كانت إسبانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي حافظت حتى مطلع القرن العشرين على ملكية ذات تقاليد وأصول كاثوليكية . في حين أن الملكيات الكاثوليكية في أوروبا سقطت إما بفعل الإصلاح الديني كما حدث في بريطانيا مطلع القرن السادس عشر، أو بفعل الثورة كما حدث في فرنسا عام 1789 ، أو بالحروب كما حدث للنمسا في الحرب العالمية الأولى . فقد استطاعت إسبانيا أن تحافظ على تقاليدها الدينية لما كان للكنيسة الكاثوليكية من نفوذ فيها . وكانت الثورة الشيوعية قد نجحت في روسيا عام 1917 ، وتشكًل الاتحاد السوفيتي السابق عام 1918 . واتجهت سياسة الحكومة السوفيتية في الثلاث سنوات الأولى بعد الثورة إلى تحطيم جميع الحكومات الرأسمالية في العالم ، وتأسيس طبقة كادحة (بروليتارية) على غرار نظام الحكم السوفيتي، وإنشاء اتحاد دولي بين جميع الجمهوريات السوفيتية التي يمكن تأسيسها بعد نجاح الثورات في تلك الدول ، وبذلك يتمَّ إنشاء مجتمع عالمي . وكانت إسبانيا وجهة مفضلة للشيوعيين لنشر دعايتهم بسبب فساد الطبقة الأرستقراطية الحاكمة التي كان كل همها أن تجمع الثروات على حساب الشعب . وسرعان ما انتشرت الثورة في إسبانيا بشكل كثيف ، وبدأوا يتوثبون للانقضاض على الملكية ، وراحوا يطالبون بالتغيير . وكانت حكومة الملك الفونسو الثالث عشر ضعيفة وفاسدة . فقام الجنرال بريمودي ريفييرا عام 1923 بانقلاب عسكري أطاح بها مستعيضاً عنها بأخرى فرضت الأحكام العرفية ونصّب ريفييرا نفسه حاكماًً عسكرياً على إسبانيا . فاعتقل المعارضين حتى بلغ عدد المعتقلين نحو 30 ألف معتقل ، وزاد الضغط على حكومة ريفييرا . ففي عام 1929 انتشر العصيان في الجيش وقام طلاب الجامعات وطبقات العمّال بالمظاهرات وأحداث الشغب مما أدى الى إستقالة ريفييرا في عام 1930 ومغادرته البلاد ، وتحت تلك الضغوط أصدر الملك مرسوما في عام 1931 لإجراء إنتخابات وقد فاز اصحاب المطاليب في أغلب المدن ، وعلى الأخص في مدريـد وبرشلونـة . وقـام زعيـم الحركـة "نكيتو الكالازامورا" بتوجيه إنذار إلى الملك الفونسو بضرورة التنازل عن العرش . فغادر الملك إسبانيا دون أن يوقع وثيقة رسمية بالتنازل عنه . وما لبث زامورا أن أعلن قيام الجمهورية ، ونصّب نفسه رئيساً لها . وانتقل إلى قصر الملك ، واستقالت الحكومة المؤقتة ، وكوًن مجلس للوزراء برئاسة "مانويل أزانا" الذي أعلن عزم حكومته على السير في طريق الثورة حتى النهاية . ففي عام 1932 تقرر حلُّ نظام "الجزويت" ومصادرة أملاكهم ، وألغيت المدارس التابعة مباشرة للكنيسة ، ومنع رجال الدين من ممارسة التعليم فيها . وتقرر تأميم أملاك الكنيسة لصالح من يسمّونهم العمّال والفلاحين (البروليتارية). كما صادروا ضياع من يسمونهم الإقطاعيين بدون دفع تعويض لهم ، وقاموا بحملة واسعة ضد رجال الكنيسة بهدف إلغاء الدين وتدهورت الأوضاع في إسبانيا بسبب رفض معظم الأسبان لتلك المبادئ . وخافت الحكومة من أن يعيد الشعب الملك إلى العرش ، عند ذلك قرروا إجراء انتخابات عامة جديدة عام 1933 ، وقد انهزم الشيوعيون في هذه الانتخابات ، فجن جنونهم ، فقاموا بمحاولة انقلابية عام 1933 ولكنها فشلت ، فقاموا بالاعتداء على الكنائس وذبحوا آلاف الرهبان والراهبات ، فعمّ الاضطراب والهيجان والشغب البلاد بأسرها . فقام رئيس الجمهورية زاموار بتحديد يوم 16/2/1936 موعداً للانتخابات العامة . لكن هذه الانتخابات وضعت إسبانيا في موقف أشدّ سوءاً ، فقد زاد الانقسام بين أبناء الشعب الإسباني فطلبوا من الرئيس زامورا أن يتحرك ضد أعدائهم ، فيصدر أمراً باعتقال المحرّضين . لكنه لم يفعل شيئاً ، فاشتدّ حنقهم ضده واتهموه بالضعف وأقالوه وعيّنوا مكانه أزانا . فأصدر أزانا أمراً بإحالة جميع الضباط الذين يشتغلون بالسياسة إلى التقاعد ، كما قام بنفي ألآخرين وكان من بينهم الجنرال "فرانشسكو فرانكو" الذي كان قائداً للفرقة الإسبانية التي كانت تعمل في مراكش ، وقد تقرر نفيه إلى جزر كناري ، وأدى ذلك إلى قيام حركة عصيان في إسبانيا ضد الحكومة ، وحاول بعض القادة في الجيش إحداث انقلاب لمصلحة الملكيين عام 1936 . وبدأت المناوشات بين الجانبين ، وعقد الجنرال فرانكو عزمه على إنقاذ إسبانيا من تلك ألأوضاع واتصل بعدد من الضباط المخلصين له واتفق معهم على الثورة . وتوجه إلى المغرب لإعداد القوات المخلصة هناك لانطلاق الثورة ، ومن هناك اتصل بهتلر وموسوليني لمساعدته بالسلاح ولنقل القوات إلى داخل إسبانيا ، حيث كانت مياه المضيق تحت سيطرة الحكومة . وكانت هذه أول عملية إنزال لقوات محمولة جواً في التاريخ ، وبدأت الحرب الأهلية الإسبانية في 17 يوليو 1936 . وعلى الرغم من أن هذه الحرب كانت في الظاهر داخل إسبانيا ، إلاّ أنها في الواقع كانت صراعاً أيديولوجياً بين المبادئ الأوروبية المختلفة ، وأصبح أنصار الحكومة بعد نشوب الحرب الأهلية يُطلق عليهم "الحمر" ، بينما كان أنصار فرانكو يطلق عليهم "الفاشست" . وبدأت المساعدات تتدفق على الحكومة من الاتحاد السوفيتي السابق ومن فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة . بينما كانت المساعدات تتدفق على فرانكو من ألمانيا وإيطاليا وأيرلندا الحرّة . كانت إسبانيا في ذلك الوقت تجمع بين كل المتناقضات ، وبين التيارات المتصارعة في أوروبا، وكانت الحقيقة.. أوروبا مصغرة بالاضافة الى انها ساحة معركة لاختبار الأسلحة والأيديولوجيات المختلفة. الحرب الأهلية الإسبانية كانت إنذارًا . تحالف عجيب من الأسلحة والأيديولوجيات المختلفة ، الحركة "الكارلستية" المؤيدة للملكية والمعارضة للجمهورية ظلت تدعو لإحياء ماضي إسبانيا ملوكها ، وكريستوفر كولومبس ، والعصر الذهبي للمكتشفين ، والسيطرة العالمية حين ما كانت إسبانيا هي الدولة الاستعمارية الأولى في العالم
رحبت الطبقات العاملة في إسبانيا بقيام الجمهورية الثانية عام 1931 بعد أن أُرغم الملك "الفونسو" على ترك العرش والذهاب إلى المنفى . وبعد مرور خمس سنوات لم يكن هناك سوى التذمر والشكوى والمتظاهرين الذين يلوحون بالمنجل والمطرقة لأنهم يريدون . عالمًا أفضل من خلال ثورة اشتراكية، وهم يمثلون إسبانيا أخرى ومذهبًا آخر، والاضطرابات مستمرة في الأرياف. وعمال "الميونا" الفلاحون الذين لا أرض لهم يعيشون حياة الكفاف لدى الطبقة العليا والبرجوازية . إندلعت الثورة في "أستورياس" في تشرين الأول عام 1934 وأعلن عمال المناجم قيام جمهورية اشتراكية. وأرسلت مدريد جيشا ، وتم إعتقال قادة الثورة ، وإشتد القمع . وأصبحت الفجوة بين الطبقات العاملة والجمهورية كبيرة جدا . إن العنف والخوف من تلك الاحداث جعلا المحامي الشاب "خوزيه أنطونيو بريموديرفيرو" يدعو للمطالبة بالعودة الى الملكية . وكان حزب "الكتائب" الإسباني يستلهم أفكاره من الفاشية الإيطالية، التي تقوم على تمجيد القوة والمناداة بالحكم الديكتاتوري لإسبانيا، ومعاداة الاشتراكية والليبرالية . ألأمر الذي كان يلهب مشاعر الشبان، والذين يفضلون العودة إلى الملكية على الحكم الاشتراكي، وبذلك فقد الإسبانيون فرصتهم الأخيرة لتفادي الصدام . كتلتان تواجهتا في انتخابات السادس عشر من شباط عام 1936؛ الجبهة الوطنية اليمينية والجبهة الشعبية ، وجاءت النتائج مفاجئة؛ فالجبهة الشعبية فازت بأغلبية البرلمان الإسباني، أما اليمين المتطرف والثوريون ففضلوا النزول إلى الشارع على لعبة الديمقراطية البرلمانية . وقام "مانويل أزانا" بتشكيل الحكومة ، وأدركت الكنيسة الإسبانية بأنها لا تستطيع توقع شيء من حكومة "أزانا" الجديدة . فخلال الأربعين سنة الأخيرة كان أدنى قدر من العنف العمالي يثير فزع الكنيسة ، وكانت الكنيسة الإسبانية تشعر بأنها أرفع من أن تستطيع مماشاة الموجودين في السلطة ، وهي حاضرة دائمًا في تعليم أبناء البرجوازيين. وحامية حمى ما يريد الفقراء تدميرَه
بالرغم من فوز الجبهة الشعبية، لكن الأحزاب البرجوازية هي التي كانت تحكم وازدادت الإضرابات بعد الانتخابات مباشرة ، وأصبح العنف حدثًا يوميًا. كل مظاهرة تقود إلى أخرى، والمواجهات تزداد وتتصاعد، ويتصدى الفوضويون أو الثوريون الشباب لاستفزازات الكتائبيين أو الملكيين، وتقع العشرات من أعمال العنف السياسي . في الثاني عشر من تموز اُغتيل الملازم أول "خوزيه دي كاستيلو"، وكان في اليوم السابق قد سحَق مظاهرة للملكيين . كما أعتقل في مساء نفس اليوم "كالفو سيتيلو" النجم الصاعد لدى المعارضة ثم قتلته الشرطة، وإعتبر الجنرالات تلك الجريمة دليلا على إن إسبانيا تسير نحو الدمار . في الثامن عشر من تموز خرج الجيش من ثُكْنَاتِهِ وإنضم إليه الكتائبيون والحرس المدني والكارلستيون . وكان المحرك الرئيسي للعملية الجنرال "مولا" الذي قاد الثورة في الشمال ، وقادها في الجنوب "كويبو ديليانو"، وإعتمد نجاح العملية على أصغر جنرال في الجيش الإسباني "فرانسيسكو فرانكو" الذي كان في المنفى بالمغرب المحتل من قبل إسبانيا . إن التمرد ضد الجمهورية الثانية دفع أنصارها إلى التجمهر في الشوارع والمطالبة بالسلاح ، وترددت الجمهورية ثم رضخت لمطالبهم . وحين ذاك ادركت إسبانيا انها لابد ان تسوي حساباتها بالسلاح . بعد إلحاق الهزيمة بالمتمردين في مدريد وبرشلونة ، قام الشعب بتنظيم الميليشيات . كان لكل حزب ميليشيا خاصة به ، لا أحد يدافع عن الجمهورية، بل إنها ثورة ضد الفاشية . ودعى دوروتي" الفوضوي الأسطوري إلى ثورة "بروليتارية" مسلحة، وقال: لسنا خائفين من الدمار، فهناك عالم جديد ينتظرنا . وقام بتجنيد مثيري الفتن لبناء عالمه الجديد . وبحلول نهاية تموز كانت مدريد وثلثا إسبانيا مواليةً للجمهورية، وأدرك الوطنيون أنهم سيضيعون بدون "فرانكو" وبدون المجندين المغاربة.وأرسلت ألمانيا وإيطاليا أولى الطائرات، ثم إجتازت قوات "فرانكو" والجنود النظاميون المغاربة مضيق جبل طارق إلى إسبانيا. وتمكن الجيش الإسباني بقيادة كويبو ديليانو" من الاستيلاء على إشبيلية والمنطقة الجنوبية من إسبانيا . في التاسع من آب دخل "فرانكو" إشبيلية فإستقبل كمنقذ ، ووقفت الكنيسة الإسبانية إلى جانبه وتقدما جنبًا إلى جنب ، وقوبلا بالتصفيق على حد سواء ، وإعتبرت الكنيسة مؤامرة قادة الجيش ضد الجمهورية عملاً مشروعًا بعد ذلك استبدل علم الجمهورية بعلم إسبانيا القديم ذي اللونين الأحمر والذهبي . وافق كويبو ديليانو وفرانكو على العلم قائلين: لقد أرادوا أن يسرقوه منا. هذه هي حقًا حرب كنسية جديدة ضد اليسار الإسباني تتم بمباركة من الكنيسة . وقد وقعت أولى المعارك في "سيراس" إلى الشمال من مدريد، ولن يستطيع الحماس الجمهوري أن يتغلب دائمًا على الفوضى التي تسود صفوف الميليشيات ، حيث أن هنالك خلاف بين الضباط والمفوضين السياسيين، وغالبًا ما يصوت رجال الميليشيات لتقرير ما إذا كان عليهم أن يطيعوا أوامر الضباط، أم لا . والوطنيون بقيادة "فرانكو" كانوا يقتربون من مدريد . أتسم القتال بالوحشية منذ البداية. وتقدم الجيش الإفريقي بسرعة في الجنوب ، وسقطت "باداخوس" على الحدود مع البرتغال في الخامس عشر من آب . وتم ذبح جميع المتعاطفين مع الجبهة الخارجية
في أواخر آب بدأ الوطنيون هجومًا في الشمال بالقرب من "آرون"، وتحت أشعة الشمس الملهبة حارب الجانبان بقوة ، بعد ذلك تقهقر الجمهوريون واستسلموا . وإستولى فرانكو على "أرون"، و تم قطع "أستورياس" وبلاد "الباسك" عن فرنسا صديقة الجمهورية الإسبانية، ووقع أوائل الأسرى بيد قوات فرانكو، وعاد الناجون من الجمهوريين إلى برشلونة لمواصلة القتال بعد مرور شهرين على بدء التمرد كانت النتائج غير مشجعة بالنسبة للجمهورية ، فالجيشان في الشمال وفي الجنوب يلتقيان ، وأصبحت مدريد مهددة أكثر وأكثر ، وكانت نتيجة الحرب تعتمد على مصير مدريد ، وسقطت المدينة تلو الأخرى بيد قوات "فرانكو" ، وإزدادت رقعة الأراضي التي يسيطر عليها الوطنيون . كان فرانكو متفائل. ويتوقع أن يدخل العاصمة في يوم "كولومبوس" في الثاني عشر من تشرين الثاني .
الجمهورية كان لديها مقاتلين متحمسين ، ولكنهم قلما يشتركون في الأهداف وتمكن "لارجو كاباريلو".. الذي أصبح رئيسًا للوزراء في الرابع من أيلول عام 1936 من تشكيل حكومة إئتلافية . في تلك الاثناء كان جيش "فرانكو" على بعد مائة وخمسين كيلو مترًا فقط من مدريد . ظلت قلعة "الكازار" الشهيرة في "طليطلة" تلوح فوق نهر "تاجو"، وتقع "طليطلة" على الطريق إلى مدريد . وكان الكولونيل "موسكاردو" من أنصار فرانكو قد لجأ اليها منذ بداية العصيان المسلح ، ومعه ألفا جندي وستمائة من النساء والأطفال ، ولمدة شهرين ظل يهزأ بالجمهورية ويرفض الاستسلام، ويصد جميع الهجمات . كانت صلة القلعة الوحيدة بالعالم الخارجي هي الهاتف. كان الجنرال الجمهوري يقول له : لا ترغمني على محو القلعة من الوجود ، ويرد "موسكاردو": لا ترغمني على إلحاق العار بنفسي ، ويتابع الجمهوري : سأدعك تتكلم مع ابنك . لقد اعتقلناه . ويقول الشاب ذو السبعة عشر عامًا لأبيه : إنهم سيقتلونني إذا لم تستسلم . وبعد أيام قليلة سقط الولد أمام فرقة إعدامٍ جمهورية ، ولكن قلعة "الكازار" صمدت وأصبح "موسكاردو" رمزًا للقتال المميت بين الإسبانيتين .. إسبانيا "فرانكو"، وإسبانيا "الجمهورية وأدرك "فرانكو" أن الحرب تحتاج إلى رموز ؛ لذلك قرر فك الحصار عن قلعة "الكازار" مهما كان الثمن قبل مهاجمة مدريد . كان الجمهوريون متلهفين لإنهاء المعركة ؛ لذلك طلبوا من عمال المناجم أن ينسفوا القلعة بالمتفجرات ، وحضر "كاباريلو" لمشاهدة الهجوم الأخير،حيث قذف انفجار هائل أحدَ الأبراج إلى نهر "التاجو ".ولكن قلعة "الكازار" غير قابلة للتدمير ، فالأساسات تبقى سليمة ، وتوقع الجمهوريون أن يعثروا على جثث ، ولكن المدافعين كانوا أحياء تحت الأنقاض ، وبقيت القلعة حصنًا منيعًا . وصل جيش "فرانكو" إلى الخطوط الخلفية للجمهوريين يوم الثامن والعشرين من أيلول ، وبعد أن أصبح الجمهوريون مهددين بالحصار من قبل جيش "فرانكو"، تخلوا عن مواقعهم وتقهقروا نحو مدريد ، وتمكنت قوات فرانكو من فك الحصار عن القلعة بعد تسعة وستين يومًا . وخاطب "موسكاردو" فرانكو قائلاً : يا جنرال ، ليس عندي ما أسلمه لك سوى الأنقاض ، ولكن قلعة "الكازار" تصبح أسطورة بالنسبة لحركة الوطنيين . كان العالم أجمع يتجه بأنظاره نحو إسبانيا، الرجال والسلاح يصلان من كل مكان ، وكانت اسبانيا خلال شتاء عام 1936 ساحة معركة ، للأيديولوجيات المتعارضة، وميدانًا لاختبار الأسلحة الجديدة . في مساء نفس اليوم الذي بدأت فيه حركة العصيان العسكرية ، طلبت الجمهورية العون من فرنسا حيث كانت الجبهة الشعبية قد وصلت إلى السلطة أيضًا، وكان أول رد فعل لـ"ليون بلوم" رئيس الوزراء الفرنسي هو أنه سيقدم لأسبانيا مساعدة عسكرية فورية . وبسبب معلرضة الجبهة الشعبية الفرنسية قرر بلوم رسميا عدم التدخل في إسبانيا ، أما في الحقيقة فقد استمرت شحنات السلاح سرًا ، لكن هذا الموقف الدولي بعدم التدخل الرسمي طمأن الإنكليز، الذين كانوا بزعامة "تشيمبرلن" يقولون: إنهم يريدون تجنب الحرب . كان هتلر في البداية مترددًا في إرسال مساعدات كبيرة للوطنيين الإسبان ، فالجيش الألماني لم يكن جاهزًا للزحف عبر أوروبا . وقد قرر تقديم المساعدة لفرانكو على دفعات ، وذلك حتى لا تصبح إسبانيا سببًا لإحداث انفجار قبل الأوان في أوروبا . وفي روما لم يكن "موسوليني" متحمسًا لفكرة التدخل في إسبانيا، ولكنه غيًر رأيه بسرعة ؛ حيث أعتبر إسبانيا أرضًا سهلة لتحقيق الأمجاد العسكرية ، وأرسل خمسين ألف جندي ليحاربوا مع فرانكو، أما "ستالين" فقدم المساعدة للجمهوريين. ووصلت السفن السوفيتية الأولى إلى برشلونة في نهاية تشرين الأول . لم تكن تلك المساعدة مجانية ، فقد اضطرت اسبانيا إلى نقل كل ما لديها من ذهب إلى موسكو، لدفع ثمن الدبابات والطائرات . وبدأت الآمال ترتفع داخل المعسكر الجمهوري، وصرح لارجو كاباريللو": نحن الأقوى عسكريًا . إننا حكومة النصر . في تلك الاثناء تشكلت وحدة في ألمانيا وارسلت لغرض تعزيزصفوف الوطنيين وكانت مؤلفة من طائرات ودبابات ومدفعية ، سُميت فيلق النسر ، الذي استُخدم في اسبانيا لاختبار أفكار القيادة العسكرية الألمانية ووصل في البداية ستة آلاف جندي وخمسون طائرة ، وكان الألمان قد تقاضوا الثمن سلعًا ، حيث كانوا يحتاجون إلى بعض المواد الخام ، وفي تشرين الأول عام 1936 أصبح صوت المعركة يُسمع في مدريد . في تشرين الثاني أعلن فرانكو أنه سيدخل مدريد ، وكان المغاربة من قوات فرانكو يقفون على أبواب العاصمة تقريبًا، لكن مدريد كانت تسيطر عليها روح ثورية محمومة، وقال الجمهوريون بأنهم سيدافعون عنها حتى النهاية ، ولكن سقوط المدينة تم بعد ساعات فقط
وهربت الحكومة إلى فالينسيا ووصفها المقاتلون المهتاجون بأنها حكومة خائنة، وأوكلت مهمة الدفاع عن مدريد إلى الجنرال "نيا" ولكن السوفييت سيطروا على مقر القيادة ، وطلبوا من الموالين للجمهورية التنحي جانبًا ، لكن الهجوم السوفيتي الأول بالدبابات لم ينجح ، حيث كانوا منتشرين أكثر مما ينبغي ، ولم يستطيعوا المتابعة ، وبذلك فشل الهجوم الجمهوري المضاد . وفي منتصف تشرين الثاني لم يكن أحد قد تصدى لتقدم الوطنيين، وكان القتال مستمر في الضواحي يدورمن بناية لأخرى وحتى من طابق لآخر وكانت الخسائر فادحة على الجانبين . كانت الأيام تمضي والمغاربة لم يعتادوا على قتال الشوارع ، لذا لن يتمكنوا من تحقيق تقدم يذكر . أما الرجال الذين ليس لديهم أسلحة فكانوا يأخذون أسلحة القتلى، والمقاتلون المنهكون يتحصنون في الخنادق ، وبالرغم من البرد والجوع صمدت مدريد وواصلت إصرارها ، ( لم يمروا أبدًا ولن يمروا ) وأعلن فرانكو بأنه سيدمر مدريد ، وهو الذي كان قد قال من قبل بأنه لم يقصف المدنيين أبدًا . وأصبحت مدريد هدفًا لطياري فيلق النسر الألماني، حيث كانت القنابل الحارقة تسقط على المدينة ليلاً نهارًا .. وحيًا بعد حي .وكان فرانكو يأمل بأن يؤدي القصف إلى تثبيط عزيمة مقاومة الجمهوريين، وحدث العكس ، حيث إزدادت الكراهية لجيش فرانكو، رغم الموت والدمار. وخلال معركة مدريد خسر الفوضويون زعيمهم البارز دوروتي ، ولا زال الغموض يحيط حتى اليوم بظروف وفاته . علما انه كان يشكل القوة الرئيسية للحركة الفوضوية في كاتالونيا ، وخرجت برشلونة لتشييع جنازته . في تلك الأيام كان المغاربة يحيطون بفرانكو حيث انضموا إلى حرسه الخاص وجيشه . وفي تشرين الثاني سُميَ فرانكو قائدًا عامًا ورئيسًا للدولة ، وتم ذلك في "بورجوس" التي يُقال إنه حتى الحجارة فيها تؤيد الوطنيين . وفي الحال أسس فرانكو حزبًا واحدًا يجمع كل الفئات المنضوية تحت لواء حركته ، وذلك لمصلحته الخاصة . كان الوطنيون يريدون اقتلاع خصومهم من الجذور ، وأن يتخلصوا من القوى التي قادت إسبانيا نحو هذه الحرب . وجعل فرانكو يوم الثامن عشر من تموز وهو يوم انطلاق الحركة المسلحة عيدًا وطنيًا لإسبانيا . وكان مسئول الدعاية والإعلان لدى فرانكو الجنرال "ميلان استري" قد فقد إحدى عينيه وإحدى ذراعيه ، واكتسب شهرة بشعاره القائليحيى الموت) ، إنها عبارة مشئومة وذلك لأن الجانبين يتبعان هذه النصيحة بنفس الضراوة . وفقد الكتائبيون زعيمهم "خوزييه أنطونيو بريمو ديريفيرا"، حيث قُتل بالرصاص، كما اُعدم أيضًا الشاعر "فريدريكو جارسيا لوركا"، الذي اعتقل في منزل عائلة مؤيدة لفرانكو حيث كان مختبئًا . كان الإرهاب عملاً مدبرًا ومنظمًا في إسبانيا فرانكو ، وذلك لإرغام الناس على قبول النظام الجديد ، وكان الكارلستيون أنصار فرانكو ينشدون: لقد قتلنا من الحمر عددًا يفوق عدد الأزهار .. في نيسان وأيار . وأصبحت الوحشية شكلاً منحرفًا من أشكال البطولة الإسبانية، ويطلق اليساريون على الرموز الدينية الرصاص وينتزعون جثث الراهبات من قبورهن، ويعرضونها على درجات الكنيسة . وقتل الفرانكيون كل المدرسين ، أما الجمهوريون فطاردوا البورجوازيين ورجال الكنيسة ، الذين قُتل منهم الآلاف بوحشية ، ونهبت الكنائس وحرقت على يد الجمهوريين . كانت الحرب الأهلية الإسبانية ثورة وطنية من جانب، وثورة اجتماعية من جانب آخر . وطبقت الاشتراكية في كل أنحاء إسبانيا الجمهورية ، فالفوضويون سيطروا على برشلونة ، دور السينما ، وتجارة توزيع المواد الغذائية في المدينة وقالوا إنها بداية مغامرة كبرى . في ربيع عام 1937 اُستأنفت معركة مدريد ، وكان الوطنيون بقيادة فرانكو يحاولون تطويق العاصمة وخنقها . وفي شباط قامت الألوية الدولية بالهجوم في منطقة نهر "هرام ". وفي آذار شنً الإيطاليون المناصرون لفرانكو هجومًا على "جوادالاهاي ". كان موسوليني يتوقع انتصارًا، ولكن مُنيَ بهزيمة مذلة . لقد هاجم الجنرال "مولا" من قوات فرانكو بلاد الباسك، في نيسان رغم أن هزيمة الباسك متوقعة ، إلا أنه ركزً هجومه على جورنيكا ، وهي بلدة صغيرة في الباسك . وتعتبر رمز حرية الباسك، حيث يعقد برلمانها الإقليمي اجتماعاته تحت شجرة سنديان . في السادس والعشرين من نيسان عام 1937 أسقطت أربعين طائرة ألمانية خمسين طنًا من القنابل الحارقة على جورنيكا ، وقد ترك الهجوم دمارًا واسعًا فيها . وبطلب من الحكومة الجمهورية قام الرسام الإسباني "بيكاسو" بتخليد ضحايا جورنيكا برسم لوحة زيتية هائلة ، باللونين الرمادي والأسود، والتي تبدو وكأنها تنبأ بالعذاب الذي حلً في ما بعد بأوروبا . وبدلاً من أن يدرك الجمهوريون خطورة الوضع أخذوا يتقاتلون فيما بينهم ، حتى حدثت اضطرابات برشلونة في أيار . في تلك الاثناء حارب النقابيون والفوضويون والمناوءون لستالينية بقيادة "بيلي برانديت" كل الذين سعوا لإعادة السلطة للحكومة المركزية . إلا إن الزعيم "خوسيه دياز" .. والزعيمة "دولوريس" .. وكذلك "سانتياجو كاريللو"، تمكنوا من فرض أنفسهم على الجمهوريين . وتولى رئاسة الحكومة "خوزان ناجرين ". وفي تموز كان الجيش الجمهوري بحاجة ماسة لتحقيق نصر، فقام بشن هجوم بعدما حشد مدفعيته الثقيلة أملاً منه في أن يحطم خطوط قوات فرانكو على بعد ثلاثين كيلو مترًا إلى الغرب من مدريد . لكن شيئًا فشيئًا تم كبح الهجوم الجمهوري ، وتمكن الفرانكيون في استعادة ما فقدوه من أرض ، وقد جُرح الآلاف في هذه المعركة . وشمً فرانكو رائحة النصر فدفع جيوشه باتجاه البحر، وتقدمت على جبهة طولها ثلاثمائة كيلو متر ، وإنهارت دفاعات الجمهوريين المنهكة في كل المواقع ، لم تكن الأهداف التي قصفها الطليان والألمان دائمًا أهدافًا عسكرية ، وقتل من الجانبين في هذه المعركة قبل الأخيرة نحو عشرين ألف شخص . في تموز عام 1938 وصلت قوات فرانكو إلى البحر، ولكن الجمهورية لم تنتهي بعد ، بل وجهت ضربتها الأخيرة في معركة "إيبرو" وهو أكبر وأقوى هجوم قامت به . ففي الخامس والعشرين من تموز عبر مائة ألف جندي جمهوري النهر إلى الشمال من فالينسيا ونجح الهجوم ، وتقدموا أربعين كيلو مترًا . في آب نجحت قوات فرانكو في وقف الهجوم الجمهوري، وهكذا بدأت المعركة الإسبانية الفاصلة . ولمدة ثلاثة أشهر متواصلة ورغم القصف المستمر للطائرات والمدفعية من قبل الوطنيين إلا أن الجمهوريين صمدوا ، ولكن في تشرين الأول بدأ التقهقر العام وفقدت الجمهورية الجيش الشمالي ، وخسرت معركة "إيبرو" ثم خسرت الحرب . في السادس والعشرين من كانون الثاني عام 1939 سقطت برشلونة بدون قتال . وهرب المقاتلون الناجون والعائلات الجمهورية إلى فرنسا وقد انتابهم فزع شديد ، لقد كانوا يأملون بالوصول إلى فرنسا المنشأ الآمن والنجاة بأنفسهم من أعمال الانتقام المخيفة . واندفع نصف مليون لاجئ إسباني بائس نحو الحدود مع فرنسا وقوات فرانكو تلاحقهم ، وكان ضمن هذه الجموع وزراء جمهوريون .. وقادة فوضويون .. ومنظرون ثوريون ، يتساءلون مع أنفسهم كيف ولماذا ساءت الأمور ؟ أما أنصار الجمهوريين فقد غادروا البلاد ، في البداية رفضت فرنسا السماح لهم بدخول أراضيها ، ثم سمحت بذلك شريطة أن يسلم المقاتلون أسلحتهم . لقد شعر الجمهوريون ا بمرارة شديدة ، بعد أن إعترفت دول العالم بحكومة فرانكو . وكان المارشال الفرنسي "بيتان" أول سفير لبلاده في إسبانيا فرانكو . وكانت مدريد أخر مدينة تسقط بعد فترة من النزاع بين عام 1936 وعام 1939 . وتدلت الرايات والملاءات البيضاء من شرفات المنازل لتعلن استسلام المدينة لفرانكو ، الحرب انتهت ، لكن تصفية الحسابات مع المعارضين لفرانكو بدأت بعد ذلك . وأصدر فرانكو مرسومًا ينص على أن جميع أولئك الذين عارضوا الحركة الوطنية بقيادته، حتى ولو كان بشكل سلبي هم عناصر هدامة ، وعلى الفور بدأت عمليات التطهير . وبلغ عدد ضحايا هذه الحرب ستمائة ألف أسباني ، ولحق دمار هائل بالبلاد إحتاج إلى عشرين سنة لإصلاحه . جميع المثاليات التي قامت الحرب من أجلها تلاشت أيضًا ، وحتى مثاليات المنتصرين ، فإسبانيا بعد الحرب الاهلية لن تكون ملكية ولا فاشية ولا كتائبية ، بل فرانكوية إذ دام حكم فرانكو أربعين عامًا بدعم من الجيش والكنيسة . غادر الألمان والطليان إسبانيا ، وفرانكو مدين لهم بالكثير ، ولكن هتلر وموسوليني سرعان ما يكتشفان بأن صداقة فرانكو لم تكن دائمة ، فإسبانيا أخذت نصيبها من المأساة وبقيت بعيدة عن مسرح الاحداث في ما باقي العالم كان قد بدأ يخوض الحرب العالمية الثانية