محمد (علية الصلاة والسلام) النبي القائد

IF-15C

عضو مميز
إنضم
3 سبتمبر 2007
المشاركات
2,746
التفاعل
84 0 0
القائد : محمد صلى الله عليه وسلم


أجل، هناك شخص واحد فقط في العالم كله استطاع أن يجمع فيه جميع صفات القيادة الناجحة دون أي نقص وفي أعلى الذرى وهو محمد صلى الله عليه و سلم.. ذلك لأنه كان رسول الله، وكان تحت رعاية الله وتأييده وتوفيقه في جميع الإجراءات التي اتخذها طوال حياته.

أ- نظرة سريعة على حياته

كانت جميع قراراته سريعة وصائبة جداً، فلم ينتج الفشل والخذلان عن أي قرار اتخذه، وقد سبق وأن أعطينا أمثلة مفصلة حول هذا الأمر ولاسيما القرارات الصائبة التي اتخذها في معركتي أُحد وحُنين والتي أنقذت جيشه من هزائم محققة وأوصلته إلى انتصارات مبينة.

كان شخصاً شجاعاً بفطرته، سلك طريقاً طويلاً وصعباً تحدى به العالم أجمع، واستمر في طريقه هذا دون خوف لا من أي فرد ولا من أي جماعة، بل كان عندما تبدو بوادر الهزيمة في جيشه يسوق فرسه ويهجم بنفسه على الأعداء دون أي خوف ولا وجل حتى أن فارساً بشجاعة علي بن أبي طالب رضى الله عنه كان يقول: “لقد رأيتُنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا.”[1]
يورد البخاري عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قِبَل نَجْد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه و سلم قفل معه فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله تحت سَمُرَةٍ وعلق بها سيفه ونمنا نومةً، فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: «إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظتُ وهو في يده صلْتاً، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله» (ثلاثاً)، ولم يعاقبه وجلس.[2] هذه هي شجاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم، وهذا هو مبلغ ثقته بالله واعتماده عليه.
وفزع أهل المدينة يوماً عندما سمعوا صوتاً عظيماً وخرجوا إلى الدروب لاستطلاع الخبر، دعونا نقرأ الحادثة في البخاري عن أنس رضى الله عنه قال: “كان النبي صلى الله عليه و سلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قِبَل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه و سلم قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول «لم تُراعوا لم تُراعوا» وهو على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ ما عليه سرج، في عنقه سيف.[3]
كان الرسول صلى الله عليه و سلم أول من سمع الصوت فامتطى فرس أبي طلحة وتوجه إلى ناحية مصدر الصوت حتى اطمأن إلى عدم وجود أي خطر ورجع. إذن، فالإسراع وحده نحو مصدر صوت أفزع جميع أهل المدينة يبين مدى الشجاعة الفطرية التي كانت موجودة لديه.
وعندما خشى أبو بكر رضى الله عنه وخاف على حياة الرسول صلى الله عليه و سلم وهو في الغار معه بعد أن اقترب منهما المشركون قال له: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!» فهدّأ بذلك روع أبي بكر الصديق رضى الله عنه.[4] ثم ألا يعد خروجه من داره والأعداء الذين أعماهم الحقد والغضب يحيطون بها شجاعة كبيرة؟ كان يملك إرادة صلبة لا تهتز ولا يمكن لويها لأنها كانت مرتبطة بمشيئة الله تعالى.
ب- العظمة التي لا يمكن بلوغها
توفي والده قبل أن يولد، أي أصبح يتيماً وهو في بطن أمه، لذا لم يتعود الاعتماد على الأب وانتظار العون والمساعدة منه وما قد يستتبع هذا الاعتماد من ارتخاء لدى الإنسان، فدعوته كانت موجهة إلى تقوية إرادة الإنسان.
وتوفيت أمه وعمره ست سنوات، بينما تعد الأم أكبر سند للمرء، وليس هناك من يستطيع أخذ مكان الأم في القلب، إذن، فقد سُحب منه هذا السند أيضاً.. كانت الحوادث تهيئه وتربيه، وكانت إرادة فخر الكائنات تقوى بمرور الأيام.
وفي سن الثامنة فقد جده، هذا الجد الذي كان سنداً لمكة ولأهل مكة.. ولكنه أفل هو الآخر.
كان الله تعالى يريد بهذه الحوادث أن يوجهه إلى منبع ومصدر الثقة والأمان.. إلى ذاته تعالى، وأن يسحب من حوله ومن يديه كل شيء يمكن أن يلقي ظلاً على هذا الأمر.. أجل، سيعاونه هو، ويسانده هو وسيربيه هو تعالى.. صحيح أنه من المحتمل أن هزة كانت تصيب رسول الله صلى الله عليه و سلم كلما فقد سنداً، وذلك حسب طبيعته الإنسانية، غير أنه كان يجب أن يتهيأ تماماً لحمل عبء الوظيفة الكبرى التي بانتظاره وأن تشحذ إرادته أكثر فأكثر، وذلك لكي لا يفقد من عزيمته شيئاً ولا يتردد أبداً وإن سحبت الدنيا بجميعها يدها منه وبقي معلقاً في الفراغ وحده. ولوحدث له هذا -وهو لم يحدث في الحقيقة- لما تغير شيء بالنسبة إليه ولاستمر في طريقه.. ولو لم يكن هذا أمره فكيف كان يستطيع جمع أصحابه بعد كل ما أصابه وأصابهم، ويأمرهم بتعقب جيش العدو؟ كان صاحب إرادة قوية إلى درجة أنه رغم كل الجروح التي أصابته وأصابت أتباعه، ورغم التعب والإرهاق فقد كان في مقدمة جيشه وهو يتعقب جيش العدو.
لا توجد في حياته لحظة ذعر واحدة، ففي اللحظات التي تفرق عنه أصحابه الذين كان كل واحد منهم أسداً هصوراً ذات اليمين وذات الشمال ثبت هو في مكانه فلم يتأخر خطوة واحدة.. أجل، لقد كانت إرادته إرادة فولاذية لا تلين.
لم يبق هناك أذى لم يصبه في مكة، ولكنه لم يهتز.. توفيت زوجته ثم عمه وكانا من أكبر مسانديه، ولكنه لم يصبه أي يأس ولم يظهر عليه أي تردد أو قلق.
عندما ذهب إلى الطائف رموه بالحجارة فأدموا وجهه وألجؤوه إلى حائط، وظهر له ملك وقال له إنه مستعد لأن يحمل جبلاً ويطبقه على أهل الطائف إن أراد ذلك، ومع أن الدم كان يسيل على جسده الطاهر إلا أنه رفض هذا..[5] فما أعجب هذه الإرادة التي لا تتزحزح قيد شعرة عن قرارها.. إذن، يستطيع الإنسان أن يتبع مثل هذا القائد حتى الموت، وأن يغديه بكل شيء، لأنه يعلم جيدا أنه مع مثل هذا القائد لن يقف في منتصف الطريق.. فكيف يمكن السير وراء شخص ضعيف الإرادة يغير رأيه بسرعة ويترك أصدقاءه في وقت الضيق والشدة ويرجع عن قرارات ومبادئ سبق وأن تم التضحية في سبيلها بآلاف الأشخاص، بينما كان المنتظر منه الاشتراك بالتضحية نفسها؟ كيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يكون قائداً وزعيماً؟ ثم أليس أمثال هؤلاء من مدعي الزعامة والقيادة هم السبب في خيبة الرجاء التي يحسها إنساننا اليوم؟
كان صلى الله عليه و سلم إنسان مسؤولية وبطلاً من أبطال الإرادة الصلبة، فالقرآن الذي أنزل عليه لو أنزل على جبل لتصدع.. لقد كان صاحب إرادة مدهشة. كُلّف بمهمة التبليغ.. كان عليه أن يشرح الله تعالى لكل إنسان فرداً فرداً.. كانت مهمة صعبة مثل مهمة تفريغ مياه المحيط بقشرة بيضة، ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ هذه المهمة على عاتقه دون تردد.. فتح القلوب وأدرك قابليات كل فرد من الأفراد.
تبليغ دعوة الإسلام كان هدف وجوده، فلم يكن قلقاً لا حول الدنيا ولا حول الآخرة، فلم يُنسِه أي شيء هذا الهدف وهذه المسؤولية، لا رؤيته الجنات ولا وصوله إلى قاب قوسين.. فمن ذلك المكان الذي رصفت النجوم تحت أقدامه كالحصى رجع إلى هذه الدنيا المملوءة بالآلام وبالمشقات وأصبح معنا وبيننا، لأنه كان يشعر بمسؤوليته وبوظيفته بكل ذرة من ذرات وجوده وكيانه.. بلغ شعور المسؤولية عنده درجة قال معه ذات يوم: «واللهِ لَوَدِدتُ أني كنت شجرة تُعضَد[6] »[7] كان هذا هو إدراكه لمسؤولية كونه إنساناً يحمل عبء مهمة ثقيلة ويئن تحت ثقل هذه المسؤولية.. وحاله يوم المحشر امتداد لمسؤوليته هذه، لذا سيقع يوم القيامة ساجدا لله تعالى وهو يقول: «أمتي!.. أمتي!..»[8] والحقيقة أنه لم يكن هناك أحد غيره يستطيع حمل مثل هذه المسؤولية، لأنها كانت مسؤولية الإنسانية كلها، أي تمتد من الإنسان الأول حتى الإنسان الأخير.
كان صاحب رؤية وفراسة تتجاوزان أبعاد الزمان والمكان. أهذا فحسب؟.. كانت نظراته تصل إلى عالم الغيب وتبصره، إذ ألم يكن هو الذي شرح لنا وهو في الدنيا عالم الجنة وجهنم والصراط والمحشر بكل تفاصيله؟ كان يرى ويشاهد هذا العالم ثم يشرحه لن[9] وكما أكدنا من قبل مراراً فإن الحوادث صدقت كل أقواله التي قالها حول المستقبل ولم تكذبه، فكلما حان الوقت الملائم ظهرت الحادثة التي تنبأ بها، وهناك حوادث تنتظر الظهور.[10] ولكي تدرك مدى بُعد نظره انظر إلى صلح الحُديبية الذي سبق وأن فصلنا الكلام حوله.
ج- الإنسان الذي لم يتغير
أنهى حياته مثلما بدأها.. أي سار فخر الكائنات على المنوال نفسه وضمن المقاييس نفسها والمبادئ نفسها فلم يتغير ولم يتبدل.. مثلما تصرف في مكة -وليس معه سوى امرأة وصبي وعبد وحر- تصرف في حجة الوداع وهو يخاطب أكثر من مائة ألف، بل إن تواضعه زاد وهو في أوج النصر والفتح المبين.
هو القائد الوحيد الذي لم يتغير ولم يتبدل طوال حياته.. تأملوا كيف لم يغير سلوكه وتصرفه أمام الذين كانوا السبب في الأذى والشدائد التي تعرض لها طوال حياته. وعندما توسعت حلقات أصدقائه وتعددت بتقدم الدعوة والتحاق أناس جدد ذوي قابليات كبيرة، لم ينس أصدقائه السابقين أبداً، بقي كما كان سابقاً.
د- التواضع الرائع
كان جالساً في أحد الأيام يأكل مع أصدقائه، فمرت به امرأة بذيئة اللسان، فلما رأته قالت:” انظروا إليه يجلس كما يجلس العبد ويأكل كما يأكل العبد.” فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «وأيُّ عبدٍ أعبد مني؟» قالت: “ويأكل ولا يطعمني.” قال: «فكلي.» قالت: “ناولني بيدك!” فناولها فقالت: “أطمعني مما في فيك” فأعطاها فأكلت فغلبها الحياء فلم ترافث أحداً حتى ماتت.[11]
وعن جرير أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و سلم من بين يديه فاستقبلته رعدة أي ارتجف من مهابة النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبني صلى الله عليه و سلم: «هَوِّنْ عليك، فإني لست بملِك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد.»[12]
وعن ابن عباس أنه كان يحدث أن الله أرسل إلى النبي صلى الله عليه و سلم ملكا من الملائكة مع الملك جبريل عليه ااسلام، فقال الملك: “يا محمد، إن الله يخيِّرك بين أن تكون نبياً عبداً أو نبياً ملكاً”، فالتفتَ رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جبريل عليه ااسلام كالمستشير فأومأ إليه أن “تواضع” فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «بل نبياًّ عبداً.»[13]
في هذه الأثناء كانت الغنائم والهدايا تأتيه من أرجاء الدنيا، ولكنه كان يوزع جميع هذه الغنائم والهدايا على أصحابه ولا يبقي لنفسه شيئاً منها، ولم يتغير سلوكه هذا طوال حياته، وعندما دخل مكة منتصراً وفاتحاً دخل وذقنه يكاد يلامس ظهر راحلته تواضعاً.[14]
عندما أقبل عليه سعد بن معاذ رضى الله عنه قال لجلسائه: «قوموا لسيدكم.»[15] ولكنه كان ينهى أصحابه عن القيام له ويقول: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم.»[16]
صلى في ليلة المعراج إماماً لجميع الأنبياء،[17] غير أن هذا الفضل المهدي إليه لم يغيره وقال: «لا تخيّروني على موسى.»[18] وقال مرة: «لا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متّى عليه ااسلام.»[19]
ومع أن أستار الغيب رفعت مرات عديدة أمام عينيه إلا أنه عندما دخل على إحدى نسائه وعندها جويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر حتى قالت جارية: وفينا نبيّ يعلم ما في غد، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لها: «لا تقولي هكذا، وقولي الذي كنتِ تقولين»،[20] وفي رواية أخرى: «أمّا هذا، فلا تقولوه، ما يعلم ما في غد إلا الله.»[21]
أجل، هناك إنسان واحد وقائد واحد لم يغير سلوكه وتصرفه المتناغم طوال حياته، وهو بلا شك محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم.
هـ- معرفته بالقابليات
لم يكن له نظير ولا مثيل في اكتشاف قابليات أتباعه، فعندما تقررت الهجرة إلى الحبشة اختار جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه ليكون أمير المهاجرين، وقد أثبت جعفر رضى الله عنه في حواره مع النجاشي أن اختياره كان اختياراً صائباً.[22]
كان مصعب بن عمير رضى الله عنه أول من أرسله مرشداً إلى المدينة، وكان ما قام به مصعب رضى الله عنه في المدينة من أعمال، وما قدم من خدمات للدعوة الإسلامية أفضل وأصدق شاهد على حسن اختياره. لقد كانت المدينة في حاجة إلى رجل رقيق ودمث الخلق مثل مصعب، لذا اختاره الرسول لتلك المهمة.[23]
وفي ليلة الهجرة كان لا بد من وجود أحدهم في فراشه لايهاب المشركين إذ كان من المحتمل ومن الممكن أن تقع عليه الضربات الموجهة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم، لذا كان لا بد من اختيار بطل مثل علي بن أبي طالب رضى الله عنه للقيام بهذه المهمة.[24]
ثم من كان يجب أن يرافقه في هجرته ويصاحبه في سفره ويكون معه في الغار؟ أي شخص كان من المفروض أن يراه أهل المدينة معه؟ لقد قرر أن يكون هذا الشخص أبا بكر رضى الله عنه الذي حافظ على موقع الرجل الثاني على الدوام، كان الرسول صلى الله عليه و سلم قد عينه في هذا المقام والموقع منذ بداية الأمر، واستمر أبوبكر في هذا الموقع حتى النهاية، ذلك لأن اختياره كان موفقاً منذ البداية.
هذا، مع العلم أننا نجد آثار بصماته في اختيار جميع الخلفاء الراشدين من بعده.. أي كان من المفروض أن يكون أبو بكر رضى الله عنه هو الأول وعمر رضى الله عنه هو الثاني وعثمان رضى الله عنه هو الثالث وعلي كرم الله وجهه هو الرابع، ذلك لأن حدود آجال هؤلاء التي عينتها يد القدركانت تقتضي هذا التسلسل، فالتصرف الإلهي ظاهر في هذا الأمر.
كان موفقاً في كل اختيار له بدءاً من تسليمه السيف إلى أبي دُجانة رضى الله عنه[25] وانتهاءً بمهمة زرع الشقاق بين قريش وبين اليهود التي أعطاها إلى نُعيم بن مسعود رضى الله عنه[26] كان يتصرف دائماً بمبدأ إعطاء كل مهمة إلى أهلها.
كان حُذيفة أهلاً لحفظ الأسرار فأعطى له بعض أسراره.[27] وكلف عمه العباس رضى الله عنه بأمور المخابرات في مكة، وقام عمه بهذه المهمة خير قيام.[28]
اختياره للقواد واختياره للرسل الذين أرسلهم إلى الملوك والرؤساء.. اختياره للطلاب لكي يكونوا رجال علم في “الصُّفّة”.. اختياره لعمال جمع الزكاة، كل هذه الاختيارات كانت صائبة كما أثتبتتها الأيام.
أجل، إن من المهم جداًّ لكل قائد أن يعرف تماماً نوعية الأشخاص الذين يعهد إليهم القيام بمهمات معينة، والتاريخ يذكر الأخطاء الكثيرة والكبيرة التي اقترفها الكثير من الزعماء والقادة في هذا الأمر، فكم من قائد خانه من قربه إليه وجعله من خاصته.
استخدم الرسول صلى الله عليه و سلم الأرقم بن أبي الأرقم رضى الله عنه في الأمور المالية، واستمر في خدمته هذه للشؤون المالية في عهد أبي بكر وعمر رضى الله عنه، أما في عهد عثمان رضى الله عنه، الذي كان يخص من ماله الخاص بعض أقربائه بالعطاء، مما أدى إلى انتشار شائعة بأنه يفضل بني أمية على سائر المسلمين، فقد جاء الأرقم بن أبي الأرقم إليه وسلمه مفاتيح الخزينة قائلاً له بأنه لا يستطيع العمل في مثل هذه الظروف وفي ظل هذه الإشاعات.[29]
و- محبوب القلوب
كان قائداً يحب الناس ويحبه الناس، إلى درجة أن كل فرد كان يحس أنه هو الأقرب إلى قلبه، كما يحس أنه هو الأكثر حباً له.
كان يحب.. فكم من مرة التفتَ في مسجده قبيل وفاته واستعرض وجوه أصحابه ودمعت عيناه، لأنه كان يعرف جيدا أنه وإن التقى بهم بعد مدة إلا أنه سيفارقهم قريباً، ولن يراهم مرة أخرى في عالم الشهادة.. لقد آن رحيله إلى الرفيق الأعلى، فأهل السماء كانوا ينتظرونه بشوق، غير أنه لكونه أنموذج الوفاء، ذرف الدموع حزناً من مفارقة أصحابه الأحبة، ولكن منظر أصحابه وهم يصلون كان يملأ قلبه فرحا وحبورا وتجد البسمة طريقها إلى شفتيه المباركتين.[30]
كان يحب أصحابه ويصونهم ويقول: «لا تَسُبّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذَهَباً ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَه»،[31] ويقول: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم»،[32] وأحاديث أخرى أيضاً تشكل دليلاً على هذا الحب وهذه الصيانة.
ثم إنه كان محبوباً من قبل الآخرين.. محبوباً بحب لا يوصف، بحب يسري في شغاف القلوب.. ثم ألم يكن حبه دليلاً على كمال إيمان المؤمن؟[33] والصحابة الذين وصلوا إلى ذروة الإيمان وصلوا كذلك إلى ذروة حب الرسول صلى الله عليه و سلم.
عندما أحضر كفار قريش الصحابي خُبَـيْب رضى الله عنه الذي أسروه في ماء الرجيع إلى موضع الإعدام سألوه: “أتشتهي أن يكون محمد مكانك، وتكون أنت آمِناً في بيتك؟” فلو قال نعم، لربما أطلقوا سراحه ولكنه أجابهم: “لا والله، لا أحب أن يشاك شوكة في قدمه.”[34]
بعد انتهاء معركة أُحد أرسل الرسول صلى الله عليه و سلم رجلا ليبحث عن سعد بن الربيع رضى الله عنه، فوجده جريحاً جرحاً بالغاً، فسأله عن حاله فقال: “أنا في الأموات، فأَبْلِغْ رسول الله صلى الله عليه و سلم سلامي وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته. وأَبْلِغْ قومك عني السلام وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.”[35]
كانت الصحابية سُميراء تبحث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في ميدان المعركة وتسأل: “أين رسول الله؟” وعندما أشاروا إلى مكانه ورأته بأم عينها قالت: “كل مصيبة بعدك جَلَل!”[36] أي هينة، هذا رغم استشهاد زوجها وابنها وأبيها في تلك المعركة.
وبينما كانت نسيبة الأنصارية رضى الله عنها بيدها السيف تدافع عن الرسول صلى الله عليه و سلم أشار الرسول صلى الله عليه و سلم إلى ابنها الجريح وطلب منها مساعدته وتضميد جراحه.. كانت قد نسيت أن لها ابناً مقاتلاً وأنه جرح.. أسرعت إليه وضمدت جراحه ثم قالت له: “قم يا بني ودافِعْ عن رسول الله.”[37]
وتعرض أبو بكر الصديق رضى الله عنه إلى الضرب حتى أغمي عليه، لأنه دافع عن الرسول صلى الله عليه و سلم ودعا إليه.. وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله وهم لا يشكون أنه ميت، وجعل أبوه وبنو تيم يكلمون أبا بكر وهو لا يجيب حتى كاد النهار أن يولي، ثم تكلم فكان أول ما قاله أنه سأل عن حبيبه صلى الله عليه و سلم: “ما فعل رسول الله؟” فقاموا عنه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه. فلما خلت به ألحّتْ عليه وجعل هو يقول: “ما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم؟” فقالت: والله مالي علمٌ بصاحبك، وحَلف ألا يأكل شيئاً أو يشرب حتى يسمع عنه.[38]
هذه الأمثلة ومئات غيرها تبين أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان محبوب قلوب صحابته الذين كانوا مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيله.. كما أصبح محبوب أمته جميعاً. كان محاطاً بهذه الهالة من المحبة الخالصة، لذا لم يكن هناك حرس أو خدم على بابه[39] لأنه كان يثق فيمن حواليه. كان الجميع يحبونه، وكان هو يحب الجميع.
ز- كان صلى الله عليه و سلم معصوماً منذ البداية
كان ماضيه نقياً طاهراً، فلم يقترف شيئا يمكن أن يعد عيباً أو قصوراً.. كان أبو بكر رضى الله عنه صديق طفولته وصباه، فلو رأى فيه عيباً أكان يسارع إلى تصديقه أول ما أعلن نبوته؟ ألم تعجب أمنا خديجة رضى الله عنها بأخلاقه، فاختارته مع أن العديدين طلبوا الزواج منها؟ وكما تقول الآية الكريمة: {الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} (النور: 26)، فالزوجة الطاهرة خديجة رضى الله عنها بذلت كل ما في وسعها لتكون الزوجة اللائقة لهذا الشخص الطاهر، وبقيت كذلك طوال حياتها.
كان خلقه الرفيع وخصاله الحميدة معروفة للجميع حتى قبل بعثته صلى الله عليه و سلم حتى لقبه أهل مكة بـ“الأمين” فاستقامته ووفاؤه بالعهد كان معروفاً للجميع. كان أبو جهل وأبو لهب يعرفان هذا ويعترفان به، وعداوتهما له واعتراضهما عليه كان من شيء آخر، وإلا فإن جميع أعدائه كانوا يعترفون بأنه صادق في كل ما يقوله.
كان الطهر والنقاء والبعد عن كل إثم صفة من صفاته.. كان معصوماً على الدوام، لذا لم يقترف أي خطيئة. وسنرجع إلى صفته هذه فيما بعد بالتفصيل.
يقول “سير وليام موير (Sir William Muir)”: “إن محمداً شخصية ممتازة ومثال للفضيلة.. لم يقترف طوال حياته أمراً يستنكف عنه أي رجل فاضل.. بينما استطاع هو أن يؤسس وأن يهدم دولاً، وفي أثناء معترك حياته الحافلة حافظ على فضائله وعاش حياة نظيفة نقية.”
كان إنساناً مبرءاً من الضعف الإنساني ومنزهاً عنه.. ذا قابليات عديدة واستعدادات عالية، ولم يكن إلا لنبي أن يجمع كل هذه القابليات السامية، ذلك لأن وجود كل هذه القابليات وبهذه المستويات الرفيعة لم تكن ضرورية لأشخاص عدا الأنبياء. فمثلا قابليته في التجارة كانت تؤهله لأن يكون أفضل تاجر، ولكن قابلياته السياسية والعسكرية كانت تبقى معطلة وغير مستعملة، هذا علماً بأنه إلى جانب كونه تاجراً جيداً كان إدارياً ممتازاً وعسكرياً عبقرياً، ولكن من الخطأ حتى حصره في مثل هذه المهن، ذلك لأنه خلق لكي يستوعب الإنسانية بأجمعها ويحتضنها. ومثل هذه الاستعدادات والقابليات لا توهب إلا لنبي أو رسول، وإلا فإن وجود استعداداته الأخرى كانت تعد آنذاك عبثاً والله تعالى منزه عن العبث.
كان ذروة في كل خير وفضيلة.. وكان هذا ضرورياً له لكي يبقى فوق كل قابليات واستعدادات أتباعه ويكون مرشداً وقدوة لهم. كان أبوبكر رضى الله عنه يأتي بعده من ناحية القابليات، ولكنه كان تابعاً له، بل من أخلص تابعيه والمرتبطين به.
ح- النتيجة
قمنا بشرح القابليات التي يجب توفرها في أي زعيم، ثم نظرنا إلى الرسول صلى الله عليه و سلم من هذه الزاوية، وعلمنا أنه الشخص الوحيد الذي توفرت فيه كل هذه الصفات، وليس هناك أي شخص آخر استطاع الاقتراب منه لكي نتخذه مقياساً في هذا الأمر. ونصل من هذا إلى نتيجة مفادها أن خصال الرسول صلى الله عليه و سلم وصفاته كانت في الذروة، فقد خلقه الله هكذا وزوده بصفات الخلق السامي.. أي لم يكن هذا السمو سمواًّ بالنسبة للآخرين، بل سمواً ذاتياً.
كان قائداً عسكرياً كبيرا، حتى أنه من الخطأ التعبيرُ عن صفته وفطنته الكبيرة هذه بكلمة “العبقرية”، وإن قصور اللغة وعدم كفايتها هي التي تقودنا إلى ارتكاب مثل هذه الأخطاء دون تعمد منا فنسند إليه صفة العبقرية العسكرية، لأنه لا يمكن شرح الجانب العسكري للرسول صلى الله عليه و سلم بهذه الكلمة، لأن هذا الجانب كان مرتبطاً بالوحي الإلهي وبفطنته كرسول، وهذا هو ما أردنا التأكيد عليه على الدوام.. أي التأكيد على أن جوانبه هذه أدلة على نبوته، ونحن نقترب من جميع المسائل المتعلقة بسيدنا صلى الله عليه و سلم من هذا المنطلق سواء أذكرنا ذلك صراحة أم لا.
كان عسكرياً بصفات مميزة ومستثناة، بحيث أنه كان متفوقاً على العسكريين المحترفين الذين نشأوا في السلك العسكري منذ بداية حياتهم، إذن، فلم يكن الجانب العسكري فيه من نفسه لأنه كان شخصاً أمياً لم ير حرباً من قبل سوى حرب الفِجار التي كانت نزاعاً محدوداً، ولم يشترك في تلك الحرب بشكل فعلي بل قام بنقل السهام إلى أعمامه. ولكنه بدأ الآن يدير معارك لها استراتيجياتها وينتصر في جميعها ويتفوق فيها تفوقاً يعجز عنه كبار القادة العسكريين المحترفين، وهذا من أدلة نبوته، ذلك لأنه:
أولاً: رسم بأمر من الله تعالى خط دعوة واضحة.. كان هدفه واضحاً وبيناً، كان عليه أن ينشر الحق ويزيل جميع العقبات والعوائق أمامه، وصرف كل حياته من أجل تحقيق هذه الغاية، واقترب هو وأتباعه يوماً فيوما من هذه الغاية وحدثت تطورات كبيرة ولكن الهدف بقي هو نفسه ولم يتغير ولم ينحرف عنه، فلم تكن الوصولية شيمة له ولا لأتباعه النجباء الميامين. والذين دققوا تاريخ فترة نبوته التي استمرت ثلاثة وعشرين عاماً يعرفون أنه لم يغير شيئاً مما قاله منذ بداية أمر نبوته بل استمر يقوله حتى نهاية حياته.
لم تكن الحرب غاية من غاياته في أي مرحلة من مراحل حياته، بل كانت الوسيلة الأخيرة التي يطرق بابها، إذ كان يقدم البدائل للطرف الآخر على الدوام، أما البديلان الأولان فكان إما الدخول إلى الإسلام أو إعطاء الجزية،[40] فمن قبل أحد هذين البديلين لا يجوز في الإسلام القتال معه.
كان النبي صلى الله عليه و سلم يذكّر القواد والجنود الذين أرسلهم إلى جهات عديدة بعدم التعرض أبداً للنساء والأطفال والشيوخ ومن لا يحمل السلاح،[41] وعندما أخطأ خالد بن الوليد وأسامة بن زيد رضى الله عنه وقتلا بعض من توهما أنهم أظهروا الإسلام خوفاً ووسيلة للنجاة بأنفسهم فإن الرسول صلى الله عليه و سلم عاتبهما عتاباً مراً.[42] أجل، لقد عين هدفاً معيناً لم يسر هو وأصحابه فقط نحوه، بل سار نحوه جميع الذين جاؤا بعده بعدة عصور والتزموا بهديه.
ثانياً: كان الرسول صلى الله عليه و سلم يتحرك وفق شعاره “الهجوم أحسن دفاع.”. صحيح أنه اضطر للدخول في بعض الحروب الدفاعية، ولكنها كانت جميعها حروباً تهيء الفرصة والأرضية الصالحة للهجوم.
ثالثاً: كانت تصرفاته جميعها على بصيرة، فلم يدع شيئاً للحظ بل كان يحسب لكل خطوة حسابها. والدليل على هذا أنه لم يخط في حياته خطوة نحو الوراء، فمثلاً أراد الصحابة مرة أن يعرفوا عدد جيش العدو، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك إلى أن قبضوا على شخص وأكرهوه على الكلام، غير أن الرجل عندما كان يَصدُق لا يصدّقونه ويبدأون بضربه، وعندما يكذب إرضاءً لهم يدَعونه، فأمر الرسول صلى الله عليه و سلم أن يدَعوا الرجل وألاّ يؤذوه، ثم استدعاه إليه وسأله عن عدد الإبل الذي ينحرونه كل يوم للطعام، واستنج من هذا العدد تعداد جيش العدو، وأخذ أهبته لأمره ووضع استراتيجيته حسب هذه المعلومات،[43] إذن، فلم يكن يخطو خطوة عشوائية، ويدقق أحوال وأوضاع عدده وعدد جيشه لكي يأخذ لكل أمر أهبته، وهذه هي إحدى الخصال الضرورية لكل قائد عسكري.
رابعاً: كان يتبع مبادئ معينة في تحركاته، ولم يدع هذه المبادئ، فقد كان مثلاً يخطط الوقت الذي يقرره للهجوم على الأعداء، وغزوة خيبر مثال واضح على هذا، فقد أظهر أنه متوجه نحو غَطَفَان ولكنه سار إلى خيبر، وظنت غَطَفَان أنه سائر إليها فتحصنت خلف أسوارها، واعتقدت خيبر أن الأمر لا يهمها وبعيد عنها، لذا لم تتخذ أي احتياط، وبينما كانت تفرك عينيها من أثر النعاس في الصباح الباكر لذلك اليوم قام المسلمون الذين كانوا قد أدوا صلاة الصبح ودخلوا إلى أجواء عالم روحي بمباغتتهم، وكان هذا نتيجة تخطيط رائع للرسول صلى الله عليه و سلم الذي كان يحل كل المشاكل وكأنه يشرب فنجاناً من القهوة.[44]
ودخل مكة بالمبدأ نفسه، إذ لم يكن حتى أبو بكر رضى الله عنه يعلم وجهة الرسول صلى الله عليه و سلم. وكانت مفاجأة أهل مكة كبيرة، وعندما علموا بالموقف لم يجدوا مجالاً للهرب.[45] فقد التزم في الأمثلة التي أعطيناها سابقاً وفي جميع غزواته الأخرى التي لم نذكرها والتي وردت في كتب السيرة بهذا المبدأ.
خامساً: كان يختار الوقت المناسب للدخول في صرام مع العدو بحيث يكون وقت المعركة ومكانها في صالح المسلمين وفي غير صالح العدو، ففي معركة بدر نزل المسلمون في موضع يتوفر فيه الماء بينما تم حرمان المشركين من الماء.[46]

سادساً: كان يستعمل عامل الزمن استعمالاً جيداً، فقد أطال زمن معركة الخندق حتى هجم الشتاء على الأعداء فاضطروا إلى التراجع، كما كان موضع المعركة في صالح المسلمين.[47] كما أن توقيت معركة حُنين كان توقيتاً رائعاً، فلو حصل هناك أي تأخير لما وجد المسلمون فرصة للهجوم بل لاضطروا إلى الدخول في معركة دفاعية تحت ظروف غير مواتية لهم. ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطى أوامره للتوجه إلى الأعداء في الوقت المناسب، فجعل عامل الزمن في صالح المسلمين، كما قام بسحب رماة العدو المتحصنين من أماكنهم إلى وسط المعركة، فقد تظاهرت القوة المتقدمة للمسلمين بالانسحاب فتتبعهم الرماة الذين كانوا متحصنين جيداً وكانوا يمثلون أقوى قوة وسلاح للعدو، ولكنهم عندما تركوا أماكنهم المحصنة وخرجوا إلى قلب المعركة فقدوا هذه الميزة ولم تعد سهامهم تفيد كثيراً لأنهم دخلوا في معركة مواجهة قريبة حيث يكون العامل المهم فيها للسيف.. وكان توقيت الهجوم توقيتاً موفقاً.
سابعاً: لا شك أن تأمين الأرزاق والمهمات للجيش من أهم الضرورات لجيش محارب، ولم يحدث في جميع غزوات الرسول صلى الله عليه و سلم أن قام جيشه بترك القتال والانسحاب منه بسبب نقص في تموين هذه الأرزاق والمهمات. والقرآن الكريم يدعو الناس في مئات من آياته للإنفاق وإلى الجود وهيأهم لهذا، واستطاع الرسول صلى الله عليه و سلم تقييم هذا الاستعداد عند المسلمين أفضل تقييم، فالجهاد في الإسلام يكون بالنفس وبالمال.

ط- التلاميذ الذين رباهم الرسول صلى الله عليه و سلم
تناولنا حتى الآن بعض سمات التكتيك الحربي للرسول صلى الله عليه و سلم وبعض سمات إجراءاته الأخرى، غير أنه كوّن جيشاً لا مثيل له في زمن قصير، هذا الجيش الذي استطاع وفي فترة قصيرة فتح أرجاء المعمورة. لذا، فهو شخص لا مثيل له ولا نظير في مجال تكوين الجيوش، وتهيئة الجنود والمقاتلين، ذلك لأنه هو المنشئ الأول للجيش الإسلامي، وعلى يده المباركة نشأ هذا الجيش المبارك، أي أنه لم يأت على رأس جيش موجود سابقاً كما هي الحال لدى القواد العسكريين الآخرين.
وأهم ما يسترعي الانتباه أن الجيش الذي أعده الرسول صلى الله عليه و سلم كان يتمتع بهذه
الصفات المهمة الثلاثة:

1- إعداد جيد.
2- خلق ممتاز وتربية جيدة.
3- إيمان في الذروة، وشعور وإحساس بالطاعة والولاء.
وعندما قال الرسول صلى الله عليه و سلم: «ألا إن القوة الرمي» فإنه كان يشير إلى الصناعة العسكرية حتى يوم القيامة،[48] وهو من أقواله النيرة. وطبق كلامه هذا تطبيقاً فعلياً في عهده فاهتم بالرمي، وهناك أحاديث كثيرة تشوّق على الرمي وعلى إتقانه.[49] ومن بين هذه الأحاديث هناك حديث يجلب النظر وهو قوله لسعد بن أبي وقّاص في أثناء الحرب: «اِرمِ فداك أبي وأمي»[50] ذلك لأن الرسول صلى الله عليه و سلم قال للكثيرين “فداك أبي” أو “فداك أمي”، ولكن لم يقل لأحد سوى سعد “فداك أبي وأمي.”

كان الرسول صلى الله عليه و سلم يهيء جيشه بنفسه، وفي أوقات السلم يشجعهم على أداء الفعاليات الرياضية ويرتب بعض المسابقات بينهم، حتى أنه اشترك في بعضها،[51] كما أن ترتيبه لمسابقات المصارعة بين الفتيان الذين لم يبلغوا بعد سن القتال دليل على مدى اهتمامه بالفعاليات الرياضية.[52] كان الجيش الإسلامي في ذلك العهد قوياً من ناحية التدريب البدني لأفراده ومن ناحية التخطيط الجيد للحرب.. هذا علاوة على الروح المعنوية العالية لجنوده.
كان الجيش الإسلامي يتمتع بأخلاق تغبطه عليها الملائكة، إذ ربى الرسول صلى الله عليه و سلم جنوداً أصبحوا مصدر المن والأمان لكل مكان وصلوا إليه، فلم يحدث أي حادث اعتداء على عِرض أحد في أي مكان تم فتحه من قبل الصحابة. أجل، كان هذا هو مقدار الوعي الأخلاقي والعفة التي بلغها الجيش الإسلامي. ولا شك أن هذه الأخلاق الحميدة وهذه العفة كانت نابعة من عقيدتهم، ولم يكن هناك أي فرد يسلك سلوكاً مغايراً لعقيدته، لأن هذا من موجبات الإيمان ونتيجة من نتائجه، والقرآن الكريم يشرح هذا فيقول: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادُّون مَنْ حادّ الله ورسوله ولو كانو ا آباءَهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتَهُم أولئكَ كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزبُ الله ألا إن حزبَ الله هم المفلحون} (المجادلة: 22).

كانوا أصحاب إيمان عميق لا تمنعهم أي عقبة أو صعوبة من بلوغ أهدافهم، فقد وقف أمامهم في أثناء بعض الحروب إخوانهم[53] أو آباؤهم وأعمامهم.[54] مثل هذه المواقف التي ينشل أمامها الإنسان لم تستطع أن توقف الصحابة ولا أن تقذف في قلوبهم التردد والإحجام، بل قاموا بتنفيذ الأوامر الصادرة إليهم والتوجه إلى الهدف المرسوم لهم. أجل، قام الرسول صلى الله عليه و سلم بتشكيل جيش لم يدر حتى ذلك اليوم بخلد العالم مثيل له، فسيوف جنود هذا الجيش كان من الممكن أن تقتل آباءهم أو إخوانهم أو أقرباءهم، وكان من الممكن أن يؤدي أي تردد في هذا الخصوص إلى شل حركة الجيش كله، بينما لم يتردد جندي واحد في جيش رسول الله لحظة واحدة أبداً.
تقابل أبو عبيدة بن الجرّاح رضى الله عنه في معركة بدر مع والده، فتنحى وحاد عنه، ولكن والده تعقبه حتى اضطره إلى منازلته وقتله، فلم يكن وقوف والده أمامه في المعركة ليحول بينه وبين المضي في أداء مهمته، فالدعوة هي الدعوة، فمن وقف أمامها يجب إزاحته عن الطريق -هذا إذا استثنينا بعض الحالات التي تتطلب بعض الرحمة واللين- ولم يكن هذا التصرف مقتصراً على أبي عبيدة رضى الله عنه بل كان الآخرون مثله.[55]

وهذا عبد الرحمن بن أبي بكر رضى الله عنه شهد معركة أُحد مع المشركين ورأى والده فتجنبه، وبعد أن أسلم قال له: قد رأيتك يوم أُحد فصفحتُ عنك، فقال أبو بكر رضى الله عنه: “لكني لو رأيتك لم أصفح عنك.”[56]

كان الصحابي عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ رضى الله عنه مغتماً أشد الغم مما فعله أبوه عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول ويعلم أنه استحق عقوبة الموت، غير أنه كان كثير التوقير لوالده، فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يظن أنه أمر بقتل والده فقال له:
“يا رسول الله! إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنتَ فاعلاً فمُرْ لي به فأنا أحمل إليك رأسه، فواللهِ لقد علمتْ الخزرجُ ما كان بها من رجل أبرَّ بوالده مني، وإني أخشي أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار.”[57]

كان عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ رضى الله عنه صحابياً جليلاً، ولكن والده كان رأس المنافقين، ولكن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يشأ قتل هذا المنافق، بل أمر ابنه أن يبر أباه ويحسن إليه. وقد سبق وأن ذكرنا أن هذا الصحابي قال لأبيه بأنه لن يسمح له بدخول المدينة حتى يقول: “إنني أنا الأذل، ومحمد صلى الله عليه و سلم هو الأعز”، ذلك لأن أباه كان قد قال: لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخرِجنّ الأعزُّ منها الأذل، حيث وصف نفسه بأنه هو الأعز والرسول صلى الله عليه و سلم هو الأذل. -حاشاه-[58] وكان ابنه يرغب أن يبرهن أن العكس هو الصحيح.
لقد آمن الصحابة رضى الله عنه بأنه {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله} (آل عمران: 145)، لذا كانوا يتجولون في ساحات القتال دون خوف أو وجل، وإلا فكيف يمكن تفسير لا مبالاة أبي دُجانة رضى الله عنه في ساحة القتال؟[59]

كان علي بن أبي طالب رضى الله عنه كثيراً ما يمرض، ولكنه كان يطمئن أهله وأصدقاءه القلقين عليه بأنه لن يموت من مرضه هذا، لأنه كان يؤمن إيماناً عميقاً بأنه لن يموت إلا عندما تتخضب لحيته من دم رأسه مثلما أخبره الرسول صلى الله عليه و سلم.[60]

قطعت أذن عمّار بن ياسر رضى الله عنه في إحدى المعارك وبدأت الدماء تنزف بغزارة، ولكنه كان يطمئن القلقين على حياته بأنه لن يموت من هذا النزيف لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له: «ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار.»[61] كان متأكداً من هذا ولم يكن يشك من مصيره هذا.

كان هذا الإيمان هو الذي يقلب جميع حسابات الأعداء ويفشل خططهم. وهذا الإيمان هو الذي يفسر الشجاعة الكبيرة التي تدفع إنساناً إلى الخوض في مياه المحيط ليجاهد في سبيل الله.[62]

ولا أدري أيجب ذكر طاعة الصحابة للرسول صلى الله عليه و سلم؟.. طاعتهم له من البديهيات فما أن نتذكر الصحابة رضى الله عنه حتى نتذكر معنى الطاعة الكاملة، ولما كان هذا موضوعاً مستقلاً آخر فلا نخوض فيه هنا. ألممنا فيما سبق بعض الإلمام بالأهمية التي كان الرسول صلى الله عليه و سلم يوليها للتدريب العسكري، ولكي يكون الختام مسكاً فسنورد هنا حديثين وآية.
يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: «علموا أبناءكم السباحة والرمي»،[63] ويقول: «من عَلِمَ الرّمْيَ ثم تركه فليس منا، (أو) قد عصى»،[64] ويأمرنا ربنا: {وأَعِدّوا لهم ما استطعتم من قُوةٍ ومِنْ رِباط الخيل تُرهِبون به عدوّ الله وعدوّكُمْ وآخرين من دونهمْ لا تعلمونَهم اللهُ يعلمُهمْ وما تُنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفّ إليكم وأنتم لا تُظلَمون} (الأنفال: 60).


كتبه فتح الله كولن
 
شكراً جزيلاً للاخ العزيز ف-15 على الموضوع الرائع
ولكن لى ملاحظة حول عبارة النبى العسكرى حيث اعتقد ان ترادف الكلمتين معاً
تعتبر اساءة او خطأ وكأن هناك نبى مدنى ونبى عسكرى وكان الافضل استخدام
لفظ محمد صلى الله عليه وسلم قائد عسكرى .

شكراااااااااااااااااااااااااااااااا
 
شكراً جزيلاً للاخ العزيز ف-15 على الموضوع الرائع
ولكن لى ملاحظة حول عبارة النبى العسكرى حيث اعتقد ان ترادف الكلمتين معاً
تعتبر اساءة او خطأ وكأن هناك نبى مدنى ونبى عسكرى وكان الافضل استخدام
لفظ محمد صلى الله عليه وسلم قائد عسكرى .

شكراااااااااااااااااااااااااااااااا

حياك الله اخوي الأيمان الحقيقة اللفظ ليس لي بل هو للكاتب
واعتقد انه رمز بهذا الرمز لالصاق الصفة القيادية والعسكرية
للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وليس للتفريق بين المدني والعسكري
يعني اللفظ عادي جدا .


اجمل ترحيب فيك اخوي وليد واي ملاحظات على القسم او اي اقتراحات
محل ترحيب اخي الكريم
 
بارك الله فيك وجزاك الله خير

اللهم صلي وسلم على سيدنا وحبيبنا الرسول الاكرم محمد بن عبد الله عليه افضل الصلاة والتسليم وعلى اله وصحبه اجمعين وبلغنا شفاعته يا اكرم الاكرمين
 
التعديل الأخير:
والله لو كتبنا فيه صلى الله عليه وسلم بالحبر مقدار مياه البحار والمحيطات فلن نعطيه حقه .........

رحماك يا رسول الله رحماك يا رسول الله رحماك يا رسول الله ..............
 
بسم الله

اخي الغالي اخترت موضوعا كان يراودني فهنيئا لك هذا الفضل...
لقد ابدعت!!!!
ووالله انه لم يمر على البشريه شخصية كمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم فهو في كل المجالات تجده قدوة ومثلا يحتذى به ان اردته في القياده فقد ذكرت ما ذكرت وان اردته في التربيه فنعم المربي هو وان اردته في الرحمه فحدث ولا حرج واينما ترده يأتيك بالشي المعجز ويكفيه ان الله اثنى عليه ولايثني الله الا على شي عظيم جل وعلا فقد قال (وانك لعلى خلق عظيم)
ومانراه هذه الأيام من سب وشتم لسيد الأولين والآخرين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ماهو إلا حقد دفين ولؤم شنيع من النصارى واليهود لهذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم
هنيئا للصاحبة الكرام صحبته وهنيئا لنا اتباعه وهنيئا لذي النورين عثمان بن عفان مرافقته للبني صلى الله عليه وسلم


ومضه (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)
 
التعديل الأخير:
اللهم صلي وسلم على اشرف خلقك وخاتم نبينك
وعلى الصحابة الطاهرين وأمهات المؤمنين
فداك ابي وامي يارسول الله
 
حبيبنا محمد وقائدنا وشفيعنا
انه نبي الرحمه
اللهم صلي وسلم عليك يارسول الله
 
اللهم صلي على محمد عليه أفضل الصلاة والسلام
 
والله لو كتبنا فيه صلى الله عليه وسلم بالحبر مقدار مياه البحار والمحيطات فلن نعطيه حقه .........

رحماك يا رسول الله رحماك يا رسول الله رحماك يا رسول الله ..............




لقد اخترت الكلمات من قلبى بارك الله فيك ياخى فى الاسلام وصلى الله وسلم على رسزل الله خير من انجبت البشرية جمعا واطهر واشرف خلق الله :smile::smile::smile::smile:
 
أحيانا يعجز اللسان عن النطق
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
 
مشكور على موضوعك الرائع والطيب .
سيد الخلق وامام المرسلين صلوات الله وسلامه عليك.
سيدي ابي القاسم محمد بن عبدالله العربي القرشي الصادق الامين .
صلى الله عليه وسلم
 
شكررررررررررررررررررررا لك علــــــــــــــــــــــــى الموضوع
اللهم صلي علي سيدنا محمد واله وصحبه اجمعين
mig25.jpg
 
عودة
أعلى