الصُّلح الذي أبكى المسلمين / أ. د علي بن محمد عودة الغامدي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,428
التفاعل
17,567 41 0
الصُّلح الذي أبكى المسلمين

الأستاذ الدكتور علي بن محمد عودة الغامدي


صُلح يافا بين السلطان الأيوبي محمد الكامل وامبراطور ألمانيا وصقلية فردريك الثاني وتسليم القدس لفردريك الثاني.

إذ أثبت تاريخ الحروب الصليبية التي دارت رحاها على بلاد الشام لمدة قرنين من الزمان أن كل ما ترتب على المفاوضات بين المسلمين والصليبيين كانت في الغالب لصالح الصليبيين.
وقد تعاون الأخوة الثلاثة أبناء العادل ، السلطان الكامل محمد صاحب مصر مع أخويه المعظم عيسى ملك دمشق والقدس وما يتبعهما والأشرف موسى ملك الجزيرة الفراتية وخلاط. وترتب على تعاونهم هزيمتهم للحملة الصليبية الخامسة التي غزت مصر بعد أربع سنوات من القتال ، رغم أن أعداد جيوش الحملة زادت على مئة وستين الفاً. وكان ذلك النصر سنة ٦١٨ هجرية.
ولم يلبث الخلاف والنزاع أن دب بين الإخوة - وسبب الخلاف وتفاقمه موضوع يطول شرحه - فاتفق الكامل محمد مع أخيه الأشرف موسى ضد أخيهما المعظم عيسى الذي شعر أنه أصبح مطوقاً من جانب أخويه فراسل سلطان الدولة الخوارزمية جلال الدين منكبرتي وتحالف معه ضد أخويه. وبدأ جلال الدين يهاجم ممتلكات الاشرف في الجزيرة. عندئذ راسل الكامل محمد ملك المانيا وصقلية فردريك الثاني - حفيد فردريك بربرسا - وطلب مساعدته على أخيه المعظم ووعده بإعطائه القدس مقابل مساعدته له ، وكانت البابوية قد أصدرت قرار الحرمان ضد فردريك لتقاعسه عن القيام بحملة صليبية لاحتلال القدس مرة أخرى.
وقد وصل فردريك إلى عكا في شوال سنة ٥٢٥ هجرية بحملة صغيرة مكونة من مئات الفرسان. وكان الملك المعظم عيسى قد توفي قبيل وصوله وأعلن ابنه الناصر داوود طاعته لعمه السلطان الكامل. فوقع الكامل في موقف حرج مع فردريك ، فلم يعد في حاجة لمساعدته بعد موت أخيه. ولكنه هو الذي استدعاه ووعده ومنَّاه بالقدس. وقد جرت مفاوضات طويلة بين الجانبين وكان السفير المتنقل بين الكامل وفردريك هو فخر الدين بن شيخ الشيوخ وزير الكامل ، الذي انعقدت بينه وبين فردريك صداقة متينة ، وذكرت المصادر أن فردريك كان يبكي أحياناً خلال المفاوضات ويرجو أن ينعم عليه الكامل بالقدس ، وأنه ليس له هدف في القدس سوى حفظ مكانته في الغرب ورفع قرار الحرمان عنه…
وأخيرا ًتوصَّل الجانبان إلى اتفاقية صلح يافا في ٢٨ ربيع الأول سنة ٦٢٦ هجرية/ ١٨ فبراير سنة ١٢٢٩م
وكانت نصوصه كما يلي :

مدة الهدنة " الصلح " بين الجانبين عشر سنوات.
أن يأخذ الصليبين بيت المقدس وبيت لحم والناصرة.
أن يبقى سور بيت المقدس خراباً فلا يُجَدَّد.
تكون جميع القرى التابعة للقدس بأيدي المسلمين ويحكمها والٍ مسلم يُقيم بالبيرة شمال القدس.
أن يكون المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين ولا يدخلها الفرنج إلا للزيارة فقط.
حرية العبادة للمسلمين والمسيحيين على حد سواء.
منحت الاتفاقية الصليبيين عدداً من القرى فيما بين عكا ويافا وبين اللد وبيت المقدس لضمان سلامتهم أثناء تنقلهم إلى المدينة المقدسة.
تعهد الامبراطور فردريك الثاني من جانبه للسلطان الكامل بعدم الاشتراك أو المساعدة في أي حملة صليبية قادمة للهجوم على ممتلكات السلطان ، بل وعرقلة أي جُهد صليبي ضد ممتلكاته.

ولم يغفر المسلمون المعاصرون للسلطان الكامل هذه الفعلة الشنيعة ، حتى أن أحد قادة جيشه ويُدعى سيف الدين بن أبي زكري حذَّره من مغبة تسليم بيت المقدس والتفريط في حقوق المسلمين ونصحه قائلاً : ( ابق دمشق على ابن أخيك الناصر واطلبه واطلب أخاك الملك الأشرف ، وعسكر حلب ، ونقاتل هذا العدو فإما لنا وإما علينا ، ولا يُقال أن السلطان أعطى الفرنج القدس.) ولم يجد ابن أبي زكري من الكامل أذناً صاغية بل غضب عليه واعتقله " وسيره إلى مصر فحبسه بها ".
وحينما بعث الكامل ينادي في القدس بخروج المسلمين وتسليمه للصليبيين " وقع في أهل القدس الضجيج والبكاء وعظم ذلك على المسلمين وحزنوا لخروج القدس من أيديهم ، وأنكر وا على الكامل هذا الفعل واستشنعوه منه ، إذ كان فتح هذا البلد واستنقاذه من الكفار من أعظم مآثر عمه صلاح الدين ".
وعبَّر الأئمة والمؤذنون الذين في المسجد الأقصى والصخرة ، وبقية مساجد القدس عن سخطهم وسخط جميع المسلمين بصورة مدوية ومؤلمة ، فأخذوا ستائر المسجد وقناديله الفضية وآلاته وحضروا إلى باب خيمة السلطان " وأذَّنوا على بابه في غير وقت الأذان" فأمر بسلب ما معهم وزجرهم أعوانه وطردوهم خارج معسكره.
وعم السخط العارم بلاد المسلمين بسبب تسليم بيت المقدس للصليبيين " فقامت القيامة في جميع بلاد الإسلام واشتدت العظائم وأُقيمت المآتم ". وفي دمشق خطب المؤرخ سبط بن الجوزي في الجماهير المحتشدة في الجامع الأموي وذكر مكانة بيت المقدس في نفوس المسلمين وفضائله وماجرى عليه ومما قاله :
انقطعت عن البيت المقدس وفود الزائرين ، يا وحشة المجاورين ، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة ، وكم جرت لهم على تلك المساجد من دمعة ، تالله لو صارت عيونهم عيوناً لما وفت ، ولو تقطعت قلوبهم أسفاً لما شفت ، أحسن الله عزاء المؤمنين ، يا خجلة ملوك المسلمين .
كما ألقى قصيدة تائية جاء فيها قوله :

مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات

على قبة المعراج والصخرة التي * تفاخر ما في الأرض من صخرات​
.

 
عودة
أعلى