الصورة المتباينة الحيادية عن أسباب الفشل الروسي بمرحلة الحرب الأولية
هذا المقال ربما يكون مقالي الأخير بالتحليل العسكري، وقد خصصته لهذا المنتدى، لما لهذا الموقع من ميزة الحيادية وحرية القلم الإيجابية، لأن أكثرنا يميل لنصرة الجبهة الروسية وفي مقدمتهم كاتب هذا المقال!؛ فإن لم يتبنى هذا المنتدى المنشود هذه الحيادية فسوف أنشره في مواقع أخرى دون تخصيص، ربما تكون أقل حيادية، إلا أنها تتبنى أكثر المقالات التحليلية بإنصاف وتفاعلية.
إلا أن الشفافية والمصداقية المعرفية والحيادية في نقل الواقع المجرد من التحيز، من أهم أخلقيات الكتابة الموضوعية، وكما قيل بالأثر عن أحد حُفاظ الحديث وأحد شيوخ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وأعني وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى، أنه قال "أهل العلم يكتبون مالهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا مالهم"، ونسأل الله تعالى أن يكرمنا بالعلم ويبعدنا عن الهوى، وقلة الفهم.
وقد كثرت الآراء التحليلية عن أسباب فشل الروس في المرحلة الأولية مرحلة حصار المدن الكبرى الأوكرانية؛ فمنهم من قال إن روسيا تورطت بحرب ليست مستعدة لها وقد ورطهم بذلك القوى الغربية، ومنهم من قال إن روسيا أخطأت بحساباتها وتقديراتها الاستخباراتية، إلى غير ذلك من الآراء التحليلية الإيجابية، ولكن تعالوا معاً لنقرأ الوقائع والأحداث الحقيقية، بطريقة أكثر واقعية وجدية، ومنطقية تحليلية، وفقاً لأخر المعلومات المكشوفة عن هذه المرحلة الميدانية المؤلمة للقيادة الروسية.
أولاً علينا أن نعرف الفرق بين العقيدة العسكرية للاتحاد السوفيتي وعقيدة روسيا الاتحادية؛ فالسوفييت الشيوعين بنو عقيدتهم على أساس دفاعي وهجومي دفاعي، أما الروس الفيدراليين نجدهم بنوها على أساس دفاعي كامل!، حتى يتمكنوا من حماية أراضيهم الواسعة ومنشأتهم ومراكزهم الهامة الكثيرة، مع سهولة التوفير القريب والوفير لاحتياجاتهم اللوجستية، لأن العقيدة الحربية الروسية تعتمد على سياسة الاستهلاك الكبير لذخائرهم العمياء الغير ذكية.
فالسوفييت حتى يجمعوا بين الوضع الدفاعي والهجومي اعتمدوا مبدأ الهجوم الشامل السريع، وطبقوا ذلك بشكل عملي ناجح على تشكوسلوفاكيا عام 1968 وعلى أفغانستان عام 1979.
إلا أن الروس لم يعودا يملكون القدرة الاختراقية السوفيتية لأسباب اقتصادية حربية وصعوبة توفير لوجستيات منتظمة خارجية، فأصبحوا يعتمدون استراتيجية الغطاء بالقوى الانفصالية الموالية بحروبهم الكاسحة الخاطفة وفق تجربة جورجيا عام 2008 وتجربة شبه جزيرة القرم عام 2014، الأكثر نجاح وسرعة من الحرب الجورجية، لأنها اعتمدت عقيدة قتالية جديدة سميت "عقيدة غراسيموف" الهجينة لأنها تجمع بين القوى العسكرية وشبه العسكرية، والعقيدة القتالية والسياسية والمخابراتية.
وهي العقيدة التي أعادت روسيا تنفيذها بهذه الحرب إلا أن خطأ روسيا الأكبر، أنها بدل أن تجعلها مقنعة أو تحت غطاء القوى الانفصالية في إقليم الدونباس، كما حصل في الشيشان وجورجيا والقرم، ارادت أن تجعلها خاطفة وحيوية، من خلال تنفيذ استراتيجية قطع الرأس بإسقاط الحكومة المركزية الأوكرانية في كييف تحت غطاء شعبي مُرحب بالتدخلات الروسية الانقاذية، ففشلت في تقديراتها وتحضيراتها الميدانية الاستخباراتية IPB.
استراتيجية الحرب الروسية الحديثة:
في زمن الاتحاد السوفيتي كانت الهيكلية الحربية مكونة من هرم أعلاه هيكلية فيه هو الجيش الذي يكون مكون من فيلقين إلى ثلاثة فيالق ويكون هذا الأخير مكون من فرقتين إلى ثلاثة فرق والفرق تكون مكونة إما من أفواج وعادتاً تكون متخصصة بالدعم الأرضي أي أفواج مدفعية ودفاعات جوية، وتكون أكثر استقلالية أو تكون مكونة من ألوية قتالية كل لواء مكون من ثلاثة كتائب إلى أربعة والكتيبة مكونة من ثلاثة إلى أربع سرايا والسرية مكونة من ثلاثة فصائل قتالية والفصيلة من ثلاثة مجموعات والمجموعة من سبعة أو ثمانية أفراد.
اما الهيكلية الروسية الحالية فمختلفة اليوم لحد كبير إذ أن رأس الهرم فيها هي الألوية القتالية المستقلة والأفواج الداعمة والبحرية والمجوقلة.
والمكون الأساسي هو مجموعات الكتائب التكتيكية المدرعة (800 فرد) والميكانيكية (600 فرد) إضافة إلى ألوية البنادق (4000 فرد).
وروسيا لديها نحو 60 لواء حيوي هجومي مستقل فيهم 30 لواء تضم 150 كتيبة تكتيكية BTG وباقي الألوية إما ألوية مشاة بنادق تعدادها 10 ألوية، أو من القوات المحمولة جواً "المجوقلة"VDV الاقتحامية 5 ألوية، والمظلية 10 ألوية مشاة بنادق، و5 ألوية مظلية ميكانيكية.
فالتشكيلات الهجومية الروسية البرية إما أن تكون كتائب تكتيكية أو قوات مجوقله أو مشاة بحرية MPR (10 أفواج "الفوج 1200 فرد" الفوج مكون من كتيبتين)، أو قوات عمليات خاصة ٍSOF.
والعنصر الأساسي فيها هي الكتائب المستقلة التكتيكية والتي تنقسم إلى قسمين كتائب فدائية سرية، والقسم الأخر استطلاعية قتالية، تابع لقوات المسلحة الروسية.
والفدائية منها مكونة من شبيبة بوتين أو فدائيين بوتين وهم صغار السن يعرفون بالمقنعين الخضر، وهم ليسوا من أبناء العائلات الروسية الاعتيادية، إنما من أبناء قتلى الحرب، ومن دور الأيتام واللقطاء، يتم تهيئتهم وتدريبهم منذ نعومة الأظفار كما هو الحال في سالف التاريخ مع المماليك والإنكشارية العثمانية، أي يمكن إخفاء موتهم وليس لهم حقوق مدنية، وهم تشكيلات عالية التدريب والسرعة والشجاعة والتحمل للأجواء القتالية القاسية والمعقدة، ولا يعرف عددهم وتعدادهم، ولكن اداراتهم حصراً مخابراتية.
أما القسم الثاني فهو من المتعاقدين المتمرسين المحترفين ذوي الخبرة القتالية الخاصة، وليس لهم أيضاً حقوق ومطالبات تعويضيه، إنما رواتبهم عالية وسخية، مقارنة بغيرهم من باقي التشكيلات الهجومية.
أما القوات المجوقلة ومشاة البحرية، فهم حصراً من المتطوعين المهنين المحاربين المحترفين، وليسوا قوات خدمة علم اعتيادية.
ومن المجاميع الشبه عسكرية مجموعات فاغنر من الشركات الأمنية الخاصة.
أي التشكيل القتالي الهجومي الروسي أكثر تشكيلاته احترافية.
والآن نعود للب الموضوع من جديد، فمعارك حصار المدن الكبيرة الأوكرانية وخاصة كييف العاصمة كان تحصيل حاصل وأمر واقع لم يكن نتيجة تخطيط مسبق كما حاولت بعض القيادات الروسية ادعاء ذلك لحفظ ماء الوجه، عن تبرير فشل الخطة الأساسية، ولو كانت عملية مخطط لها مسبقاً، لكان التطويق لكافة جوانب كييف بشكل متزامن، وليس تطويقات جزئية خلال فترات متفاوتة زمنية، كما كان الحال في الجهة الشمالية الشرقية بالبداية لكييف ثم الجهة الشمالية الغربية بتشكيلات ألوية بنادق مجوقله وشيشانية، ولكان حدث ذلك بشكل خاطف وسريع ولم يستمر حتى تتموضع وتتمكن الدفاعات الأوكرانية.
إنما الذي حصل أنه عندما وصلت الكتائب التكتيكية المستقلة لدعم الانقلاب في كييف فوجئت هذه الكتائب بمعرفتها للفشل الذريع لعملية الانقلاب الداخلية، وأصبح رجوعها بعد أن تجاوز الأوكران الصدمة العسكرية الروسية وإعادة تموضعهم وانتشارهم، عملية شبه انتحارية بوجود مجاميع الكمائن الأوكرانية الرابضة والمتمركزة في خطوط العودة لهذه الكتائب المستقلة بأحدث المضادات الفاعلة التي أكثرها غربية، فجاءتها الأوامر العليا بالتموضع وأخذ أوضاع دفاعية، ريثما يتثنى للقيادة الروسية تأمين امدادات لوجستية لها من شمال أوكرانيا، وتحدد مهامها الجديدة الارتجالية؛ فقررت القيادة الروسية أن تجعل من وجود هذه الكتائب التكتيكية وسائط ضغط سياسية لدفع الساسة الأوكران إلى طاولة المفاوضات، وقد نجحوا بذلك إلى حد ما، وبنفس الوقت شكلت هذه الكتائب وسيلة استقطاب للألوية الدفاعية النشطة من النخبة العسكرية القومية إلى مدينة خاركييف التي استقطبت الألوية الميكانيكية المنتخبة مثل اللواء 91 الميكانيكي واللواء 93 واللواء المظلي 81، ونحو كييف من الألوية الميكانيكية اللواء 92 واللواء 94 وكان فيها أيضاً اللواء المظلي 95 الذي ضربت روسيا مقره برأس باروحراري زنة 500 كغ ظن الغرب لأول وهلة أنها قنبلة نووية تكتيكية لأن تأثيره بالعصف الحراري غطا مساحة تعادل 20 ملعب كرة قدم.
وفي الحقيقة أن استجلاب هذه الألوية من النخبة المقاتلة الأوكرانية ليس ذكاء روسي وإنما شر لا بد منه، لأن مجموعات الكتائب التكتيكية الروسية المستقلة، كانت من النخبة الخاصة الروسية، وكان لمجابهتها وصدها الناجح لا بد من قوى مكافأة وموازية؛ بالإضافة إلى أن هذه الألوية النشطة الأوكرانية مدربة على يد نخبة قادة الناتو وخاصة منها الأمريكية والبريطانية، وذلك على حرب المدن والعصابات وطريقة الدفاع النشط البريطانية، وكانت هي من دُربت على الأسلحة الحديثة الغربية وزودت بها، دون غيرها من باقي التشكيلات الأوكرانية.
كما أنها كانت مجاميع الكترونية التجهيز متصلة مع مدربيها وقياداتها الميدانية الغربية من خلال شبكات النت الفضائية، والتي كانت أيضاً وسيلة للتواصل مع وسائل الاستطلاع والمراقبة والاستكشاف الالكترونية وكافة اشكال الرصد الفضائي بواسطة الأقمار الصناعية الغربية.
وجهز لها شبكات أنفاق متصلة سرية في المدن الكبرى الأوكرانية، لتشكل بذلك قوات كمائن قوية، وقوات صدمة قتالية.
وهو ما جعل منها وحدات نشطة تبني عملياتها على دراية تامة بكافة التحركات الروسية وقد أدركت روسيا هذه الحقيقة وحاولت تضليل الجهود الدفاعية الأوكرانية والتشويش على اتصالاتها الفضائية، ولكن بدون نتائج مجدية، جدية.
كان المخطط الأساسي للكتائب التكتيكية الفدائية القيام بتنفيذ اختراقات مرحلية بمساندة الكتائب التكتيكية الاستطلاعية التي كانت بارعة بإدارة نيران المدفعية المباعدة، واستجلاب مجاميع المروحيات الهجومية ونفاثات الاسناد القريب التحت صوتية.
وكان هذا التكتيك في بداية الأمر ناجح نوعاً ما في ضواحي كييف ولكن تغيير الأمر مع بدء تقدم هذه الكتائب وبدء تفعيل الدفاعات الأوكرانية النشطة الخاصة ضد الكتائب الروسية الذين شكلوا كمائن ذكية تظهر من أنفاق خفية لتختفي بعد وقت وجيز وتنقل عملها لمجموعات كمائن أخرى بنفس الطريقة التكتيكية وهو ما أفشل القدرات الروسية الاستخباراتية والمراقبة والاستطلاعية ISR وشتت نيران الكتائب المقتحمة وجعل مدرعاتها عرضة للتدمير بنيران الأوكران الموجه الذكية.
مراحل معارك كييف:
كان أول دخول لضواحي كييف من طرف الكتائب الروسية التكتيكية، دخول هادئ دون نيران استباقية أو عشوائية مع مراعاة التباعد بين المدرعات ضمن القافلة القتالية لتقليل أخطار الكمائن، وكذلك الأمر بين تشكيل الكتيبة والكتيبة المجاورة في الشوارع الفرعية، ووقع الاختيار على الكتائب التكتيكية الاستطلاعية القتالية، مع عقيدة قتالية مغايرة لعقيدتها الاعتيادية، والتي عادتاً تعتمد على الضربات المباعدة التمهيدية المدفعية وكثافة وغزارة نيرانها المباشرة الذاتية والمعروفة باختراق السهم، واعتمد هذا التكتيك المغاير لم احترفته الكتائب التكتيكية الروسية، كان تفادياً لحدوث خسائر كبيرة مدنية، ولم يكن هذا السلوك القتالي عند الروس بدوافع أخلاقية، إنما لأهداف سياسية، وذلك بعكس صورة أن الروس جاءوا لأوكرانيا كجيش انقاذ من حكومة كييف الفاسدة الدكتاتورية، وليسوا كغزاة مجرمون كما عكسوا ذلك في الأراضي السورية.
وفي بداية الأمر لم يشهد الروس مقاومة حقيقة إلا من جيوب مقاومة فردية، ولكن عندما تقدموا في ضواحي كييف بدأت تظهر لهم مقاومة جدية، ولكن بأسلحة سوفيتية!، لم تكن لتشكل خطراً كبير على الدبابات المتقدمة الروسية، لأنها كانت معززة بدروع مضافة سلبية حارفة لقذائف الطاقة الحركية، ومقاومة لقذائف الحشوة الحرارية، في مقدمة أبراج الدبابات المدفعية، المعروفة بمقدمة القبعة الشمسية، إضافة إلى دروع تفاعلية ردية، نصبت على بدن وأبراج الدبابات من نوع T-72 القديمة T-72AV والمتقادمة T-72BA والمحدثة T-72BS والحديثة T-72BM القتالية، ومع متابعة التقدم ظهرت مع المدافع المضادة للدروع والمضادات الفردية الأوكرانية، الدبابات القتالية الأوكرانية التي أخذت أوضاع دفاعية، وذلك بسبب أن الروس رغم أنهم لم يزجوا بأحدث دباباتهم بالقتال إلا أنهم كانوا يتفوقون بتلك الدبابات على الدبابات الأوكرانية من ناحية التجهيز الوقائي والقوة النارية بما في ذلك الشدة والفاعلية، إضافة إلى أن الدبابات الأوكرانية التي واجهت الروس لم تكن الأحدث بالترسانة الأوكرانية، حيث كانت من أنواع T-72 الأقل حداثة من أكثر نظائرها الروسية، إضافة إلى أنواع قديمة سوفيتية من فئة T-64 وهذه الدبابات كان من المفترض وفق تقديرات الروس أن تكون مدمرة بالضربات الروسية الجوية والصاروخية التمهيدية، هي وأكثر المدرعات الحديثة الأوكرانية.
إلا أن الأوكران تمكنوا بعقيدة التضليل والتقنيع السوفيتية “ماسكيروفكا” Maskirovka من إخفاء عدد كبير من دباباتهم الحديثة والمطورة مثل دبابة "أوبلوت" التي تعرف بدبابة T-84 المطورة الأوكرانية عن دبابة تي 80 السوفيتية وكذلك دبابة T-80UD وكانت تحمل قذائف أكثر فتك وفعالية من تلك القذائف التي كانت لدى دباباتها القديمة التي أخذت أوضاع دفاعية وتم تجهيز هذه الدبابات بدروع حماية خارجية تفاعلية رديه.
والحقيقة أن الأوكران اعتمدوا في بداية الأمر في الدفاع عن كييف على عقيدة الدفاع السوفيتية، والتي يكون فيها الخط الأول ضعيف ثم يأتي الخط الثاني الذي يكون أقوى وأشد فاعلية وأكثر كثافة نارية، ثم يأتي دور الخط الثالث بالقوة الحيوية النشطة المتحرك المنتخبة على مستوى الأفراد والعتاد وهذا الخط الدفاعي الأخير، يأخذ طابع ارتدادي هجومي، لتعزيز ومؤازرة خط الدفاع الثاني الرئيسي.
وكان هذا التكتيك ناجح جداً رغم قدمه ضد الكتائب التكتيكية الروسية، في حالة اعتماد تلك الأخيرة على الهجمات الاختراقية العميقة، حتى الوصول إلى مركز كييف، لأن هذا التكتيك الروسي إن لم يكن سريع أصاب هذه الكتائب المستقلة بالإنهاك وسرعة استنزاف للمؤونة اللوجستية، خاصة وأن من عيوب الكتائب التكتيكية أنها تعتمد على لوجستياتها الذاتية دون إمدادات خارجية أثناء العملية القتالية الخاطفة، إلا من طريقة تبادلية، أي مع اقتراب نفاذ الذخائر والوقود بالكتائب المقاتلة تقوم بانسحاب تكتيكي ليحل مكانها على الفور أو بشكل متزامن كتائب جديدة بطريقة تبادلية.
وعيب هذا التكتيك أنه يبقي نصف المدرعات فقط في حالة قتالية، والذي حدث أن الكتائب الروسية أثناء قتالها المتفوق ضد خط الدفاع الأوكراني الثاني، فوجئت بهجمات قوية ارتدادية نفذها خط الدفاع الحيوي الثالث، بمئات الدبابات الحديثة والمدرعات الأوكرانية بشكل متدرج تصاعدي، ضد قوى روسية تعمل بمستوى قتالي شبه ثابت من ناحية القدرة القتالية، ومما زاد الطينة بلة دخول وحدات دفاعية نشطة من اللواء المظلي الأوكراني 95 الذي عطل نشاط الجبهة الروسية الشمالية الغربية لكييف قبل أن تنظم وحدات منه لدعم الجبهة الشرقية وكانت وحدات هذا اللواء مسلحة بالصواريخ الغربية المضادة للدبابات الذاتية التوجيه ذات الأمدية التي تتراوح بين 1200 متر لصاروخ إنلو NLAW البريطاني ومدى 2500 متر للرمح جافلين Javelin الأمريكي.
فلجئ الروس إلى استجلاب بعض الصليات الداعمة للمروحيات الهجومية والتي قامت أيضاً بنقل سريع لبعض السرايا الروسية المدفعية إلى محيط كييف الشرقي، قبل أن تكتمل تشكيلات المدفعية الروسية الذاتية الحركة الداعمة شرق كييف، وكانت هذه المعركة في ضواحي كييف الشرقية أكبر معركة دبابات معاصرة، بعد معركة "كيس الموت" العراقية عام 1991ضد القوات الأمريكية، حيث خسر الروس خلال أيام قليلة من الدبابات القتالية فقط 148 دبابة، وخسر الأوكران من جميع فئات دباباتهم القديمة والمحدثة والحديثة 167 دبابة، وذلك وفق عمليات التوثيق المرأيه لمدونة أوريكس بلوغ Oryx Blog التوثيقية لخسائر الخطوط الأمامية.
وكانت خسائر الروس بالمدرعات أكثر منها بالأفراد، إلا من استهدف بصواريخ الفتك الموجهة الأنجلو أمريكية، لأنها كانت تستهدف الأبراج العلوية فتتسب في تفجير ذخائر الملقمات الآلية الدائرية أسفل البرج الذي كان يتطاير بعد تبخير الطاقم أسفل منه، أما ما كان يعطب أو يدمر بالنيران المضادة المباشرة المدفعية والصاروخية فكانت نسبة نجاة الطاقم بالدبابات أكثر من70% بسبب تعزيز الدبابات بدروع إضافية خارجية سلبية وإيجابية ارتدادية تفاعلية، إضافة لسبائك التدريع الطبقي الداخلية.
هذه الملحمة القتالية التي انتصر بها الأوكران ولكن بفاتورة خسائر كبيرة دفاعية، خلقت نوع من الرعب والفوبيا العسكرية لقوات الكتائب التكتيكية، التي ركزت بعدها على الاستطلاع القتالي السريع ومعارك الكر والفر، بغية عدم تكرار الانتكاسات النوعية، وقامت القيادة الروسية بتحجيم الفوضى القتالية، بتعزيز الكتائب التكتيكية المستقلة الاستطلاعية والفدائية بضباط وضباط صف ميدانين روس تابعين للقيادة المركزية، والذين قتل منهم حتى نهاية مرحلة حصار المدن أكثر من 1500 رتبة وفق التصريحات الروسية.
وبلغ عدد الدبابات المدمرة والمعطوبة والمهجورة في كل المدن المحاصرة 592 دبابة و1008 مدرعة أخرى وفق توثيق مدونة أوريكس الميدانية الاستخباراتية وخُمس عدد النفاثات الضاربة المشاركة وهو 20 طائرة، إضافة إلى 23 حوامة روسية ناقلة وهجومية.
وقد كان للكتائب الروسية المستقلة التكتيكية في معركة كييف عدة نقاط ضعف أهمها أنها بالأصل تكون مزودة بمدفعية مرافقة أو مواكبة صاروخية من فئة "توس" المعروفة بلهيب الشمس، بحيث تغطي الواحدة منها بتأثيرها مساحة 8 ملاعب كرة قدم، ويمكنها أن تطلق قذائف موجهة بالليزر تقاربية التفجير مما يزيد من طاقة الفتك فيها والتدمير والطاقة التأثيرية، ويمكن تزويد الكتيبة الواحدة منها براجمة إلى ثلاثة راجمات، بينما كتائب روسيا بكييف ومن أجل تقليل الخسائر المدنية زودت بدبابات T-62 لتكون بمثابة منصات مدفعية للدعم المواكب حتى مدى 9 كم تؤدي بذلك مدى راجمة لهيب الشمس تقريباً، ولكن بضربات أكثر دقة جراحية بدل التأثيرات المساحية.
النقطة الثانية التي تضعف الكتيبة، أن المشاة الميكانيكية فيها، كانت مستقلة بعملياتها الراجلة القتالية وليست ملزمة بحماية الدبابات والمدرعات المجنزرة والمدولبة.
وعندما حقق الروس تقدم في كييف في المرحلة الأخيرة من معركة المدن، كانت عدد الكتائب قد تضاعف وعزز بمجموعات كتائب فدائية أكثر، وتم تزويدها بدبابات T-72B3M الأحدث والأكثر مقاومة وجدوى قتالية وكانت مزودة بقذائف ترادفيه، وصواريخ مدفعية ذاتية موجهة بالليزر حتى مدى 5 كم، وكانت توجه بالليزر أيضاً قذائف المدفعية عيار 152 ملم من نوع كراسنبول حتى مدى 20 كم من فوهات مدفعية الدعم هاوتزر الأرضية، وتم تدريعها بدروع رديه من الجيل الخامس ثنائية التفجير الردي التداخلي المبدد لطاقة التفجير المسدد الحراري، وذخائر الطاقة الحركية وحتى الرؤوس الترادفيه، ودعمت هذه الكتائب بتشكيل مدرع على مستوى لواء مدرع تابع للفرقة الأولى المدرعة السيبيرية، هاجم شمال كييف، وكان معزز بمئة دبابة حديثة منها دبابات من طراز T-72B3M ودبابات T-80BVM ودبابات T-90A الأحدث وعشرة دبابات T-90S قيادية، إضافة إلى دعم مدفعي على مستوى أفواج مدفعية، إضافة للدعم الجوي القريب بالطائرات النفاثة والمروحية، بشكل أكثر جدوى وتنظيم ودقة نارية.
واوهمهم الأوكران بتجديد استراتيجيتهم الدفاعية السوفيتية، التي اندحرت وتهاوت ربما بتخطيط مسبق مقصود لحد ما أمام الهجمات المدرعة الروسية، حتى خط الدفاع الثالث.
ولكن تعزيز الدفاعات الأوكرانية بمنبت الخط الدفاعي الثالث، براجمات صواريخ بريمستون مثبتة على هياكل عربة BMP1 المجنزرة فيها 12 صاروخ يطلق منها ثلاثة صواريخ دفعة واحدة على ثلاثة أهداف متوالية، إضافة إلى قواذف للمشاة فردية، أي بصاروخ بريمستون واحد، وهي صواريخ يصل مداها من القواذف الأرضية حتى 8 كم بتوجيه ذاتي ثنائي نشط، ورؤوس اختراق ترادفيه تضرب أيضاً الجهة العلوية للدبابات، وبسرعة فوق صوتية 430 م/ث، أثار وجودها وبشكل كثيف الهلع والرعب في الصفوف الروسية وسبب خسائر بالدروع كارثية بفترة قياسية.
كما نشطت مجاميع النخبة الدفاعية الحيوية التي كان تسليحها الأساسي الصواريخ الموجهة المضادة للدروع الأمريكية والانجليزية؛ وهو ما جعل الاستمرار بالمعركة بالنسبة للروس عملية شبه انتحارية، خاصة مع انهيار الرغبة القتالية لدى الروس، وانهيار الحالة المعنوية.
فصدرت أوامر القيادة الروسية لقواتها بالانسحاب التكتيكي الكيفي إلى جبهة شرق أوكرانيا ونحو الشمال إلى بيلاروسيا.
فكان الانتصار الثاني الأوكراني والذي كان سببه جر الروس لفخ هجوم ارتدادي أوقع به الروس وأغراهم حداثة دباباتهم ومضاعفة عددها إلى أكثر من ثلاثة أضعاف العدد الأوكراني، وظن الروس أن الأوكران سوف يعيدوا استخدام تكتيكاتهم وخططهم السوفيتية، وصدق ظنهم وأغراهم سرعة تقهقر الدفاعات الأوكرانية!
وقد بلغ خسائر الروس بالآليات حتى اليوم 110 من الحرب، نحو 670 دبابة ونحو 3000 آلية منوعة وفق إحصاءات مدونة "أوريكس بلوغ" العسكرية التوثيقية.
وللإنصاف هاتين الخسارتين، دفعوا الروس لتغيير استراتيجياتهم القتالية، ومنها أنهم رفعوا مستواهم التكتيكي القتالي، من ملاك كتائب تكتيكية مستقلة، إلى ملاك لواء تكتيكي مستقل، ورفعوا ملاك الكتيبة التكتيكية المدرعة، من عدد الأفراد 800 فرد في الكتيبة التكتيكية إلى ألف عنصر قتالي، لزيادة مشاة الحماية للمدرعات، إلى غير ذلك من التغييرات.
وقد أصلح وجهز الأوكران من أصل 670 دبابة خسرها الروس 283 دبابة، وأعطتهم دول من البلقان تابعة لحلف الناتو عن طريق بولندا 270 دبابة من نوعT-72M من الإصدار الأول والاصدار الخامس، لتعزيز الدفاع عن كييف بدل الدبابات التي فقدتها أثناء معارك المدن في المرحلة الأولية، ولا يعرف الحجم الحقيقي للخسائر الأوكرانية حتى من قِبل المخابرات الأمريكية.
واليوم الإيحاء العام الأوكرانية أن أم المعارك التي ترى قيادة كييف أنها سوف تكون في كييف وربما في خاركييف وأوديسا وعمادها وحدات الدفاع النشط الأوكرانية القومية، والدبابات الجديدة الأوكرانية والروسية والسوفيتية المعدلة البولندية؛ إضافة لطلب أوكرانيا لعدد كبير من مدافع الهاوتزر وراجمات الصواريخ من نوع هيمارس وأرغون اس، وقواذف صواريخ بريمستون البعيدة المدى حتى 40 كم، وأكثر باقي القواذف سوف تزود بذخائر ذكية أيضاً، لتحقيق الصدمة العسكرية.
وإجمالي مطالب أوكرانيا لتحقيق هذا النصر وفق ادعائها هو: 500 دبابة وألف مدفع هاوتزر مقطور وذاتي الحركة، وألف مسيرة ضاربة واستطلاعية، و60 قاذفة صواريخ تكتيكية، و300 راجمة صواريخ ميدانية.
ويبدو أن المخطط الأوكراني الغربي المفصلي، هو جر الجيش الروسي لمعركة كبيرة في كييف ينتج عنها خسائر روسية كارثية وبعمق أكبر من معركتها الأولية، تماماً كما حصل في حرب الشيشان الأولى الروسية أيام يلتسن عام 1996، ولكن بطريقة عكسية، وهذا أما أن يدفع روسيا إلى وقف الحرب، أو أن تستخدم أسلحتها النووية، فإن نجح المخطط الأوكراني دون ردة فعل روسية نووية، فسوف تفقد روسيا تفوقها وقدرتها الهجومية التقليدية، وتنكسر شوكتها، وترجع إلى حدودها الطبعية.
الملخص المفيد:
مما تقدم نستنتج منه أن مبادرات الغرب لدعم أوكرانيا ليست إنسانية بقدر ما هي استراتيجية، بغية انجاز نتائج إيجابية بإضعاف القدرة الروسية على تنفيذ الهجمات والتدخلات الخارجية، على أن يكون ذلك بإطالة الحرب واستنزاف هذه القدرات الروسية، التي تمثل ثلث القوى العاملة الروسية، وإضعاف هذه القوى الاحترافية، أو تحيدها سوف يعيد روسيا إلى حدودها الطبيعية على أنها سوف تصبح قوة دفاعية فقط، وتنتهي منافستها لتوسع قوى الناتو الغربية.
المراجع:
1. مؤسسة راند الأمريكية للدراسات التحليلية.
2. مدونة أوريكس بلوغ التوثيقية الاستخباراتية العسكري.