ماتريد معرفته عن رمضان المبارك

رد: ماتريد معرفته عن رمضان المبارك

بارك الله فيك وجزاك الله كل خير هاته هيا المواضيع المفيدة التي نتتضرها في هذا القسم
ولي اضافة عن خصائص شهر رمضان المبارك


الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلاله وعظمته وقدرته وعظيم سلطانه، الحمد لله الذي أوجب الصيام في رمضان على عباده، والصلاة والسلام على من سن القيام في رمضان لأصحابه واتباعه.. أما بعد:
فإني أحمد الله إليكم أن بلغنا رمضان لهذا العام، ولا يخفى على كل مسلم ما لرمضان من مكانة في القلوب، كيف لا وهو شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، شهر كله هبات وعطايا ومنن من الحق سبحانه وتعالى، وسنتطرق إلى الخصائص التي اختص بها هذا الشهر عن سواه من الشهور.

خصائص شهر رمضان

1- من خصائص شهر رمضان: أن الله تبارك وتعالى أنزل فيه القرآن، قال تعالى:
braket_r.gif
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
braket_l.gif
[البقرة:185]، وهو دستور هذه الأمة، وهو الكتاب المبين، والصراط المستقيم، فيه وعد ووعيد وتخويف وتهديد، وهو الهدى لمن تمسك به واعتصم، وهو النور المبين، نور لمن عمل به، لمن أحل حلاله، وحرم حرامه، وهو الفاصل بين الحق والباطل، وهو الجد ليس بالهزل، فعلينا جميعاً معشر المسلمين العناية بكتاب الله تعالى قراءةً، وحفظاً، وتفسيراً، وتدبراً، وعملاً وتطبيقاً.
2- ومن خصائص شهر رمضان: تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد مردة الشياطين وعصاتهم، فلا يصلون ولا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه من قبل، قال
article_salla.gif
: { إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين }، وفي رواية: { إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة } [البخاري].
3- ومن خصائص شهر رمضان: تضاعف فيه الحسنات.
4- ومن خصائص شهر رمضان: أن من فطر فيه صائماً فله مثل أجر الصائم من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئاً، قال
article_salla.gif
: { من فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء } [حسن صحيح رواه الترمذي وغيره].
5- ومن خصائص شهر رمضان: أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي الليلة المباركة التي يكتب الله تعالى فيها ما سيكون خلال السنة، فمن حرم أجرها فقد حرم خيراً كثير، قال
article_salla.gif
: { فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم } [أحمد والنسائي وهو صحيح]. ومن قامها إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، قال
article_salla.gif
: { من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } [متفق عليه]، وقال
article_salla.gif
: { من قامها إبتغاءها، ثم وقعت له، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر } [أحمد]. فياله من عمل قليل وأجره كثير وعظيم عند من بيده خزائن السموات والأرض، فلله الحمد والمنة.
6- ومن خصائص شهر رمضان: كثرة نزول الملائكة، قال تعالى:
braket_r.gif
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا
braket_l.gif
[القدر:4].
7- ومن خصائص شهر رمضان: فيه أكلة السحور التي هي ميزة صيامنا عن صيام الأمم السابقة، وفيها خير عظيم كما أخبر بذلك المصطفى
article_salla.gif
حيث قال: { فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر } [مسلم]، وقال عليه الصلاة والسلام: { تسحروا فإن في السحور بركة } [متفق عليه].
8- ومن خصائص شهر رمضان: وقعت فيه غزوة بدر الكبرى، وهي الغزوة التي تنزلت فيها الملائكة للقتال مع المؤمنين، فكان النصر المبين، حليف المؤمنين، واندحر بذلك المشركين، فلا إله إلا الله ذو القوة المتين.
9- ومن خصائص شهر رمضان: كان فيه فتح مكة شرفها الله تعالى، وهو الفتح الذي منه إنبثق نور الإسلام شرقاً وغرباً، ونصر الله رسوله حيث دخل الناس في دين الله أفواجا، وقضى رسول الله
article_salla.gif
على الوثنية والشرك الكائن في مكة المكرمة فأصبحت دار إسلام، وتمت بعده الفتوحات الإسلامية في كل مكان.
10- ومن خصائص شهر رمضان: أن العمرة فيه تعدل حجة مع النبي
article_salla.gif
، ففي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: { عمرة في رمضان تعدل حجة } أو قال { حجة معي }.
11- ومن خصائص شهر رمضان: أنه سبب من أسباب تكفير الذنوب والخطايا، قال
article_salla.gif
: { الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان الى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر } [مسلم].
12- ومن خصائص شهر رمضان: أن فيه صلاة التراويح، حيث يجتمع لها المسلمون رجالاً ونساءً في بيوت الله تعالى لأداء هذه الصلاة، ولا يجتمعون في غير شهر رمضان لأدائها.
13- ومن خصائص شهر رمضان: أن الأعمال فيه تضاعف عن غيره، فلما سئل
article_salla.gif
أي الصدقة أفضل قال: { صدقة في رمضان } [الترمذي والبيهقي].
14- ومن خصائص شهر رمضان: أن الناس أجود ما يكونون في رمضان، وهذا واقع ملموس لنجده الآن، ففي الصحيحين عن بن عباس رضي الله عنهما قال: { كان النبي
article_salla.gif
أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.. }
.
15- ومن خصائص شهر رمضان: أنه ركن من أركان الاسلام، ولا يتم إسلام المرء إلا به، فمن جحد وجوبه فهو كافر، قال تعالى:
braket_r.gif
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
braket_l.gif
[البقرة:183]، وقال
article_salla.gif
: { بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام } [متفق عليه].
16- ومن خصائص شهر رمضان: كثرة الخير وأهل الخير، واقبال الناس على المساجد جماعات وفرادى، مما لا نجده في غير هذا الشهر العظيم المبارك، وياله من أسف وحسرة وندامة أن نجد الإقبال الشديد على بيوت الله تعالى في رمضان أما في غير رمضان فإلى الله المشتكى. فبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.
فشهر هذه خصائصه وهذه هباته وعطاياه، ينبغي علينا معاشر المسلمين إستغلال فرصه وإستثمار أوقاته فيما يعود علينا بالنفع العميم من الرب العليم الحليم، فلا بد لنا من واجبات نحو هذا الشهر.

واجباتنا في شهر رمضان

1- أن ندرك أن الله أراد أن يمتحن إيماننا به سبحانه، ليعلم الصادق في الصيام من غير الصادق، فالله هو المطلع على ما تكنه الضمائر.
2- أن نصومه بنية فإنه لا أجر لمن صامه بلا نية.
3- أن لا نقطع يومنا الطويل في النوم.
4- أن نكثر فيه من قراءة القرآن الكريم.
5- أن نجدد التوبة مع الخالق سبحانه وتعالى.
6- أن لا نعمر لياليه بالسهر والسمر الذي لا فائدة منه.
7- أن نكثر فيه من الدعاء والإستغفار والتضرع إلى الله سبحانه.
8- أن نحافظ على الصلوات الخمس جماعة في بيوت الله تعالى.
9- أن تصوم وتمسك جميع الجوارح عما حرم الله عز وجل.
هذا- عباد الله- شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهر القرب من الجنان والبعد عن النيران، فيا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في شهره، بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط، وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، قل لي بربك كيف ترجو النجاة بمن جعلته خصمك وضدك، فرب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر والتعب، فكل قيام لا ينهي عن الفحشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلا بعد، وكل صيام لا يصان عن الحرام لا يورث صاحبه إلا مقتاً ورداً.
يا قوم.. أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسن والأسماع والأبصار، أفما لنا فيهم أسوة؟ فنشكوا إلى الله أحوالنا، فرحماك ربنا أعمالنا، فلا إله إلا الله كم ضيعنا من أعمارنا، فكلما حسنت من الأقوال ساءت الأعمال، فأنت حسبنا وملاذنا.

يا نفس فاز الصالحون بالتقى *** وأبصروا الحق وقلبي قد عمي

يا حسنهم والليل قد جنهم *** ونورهم يفوق نور الأنجم

ترنموا بالذكر في ليلهم *** فعيشهم قد طاب بالترنم

قلوبهم للذكر قد تفرغت *** دموعهم كالؤلؤ منتظم

أسحارهم بهم لهم قد أشرقت *** وخلع الغفران خير القسم

ويحك يانفس ألا تيقظ *** ينفع قبل أن تزل قدمي

مضى الزمان في توان وهوى *** فاستدركي ما قد بقي واغتنمي
فالله الله أيها المسلمون بالتوبة النصوح والرجوع الحق الى الله تعالى، فرمضان فرصة لأهل (الدخان) ليبرهن لهم بالدليل القاطع أنهم يستطيعون تركه، ولكنهم إتبعوا الشيطان، وإلا فكيف بمن يصبر عن الدخان أكثر من خمس عشرة ساعة متواصلة، ألا يمكن لهذا أن يقلع عن هذا الأمر المحرم شرعاً، بلى والله، ولكنه الهوى والشهوات، فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
هذا ما يسر الله لي كتابته في هذا الموضوع، واسأل المولى جل وعلا أن يجعل هذه الكلمات خالصةً لوجهه سبحانه، وأن ينفعنا بها يوم العرض عليه، وأن يجعلها في موازين حسنات الجميع، إنه سميع قريب مجيب الدعاء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
رد: ماتريد معرفته عن رمضان المبارك

بارك الله فيك وجزاك الله كل خير هاته هيا المواضيع المفيدة التي نتتضرها في هذا القسم
ولي اضافة عن خصائص شهر رمضان المبارك


.

مشكور a_aziz على المرور وجزاك الله كل الخير على هذه الاضافة للموضوع لكى يستفيد منه الجميع واتمنى من الجميع اضافة ما عندهم فى الموضوع عن هذا الشهر المبارك بارك الله فيك وجزاك خيرا
 
رد: ماتريد معرفته عن رمضان المبارك

فقه الصوم
الدكتور عائض القرني


الصوم في الإسلام مدرسة ربانية روحانية المقصد منها تقويم النفس وتهذيب الخلق وإزالة الأمراض القلبية من الكبر والعتو وأمراض النفس من الهم والغم والكدر، وفي الصوم قوام الصحة وإذهاب الفضلات وتعويد النفس على الصبر والتذكير بجوع الجائعين وظمأ الظامئين وحاجة المحتاجين وتوحيد حالة المجتمع، حيث يصومون سويا ويفطرون سويا. ووقت الصيام وقت معتدل بقدر استشعار الجوع والظمأ، وليس بطويل فيدخل الضرر منه على الجسم، ولهذا نهى الشارع عن مواصلة الصوم، أي مواصلة الليل بالنهار، وأمر بالفطر عند غروب الشمس.

وبالصوم تذكير للنفس الأمارة وتهذيب للنفس اللوامة وامتناع للنفس المطمئنة. وجعل الشارع الحكيم للصائم فرحتين؛ الأولى حين يتناول إفطاره فيفرح بعبودية الامتثال ونعمة الطعام والشراب ومشاركة المؤمنين وانتصاره على نفسه، والفرحة الثانية يوم يلقى ربه فيثيبه على صيامه ويكرمه على امتثاله.

وجعل الله عزّ وجلّ أجر الصيام كثيرا مفتوحا بلا عدد محدود فقال:
«كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»،
وحبّذ الصيام للصائمين وحببهم فيه وشوّقهم لهذا العمل الجليل فقال صلى الله عليه وسلم:
«ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».

ومن فوائد الصيام كسر الشهوة العارمة في النفس لمن لم يستطع الزواج، قال صلى الله عليه وسلم:
«ومن لم يستطع (الزواج) فعليه بالصيام فإنه له وجاء»؛
أي كسر لشهوته.

وحينما يصوم المسلمون في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد يشعرون بوحدة مجتمعهم وترابط أواصرهم وتقارب قلوبهم واجتماع كلمتهم وتآلف أرواحهم، فتجد الملك والغني والفقير كلهم يؤدون هذه العبادة في وقت واحد بكيفية واحدة كأنهم أسرة واحدة في بيت واحد فيتم الإخاء والمودة والصفاء والتآلف والرحمة.

والمقصد الأعظم من الصيام هو تقوى الله كما قال تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»،
فالصيام يساعد على رد النفس عن البغي والظلم والعدوان وتعدي الحدود؛ لأن الجائع الظامئ الممنوع من شهواته ينكسر جموح نفسه الأمارة فيسلس القياد لرب العباد ويصبح مخبتا منيبا؛ لأن الشبع وكثرة الشهوات والإسراف في تناول الملذات يصيب النفس بالأشر والبطر والعتو والعلو، فجاء الإسلام بعلاج مسكن ودواء مقبول يحصل به الأجر وتكفير الوزر وصلاح النفس ومشاركة المؤمنين وطاعة رب العالمين واتباع سيد المرسلين، ولهذا كان أهل الإيمان يتلذذون بألم الجوع ومشقة الظمأ وهم صائمون على حد قول أبي الطيب:

* إن كان سركم ما قال حاسدنا - فما لجرح إذا أرضاكم ألم

* بل إن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يجد من المعارف الربانية والفتوحات الإلهية والفيوضات الإيمانية ما يكفيه عن الطعام والشراب، ولهذا لما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم الليل بالنهار في الصيام أراد الصحابة أن يواصلوا كما واصل فمنعهم وقال:
«إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني»،
وهذا الطعام والسقاء ليس بأكل ولا شراب، لأنه لو كان كذلك لما كان صائما صلى الله عليه وسلم، وإنما طعام اليقين والذكر والعبودية وزاد التقوى وحلاوة الطاعة، كما قال الأول:

* لها أحاديث من ذكراك تشغلها - عن الطعام وتلهيها عن الزاد

* ثم إن الأطباء جعلوا الصيام علاجا لبعض الأمراض ودواء من الأسقام، لأنه حماية للمعدة وراحة لها وتخفيف من الأخلاط واستفراغ للمادة الفاسدة، وقد سبقهم الإسلام إلى هذا المعنى؛ ففي الأثر:
«صوموا تصحوا»،
فصار الصيام صلاحا للقلوب والأبدان وشفاء من الأمراض ودواء من الأسقام، وفوق ذلك، امتثالا لأمر الشارع واقتداء بالنبي المعصوم صلى الله عليه وسلم وتعويدا للنفس على مشقة الحياة وعنت الطريق طول السفر إلى الآخرة وتدريبا للروح على ترك المعاصي واجتناب المحظورات، إلى غير ذلك من المنافع العظيمة والمقاصد الكريمة


عن الدار العراقية
 
رد: ماتريد معرفته عن رمضان المبارك

موضوع رائع وشامل بارك الله فيكم
 
رد: ماتريد معرفته عن رمضان المبارك

مشكور نبيل للأضافة الطيبة ومشكورة ايمى للمرور الكريم
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي

سلسلة رمضانيات

الحمد لله

الدكتور عثمان قدري مكانسي

ما أعظم كلمة " الحمد لله " إنها حسنات ثقيلة في ميزان المسلم يلقى الله تعالى بها فيرضى عنه ، ويكرمه .
وهل الحمد إلا لله تعالى ، فهو الخليق به سبحانه ، إنه الخالق والرزاق وذو الأفضال الكثيرة التي لا تعدّ ولا تحصى " وإن تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها " .

و" الحمد لله " فضل منه تعالى على العباد أن علمهم أن يحمدوه فيصبحوا قريبين من جوده وكرمه ووده ورضوانه .
فقد روى أبو سعيد بن المعلى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن ، قبل أن تخرج من المسجد ) . ثم أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج ، قلت له : ألم تقل : ( لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ) . قال : ( { الحمد لله رب العالمين } : هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته ) . رواه البخاري .
وقد بدأت خمس سور في القرآن الكريم بالحمدلة ) الفاتحة والأنعم والكهف وسبأ وفاطر ) للدلالة على عظم فوائد حمد الله تعالى . وقد كانت الفاتحة أعظم سورة في القرآن لأمور عديدة منها ابتداؤها بالحمدلة .

وعلمنا الحبيب المصطفى أن نحمد الله تعالى حين نستيقظ من سبات هو كالموت ، فقال صلى الله عليه وسلم ": ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) . رواه البخاري عن أبي ذر الغفاري .
والدليل على أن النوم كالموت قوله تعالى في سورة الأنعام " وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار " وقوله تعالى " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " ، أفلا نشكر الملك العليم العلام على أن أحيانا بعدما أماتنا ؟.

والحمد أكبر من الشكر ، فالشكر لما يحب الإنسان ويأنس له فقط لقوله تعالى " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم " أما الحمد فللسراء والضرّاء . فكان الحمد أعمّ وأكبر . ومما يدل على أن الحمد للسراء كما هي للضراء ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : " أسلم " . فنظر إلى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، فأسلم ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " الحمد لله الذي أنقذه من النار" أخرجه البخاري .

وقد حمد نبينا الكريم ربه حمداً رائعاً يُكتب بماء الحياة ، وعلم أصحابه أن يقولوا مثله ، فقد روى أبو أمامة الباهلي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحمد لله ربنا ، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى ، ربنا " وقال مرة ": إذا رفع مائدته : ( الحمد لله الذي كفانا وأروانا ، غير مكفي ولا مكفور ) رواه البخاري . فالله تعالى يحب إذا أكل عبده من فضله أن يحمده ، ليس غير . وقد قال صلى الله عليه وسلم " إذا أكل أو شرب قال :" الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وسوغه وجعل له مخرجا "
يؤكد هذا ما قاله علي رضي الله عنه: هل تدرون ما حق الطعام ؟ قالوا : وما حقه ؟ قال : أن تقولوا : بسم الله , اللهم بارك لنا فيما رزقتنا قالوا : وما شكره ؟ قال : أن تقولوا : الحمد لله .

وحين يهدي الله تعالى المسلم للخير تسمعه يحمد الله تعالى أن أخذ بيده إلى الصواب " دليل ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن ، فنظر إليهما ، ثم أخذ اللبن ، فقال جبريل : الحمد لله الذي هداك للفطرة ، ولو أخذت الخمر غوت أمتك " أخرجه البخاري .

ومن عظيم مكانة الصاحبين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حمد ربه حين رآهما قادمين نحوه فقال : " الحمد لله الذي أيدني بكما " رواه الدوسي أبو أروى ، وأخرجه ابن أبي حاتم في علله .

والقول في الحمد كثير جداً ، وما ذكرت إلا القليل تذكرة لي ولإخواني ، وأختم هذه الفائدة بحديث يوضح فضل الحمد في العفو والمغفرة ، وفيه بشرى في المغفرة عظيمة ....

يقول صلى الله عليه وسلم " من أكل طعاما ثم قال : الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومن لبس ثوبا فقال : الحمد لله الذي كساني هذا [ الثوب ] ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " ..

ومن منا يستنكف أن يغفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر غير المحروم من رحمة ربه ...
نسأل الله تعالى أن يكون رمضان هذا عتقاً لنا من النار وسبباً في رحمة الله وجنته .

اللهم آمين يا رب العالمين .

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/رب العالمين

سلسلة رمضانيات

رب العالمين

الدكتور عثمان قدري مكانسي

نقرأ في سورة الفاتحة " الحمد لله رب العالمين " ، وقد يتساءل أحدهم – ولْيكن صاحبكم عثمان – لِمَ قال سبحانه : ( رب العالمين) ، ولم يقل رب العالم ؟
بعضهم يقول إن الناس عالم ، والحيوان عالم ، والنبات عالم ، والحماد عالم ، فالمجموع
(عالمون ) أو عوالم فهو سبحانه رب العالمين ...
ويقول بعضهم : والشياطين عالم آخر والملائكة كذلك ، وهؤلاء أجزاء من العالمين .
ويقول آخرون : إن الشموس والكواكب والأرضين والمجرات والأفلاك عوالم نضيفها للعوالم الأخرى ، وهو سبحانه ربها جميعاً .
ويُضاف إليها كذلك السماوات السبع بمن فيها من مخلوقات لا يعلمها إلا الله تعالى ، فيتسع العالم إلى أضعاف الأضعاف فإذا العالم يرحُب ليكون عوالم كثيرة .
قرات في مجلة حضارة الإسلام التي كانت تصدر في دمشق عام 1970 مقالاً يذكر فيه علماء الفلك أن قطر السماء الدنيا سبعون مليار سنة ضوئية ، ثم يعقّبون قائلين " وقد يكون أضعاف هذا والله أعلم –".
وفي عام 2002 أقرأ مقالاً للعلماء يقولون إنهم اكتشفوا أن قطر السماء الدنيا 140 مليار سنة ضوئية ، ثم يعقبون كذلك " وقد يكون أضعاف هذا والله أعلم " .
أما في العام 2005 فقد اكتشف الفلكيون مجرة قطرها خمسون مليار سنة ضوئية ، ولا ننسَ أن بين المجرة وأختها أضعاف أضعاف مسافة قطرها . وهذا يعني أن قطر السماء الدنيا لا يُقدّر ، وإذا علمنا أن السماء الدنيا للسماء الثانية كحلقة في فلاة ، والسماء الثانية للسماء الثالثة كحلقة في فلاة ، ... وأن السماء السابعة لكرسي الرحمن كحلقة في فلاة وان الكرسي للعرش كحلقة في فلاة ، وأن العرش لعلم الله كحلقة في فلاة – هكذا أخبرنا الصادق المصدوق – أيقنا أن الله ربُّ العالمين لا رب العالم فقط ، وفهـِمْنا قوله تعالى في سورة الفاتحة " الحمد لله رب العالمين "

يروي القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير سورة " فصلت " حين يتحدث في تفسير قوله تعالى " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كَرهاً قالتا أتينا طائعين " أن موسى عليه السلام سأل ربه : لولم تأتيا طائعتين ما أنت فاعل بهما؟
فقال تعالى : أسلّط عليهما دابة من دوابّي فتبتلعهما .
قال موسى : يا رب؛ فأين دابتك ؟
قال : في مرج من مروجي .
قال موسى : يا رب ؛ فأين مروجك ؟
قال : في علم من علمي .

وتوقفت ملياً في ملكوت هذه المحاورة القصيرة بين رب العالمين ومخلوق كريم من مخلوقاته . فارتعدت مستصغراً نفسي ومَن حولي ، موقناً بعظمة الخالق جل شأنه
وقلت : لا إله إلا أنت سبحانك .. أنت رب العالمين .........

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/اهدنا الصراط المستقيم

سلسلة رمضانيات

اهدنا الصراط المستقيم​

الدكتور عثمان قدري مكانسي

(هدى) : في مختار الصحاح : الهُدَى الرَّشَاد ،
يقال هَدَاه اللهُ للدِينِ يَهْدِيهِ هُدًى. وقوله تعالى ( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ) قال أبو عمرو بن العَلاء معناه أولم يُبَيْن لهم. وهَدَيْتُه الطَّرِيقَ والبَيْتَ هِدَايَةً عَرَّفْتُه هذه لغة أهل الحجاز. وغَيْرُهم يقول هَديتُه إلى الطَّريق وإلى الدار.
وقد ورَدَ (هَدَى )في الكتَاب العزيز على ثلاثة أَوْجُه:

1- مُعَدَّى بنَفْسه كقوله تعالى: ( اهْدِنَا الصّراطَ المُسْتَقِيمَ ) وقوله تعالى: ( وهَدَيْنَاه النَّجْدَيْنِ )
2- ومُعَدًّى باللام كقوله تعالى: ( الحَمْدُ لِلهِ الَّذي هَدَانا لِهذَا ) وقوله تعالى: ( قُل اللهُ يَهْدِي للحَقِّ ).
3- ومعدَّى بإلى كقوله تعالى: ( واهْدِنا إلى سَوَاءِ الصِّرَاط ).

والهدى من الله تعالى ( من يهدي اللهُ فهو المهتد ) وعلى هذا ندعو الله تعالى أن يهدينا إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
دعاني إلى كتابة هذه الخاطرة أن نصرانياً دخل إحدى غرف البالتوك المسلمة ، وطلب الحديث ، فلما ملك اللاقط قال : إنكم معشر المسلمين ضالّون ، وتعترفون بضلالكم ، فإننا نراكم تدعون باستمرار " اهدنا الصراط المستقيم " ولو لم تكونوا ضالين لم تجأروا بالدعاء المتتابع طالبين الهداية . أما نحن النصاري فقد تأصلت الهداية في قلوبنا ، فلسنا ندعو لأنفسنا بالهداية ، إنها ممتزجة فينا ، وما يطلب الشيء إلا فاقده .

أقول : إن المسلم يقرأ الفاتحة سبع عشرة مرة في صلاة الفرض ، ناهيك عن السنن الرواتب والنوافل والوتر ، ويكثر من قراءتها كلما حزب الإنسانَ أمر فالتجأ إلى الله تعالى ينشده العون والمغفرة والهداية .
وليس الإكثار من طلب الشي يعني فقدانه وعدم الحصول عليه . إن لطلب الهداية المستمر معانيَ عديدة ،لا يعرفها إلا ذوو الإيمان الحي في القلوب الشفافة .

من هذه المعاني :

1-أن تتجذر الهداية في القلوب وتنمو في الأفئدة ، ويبتعد الضلال حين تضيءالنفوس بنور الإيمان ، وتغتذي بنسغه الريان الدافق .

2-إن الإيمان يزيد وينقص . يزيد بالتقوى والعمل الصالح ، وينقص بالتكاسل والانحراف عن النهج القويم ، وقولك المستمر " اهدنا الصراط المستقيم " دعاء من الأعماق أن يثبت الإيمان في قلب المؤمن ثم يزداد بالتقوى والعمل الطيب .

3-وتكرارنا " اهدنا الصراط المستقيم " دعاء يتجه بالعباد بإخلاص إلى المولى سبحانه أن يهدينا للعمل بكتابه وسنة نبيه ، فهو الميزان الحقيقي للإيمان الصحيح ، فالله تعالى لا يقبل إيماناً بلا عمل ولا عملاً بلا إيمان .

4-وحين تحضر المرءَ وفاتـُه فهو بين طريقين مختلفين ، الأول يقود إلى رضى الله والجنة ، والثاني يؤول إلى سخطه والنار ، ومن دعاء المسلم الذي لا ينفك يدعو به " اللهم اجعل خير أعملنا خواتيمها " وقولنا " اهدنا الصراط المستقيم " دعاء حثيث يدفع إلى الموت على ملة الإسلام فـ " إن الدين عند الله الإسلام " ، " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه " .

5-وفي القبر – أولى مراحل الآخرة – يستقبلنا الملكان يسألان كل ميت ثلاثة أسئلة عليها مدار حياتنا الأول ومآل حياتنا الأخرى : من ربك ؟ ما دينك ؟ ماذا تقول في الرجل الذي بعث إليكم ؟ والهداية الربانية التي عشنا في رحابها طيلة أعمارنا تتكفل في قول الإجابة الصحيحة : الله ربي لا إله إلا هو الخليق بالعبادة ، الجدير بالحب ، عشنا له وبه ، هو الذي تتجه القلوب إليه سبحانه من إله عظيم . وديني الإسلام لم أكن أرضى عنه بديلاً ، عشت في رحابه ، فكان البلسم لنفسي والنور لقلبي ، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيبي وشفيعي ، آمنت به نبياً كريماً أدى الرسالة ، وبلّغ الأمانة . وهدى الله به الأمة وكشف به الغُمّة . وبهذه الهداية يكون قبر المسلم روضة من رياض الجنة .

6-ومن الهداية – أيضاً – أن يكون للمسلم نورٌ في ظلمات ذلك اليوم الطويل المهول واقرأ معي قوله تعالى في سورة الحديد " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، ذلك هو الفوز العظيم " ونحن نطلب الهداية لذلك الموقف العظيم .

7-ومن الهداية أيضاً أن يحوز المسلم كتابه بيمينه ، فيسعد السعادة الكبرى ويباهي بذلك ، واقرأ قوله تعالى في سورة الحاقة موضحاً ذلك الموقف البهيج " فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه * إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية * كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية " . إنها هداية رائعة أن ينال المسلم كتابه بيمينه ، اللهم اهدنا لذلك يا رب وتكرّم علينا .

8-ومن الهداية أن ينجو المسلم من النار وهو يجتاز الصراط المستقيم ، ألم يقل الله تعالى في سورة مريم " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً * ثم ننجّي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جِثِيّاً " ولا بد من الرجاء لله تعالى أن ينجينا من النار حين نكون على الصراط ، والتعيس من كبا به عمله وحظه ، فهوى فيها وكان من أهلها والعياذ بالله تعالى منها .

لهذا وغيره من المعاني الثرة يجد المسلم يدعو ربه ليلاً ونهاراً أن يهديه الصراط المستقيم ، وأن يُديم عليه نعمة الهداية ....
ومن ادّعى الهداية فقد سقط في سوء أعماله وخطل تفكيره ، ولن ينفعه إذ ذاك فلسفته القاصرة ولا تفكيره الضحل ..
وقد أفلح من عاش في رحاب " اهدنا الصراط المستقيم "


يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/جبريل عليه السلام واليهود

سلسلة رمضانيات

جبريل عليه السلام واليهود

الدكتور عثمان قدري مكانسي

يقول الله تعالى في الآية 97 من سورة البقرة " قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ "
سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنه ليس نبيٌّ من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي , فمن صاحبك حتى نتابعك ؟ قال : ( جبريل ) قالوا : ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال , ذاك عدونا ! لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك , فأنزل الله الآية إلى قوله : " للكافرين " أخرجه الترمذي . من تفسير القرطبي رحمه الله تعالى . وقال المراغي رحمه الله في تفسير الآية : إن أحد علماء اليهود وهو عبد الله بن صوريا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي ، فقال : هو جبريل . فقال ابن صوريا : هو عدوّ اليهود لأنه أنذرهم بخراب بيت المقدس ، فكان ما أنذر به .
ولا شك أن هذا منهم دليل على خطل الرأي وعدم التدبّر ، ، وإنما ذكره الكتاب الكريم ليستبين للناس حُجج أهل الكتاب ويعرفوا مقدار مَرائهم ، وسخفهم في جدلهم ، وأنهم ضعاف الأحلام ، قليلو التبصر في عواقب ما يقولون ، وذلك لأسباب عديدة منها :

1-أن عداوتهم لجبريل عليه السلام قائمة على الوهم والغباء وعدم التبصرة ، فليس جبريل مَنْ خرَب بيت المقدس ، والذي خربها اليهود أنفسهم بتنكبهم سبل السلام وابتعادهم عن العمل بالتوراة وفسقهم ، فسلط الله تعالى عدوّهم عليهم لفسادهم ، وما كان جبريل عليه السلام سوى منذر وناصح ، فلما لم يستقيموا دمّر الله عليهم مدينتهم .

2-أن ميكائيل نفسه لو أمره الله تعالى أن ينذرهم لفعل ، فالملائكة عليهم السلام " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " .

3-أن اليهود عاصون لله تعالى لا لجبريل ، فهو سبحانه يحدد الرسل ويختارهم لتنفيذ ما يأمر ، وهو الذي يدبر الأمر ، وما على الملائكة سوى الطاعة ، وفي هذا يستوي الملائكة كلهم ، كما أن لكل ملك عملاً يؤديه كما رُسم له .

4-أن من غباء اليهود وفساد عقولهم وسواد قلوبهم أنهم يريدون أن يفرضوا على العزيز الحكيم الأنبياءَ الذين يريدون والملائكة الذين يتخيرون ، وإلا استنكفوا عن عبادة الله ، وخالفوا أمره . وكأنهم المنعمون المتفضلون على الله تعالى بعبادتهم إياه . أليسوا هم من أساءوا إلى مقام الله تعالى فقالوا : " يد الله مغلولة " ألمْ يدّعوا الغنى واستهزءوا بالذات الإلهية حين قالوا " إن الله فقير ونحن أغنياء " فكان التهديد من الله على جرأتهم على الله تعالى في الآية الأولى " غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " وكان الجواب على الثانية قوله تعالى " سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد " وهو تهديد شديد لليهود الملعونين لكفرهم وسواد قلوبهم وسوء أعمالهم .

ويكرم الله تعالى سفيره الرائع جبريل عليه السلام حين يرفع من قدره فيجعله أميناً على رسالاته للأنبياء جميعاً " قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله مصدّقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ." ، وهو الذي كان رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى بيت المقدس وإلى السماء ، وهو من قاد ألفاً من الملائكة مسوّمين في غزوة بدر . وأكرمه الله تعالى حين قرر أن من عادى جبريل كمن عادى الله تعالى ، فكان كافراً " من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين " . كما أنه سبحانه ضمه إليه في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في سورة التحريم حين قال : " وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير "

إن الله تعالى مدح جبريل عليه السلام في القرآن الكريم فقال: " علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى *ثم دنا فتدلى *فكان قاب قوسين أو أدنى " وقال " ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى " .

اللهم إننا معشر المسلمين نحب أمينك على رسالاتك سيدنا جبريل عليه السلام ، بحبك أنت يا رب العالمين . اللهم فبلغنا بهذا الحب رضاك والجنة ، واحشرنا مع حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم آمنين مطمئنين في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظله . وارزقنا الفردوس الأعلى بفضلك ومنّك يا أكرم الأكرمين ... اللهم آمين يا رب العالمين .

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/أرسول الله حيٌّ بيننا


سلسلة رمضانيات

أرسول الله حيٌّ بيننا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

يقرأ أحدنا قوله تعالى في سورة آل عمران :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) " فيرى المعاني التالية :

1- تحذيراً للمؤمنين أن يطيعوا اليهود والنصارى ، وأن يتخذوهم أولياء .

2- لا يرضى أهل الكتاب منا إلا الردة عن الإسلام ، الدينِ العظيم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده .

3- والعاقل الذي يعيش في رياض القرآن العظيم وسنة النبي الكريم يعلم أنه على نور من ربه فيلتزمه ويسعد في أفيائه .

4- من اعتصم بحبل الله المتين اهتدى إلى الحق وإلى صراط مستقيم ، فكان القرآن وكانت السنة المشرفة حصناً منيعاً يمنعانه أن ينزلق إلى مهاوي الكفر والضلال .
ولا يرتد أحد عن الحق حين يكون القرآن بين يديه يتلوه ويتدارسه تفسيراً وفقهاً وحياة ، وحين تكون سنة النبي صلى الله عليه وسلم نبراساً يضيء له دروب الحياة .

القرآن الكريم بين أيدينا : "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" ، فقد أكد المولى سبحانه أنه سيحفظه ، بل هو حافظه إلى يوم القيامة : ألم يقل الله تعالى " إنا نحن نزّلنا الذكر ، وإنا له لحافظون " فالله تعالى تكفل أن يبقى القرآن العظيم كاملاً تاماً لا يعتريه النقصان ولا الزيادة على مر الدهور وكرّ العصور . ففي هذه الكلمات السبع (أحد عشر) تأكيداً – والله الخالق الصادق لا يحتاج كلامه هذا التأكيد فهو رب الصدق . ومع هذا أكد كلامه بما لا يدع مجالاً للمتنطعين والمتشدقين المتفيهقين . وإليك هذه التأكيدات كما ذكرها علماء البلاغة :

1-2- إنّ المؤكدة ، ونا ضمير العظمة المجموعتان في قوله " إنّا " .

3- ضمير العظمة " نحن "

4-5- التضعيف في الفعل نزّل ، ونا ضمير العظمة في قوله " نزّلنا ".

6-تعريف الذكر بـ " ال " العهدية وما الذكر إلا القرآن الكريم .

7-8- إنّ المؤكدة ونا ضمير العظمة في قوله " إنا " الثانية

9- تقديم ما حقه التأخير ، فقدّم " له " الجار والمجرور على المتعلق به حافظون

10-11- لام التوكيد ، والجمع " حافظون " في قوله " لحافظون " .

أما النبي عليه الصلاة والسلام فحي بيننا بسنته المطهرة التي نقلها إلينا أصحابه الأفاضل من بعده رضوان الله عليهم ، ثم التابعون لهم بإحسان ، فهو الوحيد من بين البشر - أنبياء وصالحين – نعرف سيرته المطهرة منذ ولد إلى أن توفاه الله وكأنه يعيش بيننا ، حتى إننا نعرف دقائق حياته بين أصحابه وزوجاته سلماً وحرباً وسياسة ودعوة وفكراً واجتماعاً فهو صلى الله عليه وسلم كتاب مفتوح بين يدي أتباعه إلى يوم الدين ، يقتبسون من فيوضه الدروس والعبر والأسوة الحسنة . ألم يقل الله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً " وليكون أسوتنا الحسنة فقد جلّى الله تعالى سيرته لنا واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار .

عشت مع والدي رحمه الله قرابة أربعين سنة ، ولأني كنت أكبر أولاده فقد لازمته ملازمة غير منقطعة ، وأعرف عنه ما لا يعرفه غيري ، إلا أنني أعرف عن الحبيب المصطفى آلاف أضعاف ما أعرفه عن والدي بل عشرات الآلاف ضعفٍ . وهذا يوضح قوله تعلى " وفيكم رسوله " فالرسول صلى الله عليه وسلم يعيش في قلوبنا وعقولنا وبين جوانحنا ، سيرته تفتح لنا كل يوم آفاقاً من التربية الرائعة والهداية الصافية .
أنت بيننا يا رسول الله في كل حركة وسكنة وفكرة وعمل . أنت قدوتنا وقائدنا وشفيعنا عند الله تعالى
اللهم إننا نحبك ونحب نبيك فارض عنا ورضّنا .... اللهم آمين يا رب العالمين .

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/وسارعوا إلى مغفرة من ربكم

سلسلة رمضانيات

وسارعوا إلى مغفرة من ربكم

الدكتور عثمان قدري مكانسي

إذا كان علماء الفلك قد اكتشفوا مجرّة فقدّروا قطرها بخمسين مليار سنة ضوئية ، وهي نقطة في بحر السماء الدنيا ، فكم قطر السماء الدنيا ؟ .. وإذا كانت السماء الدنيا للسماء الثانية كحلقة في فلاة ، فكم قطر السماء الثانية ؟ .. وإذا كانت السماء السادسة للسماء السابعة كحلقة في فلاة ، فكم قطر السماء السابعة ؟
وإذا قرأنا قوله تعالى في سورة آل عمران : " وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) " تساءلنا : إذا كان عرض إحدى الجنان التي أعدها الله تعالى للمؤمنين يعادل عرض السماوات والأرض فكم طولها ؟؟ وكم حجم الجنان الأخرى وهي كثيرة : الفردوس الأعلى ، وجنة عدن ، وجنة المأوى وجنة الخلد ، وجنة النعيم ؟ وغيرها كثير لا يعلمه إلا الله تعالى .
إن ملكوت الله تعالى كبير لا يعلمه إلا من خلقه ، والخير فيه ينتظر المؤمن الذي آمن بالله رباً واحداً لا شريك له ، وآمن بملائكته ورسله واليوم الآخر ، فعمل صالحاً يرضي ربه فأكرمه .
ولاحظوا معي فعل الأمر والحض على المسارعة ، " سارعوا " إنه على وزن " فاعل " الذي يعني التنافس والمباراة بين المؤمنين في الوصول إلى جنان الخلد التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . ولا يصل إليها إلا من شمّر عن سواعد الجد وشد المئزر ، واجتهد في الطاعة .
ولا بد قبل الدخول إلى الجنة من مغفرة الله تعالى " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم .." ولن يدخل أحد الجنة بعمله ، إنما يرافق العملَ نيّةٌ خالصة لرضاء المولى وكسب عفوه اللذين يجعلانا من السعداء الذين يحوزون دار الخلد والأمان .
هذه الدار أعدّتْ للمتقين وهم السابقون الذين ذكروا في سورة " الواقعة " . ذكروا في تلك السورة وهم يفوزون بالجنة العالية دون أن يُذكر فيها سبب حصولهم على المكانة العالية ، إلا أننا نجد في هذه الآية من سورة آل عمران صفات تؤهلهم لما وصلوا إليه من النعيم المقيم " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) " فهم :

1- ينفقون في حالتي الفقر والغنى ويتصدّقون باستمرار .
2- يجترعون الغيظ ويسكتون عنه وهم قادرون على الانتقام ، محتسبين الأجر عند الله .
3- ويعاملون الناس بالعفو والمغفرة لأنهم يريدون من الله العفو والمغفرة .
4- يحسنون إلى الناس ويكرمونهم على ما بدر منهم ، وكأن شيئاً لم يكن .
ونرى التدرج في هذه الآية من تحمل الأذى ، إلى العفو والمغفرة ، إلى الإحسان إلى من أساء إليك ، وهذه صفة لا يمتلكها إلا أولو العزم وأصحاب الهمم العالية والنفوس الرضيّة .
ثم تأتي الآية التي تتحدث عن أهل اليمين : " وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) " وسورة الواقعة تذكر فوزهم برضا الله والجنة دون ذكر الأسباب المانحة لهذه الدرجة لكننا نرى في هذه الآية أنهم :

1- بعد أن ظلموا أنفسهم استغفروا الله تعالى وتابوا إليه ، فهو الغفور الرحيم .
2- أقلعوا عن الذنوب ، واجتهدوا أن لا يقعوا فيها .
3- وعموا علم اليقين أن من اجتهد في التوبة وحرص عليها يغفر الله له ويعفو عنه ، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده .

والنفس ثلاثة أنواع : النفس المطمئنة ، والنفس اللوامة ، والنفس الأمارة بالسوء . أما الأولى والثانية ، فالشيطان مرتاح من متابعتهما ، فالأولى قريبة إلى الله تعالى ملتزمة بطاعته ، ومجتهدة في السمو والارتفاع ، هذه تحرق الشيطان إن حاول الدنوّ منها ، والثالثة باعت نفسها للشيطان ، وأفسدت أكثر مما طلب منها ، فهذه لا يتعب الشيطان في التلاعب بها ،
أما النفس اللوامة فترى الشيطان يحاول إغواءها وإيقاعها في الفتن ، فإن قدر عليها واطمأن إلى ذلك ذكرت الله سبحانه فاستغفرت وتابت ، فالشيطان معها في مدّ وجزر ، وكر وفرّ لا يمل منها وهي لا تمكنه من نفسها ، تضعف أمام إغراءاته ثم تنتبه من غفلتها ، فتلجأ إلى الله وتلوذ بحماه سبحانه ..
وهؤلاء الذين يسعون إلى رضا الله ، فيتوبون إليه ويستغفرونه ، ويجهدون أن يتفلّتوا من أحابيل الضلال والغواية يغفر الله لهم ، فهو سبحانه خلقهم من ضعف ، والضعيف قد يزل إلا أنه بعد الكبوة ينطلق إلى الأمام فيتخلص من وهدة الزلات وحفر الذنوب . " أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) " هؤلاء أصحاب اليمين ..
وما أروع التعبير القرآني في وصف السابقين وأصحاب اليمين في سورة الواقعة : " فأما إن كان من المقرّبين * فرَوحٌ ورَيحان وجنّة نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين* فسلام لك من أصحاب اليمين "

اللهم اجعلنا من المقربين ومن أصحاب اليمين ، فأنت الغفار ، وأنت أكرم الأكرمين .

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/أقربهم مودة للذين آمنوا

سلسلة رمضانيات

أقربهم مودة للذين آمنوا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

*تلوت قوله تعالى في سورة المائدة :
" لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا "
فتوقفت عندها ولم أكمل الآية فالكلام شدني شداً ، وساءلت نفسي : لِمَ نجد اليهود شديدي العداوة للذين آمنوا ، وكان بإمكانهم أن يتدبروا ويتفكروا ، فيعلموا الحق ويتبعوه ، ويعلموا الباطل فيجتنبوه ، أليسوا من كانوا يهددون مشركي يثرب من الأوس والخزرج بخروج نبي حان أوانه فيؤمنون به ويقاتلون تحت رايته هؤلاء المشركين فيقتلونهم قتل عاد وإِرَم ؟ ولماذا حين عرفوه قال كبيرهم : العداوةَ ما حيينا ، ولن نؤمن به . فقاتلهم وشتت بعضهم وأباد بعضهم الآخر ، فقالوا معاندين : ملحمةٌ كتبت على بني إسرائيل . وحاولوا قتل النبي عليه الصلاة والسلام مراراً حرباً ومؤامرة وتسميماً فلم يفلحوا ، وكان بيدهم أن لا تكون ملحمة !!. لا شك أنه الاستكبار وعناد الحق ومجافاته ، وغمط الناس ، فغضب الله عليهم ولعنهم .
ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلا يهودي بمسلم قط إلا هم بقتله " وفي رواية " إلا حدث نفسه بقتله "
وأكملتُ قوله تعالى في الآية نفسها : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يُدخلنا ربنا مع القوم الصالحين "

قلت في نفسي : وهل تنطبق هذه الآية على مجموع النصارى أو على بعضهم ؟ فإذا بالآية تعيدني إلى قراءتها مرة أخرى وتقول لي :

1- إن أولى صفاتهم أنهم لا يستكبرون عن اتـّباع الحق حين رأوه فآمنوا بالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً .
2- وأنهم كانوا ينتظرون النور الذي جاء فلما عرفوه وعلموا أنه يتصل بالنور الذي معهم أسرعوا إليه مجيبين .
3- سألوا الله تعالى أن يجعلهم من الشاهدين ، وأن يدخلهم مع القوم الصالحين محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به .
وذكرت قوله تعالى في هذا الصنف الذي آمن بالإسلام ديناً وعقيدة ممن كانوا نصارى فمدحهم القرآن : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله.."

وهم الذين قال الله فيهم " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين" إلى قوله تعالى " لا نبتغي الجاهلين " (القصص).
قال عطاء بن أبي رباح هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين .
وقال قتادة : هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا ، وما ذاك إلا لما في قلوبهم - إذ كانوا على دين المسيح - من الرقة والرأفة كما قال تعالى " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية " وفي كتابهم : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ، وليس القتال مشروعا في ملتهم ، تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف .

وذكر ابن كثير في تفسيره كذلك أن بعض أهل الحبشة قدموا مع جعفر بن أبي طالب فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم " فقالوا : لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله ذلك من قولهم " وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين .
فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق جنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون وذلك جزاء المحسنين في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان .
وكل من آمن بالإسلام قديماً أو حديثاً أو مستقبلاً يندرج في هذه الآيات حكماً .
أما ما نراه في عالمنا المعاصر من تآلب النصارى على المسلمين فهؤلاء من الذين انغمسوا في الشرك ، فجعلوا لله ولداً وزوجة وشريكاً ، ثم انجرفوا في موجات الفكر اليهودي فكانوا عوناً له ،وفيهم ينطبق قوله تعالى " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " .

نسأل الله تعالى أن يفقهنا في الدين ويعلمنا التأويل ، ويثبتنا على الحق .. اللهم آمين .

*بتصرف بسيط

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/إنه أخي من دونك

سلسلة رمضانيات

إنه أخي من دونك

الدكتور عثمان قدري مكانسي​

تروي السيرة أن صاحب لواء المسلمين في غزوة بدر مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وصاحب لواء المشركين أخوه أبو عزيز ، وحامل اللواء من أحرص المقاتلين على النصر ، فهو عرضة للقتل أكثر من غيره ، فسقوطه يعني سقوط اللواء ، وهذه بداية الهزيمة وشؤم النهاية. فلما نصر الله تعالى المسلمين كان أبو عزيز بين الأسرى يقيده أحد المسلمين ، فلما رأى أبو عزيز أخاه مصعباً قال له مستعطفاً ، محركاً فيه عاطفة الأخوّة والدم : يا أخي وصّ المسلم بي ، لكنّ أوّل سفير لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنْ لو كان النصر حليف المشركين فلن يرحموا المسلمين ، ولو كانوا ذوي رحم . بل إنهم ما جمعوا الجموع وجيّشوا الجيش إلا للقضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين فلا هوادة معهم ، قال مصعب للمسلم : شدّ عليه يا أخي ، فإن له أماً غنية تفيديه . فقال أبو عزيز : أهذه وصاتك بي يا أخي ؟! . رد عليه مصعب بلسان الإيمان وصرامة الموقف قائلاً : صه ، فإنه أخي من دونك .

ذكرني هذا الموقف بموقف أبي الأنبياء عليه صلاة الله وسلامه من أبيه آزر ، وردت قصته في الآية 74 من سورة الأنعام تبدأ بالآية الكريمة :
" وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين"
فقد وعظ إبراهيم أباه في عبادة الأصنام وزجره عنها ونهاه فلم ينته كما قال " قال: أتتأله لصنم تعبده من دون الله ، إنك والسالكين مسلكك تائهين لا تهتدون بل إنكم في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم . قالها منبهاً شدّة جرم مَن يتنكب طريق الهداية ويعبد صنماً لا يضر ولا ينفع ، أو يعبد بشراً مثله يأكل ويشرب ، ويصح ويمرض .

وقد ذكر تعالى قصة الولد الصالح والنبي النابه إبراهيم مع أبيه في سورة " مريم " ابتداء من الآية 42 في قوله :
" واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه
1- - يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا *
2- يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا *
3- يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا *
4- يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا "

تقرّب إليه حين كلمه بلطف الذكي الأريب ناصحاً متودّداً ، ومنبهاً محذراً من أن عبادة ما لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر ، إن ذلك نزول بالإنسان إلى مستوى الدونية ، وأن اتباع الحق أولى ولو كان الناصح أصغر وأسنّ ، فالصغير قد يصل إلى العلم والهداية قبل الكبير ، وأن العاقل يتبع المهتدي أيا كانت مرتبته الاجتماعية ليصل إلى منبع الضياء ونور الحق . إن الشيطان حريص على إفساد البشر وضلالهم فهو عاص لله تعالى ويريد أن ينزلق الناس معه ليكونوا معاً في النار والعذاب .. وكان إبراهيم عليه السلام حريصاً على هداية والده ، فمن كان عبداً لله نجا ، ومن كان عبداً للشيطان هلك ، وشتان ما بين أن تكون ولياً لله تعالى أو للشيطان الرجيم .
إلا أن أباه كان سادراً في غيّه ، فعاب على ولده أن يسلك طريقاً غير طريقه ومسلكاً غير مسلكه ، وهدده بالقتل ، ثم طرده " قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا " ،
فما كان من إبراهيم عليه السلام وقد كان لسانه ينطق بالحكمة والنبوّة إلا أن أجابه بلطف المقال : " قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأبيه مدة حياته فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه كما قال تعالى " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم "
وثبت في الصحيح أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة فيقول له آزر : يا بني اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم : أي رب ألم تعدني أنك لا تخزيني يوم يبعثون وأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟
ولم يكن الله تعالى ليغفر لمن عبد غيره ، أو أشرك غيره بعبادته ، ألم يقرر سبحانه القاعدة التي أقرّها في ملكوته سبحانه " إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً " النساء 116...
ونودي إبراهيم - وهو بين يدي ربه يشفع لوالده الكافر - يا إبراهيم انظر ما وراءك فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار . لقد انقلب والده خنزيراً قذراً تحمله زبانية العذاب إلى النار . نعوذ بالله أن نكون وقوداً لها ، أو من أهلها .

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/الدنيا لأربعة نفر

سلسلة رمضانيات

الدنيا لأربعة نفر

الدكتور عثمان قدري مكانسي


روى أبو كبشة الأنماري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه قال :
1- ما نقص مال عبد من صدقة ،
2- ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا ،
3- ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر – أو كلمة نحوها
وأحدثكم حديثا فاحفظوه فقال : إنما الدنيا لأربعة نفر :
1- عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي ربه فيه ويصل به رحمه ، ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل ،
2- وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء
3- وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهو بأخبث المنازل ،
4- وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بِنيته فوزرهما سواء
المحدث: الترمذي - المصدر: سنن الترمذي - الصفحة أو الرقم: 2325 / حسن صحيح

- في حديث آخر يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم أن المال بالصدقة يزيد ، وكررها ثلاثاً حين قال صلى الله عليه وسلم : ( بل يزيد ، بل يزيد ، بل يزيد ) وقد يتساءل أحدنا ، بل قل : - أحدهم ، فالمسلم يعلم علم اليقين أن الحبيب المصطفى صادق لأنه " وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى "- كيف يزيد المال وهو ينقص بالصدقة ؟

قد جربنا وجرّب غيرنا هذا ، فعلمنا أن الصدقة تمنع مصيبة قد تحدث ، أو مرضاً قد يصيب ، أو ضراً قد يقع ، أو حادثة قد تذهب بالمال كله أو بعضه ، ثم إن المتصدّق لوجه الله تعالى تظهر البركة في ماله ، وينمو برضاء الله تعالى ، ويأتيه الرزق من حيث لا يدري ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن ملكين يدعوان ، يقول الأول : " اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً " . والصدقة قرض منك يتقبله الله تعالى ، ويجزيكه بأضعاف ما أنفقت في الدنيا وفي الآخرة ، ألم يقل الله تعالى " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناُ فيضاعفه له أضعافاً كثيرة " ؟ ومن أصدق من الله قيلاً ؟
- وقد يُظلم المسلم ، يظلمه أخوه ، فيأكل نصيبه أو يغمطه حقه أو يغتابه أو ينم عليه - فليصبر وهو قادر أن ينتقم لنفسه ، فيجزي الظلم بالظلم ، والقهر بالقهر ، فإذا المجتمع ينقلب ناراً تلظّى ، والحياة تتحوّل ثأراً والنفوس تزداد بغضاء وشحناء.
- وقد يتساءل أحدنا وما فائدة الصبر على الظلم إذا امتهن الإنسان ولم يعش حياة حرة كريمة ؟ فالجواب : إن الحديث لا يُقصد فيه أن يعيش المسلم في جو خانق وظلم محيق ، وانتبه إلى قوله صلى الله عليه وسلم : ( ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها )، هي مظلمة قد تنال المرء عمداً أو عن غير عمد ، ويستطيع أن يأخذ حقه بيديه فيتناسى هذا الحق ليصل إلى هدف أكبر ،إلى درجة المحسن الذي يغض الطرف ليعطي المجتمع المسلم درساً في الأخلاق الحميدة ، وليعلم المظلوم أنه وإن قدر على الانتقام وإعادة حقه فقد دفع بالتي هي أحسن ، فإذا عدوّه وظالمه يعتذر له وينقلب محباً بعد أن كان شانئاً . ألم يعلمنا الله تعالى ذلك حين قال " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يُلَقاها إلا الذين صبروا وما يُلَقاها إلا ذو حظ عظيم " ؟ أما إذا تفشى الظلم في مجتمع فالتصرف المؤدي إلى استعادة الحقوق له طرق أخرى ، لا يقصدها هذا الحديث الشريف ، والله أعلم .

- أما الذي يتخذ من السؤال باباً للغنى فقد أخطأ الطريق ، وضل الصراط المستقيم ، إن المسلم عزيز النفس لا يرضى لها الدون ، وقد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم شاباً سأله وهو قادر على العمل فأعطاه حبلاً وأمره أن يحتطب ويعيش من كد يمينه ، وأخبرنا أن المتسول يلقاه المسلمون يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم . إن المتسوّل الذي يلحف في السؤال ويمد يده للناس وهو قادر على العمل يستسهل جمع المال بسؤال الناس لن يشبع ولو جمع المال الكثير بهذه الطريقة لأن الله تعالى يمد له في جشعه ، فلا يشعر بلذة الحياة ، ويعيش – وهو ذو مال – عيشة الفقراء . ومثله البخيل ، ألم نقرأ في المأثور أن البخيل يعيش في فقر خشية الفقر ؟
- أما الحديث الذي نبهنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " وأحدثكم حديثا فاحفظوه"
فقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يغرس في قلوبنا مفهوم النية الصالحة ، والعمل بهذه النية ، فهي التي يقبلها المولى عز وجل " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى "

فالرجل الأول ذو مال يصرفه في مجال التقوى وصلة الرحم والصدقات ومساعدة المحتاجين ونشر العلم ، ويستعمل علمه في مرضاة الله ونفع العباد ، فهو في أعلى المنازل .

والرجل الثاني آتاه الله العلم ولم يؤته المال ، فكان يعلم الناس ويعمل بعلمه فيما يرضي الله تعالى ويتمنى أن يؤتيه الله مالاً ليصرفه في وجوه الخير كما فعل صاحبه ، فآجره الله على نيته ورفعه بها إلى مرتبة الرجل الأول .

والرجل الثالث آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً ، فهو يخبط فيه خبط أعمى ، ويصرفه في المفاسد والخنا والفجور وفي ما يغضب الله تعالى من إسراف وتبذير وصرف في الملذات وغيرها ، فهو في أخبث المنازل وأسوأ المراتب .

والرجل الرابع لا مال لديه ولا علم ، فهو الشيطان الجاهل الذي يتمنى أن يكون له ما يراه عند صاحبه ليفعل ما يفعله من انغماس في اللهو ، وارتكاب للموبقات ، وسعي إلى الرذيلة والفساد ، فهو في نيته هذه ينزل في منازل صاحبه الخبيثة .

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وارزقنا رضاك والجنة .


يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/إنها صلاة التساريع

سلسلة رمضانيات

إنها صلاة التساريع

الدكتور عثمان قدري مكانسي

نحن بحاجة إلى التوازن في كل شيء ، فتعطي كل أمر حقه إن أردت أن تنال حقك . فتدفع لكل سلعة حقها لتنالها كاملة . ولن أطيل في المقدمة لأن ما يشغلني أو يهمني القضية نفسها .

( ألا إن سلعة الله غالية ) هذه جملة رددها النبي عليه الصلاة والسلام مراراً ، والكثير منها فهمها ، ولا أقول إن الأكثر لم يفهموها إنما أقول : إنهم تجاهلوها ، ولم يعطوها حقها . والدليل على ذلك أننا ندخل السوق ، فنتجه للبضاعة الجيدة وندفع في اقتنائها ما يناسبها من ثمن ، ولن ينال أحدنا سلعة ثمينة بثمن بخس ، أليس الأمر كذلك ؟ ولن يأخذ بالثمن البخس إلا السلعة المزجاة التي يتدافعها الناس إلا من ضاقت يده عن السلعة الغالية ، فأرضى نفسه بما دونها .

قد يتساءل أحدكم : ما ذا تقصد بهذه المقدمة ، وتدّعي أنك تودّ الدخول فيما تبغي طرحه سريعاً ، ودون مقدمات ؟ أقول : إنها صلاة ( التراويح ) التي يجعلها الكثير من المصلين صلاة ( التساريع ) ويحرص على أدائها خلف إمام جاهل أو متجاهل – والأمر سيان – بقراءة عَجِلة وحركات متسارعة ، فينهي صلاة العشاء وسنتها وثماني ركعات والشفع والوتر بنصف ساعة ، وكأنه كان في ميدان السبق يلاحقه المأمومون وراءه بحركات متتابعة ، ليس فيها روح ولا تفكر ولا تدبر ، وكأنهم يريدون قضاء مهمة شاقة فُرضت عليهم ، فاستثقلوها ، ولا بدّ من أدائها ، فهي من (بروتوكولات رمضان )، ومفيدة في الهضم بعد أن يملأ الصائم بطنه أكثر مما ينبغي . وينطلق بعد هذه الحركات الرياضية – أقصد الصلاة ( الماراثونية ) إلى السهرات الطويلة ذات اللغو المتراكم ، أو المسلسلات الشائقة ، أو البرامج المخصصة للصائمين المساكين الذين منعهم رمضان في النهار من متابعتها ، فلا بأس أن يتابعها في الليل بدل القيام والتهجد واغتنام هذا الشهر الفضيل !!! .

دخلت أمس إلى المسجد بعد أن أُذّن لصلاة العشاء ، وأخذ الإمام في صلاته يقرأ في سورة الأعراف الآيتين أو الثلاث لا يتعدّاها في الركعة الواحدة ، وكانت حركاته في القيام والركوع والسجود متوسطة ولم يكن بين الركعات ما يفيد معنى التراويح الذي فقهه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولا التابعون ، إنما هي حركات رياضية متأنية نوعاً ما .
إلا أن الإمام كما يبدو لا يفقه معنى الآيات التي يقرؤها ، فيبدأ القراءة من مكان غير مناسب ويقف والمعنى لمّا ينته ، فلما أنهى الركعات الأربع الأولى من صلاة التساريع ( التراويح ) قام يسألني إن كنت أود أن أقول شيئاً ، ولم أكن راغباً ، إلا أنني وقفت أذكر لهم أنني كنت يوماً أصلي خلف أحد الأئمة ، فقرأ من سورة مريم حتى قوله تعالى " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " وركع ، فانتابتني قشعريرة ، وأصابني هم ثقيل ، فكيف يركع هذا الإمام قبل أن يُخرج المصلين من جهنم ، أليس من الواجب أن يركع بعد قوله تعالى " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيه جِثياً " ، فنكون بذلك بعيدين عن النار وهولها ؟ ما لنا وللظالمين ولسنا منهم بعون الله ورحمته . وظللت متألماً أرجو رحمة ربي وعفوه إلى أن قام وقرأ الفاتحة ، وأكمل المعنى .

ثم نبهت الإمام أنه كان يقرأ قصة إبليس الذي أبى السجود لآدم عليه السلام وقرأ إلى قوله تعالى " قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم * ثم لآتيَنّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين " ثم ركع ، وما كان له أن يركع عند المعنى الذي فيه كبر وصلف وقلة أدب مع الخالق عز وجلّ ، فهذا إبليس يتحدّى ويتسافه بحضرة الجليل سبحانه ، وكان ينبغي للإمام أن يقرأ قوله تعالى يوبخ إبليس ويطرده من رحمته ويهدده " قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً لَمَن تبعك منهم لأملأن ّجهنّم منكم أجمعين "

وقلت – وقد سمعت من قبل أن الناس يريدون منه أن يسرع – إن الصلاة لقاء بالله تعالى ، فينبغي أن تكون خاشعة متأنية ، فأنت بحضرة المولى سبحانه ، ورضاء الله تعالى غايتنا ، لا رضاء الآخرين ، فمن أحب أن ينال ثواباً ضافياً وجزاء كاملاً فليدفع الثمن ، ولن يأخذ أحدنا سلعة غالية بثمن بخس . ومن أحب أن يقيم الصلاة فليترك أهواءه وكسله جانباً ، وليس بين السرعة في هذه الركيعات والتأني سوى دقائق خمس أو ست ، فهل نبخل بتلك الدقائق هنا لنبذّرها في مكان آخر .
ولا أدري ألاقت كلماتي هذه آذاناً سميعة ؟! ... اللهم قد بلغت ، اللهم فاشهد .

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/وعلى الأعراف رجال

سلسلة رمضانيات

وعلى الأعراف رجال

الدكتور عثمان قدري مكانسي

قرأت من سورة الأعراف قوله تعالى " ونزعنا ما في صدورهم من غل " والغِلّ بكسر الغين : الغش والحقد الكامن في الصدر، فمما أنعم الله به على أهل الجنة نزع الغل من صدورهم . والنزع : الاستخراج . فأذهب الله تعالى في الجنة ما كان في قلوبهم من الغل في الدنيا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين ) . وقيل : نزْع ُ الغل في الجنة ألا يحسد بعضهم بعضا في تفاضل منازلهم .
وما أجمل أن يعيش الناس متحابّين متآلفين يرضى كل واحد منهم بما قسم الله له دون شحناء ولا بغضاء ولا غلٍّ ولا حسد ، ولكنّ الدنيا دار ابتلاء واختبار ، فلا بد من أدوات ذلك الامتحان ليتمايز الناس ، أما الجنة فدار قرار للمؤمنين خالدين فيها بسلام وأمان لا يعكر حياتهم شيء مما يحصل في الدنيا
فإذا أهل الجنة يحمدون الله تعالى على ما وهبهم من النعم التي لا تعد ولا تُحصى ، وهداهم في الدنيا إلى سبيل النعيم المقيم ، فحازوه بفضله وكرمه سبحانه ، وأعادوا الفضل له حين قالوا : " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " فتناديهم الملائكة بعد حمدهم مهنئة بفوزهم ونجاحهم " أنْ تلكمُ الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون "
وقد يتساءل بعضنا : كيف يدخلون الجنة بعملهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه ما من أحد يدخل الجنة بعمله ، بل برحمة الله ، فلما قيل له : حتى أنت يا رسول الله ؟؛ قال: حتى أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمته . فالجواب أن عمل الإنسان مهما حسُن وعظُم فنِعَمُ الله تعالى أكبر من ذلك ، لكنّ النيّة الصالحة هي السبب في رحمة الله لهم ، فقد عملوا مع النية ما وسعهم فرضي الله عن نيّتهم وعملهِم المتساوق ِ مع النيّة . ألم يقل الله تعالى : " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " والإنسان بضعفه لا يدخل الجنة إنما يدخلها ببذل الجهد والنية الخالصة لله تعالى ، فإذا اجتمعا أدخله الله الجنة برحمته ، وجزاه خير الجزاء .
فإذا ما استقر المؤمنون في الجنة وعاشوا نعيمها اطلعوا على أهل النار وسألوهم سؤال العارف بأحوالهم شاكرين الله تعالى على كرمه ومنّه " .. أنْ قد وجدْنا ما وعدَنا ربنا حقاً ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً " . والسؤال لا يحتاج جواباً فهو تحصيل حاصل ، ولكنه يصوّرحسرة الكافرين أنْ يخلدوا في النار ، ويخلدَ المؤمنون الذين كانوا يوماً ما محلَّ السخرية والهزء في الجنة . فيكون جوابهم كلمة واحدة تنم عن ألمهم وخزيهم : " نَعَمْ " . وهل هناك سوى الذل والعذاب ؟ نسأل الله العافية . ويزيد ألمَ الكفارِ البدنيّ ألَمٌ حسيّ حين يطرق سمعَهم نداءٌ يسمعه الجميع موبخاً الكافرين لاعناً إياهم " .. فأذّن مؤذّنٌ بينهم أنْ لعنةُ الله على الظالمين " . ماذا فعل الظالمون حتى استحقوا تلك اللعنة الأبدية والعذابَ المتجدد ؟! فيوضح المنادي ثلاثة أمور كانت سمة هؤلاء المجرمين حتى استحقوا هذه اللعنة :
1- " الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
2- وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا
3- وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) "
فهم بالإضافة إلى كفرهم بالله واليوم الآخر يحاولون إبعادَ الناس عن الإيمان ، ويتابعون المؤمنين بالإيذاء والصدّ عن الحق ، ويفسدون ، ويقلبون موازين الحياة ، فيجعلونها جحيماً .
قال القرطبي رحمه الله تعالى ( بتصرف ) : لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار نبه أن بين الجنة والنار حجاباً ، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة ، وهو السور الذي قال الله تعالى" فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " وهو الأعراف الذي قال الله تعالى فيه " وعلى الأعراف رجال "
وقال مجاهد الأعراف حجاب بين الجنة والنار ، وإليك بعض ما قيل في الأعراف

1- والأعراف جمع عُرف ، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ، وإنما قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه .
2- والأعراف المكان المرتفع المشرف . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : الأعراف جمع تل بين الجنة والنار ، حبس عليه من أهل الذنوب بين الجنة والنار ،
3- أو هو سور بين الجنة والنار ، له باب ز
4- وقال بعض المفسرين : إنما سمي الأعراف أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس .
5- وأصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، وسُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال " أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون " . وقيل : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلفت بهم حسناتهم عن النار قال فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم فـ " إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال لهم اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم .
6- وقيل : فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهلَ الجنة وأهلَ النار ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم ، وإذا صُرفتْ أبصارهم إلى يسارهم نظروا أهل النار " قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " فهم يتشوّفون إلى الجنة ويتمنون أن يكونوا من أهلها ولا يُحبون النظر إلى النار وأهلها ، بل يخافون أن ينظروا ، وهل يحب أحدنا أن ينظر إلى النار وأهلها ؟ ولكنْ تُصرف أبصارهم إلى النار وأهلها ، فيتعوّذون بالله من منازلهم

7- فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويعطى كل عبد يومئذ نورا وكل أمة نورا ، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة ، فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا " ربنا أتمم لنا نورنا "

8- وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان بأيديهم فلم ينزع فهنالك يقول الله تعالى " لم يدخلوها وهم يطمعون " أن يدخلوها برحمة الله وفضله .

9- وبينما أصحاب الأعراف بذلك المكان ، وأراد الله الجليل أن يعافيهم انطلقت بهم الملائكة إلى نهر يقال له نهر الحياة ، حافتاه قصب الذهب مكللاً باللؤلؤ ، ترابه المسك ، فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم ، وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ، حتى إذا صلحت ألوانهم أتِيَ بهم إلى الرحمن تبارك وتعالى فقال " تمنوا ما شئتم " فيتمنون ، حتى إذا انقطعت أمنياتهم قال لهم " لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا " فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ، يسمون مساكين أهل الجنة .

10- عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال " هم آخر من يفصل بينهم من العباد ، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ، ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي ، فارعَوا من الجنة حيث شئتم " . وهذا مرسل حسن

11- ونجد أصحاب الأعراف يحدثون أهل النار والجنة ، ونراهم هنا يكلمون المستكبرين الذين أساءوا إلى المؤمنين بالله ، وكانوا يعنّفونهم ويسخرون منهم " ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ؟ " ويقولون لأهل الجنة حين يرونهم يدخلونها راغبين أن يكونوا معهم " ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون" . إنهم يطمعون أن يدخلوها ، وما جُعل الطمع في قلوبهم إلا لكرامة تُراد بهم . قال قتادة رحمه الله يخاطبنا : قد أنبأكم الله بمكانهم من الطمع

12- قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنزلهم الله تلك المنزلة – الأعراف - ليعرفوا في الجنة والنار وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين وهم في ذلك يُحَيّون أهل الجنة بالسلام لم يدخلوها ، وهم يطمعون أن يدخلوها وهم داخلوها إن شاء الله .

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/ويقتلون الذين يأمرون بالقسط

سلسلة رمضانيات

ويقتلون الذين يأمرون بالقسط

الدكتور عثمان قدري مكانسي

ذم من الله تعالى أهل الكتاب بما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم قديما وحديثا بآيات الله ، وبما بلغتهم الرسل استكبارا عليهم ، وعنادا لهم ، وتعاظما على الحق ، واستنكافا عن اتباعه . ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعَه بغير سبب ولا جريمة منهم إلا لأنهم دعَوهم إلى الحق ، وهذا غاية الكبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " الكبر بطر الحق وغمط الناس " .

قال تعالى: { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم } (الآية 21 آل عمران)
لقد قتلت بنو إسرائيل الأنبياء وتكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق ، فقابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة فقال تعالى " فبشرهم بعذاب أليم " وموجع مهين. ، وعودة إلى الآية الكريمة نفسها نجد أنفسنا واقفين على المعاني التالية :

1- إنهم يأبون الهداية ، ويكفرون بالرسالات السماوية ، ران الصدأ على قلوبهم والعفنُ على عقولهم ، فما يدرون حقيقة الأمر ، ولا يفرّقون بين النور والظلام والحق والباطل ، ومن كانوا هكذا فالاستكبار ديدنهم والاستعلاء صفتهم .

2- فلا يقبلون نصحاً ولا يرتضون هدياً . وتراهم بدل تكريم المصلحين والاستفادة منهم يعاملونهم معاملة المجرمين ، فيعتدون عليهم بالضرب والتعذيب والقتل . ويطمسون كل خير ويسعون في كل شر ،

3- ويتابعون المتنوّرين من أتباع المصلحين بالاستئصال والقتل والتعذيب ، ويضيقون عليهم سبل الحياة ويحاربونهم في رزقهم ومعيشتهم ، ويغسلون أدمغتهم بالترغيب والترهيب. وهم غير قادرين على رؤية من يخالفهم رأياً وطريقة ، ولا سماع آرائهم ومحاورتهم للوصول إلى الصواب. وهذه وهدة الأنانية ، وجور الديكتاتورية ، ومقتل الإنسانية .

4- إنهم لا يرون العدل عدلاً إلا إذا صبّ في مصلحتهم ، ولا الخير خيراً إلا إذا كان في خدمتهم ، فالمعروف في شريعتهم أن تحابيهم وتسير في ركابهم ، والمنكر في قانونهم أن تنبههم على أخطائهم وتطالبهم بما عليهم من واجبات .

5- ومن رأى نفسه فوق الآخرين ، فعاملهم معاملة الدون وجعلهم عبيداً له وخوَلاً ، وسلبهم حقهم وافتأت عليهم ، فقد تجاوز حده ، وظلم نفسه ، وكان العقاب له جزاءً والهوان له مآلاً ، والعذاب له مصاحباً ، والألم له رفيقاً .

6- إن الإنذار للعذاب والهوان ، والبشرى للتكريم والإعزاز ، أما أن تستعمل كلمة البشرى في مكان الإنذار والتهديد " فبشرهم بعذاب أليم " فهي للتحقير والهزء والسخرية بمن تعالى على الناس وغَمَطَهم حقوقهم .

وما نراه في عالمنا الواقع من تغييب للمفكرين الأحرار في السجون والمعتقلات ، ومن تكميم الأفواه المنادية بإنسانية الإنسان ، وتهجير الشرفاء ، والتضييق عليهم وعلى من يتعاطف معهم ويمد لهم يد العون لدليلٌ على واقعية الآية الكريمة التي وضعت الملح على الجرح ، فدعت إلى الإصلاح والعمل به ، وإلى تكريم المصلحين والحفاظ عليهم والاقتداء بهم .
وكان التهديد واضحاً ، والوعيد مجلجلاً لمن وقف في طريقهم وآذاهم وتنكب مسيرتهم ، واستكبر عن الحق وأهله . ولئن ظهر في الدنيا فظهوره امتحان له يودي به المهالك ، ولا يحق إلا الحق ، ولا ينتصر إلا أهله ، ولو بعد حين
" كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قويٌ عزيزٌ " .

*بتصرف بسيط عن المقالة الأصلية

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/إلا أنْ تتقوا منهم تقاة

رمضانيات

إلا أنْ تتقوا منهم تقاة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

أقرأ الآية الكريمة " لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) " (آل عمران)
وأحاول أن أرى ظلالها في واقع المسلمين اليوم ، فأرى الناس ينقسمون فسطاطين في فهمها والعمل بها . فالمخاطب " المؤمنون " والمحذر منه " الكافرون " والمحَدّث عنه – الموضوع المطروح – موالاة الكافرين ، إن الموالاة " حب وإعجاب ومتابعة " . فهل يُتَصوّر من مسلم أنْ يحمل لمن كفر بمعتقده وحاربه فيه وضيّق عليه بسببه الحبَّ والاتّباع ؟! . ويفضّله على المؤمن مثله أو يكون له عوناً على أخيه المؤمن؟ كما نرى – عياناً – في هذا الزمن الذي انقلبت فيه الموازين وغُمّ على الكثير منهم حقيقة الإيمان والتصرف المناسب لمن يحمل أعظم دين وأصحّ معتقد؟!

ولنقرأْ الكلمة الأولى في هذه الآية المباركة " لا يتـّخذِ " ، إنه فعل مضارع مسبوق بـ " لا " الناهية ، فجعلته نهياً يدل على الاستمرار إلى نهاية المطاف ، هذا النهي من الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ، فالموالاة كما ذكرت آنفاً " حبّ يمتزج بالقلوب ، وإعجاب يخالط النفوس ، واتّباع حذو القُذّة بالقُذّة " فإذا انقلب الكافر المخالف لك ديناً وحياة وسلوكاً حبيباً وصديقاً وأسوة فقد تغيرت المفاهيم ، واختلط الحابل بالنابل فصار المؤمن عدواً والمنافق صديقاً والكافر حبيباً ...

ثمّ يأتي الوعيد من الله تعالى إذ يقول : " ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء " فمن يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله ، ألمْ يوضح الله تعالى الأمر حين ذكر أنّ هؤلاء أعداءُ لله ؟ ومن كان لله عدواً لله فهو عدو للمؤمنين ، هكذاً ينبغي أن يكون المؤمنون ، دائماً في صف الله ومع الله ، فهم أولياؤه سبحانه ، ومن كان ولياً لله تعالى لم يُوالِ غيرَه وغيرَ أوليائه ، وإلا تاه عن الطريق وسقط في الفتن
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة - إلى أن قال - ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل (1)" الممتحنة.
بل إننا نجد المولى سبحانه وتعالى حين يحذر المؤمنين من موالاة الكافرين يهدد المخالفين منهم ، ويخوّفهم من غضبه . ومتى يغضبُ الله تعالى ؟ إنه يغضب حين تُنتَهَكُ محارمه ، فينتقل الموالون إلى صف الأعداء درَوْا أم لم يدروا . " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا (144)"(النساء) فماذا يبقى للمؤمنين من خير إذا وضعوا أنفسهم تحت سوط التهديد الإلهي ووعيده سبحانه ؟! .
بل إن المسلم حين يوالي غير المسلم ويتخلى عن موالاة إخوانه المؤمنين ويضع نفسه تحت تصرف اليهود والنصارى الذي يحاربون الإسلام والمسلمين فقد انتقل إلى الصف المغاير وصار جزءاً منهم معادياً لمن كان معهم من المؤمنين ، وتمعّن أخي المسلم بهذه الآية الفاصلة المقررة لذلك " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لايهدي القوم الظالمين" (51) (المائدة). نعم فإنه منهم ، وبهذا خرج من بوتقة المسلمين ، فهل يرضى المسلم ذو العقيدة الناصعة أن يترك الماء الزلال إلى غيره من الشوائب والفساد ؟!

فمن خاف في بعض البلدان والأوقات من شر أعداء الله ، ولم يستطع مجاهرتهم والوقوف أمامهم فله أن يتقيهم بظاهره دون باطنه ونيته ، دليلـُه ما روى البخاري عن أبي الدرداء أنه قال : إنا لنكشر ( نضحك ) في وجوه أقوام ، وقلوبنا تلعنهم . وهذا تنبيه إلى أن التقية واضحة المعالم ، فهي في اللسان لا في القلب والعمل ، قال ابن عباس : ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان ، ويؤيد هذا المعنى قولُ الله تعالى " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " (من الآية 106 النحل) هذه الآية التي نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه حين عذبه المشركون إلى أن عرضوا عليه صرصاراً وقالوا هذا ربك ، فقال نعم ، فتركوه ، فانطلق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي ويشكو مستغفراً . فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : أقالها معتقداً أم تقية ؟ فأجاب : بل لم تتعدّ اللسان يا رسول الله ، فيطمئنه النبي عليه الصلاة والسلام قائلاً " فإن عادوا فعُد " .

ونسأل أنفسنا سؤال الخائف الحذر من تحذير الله تعالى حين يقول " ويحذركم الله نفسه " مِمّ يحذرنا الله تعالى إن جانبنا الصواب ، فانتقل البعض إلى موالاة الكافرين ؟ إن سبحانه يحذرنا نقمته في مخالفته ، وسطوتـَه وعذابَه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه. .. ومن يقدر على غضب الله تعالى ... نعوذ بالله من غضبه ونقمته ، ونسأله العفو والرضا .

والعاقل من يتعظ بمن سلفه فماتوا ، أو بمن صبّ الله عليهم نقمته فشقـُوا ، وليسألِ المرءُ نفسه : إلامَ النجاة في الدنيا ، وليست الدنيا دار نجاة .. وإلى من نعود بعد هذه المسيرة القصيرة في هذه الحياة الفانية ؟ فيأتيه الجواب سريعاً قولاً من العاقلين ، وحالاً مما تراه ونسمعه ونلمسه " وإلى الله المصير " فإليه ـ سبحانه - المرجع والمنقلب ليجازي كل عامل بعمله، فمن نجا فقد سعد ، ومن هوى فقد تعس ....

فعلام يضيّع الجهلة من الخونة والعملاء أنفسهم في خدمة العدو وإرضائه ، وهم في ذلهم يتمرّغون فلا يربحون الدارين ، إنهم في الدنيا أذلاء وفي الآخرة أشقياء .

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/أتكون الملائكة رُسلاً للبشر

سلسلة رمضانيات

أتكون الملائكة رُسلاً للبشر

الدكتور عثمان قدري مكانسي​

قد يتساءل أحدهم : لِمَ يرسل الله للبشر رسلاً منهم ، أفلا كان الأجدى أن يكون الرسول ملَكاً ليصدّقه البشر ؟ إنّ الرسل تذكر أن بينها وبين الله رسلاً من الملائكة ، أفلا كانت هذه الملائكة رسلاً إلى البشر جميعاً ؟
قد علمنا أن الرسول يكون عادة من جنس المرسل إليه لأسباب عديدة ، منها :

1- أنه منهم يعرفون نسبه وأهله وأخلاقه ، وأنه من قومه للصوقه بهم عادات ومفاهيم :
فنوح من قومه " إنا أرسلناً نوحاً إلى قومه "
" وإلى عاد أخاهم هوداً "
" وإلى ثمود أخاهم صالحاً "

2- إن الرسول يعيش حياة البشر لأنه بشر مثلهم أكلاً وشرباً ، وحياة وموتاً ، وصحة ومرضاً . يحس إحساسهم ويشعر شعورهم ، والشريعة والتعاليم نزلت تناسبهم . فحين يرون الرسولَ البشرَ ينفذ ما يأمرهم به وينهاهم عنه ويعلمهم إياه علموا أن ما يُطالبون به من تكاليف – والرسول قدوة وأسوة - يستطيع البشر العمل بها . ولو كان الرسول ملَكاً لقالوا : إننا لا نستطيع ما يستطيع ، فهو أقوى وأقدر .

3- لا يكون الإيمان إيماناً إلا حين يكون عن اعتقاد وتصديق دون خوف ولا وجل ، ودون تأثيرات قاهرة يزول الإيمان بزوالها . فقوة الملَك وإمكاناته العجيبة لها تأثير يزرع الرهبة والخوف في نفوس الناس فينصاع لها البشر كلهم قهراً لا إيماناً وتصديقاً ، فينتفي الهدف الذي يقوم عليه صدق الإيمان وكذبه ، ويصبح البشر آلات يحركها الملك ، ولن تجد مؤمناً حقيقياً ولا كافراً حقيقياً . فلا تفاضل ولا تنافس ذاتياً يقوم عليه التقييم والحساب .
فلا بد أن يكون الرسول من جنس المرسل إليه . ومن هنا نفهم قوله تعالى { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملَكاً رسولاً }(الإسراء 95 )" وكان من رحمة الله تعالى بعباده أن أرسل محمداً عليه الصلاة والسلام منهم { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم } (آل عمران من الآية 164).
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيرالآية الكريمة في سورة الأنعام ( بتصرف ) " وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) " لو أنزلنا مع الرسول البشري ملكا أو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا لكان على هيئة الرجل ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشري ، ولظنوه بشراً مثلهم أو مثل صاحبه الذي يرافقه ، وكرروا طلبهم إلى مالا نهاية .
ويقول القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره للآية الكريمة نفسها : لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة ; لأن كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه ; فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته , ولما أنسوا به , ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه , ويمنعهم عن سؤاله , فلا تعم المصلحة ; ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا : لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم . وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين , وأتى جبريلُ النبيَّ عليهما الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي ولو أنزل ملك لرأوه في صورة رجل كما جرت عادة الأنبياء ,
كما أن الملائكة لا تنزل إلا في البت في الأمر وإنهائه ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة الفرقان " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ( 22) " فهي تنزل للعذاب حين يأمر الله تعالى بإهلاك الظالمين . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يُطيقون رؤيته . وقال غيره لقامت الساعة ، وقال مجاهد وعكرمة : لأهلكوا بعذاب الاستئصال ، لأن الله أجرى سنته بأن من طلب آية فأُظهرت له ، فلم يؤمن أهلكه الله في الحال ، وعلى هذا نفهم قوله تعالى في سورة الأنعام " وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) "

قال الطبري رحمه الله تعالى : قال تعالى مخبرا عن المشركين في قيلهم لنبي الله صلى الله عليه وسلم : " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا " الآية 7 من سورة الفرقان " ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون " يقول : ولو أنزلنا ملكا على ما سألوا ثم كفروا ولم يؤمنوا بي وبرسولي , لجاءهم العذاب عاجلا غير آجل , ولم ينظروا فيؤخروا بالعقوبة مراجعة َالتوبة , كما فعلت بمن قبلهم من الأمم التي سألت الآيات ثم كفرت بعد مجيئها من تعجيل النقمة وترك الإنظار .

فلن يكون الرسول إلا من جنس المرسل إليهم ليكون إيمانٌ وتصديقٌ طوعيٌّ يخالط القلوب ويمتزج بالجوارح دون مؤثرات خارجية قهرية يضيع فيها الصالح بالطالح والمصدّق بالمكذب . وقد يتساءل بعضهم : " هل للجن رسل منهم " أقول : تحت هذا العنوان يمكنك - أخي الحبيب - أن تطالع الجواب في مقال كتبته ، تراه في صفحات النت إن شاء الله تعالى

يتبع
 
سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/آه ، لو أنني أعرف لغته


سلسلة رمضانيات

آه ، لو أنني أعرف لغته

الدكتور عثمان قدري مكانسي​

تبدو عليه سيماء اللطف والذوق ، يلقاك بابتسامة ترتاح لها ، ويحييك رافعاً يده كلما دخل مكاناً كنتَ فيه ، ويلفظ كلمات أفهمها تدل على السلام والترحيب ، أستطيع أن أفهم كثيراً مما يقول لأنني درست لغته الإنجليزية حين كنت طالباً في المدرسة ، لكنني لا أستطيع أن أكلمه أو أجاريه في حديثه كما يفعل من عاش في بلده أو تعلم فيها أو كان من أهلها .
رآني أصلي فسألني عما أفعل ، فقلت له أنا مسلم ، فبدأ يسألني عن الإسلام ، وكنت قادراً على حواره وتعريفه بالإسلام لو كنت أحسن لغته ، وتألمت مرتين ، أما الأولى فلأنني لا أملك أداة الحوار فأروي ظمأه في معرفة ديني ، وأما الثانية فلأنني عاجز أن أقوم بواجب الدعوة في أرض خصبة لا يعرف الكثير من أهلها حقيقة الإسلام .
يقولون: من تعلم لغة قوم أِنَ مكرهم ، وأزيد قائلاً : من تعلم لغة قوم دخل إلى حياتهم ، وعرّفهم بالله تعالى ودعاهم إلى عقيدة التوحيد ، فهدى الله على يديه أقواماً وأنقذهم من النار ، وأقام الحجة على الآخرين وأعذر إلى الله . أمّا أنْ أرى نفسي مكتوف اليدين في موقف يمكن أن ترى نور الإسلام فيه مشعاً فأمر يحز في النفس ، وتصورت نفسي في نهر يعجّ بالأسماك بين يدي ، وأنا عُطل من شبكة الصيد .
آه لو كنت أحسن لغته ، ولكنْ : ليتَ ، وهل تنفع شيئاً ليتُ ؟! .
كنا ندرس اللغة الأجنبية لننجح آخر السنة ، ليس غير ، ولم نكن ننظر إلى البعيد ، كنا قاصري التفكير آنيي الهدف ، ولم يكن من ناصح يعلمنا التفكير السليم ، المتقدّم النظر إلى الهدف البعيد ، أو قراءة ما وراء السطور في صفحات حياتنا . ولم نكن نعلم في باكورة أيامنا الهدف الحقيقي من الحياة ، وكان الجهل قاسماً مشتركاً في بيئتنا آنئذٍ.

وتقودني هذه الذكرى إلى أنْ أمسك القرآن الكريم وأقرأ في سورة إبراهيم " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)" وأنتبه إلى حكمة إرسال اأنبياء إلى أقوامهم حصراً، فهم يتحدثون بـ " بلغتهم " ويعلمون منها كل شاردة وواردة ، وهم بهذا الأقدرُ على الدعوة إلى الله ومخاطبة الناس بما يفهمون ، وأذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه " " لم يبعث الله عز وجل نبيا إلا بلغة قومه " وقد كانت هذه سنته في خلقه أنه ما بعث نبيا في أمة إلا أن يكون بلغتهم فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم قال ابن كثير رحمه الله : هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريد ربهم منهم .
فلما كانت رسالة الإسلام عامة ، وقد كانت الرسالات قبله خاصة أرسل الله تعالى نبيه الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم للعرب والعجم وغيرهم فقال تعالى : " " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا " [ سبأ : 28 ] ."
قال القرطبي رحمه الله في هذا : ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية ; لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة , وقال صلى الله عليه وسلم : ( أرسل كل نبي إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كل أحمر وأسود من خلقه ) . وقال صلى الله عليه وسلم منبهاً إلى عالمية الإسلام : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . أخرجه مسلم . فأكد أن الدين عند الله الإسلام ، وأن على الأمم الأخرى من أهل الكتاب أن يتبعوه ليكونوا من أهل الجنة ويفوزوا برضا الله تعالى .

يروي أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : ... 5- وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة . "
وقال تعالى مخاطباً رسوله الكريم مؤكداً عالمية دعوة الإسلام " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " . فإذا بالعجم يحملون الدعوة إلى أقوامهم كما نزلت على الحبيب المصطفى طرية كاملة لا نقص فيها ولا كدر .

حدّتني أحد الشباب من تلاميذي أنهم كانوا ثلاثة من الشباب ذهبوا إلى دار صديق لهم في ولاية أمريكية تبعد عن مدينتهم ساعتين ، وكان موعد زيارتهم له عند المغرب ، فلما وصلوا إلى بيته قبله – وكان في عمله وعاد من طريق مزدحم – صلوا المغرب في حديقة عامة قريبة من داره ، وأمّهم أحدُهم . ولما رأى المارة ما يفعلون أوقف الفضولُ بعضهم فسألوهم عما كانوا يفعلون ، فأخبروهم أنهم مسلمون وقد كانوا يصلون ، فتعجب هؤلاء الأمريكيون من صلاتهم في مكان عام ، وهم يصلون في الكنائس فقط .
ودار حوار بين هؤلاء الثلاثة ، وانضم الرابع إليهم حين وصل وكانوا يحسنون الإنجليزية بطلاقة وبين الأمريكيين – عددهم سبع عشرة بين رجل وامرأة - زهاء ساعتين ، فآمن سبعة وأعلنوا شهادة " أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " ووعد خمسة أن يدرسوا الإسلام ويتعرفوا عليه ، فكان تأخر الرابع عن الوصول إلى بيته في الوقت المناسب خيراً وبركة ، فقد كان مكسبٌ عظيم لمن هداه الله للإسلام ، وإقامة للحجة على الباقي .... .

يتبع
 
عودة
أعلى