السلطان قطز رحمه الله

إنضم
14 ديسمبر 2008
المشاركات
113
التفاعل
3 0 0
ناصر الاحمد كتبها
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
وأمام واحد من أبطال اللحظات النادرة في تاريخ الأمم، ينتظمه العقد الفريد الذي انتظم قبله خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وموسى بن نصير، ومحمد بن القاسم، وطارق بن زياد وغيرهم كثير في تاريخ أمتنا في مجال الحرب والجهاد.
وها نحن نعيش هذه اللحظات مع أحد أبطال الإسلام وهو السلطان المظفر سيف الدين قطز -رحمه الله-.
لقد دخل سيف الدين قطز إلى رحاب التاريخ من باب الرق والعبودية الضيق، وسرعان ما فُتحت أمامه أبواب تاريخ المسلمين الواسعة مرحّبة، عندما كرّس مواهبه العسكرية والسياسية لخدمة الدفاع عن المقدسات، وطالت قامته التاريخية على كثيرين من الحكام عندما تجسدت في شخصه إرادة أمة الإسلام في معركة عين جالوت، التي كسرت الموجة المغولية الطاغية، والتي كانت بداية سلسلة من التغيرات كان أهمها تحوّل المغول إلى الدين الإسلامي، بحيث صاروا قوّة فاعلة في بناء حضارته.
إن قصة سيف الدين قطز، المملوك ثم السلطان، مثال حيّ على أن الحاكم لا يحتل مكانه في تاريخ أمته إلاّ بتحقيق الإنجازات التي تتوافق مع أمانيها، وأن ذلك ليس مشروطاً بطول فترة حكم الحاكم أو قصرها وإنما هو مشروط بمدى قدرة الحاكم على أن يكون زعيماً لأمته، يخوض بها الصعاب، لكي تحتل مكانها الذي تستحقه بين أمم الأرض.
لقد كانت الفترة التاريخية التي ظهر أثناءها البطل سيف الدين قطز تشكل منعطفاً تاريخياً هاماً في تاريخ أمة المسلمين، إذ كان الوجود الصليبي الكاثوليكي ما يزال جاثماً على الأرض الإسلامية ببلاد الشام، وعلى الرغم من الدور الرائع الذي قام به المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي لتقليص اللون الصليبي فوق خريطة الأرض الإسلامية، فإن سياسات خلفائه المهادِنة المتخاذلة مدّت في عمر الكيان الصليبي مائة سنة أخرى، بل إن أوروبا كانت ما زالت تحدوها الروح العدوانية لتدعيم الوجود الفرنجي على الأرض الإسلامية، وانتزاع المزيد من أراضي المسلمين لصالح الاستيطان والتوسع الأوروبي، فكانت الحملة التي قادها لويس التاسع ضد مصر، والتي عرّفها مؤرّخو حروب الفرنج الصليبيين باسم الحملة الصليبية السابعة.
ومن مفارقات التاريخ المذهلة أن سيف الدين قطز - واسمه الأصلي محمود بن ممدود - من بيت خوارزم شاه، كان من ضحايا الغزو المغولي لبلاد المسلمين في أول الأمر؟ ثم قُيّض له أن يكون القائد الذي ينجح جيشه في كسر المد المغولي الطاغي في عين جالوت ببلاد الشام.
إن بطلنا الذي سطره التاريخ إنسان، بكل مزايا الإنسان ونقائصه، ولكنه استحق مكانته بفضل إيمانه ووضوح رؤيته، وبفضل شجاعته وتضحيته في سبيل الدفاع عن مقدسات الأمة، فالتفّ حوله الناس، وآزروه وساعدوه على تحقيق النصر وانتزاع مكانته على مسرح التاريخ،
ومن المثير حقاً أن دولة الأيوبيين انتهت وقامت على أنقاضها دولة المماليك لنفس السبب الذي أدّى إلى قيامها على يد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، أي مسؤولية التصدي لأعداء الأمة الذين احتلوا القدس وأجزاء من فلسطين وبلاد الشام، وباتوا يهدّدون بقية المنطقة الإسلامية. فقد فشل الأيوبيون الأواخر في استكمال الدور التاريخي الذي
أفرز دولتهم، وبدلاً من اهتماماتهم بالجهاد ضد العدو الفرنجي، وجّهوا طاقاتهم وقدراتهم السياسية والعسكرية للاقتتال فيما بينهم، بل وصل الأمر ببعضهم إلى درجة الاستعانة بالفرنج ضد البعض الآخر، كما فصلنا ذلك سابقاً في سيرة صلاح الدين الأيوبي.
وبسبب حال التشرذم السياسي والتناحر العسكري فيما بين ملوك الأيوبيين الصغار، تراجع دورهم التاريخي أمام دور المماليك، الذين ربّاهم الأيوبيون ليكونوا عدّتهم العسكرية ضد بعضهم البعض، ومن رحِم الظروف التاريخية التي أحاطت بالأيوبيين الأواخر، خرجت دولة سلاطين المماليك التي نجحت في انتزاع الدور التاريخي من الأيوبيين، بيد أنها واجهت مسؤولية هذا الدور التاريخي أيضاً فقد تعين على سلاطين المماليك مواجهة خطر مزدوج من جانب سادتهم السابقين من بني أيوب ومن الفرنج والغرب الأوربي المتربص بالعالم الإسلامي من جانب آخر.
لقد اشتعلت الحروب الداخلية بين ملوك الأيوبيين بالشكل الذي أغرى القوى الصليبية بالتدخل لصالح فريق ضد فريق، وتجمعت القوى الأيوبية المتناثرة في بلاد الشام في حلف بائس مع الصليبيين ضد السلطان الصالح نجم الدين أيوب سلطان مصر وكبير الأيوبيين.
لقد انضم الملك الصالح إسماعيل حاكم دمشق، والملك الناصر داود حاكم الكرك، والملك المنصور إبراهيم حاكم حمص، إلى الصليبيين في تحالف غريب ضد الصالح نجم الدين أيوب حاكم مصر. وتنازل أولئك الحكام الثلاثة مرة أخرى عن منطقة المسجد الأقصى وقبة الصخرة للفرنج، كما وعدوا الفرنج بأن يملكوهم جزءاً من مصر عندما يتمكن هذا الحلف من هزيمة الصالح نجم الدين أيوب، هكذا تحتم على الصالح أيوب أن يواجه أقاربه بالسلاح وأن يجنّد جيشاً يفوق الإمكانيات العسكرية الهزيلة لهذا التحالف البائس، وجنّد عدداً من الجنود الخوارزمية الذين كانوا قد وفدوا إلى المنطقة بعد أن دمّر المغول دولتهم، يبيعون خدماتهم العسكرية لمن يدفع أكثر، ونجح جيش الصالح نجم الدين أيوب والخوارزمية في الاستيلاء على دمشق وبيت المقدس ونابلس، وضموها إلى أملاك الملك الصالح نجم الدين، وتم تدمير جيوش التحالف في المعركة التي اشتهرت باسم معركة غزّة، بعد ذلك غيّر الخوارزمية ولاءهم، وانقلبوا ضد الصالح نجم الدين أيوب، ومن هنا بدأ اعتماده يتزايد على المماليك، مما مهد السبيل لظهورهم قوة عسكرية، ثم قوة سياسية في المنطقة لم تلبث أن سيطرت على مقاليد الأمور، وخرجت دولتهم لتحكم المنطقة قرابة ثلاثة قرون من الزمان.
وعلى الرغم من أن فترة حكم سيف الدين قطز قصيرة في مداها الزمني بالنسبة لمدة بقاء دولة المماليك، فإن إنجازه التاريخي كان عظيماً.
لقد كانت قصة سيف الدين قطز المملوك والأمير والسلطان تجسيداً لمأساة الإنسان الفرد من ناحية، وشاهداً على ما يمكن أن يفعله التاريخ بالإنسان، وما يمكن أن يفعله الإنسان بالتاريخ من ناحية أخرى، وهذه قصة تستحق أن نستمع إلى فصولها.
المماليك: مصطلح فرض نفسه على تاريخ مصر طوال فترة تزيد على ثلاثة قرون من الزمان، لاسيما بعد أن نجح أولئك المجلوبون عبيداً في طفولتهم في بناء دولة عظمى حكمت مصر والشام والحجاز بشكل مباشر، كما فرضت نفوذها السياسي وقيادتها للمنطقة، ومدّت سطوتها إلى كافة مستويات العلاقات السياسية والدبلوماسية في عالم البحر المتوسط والبحر الأحمر وأفريقيا على السواء. فمن هم المماليك؟.
كان المماليك من الرقيق فعلاً، بيد أنهم كانوا من نوع خاص من الرقيق إذ كانوا يُجلبون أطفالاً من أسواق النخاسة ثم يتم تدريبهم عسكرياً ليكونوا عدّة حكام المنطقة من الأيوبيين المتنافسين في غمرة الفوضى السياسية التي أعقبت وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي.
فقد كانوا يشترون المماليك صغاراً في سن الطفولة من تجار الرقيق ويعهدون بهم إلى من يعلمهم اللغة العربية ويلقنهم مبادئ الدين الإسلامي ثم يعهد بهم إلى من يتولى تدريبهم على فنون القتال والفروسية، وفي زمن كان للقوة العسكرية الدور الأكبر في حسم مصائر الحكام والمحكومين، زادت أعداد المماليك في جيوش الحكام الأيوبيين من جهة، كما زادت أهميتهم في الحياة السياسية الأيوبية ودوائر الحكم في مصر والشام من جهة أخرى، ويعتبر السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب المسؤول عن ازدياد نفوذ المماليك على النحو الذي أدى إلى سيطرتهم على مقاليد الحكم في خضم التطورات التي أعقبت وفاته، ذلك أن هذا السلطان كان قد جرّب الاعتماد على الجنود المرتزقة من الخوارزمية والأكراد، وعلمته التجارب أن الاعتماد عليهم غير مأمون العاقبة.
كان أولئك المماليك من عناصر عرقية مختلفة، من الترك والمغول والتتار والصقالبة والأسبان والألمان والجراكسة وغيرهم من العبيد البيض.
ونظراً للأهمية العسكرية والسياسية للمماليك كان السلطان يرسل المماليك الجدد الذين يشتريهم إلى الأطباء لفحصهم، وبعد الاطمئنان على سلامتهم البدنية يتم تسكينهم في المعسكرات، وكان توزيعهم في الثكنات العسكرية بالقلعة يتم حسب جنسياتهم، ثم بعد ذلك يتولى الفقهاء تعليمهم أصول الدين الإسلامي ومبادئ اللغة العربية وأركان الشريعة، حتى إذا ما تخطى الواحد منهم سن الطفولة بدأ تدريباته العسكرية، فإذا ما أتم المملوك تدريبه صار من الفرسان، ويتم منحه إقطاعاً من الأرض الزراعية في احتفال كبير بموكب سلطاني يطوف شوارع القاهرة ثم يقوم الفارس بأداء يمين الولاء لسيده.
هذا النظام الصارم في تربية المماليك نتجت عنه نتيجتان غاية في الأهمية من حيث تأثيرهما على طبيعة الكيان السياسي لدولة سلاطين المماليك:
وكان قطز من بين الأطفال الذين حملهم التتار إلى دمشق وباعوهم إلى تجار الرقيق، ومضت سيرة حياته داخل الإطار العام لحياة المماليك، ومعنى كلمة قطز "الكلب الشرس" وهي كلمة مغولية أطلقها عليه من اختطفوه وباعوه، وربما يكون تجار الرقيق هم الذين أعطوه هذا الاسم. هذه هي بداية المملوك قطز وهو أنه مرّ بالمراحل التي كان يمر بها أي مملوك في تلك الفترة الباكرة من تاريخ دولة سلاطين المماليك، وقد ترقى في الخدمة حتى صار أكبر مماليك الملك الذي اشتراه وهو الملك المعز التركماني. وقد وُصف قطز بأنه كان شاباً أشقر، كث اللحية، بطلاً شجاعاً عفاً عن المحارم، مترفعاً عن الصغائر مواظباً على الصلاة والصيام وتلاوة الأذكار، تزوج من بني قومه ولم يخلّف ولداً ذكراً بل ترك ابنتين لم يسمع عنهما الناس شيئاً بعده.
وكان أول ظهور له على صفحات التاريخ ما ذكرته المصادر من اشتراكه في قتل فارس الدين أقطاي الذي كان الملك المعز قد أعد المؤامرة للتخلص منه، وبعد ذلك بدأ قطز يشق طريقه على الطريقة المملوكية صوب العرش الذي جلس عليه سيده المعز.
وفي خضم الصراع ضد الصليبيين الذين ضمتهم الحملة الصليبية السابعة على مصر بقيادة لويس التاسع توفي السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وقامت زوجته شجر الدر بإدارة شؤون الحكم والحرب بمساعدة كبار أمراء المماليك، وحين تولى "توران شاه" ابن الصالح نجم الدين أيوب عرش البلاد اصطدم بطموح زوجة أبيه شجر الدر من ناحية، وبقوة المماليك ونفوذهم المتصاعد من ناحية أخرى، وانتهى الصدام بمصرعه على نحو مأساوي مروّع، ثم ارتقت العرش شجر الدر لتكون أولى سلاطين المماليك في مصر والشام.
انتهى الحكم الأيوبي في مصر مع تبدد دماء الملك "توران شاه" ابن الصالح نجم الدين أيوب، واختار المماليك أرملة السلطان الأميرة "شجر الدر" لتولي عرش السلطة الشاغر، ولما كانت هذه السيدة في الأصل جارية تركية، فقد اعتبرها بعض مؤرخي عصر سلاطين المماليك أول من ملك مصر من ملوك الترك المماليك، وصارت منذ ذلك التاريخ ملكة على مصر لأول مرة في تاريخها الإسلامي، وخُطب لها على منابر مصر، وصار يدعى لها بعد الدعاء للخليفة العباسي.
قبضت شجر الدر على زمام الحكم بيد من حديد، ووجهت اهتمامها للتخلص من بقايا الحملة الصليبية السابعة. عارض الفقهاء والعلماء جلوس شجر الدر على عرش السلطة؛ لأنه أمر يتنافى مع نظام الحكم في الإسلام الذي لا يجيز تولي النساء لمقاليد الحكم، ثم جاء رد الخليفة العباسي برفض المساندة الشرعية لحكم هذه السلطة ساخراً حاسماً، تقول كلماته: "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسيّر إليكم رجلا" عندها أدركت السلطانة وأدرك زعماء المماليك أنهم يسبحون ضد تيار عارم لابد وأن يغرقهم في موجاته، وبعد ثمانين يوماً تنازلت شجر الدر عن الحكم لواحد اختارته بعناية من أضعف أمراء المماليك هو المعز التركماني، وقبل أمراء المماليك الأقوياء زواجه من شجر الدر وجلوسه على عرش الحكم، وأصبحت شجر الدر العقبة الكؤود أمام الملك المعز فقد كانت هذه المرأة تتحكم بمقدرات البلاد، وتحتفظ بأموال زوجها السابق الصالح أيوب وصارت لها عصابة من المنتفعين الواقفين ببابها، وعلاوة على ذلك فقد كانت تمارس نوعاً من الوصاية على زوجها المسكين الملك المعز وتمنعه من زيارة زوجه الأولى، وكان المعز بدوره قد سئم تصرفاتها وتدخلها في شؤون الحكم، وملّ منها، فعزم على فراقها، والاقتران بغيرها، وعلمت هي بذلك، فبدأت بين الزوجين حرب سرية انتصرت فيها المرأة بكيدها العظيم على الرجل وأول ما فكرت فيه أن عرضت نفسها على الملك الناصر الأيوبي، صاحب دمشق وحلب، ووعدته بقتل زوجها، إن رضي بالاقتران بها، وأغرته بعرش مصر، لكنه كان أذكى من أن يقترن بامرأة قتلت رجلين وتعد العدة لقتل الثالث فتجاهلها تماماً، ولم تكن نواياها بخافية على المعز فصمم على إخراجها من القلعة، ولا سيما أن عدداً من المماليك كان يأتمر بأمرها، بوصفها زوجة أستاذهم الراحل الصالح أيوب، ولم يكن المعز حازماً في تنفيذ أفكاره، وربما داخله الغرور، فأجل التنفيذ أياماً كان فيها هلاكه، وغادر القلعة مغاضباً، فأجمعت أمرها على الفتك به سريعاً، فأعدّت خمسة من العبيد الأشدّاء، وعهدت إليهم بمهمة قتل السلطان داخل الحمّام، ولم يصعب عليها إرسال من يسترضيه تمهيداً لاستدراجه إلى القصر، وحضر الزوج المخدوع، وقد صدّق زوجته، وعاش معها ساعات من الصفاء، ثم جاء دور الحمّام، فدخله ولم يخرج منه إلا جثة هامدة، حيث هجم عليه العبيد، وشاركت المرأة بنفسها في قتله حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بين يديها، ثم حملته وسُجي أمام عرشه، وجلست على العرش، بعد أن قطعت إصبع زوجها، وفيه خاتم السلطة وأشاعت أنه مات حتف أنفه، ولكن جريمتها كانت أكبر من أن تبقى سراً وعلم بها مماليك السلطان، فدخلوا القلعة وحققوا مع المتآمرين فاعترفوا، فحُكم على أربعين منهم بالإعدام، فأعدموا وصُلبوا وسجنت شجرة الدر في البرج الأحمر بالقلعة بانتظار النهاية، وكان مقتل المعز يوم الأربعاء 25 ربيع الأول سنة 655 هـ وكان يوم قتل في حدود الستين من عمره. وحين ذاع الخبر في صباح اليوم التالي وعلم ولده نور الدين علي ومملوكه سيف الدين قطز أكبر مماليكه وأحبهم إلى قلبه بما حدث، أسرعا مع جماعة من المماليك إلى القصر السلطاني رغبة في الانتقام من شجر الدر، وبالفعل تم القبض عليها وحملها المماليك إلى ضرّتها، زوجة المعز الأولى وأم ولده علي , فأمرت جواريها فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت في يوم السبت، وألقوها من سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سوى سراويل وقميص. هكذا كان العنف والدم هو الطريق إلى العرش منذ بداية عصر سلاطين المماليك، وبمقتلها بدأت صفحة جديدة في تاريخ مصر، تعد من أكثر الصفحات تشويقاً وإثارة وعنفاً.
بعدها اتفق الأمراء في مصر على تنصيب ابنه سلطاناً على مصر وسموه الملك المنصور نور الدين علي وجعلوا الأمير قطز نائباً له ومدبراً لمملكته، لكن السلطان الجديد لم يكن بمستوى المسؤولية، فقد كان مهتماً بمناقرة الديوك، ومناطحة الكباش، وتربية الحمام، وركوب الحمير في القلعة، ومعاشرة الأراذل والسوقة، تاركاً لأمه ومن وراءها تسيير أمور الدولة في تلك الأوقات العصيبة، وقد استمر هذا الوضع الشاذ قرابة ثلاث سنوات، على الرغم من تعاظم الأخطار وسقوط بغداد بيد المغول، وكان من أشد المتأثرين بذلك والمدركين لهذه الأخطار الأمير قطز، الذي كان يحزّ في نفسه ما كان يراه من رعونة الملك، وتحكم النسوان في مقدرات البلاد، واستبداد الأمراء، وإيثارهم مصالحهم الخاصة على مصلحة البلاد والعباد.
ولم يشأ سيف الدين قطز أن يتعجل الأمور، فأمسك بيده زمام السلطة الفعلية تاركاً للسلطان الصبي شعائر السلطة ولقبها ولا شيء أكثر من ذلك، وكانت الإشاعات تملأ سماء القاهرة بأن السلطان الصبي يريد خلع قطز، مملوك أبيه وصاحب اليد البيضاء في توليه عرش البلاد، واجتمع الأمراء في بيت أحد كبارهم، وتكلموا إلى أن نجحوا في إصلاح الأمور بين الملك المنصور علي وبين مملوك أبيه الأمير قطز، وهكذا توطدت مكانة سيف الدين قطز في الدولة، وبذلك ازدادت قامته السياسية طولاً، ولكن الدولة التي يحكمها سلطان في سن الصبا بدت واهنة ضعيفة وغير قادرة على تحمل المسؤوليات.
بدأ صدى طبول الحرب التترية يتردد على حدود السلطة الوليدة، ولم يكن بوسع السلطان الصبي "نور الدين علي" أن يفعل شيئاً إزاء هذا الخطر الداهم، ومع كل خبر جديد عن وحشية التتار كانت الأحوال تزداد اضطراباً والقلق يفترس نفوس الناس، فقد ملك هولاكو بغداد، وقتل الخليفة المستعصم بالله، وصار المسلمون بغير خليفة للمرة الأولى في تاريخهم، وخرّب التتار الجوامع والمساجد، وسفكوا الدماء حتى جرت في الطرقات واستمروا على ذلك أربعين يوماً، ومع ذلك فإن بعض الذين وضعتهم الظروف على عروش بلاد المسلمين كانوا على قدر من الأنانية السياسية وضيق الأفق، بحيث حاولوا أن يتفقوا مع هولاكو ضد إخوانهم فقد أرسل الملك الناصر صاحب دمشق ابنه الملك العزيز إلى هولاكو ومعه هدايا وعدداً من الأمراء، ليطلب منه على لسان أبيه قوات تساعده في أن يأخذ مصر من المماليك.
وخاف الناس بدمشق خوفاً عظيماً عندما علموا أن التتر قد قطعوا نهر الفرات في طريقهم إلى الشام، وسار كثيرون منهم صوب مصر، وكان الوقت شتاءً فمات منهم عدد كبير، ونهب البدو أمتعة كثيرين، وأفاق الملك الناصر بعد فوات الأوان، فأرسل المؤرخ والفقيه المعروف كمال الدين بن العديم إلى مصر يستنجد بعساكرها، وهكذا بدأت الحرب تطل بوجهها المرعب على الساحة السياسية في مصر، وكان نجم تلك الساحة الساطع آنذاك هو الأمير"سيف الدين قطز".
فلما قدم ابن العديم إلى القاهرة عُقد مجلس بالقلعة حضره السلطان الصبي الملك المنصور نور الدين علي، وحضره كبار أهل الرأي من الفقهاء والقضاة مثل: قاضي القضاة بدر الدين حسن السنجاري، والشيخ العز بن عبد السلام، وكان سيف الدين قطز بين الحاضرين، وسألهما الحاضرون عن أخذ الأموال من الناس؛ لإنفاقها على الجنود، فقال العز بن عبد السلام: "إذا لم يبق شيء في بيت المال، وأنفقتم الذهب ونحوها من الزينة، وساويتم العامة في الملابس سوى آلات الحرب، ولم يبق للجندي إلا فرسه التي يركبها، ساغ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء، إلا أنه إذا دهم العدو وجب على الناس كافة دفعه بأموالهم وأنفسهم".
وبينما كان هولاكو يجتاح أقاليم العالم الإسلامي الشرقية، كان نجم سيف الدين قطز يزداد سطوعاً وتزداد قامته السياسية طولاً، وكأنه على موعد مع التاريخ لكي ينجز مهمته الكبرى في هزيمة الجحافل التترية الظالمة، واستغل قطز اجتماع القلعة لخلع السلطان الصبي، فأخذ يتحدث عن مساوئ المنصور علي، وجاءت الفرصة عندما خرج أمراء المماليك إلى الصيد، فقبض قطز على الملك المنصور وعلى أخيه وأمهما، واعتقلهم في أحد أبراج القلعة، فكانت مدة حكم المنصور سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام، وصار سلطاناً على الديار المصرية، وجلس على سرير المُلك بقلعة الجبل في نفس اليوم، واتفق الحاضرون على توليته؛ لأنه كبير البيت ونائب الملِك وزعيم الجيش، ومعروف بالشجاعة والفروسية، ورضي به الأمراء الكبار، وأجلسوه على سرير الملك ولقبوه بالمظفر، وما أن شعر أن سلطته قد رسخت حتى أخذ يتخلص من كل من يمكن أن يشكل تهديداً على عرشه، ومن ناحية أخرى بدأ يختار أركان دولته ويوطد دعائم حكمه، وتدبير العساكر واستخدام الأجناد، وسائر أمور الجهاد والاستعداد للحرب ضد التتار.
تزلزل العالم الإسلامي بسقوط الخلافة العباسية على يد هولاكو عام 656هـ، حيث أمر هولاكو بالهجوم العام على بغداد، وفي اليوم الرابع من الهجوم استسلم الخليفة العباسي المستعصم بالله، وسلّم عاصمته للغزاة بدون شرط، وبعد التسليم بعشرة أيام قُتل الخليفة وآل بيته وقُتل الناس ببغداد، وتمزقوا في الأقطار، وخرّب التتر الجوامع والمساجد، وسفكوا الدماء حتى جرت في الطرقات، واستمروا على ذلك أربعين يوماً، وهكذا ظلت بغداد الجريحة نهباً لكل الرغبات الوحشية والتدميرية على مدى هذه الأيام، وصارت بعدها أطلالاً تشهد على عنف المغول الذين أحرقوا مبانيها الجميلة ودمروا مكتبتها العامرة، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تقع فيها عاصمة الخلافة أسيرة لغير المسلمين، كان وقع الصدمة على نفوس المسلمين مريراً وعنيفاً؛ لأنهم وجدوا أنفسهم بدون خليفة للمرة الأولى في تاريخهم، وعلى الرغم من كل مظاهر الضعف التي بدت واضحة على الخلافة العباسية فإن مكانتها كانت راسخة في وجدان المعاصرين بالقدر الذي جعلهم عاجزين عن تصور العالم بدونها، إذ كان العالم في نظرهم مرادفاً للخلافة، وخُيّل للمسلمين أن العالم على وشك الانحلال، وأن الساعة آتية عن قريب.
أخذ الزحف المغولي يطوي البلاد حتى وصل إلى أطراف بلاد الشام، وسارع الناصر يوسف حاكم دمشق وحلب إلى إرسال سفارة برئاسة ابنه إلى هولاكو، معلناً خضوعه الذي حاول أن يؤكده بالهدايا والتحف الفاخرة، كما طلب مساعدة المغول في أخذ مصر من أيدي المماليك، ولكن قائد المغول غضب من السفارة التي اعتبرها غير لائقة بمقامه وطلب من الناصر يوسف الخضوع دونما قيد أو شرط، وعندما أدرك الناصر أنه خسر احترام المسلمين بعث برسالة عنيفة ملؤها السباب إلى هولاكو الذي جعله يدفع ثمن السباب غالياً عندما اقتحم هولاكو أملاكه واستنجد بالمماليك، ووعده قطز الذي كان قد اعتلى عرش السلطة آنذاك بأن يساعده، وفي شهر صفر سنة 658هـ استولى هولاكو على حلب بعد سبعة أيام من الهول والتخريب وسفك الدماء، وأعلن بعض ملوك الأيوبيين خضوعهم له في محاولة لتجنب الخراب الذي حل بمدينة حلب، أما الناصر يوسف فقد اضطرب وعزم على قتاله، وضرب معسكره وطلب النجدة من الملك المغيث عمر صاحب إمارة الكرك، والسلطان المظفر قطز، بيد أنه قد استسلم في النهاية، كما تخاذل الأمراء من حوله بشكل أغضب الأمير ركن الدين بيبرس الذي كان قد دخل في خدمة الناصر، وفي الليل حاولت مجموعة من المماليك اغتيال الناصر يوسف، ولكنه نجا من الموت، توجه بعدها بيبرس إلى غزّة، ومن هناك أرسل يطلب الأمان من سيف الدين قطز الذي حلف له ووعده الوعود الجميلة ووصل إلى مصر فعلاً فأنزله قطز بدار الوزارة، وأحسن معاملته، ثم أقطعه قليوب ومناطق الريف المجاورة لها، أما الناصر فقد سار باتجاه الحدود المصرية حتى غزّة على أمل أن تصله النجدة في وقت مناسب، وفي شهر ربيع الأول سنة 658 هـ استولى المغول على دمشق وتوسل أعيانها إلى هولاكو بعد أن قرروا تسليم المدينة فسيّر طائفة من التتر وأوصاهم بأهل دمشق ونهاهم أن يأخذوا لأحد درهماً فما فوقه، وبينما كانت هذه الأحداث العنيفة تلهب المشهد في المنطقة، مات كبير المغول وكان لا بد لهولاكو من العودة إلى بلاده للمشاركة في اختيار الخان الأعظم الجديد.
وصلت رسل هولاكو إلى القاهرة ومعهم خطاب منه يفيض غطرسة، تقول بعض كلماته: "فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكى، فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فأي أرض تأويكم، وأي بلاد تحميكم، وأيّ ذلك ترى، ولنا الماء والثرى، فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تُمنع، والجيوش لقتالنا لا تَنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع؛ لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن رد السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان فأبشروا بالمذلة والهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تعملون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون..." إلى آخر تلك الرسالة.
جمع قطز الأمراء وشاورهم في الأمر، فاتفقوا على قتل الرسل المغول، وتم فعلاً القبض على الرسل واعتقلوا، وبدأ قطز في تحليف الأمراء الذين اختارهم، وأمر بأن يخرج الجيش إلى الصالحية ولكن الأمراء كانوا يخشون لقاء المغول بعد أن سمعوا عن الأهوال والمذابح التي ارتكبوها، وبعد أن شاعت حولهم حكايات وأخبار تقترب من الخرافات والأساطير أحضر قطز رسل التتر وكانوا أربعة أفراد فتم توسيط أحدهم، وكان هذا التصرف من جانب سيف الدين قطز إعلان حرب، ونودي في القاهرة وسائر أقاليم مصر بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله، ويبدو أن الخوف من المغول كان بمثابة القيد الذي أقعد عدداً من الأمراء والجنود عن الخروج لملاقاة العدو، وقال قطز: "أنا متوجه فمن اختار الجهاد فليصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطّلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين" فتكلم الأمراء الذين تخيرهم وحلّفهم في موافقته على السير، فلم يسع البقية إلاّ الموافقة وانفضّ الجمع وفي الليل ركب السلطان وقال: أنا ألقى التتار بنفسي، فلما رأى الأمراء مسير السلطان وعزمه على الحرب خرجوا وهم في حال من التردد.
قبلها بدأ قطز بجمع الأموال بناءً على فتوى العز بن عبد السلام؛ لأن خزينة الدولة كانت خاوية لا تفي باحتياجات الجهاد بسبب إتلاف شجر الدر للأموال التي كانت بحوزتها. فقبض على الأمير جمال الدين وصادر كل من وصل إليه من غلمان الملك الناصر وكتّابه وأخذ كل ما يملكون من أموال ومجوهرات وألزم نساءه بإحضار ما لديهنّ من أموال وكانت شيئاً كثيراً، ثم أخذ من نساء الأمراء أموالاً طائلة، وعاقب بعضهنّ حتى أذعنّ وسلّمن الأموال، وعمد إلى جمع الأموال بشتى السبل، فأعاد تقويم الأملاك وأخذ زكاتها من أربابها، وأخذ من كل إنسان في مصر ديناراً واحداً وأخذ من الأتراك المقيمين ثلث دينار، وكان على ثقة بأن التتار سيقرعون باب مصر بالعنف نفسه الذي قرعوا به باب بغداد من قبل، وسيكون مصير القاهرة كمصير بغداد، ولذلك لم يتردد في جمع الأموال؛ لأنها الخطوة الأولى والحاسمة لجمع الجيوش.
قال قطز للأمراء: إن أمامنا اختيار واحد من ثلاثة: الصلح أو القتال أو الجلاء. أما الجلاء عن البلاد، فأمر متعذر؛ لأنه لا يمكن أن نجد لنا سفراً إلاّ إلى المغرب، وبيننا وبينه مسافات بعيدة. فأجاب ناصر الدين وليس هناك مصلحة في مصالحتهم. فقال الأمراء: "وليس لنا طاقة على مقاومتهم". عندئذ قال قطز: "إن الرأي عندي أن نتوجه جميعاً إلى القتال فإن ظفرنا فهو المراد، وإلاّ فلن نكون ملومين أمام الخلق". وقد استشار السلطان العز بن عبد السلام في أمر اللقاء وعدمه فقال لهم: "اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر". وهذا الرد من العز بن عبد السلام ومن قبله الفتوى مثلين يحتذي بهما العلماء من بعده.
ونودي في القاهرة وسائر مصر بالخروج للجهاد في سبيل الله ونصرة الله ورسوله وقام العلماء والخطباء بأكبر دور في تحريض الناس على الجهاد بالأموال والأنفس، وفي المساء ركب السلطان ودُقت طبول الحرب، وكان العلماء والوعاظ يلهبون الحماس في الجند ويحرضونهم على الصدق في القتال وتوحيد الصف وطلب الشهادة وهم يقرؤون عليهم آيات الجهاد، وخرج قطز بجيشه في رمضان سنة 658 هـ وترك نائباً عنه في مصر، وأمر الأمير ركن الدين بيبرس أن يقود عساكره ليكونوا مقدمة الجيش إلى غزّة، لكي يعرف أخبار التتر، وعندما وصل بيبرس إلى غزة لقي طلائع المغول، واستطاع أن يلحق بهم هزيمة غير حاسمة بيد أنها كانت كافية لدفعهم إلى الرحيل من غزّة، وهكذا سيطرت قوات بيبرس على غزّة، وقد أثبتت هذه المعركة أن الأمن المصري يبدأ في بلاد الشام عامة، وفي فلسطين على نحو خاص، وهو أمر تؤكده التجارب التي مرّت على المنطقة طوال تاريخها.
واستبشر المسلمون عندما بلغهم نبأ انتصار بيبرس على التتار في غزّة وطردهم منها، وكان ذلك فألاً حسناً؛ لأن غزّة كانت أول مدينة إسلامية ينسحب منها التتار مكرهين، وتلقى بيبرس تعليمات باستدراج التتار إلى عين جالوت، فصار يتقدم ويتأخر ويروغ روغان الثعلب حتى ساقهم إلى حتفهم في عين جالوت.
ومع إشراقة شمس يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 658هـ كان اللقاء الحاسم بين المسلمين والتتار على عين جالوت بفلسطين بين نابلس وبيسان في الضفة الغربية لنهر الأردن، وكان في قلوب المسلمين وهم عظيم من التتر، وفي صباح يوم المعركة امتلأ الوادي بالجنود والناس الذين كانوا قد توافدوا متطوعين أو للقيام بالخدمات التي يحتاجها الجنود عادة، واتخذ جيش المغول موقعه صوب الجبل، على حين كان جيش المسلمين بقيادة سيف الدين قطز في الوادي، تجمّع الجيش المصري عند مدينة عكا حيث عقد السلطان سيف الدين قطز مؤتمراً حربياً حضره رؤساء الفرق العسكرية لعرض خطة قرار المعركة، ولم ينسَ السلطان قطز أن يلهب حماسة جنوده بخطبته وقد امتلأ الوادي، وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين.
تحيز التتر إلى الجبل، وبدأ القتال بحملة كاسحة للتتار على المسلمين وتلك هي طريقتهم فلم تثبت ميسرة المسلمين وكادت أن تنهار فأردفها الملك المظفر بنفسه وألقى خوذته على الأرض وصاح بصوت جهوري: وا إسلاماه، وتبعه المسلمون، فانجبر الصدع، وثبتت الميسرة والتهبت الحماسة في نفوس الجميع، وصار كل واحد منهم يحاول أن يصنع بطولة بنفسه، واشتد القتال وحمي الوطيس وقاتل الجميع من المسلمين والتتار قتالاً مريراً، وقُتل قائد التتر وانهزم باقيهم ومنح الله ظهورهم للمسلمين يقتلون ويأسرون وأبلى الأمير بيبرس بلاءً حسناً بين يدي السلطان، وانجلت المعركة ذلك اليوم عن نصر ساحق للمسلمين وتراجع التتار نحو بيسان، ثم عادوا وقد نظموا صفوفهم فقاتلهم المسلمون من جديد وصاح المظفر: وا إسلاماه، وتبعه الأمراء والجنود وسط بكاء الفلاحين وتهليلهم وصياح الجند واستبسالهم، وانجلت الجولة الثانية وكانت الأخيرة من المعركة عن نصر مؤزر للمسلمين، وهزيمة نكراء للتتار لأول مرة في تاريخهم، وقتل منهم الآلاف، ولاذ الآخرون بالفرار، فتعقبهم الأمير بيبرس يقتل ويأسر وتخطفهم الفلاحون من كل مكان، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وطار الحمام بأخبار النصر المبين، فلاذ من في بلاد الشام من التتار بالفرار والأمير بيبرس في إثرهم، وكان النصر الحقيقي في هذه المعركة هو مصرع قائد التتار وجزع هولاكو لمقتله وتأسّف عليه وفقد التتار بمقتله قوة لا تعوض، وظهرت في أثناء المعركة بطولات خارقة تذكر بأيام القادسية واليرموك.
فلما انكسر التتار الكسرة الثانية، نزل قطز عن فرسه، ومرّغ وجهه على الأرض، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى، ثم ركب وأقبل على العسكر وقد امتلأت أيديهم بالغنائم. وكان من أهم نتائج معركة عين جالوت أن تبدد الخوف من التتار، وتلاشت الأسطورة القائلة بأنهم قوة لا يمكن هزيمتها، وأكثر النتائج السياسية والعسكرية أهمية على الإطلاق تجسّدت في ظهور دولة سلاطين المماليك، وريثاً شرعياً لكل من الأيوبيين والعباسيين على السواء، فبعد عين جالوت مباشرة، استولى السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز على بلاد الشام كلها من الفرات إلى مصر وكان قطز هو أول من ملك البلاد الشامية واستناب بها من ملوك الترك.
كان انتصار المسلمين بقيادة سيف الدين قطز في عين جالوت بمثابة المسمار الأخير في نعش الوجود المغولي ببلاد الشام من ناحية، كما كان نذير شؤم بالنسبة للوجود الصليبي في هذه البلاد من ناحية أخرى.
وصل خبر هزيمة المغول إلى دمشق يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان سنة 658 هـ وبدأ النواب والولاة الذين كان التتار قد عينوهم لحكم بلاد الشام في الفرار خوفاً من بطش الناس، فامتدت إليهم أيدي أهالي الضياع ونهبوهم، فكانت مدة استيلاء التتر على دمشق سبعة أشهر وعشرة أيام، وغادر السلطان عين جالوت لكثرة الجيف، ونزل في سهل طبرية، وكتب رسالة يبشر الناس في دمشق بالنصر الذي حققه المسلمون على المغول وهزيمتهم أمام بسالة جيشه.
وفي يوم الأربعاء آخر شهر رمضان من تلك السنة وصل السلطان المظفر سيف الدين قطز إلى ضواحي دمشق، حيث عسكر هناك حتى ثاني شوال، فدخل دمشق وأقام بقلعتها.
وهكذا استولى المظفر قطز في غضون عدة أيام على عاصمة الشام واستتب الأمن والنظام بسرعة، وفي غضون أسابيع قليلة تمكن من الاستيلاء على سائر بلاد الشام، حيث أقيمت له الخطبة في مساجد المدن الكبرى حتى حلب ومدن الفرات.
وبعدما ملك دمشق عزم على التوجه إلى حلب ليكشف أحوالها، ويصلح ما خرب منها على أيدي التتار فوشى إليه واش أن الأمير ركن الدين بيبرس مع جماعة من الأمراء متنكرين له ومتغيرين عليه، فاتجه إلى ناحية الديار المصرية.
ومن مفارقات التاريخ في تلك الفترة أن السلطان المظفر سيف الدين قطز أعاد ملوك الأيوبيين أصحاب العروش الصغيرة إلى عروشهم ملوكاً تابعين لسلطان مصر المملوكي، بعد أن كانوا يحاولون محاولات مستميتة في عزل سلاطين المماليك، وهكذا قام قطز بترتيب حكم الشام وأعاد إلى ربوعها الأمن والاستقرار الذي كان مفقوداً منذ غزاها المغول.
إن انتصار قطز في عين جالوت أنقذ العالم الإسلامي من خطر فادح لم يواجه مثله من قبل، ذلك أن المغول إذا استولوا على مصر لم تكن هناك دولة إسلامية كبيرة أخرى يمكن أن تواجههم، وما حدث بالفعل هو أن معركة عين جالوت أسفرت عن هزيمة ساحقة للمغول من ناحية، ومن ناحية أخرى جعلت سلطة المماليك في مصر وبلاد الشام القوة الرئيسية في المنطقة على مدى القرنين التاليين على الأقل، أي حتى ظهور الإمبراطورية العثمانية في القرن الخامس عشر الميلادي.
وربما يكون من المناسب هنا أن نشير إلى أن الخطر المغولي على العالم الإسلامي لم يكن بمثل فداحة الخطر الصليبي عليه، حقيقة أن المغول قد زلزلوا أركان العالم الإسلامي بعنفهم المدمر، ولكنهم لم يلبثوا أن ذابوا في خضم الحضارة الإسلامية، بل إنهم صاروا بعد جيلين من المساهمين في بناء هذه الحضارة والحفاظ عليها، وكان خطرهم آنياً مؤقتاً يكمن في تفوقهم العسكري الذي جعلهم يطوون البلاد بسرعة عجيبة.
أما فرنج الغرب الصليبيون فكان لديهم مشروع لا يتحقق سوى بالقضاء على الوجود الحضاري للمسلمين، كما أن العنف المدمر لم يكن ينقصهم وكانت الحروب الصليبية في جوهرها حروباً استيطانية توسعية تحت راية الصليب، ومن ثم كانت صراعاً بين الحضارة الإسلامية صاحبة الأرض والحق، والحضارة الأوروبية الكاثوليكية التي قامت بعدوانها على أرض تبعد ألفاً ومائتي ميل عن مركز الدعوة الصليبية. ولم يحدث من قبل أو من بعد، أن توحدت أوروبا في مشروع واحد مثلما توحدت تحت راية المشروع الصليبي.
وفي اليوم السادس والعشرين من شهر شوال توجه قطز بجيشه الظافر صوب مصر وبينما كانت القاهرة تتزين لاستقبال القائد المنتصر، فإن أمراً كان يدبر في الخفاء على يد أبرز قادة جيشه وهو الأمير ركن الدين بيبرس. لقد وصل الأمير بيبرس إلى منـزلة عالية في الدولة بحيث أصبح الرجل الثاني فيها بعد السلطان وصار يضمر السوء لقطز حتى تمكن من قتله في النهاية.
خرج قطز ليسري عن نفسه وهو يمارس هواية الصيد فانفرد عن أصحابه وحرسه وتبعه الأمير بيبرس وعصابته واصطاد المظفر ولم يدر أنه سيكون هو نفسه أكبر صيد. اجتمعوا عليه من جميع الجهات وضربوه بسيوفهم تم لهم ذلك يوم السبت 16 من ذي القعدة سنة 658هـ وقد اشترك سبعة أمراء في قتله.
وكانت القاهرة قد زُينت لاستقبال الملك المظفر والناس في سعادة وسرور فلما أسفر الصبح وطلع النهار لم يشعر الناس إلا والمنادي ينادي: يا معشر الناس رحمكم الله ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم القاهر ركن الدين بيبرس.
بقي قطز ملقى على الأرض مضرجاً بدمائه، دون أن يجرؤ أحد على دفنه إلى أن دفنه بعض غلمانه وصار قبره يقصد للزيارة والتبرك والناس يترحمون عليه ويدعون على قاتله وكثر الترحم عليه والدعاء على من قتله وكان الملك الظاهر بيبرس قد شارك في قتله فلما بلغه ذلك سيّر من نبشه ونقله إلى غير ذلك المكان وعفى أثره، وهكذا سقط الفارس صريعاً مظلوماً لا يعرف الناس من أمره إلا القليل، وأُسدل الستار عليه، بعد أن سجل اسمه في سجل التاريخ.
كان ذلك هو المشهد الأخير في قصة بطل عين جالوت. ويبدو للناظر في كتب التاريخ التي حفظت لنا هذه القصة أن سيف الدين قطز قد جاء لأداء مهمة تاريخية محددة، فما أن أنجزها حتى توارى عن مسرح التاريخ بعد أن جذب الانتباه والإعجاب الذي جعل دوره التاريخي على الرغم من قصر فترته الزمنية كبيراً وباقياً.
إن الناس في كل زمان ومكان قادرون على صنع النصر من رماد الهزيمة، وبناء الحضارة في خرائب العدوان، وزرع حدائق العلم والنور في ظلمات الجهل، إذا وجدوا من يُحسن قيادتهم ويضرب لهم المثل والقدوة ويتميز بالتضحية والشجاعة وإنكار الذات.
وكان السلطان المظفر سيف الدين قطز تجسيداً لهذا -رحمه الله- تعالى وغفر لنا وله ولسائر المسلمين.
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
ثمة لحظات مثيرة ساطعة في تاريخ كل أمة تتجلى أثناءها خصائصها، ويتألق في ضوئها أبطالها، وتاريخ أمة الإسلام حافل بمثل هذه اللحظات المثيرة الساطعة، كما أن أبطال هذه الأمة عديدون، بحيث يفوقون في عددهم وتأثيرهم أبطال أية أمة أخرى.
 
عودة
أعلى