عالمية الإسلام
مقدمة
على الرغم من ازدياد القوة المتنامية للدولة الإسلامية والتي ظهرت بجلاء بعد غزوة الأحزاب؛ إلا أن الاستقرار الحقيقي لم يأت إلا بعد صلح الحديبية، فاعتراف قريش أكبر قبائل العرب وزعيمة الجزيرة سياسيا ودينيا واقتصاديا وتاريخيا - هذا الاعتراف - أعطى المسلمين شهادةَ ميلادٍ حقيقية، وأعلن للجميع سواء من العرب أو من العجم أن هناك دولة جديدة ولدت في المدينة المنورة، وهذه هي الدولة الإسلامية، وزعيمها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان أول شيء فكر فيه بعد ما عاد إلى المدينة المنورة بعد صلح الحديبية هو إعلام العالم أجمعه بهذا الدين الجديد؛ ليثبت لنا وللجميع أن هذا الدين دين عالمي، ونزل لخير الأرض بكاملها، فالله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم:
[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107} .
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في حديث البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً.
ونحن كذلك علينا دور هام في تبليغ رسالة الإسلام لكل بقعة في العالم، وهذا ليس تفضلا منا، بل واجب علينا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدرك من أول أيام الدعوة عالمية الإسلام، ويدرك أهمية وصول هذه الدعوة إلى كل بقاع الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم يبشر المسلمين في مكة قبل سنوات من الهجرة أن لهم دورا تجاه العالم، وكان يقول لهم قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم.
فالقضية كانت واضحة في ذهنه صلى الله عليه وسلم تمامًا؛ ولكنه لم يشرع في تنفيذها إلا بعد صلح الحديبية.
واقعية المنهج الإسلامي في مراسلة شعوب الأرض:
عند قراءة السيرة النبوية نرى أنه من اللافت للنظر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسل رسائل إلى عموم وملوك وأمراء الأرض من أول أيام الدعوة، أو من أول أيام المدينة المنورة؛ حتى أنه أحيانا كان هناك بعض التعاملات مع بعض الممالك والدول الأخرى، ومع ذلك ففي هذه التعاملات لم يخطط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دعوتهم في ذلك الوقت، ولم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلمنا الواقعية، ولأن إرسال رسالة تدعو فيها الناس إلى تبديل دينهم، والدخول في دين جديد لم يسمع به أحد، حتى لو أن أحدهم سمع به فسوف يسمع عن التشريد والاضطهاد والتعذيب لأبناء هذا الدين، ولذلك فإن إرسال مثل هذه الرسالة قد لا يقدم ولا يؤخر كثيرا، ومن هذا الذي يقدم على مثل هذه الخطوة الجبارة ويبدل عقيدته لأجل مجموعة من الضعفاء في بلدة صغيرة من بلدان العالم؛ لدرجة أننا رأينا الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عندما هاجروا إلى الحبشة لم يكن من مهمتهم دعوة النجاشي رحمه الله إلى الإسلام، بل إنهم لم يعرفوا النجاشي بدينهم، ولولا الموقف الذي قام به عمرو بن العاص رضي الله عنه ومحاولته إثارة النجاشي ضد المسلمين ما شرح له جعفر بن أبى طالب رضي الله عنه الإسلام؛ وحتى بعد هذا الشرح فإن جعفر بن أبي طالب لم يدع النجاشي إلى الدخول في هذا الدين الجديد؛ مع أنه كان يدرك أن هناك ميولا في كلام النجاشي للإسلام، ومع ذلك لم يفعل، ولم يدعه إلى الإسلام.
قوة الإسلام تسطع في الجزيرة العربية كلها:
وبذلك نرى واقعية الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة لأبعد درجة، فلا يصح ولا يجدي أن تراسل جماعة صغيرة ضعيفة كبار زعماء العالم لتدعوهم لتغيير معتقداتهم وإظهار التبعية لفكر جديد أو فلسفة جديدة أو قانون جديد، بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن هذه الدعوة قد يكون لها من الآثار السلبية أكثر من الآثار الإيجابية، وما كان يعجزه صلى الله عليه وسلم أن يرسل رسولا إلى كل دولة من دول العالم من أول يوم من أيام الإسلام، ولكنه وجد أن لا جدوى من هذا الكلام، بل إن العقل يقول: إنه سوف يلفت الأنظار بدعوته هذه إلى جماعته الصغيرة الناشئة فتستأصل في مهدها، أما أن نفترض أنه من الممكن أن الله سبحانه وتعالى يفتح قلوبهم، وتتغير ويضحوا بملكهم وسلطانهم لأجل هذا الرجل البسيط الذي ظهر في قرية صغيرة في صحراء مكة وفي صحراء الجزيرة، فهذا افتراض بعيد لا يرقى إلى درجة الواقعية.
كل هذا الكلام كان قبل صلح الحديبية، ولكن بعد صلح الحديبية تغير الوضع تماما، فالجميع في العالم كان يسمع عن قريش تلك القبيلة العربية العزيزة، نعم لم تكن قريش في قوة فارس والروم، ولكنها كانت معروفة لكل الناس حتى خارج الجزيرة العربية، وكانت لها علاقات سياسية واقتصادية مع معظم القوى الموجودة في العالم؛ لذلك ندرك حرص الرسول صلى الله عليه وسلم علي إبرام صلح الحديبية؛ ليحصل على اعتراف قريش بالدولة الإسلامية كدولة لها سيادة، وكل دول العالم لن تتعامل مع هذه الدولة الإسلامية إلا بعد اعتراف قريش بها؛ لأنه قبل ذلك سيعتبر المسلمين جماعة غير شرعية خرجت عن مبدأ الدولة الأم قريش؛ لأجل ذلك بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة من حوله من العرب في الجزيرة في فترات الدعوة الأولى؛ لأنه يعلم عدم جدوى مراسلة الآخرين قبل اعتراف قريش، أما الآن وبعد الاعتراف الواضح من قريش فإن العالم الآن سيتقبل فكرة المراسلة بينهم وبين زعيم الدولة الجديدة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيسقط حاجز الشكليات والرسميات، وسوف يناقشون الموضوع بموضوعية إلى حد ما، وستكون مناقشة هذه النقطة أو هذه الرسالة أفضل بلا شك إذا كان المرسل قويا ممكنا؛ لأن الله عز وجل يَزَع بالسلطان ما لا يَزَع بالقرآن، فكل هذا تحقق إلى حد كبير بعد صلح الحديبية؛ لذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد أن وجد الفرصة سانحة أرسل الرسائل مباشرة إلى كل زعماء العالم القديم آنذاك.
الرسول صلى الله عليه وسلم يراسل زعماء العالم:
كانت الرسائل التي أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم في منتهى الوضوح، ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء الأرض للدخول في الإسلام، وحملهم مسئوليتهم ومسئولية شعوبهم أيضا، وبدأت فعلا هذه الرسائل تخرج من المدينة المنورة، وخرجت هذه الرسائل في نفس الشهر الذي رجع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية في شهر ذي الحجة سنة ست من الهجرة، والبعض يؤخرها إلى غرة محرم سنة 7 هـ، أي بعد أيام من صلح الحديبية، وانظر إلى حرص الرسول على توصيل الإسلام إلى كل مكان، ولكن الظروف لم تكن مهيأة قبل ذلك، وعندما سنحت الظروف، خرجت هذه الرسائل وهي في معظمها في وقت متزامن لا يفصل بينها إلا أيام، والرسائل التي أرسلت في شهر ذي الحجة سنة 6 هـ وأوائل محرم 7 هـ كانت سبع رسائل:
- رسالة إلى النجاشي أصحمة رحمه الله ملك الحبشة وحملها عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه.
- ورسالة إلى المقوقس زعيم مصر وحملها حاطب بن أبي بلتعة اللخمي رضي الله عنه.
- ورسالة إلى كسرى ملك فارس، وحملها عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه.
- ورسالة إلى قيصر ملك الروم وحملها دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه.
- ورسالة إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين وحملها العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه.
- ورسالة إلى هوذة بن العلي ملك اليمامة وحملها سليط بن عمرو العامري رضي الله عنه.
- ورسالة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك دمشق، وحملها شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه.
سبع رسائل، وفي داخل هذه الرسائل، والحوار الذي دار بين السفراء وبين ملوك العالم من الدروس ما لا يحصى، ولكننا لا نستطيع أن نحلل كل هذه السفارات، ولكننا سنحلل هذه الرسائل إجمالا، ونأخذ مثال أو مثالين على هذه الرسائل إن شاء الله، وبتحليل هذه الرسائل نجد أن مضمون الخطاب متحد في كل المراسلات، والرسائل ليست دعوة إلى إقامة علاقات دبلوماسية، أو إلى تبادل السفراء أو إلى مجرد التعارف، أو لطلب استمداد شرعية، أو باعتراف الدول الأخرى به، وإنما كان الهدف واضحا تمام الوضوح، وهو الدعوة الصريحة للإسلام، وترك أي دين أيا كان، والدخول في نور الإسلام، وهذه الدعوة خطيرة؛ لأن ذلك يقتضي اتباع أتباع الدين الجديد، واتباع الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا سينقلب الملك من ملك مطاع لا ترد له كلمة إلى تابع مطيع يرد الأمر كله لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن من سيقبل هذه الدعوة سيكون مؤمنا ولا شك، كذلك الذي يرفض هذه الدعوة قد يغضب ويثور ويعترض، وقد يرسل الجيوش ويهدد بالقتل، وكل ذلك مع أنه صعب إلا أنه لا يمنع من تبليغ دعوة رب العالمين إلى العالمين، وهذه الخطابات تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قائدا قويا، وكان مجاهدا عزيزا لا يخشى في الله لومة لائم، وكان صلى الله عليه وسلم متجردا تماما لله عز وجل طائعًا لكل أوامره؛ لأنه لو كان أحد ملوك الدنيا فلن يفكر أبدا في مثل هذه المراسلات؛ لأنها سوف تقلب عليه الأوضاع تماما وتثير عليه أهل الدنيا، ولكن لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يعلم أن مهمته تقضي البلاغ للعالمين مهما كان الثمن، وهو يعلم أن الله عز وجل سينصر الدين حتما، ويخرج المسلمين من الأزمات مهما اشتدت، وأخرجهم قبل ذلك من أزمات مكة وبدر وأحد والأحزاب وبني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، ولم تكن هذه الانتصارات لضعف أعداء الأمة، أبدا فكل أعداء الأمة كانوا من القوة بمكان، ولكن هذا الانتصار كان بقوة الله عز وجل، وبإرادة الله رب العالمين سبحانه وتعالى، ونصره للذين آمنوا به سبحانه وتعالى، وكل هذه المعاني كانت واضحة جدًا في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذلك جاءت الرسائل قمة في الوضوح لا تميع فيها ولا مداهنة.
رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل إمبراطور الروم
جاءت رسالة الرسول (صلي الله عليه وسلم) في صحيح البخاري، وهناك كثير من الناس من الممكن أن تستغرب كلام هذه الرسالة، فنحن نعلم أن هذه الرسالة هي من رئيس دولة صغيرة جديدة وهي دولة المدينة المنورة وجيشها على أكبر تقدير ثلاثة آلاف جندي، وعمرها لا يتجاوز الثلاث سنوات وأسلحتها بسيطة، وعلاقاتها في العالم بسيطة جدا، ومع ذلك يرسل زعيمها رسالة إلى هرقل قيصر الروم الزعيم الأعظم في العالم للدولة الأولى في العالم الإمبراطورية الرومانية التي تسيطر على نصف أوروبا الشرقي بالإضافة إلى تركيا والشام بكامله، ومصر والشمال الإفريقي، وجيوشها تقدر بالملايين بلا مبالغة، والأسلحة متطورة جدا، وتاريخها في الأرض أكثر من ألف سنة، لا بد أن ندرك كل هذا ونحن نقرأ كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيصر الروم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَسْلِمْ تَسْلَمْ.
هكذا في منتهى الوضوح أسلم تسلم.
يُؤْتِكِ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ.
يعني الفلاحين وبقية الشعب، ثم كتب آية من آيات رب العالمين سبحانه وتعالى:
[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]
{آل عمران:64} .
ونحن نرى الوضوح والقوة والعزة والحكمة في كل كلمة من كلمات الخطاب، وهذا الخطاب يحتاج إلى وقت طويل حتى نحلله وندرسه ونستخدرج منه الدروس التي في باطنه، ولكن هنا سوف نشير إلى بعض الدروس المهمة.
- فقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على ظهور عزته وعزة الدولة الإسلامية في كل كلمة من كلمات الخطاب أولا: بدأ باسمه قبل اسم هرقل وهذا الكلام كان خطيرا في زمانهم، فقد كتب صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، ثم دعاه مباشرة للدخول في الإسلام، فقال: أسلم تسلم. في صيغة ليس فيها تردد.
- وأيضا من الدروس أنه مع إظهار هذه العزة و القوة إلا أنه لم يقلل من قيمة الطرف الآخر بالعكس رفع قدر الطرف الآخر وحفظ له مكانته قال: إلى هرقل عظيم الروم. وأيضا جمع في مهارة عجيبة بين الترهيب والترغيب يقول له: أسلم يؤتك الله أجرك مرتين. يعني فيها نوع من الترغيب، ثم يقول له وهو يهدد بوضوح: فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. ونحن نراه صلى الله عليه وسلم يجمع بين الترغيب والترهيب فهو في ناحية يرغب وفى ناحية أخري يرهب، وهذا الكلام في سطور قليلة للغاية.
- وأيضا من الدروس من هذه الرسائل حسن اختيار الآية المناسبة من القرآن الكريم، فقد أتى بآية تقرب قلوب أهل الكتاب، توضح أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا وبينهم، حتى يفتح عقولهم للتفكير، ويرفع حواجز كثيرة جدا بين الطائفتين المسلمة والنصرانية.
هذا كان خطاب هرقل عظيم الروم، وهكذا كان الخطاب إلى كل زعماء العالم، الخطاب متشابه في مضمونه مع اختلافات الألفاظ حسب البلد المرسل إليها، واختلاف الدين الذي يدينون به، ومع وحدة الخطاب، إلا أن ردود الأفعال كانت متباينة، فقد بلغ بعضها القمة في الأدب وحسن الرد، بينما بلغت بعض الردود الأخرى أدنى مستوى لسوء الأدب والمعاداة، وبعضها بين هذا وذاك.
رد هرقل ملك الروم على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
هرقل زعيم الدولة الرومانية، وهي دولة تسيطر تقريبا على نصف مساحة العالم في ذلك الوقت، والحقيقة أن موقف هرقل من الرسالة يحتاج إلى وقفة ويحتاج إلى تحليل، فهو يفسر لنا الكثير من أحداث التاريخ سواء في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في الأيام التي تلت الرسول صلى الله عليه وسلم، ويفسر لنا أحداثا كثيرة جدا من الواقع الذي نعيشه؛ لأننا نعرف أن التاريخ يتكرر.
عندما تسلم هرقل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الموضوع بمنتهى الجدية، مع أنه زعيم أكبر دولة في العالم، وهو يتسلم رسالة من زعيم دولة لم يسمع عنها أحد، وهذه الدولة خرجت في بلاد العرب، والرومان بصفة عامة كانوا ينظرون إلى بلاد العرب نظرة دونية، ويرونهم دائما أقل من أن يهتم أحدًا بشأنهم، أو يدرس أحوالهم، فهؤلاء العرب قوم يعيشون حياة البداوة في أعماق الصحراء بعيدة كل البعد عن كل مظاهر الحضارة والمدنية، وهم متفرقون ومتشتتون، وأحلامهم بسيطة وأعدادهم محدودة وأسلحتهم بدائية، الفارق بينهم وبين إمبراطورية الرومان الهائلة، كالفارق بين السماء والأرض أو يزيد، وحينما كان يدور الصراع بين دولة فارس ودولة الروم فإن كل ما كان العرب يفعلونه هو الاكتفاء فقط بمراقبة الأحداث، ويراهنون بعضهم البعض على من سوف يكسب من الدولتين العظيمتين فارس والروم، ولم يكن عندهم طموح لا من قريب ولا من بعيد في مشاركة القوة العالمية في الأحداث الجارية في العالم.
ومع كل ذلك عندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته إلى زعيم الروم، أخذ هرقل ملك الروم الأمر بمنتهى الجدية، ولم ينكر أن يكون ذلك ذلك الرجل نبيا حقا، ولم يكن ينقصه إلا التأكد فقط، ونحن عندما نسمع عن هرقل أو نقرأ عنه نشعر أنه كان زعيما نصرانيا متدينا ملتزما إلى حد كبير بتعاليم النصرانية، وكان يعلن كثيرا أن الله عز وجل يساعده في معاركه، حتى أنه نذر أن يحج إلى بيت المقدس ماشيا على قدميه من حمص إلى القدس شكرا لله على نصره للرومان على الفرس، ورجل مثل هرقل لا بد أنه قد قرأ في التوراة والإنجيل أن هناك رسولا سيأتي، وأن هذا الرسول بشر به موسى وعيسى عليهما السلام، وكان هرقل ينتظر هذا الرسول، وهذا الرجل الذي أرسل له الرسالة صلى الله عليه وسلم يذكر له في هذه الرسالة بأنه نبي آخر الزمان، وهرقل آمن بالفكرة، ولعله مشتاق لرؤية ذلك النبي، وكان هرقل قبل هذه الأحداث قد سمع عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن الله عز وجل يسر له لقاءً غريبا عجيبا ربما يكون قبل استلام الرسالة مما قد يكون مهد هرقل نفسيا تماما لاستلام مثل هذه الرسالة العجيبة.
حوار بين أبي سفيان وهرقل ملك الروم
سمع هرقل أن هناك نبيا سيظهر في بلاد العرب، فأمر هرقل جنوده أن يأتوا ببعض العرب؛ لكي يسألهم عن هذا النبي الذي ظهر في بلادهم، واستطاع الجنود الإمساك ببعض التجار الذين كانوا يتاجرون في غزة بفلسطين، وكان هرقل في بيت المقدس في ذلك الوقت، وهو يريد أن يستوثق من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من بين هؤلاء التجار أبو سفيان بن حرب زعيم قريش، وهذا الأمر حدث بعد صلح الحديبية مباشرة، فقد سافر أبو سفيان لغزة للتجارة، وأمسكه بعض الجنود، وأخذوه إلى هرقل في بيت المقدس، والتوقيت عجيب من كل النواحي، فكأن الله سبحانه وتعالى أرسل أبا سفيان الذي كان كافرًا في ذلك الوقت ليقيم الحجة على هرقل في هذا اللقاء العجيب...
ورد في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما نقلا عن أبي سفيان رضي الله عنه بعد إسلامه أن هرقل سأل التجار أيكم أقرب نسبا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان:
أنا أقربهم نسبا إليه.
فقال هرقل: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره.
أي جعل أبا سفيان واقفا ووراءه مجموعة من أصحابه، ثم قال لترجمانه:
قل لهم إني سائل- يعني أبا سفيان- فإن كذبني فكذبوه.
هرقل يريد أن يعرف بجدية كل شيء عن هذا النبي، فسأل أقرب الناس إليه نسبا، ليكون على معرفة تامة به، وفي نفس الوقت جعل وراء أبي سفيان مجموعة التجار الآخرين كحكام على صدقه، وتحت تأثير إرهاب هرقل وبطشه، أبو سفيان سوف يخاف أن يكذب، ومن وراءه سوف يخافون أن يكذبوا، ولكن أقول لكم إن عامل الكذب هذا لم يكن واردا في القصة، فالعرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب هذه، وتعتبرها نوعًا من الضعف غير المقبول، حتى أن أبا سفيان كان يقول تعليقا على كلمة هرقل هذه:
فوالله لولا الحياء من أن يأثر أصحابي عني الكذب لكذبته حين سألني عنه ولكني استحييت أن يأثروا الكذب عني فصدقته.
فهو في هذه اللحظة - سبحان الله - مع أنه يكره الرسول صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة، إلا أنه لا يستطيع أن يكذب على محمد صلى الله عليه وسلم، لا يحب أن يشوه صورته بالكذب لدرجة أنه في رواية كان يقول: ولكني كنت امرأ أتكرم على الكذب، لا أكذب.
وبدأ استجواب هرقل لأبي سفيان أمام الجميع من العرب والرومان وفي حضور علية القوم من الأمراء والوزراء والعلماء من الرومان، وفي هذا الاستجواب سوف نرى أن هرقل سيسأله أسئلة يحاول بها أن يتيقن من أمر هذه النبوة التي ظهرت في بلاد العرب، هل هي نبوة حقيقية أم كذب؟ وهذه الأسئلة عبارة عن استنباطات عقلية، وهذه الأسئلة بناء على معلومات عن الأنبياء بصفة عامة، وعن هذا النبي بصفة خاصة كما جاء في التوراة والإنجيل، وهذا الحوار الذي دار بين هرقل زعيم أكبر دولة في العالم في ذلك الوقت وأبي سفيان زعيم قريش، ونحن نحسبه من أعجب الحوارات في التاريخ، وهو عجيب من أكثر من وجه؛ لاهتمام زعيم أكبر دولة في العالم بأمر رجل يظهر في صحراء العرب، أو من حيث دقة الأسئلة وذكاء الأسئلة، أو من حيث ردود أبي سفيان المشرك آنذاك، والذي كان يكره محمدًا صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة، أو من حيث تعليق هرقل على كلام أبي سفيان في آخر كلامه، أو من حيث رد فعل هرقل بعد ما سمع كلمات أبي سفيان، إنه حوار عجيب بكل المقاييس، وقد بدأ الحوار بسؤال:
كيف نسبه فيكم؟
قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب.
قال هرقل: فهل قال هذا القول من قبلكم أحد قط قبله؟
قال أبو سفيان: لا لم يدع أحد في تاريخ العرب النبوة.
فقال هرقل: هل كان من آبائه من ملك؟
فقال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟
قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم.
قال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟
قال أبو سفيان: بل يزيدون.
قال هرقل: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
قال أبو سفيان: لا، لا يرتد منهم أحد.
قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: فهل يغدر؟
قال أبو سفيان: لا.
ثم قال: ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.
أي أننا لا ندري هل يغدر بصلح الحديبية أم لا ؟
هذا كلام أبي سفيان فهو أراد أن يقول أي شيء سلبي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل الإجابات بترفع من الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول أبو سفيان: ولم تمكنى كلمة أدخل فيها شكا غير هذه الكلمة.
أي حاولت على قدر ما أستطيع أن أطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم بأي شيء فلم أستطع إلا بهذه الكلمة، وهرقل لم يعلق على هذه الكلمة، وكأنه لم يسمعها...
ثم قال هرقل: فهل قاتلتموه؟
قال أبو سفيان: نعم.
فقال هرقل فكيف كان قتالكم إياه؟
قال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال.
أي ينال منا وننال منه، هو يقصد بدر وبعدها أحد...
قال هرقل: بماذا يأمركم؟
قال أبو سفيان: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
انتهى الاستجواب الطويل من هرقل، وبدأ هرقل يحلل كل كلمة سمعها وكل معلومة حصل عليها حتى يخرج باستنتاج، وأعلن ذلك الاستنتاج ترجمان هرقل، قال هرقل: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها.
وسوف يبدأ هرقل يأخذ كل كلمة، و كل نقطة يثبت بها لأبي سفيان وللجميع ولنفسه قبلهم أن هذا رسول من عند الله،
ثم قال: سألتك: إن قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، قلت: لو كان قال أحد هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه. وهم أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون. وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك أيضا: أيرتد أحد منهم سخطا لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف.
فهذه هي تحليلات هرقل حتى خرج إلينا في نهاية الأمر بنتيجة خطيرة فعلا يقول بمنتهى الصراحة:
فإن كان ما تقوله حق فسيملك موضع قدمي هاتين- أي الشام- وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم - فهو يستكثر أن يكون من العرب - فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقائه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
إنها كلمات خطيرة وعجيبة من زعيم الإمبراطورية الرومانية، فقد أيقن هرقل من أول وهلة أن هذا الرجل رسول حقا، وأن ملكه سيتسع حتى يأخذ بلاد الشام، وأنه يجب الاتباع له والانصياع الكامل لأمره، بل الرضوخ لقوله تماما، والتواضع الشديد لدرجة أن هرقل يتمنى أن لو غسل قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا هرقل بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم والمرسل مع دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه، وقرأ هذا الكتاب في وجود أبي سفيان، ونحن لا نعلم إن كانت هذه أول مرة يقرأ هرقل الرسالة، أم قرأها قبل ذلك، وقد يكون هرقل قرأ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، ثم أراد أن يَعْرف أكثر عن هذا النبي، فبحث عمن يَعْرفه جيدا؛ ليسأله عنه وعن سيرته وأخلاقه كما رأينا، ولعله أراد أيضا أن يُعَرِّف أساقفة الرومان وقادتها بهذا النبي الذي يريد أن يؤمن به هو شخصيا، وقد رأينا أسئلته لأبي سفيان وتحليلاته الشخصية لأجوبة أبي سفيان عنها، تلك التحليلات التي تنطق بأن هذا الرجل هو النبي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
المهم أنه قرأ الكتاب أمام أبي سفيان وأمام العرب وأمام الرومان الموجودين، وبدأ يقرأ الكلمات العجيبة، وفيها دعوة صريحة لدخول الإسلام، وبعد انتهاء القراءة من الرسالة سمع أصواتا عالية وكثر اللغط وارتفعت الأصوات في كل مكان وضجت القاعة بالاعتراض على كل كلمة من كلمات هذا الكتاب النبوي، لأن زعماء النصارى وأمراء الجيوش وعلماء الدين الموجودين رفضوا تماما هذه الدعوة الكريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما حدث ذلك أمر هرقل بأبي سفيان، ومن معه من تجار أن يخرجوا من القاعة، ورأى أبو سفيان رهبة هرقل عندما سمع قصة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمن برسالته بعد، وهو يرى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يكتب الرسائل إلى زعماء الدول العالمية الكبرى في ذلك الوقت، فقد ترك هذا الموقف أثرا نفسيا هائلا عند أبي سفيان حتى أنه ضرب يدا بالأخرى، وقال:
لقد أمر أمر ابن أبى كبشة.
أي عظم أمر ابن أبى كبشة، يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
إنه ليخافه ملك بني الأصفر.
هرقل زعيم الرومان، لدرجة أن هذا الحدث سيحفر تماما في ذهن أبي سفيان، وسيكون له أبلغ الأثر في قرارات أبي سفيان وسوف نرى أبا سفيان يسلم بعد ذلك في فتح مكة.
هرقل يعترف بالإسلام ولكنه يفضل الملك على الإيمان
لقد كان هرقل على استعداد لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن في المقابل كانت هناك ثورة كبيرة في داخل البلاط الملكي ترفض تماما فكرة الإسلام، وأدرك هرقل أنه لكي يعلن رغبته في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم عليه أن يغامر بملكه وأن يخاطر بسيادته على شعبه، فالأمراء من الممكن أن يخلعوه من ملكه، وفي رواية أنه قال لدحية بن خليفة الكلبي:
والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره، ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته.
وفى رواية ثانية ذكرها ابن كثير رحمه الله أن هرقل استدعى الأسقف الأكبر للرومان فدخل عليه وكان كل الناس في الرومان يطيعون أمر هذا الأسقف الكبير، فعرض عليه هرقل الكتاب، فلما قرأ الأسقف الكتاب قال: هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر.
قال قيصر: فما تأمرني؟
فقال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه.
فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكني لا أستطيع أن أفعل، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم.
وهذا الأسقف كان اسمه صغاطر وخرج للرومان، ودعا جميع الرومان إلى الإيمان بالله عز وجل وإلى الإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأعلن الشهادة أمام الجميع، إنه موقف شجاع من هذا العالم، ولقي ربه شهيدا؛ حيث قام الناس وقفزوا عليه قفزة واحدة، فضربوه حتى قتلوه، وكان هذا الأسقف أعظم شخصية في الدولة الرومانية، حتى أنه كان أعلى من هرقل عند الناس، وعرف هرقل بقتل هذا الرجل الكبير، ولم يستطع أن يفعل أي شيء، وفي هذا دلالة على ضعفه الشديد أمام الكرسي الذي يجلس عليه، وعقد هرقل مقارنة سريعة بين الملك وبين الإيمان، أي بين الحياة ممكنا وبين الموت شهيدًا، فأخذ القرار، واختار الملك والحياة ورفض الإيمان، ولم يكن ذلك لعدم تيقنه من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه ضن بملكه وضحى بالإيمان، إن أمر الإيمان واضح، وإعجاز القرآن ظاهر وطريق الإسلام مستقيم، والدلائل على صدق هذا الدين بينة وقاهرة وظاهرة للجميع، والإنسان هو الذي يختار، وعلى قدر قيمة الشيء في النفس يضحى الإنسان، يقول الله عز وجل:
[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ] {النمل:14}.
ويقول تعالى:
[قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ] {يونس:108} .
وما فعله هرقل لا يمكن أبدا أن يعذر فيه، مهما كانت الفتنة التي سوف يتعرض لها بعد ذلك، ومهما كان راغبا في الملك راهبا من الموت يقول الإمام النووي رحمه الله يعلق على موقف هرقل فيقول: لا عذر له في هذا؛ لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شح في الملك، ورغب في الرياسة، فآثرها على الإسلام... ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرياسة.
والحافظ ابن حجر رحمه الله يقول أيضا تعليقا على هذا الحديث: ولو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب: أسلم تسلم.
وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة، وأسلم لسلم له كل الدنيا وكل الآخرة، لسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله عز وجل.
وبعد كل هذا اليقين اكتفى بأن يحمّل دحية الكلبي ببعض الهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفكر في قضية الإيمان، ومع أنه يعرف أنه في يوم من الأيام سيتحول كل الملك الذي يحكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يوقـن في الكتب التي قرأها قبل ذلك في التوراة والإنجيل ومن حواره مع أبي سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيملك موضع قدميه في الشام، وعندما غادر بيت المقدس إلى القسطنطينية قال بعد أن أشرف على الشام وصعد فوق ربوة عالية وأطل على الشام بكاملها قال: السلام عليك يا أرض سورية تسليم الوداع.
وبعد كل هذه القناعة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبكل هذا اليقين بنبوته لم يقف هرقل عند حد عدم الإيمان ولم يقبل بالحياد، ولكنه سير الجيوش تلو الجيوش لحرب المسلمين مع إحساسه الداخلي أنه سيغلب، وأنه لن ينتصر على المسلمين، ولكن هذا الإحساس لم يمنعه من اتباع الشياطين، ومحاولة مقاومة الإسلام بداية من مؤتة ومرورا بتبوك، ومعارك متتالية في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وتركيا وغيرها، ومع فشله في كل هذه المعارك ومع تناقص الأرض من حوله ومع ظهور صدق الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بعد يوم، إلا أن هرقل لم يؤمن ويبدو أن فتنة الكرسي لا تعدلها فتنة.
كان هذا هو موقف الدولة الرومانية، اعتذار مهذب، ثم حرب ضروس، وهذا الموقف نراه كثيرا في التاريخ، فكثير من زعماء وأمراء ورجال دين في العالم يعرفون صدق الإسلام، ويعرفون بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يرفضون هذه النبوة حفاظا على كراسيهم، وشحا بملكهم، فهم قد يحاولون في بعض الأحيان إقامة العلاقات الدبلوماسية اللطيفة، وتبادل الهدايا مع المسلمين، ولكن حتما سيأتي يوم تقف فيه الهدايا، ويبدأ فيه الصراع، وبدلا من كلمات التحية والتودد ستكون هناك كلمات التهديد والإنذار، وبدلا من الرسائل والسفراء ستكون القذائف والجيوش، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم:
[وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] {البقرة:217}.
رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك الفرس
أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة إلى كسرى ملك الفرس، وهي الدولة الثانية التي تقتسم العالم مع الدولة الرومانية، وقد رأينا موقف هرقل وميله في البداية إلى الإسلام، ثم حربا ومقاومة، ولكن كسرى من البداية كان واضحا، فمن البداية ظهر عداؤه للإسلام، ومن أول لحظة قرأ فيها الخطاب وهو ينوي تدمير هذا الدين الجديد، وحرب الرسول صلى الله عليه وسلم فمن أول كلمة في الخطاب والذي بدأ بالبسملة، وبعدها من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس، ثم بعد ذلك دعوته إلى الدخول في الإسلام، مع تغيير في بعض الألفاظ لتتناسب مع الديانة المجوسية والتي هم عليها قال صلى الله عليه وسلم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
إنها كلمات قوية، غضب كسرى وتعامل مع الرسالة بسطحية بالغة، ولم يلتفت إلى المعاني التي في داخل الخطاب، فأمسك الخطاب ومزقه، وقال في غطرسة: عبد من رعيتي يكتب اسمه قبلي.
وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الكلمات عندما وصلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: مَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ مِثْلَ مَا مَزَّقَ الْكِتَابَ.
وقد كان ذلك في غصون سنوات قليلة من هذه الأحداث، فقد مزق الله عز وجل ملك كسرى تماما، وامتلك المسلمون كل الأراضي الفارسية وسقطت الإمبراطورية الفارسية تماما، وكانت تسيطر على مساحات هائلة من الأرض، وهذه هي النبوة في مواجهة الغطرسة المجوسية الكافرة، ولكن كسرى فارس إبرويز لم يكتف بهذه الكلمات وتقطيع الخطاب، بل حاول أن يعتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعاقبه.
كسرى يأمر عامله على اليمن باعتقال الرسول صلى الله عليه وسلم
أرسل ملك الفرس رسالة إلى عامله على بلاد اليمن، وكانت اليمن مستعمرة فارسية، واليمن نسبيا قريبة من المدينة المنورة، فأرسل رسالة إلى عامله، وكان اسمه باذان وكان فارسيًا، وطلب منه أن يبعث رجلين من رجاله ليأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدائن عاصمة فارس، ونحن نرى مدي النظرة الدونية التي ينظر بها الفرس إلى العرب، فيبعث برجلين فقط، ليأتي بزعيم المدينة المنورة، وأنه إن رفض فسيقتل، وسيُهلك كسرى قومه ويخرب بلاده، وذهب رسولا باذان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبلغوه بما قال كسرى، وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهما في أدب أن ينتظرا إلى اليوم التالي وسوف يرد عليهما، وفي هذه الليلة التي جاء فيها رسولا عامل كسرى، أتى الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بنبأ عجيب أن هذا الزعيم الفارسي المتغطرس إبرويز قتل في نفس الليلة، وقتله ابنه شيرويه بن إبرويز وكان هذا في ليلة الثلاثاء العاشر من جمادى الآخرة سنة 7 هـ، ولما جاء اليوم الثاني بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرسولين، وقال لهم: إِنَّ رَبِّي قَتَلَ رَبَّكُمُ اللَّيْلَةَ.
ففزع الرسولان؛ لأن المدائن على بعد مئات الكيلو مترات من المدينة المنورة، وقالا:
هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، فنكتب عنك هذا، ونخبر الملك باذان؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في ثقة: نَعَمْ أَخْبِرَاهُ ذَاكَ عَنِّي.
وقال لهما في يقين: وَقُولَا لَهُ أَيْضًا: إِنَّ دِينِي وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ كِسْرَى وَيَنْتَهِي إِلَى الْخُفِّ وَالْحَافِرِ. وَقُولَا لَهْ: إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيْتُكُ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ وَمَلَّكْتَكَ عَلَى قَوْمِكِ.
وعاملهم الرسول صلى الله عليه وسلم معاملة الملك الكريم، وأعطاهم بعض الهدايا، وعادوا مرة أخرى إلى اليمن، وصل الرسولان إلى باذان ملك اليمن الفارسي، وأبلغاه بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان باذان هذا رجلا عاقلا، فقد سمع الكلمات فقال:
والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيا كما يقول ولا يكونن ما قال، إلا أن يكون رسولا.
لأن المسافة بين المدائن والمدينة المنورة مئات الكيلو مترات في ذلك الزمن.
باذان حاكم اليمن يدخل في الإسلام
وجاء خطاب من شيرويه الزعيم الجديد في بلاد فارس شيرويه بن إبرويز إلى باذان عامله على اليمن يقول فيه أنه قد قتل أباه إبرويز؛ لأن إبرويز قد قتل الكثير من أشراف فارس، وكاد أن يودي بفارس إلى الهلكة، ولما وصل هذا الخطاب إلى باذان حدد الليلة التي قتل فيها إبرويز، فوجد أنها نفس الليلة التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم، فأيقن أن هذا رسول من عند الله عز وجل، وأن الذي أخبره بذلك وحي من عند الله عز وجل؛ لأن المسافات بين المدينة والمدائن هائلة وبعيدة ومستحيل على أهل هذا الزمن بأي صورة من الصور، أن يعرفوا الأحداث التي تحدث في كل بلد، ولا يتم هذا إلا بمعجزة خارقة، وهنا أخذ باذان قرار الإسلام، وسبحان الله، الذي يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم، فقد أسلم باذان وحسن إسلامه وأسلم أبناؤه وأسلم كل الفرس تقريبا في اليمن وأسلم الرسولان اللذان بعثهما باذان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم بعد ذلك كثير من أهل اليمن، وكل هذه الأحداث تحقق لنا قول الله عز وجل:
[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى] {الأنفال:17} .
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رسالة إلى كسرى فارس يبغي إسلام شعب فارس، وفارس تقع على بعد مئات الكيلو مترات من المدينة المنورة، ولكن الله عز وجل يريد أن يسلم بهذه الرسالة شعب اليمن البعيد جدا عن منطقة فارس، وهذا يلفت نظرنا إلى شيء مهم جدا، وهو أن جهد الداعية لا يضيع فيبقى جهد الداعية وينتشر، ولكن ليس بالضرورة أن ينتشر في الاتجاه الذي أراده الداعية؛ لأن الله عز وجل يسير الكون بنظام بديع وتنسيق محكم وحكمة بالغة، فالقلوب بين أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء، فالمسلم عليه الدعوة، والله سبحانه وتعالى يفتح القلوب، وأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم ولاية اليمن إلى باذان رضي الله عنه، وكان إسلام اليمن إضافة كبيرة جدا لقوة المسلمين، ولكن كسرى فارس الجديد شيرويه بن إبرويز مع أنه توقف عن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقف عن التفكير في عقاب رسول الله كما يريد أبوه، ولكنه لم يفكر في الإسلام أصلا، وبذلك تجمدت تقريبا العلاقات بين الدولة الإسلامية والدولة الفارسية إلى أن تحركت بعد ذلك بعدة سنوات في عهد الصديق رضي الله عنه عندما بدأت حركة الفتوح الإسلامية.
مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقُوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ.
رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملكي الحبشة والبحرين
كانت هناك ردود أفعال أخرى كثيرة، وأفضل هذه الردود جاءت من النجاشي ملك الحبشة، ومن المنذر بن ساوي ملك البحرين وقد أسلما دون تردد، أما النجاشي ملك الحبشة فقد أخفى إسلامه؛ لأن وضع الدولة النصرانية كان صعبا، لأنه لو أعلن إسلامه، فإن الشعب سيقتلعه اقتلاعا من كرسيه، وعندما ساند المسلمين قبل ذلك كاد أن يقتلع النجاشي من كرسيه، فلذلك أخفى إسلامه و آثر أن يساعد الدولة الاسلامية الناشئة في المدينة المنورة، وهو يعلن النصرانية في الظاهر ويبطن الإسلام، ولكن المنذر بن ساوى رحمه الله أعلن إسلامه، وأسلم شعبه وكانوا يدينون بعبادة الأصنام، ولكن يبدو أن المنذر بن ساوى رحمه الله كان قويا ممكنا في قبيلته، وكان محبوبا بين شعبه، وكان الناس تبعا لقائدهم كعادة العرب في ذلك الوقت، فزعيم القبيلة أخذ قرار الإسلام فأسلمت قبيلته وأسلم شعبه، ولكن الوضع في بلاد الحبشة يختلف فهو بلد نظامي كبير، وله تاريخ طويل فكان من الصعب على النجاشي أن يغير أفكار الناس كلها في
لحظة
واحدة، فكان هذا الوضع بالنسبة لملك الحبشة وملك البحرين، وقد كان هذا أفضل الردود.
ويأتي رد المقوقس ملك مصر من أفضل الردود أيضًا فقد أحسن استقبال الوفد الإسلامي، وأكرمهم بالهدايا إلا أنه لم يسلم، والحقيقة أننا نتعجب من عدم إسلامه، لأن المقوقس ذكر في رده لحاطب بن أبي بلتعة، أنه كان يعلم أن نبيا سيظهر في هذا الزمان، ولكنه كان يحسب أن هذا النبي سيظهر في الشام، أي كان عنده تهيئة نفسية لظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يسلم، بل إنه لم يفكر أصلا في التأكد من كونه نبيا أم لا، مع أننا نشعر أن المقوقس كان يعرف أنه نبي فعلا، وإلا ما أكرم سفارته وحمّلها بالهدايا، وهو ما كان يفعل ذلك الأمر مع كذاب يدعي النبوة، وخاصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لم تكن له قوة كبيرة أو بأس، ولم يكن يحكم دولة ضخمة يخشاها المقوقس، ويحتاج إلى مهادنته، بل على العكس كانت قوة مصر المادية أضعاف قوة المدينة المنورة في ذلك الوقت، ولكن على كل حال أكرم المقوقس وفد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك أثرا إيجابيا للدولة الإسلامية في كل مكان، وأكد على شرعيتها في النظام الدولي الجديد، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم، فهذا كان رد المقوقس، فقد رد بأدب وحمل حاطب بن أبي بلتعة بالهدايا، ولكنه لم يسلم.
رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صاحب اليمامة
وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم برسالة إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، ولم يرغب هوذة في الإسلام كدين، ولم يفكر أن يسلم، ولكنه في نفس الوقت شعر بقوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنبأ لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوسع والانتشار، ولذلك قرر أن يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرسل له برسالة قال فيها:
ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك.
فأراد هوذة مساومة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول قد قرر أن يعطيه ما تحت يديه من اليمامة إن أسلم، ولكن هوذة بن علي أراد أكثر من ذلك، ورغب كما رأينا في مساومة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يأخذ ملكا أكبر، وعلق إسلامه على هذا الشرط، والرسول دائما يرفض أن يطلب أحد الإمارة، ويرفض أن يعطي الإمارة لمن يطلبها، وكان يقول كما جاء في البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه: إِنَّا وَاللَّهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمنع الإمارة من الذي يطلبها، لأنه يعرف أن الذي يتولى الإمارة لن يعود ضرره عليه فقط، ولكن سيعود على كل من يقودهم، وأن من يطلب الإمارة مفتون بها، وسوف يضحي من أجل الإمارة، وليس من أجل الإسلام، ولو تعارض الإسلام مع استمراره في الإمارة فسوف يترك الإسلام ويتمسك بالإمارة، وهنا قد يتبعه قومه وتكون كارثة ومشكلة كبيرة، ومن ثَمّ كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعطي الإمارة لأحد طلبها، وعلق الرسول صلى الله عليه وسلم على موقف هوذة بن علي وقال:
لَوْ سَأَلَنِي قِطْعَةً مِنَ الْأَرْضِ مَا فَعَلْتُ.
ثم تنبأ له بالهلكة وقال:
بَادَ وَبَادَ مَا فِي يَدَيْهِ.
وبالفعل تحققت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحققت بعد أقل من سنتين، مات هوذة بن علي وفقد ملكه ولم يسلم قبل موته.
رسالة النبي صلي الله عليه وسلم إلى أمير دمشق
وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق، وكان هذا الرجل نصرانيا تابعا لهرقل قيصر الروم، وكان رده تقريبا مثل رد كسرى زعيم فارس فقد ألقى الخطاب، وقال من ينزع ملكي منى أنا سائر إليه، وبالفعل بدأ في تجهيز الجيوش؛ لكي يغزو المدينة المنورة، ولكن قبل أن يفعل ذلك أحب أن يستأذن هرقل، فبعث إليه برسالة، وتزامن وصول رسالة الحارث مع وصول رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وطلب هرقل من الحارث الانتظار، وقال له: لا ندري ماذا سيحدث بعد ذلك من الأحداث، وأمره ألا يرسل الجيوش وانصاع الحارث إلى أمر هرقل، ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم رد فعل الحارث قال: بَادَ مُلْكُهُ.
وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فما لبث أن مات، وباد ملكه تماما، بل دخل ملكه بعد ذلك في ملك المسلمين.
هذه كانت ردود الأفعال المختلفة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعالمين، وكما رأينا اختلاف رد الفعل من إيمان سريع إلى تفكير، ثم إسلام، إلى حياد مؤدب، إلى رفض للإسلام، إلى حرب للإسلام، إنها ردود مختلفة والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم، ونخلص من كل هذه الرسائل أنه ليس من واجب الداعية أن يفتح قلوب الناس للإسلام أبدا، ولكن واجب الداعية أن يصل إليهم بدعوته بيضاء نقية، ثم يفتح الله عز وجل قلوب من يشاء إلى الهدى والإيمان قال تعالى: [مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ] {المائدة:99} .
والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ رسالة ربه على أفضل ما يكون.
نظرة تحليلية إلى سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم
عندما ننظر إلى هذه المراسلات العظيمة، وإلي السفراء الكرام نظرة تحليلية، أولئك الذين اختارهم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يبعثهم إلى زعماء وأمراء العالم، سوف نلاحظ عدة ملاحظات توضح بُعد نظر الرسول صلى الله عليه وسلم وحكمته في اختيار هؤلاء السفراء.
1- كان السفراء من قبائل متعددة
لم يختر الرسول صلى الله عليه وسلم السفراء من قبيلة واحدة، ولم يكن هناك اثنان من قبيلة واحدة، وإنما كانوا من قبائل متعددة، فقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم
- عمرو بن أمية من بني ضمرة إلى النجاشي.
- وبعث العلاء بن الحضرمي من حضرموت إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين.
- وأرسل عبد الله بن حذافة من بني سهم إلى كسرى فارس.
- وأرسل دحية بن خليفة من بني كلب إلى قيصر الروم.
- وأرسل حاطب بن أبي بلتعة من بني لخم إلى المقوقس في مصر.
- وأرسل سليط بن عمرو من بني عامر إلى هوذة بن علي في اليمامة.
- وأرسل شجاع بن وهب من بني أسد إلى الحارث بن أبي شمر في دمشق.
وهذا الاختلاف كان يقصده رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه إشارة واضحة جدا من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كل المسلمين، سواء في المدينة، أو في خارج المدينة، وإلى كل العرب المراقبين للأحداث، وإلى كل دول العالم التي أرسل إليها السفراء، وإلى كل المحللين والدارسين للسيرة على مدار السنين وإلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، أن هذه الدعوة ليست قبلية بالمرة، بل هي تضم بين طياتها أفرادا من كل قبائل العرب، وهؤلاء السفراء كانوا بمثابة الصورة الجديدة المرجوة لهذه الأمة، فوحدة العناصر المختلفة على رباط واحد فقط وهو رباط العقيدة الإسلامية.
2- لم تمثل قريش في هذه السفارات إلا في صحابي واحد فقط
وهو عبد الله بن حذافة السهمي القرشي رضي الله عنه، وبقية السفراء جميعا ليسوا من قريش، وهذه إشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأصلح هو الذي يعطى العمل ويكلف بالمهمة بصرف النظر عن النسب، والمكانة العائلية والقبيلة، ومع ذلك فالجميع يعرفون أن قريشا هي أعلى العرب نسبا، ومن الممكن أن يقول لنا قائل إنه من الأصلح والأفضل أن نجعل السفراء كلهم من قريش حتى نرفع قيمتهم عند زعماء العالم، ولكن هذا كان سيترك رسالة عكسية سلبية، وهى أن السفارة لا تكون إلا في الأشراف، وهذا ليس صحيحا لأن الأكفأ والأفضل هو الذي يحمل الرسالة.
3- عدم وجود سفير من بني هاشم
فالتمثيل القرشي لم يكن فقط قليلا في هؤلاء السفراء، وإنما كان التمثيل في بني هاشم منعدما تماما، وهذا إشارة واضحة من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يجب أن تعطى المناصب الهامة إلا للأكفاء بصرف النظر عن قرابتهم أو علاقتهم بالقائد، لأن القائد المتجرد هو الذي ينظر إلى مصلحة الأمة لا مصلحة القبيلة، ويهتم بقضايا الشعب لا قضايا العائلة.
4- كان هؤلاء السفراء الكرام جميعا من المهاجرين
لم يكن هناك أنصاري واحد، وفى كل مواطن السيرة قلما تقلد أنصاري منصبا هاما، أو منصبا قياديا في الدولة الإسلامية، ولعل ذلك ليبقى الأنصار هم الرمز في المسلمين الذي يعطي ولا يأخذ، ولأن أهم سمة تميز الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم صفة (الإيثار) مثلما وصفهم الله عز وجل:
[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] {الحشر:9} .
لا بد أن يظل هناك مثل يؤثر على نفسه، وهو راض مطمئن، وهذا المثل كان الأنصار رضي الله عنهم أجمعين، فما نالوا من الدنيا شيئا يذكر لا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا مثالا رائعا للعطاء بلا حدود ودون تردد، فكان من الأفضل أن يظلوا هكذا رمزًا للإيثار، لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطهم السفارة ولا القيادة لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في البخاري عن أنس رضي الله عنه وأرضاه عن أسيد بن حضير قال: إن رجلا من الأنصار جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلانا؟
يعني فلان وفلان وفلان أعطوا الإمارة ألا تستعملني فقال صلى الله عليه وسلم يخاطب الأنصار عامة: سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يوصي الأنصار أن لا يبحثوا أبدا عن الإمارة؛ ليظل دائما هناك مثل الإيثار واضحا نقيا، فهذا تميز واضح عند الأنصار رضي الله عنهم، وليس معني ذلك أن المهاجرين كانوا يتطلعون إلى الإمارة أو يرغبون في السفارة، أبدا، بل على العكس فالمهاجرون قد باعوا الدنيا تماما، فهذه السفارات على شرفها إلا أنها خطيرة جدا، وقد يكون ثمن هذه السفارة حياة السفير، وسوف نرى استشهاد الحارث بن عمير رضي الله عنه وأرضاه علي يد شرحبيل بن عمرو الغساني، وكان هذا سببا لغزوة مؤتة.
نخلص من هذا الأمر أن الأنصار لم يكونوا يرغبون في السفارة ولا المهاجرون، ولكن يؤدي كل منهم ما يناسبه وكلٌ ميسر لما خلق له، والأنصار يقلون مع مرور الوقت، والناس حولهم يكثر عددهم مهاجرين وغير مهاجرين كما قال صلى الله عليه وسلم والحديث في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الْأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ كَمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعِامِ.
إذا ليس من الحكمة أن يتعود الناس علي قيادة الأنصار أو يظن الناس أن قيادة الأنصار لازمة، ثم بعد ذلك يفتقد الناس الأنصار لقلة أعدادهم، ولكن الأفضل أن يستمر في الإمارة والسفارة المهاجرون الذين تتزايد أعدادهم تدريجيا، ولهم مكانة كبيرة في قلوب العرب قاطبة، ودائما الأنصار يساعدون المهاجرين في حكمهم وقيادتهم تماما كما قال سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه يوم السقيفة قال مخاطبا المهاجرين: أنتم الأمراء ونحن الوزراء.
5- كان السفراء جميعا يتصفون باللباقة والكياسة والذكاء والدهاء وحسن الحوار
ورأينا ذلك من خلال حوارهم مع زعماء العالم فكانوا جميعا على قدر المسؤولية، وإنه من أَجَلّ النعم على الأمة أن يوسد فيها الأمر إلى أهله.
كانت هذه السفارات العديدة فعلا نقلة نوعية في خط سير الدولة الاسلامية، انتقلت فيه الأمة الاسلامية من المدينة إلى كل أقطار الأرض، ومن المحلية إلى العالمية، ومن انتظار الفرصة المناسبة للدعوة إلى المبادرة بإرسال الرسائل التي تحمل الدعوة إلى الإسلام إلى كل بقعة من بقاع العالم، إنها نقلة نوعية بكل المقاييس.
المصدر موقع قصة الاسلام