تجربــة القتالـــي الحضـــري فـــي معركـــة الفلوجـــة الأولـــى
الفلوجة Fallujah مدينة عراقية تقع على نهر الفرات وتبعد مسافة 69 كلم شمال غرب العاصمة بغداد وهي جزء من محافظة الأنبار Anbar Province. المدينة تأوي العديد من أفراد وزعامات العشائر العربية السنية الكبيرة، حيث قدر عدد سكانها بنحو 275 ألف نسمة وفق احصاء عام 2003. مباشرة بعد سقوط بغداد بيد القوات الأمريكية العام 2003، الفلوجة كانت إحدى المدن الهادئة مقارنة بغيرها من المدن، حيث لم تقع فيها أعمال سلب ونهب كتلك التي انتشرت في بعض مناطق العراق وخاصة العاصمة بغداد، ووحدات الجيش العراقي التي تمركزت في المدينة غادرت مواقعها واختفت بين السكان المحليين بعد تركت الكثير من معداتها العسكرية بشكل فوضوي وغير مؤمن. وعندما قامت القوات الأمريكية بدخول الفلوجة في 28 أبريل 2003، هي عملت على تأمين مقرات لها في المدارس وبعض مباني الدوائر الحكومية السابقة لحزب البعث.
هذا الأمر وغيره أثار حنق السكان المحليين، كما كان لقرار حظر التجوال curfew الذي صدر لاحقاً أن أفضى لخروج تظاهرة سلمية لعدة مئات من سكان المدينة احتجاجاً على استفزازات الجنود الأمريكان، لتنتهي هذه بصورة مأساوية بعد إطلاق نار عشوائي indiscriminate firing من قبل جنود الاحتلال، نتج عنه مقتل 17 عنصر من المشاركين فيها وجرح 90 آخرين تقريباً وذلك أمام إحدى المدراس الابتدائية التي استخدمتها القوات الأمريكية كمقر عسكري.
بعدها بيومين وتحديداً في 30 أبريل، القوات الأمريكية قامت من جديد بإطلاق النار على بعض المدنيين وقتلت 3 منهم لأسباب غير واضحة مع جرح 14 آخرين، ليأتي رد سكان المدينة بشكل فوري في تلك الليلة immediate response ويقع هجوم بالقنابل تسبب بجرح سبعة جنود أمريكان. في الواقع، بعض المراقبين يعتبر هذه الحوادث بمثابة الشرارة الأولى first spark التي أدت لقيام المسلحين بتوسيع عملياتهم ومهاجمة بعض مقرات وأهداف القوات الأمريكية.
في 4 يونيو 2003 تعرض أفراد من سرية تابعة للجيش الأمريكي لهجوم بقذائف RPG لحظة صعودهم عربتهم المدرعة للعودة إلى قاعدتهم، ليقتل في الهجوم جندي واحد ويجرح 6 آخرون (مع أكثر من 200 مسجد، الفلوجة كانت مركزاً مهماً لما يمكن وصفه بالإسلام السني المتشدد في المنطقة). جاء هذا الهجوم كردة فعل على ما اقترفته القوات الأمريكية من قتل المدنيين لتشتعل بعدها الفلوجة بعمليات المقاومة.
مباشرة بعد هذا الهجوم، طلبت القوات الأمريكية 1500 جندي إضافي لمواجهة المقاومة المتزايدة في الفلوجة، كما أصدرت أمراً بمصادرة الدراجات النارية motorcycles من السكان المحليين، وادعت حينها بأن هذه الدراجات تستخدم في الهجمات الدورية على القوات الأمريكية. في 30 يونيو 2003، انفجار ضخم huge explosion حدث في أحد مساجد المدينة وثمانية أشخاص قتلوا. الأهالي ذكروا أن القوات الأمريكية أطلقت قذيفة باتجاه المسجد، في حين صرح أحد قادة الجيش الأمريكي بأن الانفجار حدث في مبنى مجاور للمسجد أثناء إعداد المقاومة لقنبلة محلية الصنع.
هكذا، أصبحت المدينة مصدر للاضطرابات العنيفة ومظاهر التمرد، حتى أن عمليات الاستهداف والتفجيرات أصبحت حدث يومي والتي كانت تستهدف بالأساس القوات المحلية والعراقيين المتعاونين مع الحكومة المؤقتة أو قوات التحالف (بعد سقوط صدام حسين وتفكك الجيش العراقي، كان هناك آلاف الرجال العاطلين عن العمل في الشوارع وبمستقبل مجهول، الكثير من هؤلاء أنظموا للمقاومة النشطة ضد الاحتلال الأمريكي).
وفي أوائل شهر مارس 2004، بدأت المدينة بالسقوط النهائي تحت التأثير المتزايد لعمليات المقاومة العراقية. العنف المتصاعد ضد الحضور الأمريكي أدى إلى انسحاب كامل لقوات الاحتلال من المدينة، باستثناء بعض الهجمات الطارئة أو العابرة occasional incursions التي مارستها القوات الأمريكية بقصد كسب وتعزيز موطئ قدم في أطراف المدينة. مثل هذه الهجمات اقترنت بمحاولة تسيير دورية أو اثنتان حول حدود معسكر "بحريا" Baharia الأمريكي، بضعة أميال خارج حدود مدينة الفلوجة (المعسكر عبارة عن قاعدة تشغيل أمامية جرى تأهيلها العام 2003 من قبل الجيش الأمريكي، لتصبح بعدها بسنة تحت سيطرة قوات البحرية الأمريكية).
في صباح 31 مارس، فريق من مهندسي الكتيبة الأولى وكتيبة المشاة الأولى أرسلوا في مهمة خاصة لتأمين الطريق الذي ستمر منه قوات الفرقة 82 المحمولة جواً وأفراد شركة بلاك ووتر. وبينما هم في الطريق من مدينة الحبانية إلى الفلوجة، هم ضربوا بقنبلة طريق متفجرة مما أدى إلى مقتل خمسة جنود من سرية Bravo الأمريكية.
في ذلك اليوم، المقاومة العراقية كمنت لقافلة تضم أربعة مقاولين عسكريين أمريكان خاصين يتبعون شركة "بلاك ووتر" Blackwater الأمريكية، الذين دخلوا مدينة الفلوجة في عربتي خدمات رياضية ولم يبلغوا بشكل مسبق المقر البحري المحلي بشأن تواجدهم أو عملهم (على الرغم من أوامر منع السفر غير المخول للمدينة).
المقاولون الأربعة تعرضوا لكمين مسلح وقتلوا على يد مهاجميهم وجثثهم المتفحمة جرى سحلها في الشوارع قبل أن تعلق على جسر الملك فيصل فوق نهر الفرات في الجزء الغربي من المدينة. صور الحدث عرضت في وكالات الأنباء العالمية، مما تسبب بحالة غضب في الولايات المتحدة، التي قررت عن حملة عسكرية military campaign لإعادة السيطرة على المدينة.
محاولة السيطرة الأمريكية على مدينة الفلوجة والتي نفذت بدعم ومساعدة الجيش العراقي، سميت "معركة الفلوجة الأولى" First Battle of Fallujah، أو الاسم الأمريكي الرمزي "العزيمة اليقظة" Vigilant Resolve. العمليات بوشرت في وقت متأخر من ليلة 4 أبريل 2004 الذي وافق يوم الأحد، واستهدفت ابتداء تطويق الفلوجة بثلاثة كتائب من مشاة البحرية.
ومع صباح 5 أبريل، أكملت وحدات البحرية الأمريكية عملهما بإحاطة الفلوجة وأغلقت الطرق المؤدية للمدينة بالعربات المدرعة والأسلاك الشائكة concertina wire. الدعم العراقي للعملية تمثل بإرسال كتيبة المغاوير السادسة والثلاثون للتعويض عن القوات العراقية التي هربت وتركت مواقعها.
خلال المعركة، أسلحة الإسناد supporting arms أثبتت فائدتها وأهميتها لجنود البحرية، حتى عندما اشتبك هؤلاء مع عدوهم ضمن أماكن ضيقة ومحصورة نسبياً. ففي أكثر من مناسبة اضطرت قوات البحرية لطلب الدعم من طائرات الإسناد الجوي القريب، من أمثال: F-16C وAC-130 وAH-1W وUH-1N. أضف لذلك، سرايا الدبابات التابعين لكتيبة الدبابات الأولى جرى إلحاقهم بكتائب المشاة من أجل تقديم الدعم الناري المباشر direct support.
مراراً وتكراراً، هذه الدبابات كانت تحت نيران أسلحة RPG الكتفية وغيرها من الأسلحة الآلية الخفيفة. مع ذلك، دبابات M1A1 كانت تتقدم بثبات نحو أهدافها المحددة وتطلق قذائفها المدمرة لإخماد النيران العدائية.
وفي ظهر يوم 9 أبريل 2004 وتحت ضغط من مجلس الحكم العراقي الذي استقال ثلاثة من أعضائه كنوع من الاحتجاج على الاستخدام الأمريكي المفرط للقوة وسياسة العقاب الجماعي للمدينة collective punishment وتهديد خمسة آخرين باتخاذ ذات الموقف، أعلن "بول بريمر" Paul Bremer وهو المسؤول الأمريكي عن إدارة شؤون العراق بعد احتلاله العام 2003، بأن القوات الأمريكية ستوقف إطلاق النار من طرف واحد من أجل تسهيل إجراء المفاوضات بين السلطات العراقية وعناصر المقاومة، وكذلك السماح بوصول التجهيزات الغذائية والطبية الحكومية إلى السكان المحاصرين وكذلك إعادة فتح مستشفى الفلوجة العام الذي كان مغلقاً نتيجة الحصار الأمريكي. بالنتيجة، انسحبت القوات الأمريكية إلى أطراف المدينة، واستمر المقاتلين في فرض سيطرتهم على المدينة بشكل كامل.