في خلال ربع القرن الذي اعقب معركة زاما احرزت روما في شرق البحر المتوسط مكانة تعادل المكانة الذي احرزتها في غرب هذا البحر بانتصارها على قرطاجة خلال الحربين البونيتين الاولى والثانية , ويرجع تدخل روما في شرق البحر المتوسط وبسط سيطرتها عليه الى الاوضاع السياسية التي كانت قائمة في العالم الهلنستي عند نهاية القرن 3 قبل الميلاد مما يقتضينا ان نستعرض في ايجاز احوال اهم الدول والقوى الهلنستية انذاك وهي مصر البطلمية وسوريا السلوقية ومقدونيا .
الاوضاع في شرق البحر المتوسط عقب انتصار روما في الحرب البونية الثانية :
1- دولة البطالمة Ptolemaïkḕ basileía :
كان الهدف الاساسي للبطالمة الثلاثة الاوائل هو بناء دولة غنية وقوية ومن اجل ذالك وضعوا نصب اعينهم امرين : احدهما حكم مصر حكما مطلقا تسانده جيوشهم الاغريقية ووضع ايديهم على كل موارد البلاد وارغام المصريين على استغلالها الى اقصى حد ممكن لصالح حكامهم الاغريق وكذالك على اداء سلسلة طويلة من الضرائب , فلا عجب ان قلوب المصريين نبضت حقدا وكراهية واخذو يتطلعون الى الفرصة التي تتيح لهم تقويض دعائم الحكم المقدوني الجائر واسقاط سلالة البطالمة .
اما الامر الاخر الذي سعى اليه حكام البطالمة الاوائل فهو بناء امبراطورية بحرية قوية تضمن لهم اولا الاتصال الوثيق بالعالم الاغريقي وبحر ايجة وكان عندئذ مصدر الافكار والرجال ورؤوس الاموال , و ثانيا تكفل لهم تامين حاجيات مصر من الموارد الطبيعية التي تفتقرها اليها مثل الاخشاب والمعادن ومن ناحية اخرى تزيد ثرواتهم عن طريق السيطرة على التجارة البحرية والاستيلاء على ثاني اهم المنافذ والطرق الرئيسية للتجارة الدولية قديما وهو طريق التجارة بين البحر الاحمر و الهند والشرق الاقصى .
وقد بلغت امبراطوية البطالمة اقصى اتساعها في عهد بطليموس الثالث إيرغيتيس 246-221 ق م وكانت تشمل انذاك الى جانب مصر كل من كيرينايكي Cyrenaica برقة الحالية و قبرص وفينيقيا وجنوب سوريا "' سوريا الجوفاء " Cœle-Syria وعددا من الاقاليم المطلة على شواطى اسيا الصغرى الجنوبية والغربية وكذالك شاطىء تراقيا حتى مارونيا جنوب شرق البلقان ,فضلا عن عدد من الجزر في بحر ايجة ..
وبعد النشاط الذي ابداه بطليموس الثالث في مستهل حكمه ,جنح الى السلم وترك جيشه واسطوله البحري يسقطان في التراخي والضعف الى حد انه عندما توفي في عام 221 قبل الميلاد لم تعد مصر قوة بحرية يخشى بائسها ,وعندما ارتقى عرش مصر بطليموس الرابع Philopator وكان شابا عابثا غير مبالي بشؤون الدولة , راى الملك السلوقي في سوريا انطيوخوس الثالث الفرصة سانحة له للاسيتلاء على سوريا الجوفاء وعندما لاحت بوادر الازمة لم يكفي لبناء جيش قادر على مواجهة الخطر القادم من سوريا اولائك الاغريق المقيمين بمصر او المستاجرين من خارجها ,ما اظطر حكام مصر المقدونيين الى الاعتماد لاول مرة في جيوشهم على العناصر الوطنية المصرية , فجند 20 الف مصري شكلوا قلب الجيش البطلمي ودربوا على اساليب وتكتيكات القتال المقدونية واليونانية,وحين التقى الجيشان السوري والمصري في موقعة رفح عام 217 ق م , وانهزم احد اجنحة الجيش المصري المكون من الاغريق ,حسم المصريين المعركة باكتساح قلب الجيش السلوقي المكون من المقدونيين والاغريق , منذ ان عاد المصريين منتصرين في معركة رفح ادركوا قيمتهم العسكرية ونفثوا روح الثورة ضد الحكم المقدوني في مصر ..
وتعتبر واقعة رفح حدا فاصلا في تاريخ دولة البطالمة بين عهدين مختلفين : العهد الذي بلغت فيه دولة البطالمة اقصى اتساعها واوج قوتها , والعهد الذي اضمحلت فيه هذه الدولة فتزعزع سلطانها في الداخل وفقدت املاكها في الخارج وانتهى الامر بافول نجمها وزاول استقلالها , ويرجع هذا الاضمحلال الى سببين رئيسين احدهما داخلي والاخر خارجي :
اما السبب الداخلي فهو ضعف السلطة المركزية واختلال نظام الحكم ويعزى ذالك الى ثلاث عوامل رئيسية وهي :
1 - ان الدور الذي قام به المصريين في واقعة رفح اعاد اليهم الثقة بنفس فلم يعودو يتهيبون الوقوف في وجه حكومة الاسكندرية ثائرين على ماكنوا يلقونه من صنوف الضغط والاستبداد , وقد تعددت هذه الثورات منذ عام 216 ق م الى حد انها اضعفت قوة البطالمة وشلت ايديهم على الدفاع على ممتلكاتهم في الخارج .
2 - منذ وفاة بطليموس الثالث الى عرش مصر الى ملوك كانوا اما ضعافا او صبية فالت مقاليد الحكم الى عصبة من الاوصياء والوزارء الاغريق الذين عجزوا عن الارتقاء الى مستوى الاحداث وسعوا الى خدمة مصالحهم الشخصية وبقائهم في السلطة على حساب مصلحة الدولة فكان ذاكك خير مشجع لذوي الاطماع من الحلفاء او الاعداء على حد سواء للانقضاض على ممتلكات مصر الخارجية بل على مصر نفسها .
3 - ظهور روح التنافس واستحكام النزاع بين افراد اسرة البطالمة منذ عهد بطليموس السادس 180 - 145 ق م ذالك النزاع الذي عمد الرومان الى تغذيته واستغلاله وساعدهم على تغلغل نفوذهم بدولة البطالمة و توجيه سياستها والتحكم بها.
اما السبب الخارجي فهو انه حين بدات عوامل الاضمحلال تدب في دولة البطالمة كانت تعتلى مسرح السياسة الدولية ثلاث قوى طموحة وهي الامبراطورية السلوقية في عهد انطيوخوس الثالث والدولة المقدونية في عهد فليب الخامس والجمهورية الرومانية .
2 - دولة السلوقيين Basileía tōn Seleukidōn :
وقد كانت دولة السلوقيين او سوريا على حد تعبير الرومان اضخم الممالك الهلنستية من حيث الاتساع وعدد السكان والدولة التي ورثت الجزء الاكبر من امبراطورية الاسكندر الكبير, الى انها كانت تاتي بعد البطالمة من حيث الثراء وكانت سابقا سلوقية دجلة على انقاض بابل القديمة هي النواة التي نشات منها هذه الدولة منذ اقتسام قادة الاسكندر لامبراطوريته بعد حرب الخلفاء (Diadochi) , وبفضل جهود مؤسسها الاول سلوقس الاول (نيكاتور) احد قادة الاسكندر امتدت حدودها شرقا حتى وصلت البنجاب والسند وغربا حيث شملت معظم اسيا الصغراى وشمال سوريا لتكون على صلة بالعالم الاغريقي , ومن اجل ذالك نقل السلوقيين عاصمتهم الى انطاكية التي اسسوها على نهر العاصي وكافحوا سيطرة البطالمة على سوريا الجوفاء وعلى شواطى اسيا الصغرى , لان تسليمهم بذالك كان يحرمهم موارد ضخمة وانشاء اسطول كبير والاحتفاظ به في تلك الاصقاع,بل كان يتيح للبطالمة ان يسدوا في وجوههم الاتصال ببحر ايجة والعالم اليوناني فتصبح دولتهم ممكلة شرقية بحتا منعزلة تماما عن عالم الاغريق ..
بيد ان ضخامة الامبراطورية السلوقية كان ايضا مكمن ضعفها بسبب الشاسعة التي كانت تفصل بين مقر السلطة المركزية وبين الولايات وكذالك بسبب تباين العناصر والشعوب المتعددة التي كانت هذه الامبراطورية المترامية الاطراف تضمها , وفضلا عن ذالك فان سلطة السلوقين كانت تستند على المرتزقة والنزلاء الاغريق وكذالك على المدن الاغريقية التي انشاها الاسكندر والملوك السلوقين في اسيا , غير ان هذه المدن التي كانت عبارة عن واحات اغريقية وسط القارة الاسيوية الشاسعة لم تفلح الى حد محسوس في نشر الثقافة الاغريقية وربط اجزاء هذه الامبراطورية بعضها البعض في اطار حضاري وسياسي اغريقي واحد , ولم يكن من شان اخضاع هؤلاء الاهالي الى حكم اجنبي وثقافة دخيلة انه كسب عطفهم وولائهم , بل على العكس من ذالك انه اثار حفيظتهم والرغبة في الثورة على الحكم اليوناني , ولم يضعف الامبراطورية السلوقية الثورات المتكررة التي وقعت في الولايات الشرقية فحسب , بل ايضا داء النزاع الاسري الذي ابتليت به اسرة السلوقيين مبكرا ..
وقد كانت النتيجة الطبيعية لهذين العاملين انه اصاب الامبراطوية السلوقية تفكك شديد حوالي عام 220 ق م ولكن انيطوخوس الثالث تمكن بكفايته ونشاطه من انقاذ الامبراطورية ,ذالك انه بعد هزيمة رفح لم يركن الى حياة المسالمة بل نشط في القضاء على القوى الهدامة في امبراطوريته ,فتحالف مع اتالوس ملك برغامون وحارب ابن عمه اخايوس السلوقي 216-215 ق م الى ان تخلص منه نهائيا واسترد معظم الممتلكات السورية في اسيا الصغرى , في عام 212 ق م يمم انطيوخوس وجهه شطر اسيا وولاياته الشرقية , وبضفل حمل مظفرة قارنها العالم الهلنستي بحملة الاسكندر الكبير , قضى على الثورات في فارس وميديا وباكتريا وبارثيا ووصلت فتوحاته الى غاية البنجاب وجبال الهندكوش فاظهر قوته امام ولاته الاسيوين واعادة وحد الامبراطورية على اساس متين ,فاكتسب بذالك مكانة رفيعة في دولته والعالم الهلنستي , ومنذ عودته اتخذ لقب الملك الاكبر مثل ملوك الفرس الاخمنيين قديما ,وكان الاغريق يدعونه بانطيوخوس الاكبر Antiochos Megas , ومنذ ذالك الوقت اخذ انطيوخوس يتاهب للثائر لهزيمته في واقعة رفح 217 ق م واسترداد سوريا الجوفاء وباقي ممتلكاته في اسيا الصغرى وتراقيا عندما يحين الوقت المناسب
3 - دولة الانتغونيين في مقدونيا Macedonia :
وقد كانت مملكة مقدونيا اصغر الدول الهلنستية الثلاث من حيث الثروة واتساع المساحة والسكان , بيد انها كانت تمتاز عن الدول الاخرى من حيث الترابط مع العالم الاغريقي و التقاليد العسكرية والروح المعنوية وولاء المواطنين لحكامهم القوميين ,فقد حرص هؤلاء الملوك على الحفاظ على التقاليد والنظم العسكرية التي وضعها فيليب الثاني وعمل ابنه الاسكندر الاكبر على تنميتها ,ولما كان الشعب المقدوني لم يفقد طابعه العسكري فانه كان في وسعه بناء جيش على درجة عالية من الاحترافية والكفاية وان كان صغيرا .
وقد كافحت مقدونيا كذالك سيطرة البطالمة على بحر ايجة واستطاعت في عام 245 ق م من احراز سيادة جزئية على هذا البحر بانتصارها على الاسطول البطلمي وسيطرتها على عصبة جزر كيكلادس cyclades , ومنذ اواخر عهد فيليب الثاني وبداية عهد الاسكندر كانت مقدونيا تدعي لنفسها حقوقا على شبه جزيرة البلقان ولكنها بعد وفاة الاسكندر لم تسيطر الى على تساليا والجزء الشرقي من بلاد الاغريق حتى برزخ كورنثة , فقد وقف حائلا دون سيطرة مقدونيا على بلاد اليونان الوسطى والجنوبية مقاومة عصبتي ايتوليا Koinon tōn Aitōlōn واخايا Koinon ton Achaion واسبرطة , وكان البطالمة يمدونهما بالمساعدة للحيلولة دون اتساع قوة مقدونيا ونفوذها .
بيد ان المنافسة الشديدة بين الدول الاغريقية افضت الى انحياز عصبة اخايا الى جانب مقدونيا وعندما انزلت مقدونيا هزيمة ساحقة باسبرطة عام 222 ق م كونت من اغلب بلاد الاغريق الوسطى والبلوبونيز عصبة بزعامتها ,وقد ورث فيليب الخامس هذه الاوضاع السياسية وحاغظ عليها بفضل انتصاره في الحرب المقدونية الاولى 212- 206 قبل الميلاد على الايتوليين برغم من تحالف برغامون وروما معهم ..
واذا كان فيليب قد خرج من صراعه مع الايتوليين وبرغامون وروما اكثر قوة واطماعا منه في اي وقت مضى فانه كان يدرك ان يتعذر عليه مكافحة روما بنجاح دون اسطول وموارد كافية ,وان بلاد الاغريق افقر من ان تمده بهذه الاحتياجات الضرورية , وانها لن تهب لنصرته بعد ان سلبها حريتها ,وازاء ذالك راى فيليب ان فرصته الوحيدة لتحقيق اغراضه كانت في الوصول الى الشرق وفي اعادة بناء الاسطول الذي اكسب مقدونيا سيادة جزئية على بحر ايجة عند منتصف القرن الثالث قبل الميلاد ولما كانت الجزر ومدن اسيا الصغرى التابعة للبطالمة لا تزال غنية او اغنى على الاقل من بلاد الاغريق ذاتها , فان الاستيلاء عليها كان يوفر له الموارد والوسائل اللازمة لبناء قوة بحرية كبيرة , ولكن اهداف فيليب كانت تتعارض من ناحية مع اهداف قوتي رودوس وبرغامون اللتان كانت تطمعان ايضا للسيطرة على بحر ايجة , ومن ناحية اخرى مع اهداف انطيوخوس الثالث الذي كان على وشك الانتهاء من دعم بناء امبراطوريته استعداد للانقضاض على امبراطورية البطالمة , وكان سقوط هذه الامبراطورية محط امال فيليب بشرط الى تقع في قبضة انطيوخوس الثالث .
ولكي يحقق فيليب مشاريعه التوسعية في بحر ايجة ,عقد الصلح مع الرومان عام 205 ق م والذي انهى الحرب المقدونية الاولى ,ولما لم يكن لديه ما يلزمه من الاموال والسفن لتنفيذ هذه المشاريع وكان عليه ان يقضي على قوة رودوس البحرية وممتلكتها في بحر ايجة باي وسيلة ممكنة , فانه لجاء الى وسيلة تعلمها من الالييرين وهي استخدام القراصنة في تحطيم قوة العدو وسلبه موارده , وقد نجح قراصنته في السطو على من الجزر والمدن الاسيوية وبذلوا جهدا كبيرا في تخريب موارد رودوس البحرية , وفي القوت نفسه عام 205-204 ق م اثار حربا عنيفة بين كريت ورودوس , وهكذا تمكن فيليب بفضل القراصنة من ان ينزل الى بحر ايجة اسطولا كان ندا لاساطيل رودوس وبرغامون .
ويتبين من خلال هذا العرض الموجز ثلاث امور وهي :
اولا - انه عند نهاية القرن الثالث ق م كان الاضمحلال قد بداء يدب الى احد الدول الثلاث العظمى في شرق البحر المتوسط ,وانه اذا كانت الدولتان الاخريتان في ذروة قوتهما فانه من الناحية كانت لهما اطماع تنافسية متضاربة ومن ناحية اخرى فان كلتا الدولتان كانتا لهما اعداء في الداخل والخارج يتربصون بهم .
ثانيا - انه كانت توجد في العالم الهلنستي الى جانب هذه الدول العظمى الثلاث قوى اخرى على قدر كبير من الاهمية وهي مملكة برغامون في اسيا الصغرى وجزيرة رودوس , وعصبة ايتوليا شمالي خليج كورنثة , وعصبة اخايا جنوب هذا الخليج .
ثالثا - انه كانت لهذه القوى خاصة برغامون ورودوس اهداف جيوسياسية تتعارض واطماع انطيوخوس الثالث وفيليب الخامس مثل ما كانت اطماع انطيوخوس تتعارض مع اطماع فيليب , فقد كان الهدف الرئيسي لكل من هذين العاهلين الفوز باكبر قسط ممكن من امبراطورية البطالمة وهي التي سيطرت امدا طويلا على سياسات العالم الهلنستي واقتصادياته .
ومجمل القول انه حين خرجت روما مظفرة من حربها مع قرطاجة ,كانت دول العالم الهلنستي في شغل عنها بتحقيق اهداف متلاطمة لم يكن من شان الاندفاع والسعي نحو تحقيقها من طرف هذه الدول المتناحرة الا تمهيدا لسبيل روما في بسط سيطرتها على شرق البحر المتوسط والعالم الهلنستي على ما نحو سنرى لاحقا ...
الاوضاع في شرق البحر المتوسط عقب انتصار روما في الحرب البونية الثانية :
1- دولة البطالمة Ptolemaïkḕ basileía :
كان الهدف الاساسي للبطالمة الثلاثة الاوائل هو بناء دولة غنية وقوية ومن اجل ذالك وضعوا نصب اعينهم امرين : احدهما حكم مصر حكما مطلقا تسانده جيوشهم الاغريقية ووضع ايديهم على كل موارد البلاد وارغام المصريين على استغلالها الى اقصى حد ممكن لصالح حكامهم الاغريق وكذالك على اداء سلسلة طويلة من الضرائب , فلا عجب ان قلوب المصريين نبضت حقدا وكراهية واخذو يتطلعون الى الفرصة التي تتيح لهم تقويض دعائم الحكم المقدوني الجائر واسقاط سلالة البطالمة .
اما الامر الاخر الذي سعى اليه حكام البطالمة الاوائل فهو بناء امبراطورية بحرية قوية تضمن لهم اولا الاتصال الوثيق بالعالم الاغريقي وبحر ايجة وكان عندئذ مصدر الافكار والرجال ورؤوس الاموال , و ثانيا تكفل لهم تامين حاجيات مصر من الموارد الطبيعية التي تفتقرها اليها مثل الاخشاب والمعادن ومن ناحية اخرى تزيد ثرواتهم عن طريق السيطرة على التجارة البحرية والاستيلاء على ثاني اهم المنافذ والطرق الرئيسية للتجارة الدولية قديما وهو طريق التجارة بين البحر الاحمر و الهند والشرق الاقصى .
وقد بلغت امبراطوية البطالمة اقصى اتساعها في عهد بطليموس الثالث إيرغيتيس 246-221 ق م وكانت تشمل انذاك الى جانب مصر كل من كيرينايكي Cyrenaica برقة الحالية و قبرص وفينيقيا وجنوب سوريا "' سوريا الجوفاء " Cœle-Syria وعددا من الاقاليم المطلة على شواطى اسيا الصغرى الجنوبية والغربية وكذالك شاطىء تراقيا حتى مارونيا جنوب شرق البلقان ,فضلا عن عدد من الجزر في بحر ايجة ..
وبعد النشاط الذي ابداه بطليموس الثالث في مستهل حكمه ,جنح الى السلم وترك جيشه واسطوله البحري يسقطان في التراخي والضعف الى حد انه عندما توفي في عام 221 قبل الميلاد لم تعد مصر قوة بحرية يخشى بائسها ,وعندما ارتقى عرش مصر بطليموس الرابع Philopator وكان شابا عابثا غير مبالي بشؤون الدولة , راى الملك السلوقي في سوريا انطيوخوس الثالث الفرصة سانحة له للاسيتلاء على سوريا الجوفاء وعندما لاحت بوادر الازمة لم يكفي لبناء جيش قادر على مواجهة الخطر القادم من سوريا اولائك الاغريق المقيمين بمصر او المستاجرين من خارجها ,ما اظطر حكام مصر المقدونيين الى الاعتماد لاول مرة في جيوشهم على العناصر الوطنية المصرية , فجند 20 الف مصري شكلوا قلب الجيش البطلمي ودربوا على اساليب وتكتيكات القتال المقدونية واليونانية,وحين التقى الجيشان السوري والمصري في موقعة رفح عام 217 ق م , وانهزم احد اجنحة الجيش المصري المكون من الاغريق ,حسم المصريين المعركة باكتساح قلب الجيش السلوقي المكون من المقدونيين والاغريق , منذ ان عاد المصريين منتصرين في معركة رفح ادركوا قيمتهم العسكرية ونفثوا روح الثورة ضد الحكم المقدوني في مصر ..
وتعتبر واقعة رفح حدا فاصلا في تاريخ دولة البطالمة بين عهدين مختلفين : العهد الذي بلغت فيه دولة البطالمة اقصى اتساعها واوج قوتها , والعهد الذي اضمحلت فيه هذه الدولة فتزعزع سلطانها في الداخل وفقدت املاكها في الخارج وانتهى الامر بافول نجمها وزاول استقلالها , ويرجع هذا الاضمحلال الى سببين رئيسين احدهما داخلي والاخر خارجي :
اما السبب الداخلي فهو ضعف السلطة المركزية واختلال نظام الحكم ويعزى ذالك الى ثلاث عوامل رئيسية وهي :
1 - ان الدور الذي قام به المصريين في واقعة رفح اعاد اليهم الثقة بنفس فلم يعودو يتهيبون الوقوف في وجه حكومة الاسكندرية ثائرين على ماكنوا يلقونه من صنوف الضغط والاستبداد , وقد تعددت هذه الثورات منذ عام 216 ق م الى حد انها اضعفت قوة البطالمة وشلت ايديهم على الدفاع على ممتلكاتهم في الخارج .
2 - منذ وفاة بطليموس الثالث الى عرش مصر الى ملوك كانوا اما ضعافا او صبية فالت مقاليد الحكم الى عصبة من الاوصياء والوزارء الاغريق الذين عجزوا عن الارتقاء الى مستوى الاحداث وسعوا الى خدمة مصالحهم الشخصية وبقائهم في السلطة على حساب مصلحة الدولة فكان ذاكك خير مشجع لذوي الاطماع من الحلفاء او الاعداء على حد سواء للانقضاض على ممتلكات مصر الخارجية بل على مصر نفسها .
3 - ظهور روح التنافس واستحكام النزاع بين افراد اسرة البطالمة منذ عهد بطليموس السادس 180 - 145 ق م ذالك النزاع الذي عمد الرومان الى تغذيته واستغلاله وساعدهم على تغلغل نفوذهم بدولة البطالمة و توجيه سياستها والتحكم بها.
اما السبب الخارجي فهو انه حين بدات عوامل الاضمحلال تدب في دولة البطالمة كانت تعتلى مسرح السياسة الدولية ثلاث قوى طموحة وهي الامبراطورية السلوقية في عهد انطيوخوس الثالث والدولة المقدونية في عهد فليب الخامس والجمهورية الرومانية .
2 - دولة السلوقيين Basileía tōn Seleukidōn :
وقد كانت دولة السلوقيين او سوريا على حد تعبير الرومان اضخم الممالك الهلنستية من حيث الاتساع وعدد السكان والدولة التي ورثت الجزء الاكبر من امبراطورية الاسكندر الكبير, الى انها كانت تاتي بعد البطالمة من حيث الثراء وكانت سابقا سلوقية دجلة على انقاض بابل القديمة هي النواة التي نشات منها هذه الدولة منذ اقتسام قادة الاسكندر لامبراطوريته بعد حرب الخلفاء (Diadochi) , وبفضل جهود مؤسسها الاول سلوقس الاول (نيكاتور) احد قادة الاسكندر امتدت حدودها شرقا حتى وصلت البنجاب والسند وغربا حيث شملت معظم اسيا الصغراى وشمال سوريا لتكون على صلة بالعالم الاغريقي , ومن اجل ذالك نقل السلوقيين عاصمتهم الى انطاكية التي اسسوها على نهر العاصي وكافحوا سيطرة البطالمة على سوريا الجوفاء وعلى شواطى اسيا الصغرى , لان تسليمهم بذالك كان يحرمهم موارد ضخمة وانشاء اسطول كبير والاحتفاظ به في تلك الاصقاع,بل كان يتيح للبطالمة ان يسدوا في وجوههم الاتصال ببحر ايجة والعالم اليوناني فتصبح دولتهم ممكلة شرقية بحتا منعزلة تماما عن عالم الاغريق ..
بيد ان ضخامة الامبراطورية السلوقية كان ايضا مكمن ضعفها بسبب الشاسعة التي كانت تفصل بين مقر السلطة المركزية وبين الولايات وكذالك بسبب تباين العناصر والشعوب المتعددة التي كانت هذه الامبراطورية المترامية الاطراف تضمها , وفضلا عن ذالك فان سلطة السلوقين كانت تستند على المرتزقة والنزلاء الاغريق وكذالك على المدن الاغريقية التي انشاها الاسكندر والملوك السلوقين في اسيا , غير ان هذه المدن التي كانت عبارة عن واحات اغريقية وسط القارة الاسيوية الشاسعة لم تفلح الى حد محسوس في نشر الثقافة الاغريقية وربط اجزاء هذه الامبراطورية بعضها البعض في اطار حضاري وسياسي اغريقي واحد , ولم يكن من شان اخضاع هؤلاء الاهالي الى حكم اجنبي وثقافة دخيلة انه كسب عطفهم وولائهم , بل على العكس من ذالك انه اثار حفيظتهم والرغبة في الثورة على الحكم اليوناني , ولم يضعف الامبراطورية السلوقية الثورات المتكررة التي وقعت في الولايات الشرقية فحسب , بل ايضا داء النزاع الاسري الذي ابتليت به اسرة السلوقيين مبكرا ..
وقد كانت النتيجة الطبيعية لهذين العاملين انه اصاب الامبراطوية السلوقية تفكك شديد حوالي عام 220 ق م ولكن انيطوخوس الثالث تمكن بكفايته ونشاطه من انقاذ الامبراطورية ,ذالك انه بعد هزيمة رفح لم يركن الى حياة المسالمة بل نشط في القضاء على القوى الهدامة في امبراطوريته ,فتحالف مع اتالوس ملك برغامون وحارب ابن عمه اخايوس السلوقي 216-215 ق م الى ان تخلص منه نهائيا واسترد معظم الممتلكات السورية في اسيا الصغرى , في عام 212 ق م يمم انطيوخوس وجهه شطر اسيا وولاياته الشرقية , وبضفل حمل مظفرة قارنها العالم الهلنستي بحملة الاسكندر الكبير , قضى على الثورات في فارس وميديا وباكتريا وبارثيا ووصلت فتوحاته الى غاية البنجاب وجبال الهندكوش فاظهر قوته امام ولاته الاسيوين واعادة وحد الامبراطورية على اساس متين ,فاكتسب بذالك مكانة رفيعة في دولته والعالم الهلنستي , ومنذ عودته اتخذ لقب الملك الاكبر مثل ملوك الفرس الاخمنيين قديما ,وكان الاغريق يدعونه بانطيوخوس الاكبر Antiochos Megas , ومنذ ذالك الوقت اخذ انطيوخوس يتاهب للثائر لهزيمته في واقعة رفح 217 ق م واسترداد سوريا الجوفاء وباقي ممتلكاته في اسيا الصغرى وتراقيا عندما يحين الوقت المناسب
3 - دولة الانتغونيين في مقدونيا Macedonia :
وقد كانت مملكة مقدونيا اصغر الدول الهلنستية الثلاث من حيث الثروة واتساع المساحة والسكان , بيد انها كانت تمتاز عن الدول الاخرى من حيث الترابط مع العالم الاغريقي و التقاليد العسكرية والروح المعنوية وولاء المواطنين لحكامهم القوميين ,فقد حرص هؤلاء الملوك على الحفاظ على التقاليد والنظم العسكرية التي وضعها فيليب الثاني وعمل ابنه الاسكندر الاكبر على تنميتها ,ولما كان الشعب المقدوني لم يفقد طابعه العسكري فانه كان في وسعه بناء جيش على درجة عالية من الاحترافية والكفاية وان كان صغيرا .
وقد كافحت مقدونيا كذالك سيطرة البطالمة على بحر ايجة واستطاعت في عام 245 ق م من احراز سيادة جزئية على هذا البحر بانتصارها على الاسطول البطلمي وسيطرتها على عصبة جزر كيكلادس cyclades , ومنذ اواخر عهد فيليب الثاني وبداية عهد الاسكندر كانت مقدونيا تدعي لنفسها حقوقا على شبه جزيرة البلقان ولكنها بعد وفاة الاسكندر لم تسيطر الى على تساليا والجزء الشرقي من بلاد الاغريق حتى برزخ كورنثة , فقد وقف حائلا دون سيطرة مقدونيا على بلاد اليونان الوسطى والجنوبية مقاومة عصبتي ايتوليا Koinon tōn Aitōlōn واخايا Koinon ton Achaion واسبرطة , وكان البطالمة يمدونهما بالمساعدة للحيلولة دون اتساع قوة مقدونيا ونفوذها .
بيد ان المنافسة الشديدة بين الدول الاغريقية افضت الى انحياز عصبة اخايا الى جانب مقدونيا وعندما انزلت مقدونيا هزيمة ساحقة باسبرطة عام 222 ق م كونت من اغلب بلاد الاغريق الوسطى والبلوبونيز عصبة بزعامتها ,وقد ورث فيليب الخامس هذه الاوضاع السياسية وحاغظ عليها بفضل انتصاره في الحرب المقدونية الاولى 212- 206 قبل الميلاد على الايتوليين برغم من تحالف برغامون وروما معهم ..
واذا كان فيليب قد خرج من صراعه مع الايتوليين وبرغامون وروما اكثر قوة واطماعا منه في اي وقت مضى فانه كان يدرك ان يتعذر عليه مكافحة روما بنجاح دون اسطول وموارد كافية ,وان بلاد الاغريق افقر من ان تمده بهذه الاحتياجات الضرورية , وانها لن تهب لنصرته بعد ان سلبها حريتها ,وازاء ذالك راى فيليب ان فرصته الوحيدة لتحقيق اغراضه كانت في الوصول الى الشرق وفي اعادة بناء الاسطول الذي اكسب مقدونيا سيادة جزئية على بحر ايجة عند منتصف القرن الثالث قبل الميلاد ولما كانت الجزر ومدن اسيا الصغرى التابعة للبطالمة لا تزال غنية او اغنى على الاقل من بلاد الاغريق ذاتها , فان الاستيلاء عليها كان يوفر له الموارد والوسائل اللازمة لبناء قوة بحرية كبيرة , ولكن اهداف فيليب كانت تتعارض من ناحية مع اهداف قوتي رودوس وبرغامون اللتان كانت تطمعان ايضا للسيطرة على بحر ايجة , ومن ناحية اخرى مع اهداف انطيوخوس الثالث الذي كان على وشك الانتهاء من دعم بناء امبراطوريته استعداد للانقضاض على امبراطورية البطالمة , وكان سقوط هذه الامبراطورية محط امال فيليب بشرط الى تقع في قبضة انطيوخوس الثالث .
ولكي يحقق فيليب مشاريعه التوسعية في بحر ايجة ,عقد الصلح مع الرومان عام 205 ق م والذي انهى الحرب المقدونية الاولى ,ولما لم يكن لديه ما يلزمه من الاموال والسفن لتنفيذ هذه المشاريع وكان عليه ان يقضي على قوة رودوس البحرية وممتلكتها في بحر ايجة باي وسيلة ممكنة , فانه لجاء الى وسيلة تعلمها من الالييرين وهي استخدام القراصنة في تحطيم قوة العدو وسلبه موارده , وقد نجح قراصنته في السطو على من الجزر والمدن الاسيوية وبذلوا جهدا كبيرا في تخريب موارد رودوس البحرية , وفي القوت نفسه عام 205-204 ق م اثار حربا عنيفة بين كريت ورودوس , وهكذا تمكن فيليب بفضل القراصنة من ان ينزل الى بحر ايجة اسطولا كان ندا لاساطيل رودوس وبرغامون .
ويتبين من خلال هذا العرض الموجز ثلاث امور وهي :
اولا - انه عند نهاية القرن الثالث ق م كان الاضمحلال قد بداء يدب الى احد الدول الثلاث العظمى في شرق البحر المتوسط ,وانه اذا كانت الدولتان الاخريتان في ذروة قوتهما فانه من الناحية كانت لهما اطماع تنافسية متضاربة ومن ناحية اخرى فان كلتا الدولتان كانتا لهما اعداء في الداخل والخارج يتربصون بهم .
ثانيا - انه كانت توجد في العالم الهلنستي الى جانب هذه الدول العظمى الثلاث قوى اخرى على قدر كبير من الاهمية وهي مملكة برغامون في اسيا الصغرى وجزيرة رودوس , وعصبة ايتوليا شمالي خليج كورنثة , وعصبة اخايا جنوب هذا الخليج .
ثالثا - انه كانت لهذه القوى خاصة برغامون ورودوس اهداف جيوسياسية تتعارض واطماع انطيوخوس الثالث وفيليب الخامس مثل ما كانت اطماع انطيوخوس تتعارض مع اطماع فيليب , فقد كان الهدف الرئيسي لكل من هذين العاهلين الفوز باكبر قسط ممكن من امبراطورية البطالمة وهي التي سيطرت امدا طويلا على سياسات العالم الهلنستي واقتصادياته .
ومجمل القول انه حين خرجت روما مظفرة من حربها مع قرطاجة ,كانت دول العالم الهلنستي في شغل عنها بتحقيق اهداف متلاطمة لم يكن من شان الاندفاع والسعي نحو تحقيقها من طرف هذه الدول المتناحرة الا تمهيدا لسبيل روما في بسط سيطرتها على شرق البحر المتوسط والعالم الهلنستي على ما نحو سنرى لاحقا ...