اهتمامٌ بـ”المملكة المورية”، أول دولة مغربية في التاريخ، يحضر في أحدث كتب الباحث المتخصص في التاريخ امحمد جبرون المعنون بـ”تاريخ المغرب القديم”، والصادر عن دار الإحياء للنشر والتوزيع.في الفصل الخاص بـ”المملكة المورية” التي عمّرت 500 سنة قبل السقوط في براثن الاحتلال الروماني محاولة تركيب لمعالم الوجود السياسي والعسكري والاقتصادي والبيئي والمجتمعي والديني والثقافي واللغوي، رغم شحّ التوثيق التاريخي؛ بالاعتماد على “الإشارات القليلة والقديمة التي حملتها بعض النصوص الإغريقية والبونية واللاتينية، بالإضافة إلى بعض الآثار والشواهد المادية”.
ومن بين ما يصطدم به التأريخ لهذه المملكة، والتاريخ المبكر للمغرب، عجز الباحثين عن فك شفرة الصفائح الصخرية المنقوشة في أنحاء المغرب؛ مما يضطر الباحثين إلى التعويل على “حواشي وهوامش المصادر الإغريقية واللاتينية، التي لم يكن مقصودها الأول التأريخ لشمال إفريقيا والمغرب على وجه الخصوص”.
لكن هذا لا ينفي بالنسبة للباحث المتخصص في التاريخ امحمّد جبرون أن “المملكة المورية من الممالك المغربية المتوسطية المظلومة في التاريخ، التي لم توفّ حقها، حيث بقيت محجوبة عن الأنظار، وبعيدة عن أعين وألسن المؤرخين، ولم يتعرضوا لها سوى نادرا”.
تأسيس الدولة
يميز الكتاب في التأريخ للمملكة المورية بين طورين؛ أولهما التأسيس والتشكل، وهو “مرحلة مبكرة وغامضة في مسعى التأريخ لنشأة الدولة في المغرب”، وفيه “تشكلت وظهرت المملكة المورية، التي لا نعلم شيئا عن بداياتها، بحيث لا نستطيع تحديد بدايتها بدقة، والتعريف بأهم الأحداث التي كانت وراء تأسيسها”، وهو طور انتهى مع فترة الحرب البونية الثانية، في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد.أما الطور الثاني فهو “طور الظهور والانهيار” وعرفت المملكة خلاله “ظهورا ملموسا تمثل في حضورها البارز في أحداث الحرب البونية الثانية”؛ غير أن هذا الاستقرار “على ما يبدو لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما ساءت أوضاعها وانهارت تدريجيا، بعدما انتهى بها الأمر في حضن الإمبراطورية الرومانية، التي محت ذكرها وجعلت من المغرب ولاية رومانية تابعة لها تحت اسم موريطانيا الطنجية سنة 40 للميلاد”.
ويرجح جبرون أن “الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي مر بها المغرب الأقصى قُبَيل التاريخ وبُعيده، وخاصة خلال العصور المعدنية (خلال الألف الأولى قبل الميلاد) فرضت على السكان نوعا من التنظيم السياسي، بسبب التكاثر السكاني (…) وظهور تجمعات سكانية داخل البلاد بعيدا عن الساحل، وتأسيس مراكز حضرية ساحلية، وتدبير الموارد الطبيعية والصراع عليها، وخاصة بعد التحولات المناخية التي عرفتها المنطقة في أواخر العصور الما قبل تاريخية واتساع النطاق الجاف، ووصول الأجانب إلى السواحل المغربية (الفينيقيين والقرطاجيين)”.
ويضاف إلى هذا “ظهور نوع من التراتب الاجتماعي الناتج عن الثروة أو السلطة، وتدل عليه الآثار الجنائزية ومحتويات القبور التي اختلفت حسب المكانة الاجتماعية للميت”، مما شكل “حوافز أولية ومبكرة لظهور الفكرة السياسية وتشكل الدولة أو ما يشبهها في المغرب القديم”.
وعندما زاره القرطاجيون، كان المغرب يتوفر في منتصف المائة الخامسة قبل الميلاد على مجموعة من الحواضر؛ فذكر سكيلاكس الإغريقي في القرن الرابع قبل الميلاد مثلا أن “الأثيوبيين سكان جنوب المغرب كانت لهم مدينة عظيمة كان يقصدها التجار الفينيقيون”. كما ذكر جبرون مدنا أخرى بسواحل المغرب تحدث عنها رحالة وجغرافيون قدامى، بأسماء مثل: “بونسيون التي قدّر البعض أنها مدينة طنجة القديمة، ومدينة زِليل التي توجد جنوب شرق طنجة، ومدينة تيماتيريا التي لم يحدَّد موقعها بدقة، وعدد من المدن الفينيقية الأخرى القديمة التي يرجع تأسيس بعضها إلى فترات جد مبكرة كمدينة ليكسوس التي يعود تأسيسها إلى القرن الثامن قبل الميلاد حسب الشواهد الأثرية”.
وفي حديثه عن الشبكة الحضرية للبلاد، الساحلية أو الداخلية، في علاقتها بالتجمعات السكنية الزراعية والرعوية الداخلية، نبه الباحث المتخصص في التاريخ إلى ما اقتضته من تبادلات، وأدوار، وجمع وتوزيع للسلع، وتعاون، وأمن، وتواصل؛ مما يدل “بشكل قوي على وجود نوع من التنظيم السياسي في مغرب القرن الخامس قبل الميلاد”.
هذا الاستنتاج “تؤكده مجموعة من الشواهد على الرغم من قلتها”، فيُذكر أن “ملكا (موريا) ساعد حانون في ثورته على قرطاج في منتصف القرن 4 قبل الميلاد، ويذكرون أيضا أن عددا من الجنود الموريين ساعدوا قرطاج في حروبها خلال القرن 5 قبل الميلاد، ويؤكد استيفان اكصيل أن المملكة المورية كانت موجودة على الأقل منذ أواسط القرن 5 قبل الميلاد”.
الموريون وملوكهم
أُطلِق اسم الموريين على “أهالي أقصى الشمال الغربي للقارة الإفريقية”، من طرف الإغريق بداية، ثم الرومان بحسب الجغرافي استرابون، أو هو “اسم محلي (بربري) بحسب سالوست. وقد شاع وانتشر خلال القرن الثالث قبل الميلاد، وأمسى علما على الدولة التي حكمت المنطقة وسُكانها”.هذه الساكنة عمرت “الركن الشمالي الغربي لإفريقيا” وخاصة “المناطق الواقعة بين البحرين الداخلي (المتوسط) والخارجي (المحيط)، وجبال الأطلس في الجنوب، وهر ملوشا (ملوية) في الشرق”، علما أن “الحدود الشرقية والجنوبية لهذا المجال لم تكن ثابتة ودقيقة بل كانت متحركة ومتغيرة بحسب الظروف والأحوال السياسية”.
ويعود كتاب “تاريخ المغرب القديم” إلى أول ملك تذكره المصادر كحاكم للملكة المورية، وهو الملك باكَا الذي ساعد القائد مسينيسا وأمن عبوره إلى مملكة أبيه الماسيلية في الشرق أثناء رحلة عودته من إسبانيا”، لكن كان قبل هذا الملك “ملوك آخرون لم تذكرهم المصادر الإغريقية واللاتينية”.
وبعد هذا الحادث، يزيد العمل: “تتجاهل المصادر الإغريقية تطورات المملكة المورية لقرابة قرن من الزمان، ولن تعود لذكر خبرها إلا بمناسبة حرب يوغرطة (105-111 قبل الميلاد)، التي تورطت فيها المملكة المورية”، عندما كان يقودها الملك بوخوس أو بوكوس الأكبر.
وكان النظام السياسي السائد في المملكة “ملكيا، وِراثيا، فكل القادة الموريين كانوا ملوكا بدءا من باكَا وحتى بطليموس”، و”كانت العائلة المالكة المورية تستند إلى شرعية قبلية واسعة، حيث كان الملك أشبه ما يكون بزعيم لفيف من القبائل، التي تكوّن مع بعضها البعض كيانا شبه فيدرالي، تستقل في إطاره القبائل بتدبير شؤونها المحلية وتتعاون في القضايا المشتركة تحت إمرة ملك أو أكَليد”.
ومن مظاهر السيادة السياسية التي مارسها هؤلاء الملوك الموريون “سك النقود، فقد عُثر على العديد من المسكوكات المورية في مناطق متفرقة من المغرب، كتلك التي عُثر عليها في ليكسوس والتي تعود لبوخوس ويوبا الثاني، وفي زليل”.
ويكتب جبرون: “ما من شك أن هذا التاريخ الطويل والاحتكاك الكبير بالحضارات المتوسطية الكبرى منح المملكة المورية فرصة بناء دولة قوية وحديثة لا تقل شأنا عن الدول التي كانت سائدة في حوض المتوسط؛ لكن للأسف ضياع موروثها المكتوب أو غموضه، بالإضافة إلى تأخر الأعمال البحثية الأركيولوجية ساهم في تأخر معرفتنا التاريخية بالكثير من جوانب هذه الدولة”.
الممالك المورية في تاريخ المغرب القديم
تظل معلوماتنا التاريخية عن الممالك المورية ضئيلة مع ما نتوفر عليه من إشارات في النصوص التاريخية بخصوص الممالك النوميدية. ويرجع ذلك بالأساس إلى عدم معرفة الكتاب الإغريق واللاتينيين بأوضاعها قبل القرن الثاني ق.م وأول إشارة نعثر عليها تتعلق بالملك الموري باكا BAGA الذي قام بدعم الملك النوميدي ماسينسا وذلك بإمداده بـ 4000 فارس أثناء مشاركة هذا الأخير في الحرب البونية الثانية حوالي 206 ق.م غير أن هذه الإشارة لا تسعفنا في معرفة تفاصيل نظام الحكم في عهد هذا الملك الذي نجهل عنه الشيء الكثير.الممالك المورية تظهر على مسرح الأحداث التاريخية
بدأ الاهتمام بهذه الممالك عندما تدخلت في الحرب التي دارت بين الرومان والملك النوميدي يوغرطة في نهاية القرن 2 ق.م، حيث يتحدث المؤرخون عن الدور الكبير الذي لعبه الملك الموري بوكوس الأول في القضاء على يوغرطة. وقد سلمت روما لهذا الملك الجزء الغربي من مملكة نوميديا مكافئة له على مساندتها في هذه الحرب.لقد تقاسم حكم شمال افريقيا ابتداء من 49 ق.م كل من الرومان شرقا فيما عرف بإفريقيا القديمة وافريقيا الجديدة، والموريين في منطقة موريطانيا التي تقاسم حكمها كل من الأخوين بوكوس الثاني وبوغود، إذ بدأ الحديث عنهما في النصوص التاريخية اللاتينية نظرا لمشاركتهما في صراع القناصل الرومان على عرش روما.
وقد تمكن الملك بوكوس الثاني من توحيد موريطانيا تحت حكمه ابتداءا من سنة 38 ق.م بعدما تمكن من القضاء على أخيه بوغود مستفيدا من تحالفه مع أوكتافيوس الذي تمكن من التغلب على غريمه مارك أنطوان في صراعهما حول حكم روما.
بعد وفاة هذا الملك بوكوس الثاني دخلت موريطانيا مرحلة من الحكم المباشر لروما بعد فراغ العرش، قبل أن تعين فيها حاكما أمازيغيا سيكون له دور كبير في تاريخ المنطقة اسمه يوبا الثاني.
ففي سنة 25 ق.م ولما كان ضم المملكة الموريطانية الشاسعة إلى الإمبراطورية الرومانية بصفة نهائية يتطلب عتادا كبيرا وجيوشا ضخمة وما يستلزم نفقاتها ربما أكثر مما تدره هذه المناطق من منافع، فقد ارتأى أوكتاف وقد أعلن إمبراطورا منذ سنة 22 ق.م منح عرش هذه المملكة إلى أحد الأمراء الموريين بعدما قام بتربيته في روما تربية تؤهله ليكون تابعا مخلصا للرومان وتصبه ملكا،
إنه الملك يوبا الثاني (25 ق.م – 23م) لقد عين يوبا الثاني ملكا على المجال الموري الموجود بين المحيط الأطلسي غربا والواد الكبير بالجزائر الحالية شرقا، شاملا بذلك موريطانيا بأكملها باستثناء 12 مستوطنة أقامها الرومان بهذا المجال خلال الفترة الممتدة ما بين 33 ق.م و25 ق.م، أي أثناء فترة شغور العرش الموري الذي تلا وفاة الملك الموري بوكوس الثاني، حيث وطنوا بها قدماء المحاربين الرومان وكانت تدير شؤونها وفق النموذج الروماني.
ويشير سترابون إلى أن مملكة مريطانيا في عهد الملك يوبا الثاني امتدت باتجاه الجنوب الشرقي للجزائر الحالية وجنوب تونس محيطة باقليمي افريقيا، وذلك على حساب قبائل الجيتول.
وقد عمل هذا الملك على تنفيذ أوامر السلطة الرومانية وعلى تثبيت وجودها في مملكته وما فتئ يعلن ولائه لروما من خلال تسمية عاصمته القيصرية على اسم القيصر وكذلك من خلال الهدايا التي يوجهها للإمبراطور.
ومن أهم منجزاته المساعدة الكبيرة التي قدمها للقوات الرومانية من أجل التصدي للثورات المحلية المناوئة لها كانتفاضة قبائل الجيتول والموسولام سنة 6م وثورة تاكفاريناس الذي حارب بشراسة كبيرة لمدة سبع سنوات من 17 إلى 24م، وقد نال بذلك عدة أوسمة تخصص عادة للولاة وكبار قياد الجيش الروماني.
وعموما فقد كانت سلطة الملك يوبا الثاني محدودة داخليا فيما يخص المستوطنات والمواطنين الرومان بمملكته، وكانت
وقد أقام يوبا الثاني بعاصمته القيصرية كما كان يتردد كثيرا على مدينة وليلي، وأقام لها على غرار مجموعة من المدن الأخرى مجالس بلدية تسهر على تسيير شؤون المدن وشجع الزراعة حول المدن الكبرى، حيث كان الفائض من الحبوب والخشب والزيتون والعنب وغيرها يصدر إلى روما.
وكان عهده فترة ازدهار تجاري وصناعي في المملكة واستقدم إلى مملكته الأدباء والعلماء وشجع كثيرا المجالس الثقافية والعلمية،
بعد وفاة يوبا الثاني 23م تولى الحكم ابنه بطليموس الذي سار على نفس منهج أبيه وقد كان له دور حاسم من أجل القضاء نهائيا على ثورة تاكفاريناس سنة 24 م وكمكافئة له منح له مجلس الشيوخ الروماني لقب ملك صديق وحليف الشعب الروماني.
حاول الملك بطليموس توحيد القبائل المورية وتوسيع مملكته خارج النطاق المرسوم له من قبل الرومان، كما استطاع أن يربط علاقات مميزة مه مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الروماني، وقد بدأت أطماعه تكبر وذلك من خلال إعطاء ملكه الكثير من القداسة والدليل في ذلك إقدامه على إصدار عملة ذهبية تحمل اسمه ويبدوا فيها بلباس الأباطرة،
لكن الامبراطور الروماني كاليكولا (37م – 40م) كان يراقب كل ذلك بنوع من التوجس والحذر، فأمر أتباعه باغتيال الملك الموري بطليموس من الحد من طموحاته التوسعية في شمال افريقيا والسيطرة على ممتلكاته سنة 40م.
على إثر اغتيال الملك بطليموس قامت ثورة عارمة بمملكة موريطانبا تزعمها أحد أكبر وزرائه ” أيدمون ” للثأر من الرومان والانتقام من حكمائها المتبجحين بالقوة والعظمة، ناهيك عن سخط الموريين على الأوضاع المتردية بشمال افريقيا بسبب سيطرة الجيش الروماني على ثرواتهم وأراضيهم الخصبة، دون أن ننسى سياسة الاستغلال والظلم الاجتماعي والاستنزاف المكثف لموارد البلاد.
ويجمع مجموعة من الباحثين من أن هذه الثورة دامت أربع سنوات وأخدت من روما جهدا كبيرا لإخمادها، وبذلك اختفت آخر الممالك الأمازيغية من مسرح الأحداث السياسية بشمال افريقيا، تاركة المجال واسعا للرومان لتركيز نفوذهم بأراضيها التي قسمت إلى ولايتين هما: موريطانيا القيصرية بالجزائر الحالية وموريطانيا الطنجية بالمغرب (نسبة إلى مدينة طنجة)
ويمكن القول عموما أن البحث في الجذور الأولى لـ الممالك المورية وتشكلها انطلاقا من المعلومات المتوفرة في المصادر وما تقدمه الأبحاث الأثرية من نتائج يتميز بصعوبة كبيرة من حيث تسلسل المعطيات وانسجامها بالإضافة لندرة الإشارات الواضحة المتعلقة بالميادين الاقتصادية والاجتماعية والحضارية بشكل عام.