنه لطاهر حقاً – يقولها مشدوداً إليها راغباً بها ، منعطفاً إليها .
- ألا تسلم عليها أيها الأبله ؟! إنني أدعوك إلى شعيرة إسلامية ضاعت منك .
- يا أيها الشيطان تكاد توقعني في حبائلك .
- أنسيت يا رجل قوله تعالى " فسلموا على أنفسكم تحية من الله مباركة طيبة " وهي منكم معشر المسلمين ، ومن أنفسكم .
- يسلم عليها و.. و.. و..
قال شوقي : نظرة فابتسامة فسلام * فكلام فموعد فلقاء

هذه واحدة من خطوات الشيطان ، والقياس واضح بيّن أخي الحبيب .

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/إنْ غابَ العِلمُ ! فقليلاً مِنَ اللطفِ


سلسلة رمضانيات

إنْ غابَ العِلمُ ! فقليلاً مِنَ اللطفِ

الدكتور عثمان قدري مكانسي*

أمّنا في أيام سابقة في صلاة العشاء ونافلة التراويح شاب في مقتبل العمر لطيف المعشر ، دمث الأخلاق – ولا نزكي على الله أحداً – وكان المصلون مرتاحين للصلاة وراءه ، والسبب وضوح قراءته ، وحركاته المتأنية ، وتخفيف الصلاة ، فهو يقرأ في الركعة آياتٍ قليلة ، وقد يعلق الإمام الراتب – الأصيل - بعد ركعة النافلة الرابعة على بعض الآيات ، ويترك المصلين يعيشون في ظلالها ، أو يوضح حكماً فقهياً في الصيام وغيره ، أو نهدأ قليلاً مسبحين ذاكرين ، ثم نقوم لتتمة الصلاة . ونسأل الله تعالى القبول .
قام الإمام الشاب يصلي الركعتين السابعة والثامنة ، وسها في قعود الركعة الثامنة فقرأ التشهد فقط ، وقام للركعة الثالثة ، فما نبهه المصلون حتى كان واقفاً ، فلم يعد للقعود ، وصلى الركعة الثالثة ثم الرابعة ، وسلم ، بعدها صلى ركعتي الشفع ، ثم ركعة الوتر ، وبهذا يكون قد صلى عشر ركعات في النافلة – التراويح – وكانت آخر الركعات الأربع متواصلة .
كنت والإمام الأصيل نصلي وراءه ، فلم نعلّق على ما جرى ظناً منا أنه قد يمرّ على المصلين مثلُ هذا – وكثيراً ما يمرّ -
والصلاة صحيحة ، فالرجل يصلي بنا النافلة ، فغيّر نيته من صلاة ركعتين إلى إتمام أربع ركعات ، وهذا خير من نزوله وقد استوى واقفاً . ولو ظنّ أنه قام إلى الركعة الثانية ، فسلم في الركعة الثالثة لنبهناه إلى ذلك فقام بنا إلى الرابعة ، ثم سجد سجود السهو أسوة بما فعله الحبيب المصطفى حين سها ، فصلى ركعتين وسلّم ، فنبهه ( ذو اليدين) إلى أنه صلى بالمسلمين ركعتين ، فلما استوثق النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك قام فأتمّ ركعتين وسجد سجود السهو .

كل هذا لم يحصل ، وكانت صلاتنا صحيحة ، إلا أن بعض المصلين جاءوا يحتجون على خطأ الإمام العظيم الذي خرّب عليهم صلاتهم ! تسبقهم اصواتهم العالية ، يصاحبها الضجيج الناتج عن اختلاط الأصوات بعضِها ببعض ، وكأن القيامة قامت ولم تقعد ، ينظرون إلينا ، يسألون ويجيبون بآن واحد . هذا يصيح : لقد أخطأ الإمام ، فلمْ تقوّموه ، وذاك ينبه إلى أنه وهو في الثالثة والستين من عمره لم ير صلاة مثل هذه الصلاة – وكأن الرجل عالم عصره وفقيه أوانه ، قد حاز علوم الأولين والآخرين ، وحواها صدره وعقله ، إلا ما رآه اليوم من خطأ عظيم يريد له تفسيراً . وثالث يتأفف أن يكون هذا الشاب إماماً ، فهو يجهل أحكام الصلاة ! وكان قبل يوم أو يومين يعلن رضاه عن أداء الإمام ، ولكنّ ما رآه الآن من خطأ جسيم جعله يغيّر رأيه !.. ورابع وخامس .... هذا يسأل ثم يجيب ، ولا أدري لمَ السؤال إن كان يعلم الجواب ، وعيون بعضهم تقدح غضباً ، وبعضهم يتململ محتجاً أو حزيناً أن يصل المسلمون إلى هذا المستوى المتدني من الفقه والعلم ، وفهم أحكام العبادات !.

صورة التقطتها ، وأحببت أن أنقلها إلى الأخ القارئ ليرى المستوى الذي يعيشه المسلمون المصلون . وساءلت نفسي إن كان هذا مستوى من نظن فيهم الخير ، فماذا نقول في مجتمعنا خارج المسجد فيمن لا يعرفون أبواب المساجد ، ولم يزرهم رمضان في بيوتهم وحياتهم ؟.. أوْ أنهم لم يسمعوا بمجيئه ، أو لعلهم ظنوا أنّ رمضان هذا العام لن يزورنا في هذا الحرّ اللاهب .

ولا أنسَ أن أقرّ بخطإ ارتكبناه معاً ، الإمام وأنا حين ظننا أن مثل هذا الأمر يعرفه الناس ، فلم يقف أحدنا موضحاً الحكم الفقهي لمثل هذه الحالة بعد الصلاة مباشرة . وهذا دليل آخر على ضعف الإنسان في ظنه وتصرّفه ... والإقرارُ بالذنب فضيلة ، ومحاولة إصلاحه خطوة على الطريق الصحيح ..... أليس كذلك ؟.

*بتصرف بسيط جدا

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/الدمار مآل الإستكبار

سلسلة رمضانيات

الدمار مآل الإستكبار

الدكتور عثمان قدري مكانسي

يرسل الله تعالى الرسل للبشر قاطبة ، ألم يقل سبحانه " وإنْ منْ أمة إلا خلا فيها نذير"؟ وهذا هو العدل بعينه ، فإن آمنوا نجَوا ، وإن كفروا حل عليهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة .
وعلى هذا يقول تعالى في أهل القرى المؤمنة " وما كان ربك ليُهلك القرى وأهلها مصلحون " ألم يؤكد المولى سبحانه هذا المعنى بقوله " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً "؟ فالمؤمن معزز مكرم لأنه آمن بالحق من ربه ، وعمل ما استطاع في إرضائه سبحانه .
ويقول في أهل القرى الكافرة " وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون " وقال في هذا المعنى كذلك " وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً " . فقد أنذرتهم الرسل ، فأبَوُا الهداية ، وَوَلغوا في الضلال ، وأصروا عليه فكان إهلاكهم واجباً .
إننا نرى الرسل الكرام يدعون الناس إلى الله ، فينذرون ، ويبشرون ، والسعيد من بدأ طريقه إلى الهدى فهداه مولاه فغنم ، والشقي من أبى واستكبر فزاده الله ضلالاً فشقي في الدارين . ولا ننس أن الله تعالى يُمد كلاً من الطرفين بما يريد " كلاً نُمِدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً ".
وما من قوم استكبروا فحادوا عن شرع ربهم وقست قلوبهم وسخروا من عذاب الله تعالى إلا حاقت بهم صاعقة العذاب ، فكان دمارهم مخيفاً . والكفار لضعف تفكيرهم وسواد قلوبهم يسخرون من الرسل ويسألونهم عذاب الله ، ولا يدرون ما يحل بهم لو جاءهم العذاب .

وانظر ما يقول الكفار في سورة هود حين يؤخر الله تعالى عنهم العذاب لأجل مسمّى :" وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ۗ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) " فهم يقولون : ما يحبس العذاب عنهم ويؤخره ، فإن سجاياهم قد ألفت التكذيب والشك فلم يبق لهم محيص عنه ولا محيد. وحين يحق العذاب عليهم فلن يتأخر وسينالون سوء الجزاء بما كانوا يُكَذّبون ويسخرون .

فترى قوم نوح في سورة هود يستعجلون نقمة الله وعذابه وسخطه حين يستكبرون على نوح ويهزءون منه " قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)" لقد حاججتنا فأكثرت من ذلك ونحن لا نتبعك فهاتِ ما عند ربك من النقمة والعذاب ودع علينا بما شئت ولا نراك صادقاً . فجاءهم الطوفان فأغرقهم الله تعالى عن بكرة أبيهم .

أما قوم صالح فقد استعجلوا العذاب مكذبين به ساخرين ، فجاءهم سريعاً فاستأصلهم " قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ۖ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) " في سورة النمل .
إنهم طالبوا بالعذاب قبل الرحمة ، فنبههم صالح عليه السلام إلى ما ينبغي ان يسألوه من مغفرة وتوبة ، وقال لهم : لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب , وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب !. " فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون * فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين ." في سورة الذاريات . وكانت نهايتهم مأساوية يتجنبها كل عاقل لبيب ذو قلب بصير .

وهؤلاء قوم لوط ينهاهم نبيهم الكريم لوط عليه السلام – في سورة العنكبوت - عن الفحشاء والمنكر والفساد الأخلاقي الذميم ، فما يزدادون إلا تمادياً في الفحشاء واستكباراً عن الحق ، فينعى عليهم فعلتهم ويخوّفهم من عذاب الله وأخذه إياهم بقوة ، فيتحدّون الخالق قائلين " ...فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) " فعاقبهم الله عقابين أليمين متتابعين ، أرسل عليهم حاصباً ثم خسف بهم الأرض نسأل الله العفو والعافية .

أما أصحاب الأيكة فقد أرسل الله تعالى لهم شعيباً عليه السلام يأمرهم بطاعة الله وإيفاء الكيل والوزن الحق ، وأن يحفظوا للناس حقوقهم ، فلا يأكلوها ، وأمرهم بتقوى الله سبحانه ، فكفروا به وسخروا منه واتهموه بالسحر والكذب معاً ، وتحدّوه أن ينالهم عقاب الله تعالى واستكبروا على الإيمان ، وأنكروا العذاب فقالوا - في سورة الشعراء - :" فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) " فطلبوا العذاب نازلاً من السماء .
وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " - إلى أن قالوا - " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " وقوله" وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ( 32) " سورة الأنفال .

وهكذا يقول هؤلاء الكفار الجهلة في كل زمان ومكان الجملةَ نفسَها ، وانطبق عليهم قول الله تعالى يصف الكفار بأنهم نسخة واحدة متكررة - وإن طالت أزمانهم - فقلوبهم وتفكيرهم وكفرهم واحد، " أتواصَوا به بل هم قوم طاغون " الذاريات .

فمن عرف الله حق المعرفة أحبه لعظيم نعمه وكثرتها : " وإن تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها " وخافه لعظيم هيبته وكمال صفاته سبحانه . .. إن من دخل الإيمانُ قلبه وعرف طريقه وسلكه بتقوى وصل دار الأمان وكان من الفائزين ..

الله اجعلنا منهم يا رب العالمين ...


يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم

سلسلة رمضانيات

اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم

الدكتور عثمان قدري مكانسي

لو أنّ رجلاً غنياً كلفك ببناء قصر ، وطلب منك أن يكون البناء في الطرف الجنوبي ، والحديقة وبركتها في الطرف الشمالي ، واتفقتما على مساحة البناء والحديقة وحجم البركة ونوع الأشجار ، وطريقة البناء ، فلم تنفذ ما اتفقتما عليه كما يجب ، فكانت البركة صغيرة ، والبناء في الطرف الجنوبي ، وكانت الحديقة في الطرف الآخر ، وغرست نوعاً من الأشجار لم يطلبها .....
فهل يعطيك أجرك مثلما اتفقتما ؟
ألا يغضب غضباً شديداً ويطالبك بالهدم وإعادة البناء كما طلب ، فهو صاحب الدار وينبغي بناؤها كما يريد هو ، لا كما تريد أنت ؟
ألا يطالب بكل ما دفعه لك من مال ، ويأبى أن تقوم بالعمل مرة ثانية ، ولعله يشتكيك إلى أولي الأمر ويُغَرّمك مبالغ إضافية لما نتج من أضرار ، وتأخر في العمل ؟
هذا في الحياة الدنيا بين البشر أنفسهم ، ولعل عداوات تنشأ ومشاكل تستفحل بسبب الإخلال بالاتفاق .

فإذا قرأنا قوله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف في وعدنا إيّاه – جل في علاه - في عالم الذر أن نعبده وحده ولا نشرك به أحداً " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172) " فقد استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو. وقد فطرهم الله على ذلك وجبلهم عليه . وقد روى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلا قال " ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) " .
فإذا قرأنا ذلك وجب علينا أن نفي بالوعد ونسأل الله تعالى أن يعيننا عليه .
وكما يرضى سبحانه عن المؤمنين الذين التزموا وعدهم فعبدوه وحده لا شريك الله ووعدهم فراديسه وجناته فقد غضب على من خان العهد والأمانة ، وجعل لله شريكاً أو كفر به أصلاً .

بعض المتجبرين يطلبون أو يفرضون بالإكراه أو الإغراء على أتباعهم أن يكونوا ضالين مثلهم ، ويتعهّدون لمن آمن بالله وخالف الكفار أن يحملوا عنهم – إن كان من يوم آخر وحساب وعقاب – أن يتحملوا عنهم أخطاءهم إن كفروا بالله وساروا على منوالهم في التيه والضلال . هكذا يزعمون . يقول الله تعالى ناقلاً عنهم قولهم " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
(12)" فوصفهم الله تعالى بالكذب ، فلن يستطيعوا فعل ذلك لأمر مهم واضح جلي ، أليست تقول القاعدة : " كل نفس بما كسبت رهينة " ألم تؤكد القاعدة المعنى ذاته في قوله تعالى " ولا تزر وازرة وزر أخرى "؟ فكلٌ معلق بكرعوبه ، ويوم القيامة رهيبٌ يصفه المولى جل جلاله بذي الهول المظلم الشديد " إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً " في ذلك اليوم " .. يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " بل ترى الإنسان يتمنى أن يدخل كلُّ أحبابه ومعارفه - الذين كان في الدنيا يتمتع بهم ويركن عليهم ويدفع الغالي والرخيص في سبيل إسعادهم - في النار وأن ينجو بجلده " يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تُؤويه * ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه " .

بل إن هذا المجرم الذي كان يغوي الناس ويضلهم ويعدهم أن يحمل عنهم خطاياهم – ولن يحملها لأن كل ضال لا بد أن ينال عقابه الذي يستحقه – سوف يحمل مثل أثقالهم لأنه سنّ سنّة خبيثة ، فتابعوه عليها . ألم يقل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم " .. ومن سن سنة سيئة عمل بها بعده كان عليه وزرها ، ومثل أوزارهم من غير أن ينتقص من أوزارهم شيئا " . يعضّد هذا الحديثَ الشريفَ قولـُه تعالى في الآية التالية من سورة العنكبوت " وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ۖ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) " . ويقول تعالى في المعنى نفسه في سورة النحل " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم
(25) " ، فمن كان إماما في الضلالة ودعا إليها واتبع عليها فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضل شيء ,

وترى الشيطان - الذي كان في الدنيا يلازم الإنسان أكثر من ملازمة الظل له ، ويوسوس له ليل نهار ، ويدعوه إلى الكفر والشرك والضلال – يتنصل من الكافر والمشرك ، ويسخر من كل أتباعه دون خجل ولا مواربة :" وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) "(إبراهيم) فقد بذل جهده في الوصول إلى هدفه الوحيد من البشر ، وهو إفسادهم وإغواؤهم ، وقد وصل إلى ما يريد ،
صرح الشيطان إذ ذاك – حيث لا ينفع الندم – بـ:

1- وعد الله تعالى عباده إن آمنوا به وأخلصوا في عبادته أن يرضى عنهم ، وأن يرضيهم فهو الحق وقوله الحق وفعله الحق سبحانه وقد وفى بوعده .
2- وعد الشيطان الناس بحياة رغيدة – وهو كاذب مخلف للوعد – فخسروا أنفسهم حين صدّقوه .
3- وتصديق الخاسر من المشركين والكفار لإبليس وأعوانه كان بمحض إرادتهم ، فليس له عليهم سلطان ، وما استجابوا له إلا لضعف في نفوسهم وسفه في عقولهم .
4- فلا لوم عليه ، إنما اللوم عليهم ، فقد دغدغ أهواءهم وشهواتهم ، فمالوا إليه وتابعوه .
5- ولن يستطيع الشيطان ولا أتباعه - إنساً وجناً - أن يفلتوا من العقاب الأليم ، نسأل الله الهدى والسداد .
6- يتنصل الشيطان من عبادة هؤلاء إياه في الدنيا ، ويحمّلهم مسؤولية الغواية والفساد .
7- يصْدُقُهم – وهو الكذوب – أن الظالمين في عذاب أليم

اللهم ، إنا نعوذ بك من همزات الشياطين ، ونعوذ بك ربّ أن يضلونا ، إليك الملاذ وإليك الملجأ وعليك الاتكال ، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا أكثر يا رب العالمين ... ..اللهم آمين .
يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/تصوير الحياة

سلسلة رمضانيات

تصوير الحياة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

تعال نصوّر ما يجري أمامنا من فوق ناحية البحر ، من ارتفاع بخار متصاعد من مائه ، يبدو خفيفاً يكاد لا يُرى إلا إذا أمعنا في النظر . يظل مرتفعاً قليلاً قليلاً ليبلغ بعد ذلك عنان السماء ، فإذا به يتجمع خيوطاً دقيقة بيضاء يلمحها الناظر دون عناء ، ثم نرى هذه الخيوط تتشابك بلطف وهدوء فإذا بها قطن مندوف رقيق الحاشية تتخللها زرقة السماء الصافية ، وترى هنا وهناك مثيلات لها تتجمع قريباً منها أو بعيداً .. ثم تراها تتقارب بفعل الرياح المتحركة حولها ، فإذا بها غيمة بيضاء رقيقة تكبر وتنمو وتتحرك ببطء نحو الشرق ، وقد تقف قليلاً لينضم إليها رقيقات الحواشي التي كنت قبل قليل مثلهُنّ ، وتكبر الرقعة البيضاء وتتسع رويداً رويداً مساحة وسماكة ليتغير لونها إلى الرمادي الخفيف بلحوق قطع الغيوم الأخرى بها أو بأخواتها حتى تراهنّ يملأن السماء الفسيحة ويتزاحمن فيها ، ولعل بعضها يعلو بعضها حتى تصبح سوداء أو مثل ذلك ، وتمنع عنا رؤية السماء ، فإذا بالنور يضعف والهواء يشتد فيدفع هذه السحب نحو الشرق بقوة ، ولعل بعضها يصطدم بالأخرى فإذا بضوء ساطع قويّ يصدر عنها يملأ جنبات الأرض ، ثم تسمع صوت الرعد مجللاً مدوياً كمدافع الحرب الضخمة العملاقة ، ولكننا لا نرى قذائف الدمار تحطم الأبنية والمنشآت ، بل نحس بقطرات المطر تتوالي برفق فوق رؤوسنا ، وتتوقف على ثيابنا ، فإذا ما زادت قليلاً بدأت ثيابنا تتبل ، وبدأت حبات الغيث تمتزج بالقشرة الأرضية من تربة جافة ، فإذا رائحة الأرض طيبة النسائم تخترق خياشيمنا ، وما أطيبها من رائحة ، ثم تنقلب القطرات طلاً يتوالى دقائق ثم ينقلب وابلاً فيختلط بالأرض ، ثم يخترقها ، ثم يسيل عليها .
وتشرب الأرض العطشى ماء الحياة ، وترتوي جنباتها ، فتنتشي بعد أيام أو أسابيع وتتشقق ليخرج منها الزرع والخضرة فنأكل ، ولتكتسي الأشجار حلة قشيبة ، ثم تتدلى ثماراً وأعناباً فنتذوّق ، ويمتلئ ضرع الحيوانات ألباناً وتكتنز لحماً ، وتتجمل جلوداً وفروات ، فتكون حياة للإنسان ورزقاً وسعادة .، وقد كان قبل أن ينزل الغيث ينظر إلى السماء راجياً رحمة ربه وفضله وخيره .
ثم تسطع الشمس من جديد وترسل اشعتها ، فإذا بالأخضر يصفرّ وإذا بالماء ينحسر ، وإذا بالحياة تبدأ دورة جديدة مستمرة إلى ما شاء الله أن تستمر ...

يقول تعالى مصوراً ماذكرتُه قبل قليل بأسلوب تصويري بديع يدل على عظمة الخالق سبحانه
" 1- اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
2- فَتُثِيرُ سَحَابًا
3- فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ
4- وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ
5- َفإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) " وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
6- َفانْظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ
7- إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) " (الروم)

هكذا – أخي الحبيب – يخرج الله تعالى الحيّ من الميت ، وهكذا يعيدنا حين يشاء – سبحانه - إلى الحياة في اليوم الآخر الذي حدده ، ووعدَناه . فآمن به ذوو البصائر ، وغفل عنه أصحاب القلوب الميته .
إن المولى الجليل خلقنا من عدم ، أفلا يحيينا من وجود ، والوجود أسهل من العدم ، وكل أمر سهل إذا أراده الله تعالى ، وانتبه معي إلى هذا النداء العلوي الذي يأخذ بالألباب ، فيفهمه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)(الروم) "
فهل بعد هذا من وضوح ؟؟؟

اللهم إننا آمنا بك وبذلك اليوم وبرسلك وملائكتك وكتبك ، فاقبلنا ولا تردّنا خائبين .

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/من وصايا لقمان

سلسلة رمضانيات

من وصايا لقمان

الدكتور عثمان قدري مكانسي

قال سعيد بن المسيب رحمه الله : كان لقمان من سودان مصر، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان
لقمان عبدا حبشيا نجارا ، قال له مولاه اذبح لنا هذه الشاة فذبحها ، قال أخرج أطيب مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب ، ثم مكث ما شاء الله ثم قال اذبح لنا هذه الشاة فذبحها ، قال أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب ، فقال له مولاه أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما ، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما . فقال لقمان إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا.
وذُكِر أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال في لقمان : كان رجلا سكيتا طويل التفكر عميق النظر ، لم ينم نهارا قط ، ولم يره أحد قط يعبث ولا يضحك وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد ، وكان قد تزوج وولد له أولاد ، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتي .
والمقصود في قوله تعالى في سورة لقمان :" ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه " الفقهُ في الإسلام . ولم يكن لقمانُ نبيا ولم يوح إليه – على أشهر الأقوال - ، وأوتيَ الفهم والعلم والتعبير ، ووصّاه ربه سبحانه أن يشكر الله عز وجل على ما أتاه ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به دون سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه ، وأنبأه أن نفع الشكر وثوابه يعود على الشاكرين لقوله تعالى " ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون " وقوله سبحانه " ومن كفر فإن الله غني حميد" يقرر أن الله تعالى لا يحتاج للعباد ولا يتضرر بعصيانهم إياه ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعا .
وعلى الوالد أن يرعى أولاده ، ويعلمهم ويربيهم امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما " والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته " هكذا كان لقمان . ونجد في القرآن وصايا لقمان لابنه ترسم في الزمان أخلاقاً وأدباً وعلماً ، وجاءت هذه الوصايا تنير الطريق أمام الأبناء على مدى الأيام معالم التربية القرآنية الفريدة :

1- يظلم الإنسان بالشرك ربه حين ينفي عنه ربوبيته وألوهيته ووحدانيته ، فيشرك معه في العبادة غيره ، ويظلم نفسه حين يغضب ربه فتكون النار مأواه وسوء المنقلب نهايته . ويظلم الآخرين حين يُضلهم ويسلك بهم سبيل الغواية والفساد . " .... يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) " (لقمان).

2-إن الله تعالى لا تخفى عليه الأعمال مهما كانت صغيرة أو خفية ، وسيحضرها يوم القيامة ويجازي عليها إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، ولا يظلم الله تعالى أحداً " يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ " إنه سبحانه لا يعزب عنه شيء في السماوات ولا في الأرض ، في نفس الإنسان وضميره أو في الماديات والمحسوسات . إنه يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء . فإذا كان الله سبحانه لطيفاً خبيراً ، عليماً حكيماً فالحذر مطلوب ، والإصلاح في القول والعمل مرجُوّ ، فلا يجدنا الله تعالى إلا حيث يرضى .

3- ولأن الله تعالى خلقنا لعبادته فإنه يأمرنا بإقامة الصلاة ،إنها تعبير عن حبه سبحانه والرغبة في لقائه ، والوقوف بين يديه طائعين خاشعين . فمن كان الله مبتغاه سلك الطريق المؤدي إليه فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر لأنهما السبيل إلى إقامة مجتمع نظيف طاهر أسه الفضيلة والعدل والمساواة . إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء والمصلحين ، وهو نهج يرضاه ذوو الفطرة السليمة ، ويأباه أهل الأهواء فيحاربونه ويضعون في مَسربه العقبات ، فلا بد من الصبر والجد والمثابرة " يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) " فمن اتصف بهذه الصفات الأربع كان من أولي العزم ، ومن كان من أولي العزم حاز قصب السبق ، ووصل غايته النبيلة .

4- إن التواضع ولين الجانب يجذب القلوب ويُذهب السخيمة ، ويعين على الوصول إلى الهدف ، وهكذا كان لنبي صلى الله عليه وسلم ، فمدحه المولى الجليل " فبما رحمة من الله لنتَ لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ..." وهو صلى الله عليه وسلم يوجّه إلى اللطف فيقول " ... ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة والمخيلة لا يحبها الله " إن التعالي والتكبر مقتلة للدعوة والداعي ، ولن يقبل الناس دعوة – ولو كانت صحيحة – من متكبر متعجرف يرى نفسه أفضلَ الجميع ويعاملهم من فوقُ ، وكأنه الشمس في سمائها والقمر في عليائه ! والله تعالى يكره المتعالي المستكبر . فما كان اللطف في شيء إلا زانه ولا التعاظم في شيء إلا شانه . يقول لقمان في هذا " وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) "

5- قال لقمان لابنه يعظه مرّة : يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك وقال له كذلك : يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام ( يعني السلام ) ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. والله تعالى يحب التوسط في الأمر فلا يحب مشية المتخاذل المتباطئ - دون عذر - ولا مشية الخيلاء والتفاخر . ويكره رفع الصوت فيما لا فائدة منه وقد نهى الحبيب عن علوّ الصوت وشبهه بصوت الحمار ونهيقه " إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا " يقول الله تعالى في ذلك على لسان لقمان الحكيم " وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) "
إنّ غض الأصوات أدب رفيع ذكره الله تعالى في أول سورة الحجرات ، ومدح الملتزمين به .
وقد روي بعض الحكم المتفرقة نوردها هنا للعظة والعبرة :

- وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه وجعل يعظ ابنه وعظة ، ويخرج خردلة حتى نفذ الخردل ، فقال : يا بني ؛ لقد وعظتك موعظة لو وُعظها جبل تفطر قال فتفطر ابنه .
- قال أنس بن مالك رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " رُبّ أشعث ذي طمرين يُصفح عن أبواب الناس ( يُدفعُ) إذا أقسم على الله لأبره " .

- وروي عن أنس رضي الله عنه " قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " طوبى للأتقياء الأثرياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يُفتقدوا أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة غبراء مشتتة " .

- قال أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يؤبه له الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لهم حوائج أحدهم تتجلجل في صدره لو قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم " .

- وعن عبد الله بن عمرو قال : أحب عباد الله إلى الله الغرباء قيل ومن الغرباء ؟ قال الفرارون بدينهم يجمعون يوم القيامة إلى عيسى ابن مريم.

- وقال الفضيل بن عياض بلغني أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ألم أنعم عليك ألم أعطك ألم أسترك ؟ ألم . .. ألم . . . ألم أجمل ذكرك ، ثم قال الفضيل إن استطعت أن لا تعرف فافعل وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموما عند الناس محبوبا عند الله .

- وكان الخليل بن أحمد يقول اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك واجعلني في نفسي من أوضع خلقك وعند الناس من أوسط خلقك .

- وعن علي رضي الله عنه " قال : لا تبدأ لأن تشتهر , ولا ترفع شخصك لتذكر وتُعلم , واكتم واصمت تسلم ، تسرالأبرار ، وتغيظ الفجار .

- وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : ما صدق اللهَ من أحب الشهرة ، وقال محمد بن العلاء من أحب اللهَ أحب أن لا يعرفه الناس ، وقال سماك بن سلمة إياك وكثرة الأخلاء .وقال أبان بن عثمان إن أحببت أن يَسْلم إليك دينك فأقل من المعارف

- وعن هارون بن أبي عيسى عن سليم بن حنظلة قال : بينا نحن حول أبي إذ علاه عمرُ بن الخطاب بالدرة وقال : إنها مذلة للتابع وفتنة للمتبوع . وقال ابن عون عن الحسن خرج ابن مسعود فاتبعه أناس فقال والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجل

- وفي بعض الأخبار أن موسى عليه السلام " قال لبني إسرائيل ما لكم تأتونني عليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب ؟! البسوا ثياب الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية . "

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/على أنْ تَأجُرني ثماني حِجَج


سلسلة رمضانيات

على أنْ تَأجُرني ثماني حِجَج

الدكتور عثمان قدري مكانسي*

أتلو قوله تعالى في صورة القصص على لسان الرجل الصالح في ( مدين ) يخاطب أو يخطِب الشاب موسى عليه السلام لابنته:
" قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) "

أقف عند هذه الآية الكريمة فأرى فيها السياسة والاقتصاد والحالة الاجتماعية والحاجات الإنسانية مجتمعة بشكل متناسق ، فقد وصل هذا الشاب المتميز إلى مدين هارباً من بطش فرعون وجَوره ورأى فتاتين تنتظران أن ينتهي الرجال من سقي أنعامهم ليبدأ دورهما في ذلك ، فهما عفيفتان لا تختلطان بالرجال ، ولعل أسرتهما ليس فيها رجال يقومون بهذه المهمة (الرعي ) فاضطرتا إلى هذا العمل المرهق . فيسقي لهما ، وتأبى أخلاقه العظيمة أن يستغل عمله في الحديث معهما ، فيتولّى إلى الظل ويسأل الله أن يحفظه في غربته ويجد له من فضله الكبير مخرجاً . فيدعو بهذا الدعاء الذي سرعان ما وصل فكانت الإجابة فورية " ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ( 24)" .

وينطلق هذا الشاب خلف الفتاة إلى أبيها – ولعلك أخي الحبيب تقرأ مقالي " تأملات تربوية في سورة القصص " فتضح الصورة أكثر – ويقص الشاب على أبيها قصته مع طاغوت مصر ، فيطمئنه أن سلطان هذا الفرعون لا يصل إلى مدين ، فهو الآن في أمان .
وحين يتعرف الأب القصة ويجد في ملامح هذا الشاب المؤمن الجريء الخيرّ ، وهو بحاجة إلى شاب يقوم على خدمة الأسرة ، ولن يجد خيراً منه يعرض عليه عرضاً يجعله من أركان أسرته . إنه يخطبه لإحدى بنتيه ، وليس من العيب أن يتخير الأب لابنته زوجاً صالحاً كما يتخير لولده زوجة صالحة ، بل إن تخيّر بعل الزوجة أهم وأفضل من البحث عن زوجة للابن ، فللزوج القوامة ، وهو المسيطر على البيت وسيده ، فإن كان صالحاً ارتاحت الزوجة وإن لم يكن عاشت في ضنك وتعاسة ، فطلب المرأة الطلاق عزيز وصعب .

وتعجبني كلمة " إني أريد " فقد ألقى في هذه الكلمة بكل ثقله . ومن يرغب عن زوج لإحدى ابنتيه فيه مثل صفات موسى عليه الصلاة والسلام ؟! وكأنه بهذه الكلمة يفتح الباب أمام موسى على مصراعيه ليختار إحداهما دون حرج ، فهناك بيت يسكنه وزوجة طيبة وعمل يكسب منه قـُوته وشيخ صالح يستفيد من حنكته وخبرته في الحياة . واختار الصغرى كما ذكر المفسرون ، وكان قولها لأبيها " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " دليل على رضاها عن صفتين رأتهما فيه ( القوة والأمانة ) وهذا ما تريده المرأة في الرجل زوجاً وأباً وأخاً وولداً .والنكاح سنة النبي صلى الله عليه وسلم " ... وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " وما أودع الله رغبة الرجال في النساء ورغبة النساء في الرجال إلا لتستمر الحياة في الأرض ويَعَْمُر الكونُ إلى قيام الساعة .

ولا بد من المهر ، فهو ركن في الزواج وتوثيقٌ لعراه ، والشاب فقير لا يملك مالاً ، وقانون فرعون فيمن هرب من سطوته ولم يقدر عليه ثماني سنين أن يسقط الحكم ، فإن عاد الغائب بعد هذه السنين فلن تطاله يد القانون ، هذا عند (فرعون الجائر) ، (فرعون الظالم )، (فرعون المستبد ) ، ( فرعون الطاغية ) . مثال الظلم في القرآن الكريم ، فماذ يقول المظلومون والمقهورون والمطاردون في عالم الظلم والقهر في أيامنا هذه ؟!
ألا ترى – أخي القارئ – فراعنة العصر أشدّ لؤماً وخسة من فرعون موسى ؟!

وأكمل موسى عليه السلام عشرة أعوام ، والأنبياء يحبون الكمال ويعملون به وهم قدوتنا بذلك صلوات الله عليه وسلامه . لقد كان عند حسن ظن عمّه به ، وكان زوجاً صالحاً في بناء أسرة مسلمة طيبة نقية . وتعجبني مقالة الشيخ " وما أريد أن أشق عليك " فهو حريص على رضاء الشاب ، ولعله إن اعترض فسيخفف عنه المهر، ولا بأس أن يأخذ زوجته ويعمل في مكان آخر إن أراد ، فلن يشق عليه والدها ، ولعل الله تعالى يرزق ابنته الأخرى زوجاً صالحاً مثل موسى فيكمل العمل . لكنّ الشاب موسى الذي وجد المأوى والزوجة الصالحة والرجل الذي احتضنه في أشد الساعات قسوة ، هذا الشابّ أهلٌ للرضا بما ناله من خير ، وأهلٌ لحسن الظنّ فيه .

وانطبق المثل العربي (إن الطيور على أشكالها تقع ) على هذه الأسرة الجديدة ، وصدق فيهم قوله تعالى في سورة النور " .....وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ .....(26) "

الهم ارزق شبابنا وشاباتنا نصفهم الآخر الطيب ، وأنشئ منهم بيوتاً طيبة طاهرة يُذكر فيها اسمك الكريم ، .. واكلأهم برعايتك وعنايتك وفضلك العميم .. اللهم آمين .

*بتصرف بسيط
يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/من وحي أحُد في آل عمران


سلسلة رمضانيات

من وحي أحُد في آل عمران

الدكتور عثمان قدري مكانسي

لما انهزم ما انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم نادى الشيطان : ألا إن محمدا قد قتل ، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلت محمدا ، وإنما كان قد ضرب رسولَ الله فشجه في رأسه ، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس ، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، والرسل والأنبياء يُقتلون كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام ، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال ، ففي ذلك أنزل الله تعالى : " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) " : فنبه الله تعالى أن الرسول عليه الصلاة والسلام بشر ممن خلق ، وهو ورسول من الرسل السابقين عليهم الصلاة والسلام ، له بداية وله نهاية ، وله أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه . وروي أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه في غزوة أحد فقال له : يا فلان أشعرت أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلّغ فقاتلوا عن دينكم . وكأنه يقول له : إن قُتل رسول الله في سبيل دينه فعلام تقف هكذا مكتوف اليدين خوّاراً ؟! متْ على ما مات عليه رسول الله .

- ثبت في الصحاح وغيرها أن الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل على فرس من مسكنه بالسُنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال بعد أنْ تأكد من موته : بأبي أنت وأمي ، والله لا يجمع الله عليك موتتين ، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها . ثم خرج وعمر يكلم الناس أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يمت وأنه سيعود . فقال : اجلس يا عمر ، ثم قال أبو بكر : أما بعد ؛ فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ثم قرأ الآية السابقة . قال الراوي : فوالله لكأن الناس – لشدة المفاجأة التي عقدتْ ألسنتهم وطاشت لها عقولهم - لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر ، فتلاها منه الناس كلهم فما أسمعُ بشرا من الناس إلا يتلوها . وقال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرقت حتى ما تقلني رجلاي .

- ولن يموت أحد إلا بقدر الله ، فمن خاف الموت فقد ضعف إيمانه، وظهر الخوف والجبن عليه فجاءت الآية التالية تشجع هؤلاء الذين خافوا وضعفوا في القتال " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) " ولا يموت الإنسان حتى يستوفي أجله ويستوفي المدة التي ضربها الله له ولهذا قال تعالى " كتابا مؤجلا " كقوله " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " ، إن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه . قال حجر بن عدي في حرب الفرس وكان نهر دجلة بين الجيشين : ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة - يعني دجلة - ثم أقحم فرسه دجلة ، فتبعه الناس فلما رآهم العدو داخلهم الرعب الشديد ، فهربوا ، ولاحقهم المسلمون يبطشون بهم يمنة ويسرة ، ونصرهم الله تعالى نصراً مؤزّراً ، فربحوا الدنيا والآخرة

- إن الربيين – وهم أصحاب الإيمان القوي الذي نذروا أنفسهم لله – ممن كانوا مع أنبيائهم لم يتركوا القتال في سبيل الله والجهاد لإعلاء كلمته سبحانه ، واستمروا في جهادهم لإعلاء كلمة الحق والذود عنها ، فلما صاح صائح في غزوة أحد : إن محمداً قد قُتل ترك كثير من المسلمين المعركة وضعفوا وهربوا منها ، فعاتبهم الله تعالى قائلاً :" وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) " . فإذا كان من قبلنا صبروا في القتال وثبتوا في مواقعهم ، ونفوا عن أنفسهم الخور والوهن ، وتحملوا الإرهاق والنصب ، فلم يذلوا لعدوهم ، وصبروا في الميدان صبراً عجيباً ، كان أولى بالمسلمين أن يكونوا كذلك . فإن فعلوا نالوا كسبين كبيرين : أولهما : رضا الله تعالى وحبّه وثانيهما : النصر والتمكين
- وهذا ما نالوه فعلاً حين لجأوا إلى الله تعالى داعين متبتلين " وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) " .
يقول الإمام الطبري في تفسيره في تفسير هذه الآية : اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوك وقتالهم , ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفر منهم , ولا يثبت قدمه في مكان واحد لحربهم ، وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوة نبيك . وإنما هذا تأنيب من الله عز وجل لعباده الذين فروا عن العدو يوم أحد وتركوا قتالهم , وتأديب لهم , يقول الله عز وجل : هلا فعلتم إذ قيل لكم : قتل نبيكم , كما فعل هؤلاء الربيون , الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء , إذ قتلت أنبياؤهم , فصبرتم لعدوكم صبرهم , ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم , فتحاولوا الارتداد على أعقابكم , كما لم يضعف هؤلاء الربيون ولم يستكينوا لعدوهم , وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا , فينصركم الله عليهم كما نصروا , فإن الله يحب من صبر لأمره وعلى جهاد عدوه , فيعطيه النصر والظفر على عدوه ، واعلموا أنما ضعفتم فهربتم بذنوب منكم , واستغفروا كما استغفروا , وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم , ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين , واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم , واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين . فكل هذا من قولهم قد كان . وقد قتل نبيهم فلم يفعلوا كما فعلتم . فماذا كانت النتيجة ؟ إن الله أعطى الله الذين وصفهم بما وصفهم من الصبر على طاعة الله بعد مقتل أنبيائهم , وعلى جهاد عدوهم , والاستعانة بالله في أمورهم , واقتفائهم مناهج إمامهم جزاءً في الدنيا , وذلك النصر على عدوهم وعدو الله , والظفر والفتح عليهم , والتمكين لهم في البلاد ،ووهبهم خير جزاء الآخرة , على ما أسلفوا في الدنيا من أعمالهم الصالحة ، ووهبهم رضوان الله ورحمته . يقول تعالى " فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) " . وتنبه أخي الحبيب إلى قوله تعالى " حسن ثواب الآخرة " ، ولم يقل ثواب الآخرة ،مع العلم أن ثواب الآخرة الجنة ، فإنه سبحانه أعطاهم أحسن العطاء ورفعهم أعلى الدرجات وأكرمهم غاية الإكرام . فقد وصلوا درجة الإحسان ، وهي أعظم المراتب في الجنة . رزقنا الله إياها ، وأعاذنا من غضبه والنار .

- عشت في ظلال تلكم الآيات أتنسم عبير الجنة بذكر الربيّين والصالحين ، وأشرئب إلى تلكم السويعات في غزوة أُحُد أرى صور الصحابة الكرام في جبل الرماة وفي ساح المعركة ، وألمح نور النبي صلى الله عليه وسلم ثابتاً في أرض الرباط وحوله بعض أصحابه الذين ثبتوا معه ، وأسمع الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلم يقول لسعد : ارمِ سعد؛ فداك أبي وأمي ، فتنتشي نفسي كأنني سعد رضي الله عنه ، وأتمنى لو كنت مكان طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه يقف أمام الحبيب قائلاً : صدري دون صدرك يا رسول الله ونحري دون نحرك . وأسمع صوت كعب بن مالك رضي الله عنه يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الإرجاف بموته فينادي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت ، يا معشر المسلمين أبشروا ، فيشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم أنْ أنصت ، كي لا يقصده المشركون ويجهدوا في قتله صلى الله عليه وسلم .

- وأرى أبيّ بن خلف يهاجم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : لا نجوتُ إن نجوتَ ، فلما دنا وقام له في الشعب أحد الصحابة يدرأ عنه فيقول المصطفى دعوه ، ويتناول حربة الحارث بن الصمة وينتفض بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يستقبله فيطعنه في عنقه طعنة يكاد يسقط لها عن فرسه مراراً ، وكان هذا الشقي يهدد النبي – في مكة - بالقتل ، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: بل أنا أقتلك إن شاء الله . ويتراجع أبي بن خلف إلى قريش وهو يقول : قتلني محمد ، وكان قد خدشه خدشاً غير كبير ، فيقولون له ما عليك من بأس ، قد ذهب والله فؤادُك ، والله ما بك من بأس . فيقول أبيٌّ : إنه قد قال لي بمكة إني قاتلك ، فوالله لو بصق عليّ لقتلني ، ويحتقن الدم في عنقه ، ويموت قافلاً إلى مكة - في نار جهنم يا عدوّ الله – أقولها متشفيا به ، إن أشقى الناس من قتل نبياً أو قتله نبي.

- وأسمع الحوار بين أبي سفيان والمسلمين ، فيناديهم وهو أمامهم على جبل عال : أشرفتَ فَعال ؛ إن الحرب سجال . اعلُ هبل، اعلُ هُبل . فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : قم يا عمر – وكان ذا صوت جَهْوري : فقل : الله أعلى وأجل . لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، ويسأل أبو سفيان : أمحمد فيكم أم قتل ؟ فيقول عمر بل هو حي بيننا وهذا أبو بكر إلى جانبه . ويُقتل حمزة أسد الله وأسد رسوله ، فيبكيه رسول الله ويبكيه المسلمون ويبكون قتلاهم ، لكنهم يتابعون المشركين إلى حمراء الأسد وهم مثخنون بالجراح يصرون على القتل والجهاد إلى آخر رمق من حياتهم .

- هكذا المسلم أبيّ شجاع لا يخاف الموت ولا يهاب الأعداء ، صلى عليك الله يا سيد الأبطال ويا قائد الغر الميامين ورضي الله عن صحابتك الكرام وأرضاهم .

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . اللهم آمين ..

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/إنهم جميعاً سواء

سلسلة رمضانيات

إنهم جميعاً سواء

الدكتور عثمان قدري مكانسي

أخذ أحدهم بيدي بعد صلاة العصر وسألني : أصحيح أن للنساء في الشرع نصيباً في الميراث ؟ نظرت إليه متعجباً من سؤاله ، وكان علي أن لا أتعجب ، فالجهل والعادات الجاهلية تحكمنا بمفاهيمها . فترى الكثير يصلون خلف الإمام وفي الصف الأول ثم ترى نساءهم كاسيات عاريات ، وتجد بعض التجار يحرصون على الصلوات في المساجد ، ويسمعون العظات والعبر والأحكام الشرعية في الربا والتهديد الشديد المبطّن والظاهر في تحريمه ، وتراهم في معاملاتهم غارقين فيه ، لا يتورّعون عن أكله والعمل به . والأمثلة عن الجهل الواقع والجهل المتعمّد في مجتمعنا كثير ، منها سؤال هذا الرجل الذي بلغ الأربعين عن نصيب المرأة في الميراث .
قلت له : إذا مات والد الإنسان فلمن يؤول ماله ؟ أتأخذه الدولة أم يُوزّع على المساكين أم يكون لقضاء دين الفقراء ؟ ، قال : لولده ومن خرج من صلبه . قلت أترى أختك بنتَ أبيك خرجت من صلبه أم جاءت من مكان آخر ؟ . قال : ولكنّها امرأة . قلت وما الفرق بين الرجل والمرأة في الحقوق ؟ قال: وهل يجوز أن يخرج المال والأرض من آل فلان إلى غيرهم من الأسر بموت الأب؟ قلت : وكيف يخرج وهو ما يزال ملكاً لأختك وحدها ، تصرفه كما تصرفه أنت ، وتنمّيه كما تنمّيه أنت ؟ . قال تصرفه على أولادها وزوجها . قلت ألا تصرف المال على زوجتك من مال أبيك وهي ليست من أسرتكم؟ قال : هي زوجتي . قلت: وهو زوجها وهم أولادها .
قال : إن الأرض التي بذل والدي عمره في خدمتها وزرعها تذهب للغرباء إذاً . قلت : إن المرء حين يموت يترك كل شيء لأولاده ، فليس في الإسلام فرق بين الذكر والأنثى واقرأ معي هذه المساواة في سورة " الأحزاب:
" إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) "

تجد أن الله تعالى ساوى بين الذكر والأنثى في الحقوق والواجبات . قال : وقد يأخذن كثيراً ؟! قلتُ إن القرآن الكريم صرّح بحق المرأة في الميراث في سورة النساء ، كثيراً كان الميراث أم قليلاً ، فقال : " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) " وما علينا - معشر المسلمين - إلا أن نقول : سمعنا وأطعنا راضية بذلك قلوبنا ، قانعة به نفوسنا . قال سعيد بن جبير وقتادة رحمهما الله : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا فأنزل الله الآية السابقة توضح أن للرجال وللنساء كباراً وصغاراً حقوقاً ثابتة لا ينتقص منها إلا ضعيف الإيمان جاهليّ النزعة . يقدم العادات الخاطئة على الأحكام الإلهية ، ويتخذها شرعاً من دون شرع الله ، ثم يزعم أنه مسلم .

بعضهم يأكل حق النساء بطريقة اللف والدوران . فهؤلاء ثلاثة رجال لهم ثلاث أخوات . فحين مات أبوهم قسموا الأرض ثلاثة أقسام وألحق كل منهم نصيب أخت منهنّ بنصيبه ، فأحدهم أعطى أخته بعض المال ترضية ، والحقيقة أنها لم ترضَ ، ولكنّ الحياء أو قل الخجل أو الخوف من هجران إخوتها لها جعلها تتغاضى عن حقها وترضى بالذي وصلها من أخيها . والثانية كان زوجها غنياً ، فأمرها أن تتنازل عن حقها ، تجنباً للمشاكل التي قد تنجم عن مطالبتها بحقها ، وكان فيه تقوى ، فعوّضها ذهباً وأساور . أما الثالثة فقد بنى أخوها في البداية بيتاً فوق نصيبه من الأرض ، وضم نصيبها صحناً لداره ، فلما كبر أولاده وسّع بيته وبنى فوق أرضها غرفاً وملاحق ، فلما كبر أبناء أخته وطالبوا بحق أمهم عرض عليهم ثمن نصيبها من الأرض بالسعر الذي كان قبل عشرين سنة ، ثم جاءني يستحل ذلك قائلاً : هكذا كان ثمن الأرض . فلما نبهته أنه يأكل حقها ادّعى أنها لم تطالبه بقطعة الأرض حين مات أبوهما ، وأنها لو طالبته بحقها ما قصّر . قلت له : يا هذا ؛ إن تقسيم الأرض ابتداءً ثلاث حصص أمر فاقع في رغبة الذكور أن يقضموا حق أخواتهنّ ، وأنت أحدُهم ، وقد تناسيت حق أختك ، فأيقظك من سباتك أولادُها ولولا ذلك لبقيت متناوماً . إن الأرض بمجملها بعد هذه السنوات تضاعف ثمنها ، فهل ترضى أن تنتفع بذلك وتهضم حق أختك ؟

إنّ الجميع سواء في حكم الله تعالى يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية أو ولاء . فهذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت هي حدود الله فلا يجوز لأحد أن يتعدّاها ويتجاوزها . ولهذا قال " ومن يطع الله ورسوله " فيها فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضها بحيلة ووسيلة بل نزل على حكم الله وفريضته وقسمته نال رضوان الله وحاز جنته خالداً فيها " يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم " .

والعجيب أننا كنا في بعض المجالس نتذاكر صلة الأرحام وكان أحدنا قليلاً ما يشارك ، فأحببت أن يخوض معنا فسألته كم مرة في الشهر تزور أخواتك ؟ ففاجأني أن له أختاً واحدة لم يزرها منذ أن مات والدهما من اثنتين وعشرين سنة . فلما صُدمت لهذا الجواب المفاجئ سألته السبب فقال : إنها طالبت بنصيبها من الميراث . والعجيب أنه لم يقاطعها بعد أن أعطاها نصيبها ، إنما قاطعها لأنها طالبت بحقها ولم يعطها شيئاً .

إن ما ذكرته غيض من فيض ، ولا يعني هذا أن الغالبية من المسلمين على هذا المنوال من قطع الرحم وأكل حقوق المرأة . إنهم قليلون إذا قورنوا بالملتزمين حدود الله . لكنهم إذا عددتهم كثيرون ، وخاصة في القرى والبادية لتفشي الجهل في تلكما البيئتين وللذكورية الفاقعة فيهما .

فهل من عودة إلى شرع الله وهديه؟ وهل يتذكر أمثال هؤلاء أن الدنيا فانية ؟ وأن الموت قاب قوسين من البشر أو أدنى ؟ هدانا الله إلى مرضاته والعمل بشريعته ، وأعاننا على ذلك .

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/يبدّل الله سيئاتهم حسنات

سلسلة رمضانيات

يبدّل الله سيئاتهم حسنات

الدكتور عثمان قدري مكانسي

في صحيح مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها ، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال :اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، وارفعوا عنه كبارها . فتعرض عليه صغار ذنوبه ، فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر ، وهو مشفق في كبار ذنوبه أن تعرض عليه . فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا ) .. فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه .
وقال أبو طويل : يا رسول الله , أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا , وهو في ذلك لم يترك حاجّة ولا داجّة إلا اقتطعها فهل له من توبة ؟ قال : ( هل أسلمت ) ؟ قال : أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أنك عبد الله ورسوله . قال ( نعم . تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن خيرات ) . قال : وغدراتي وفجراتي يا نبي الله ؟ قال : ( نعم ) . قال : الله أكبر ! فما زال يكررها حتى توارى .

قال مبشر بن عبيد , وكان عالما بالنحو والعربية : الحاجة التي تقطع على الحاج إذا توجهوا . والداجة التي تقطع عليهم إذا قفلوا . وقالوا: إن الحاجّة والداجّة الذنوب الضخمة الكبيرة التي لا يجترحها إلا كل عتُلّ جواظ .
فباب التوبة مفتوح لكل إنسان في كل زمان ومكان ليلاً ونهاراً ، وما على الإنسان إلا أن يلجه نادماً على ما فعله ،مستغفراً ربه ، راجياً غفرانه ورحمته ، مصمماً أن لا يعود إلى الذنب ما استطاع باذلاً جهده في طاعة ربه .وسيقبله الله تعالى ، فالله يفرح بعودة عبده إليه تائباً ، ويقبله متى عاد إليه .
قال القرطبي رحمه الله معلقاً : فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة ; وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ : ( أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) .
وقال ابن كثير رحمه الله : قد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل كما هو معلوم في قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته وغير ذلك من الأحاديث ،وفي قوله تعالى في تبديل السيئات حسنات قولان : أحدهما أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن السيئات فحولهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات ، وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية :
بدلن بعد حرّه خريفا وبعد طول النفـَس الوجيفا
يعني تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها . وقال عطاء بن أبي رباح : هذا في الدنيا يكون الرجل على صفة قبيحة ثم يبدله الله بها خيرا . وقال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن ، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات ، وقال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصا ، وأبدلهم بالفجور إحصانا ، وبالكفر إسلاما ... والقول الثاني : أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات ، وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر ، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار . فيومَ القيامة وإن وجده مكتوبا عليه فإنه لا يضره ، وينقلب حسنة في صحيفته كما ثبتت السنة بذلك .

وفي تفسير ابن كثير أيضاً : وقال الحافظ الطبراني فيما يرويه عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان أعطني صحيفتك فيعطيه إياها فما وجد في صحيفة من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان ، وكتبهن حسنات فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثا وثلاثين تكبيرة ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ويسبح ثلاثا وثلاثين تسبيحة فتلك مائة " وفي الطبراني أيضاً عن سلمان قال : يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها فإذا سيئاته ، فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها ، فإذا حسناته ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات . وحدّث أيضاً عن أبي هريرة قال : ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات قيل من هم يا أبا هريرة ؟ قال الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات .
وقال أيضا حدثنا قال : يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف (المتقين) ثم (الشاكرين) ثم (الخائفين) ثم (أصحاب اليمين) . قلت لم سموا أصحاب اليمين ؟ قال لأنهم قد عملوا بالسيئات والحسنات فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرءوا سيئاتهم حرفا حرفا وقالوا يا ربنا هذه سيئاتنا فأين حسناتنا ؟ فعند ذلك محا الله السيئات ، وجعلها حسنات فعند ذلك قالوا" هاؤم اقرءوا كتابيه " فهم أكثر أهل الجنة .

وفي كرم الله تعالى على عباده المحسنين في سورة الزمر " لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) " يتغاضى الله عن سيئات عباده التائبين المتقين ، فيمحو سيئاتهم الكبيرة ، فكان من باب أولى أن يغفر لهم ما هو أقل من ذلك ، فهو الكريم العفوّ الغفور جل جلاله ، وعمّ نواله سبحانه . فإذا ما غفر لهم جزاهم على كل أعمالهم الخيّرة على تفاوت نسبة الخير فيها بأعلى ما فعلوه من أعمال صالحة ، فإذا صحائفهم ليس فيها إلا الحسنات الكبيرة ، وكتبهم الله من أهل الجِنان .. اللهم اجعلنا منهم .

ومن كرمه وفضله سبحانه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه - في سورة الطور - نقرأ هذه الآية الكريمة " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۚ ....(21) " فنجد أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم لتقرّ أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك . قال ابن عباس : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ، وقال في رواية أخرى : هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئا . فإذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول يا رب أنى لي هذه فيقول باستغفار ولدك لك " إسناده صحيح وله شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له "

إن فضل الله وكرمه دالاّن على عظمته ورحمته بعباده سبحانه ، إنه الله ، الذي يستحق العبادة ، والخالق الذي يستحق أن نلجأ إليه شاكرين حامدين .

اللهم عاملنا بما أنت أهل له ، إنك أهل التقوى وأهل المغفرة ..
اللهم آمين يا رب العالمين .

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/موقفان متمايزان

سلسلة رمضانيات

موقفان متمايزان

الدكتور عثمان قدري مكانسي

لما وصل موسى بقومه على أرض فلسطين وانطلق بهم إلى بيت المقدس أمرهم موسى عليه السلام أن يدخلوها فاتحين ويُجلوا من احتلها واتخذها موطناً ، فهي سكنى أبيهم يعقوب عليه السلام وسكنى أولاده قبل أن يذهبوا إلى يوسف عليه السلام في مصر ، قال تعالى: " .... يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) " (من سورة المائدة ) فوجدوا فيها قوما من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها فأمرهم رسول الله - موسى عليه السلام - بالدخول إليها وقتال أعدائهم ، وبشرَهم بالنصر والظفر عليهم . فعصوه وخالفوا أمره خوفاً من العماليق الأقوياء ، فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون إلى مقصد مدة أربعين سنة عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى .
لقد اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمروا بدخولها وقتال أهلها قوماً جبارين أشداء وأنهم لا يقدرون على مقاومتهم ولا حربهم ، ولا يمكنهم الدخول إليها ما داموا فيها فإن يخرج هؤلاء العمالقة منها دخلوها ، وإلا فلا طاقة لأصحاب موسى بهم .قال سبحانه : " قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) "(المائدة) ، وهذا ردّ الجبان الذي يؤثر السلامة على استرداد حقه ، ويفرّط فيه خوفاً وهلعاً . إن هؤلاء اليهود اعتادوا أن يكونوا خدماً في مملكة فرعون ، وتصرفهم هذا تصرفُ الخدم والعبيد الذين ألِفوا حياة الذل والهوان ، فكانت عقوبتهم أن يتيهوا في الصحراء أربعين سنة ، فينقرض هؤلاء ويخرج من أصلابهم رجال عاشوا الحرية وتذوّقوا طعم الكرامة ، فعلى يد أمثال هؤلاء تُستردّ الحقوق . وقالوا مقولة الجهل بالذات العلية حين طلبوا من موسى - راغبين عن الجهاد - أن يذهب وربه ليقاتلا ، أما هم فيودّون النصر على طبق من الورد يقدم لهم سهلاً يسيراً .

إن الفرق بين أصحاب موسى عليه السلام وأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم في شبيه هذا الموقف كبير ، ففي غزوة بدر حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه والمسلمين الذين خرجوا لاصطياد القافلة ففوجئوا بجيش قريش المدجج بالسلاح ، وكان العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة أن يمنعوه في مدينتهم كما يمنعون نساءهم وأبناءهم ، ولم يعدوه أن يحموه خارج المدينة . فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى رأيهم ويتوثّق من إيمانه فقال : أشيروا عليّ أيها الناس ، فتكلم أبو بكر وعمر فأحسنا ، ثم تكلم المقداد بن عمرو فقال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ‏‏:‏‏ ‏‏" اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا ههنا قاعدون ‏‏"‏‏ ‏‏.‏‏ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له به .
ثم قال : أشيروا عليّ أيها الناس – فالمتكلمون الثلاثة من المهاجرين وهو يريد الأنصار . فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له سعد بن معاذ ‏‏:‏‏ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ أجل ؛ قال ‏‏قولة المؤمن الصادق المحب لله ورسوله :‏‏ فقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لَصُبُرٌ في الحرب ، صُدُق في اللقاء ‏‏.‏‏ لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله .

ألا ترى أيها الأخ القارئ البون الشاسع بين ما قاله المؤمن بالله ورسوله الذي يعتبر نفسه جندياً من جنود الله ، ويرى أن عليه أن يقول سمعنا وأطعنا ثم يمتثل للأوامر دون تلكؤ ولا تكاسل ، وبين ما قاله اليهود لنبيّهم ؟ فأمر الله ورسوله لا بد من الالتزام به – إن كنا مؤمنين – لنحوز رضاه والجنة في الآخرة ، والعز والنصر في الدنيا .

فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشَّطه ذلك ؛ ثم قال ‏‏:‏‏ سيروا وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم . هذا ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى المسلمين الطاعة والامتثال والاستعداد النفسي والقلبي ، كان الله تعالى راضياً عنهم ، ومن رضي الله عنه فقد فاز ، وكان النصر على خطاهم . وكان جزاء يهود أن قال تعالى يوبخهم ويعاقبهم ، ويسمهم بالفسق ، والفاسق منبوذ مطروح : " قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) "(المائدة).

يتبع


 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/إنما يتقبل الله من المتقين

سلسلة رمضانيات

إنما يتقبل الله من المتقين

الدكتور عثمان قدري مكانسي

كنا نسمع قصة قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام مذ كنا صغاراً لا نقرأ ولا نكتب ، نسمعها من أمي ، وكانت رحمها الله ذكية أريبة وشاعرة تنظم المقطوعات الشعرية بلهجتنا العامية سريعاً ، وتعلمنا إياها ، وكانت تحفظ قصصاً كثيرة تسردها بدقائقها وكأنها تقرأ من كتاب .
ولم أكن أحب سماع قصة هذين الأخوين ، وأتألم حين أسمعها لما فيها من قطع للرحم وصلف وتكبّر يمثله قابيل قاتلُ أخيه ، ولا أكاد أصدّق أن يقتل الأخ أخاه لامرأة ، فيدخل بسببها النار ، وأقول في نفسي : إنني أحب الجمال ، لا شك في ذلك ، أمّا أن يكون الاستئثار به سبب دخولي النار خالداً فيها - وهذه خسارة ما بعدها خسارة - فأمر لا يمكنني تصوّره .

لكنني رأيت وقرأت وسمعت عن رجال يفعلون كل شيء في سبيل شهواتهم ، لا يرعَون عهداً ولا ذمّة ، ولا يعرفون حلالاً ولا حراماً ، فالحق ما يريدون ، والعدلُ ما يرغبون ، والصواب ما يحكمون . يضربون بكل الشرائع والقوانين عرض الحائط حين تُمس مصالحهم ، ويدورون حول ذواتهم ، ولا يرون سوى أنفسهم . ولا يرتاحون إلا عندما يجدون الناس يمالئونهم ويحسبون حسابهم ، ويعملون لإرضائهم . ، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور لمن يمس شعرة منهم أو يخرج عن نطاقهم . أو يرى غير رأيهم .

يتبارى الأَخَوان في ميزان العدل ، فيقدّم كل منهما قرباناً لربه سبحانه ينتظر الحكم ، وكان عليهما أن يرضيا بما يقسم الله لهما ، فلما خسر قابيل ما كان يرجو هدّد وتوعّد وأرغد وأزبد ، " قال لأقتلنك " وهل يغيّر القتل من الحقيقة شيئاً ، وما يدلّ التهديد والوعيد إلا على ضعف النفس أمام الهوى وضَعَتِها في ميزان الرجال . فماذا تقول في امرئ لا يعرف غير البلطجة والعنترية في الوصول إلى مآربه ؟! رافضاً القبول بما قسمه الله له وحَكَم ، يعتدي على الآمنين ويسلب حقوقهم ويرفع في وجوههم السلاح ، ويحاول إخافتهم والتأثير عليهم ؟
وهل التهديد يغيّر من الواقع موقفاً ومن الحقيقة شيئاً ؟ تقبل الله من هابيل قربانه ولم يتقبله من قابيل . فهلا سأل هذا الأخير نفسه السببَ ؟ بلى إنه سمعه من أخيه حين ردّ على تهديده بطمأنينة عالية الوتيرة " إنما يتقبّل الله من المتّقين " وكان عليه أن يراجع نفسه ويغيّر من سلوكه ليتقبّل الله منه ، ولن يتقبل الله إلا ممن يلزمون شريعته ، فيعملون بأمره وينتهون عن نواهيه . وما من رجل أطاع ربه إلا رضي عنه وفتح المغاليق أمامه .
ونبهه هابيل إلى أمور عدة منها : أن القاتل يتحمّل وزراً كبيراً حين يزهق روحاً في غير حق . وأن كثيراً من ذنوب المقتول – حين يأخذ حقه من قاتله يوم القيامة – يحملها القاتل فوق ذنوبه " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ..." وأن جزاءَ القاتل الظالمِ النارُ " فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " وإنها لعقوبة صارمة لا نجاة منها أبد الآبدين . والعجيب أنني قرأت للشاعر النصيري " سليمان العيسى " أن هابيل يتحمل مسؤولية مقتله لأنه صرّح باستفزازه لأخيه القاتل حين قال " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " واستنتج الرجل هذه الفكرة الغبية من كلمة " أريد " فقد كان المقتول مصمماً أن يُقتل ! . وللقارئ أن يحكم على الشاعر من هذا الاستنتاج العبقري !.
ولم تنفع الموعظة ولا النصيحة التي أسداها هابيل إلى قابيل ، فقد كانت نفس القاتل تسوّل له القتل وتزينه له ، فاغتنم فرصة كان أخوه غافلاً عنه ، فأرداه ميتاً فكان أشد العالمين خسارة ، لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل " لقد سنّ سنة سيئة ، فكان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة . قال تعالى مؤكداً هذا المعنى في سورة المائدة " فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)" والنفس أمّارة بالسوء تردي صاحبها في المهالك . أفليس على الإنسان أن يفكر ألف مرة قبل أن يُقدم على ما يضره قبل أن يضرَّ غيره ؟! نعوذ بالله من ساعة الغفلة .
قتله ، فهمدت حركتُه ، وتركه في العراء لا يدري ما يفعل بجثة أخيه . وأراد الله تعالى أن يعلمه كيف يدفن أخاه فأرسل غرابين يقتتلان ، فقتل أحدهما الآخر ، وحفر حفرة في الأرض واراه فيها ، فعلم القاتل أنه أقل حيلة وأضعف تصرفاً من هذا الغراب فأحس بالندم جرّاء فعلته ، وندم ، ولعلنا نتساءل : علامَ كانَ الندمُ ؟

حين يخطئ المرء ويندم ويستغفر الله تعالى يغفر الله له . فهل كان ندم هذا القاتل من هذا النوع الذي يُغفر فيه لفاعله ؟ يقول العلماء : إن هذا الندم ندم فقد لا ندم ذنب ، وبصيغة أخرى : إنه ندم على فقد أخيه لا على ذنبه الذي اجترحه . وقد مر قبل قليل أنّ على ابن آدم الأول كفلاً من دمها لأنه أول من سن القتل. وقد روى أبو بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم "( سنن الترمذي ) ، ولعله ندم أن الغراب كان أذكى منه حين دفن أخاه ، ولم يهتدِ هو إلى ذلك قبل الغراب .

قال تعالى في فداحة قتل المؤمن دون سبب " مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ .... (32) " قال ابن عباس رضي الله عنهما : من قتل نفسا واحدة حرمها الله مثل من قتل الناس جميعا وروى ابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير : من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعا ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعا ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا .

وقد أعجبني قول سليمان بن علي الربعي ، قال : قلت للحسن البصري : هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل فقال : إي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا وقال الحسن البصري " فكأنما قتل الناس جميعا " قال : وزرا ، "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال : أجرا . ..

نعم فدماء المسلمين أغلى وأكرم .
 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى