العدوان الكيماوي الاسباني على الريــــف المغربي
بقلم – جميل حمداوي
تقديـــــم:
تعد حرب الغازات السامة التي شهدتها منطقة الريف من أهم الحروب الكيماوية في تاريخنا المعاصر، حيث التجأت إليها إسبانيا بمساعدة حلفائها قصد القضاء على مقاومة عبد الكريم الخطابي التي كانت قد حققت انتصارا باهرا على القوات الفرنسية والإسبانية في معركة أنوال سنة 1921م وغيرها من المعارك البطولية. واستعملت الحكومة الإسبانية كل الغازات المحرمة دوليا بسبب الذل المهين وهستيريا الهزيمة ورغبة في رد الاعتبار المعنوي للإمبراطورية الإسبانية بعد أن منيت بعدة هزائم أثرت سلبا على قوة الجيش الإسباني عددا وعدة.
وقد ترتب عن قنبلة الريف كيماويا برا وبحرا وجوا من سنتي 1921م إلى سنة1927م مقتل الكثير من الريفيين، وتدمير البيئة بشمال المغرب،وتلويث المياه ، وتسميم الأجواء ، وجرح الكثير من السكان وإعطابهم باسم الحضارة الغربية والمدنية المتقدمة ضد سكان الريف الأصليين العزل الذين كانوا يدافعون عن سيادتهم وبلدهم وكينونتهم ودينهم وعرضهم وشرفهم ضد غزو العداة الألدة الذين قدموا إلى الريف من أجل استغلاله واستنزاف خيراته.
إذا، ما هي دواعي حرب الغازات السامة بالريف؟ وما سياقها التاريخي والمرجعي؟ وماهي أنواع الغازات المستعملة في الشمال المغربي؟ وماهي المراحل التي قطعتها هذه الحرب الكيماوية؟ وما نتائج هذا العدوان الكيماوي الغاشم على الإنسان والبيئة؟ وماهي الإجراءت التي يمكن اللجوء إليها لمحاسبة مرتكبي هذه الحرب الكيماوية تاريخيا وسياسيا واجتماعيا وقانونيا ومدنيا ؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نطرحها للدرس والمناقشة.
1/ تاريخ حروب الغازات السامـــة:
من المعلوم أن الغازات السامة الكيماوية استعملت لأول مرة في الحرب العالمية الأولى سنة 1917م من قبل دول المحور بقيادة ألمانيا ضد دول الحلفاء، وكانت الدولة المتضررة كثيرا بهذه الغازات الكيماوية هي بلجيكا القريبة من حدود ألمانيا، والتي لحقها أثر هذه السموم الكيماوية في 12 يوليوز 1917م. بيد أن الحلفاء اضطروا بدورهم إلى استخدام الغازات السامة ولاسيما فرنسا وبريطانيا للانتقام من ألمانيا التي خرجت من هذه الحرب منهزمة سنة 1918م. وترتب عن هذه الحرب أن قتل 1.300.000مواطن مدني وعسكري بسبب آثار هذه الغازات الكيماوية .
لذا، عقد مؤتمر الصلح بـﭭرساي سنة 1919م لإجبار ألمانيا وباقي الدول المشاركة في الحرب العالمية الأولى على توقيع وثيقة منع توظيف المواد الكيماوية أثناء الحروب، وتحريم استخدام الأسلحة السامة بشكل نهائي. وهذا ماقرره أيضا بروتوكول جنيف سنة1925م حيث نص على منع استعمال الأسلحة المحرمة دوليا أثناء اندلاع الحروب الإقليمية أو الجهوية أو الدولية. وهذا ما قرره كذلك اتفاق سنة 1972م الذي وقعته 131 دولة يمنع بدوره استخدام الأسلحة الكيماوية الغازية والجرثومية، كما عملت هيئة الأمم المتحدة ما بين 1992و1997م على منع استخدام هذه الأسلحة الخطيرة بواسطة ترسانة من القوانين الدولية.
بيد أننا نلاحظ انتهاكات جسيمة لهذه المواثيق من قبل الدول القوية على سبيل الخصوص على الرغم من تحذيرات المجتمع الدولي وصيحات المجتمع المدني، إذ استعملت بريطانيا هذه الغازات السامة في العراق سنة 1919م ، وفي الشمال الغربي من الهند في عشرينيات من القرن العشرين. كما استعملتها إسبانيا في حرب الريف بعد انهزامها في حرب أنوال سنة 1921م، وكثفت منها إلى غاية سنة 1927 م. والتجأت إليها فرنسا في قمع ثورات ضواحي فاس . واستعملتها الولايات المتحدة ضد اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية ، وضد ﭭيتنام هوشي منه في الستينيات من القرن الماضي، وضد العراق في حرب الخليج الأولى في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
أضف إلى ذلك، أن إيطاليا الفاشية استعملت هذه الغازات ضد الحبشة ما بين 1935و1936م ، واستعملتها اليابان ضد الشعوب الآسيوية وشعوب مستعمراتها ما بين 1937و1945م. كما التجأت إليها العراق في مواجهتها للجيوش الإيرانية وقمع ثورات الأكراد، واستخدمتها بقوة في مواجهة الأكراد بحلابجا ما بين 17و18 مارس 1988م، وأدت المجابهة إلى وأد 5 آلاف قتيل وجريح من سكان المدينة الذين يقدرون بـ60 ألف مواطن، ووظفتها إسبانبا وفرنسا في قمع ثورة وادي الذهب في الصحراء المغربية سنة 1958م، واستعملت هذه الغازات أيضا من قبل القوات المصرية في مواجهة مليشيات إمام بدر في الحرب الأهلية اليمنية، واستعملتها القوات الصينية الوطنية ضد القوات الصينية الشعبية .
ووظفت هذه الغازات كذلك من قبل قوات فراكو اليمينية ضد الجمهوريين اليسار إبان الحرب الأهلية ما بين سنتي 1936و1937م.
ولم تستخدم ألمانيا هذه الغازات السامة في الحرب العالمية الثانية؛ لأنها كانت تعرف جيدا أن حلفاءها الأقوياء يملكون هذه الغازات السامة بكثرة، فلو استخدمتها في حربها الميدانية العسكرية، فإن العواقب ستكون خطيرة جدا على التواجد الألماني والكينونة الجرمانية.
2/ الدراسات التي تناولت الغازات السامة بالريف:
قليلة هي الدراسات التي تناولت حرب الغازات السامة بالريف بالدراسة والمناقشة والتحليل بسبب سرية الملف وقلة الوثائق التاريخية التي احتكرتها السلطات العسكرية ووزارات الشؤون الخارجية الإسبانية و الفرنسية والبريطانية والألمانية. وتمنع هذه الدول الأربع كل نبش في وثائق وأرشيف هذا الموضوع ؛ لكونه موضوعا خطيرا وحساسا سيثير مجموعة من المشاكل السياسية والاجتماعية ناهيك عما سيولده من كراهية زائدة لدى العرب تجاه الأوربيين وهم في غنى عنها. وبالتالي، فإنه سيجعل حكومات هذه الدول في مأزق سياسي وموضع تساؤل تاريخي وقانوني ومدني. وقد يؤجج هذا الموضوع المؤرق الساخن فتيل العديد من المظاهرات الداخلية والخارجية، وقد يساهم في تفجير مجموعة من الاضطرابات المدنية والنزاعات السياسية، ناهيك عن توليد إحساس عدواني قد يضخم القضية، فيجعلها حربا دينية وحضارية دفينة على المستوى الشعوري واللاشعوري.
ومن الوثائق الشاهدة على استعمال إسبانيا الغازات السامة في حربها العدوانية ضد الريف ما كتبه الإسبانيون وحلفاؤهم من الألمان والبريطانيين والفرنسيين من وثائق شاهدة ضدهم من خلال اعترافهم الصريح بجرمهم اللاإنساني في حق السكان الريفيين الأصليين العزل باستخدام الغازات السامة وأسلحة الدمار الشامل.
فمن الإسبان، نستحضر شهادة رامون سيندر Ramon J.Sender في روايته ” إمان Iman” سنة 1930م التي أشار فيها الكاتب إلى مخلفات الحرب الكيماوية وأثرها على الجنود الإسبان في صراعهم مع الريفيين. وما كتبه أيضا ملاحظ الطيران العسكري بيدرو أوندا بوينو Pedro Onda Bueno في سيرته الذاتية:” La vida y yo/ أنا والحياة” سنة 1974م يحكي فيها عن قنبلة الطائرات الإسبانية للحقول الريفية بواسطة الغازات السامة الخطيرة. زد على ذلك، ما خططه إگناسيو هيدالگو دي سيسنيروس Ignacio Hidalgo de Cisneros في كتابه:” تغير الوجهة Cambio de Rumbo” ، حيث قدم مجموعة من الشهادات الخاصة بقنبلة الريف بالغازات السامة بواسطة طائرات فـارمان / Farman F.60.
ومن الدراسات الأخرى الحديثة التي تناولت حرب الغازات في الريف الكتاب الذي أصدره الصحفيان الألمانيان رود بيرت كونزRudibert Kunz ، ورولف دييتر مولر Rolf-Dieter Müller سنة 1990م تحت عنوان : ” حرب الغازات السامة بالمغرب، عبد الكريم الخطابي في مواجهة السلاح الكيماوي”،ودراسة الإسباني خواندو باندو Juando Pando:”التاريخ السري لحرب أنوال Historia secrita de Anual” سنة 1999م، ودراسة كارلوس لازارو أﭭيلا Carlos lazaro Avila في مقاله القيم :” الملاحة الجوية العسكرية الحديدية بالمغرب(1909-1927م) ، والمقال موجود في الكتاب الجماعي الذي صدر سنة 2001م بعنوان ” شركات المغرب 1909-1927م”، وكتاب أنخيل ﭭينياس Angel Vińas ” فرانكو وهتلر وانفجار الحرب الأهلية” سنة 2001م.
ولا ننسى ما كتبته أيضا ماريا روسا مادارياگا Maria Rosa de Madariaga بعنوان:” المغاربة الذين جلبهم فرانكو” سنة2002م، ودراسة البريطاني سبستيان بلفور Sebastian Balfour المعنونة بـــ ” العناق القاتل” الصادر سنة 2002 م، علاوة على المقالات التي كتبت بعد ذلك حول حرب الغازات من قبل أكناسيو شيمبريرو Ignacio Cembrero، وباكو صوطو Paco soto، ورشيد راخا، ومحمد الشامي، وميمون الشرقي، وأحمد الحمداوي، ومصطفى بن شريف ، وزكية داود ،وعلي الإدريسي، ومحمد بن عمر بن علي العزوزي الجزنائي، و عزالدين الخطابي، وجميل حمداوي…
3/ دواعي لجوء الإسبان إلى استعمال الغازات السامة:
من المعروف أن محمدا بن عبد الكربم الخطابي حقق كثيرا من الانتصارات على الجيش الإسباني في عدة مواقع نزالية كمعركة أظهار أوبران، ومعركة أنوال ، ومعركة جبل عروي، ومعركة سلوان، ومعركة الكبداني، ومعركة الناظور، ومعركة تزي عزة… وقد سبب المجاهدون الريفيون للجيش الأيبيري عدة خسائر مادية وبشرية ، فأثارت الرأي العام العالمي ، ثم أثارت الرأي العام الإسباني. وبعد ذلك، نوقشت تداعيات حرب الريف في المجالس الوزارية والحكومية وفي جلسات البرلمان الإسباني. وضغطت الصحف الإسبانية على الحكومة القائمة في عهد ألفونصو الثامن بضرورة توجيه ضربة قاضية للمقاومة الريفية للانتقام والتشفي من الريفيين، ورد الاعتبار للإمبراطورية الإسبانية التي مرغ شرفها في وحل منطقة الريف، ولو اقتضى الأمر في ذلك باستخدام الأسلحة المحرمة دوليا، ولو استلزم الموقف أيضا الاستعانة بتجنيد المتطوعين الأجانب في قنبلة جبال الريف كيماويا، واللجوء إلى الأسلحة الغازية السامة لإخماد شعلة ثورة الريف بأي ثمن كان.
ومن هنا، أعطيت أوامر من السلطات المركزية بمدريد باستعمال الأسلحة الغازية الفتاكة للقضاء على التهديد الريفي بصفة نهائية. وقد طلبت الحكومة الإسبانية المساعدة من فرنسا وألمانيا لتشييد معامل عسكرية عصرية متخصصة في إنتاج الأسلحة الفتاكة وتوليد المركبات الكيماوية الحربية. فأنشئ لذلك معملان أحدهما بمدينة مريوزا بإسبانيا، والثاني قرب مدينة مليلية بضاحية مارشيكا قرب بحيرة الناظور.
وابتداء من سنة 1921م، أصبحت إسبانيا تملك العديد من المدافع الغازية والطائرات الحاملة للقنابل السامة التي استوردتها من فرنسا. وتلقى أكثر من 300 جندي إسباني تدريبهم في فرنسا على كيفية استخدام الأسلحة السامة وتركيب القنابل كيماويا. بل هناك الكثير من الجواسيس والمهندسين الألمان الذين كانوا يزورون مدينة مليلية كل شهر ، وكانوا يسهرون على تسيير معمل الغازات السامة ويشرفون بأنفسهم على تأطير الجنود وعمال المصنع في عمليات التركيب والتوليد والإنتاج. واستوردت إسبانيا طائرات خاصة بحمل قنابل الغازات السامة من فرنسا وألمانيا والدانمارك، واستعانت بالطيارين المرتزقة الأمريكيين والفرنسيين والأوروبيين استعدادا لاستعمال الأسلحة الكيماوية في جبال الريف على نطاق شامل.
والدليل على رغبة السلطات العامة في استخدام الغازات السامة ضد الريفيين ما قرره المقيم العام بمليلية السيد برينكر أثناء حديثه الهاتفي مع وزير الحربية إيزا ، وقد أورده المؤرخ الإسباني خوان باندو Juan Pando في كتابه: ” التاريخ السري لحرب الريف” في شكل حوار يعبر عن وحشية السلطات العسكرية الإسبانية:
” يوم الثاني عشر من غشت(1921م)، جرى اتصال تلغرافي آخر بين كل من الوزير إيزا وبرنكر. أما ميان استراي فكان متواجدا بمكتب الوزير، إذ ذهب إلى (بوينابيستا) ليطلعه على آخر الأنباء بمليلية، وجاءت نهاية المحادثات على هذا النحو:
الوزير: وبشأن المدفعية التي يشغلني أمرها كثيرا، أود القول بأن كل الطلبات طور الإنجاز، كما قمنا كذلك بشراء عربات مصفحة ومدرعات، ومواد تستخدم في تركيب غازات خانقة ستحضر هناك في مليلية.
المقيم العام: كنت دائما أعارض استعمال الغازات السامة ضد هؤلاء الأهالي، الآن وقد خدعونا وبعد تصرفاتهم المشينة معنا، فسنستعملها ضدهم بكل سرور.
الوزير: وفيما يخص الغازات، فقد فكرت في تشييد مصنع في مليلية، ولك أنت أن تتدبر كيفية استعمالها وتنفيذها، هذا هو كل شيء. وداعا الآن ولك مني أحر السلام.
المقيم العام: صدقني، سأستعمل هذه الغازات.أتركك الآن مع أطيب التحيات”.
لم يشعر برنكر بصفته مقيما عاما أن أهدافه تحققت كاملة. لكن الكبريت والفوسجين، وهي نفس الغازات التي استعملها الألمان في حروبهم سنة 1915م، كانت في طريقها إلى المغرب.”
يتبين لنا بأن استعمال الغازات السامة في حرب الريف استوجبته الهزيمة النكراء للإسبان في معركة أنوال التي حقق فيها البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي انتصارا ملحميا كبيرا بواسطة فئة قليلة من المجاهدين على جيش إسباني نظامي مؤهل عسكريا عددا وعدة ليخوض كل حرب نظامية حديثة.
وعليه، فقد أعدت إسبانيا كل مالديها من قوة بشرية ومالية ومادية وما تتملك من ترسانة من الأسلحة الحديثة الفتاكة لدحر المقاومة الريفية الإسلامية قصد الانتقام من المجاهدين الريفيين الأشاوس عن طريق إيجاد470 طن من الغازات الكيماوية السامة و530 طائرة مصنوعة في فرنسا وألمانيا والدانمارك ، يقودها طيارون متطوعون مرتزقة من أوروبا وأمريكا الشمالية.
4/ أنواع الغازات السامة المستعملة في حرب الريف:
استعمل الإسبان في العدوان الكيماوي ضد الريف العديد من الغازات السامة والمواد الكيماوية الجرثومية برا وبحرا وجوا. كما استخدمت الطائرات الخاصة لرمي السموم الكيماوية بالريف لأول مرة في التاريخ العالمي، بعد أن كانت تستعمل برا بواسطة المدافع والرشاشات الغازية.
ومن الغازات الموظفة في حرب الريف نذكر: غاز اللوست (غاز الخردل أو الأبرايت أو الأصفر) الذي كان له آثار تدميرية قوية في الريف وتأثيرا سلبيا على صحة المواطنين وبيئتهم. كما استخدم الإسبان الكبريت، والكاربونت، ومادة الكلوروبكرينا Cloropicrina، وغاز لاكريموجين lacrymogènes، وغاز الدك، وغاز BN ، والفوسجينfosgeno ، والإببريت l’ypérite، والكلور، والأوكسول، والفوسفور الأصفر، والإلكترون وهو مزيج من المغنزيوم والألومنيوم.
هذا، وقد قال المهندس الألماني شتولتسبرغ المشرف على تصنيع الغازات السامة بإسبانيا سنة 1924م عن غاز اللوست:” إن واحدا على خمسمائة1/500 من نقطة غاز اللوست تكفي لتوفير شروط تعفن اللسان الذي يؤدي إلى الموت”
وقد أشار خوان باندو أيضا في كتابه :” التاريخ السري لحرب الريف ” إلى مجموعة من الغازات السامة التي كانت تركب بطريقة كيماوية مهجنة ، وكان لها تأثير سلبي وخطير على صحة الريفيين وبيئتهم الطبيعية الفطرية:” في تركيبة تعتمد أساسا على كبريتور- كلور، ولدت هذه الغازات السامة تشكيلة مميتة، إذ إن تأثيراتها كانت خطيرة جدا، فهي تستهدف الغشاءات المخاطية للخلايا التنفسية فتدمرها،محدثة بذلك اختناقات حادة ،وبالتالي، الموت. أعراض تجلت في ظهور(قروح) خطيرة على الجلد، أو التسبب في العمى الجزئي أو الكلي.
هذا ، وقد كانت اتفاقيات لاهاي الموقعة ما بين عامي 1899و1907م (التي وقعت عليها إسبانيا في عهد الملك ألفونصو) لتؤكد على هذا الخطر. لكن اليأس الذي تسببت فيه مجازر الإسبان في كل من أعروي ، والكبداني، والناظور، وسلوان، قضى على كل أشكال الحواجز الأخلاقية التي تمنع استعمال هذه الغازات”.
وكانت القنابل التي ترمى على الريف تزن 20 كلغ ، و50كلغ، و100كلغ، وتترك آثارا تدميرية مروعة عبر مسح العديد من الكيلومترات المربعة، أي إن كل قنبلة تدمر 2500م2. وتحملها طائرات مستوردة من فرنسا وألمانيا والدانمرك كطائرة كولياث Goliath، وطائرة فارمان FarmanF-60، وبريگيت Breguet XIV ، وDH-9 ، و DH-4.
وتنطلق هذه الطائرات في إقلاعها وتحليقها قصد القنبلة والتدمير من مطارات الناظور(تاويمة)، وتطوان، والعرائش، وتستخدم الغازات المصنعة بمليلية ، أوالمحملة بالسفن إلى مدينة سبتة، أو المصنعة بمعمل بلامر إينوسا بمدريد.
وقد :” بلغت كمية غاز(اللوست) المحصل عليها من طرف إسبانيا 110طن استعملت لمفردها لقنبلة القرى الريفية؛ مما خلف المئات من القتلى من جراء الاختناقات والإصابة بتسممات جماعية وحروق مختلفة في الجلد وقروح على مستوى المعدة والأمعاء والتهابات مزمنة في الحلق والأنف وعلى مستوى الجهاز التنفسي بالإضافة إلى التشويهات الجسمانية والإصابة بالعمى، كما اجتاح الريف صيف 1925 وباء التفويد الذي أهلك العديد من السكان وكان له دور مباشر في تهجير قرى بأكملها، ويعود السبب في ذلك إلى استعمال الغازات السامة الملوثة، حيث زاد جهل الناس بطبيعة هذا الغاز وقدرته على الانتشار في حصد المزيد، فهو ذو خاصية شديدة الالتصاق بكل مايحيط به من الملابس والمواد الغذائية ومحيط المنزل، ويسبب ضعفا وهزالا شديدين وعياء ملازما.”.
ولتفادي هذه الغازات السامة الخطيرة، التجأ الريفيون إلى الكهوف والمغارات والمخابئ، فنلفي من كان يختار الهجرة إلى الشرق أو الغرب أو الجنوب، و من كان يستعمل الكمامات الوقائية التي اشتراها محمد بن عبد الكريم من الفرنسيين عبر التهريب أو المتاجرة كما تبين ذلك الوثيقة التي وردت على لسان حمو بن حدو ممثل محمد بن عبد الكريم على المستوى الخارجي الذي استشار الأمير في شراء مجموعة من الكمامات الوقائية من وهران لاستعمالها وقاية من الغازات السامة التي سيستخدمها الأعداء ضد الريفيين بكثافة بعد هزيمتهم بأنوال. وهناك من كان يداوي قروح هذه الغازات السامة بوسائل الطب الشعبي التقليدي ، وهناك من كان ينفذ تعليمات الأمير في تفادي هذه الغازات السامة عن طريق اتخاذ مجموعة من التدابير الوقائية.
بيد أن إمكانية الهرب :” هي الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام القبائل الريفية والاختباء في مغاور تحت الأرض عند كل عملية قصف، ويزيد تناثر الغازات وانتشارها في الهواء بسرعة، في انتقاله إلى مساحات واسعة. بالرغم من توفر المجاهدين على وحدة صحية ومعدات طبية حصلوا عليها من غنائم أنوال سنة 1921، فإنها غير قادرة على تحقيق غرض العلاجات لأن الإصابة بالغازات تحتاج إلى معالجة فائقة العناية والدقة؛ ويضطر الأهالي إلى الاستعانة بمواد طبيعية وتقليدية مثل الأعشاب للتداوي بها. وصب الزيت الحار على الجروح للحد من تعفنها.
أمام هول الكارثة وازدياد عدد الجرحى بالإصابات الخطيرة، اضطرت الحكومة الريفية صيف 1925 إلى طلب المساعدة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر بجنيف للتدخل بشكل مستعجل لتوفير الإعانة الطبية لصالح ضحايا الغازات الخانقة. لكن دون أن يؤخذ الأمر بمحض الجد.”
وإلى جانب الغازات المذكورة سابقا، كثفت إسبانيا من استعمال غاز الأكسول الذي تسلمت منه 20 طنا من ألمانيا على وجه السرعة لقنبلة الريف ومحاصرتها عسكريا وتطويقها من جميع الجهات لإرغامها على الاستسلام والخنوع بعد أن تضآلت فعالية الغازات السامة الأخرى التي استخدمت في صد المقاومة.
وعلى العموم، فإن:” ضخامة حرب الريف وحجم استعمال أسلحة الدمار الشامل فيها وخاصة الأسلحة الكيماوية من غاز الخردل عبر قنابل الكاربونت والإلكترون انطلاقا من 533 طائرة وبحجم 400 طن من غاز اللوست، حيث وصل حجم القنبلة الواحدة ما بين 20 إلى 100كلغ، يعد من أخطر الجرائم التي تدخل في حرب الإبادة الجماعية.”
ومن هنا، فإننا نسجل بأن إسبانيا والدول التي تحالفت معها قد ارتكبت جرما تاريخيا كبيرا وخطأ عسكريا فادحا لايغتفر عندما التجأت إلى استعمال الغازات الكيماوية وأسلحة الدمار الشامل للقضاء على المقاومة الريفية التي كانت مقاومة مشروعة في مبادئها وأهدافها تدافع عن سيادتها وكينونتها وخيراتها. وبذلك، دخل الريف سجل الأمجاد والبطولات الشريفة، في حين دخلت إسبانيا وحليفاتها سجل الإجرام الكيماوي ضد الإنسانية قاطبة.
5- مراحل حرب الغازات السامة بالريف :
مرت حرب الريف بمرحلتين أساسيتين: مرحلة استعمل فيها الأعداء الأسلحة المرخصة دوليا كاستعمال الدبابات والمدافع والرشاشات والمدرعات والطائرات والسفن الحربية المدمرة. وقد بدأت هذه الفترة من سنة 1914م إلى سنة 1921م مع انهزام الإسبان في معركة أنوال المظفرة. كما تلقت إسبانيا في هذه المرحلة عدة خسائر بشرية ومادية في عدة مواقع حربية كجبل العروي، وكبدانة، وسلوان، وأظهار ءوبران، والناظور…مما أثر سلبا على معنويات الجيش الإسباني ، وكانت لها أيضا انعكاسات وخيمة على الرأي العام الإسباني وحكوماته المتعاقبة.
ويعني هذا أن المقاومة الريفية في هذه المرحلة حققت انتصارات فائقة على قوات العدو عددا وعدة، وأسرت الكثير من الأسرى بمافيهم الجنرال نيفارو، واستطاعت المقاومة الريفية أن تحصل على غنائم كثيرة على مستوى العدة العسكرية، إذ حصلت على الكثير من الرشاشات والدبابات من مختلف العيارات فضلا عن الأسلحة الحديثة تقنيا بما فيها : البنادق، والطائرات، والسفن، والمدرعات، والمصفحات، والقنابل، ورصاص البنادق، والمتفجرات بمختلف أنواعها…
بيد أن ظروف الحرب ستتغير من سنة 1923م إلى غاية 1927م، إذ ستستعمل القوات الغازية الأسلحة الكيماوية الفتاكة والغازات السامة في مجابهة الريفيين للقضاء على المقاومة الريفية بشكل نهائي وإبادة السكان إبادة جماعية ليسهل على المحتل الاستيلاء على منطقة الريف قصد استغلالها استغلالا شاملا.
ولم يكن هذا التنفيذ إلا إرضاء للضغوطات السياسية والإعلامية وانتقاما من الريفيين الذين حققوا انتصارات مظفرة على حساب الكتائب الإسبانية في الكثير من مناطق الريف:” فأمام وحشية الحرب التي كان الطرفان المتنازعان، بشق النفس يحصلان فيها على الأسرى، وأمام التماطل والتأخير في تكوين جيش قادر على القتال ومداهمة الجبهات بقوة، وأمام عجز القيادات ومعاناة الجيش، طلب البرلمان استعمال الغازات السامة. وبهذه العبارات كان الحديث يجري بين كل من سولانوSolano وكرسبو دي لارا. Crespo de Lara
جاء الطلب على هذه الغازات في العشرين من غشت 1921م، وهو نفس التاريخ الذي طلبت فيه غازات سامة لشحن القنابل والمتفجرات المناسبة. لكن المواثيق الدولية أجهضت هذه المحاولة ، فمرت سنتان”.
وابتداء من سنة 1923م، ستقرر إسبانيا بناء معملين لتصنيع الأسلحة السامة والمواد الكيماوية ، الأول في :” سان مارتين دي لافيغا (في الجنوب الشرقي لمدريد)، أطلق عليه اسم” ألفونصو الثالث عشر”. لكن وأمام ضعف الإنتاج، تم ربط الاتصال بمجموعة ستولزينبرغ Stolzenberg الألمانية، التي اقترحت تصنيع الكبريت بمليلية بطريقة تقليدية، تعتمد على معالجة المادة الأولية- ديجلكتول- بحامض الهيدروكلوريك. وتمت العملية بشراء أطنان من الديجلكتول، كانت الوحيدة من نوعها في العالم بأسره، وتم تهريبها من ألمانيا. كل هذه الأنباء والمعطيات وردت في برقية عثر عليها بين وثائق رومانوس. أما عن المصنع الذي كان إيزا يريد بناءه بمليلية، فقد تأتى له ذلك. فالمصنع حسب خريطة أنجزتها شركة مناجم الريف للمنطقة سنة 1934م بسلم 1/20.000 كان يقع بموازاة الخيمة الثانية، في الكيلومتر7.400 من الطريق المؤدية إلى الناظور، وسمي بشكل واضح بمصنع الغازات.”
وقد شاركت في قنبلة الريف كيماويا مجموعة من الطائرات الحديثة الخاصة بحمل القنابل الغازية الثقيلة من حجم 50كلغ، و100كلغ، يقودها كما قلنا سابقا طيارون مرتزقة من الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا وألمانيا. ويتضح هذا الأمر جليا من خلال ماجاء في تقرير لطيارين ألمانيين كانا قد شاركا إلى جانب الجيش الإسباني في حرب الريف يوليوز 1925م، ” عندما ظهرت الحالات المرضية الأولى ، الناجمة عن القصف بواسطة قنابل الغاز(اللوست) من دون أن يتمكن سكان الريف من الوقوف على أسبابها الحقيقية، ظهر لدى القبائل التي تعرضت للقصف الجوي ميل واضح للهجرة، إلا أنه(محمد بن عبد الكريم ) كان قد وجه إليها نداء يحثها فيه على اتخاذ مجموعة من التدابير الوقائية المضادة للغازات التي تستعمل فيها الغازات السامة”.
من هنا، نستنتج بأن دولتي فرنسا وألمانيا لم تلتزما باتفاقية فرساي لسنة 1919م التي كانت تحظر استخدام الأسلحة الفتاكة ، فالتجأتا إلى بيعها لإسبانيا قصد استعمالها بطريقة تجريبية مخبرية في جبال الريف ، بعد أن استعملت بضراوة في الحرب العالمية الأولى سنة 1917م.
وعلى الرغم من تردد ألمانيا وفرنسا في بداية الأمر بتمرير صفقة بيع هذه الغازات إلى إسبانيا، فإنهما ، بعد ذلك، قبلتا بتنفيذ الصفقة في إطار حرب براگماتية عنصرية صليبية للقضاء على المقاومة الريفية الإسلامية لتحقيق مصالحهما المادية.
ومن ثم فقد سجل التاريخ العسكري الحديث ، يقول الدكتور علي الإدريسي، :” بأن إسبانيا وفرنسا الموقعتين على معاهدة تحريم استعمال الغازات السامة في الحروب، أصبحتا أول دولتين في العالم تدشنان الحرب بالغازات الكيميائية عن طريق الجو بالطائرات، وبشكل ممنهج يرمي إلى تلويث المنطقة تلويثا شاملا بالغازات، خاصة وأن المختصين في آثار الغازات وتأثيرها أقنعوا القيادة الإسبانية أولا، ثم القيادة الفرنسية ثانيا، بأن منطقة الريف ذات التضاريس الوعرة، هي أكثر ملاءمة لإستراتيجية التلويث، لأن مفعول الغازات السامة بالوهاد والوديان يدوم مدة أطول من تلك التي يستغرقها بقاؤه بالأرض المنبسطة التي تبعدها الرياح عنها بسرعة.”
وقد ترتب عن ذلك أن تعرضت أماكن كثيرة بشمال المغرب لهذه الغازات السامة بما فيها الناظور، وتمسمان، والحسيمة، وبني ورياغل، وتارگيست، وشفشاون، وتطوان، وطنجة ، والعرائش. بيد أن المناطق التي تلقت ضربات غازية كثيرة هي مناطق القيادة ببني ورياغل وتمسمان . ويعني هذا أن القنابل الكيماوية كانت هادفة وانتقائية تختار أماكن المقاومة والقيادة العسكرية والأسواق العامة.
وتعد تيزي عزى المنطقة الريفية الأولى التي تلقت هجوما عنيفا بالأسلحة الغازية السامة المحظورة دوليا بعد أن أظهرت تيزي عزى مقاومة شرسة كادت أن تقضي بشكل نهائي على القوات الإسبانية: ” وجاء هذا القرار الدموي بعد الاستيلاء على تيزي عزى، جنة الريف، فتبددت كل المخاوف، ففي يوم الخامس عشر من يوليوز 1923م، تحدث لويس سيلفيلا الذي كان وزيرا سابقا للبحرية، وآنذاك مقيما عاما على أيثبورو Aizpuro ، إن الرعب الذي أحدثته سابقا التجارب البسيطة التي تمت في تيزي عزى باستعمال قذائف المدفعية، وطلب سيلفيلا بانعقاد اجتماع غدا بمجلس الوزراء، والعمل على حل الملف العالق، والذي يخص شراء وإرسال خمسة آلاف من قنابل الغازات السامة. وبعد التشاور مع الجنرالين كاسترو جيرونا ، ومارتينيث أنيدو،اعتبر سيلفيلا أن الحل السريع يكمن في استعمال هذه الوسيلة، وستسمح هذه المبادرة بإنقاذ حياة رجالنا. وكيفما كان الحال فهذا أفضل من أن يروع الرأي العام بمنظر اشتباكات دامية.”
واستعملت هذه الغازات السامة في التجمعات الكبرى كالأسواق كما وقع في سوق شفشاون،وأسواق غمارة حيث تسببت غارة واحدة أو غارتان في عمي أكثر من 80 فردا. وأطلقت الطائرات على سوق الأربعاء توريرت بوادي نكور بآيت ورياغل غازات سامة من نوع الإيبريت ضمن 100 قنبلة من 20كلغ C5. ودمرت كذلك بهذه الغازات السامة قرى بني زليعة وواد لاو في ناحية غمارة. ويعني هذا أن إسبانيا استعملت هذه الغازات السامة ضد الريفيين وضد جبالة، وضد بني عروس الساكنين بمحاذاة مدينة طنجة وتطوان.
ولم تنته إسبانيا من إطلاق هذه الغازات الكيماوية إلا في سنة 1927م عندما أعلن الجنرال سان خورخو Sanjurjoمن باب تازة بشكل رسمي نهاية الحرب في منطقة الريف.
6- نتائج العدوان الكيماوي:
كان للعدوان الكيماوي على الريف نتائج بشرية واجتماعية وعسكرية وبيئية وصحية ونفسية وأخلاقية.
ففيما يخص النتائج البشرية، فقد ساهمت هذه الغازات السامة في قتل أكثر من 3000 قتيل برا وجوا وبحرا، كما أثبت ذلك محمد سلام أمزيان صديق عبد الكريم في القاهرة. ولم تقتصر هذه الغازات على إبادة الريفيين فحسب، بل أصابت حتى الجنود الإسبان بسبب الرياح التي كانت تجري عكس مايشاؤون، أو أثناء تحطم طائراتهم بفعل الأخطاء التقنية والضربات المضادة من قبل المجاهدين ، ومن أمثلة ذلك ما وقع بمطار تاويمة بالناظور، وما حدث من تسربات غازية مرات كثيرة داخل مصانع الغازات الكيماوية.
وقد دفعت هذه الغازات السامة على المستوى الاجتماعي كثيرا من الريفيين إلى هجرة منازلهم وقراهم وحقولهم ليتجهوا نحو الجزائر، أو إلى المناطق الغربية القريبة كتطوان وطنجة والعرائش، أو إلى مناطق النفوذ الفرنسي كفاس ومكناس ووجدة وبركان.
أما فيما يتعلق بالنتائج العسكرية، فقد أدت هذه الغازات السامة إلى عرقلة المقاومة الريفية والتأثير على ميزان المعركة بعد أن كان الانتصار حليف الريفيين، فباستعمال المواد الكيماوية تغيرت الكفة لتكون من حظ الأعداء الغزاة؛ لأن المجاهدين الريفيين لم يستطيعوا أن يقفوا في وجه هذه الغازات السامة التي كانت تسمى عندهم بلفظة ” أرهاج/ السم”. ” وقد ساهمت هاته الضربات في إضعاف المقاومة الريفية وبث الفزع في صفوف الأهالي الريفيين خصوصا بعد أن تكثف القصف الجوي، الذي كانت تقوم به أسراب من طائرات القوتين الحليفتين، والتي كانت تلقي بالغازات السامة والمحرقة، فتلحق أضرارا مهولة بكل ما هو حي”.
ومن ثم، يعود فشل ثورة عبد الكريم الخطابي واستسلامه إلى الاستخدام المكثف للأسلحة الكيماوية الخطيرة في كل مناطق الريف من الناظور شرقا إلى طنجة وتطوان غربا مرورا بالحسيمة وترگيست . وفعلا ، فقد أخمد غاز اللوست الثورة الريفية بعد أن استلمت” إسبانيا 110 طن من غاز الإيبريت(اللوست) لاستعمالها في حرب الريف، فتم لها بذلك القضاء على التمرد الريفي”.
وإذا انتقلنا إلى النتائج الصحية، فقد سببت هذه الغازات السامة في قتل الكثير من الريفيين وتشويههم عضويا وإصابتهم بالعمى واسوداد جلودهم، وإصابتهم بمرض السرطان، فقد صرح أطباء الإنكولوجيا بأن 50% من مرضى السرطان بالمغرب من منطقة الريف ، وأغلبهم من الأطفال والنساء والعجزة.
وقد نتج عن الغازات المستعملة من قبل الأعداء في سقوط الشعر، وتساقط الجلد بفعل الحرائق الفسفورية، وكثرة الحروق، وارتفاع درجة الحمى، والإصابة بالأوجاع المعوية، والتأثير سلبا على الجهاز التنفسي بمافيه الصدر والفم والأنف، بله عن الأجهزة العضوية الأخرى كالجهاز الدموي والجهاز التناسلي والجهاز الهضمي.
وكان الريفيون يداوون هذه الأمراض الناتجة عن المبيدات الكيماوية باستعمال الزيت الحار، والنباتات التقليدية واللجوء إلى الطب الشعبين ولكن بدون جدوى ولاهدف.
كما كلفت أمراض السرطان الناتجة عن هذه الغازات السامة خزينة المغرب مصاريف مالية باهضة ، كما يتجلى ذلك واضحا في استيراد أدوية مكافحة السرطان الغالية الثمن، وتكوين الأطباء الأنكولوجيين في الخارج، و بناء مستشفيات خاصة بمداواة مرض السرطان في المدن المغربية كالرباط، وجرادة، ووجدة،وغيرها من المدن بفاتورات مالية ضخمة.
أما النتائج البيئية لهذه الحرب الجرثومية الكيماوية، فتتمثل في تلويث البيئة، وتدمير السبل باللوست والأدخنة الغازية الصفراء، وتسميم المياه والأجواء والهواء، والقضاء على المزروعات والثمار، وإحراق الغلات المزروعة، وتخريب البنيات التحتية، وتجفيف النباتات الخضراء. وبهذا، كان لغاز اللوست تأثير خطير على البيئة وجميع مكوناتها النباتية والمائية والحجرية والحيوانية . فنتج عن هذا أن كثرت العقارب المسمومة في الريف والحشرات الجرثومية :” ومايزال غاز اللوست أو الكبريت أو غاز دقة الخردل، مستعملا حتى أيامنا هذه ، كسلاح ذري ذي فعالية قصوى، وكغاز حربي ممتاز على المستوى الميداني، ملائم تماما لتلويث التربة والنباتات والطرق والمواد الغذائية(كما يتضح ذلك من خلال استعماله في الصراع الإيراني- العراقي). وينفذ السائل الغازي عبر كافة أنواع الألبسة العادية كالقماش والجلد، بل وحتى الكاوتشوك، كما يلتصق بالخشب والمعدن… وتتميز عملية التخلص من التسمم الذي يحدثه بصعوبات كبيرة. كما يحدث غاز اللوست، بعد ملامسته للجلد بساعات قليلة، نفاطات وأوراما مبرحة، تتميز بصعوبة برئها، وتؤدي إلى الموت في الحالات المستعصية منها. كما تتسبب سحب ذلك الغاز في العمى المؤقت أو الدائم، وتلحق ضررا بليغا بالمسالك التنفسية، وتشكل في كل الحالات خطرا محدقا بالحياة”.
وقد أصبحت الأمراض السرطانية تنتقل وراثيا وجينيا عبر تواتر الأجيال ، وتنتقل من البيئة الحيوانية والنباتية والهوائية إلى الإنسان عبر العصور من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد.
أما على المستوى النفسي، فقد سببت الغازات السامة والمبيدات الكيماوية في كآبة قاتلة ، و إذكاء التهيج العصبي، وإثارة كثرة الانفعال وسرعة رد الفعل، مع الميل إلى العنف، وتلقي الصدمات النفسية المؤثرة،والجنوح نحو الخمول التام ، والعزلة التامة، وتفشي الحزن النفسي، والخيبة الدائمة، ناهيك عن الإحساس بالغربة والوحدة عند الكبار والصغار على السواء بسبب اليأس من الواقع والحياة، واسترجاع الذاكرة، وتكرار سرد الأحداث تخييلا ولعبيا مع اللجوء إلى الصمت ولحظات التأمل، والإحساس بالقلق. أما المشوهون والمعطوبون فيحسون بالنقص، والهروب من الآخرين، وبالتالي، يشعرون بالعجز . لذا، يتلذذون بالوحدة والإخفاق والفشل والهذيان والعصاب النفسي، ويحسون أيضا بالخوف واقتراب الموت أثناء منامهم وارتياد أحلامهم.
وقد حدد الدكتور أحمد الحمداوي المتخصص في علم النفس المرضي مجموعة من الانعكاسات النفسية والإجرامية للسلاح الكيميائي على سكان الريف كالخوف الكثير، والشعور بعدم القدرة، والإحساس بالفزع، والرعب،والإثارة المفرطة، والحلم المتكرر للحدث، والإحساس بالضيق، وظهور انطباعات أو تصرفات مهيجة مفاجئة، وبلورة شعور الابتعاد عن الآخرين، وبلورة شعور عدم الاستثمار النفسي مثل: عدم القدرة على بناء المستقبل والنجاح في مهمة من المهام، ومشاكل الانخراط في السير العادي للحياة.
ومن النتائج الأخلاقية لهذه الحرب الموبوءة أن دولة إسبانيا والدول الحليفة معها دول همجية متوحشة لا حضارة لها ولا أخلاق ، وما تدعيه من مدنية وازدهار تقني لاتستفيد منه سوى شعوب هذه الدول المتغطرسة، والباقي هم عبارة عن رعاع وهمج دون مستوى العرق الأوربي. وفي هذا السياق يقول محمد بن عمر بن علي العزوزي الجزنائي:” من أعمال الإسبانيين السيئة التي لاتقبلها أي شريعة في الأرض، استخدامهم للغازات السامة ضد قرى الريف، وهي فضائع جنتها أيدي الإسبانيين كما اعترف بذلك رئيس وزرائهم حينذاك: (بريمودي ريفيرا)، والعقيد( فرانساشكو فرانكو) قيل: إنهما ندما على ذلك، يحملون أشد الكراهية لهؤلاء الغزاة، وأشد من ذلك، وأدهي وأمر، إنهم كلما قتلوا ريفيا، إلا وقطعوا أذنيه وأنفه، وحملوه معهم كعربون، وهو عرض لهمجية الغزاة( والذين لاأخلاق لهم)” .
بيد أن الإسلام وديننا الحنيف حرم استعمال الأسلحة السامة والمبيدات الكيماوية وتخريب العمران وتلويث المياه وتسميمها وحرق المزروعات وقتل الشيوخ والعجزة والأطفال والنساء مهما كانت دواعي الحروب وسياقاتها.
7- إجراءات المحاسبة والمعالجة:
بعد هذا العرض الوجيز حول عبد الكريم الخطابي وحرب الغازات السامة، لابد من التعريف بهذه القضية دوليا وإعلاميا عن طريق النشر الورقي والرقمي، والإكثار من الندوات من أجل تنوير الرأي العام العالمي والمغربي على حد سواء بهذه القضية الخطيرة التي نعتبرها تعديا على حقوق الإنسان الأمازيغي واستعمال أسلحة محظورة دوليا ضد شعب يدافع عن استقلاله وسيادته وحريته.
ومن هنا، لابد من الضغط على إسبانيا وفرنسا وألمانيا للاعتراف بما ارتكبته في حق الريفيين من مجازر لا إنسانية باسم المدنية والتحضر بإشعال حرب كيماوية ضد شعب أعزل ، هذه الحرب الفظيعة التي حرمتها مواثيق جنيف ومؤتمر ﭭرساي وهيئة الأمم المتحدة.
ونطالب إسبانيا وفرنسا بتعويض أهالي الريف ماديا ومعنويا، وإنشاء مؤسسات صحية أنكولوجية في منطقة الريف، والاستثمار اقتصاديا واجتماعيا في هذه المنطقة قصد تحقيق تنمية بشرية شاملة.
وهناك خطوات وإجراءات لابد من القيام بها للضغط على هذه الدول المتغطرسة، منها: مداولة قضية حرب الغازات السامة على مستوى منطقة الريف عن طريق عقد ندوات مكثفة على المستوى المحلي والجهوي والوطني كما هو شأن ندوات جريدة العالم الأمازيغي التي يشرف عليها رشيد راخا، وأمينة بن الشيخ، ومحمد الشامي… ، واستحضار المؤسسات الجمعوية والحقوقية التي تهتم بهذه القضية كجمعية إلياس العمري بالحسيمة، ومؤسسة محمد بن عبد الكريم الخطابي بنفس المدينة التي تعتبر أن :” مسؤولية الدول التي كانت وراء استعمال الغازات السامة بالريف، مسؤولية جنائية ومدنية، وهي مسؤولية ثابتة لاغبار عنها، فإسبانيا، مثلا، لم تكتف بتدمير كيان الريفيين، بل سلمت الريف بعد سنوات من استغلال خيراته وموارده إلى العصابات الحزبية التي ارتكبت جرائم سياسية واقتصادية، لازال الريف يعيش على وقعها، والمطلوب من إسبانيا اليوم، ليس الاعتراف بجرائمها في الريف فحسب،بل تقديم اعتذار رسمي للريفيين، وتوفير الشروط الضرورية لتحقيق المصالحة التاريخية بين شعبين جارين، وذلك بالمساهمة في تنمية الريف الذي لازال يكتوي بسياسات الحصار والتهميش والتهجير، وعلى المغرب الرسمي أن يتعامل بجدية مع الموضوع، وأن يفسح المجال أمام المجتمع المدني للضغط على إسبانيا، عوض تلجيم دور هذا الأخير، كما حدث في السابق مع جمعية الدفاع عن ضحايا حرب الغازات السامة بالريف، التي منعت من تنظيم ندوة دولية حول آثار الغازات السامة على الطبيعة والإنسان في أبريل 2001 ويناير 2002″..
وبعد ذلك، لابد من عرض القضية على البرلمان المغربي والمجالس الاستشارية لحقوق الإنسان لمطالبة إسبانيا بالتعويض وجبر الضرر. ولا تقف الأمور عند عتبة المؤسسات المغربية سواء أكانت استشارية آم حقوقية أم سياسية فقط ، بل لابد من رفع القضية إلى البرلمان الأوروبي ومجلسه المتعلق بحقوق الإنسان، والاتصال بالأحزاب السياسية الإسبانية المعارضة للضغط على الحكومة القائمة للاعتراف بجرمها التاريخي وتعويض الضحايا الريفيين، وإلا سترفع القضية إلى هيئة الأمم المتحدة ومحكمة لاهاي الدولية لمحاكمة المجرمين التاريخيين.
وقبل كل شيء لابد للمغرب من الاعتراف بهذا الحدث التاريخي الخطير قبل الاعتراف الدولي، وإن كانت الحكومة تتهرب من مناقشة هذه القضايا؛ لأن السلطة المغربية استعملت هي بدورها أسلحة فتاكة في سحق الريفيين ما بين 1956م و1958م.
خاتمـــــة:
تلكم هي الحرب القذرة الصليبية التي شنها الغزاة الإسبان ضد الريفيين المسلمين الذين لايملكون من السلاح سوى العتاد البسيط في مقابل الأسلحة المتطورة الفتاكة التي يستعملها المستعمر وحلفاؤه ضد شعب أعزل آمن يدافع عن دينه وسيادته وأرضه وعرضه. بيد أن الريفيين لقنوا العداة درسا في البطولة لاينسى ولاسيما في حرب أنوال التي حصدت الكثير من الجنرالات وقواد الجيش ناهيك عن حروب أخرى كدهار ءوبران، ومعركة أعروي، ومعركة سلوان، ومعركة ورغة…
وحينما فشلت القوات المتحالفة في صد قوات عبد الكريم الخطابي والقضاء على مقاومته الشرسة، اضطرت هذه القوات العدائية أمام ضغط الرأي العام العالمي وتوسع عبد الكريم الخطابي في شمال النفوذ الفرنسي إلى استعمال الأسلحة الكيماوية والغازات المبيدة الخطيرة؛ مما اضطر محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى الاستسلام في 27 ماي 1926م.
وإذا كانت إسبانيا وفرنسا قد انتصرتا في هذه الحرب غير المتكافئة عددا وعدة، فإن هذا النصر لم يتحقق في الحقيقة إلا باستخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة دوليا، ويبقى المجد في الأخير للريف على حد تعبير أحد الصحافيين الأمريكيين.
وبالتالي، فحرب الريف انتصرت على الأعداء أخلاقيا وحضاريا والتزمت بمبادئ الإسلام في إدارة شؤون الحرب، لذا قال الأمير عبد الكريم ضمن أقواله المأثورة تاريخيا للذين اعتقلوه واتهموه بالتوحش:” حضارتكم مبنية على النار والحديد، تتوفرون على قنابل وقذائف ضخمة، لهذا تعتبرون أنفسكم متحضرين، وليس لدي سوى خراطيش البندقية لهذا فإنكم تعتبرونني متوحشا”.
الهوامش:
– انظر رشيد راخا وآخرون: الحرب الكيماوية ضد الريف، مطبعة بني يزناسن، سلا، الطبعة الأولى، سنة 2007م؛
– زكية داود:عبد الكريم ، ملحمة الذهب والدم، ترجمة: محمد الشرگي، منشورات وزارة الثقافة، مطبعة المناهل، الرباط، سنة 2007م؛
– انظر: الطيب بوتبقالت: عبد الكريم الخطابي، حرب الريف والرأي العام العالمي، منشورات شراع، طنجة، رقم الكتاب الشهري 14، أبريل 1997م؛
– خوان باندو: التاريخ السري لحرب الريف، ترجمة : سناء الشعيري، سلسلة ضفاف، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2008م، ص:319؛
– Paco Soto Gaz Toxique contre le Rif), la guerre chimique contre le Rif, p:73;
– رود بيرت كونز ورولف دييتر مولد: حرب الغازات السامة بالمغرب، عبد الكريم الخطابي في مواجهة السلاح الكيماوي، ترجمة: عبد العالي الأمراني، الرباط، 1996م، ص:82؛
– خوان باندو: التاريخ السري لحرب الريف ، ص:320؛
– سعيد محمد عبد الكريم الخطابي: (الحرب الكيماوية القذرة في الريف)، الحرب الكيماوية ضد الريف، مطبعة بني يزناسن، سلا، طبعة 2007م، ص:17؛
– سعيد محمد عبد الكريم الخطابي: (الحرب الكيماوية القذرة في الريف)، الحرب الكيماوية ضد الريف، ص:19-20؛
– الدكتور أحمد الحمداوي: الانعكاسات النفسية والإجرامية للسلاح الكيميائي على سكان الريف)،الحرب الكيماوية ضد الريف، ص:39؛
– خوان بادو: التاريخ السري لحرب الريف، ص: 320؛
– خوان باندو: التاريخ السري لحرب الريف، ص:320؛
– رود بيرت كونز ورولف دييتر مولد: حرب الغازات السامة بالمغرب، عبد الكريم الخطابي في مواجهة السلاح الكيماوي، ترجمة: عبد العالي الأمراني، الرباط، 1996م، ص:136؛
– الدكتور علي الإدريسي : عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر، منشورات جريدة تفراز، الطبعة الأولى سنة 2007م، مطبعة دار النجاح الجديدة بالدار البيضاء، ص:86-87؛
– خوان باند و: التاريخ السري لحرب الريف، ص: 320؛
– Maria Rosa de Madariaga et Carlos lazaro Avila: (la Guerre chimique dans le Rif (1921-1927) Etat de la question), la Guerre chimique contre le Rif, p:37;
– محمد سلام أمزيان: عبد الكريم وحرب الريف، مطبعة المدني، القاهرة، طبعة 1971م، ص:249؛
– الدكتور عز الدين الخطابي: محمد عبد الكريم الخطابي: القائد الوطني، منشورات تيفراز،الحسيمة، ص:57؛
– انظر الدكتور علي الإدريسي: عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر، ص:90؛
– نقلا عن علي الإدريس: عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر، ص:96؛
– الدكتور أحمد الحمداوي الانعكاسات النفسية والإجرامية للسلاح الكيميائي على سكان الريف)،الحرب الكيماوية ضد الريف، ص:40-41؛
– محمد بن عمر بن علي العزوزي الجزنائي: محمد بن عبد الكريم نادرة القرن العشرين في قتال المستعمرين، دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 2007م، ص:166؛
– انظر ندوة 14 فبراير 2004م، وندوة 21 يونيو 2008م بالغرفة الصناعة والتجارة والخدمات بالناظور؛
– عمر لمعلم: (كلمات الافتتاحية)، الحرب الكيماوية ضد الريف، مطبعة بني يزناسن، سلا، الطبعة الأولى سنة 2005م، ص:15-16؛
– نقلا عن مالك بن نبي: مذكرات شاهد القرن، الجزء الأول، منشورات، دار الفكر، دمشق، 1969م، ص:223.
بقلم – جميل حمداوي
تقديـــــم:
تعد حرب الغازات السامة التي شهدتها منطقة الريف من أهم الحروب الكيماوية في تاريخنا المعاصر، حيث التجأت إليها إسبانيا بمساعدة حلفائها قصد القضاء على مقاومة عبد الكريم الخطابي التي كانت قد حققت انتصارا باهرا على القوات الفرنسية والإسبانية في معركة أنوال سنة 1921م وغيرها من المعارك البطولية. واستعملت الحكومة الإسبانية كل الغازات المحرمة دوليا بسبب الذل المهين وهستيريا الهزيمة ورغبة في رد الاعتبار المعنوي للإمبراطورية الإسبانية بعد أن منيت بعدة هزائم أثرت سلبا على قوة الجيش الإسباني عددا وعدة.
وقد ترتب عن قنبلة الريف كيماويا برا وبحرا وجوا من سنتي 1921م إلى سنة1927م مقتل الكثير من الريفيين، وتدمير البيئة بشمال المغرب،وتلويث المياه ، وتسميم الأجواء ، وجرح الكثير من السكان وإعطابهم باسم الحضارة الغربية والمدنية المتقدمة ضد سكان الريف الأصليين العزل الذين كانوا يدافعون عن سيادتهم وبلدهم وكينونتهم ودينهم وعرضهم وشرفهم ضد غزو العداة الألدة الذين قدموا إلى الريف من أجل استغلاله واستنزاف خيراته.
إذا، ما هي دواعي حرب الغازات السامة بالريف؟ وما سياقها التاريخي والمرجعي؟ وماهي أنواع الغازات المستعملة في الشمال المغربي؟ وماهي المراحل التي قطعتها هذه الحرب الكيماوية؟ وما نتائج هذا العدوان الكيماوي الغاشم على الإنسان والبيئة؟ وماهي الإجراءت التي يمكن اللجوء إليها لمحاسبة مرتكبي هذه الحرب الكيماوية تاريخيا وسياسيا واجتماعيا وقانونيا ومدنيا ؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نطرحها للدرس والمناقشة.
1/ تاريخ حروب الغازات السامـــة:
من المعلوم أن الغازات السامة الكيماوية استعملت لأول مرة في الحرب العالمية الأولى سنة 1917م من قبل دول المحور بقيادة ألمانيا ضد دول الحلفاء، وكانت الدولة المتضررة كثيرا بهذه الغازات الكيماوية هي بلجيكا القريبة من حدود ألمانيا، والتي لحقها أثر هذه السموم الكيماوية في 12 يوليوز 1917م. بيد أن الحلفاء اضطروا بدورهم إلى استخدام الغازات السامة ولاسيما فرنسا وبريطانيا للانتقام من ألمانيا التي خرجت من هذه الحرب منهزمة سنة 1918م. وترتب عن هذه الحرب أن قتل 1.300.000مواطن مدني وعسكري بسبب آثار هذه الغازات الكيماوية .
لذا، عقد مؤتمر الصلح بـﭭرساي سنة 1919م لإجبار ألمانيا وباقي الدول المشاركة في الحرب العالمية الأولى على توقيع وثيقة منع توظيف المواد الكيماوية أثناء الحروب، وتحريم استخدام الأسلحة السامة بشكل نهائي. وهذا ماقرره أيضا بروتوكول جنيف سنة1925م حيث نص على منع استعمال الأسلحة المحرمة دوليا أثناء اندلاع الحروب الإقليمية أو الجهوية أو الدولية. وهذا ما قرره كذلك اتفاق سنة 1972م الذي وقعته 131 دولة يمنع بدوره استخدام الأسلحة الكيماوية الغازية والجرثومية، كما عملت هيئة الأمم المتحدة ما بين 1992و1997م على منع استخدام هذه الأسلحة الخطيرة بواسطة ترسانة من القوانين الدولية.
بيد أننا نلاحظ انتهاكات جسيمة لهذه المواثيق من قبل الدول القوية على سبيل الخصوص على الرغم من تحذيرات المجتمع الدولي وصيحات المجتمع المدني، إذ استعملت بريطانيا هذه الغازات السامة في العراق سنة 1919م ، وفي الشمال الغربي من الهند في عشرينيات من القرن العشرين. كما استعملتها إسبانيا في حرب الريف بعد انهزامها في حرب أنوال سنة 1921م، وكثفت منها إلى غاية سنة 1927 م. والتجأت إليها فرنسا في قمع ثورات ضواحي فاس . واستعملتها الولايات المتحدة ضد اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية ، وضد ﭭيتنام هوشي منه في الستينيات من القرن الماضي، وضد العراق في حرب الخليج الأولى في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
أضف إلى ذلك، أن إيطاليا الفاشية استعملت هذه الغازات ضد الحبشة ما بين 1935و1936م ، واستعملتها اليابان ضد الشعوب الآسيوية وشعوب مستعمراتها ما بين 1937و1945م. كما التجأت إليها العراق في مواجهتها للجيوش الإيرانية وقمع ثورات الأكراد، واستخدمتها بقوة في مواجهة الأكراد بحلابجا ما بين 17و18 مارس 1988م، وأدت المجابهة إلى وأد 5 آلاف قتيل وجريح من سكان المدينة الذين يقدرون بـ60 ألف مواطن، ووظفتها إسبانبا وفرنسا في قمع ثورة وادي الذهب في الصحراء المغربية سنة 1958م، واستعملت هذه الغازات أيضا من قبل القوات المصرية في مواجهة مليشيات إمام بدر في الحرب الأهلية اليمنية، واستعملتها القوات الصينية الوطنية ضد القوات الصينية الشعبية .
ووظفت هذه الغازات كذلك من قبل قوات فراكو اليمينية ضد الجمهوريين اليسار إبان الحرب الأهلية ما بين سنتي 1936و1937م.
ولم تستخدم ألمانيا هذه الغازات السامة في الحرب العالمية الثانية؛ لأنها كانت تعرف جيدا أن حلفاءها الأقوياء يملكون هذه الغازات السامة بكثرة، فلو استخدمتها في حربها الميدانية العسكرية، فإن العواقب ستكون خطيرة جدا على التواجد الألماني والكينونة الجرمانية.
2/ الدراسات التي تناولت الغازات السامة بالريف:
قليلة هي الدراسات التي تناولت حرب الغازات السامة بالريف بالدراسة والمناقشة والتحليل بسبب سرية الملف وقلة الوثائق التاريخية التي احتكرتها السلطات العسكرية ووزارات الشؤون الخارجية الإسبانية و الفرنسية والبريطانية والألمانية. وتمنع هذه الدول الأربع كل نبش في وثائق وأرشيف هذا الموضوع ؛ لكونه موضوعا خطيرا وحساسا سيثير مجموعة من المشاكل السياسية والاجتماعية ناهيك عما سيولده من كراهية زائدة لدى العرب تجاه الأوربيين وهم في غنى عنها. وبالتالي، فإنه سيجعل حكومات هذه الدول في مأزق سياسي وموضع تساؤل تاريخي وقانوني ومدني. وقد يؤجج هذا الموضوع المؤرق الساخن فتيل العديد من المظاهرات الداخلية والخارجية، وقد يساهم في تفجير مجموعة من الاضطرابات المدنية والنزاعات السياسية، ناهيك عن توليد إحساس عدواني قد يضخم القضية، فيجعلها حربا دينية وحضارية دفينة على المستوى الشعوري واللاشعوري.
ومن الوثائق الشاهدة على استعمال إسبانيا الغازات السامة في حربها العدوانية ضد الريف ما كتبه الإسبانيون وحلفاؤهم من الألمان والبريطانيين والفرنسيين من وثائق شاهدة ضدهم من خلال اعترافهم الصريح بجرمهم اللاإنساني في حق السكان الريفيين الأصليين العزل باستخدام الغازات السامة وأسلحة الدمار الشامل.
فمن الإسبان، نستحضر شهادة رامون سيندر Ramon J.Sender في روايته ” إمان Iman” سنة 1930م التي أشار فيها الكاتب إلى مخلفات الحرب الكيماوية وأثرها على الجنود الإسبان في صراعهم مع الريفيين. وما كتبه أيضا ملاحظ الطيران العسكري بيدرو أوندا بوينو Pedro Onda Bueno في سيرته الذاتية:” La vida y yo/ أنا والحياة” سنة 1974م يحكي فيها عن قنبلة الطائرات الإسبانية للحقول الريفية بواسطة الغازات السامة الخطيرة. زد على ذلك، ما خططه إگناسيو هيدالگو دي سيسنيروس Ignacio Hidalgo de Cisneros في كتابه:” تغير الوجهة Cambio de Rumbo” ، حيث قدم مجموعة من الشهادات الخاصة بقنبلة الريف بالغازات السامة بواسطة طائرات فـارمان / Farman F.60.
ومن الدراسات الأخرى الحديثة التي تناولت حرب الغازات في الريف الكتاب الذي أصدره الصحفيان الألمانيان رود بيرت كونزRudibert Kunz ، ورولف دييتر مولر Rolf-Dieter Müller سنة 1990م تحت عنوان : ” حرب الغازات السامة بالمغرب، عبد الكريم الخطابي في مواجهة السلاح الكيماوي”،ودراسة الإسباني خواندو باندو Juando Pando:”التاريخ السري لحرب أنوال Historia secrita de Anual” سنة 1999م، ودراسة كارلوس لازارو أﭭيلا Carlos lazaro Avila في مقاله القيم :” الملاحة الجوية العسكرية الحديدية بالمغرب(1909-1927م) ، والمقال موجود في الكتاب الجماعي الذي صدر سنة 2001م بعنوان ” شركات المغرب 1909-1927م”، وكتاب أنخيل ﭭينياس Angel Vińas ” فرانكو وهتلر وانفجار الحرب الأهلية” سنة 2001م.
ولا ننسى ما كتبته أيضا ماريا روسا مادارياگا Maria Rosa de Madariaga بعنوان:” المغاربة الذين جلبهم فرانكو” سنة2002م، ودراسة البريطاني سبستيان بلفور Sebastian Balfour المعنونة بـــ ” العناق القاتل” الصادر سنة 2002 م، علاوة على المقالات التي كتبت بعد ذلك حول حرب الغازات من قبل أكناسيو شيمبريرو Ignacio Cembrero، وباكو صوطو Paco soto، ورشيد راخا، ومحمد الشامي، وميمون الشرقي، وأحمد الحمداوي، ومصطفى بن شريف ، وزكية داود ،وعلي الإدريسي، ومحمد بن عمر بن علي العزوزي الجزنائي، و عزالدين الخطابي، وجميل حمداوي…
3/ دواعي لجوء الإسبان إلى استعمال الغازات السامة:
من المعروف أن محمدا بن عبد الكربم الخطابي حقق كثيرا من الانتصارات على الجيش الإسباني في عدة مواقع نزالية كمعركة أظهار أوبران، ومعركة أنوال ، ومعركة جبل عروي، ومعركة سلوان، ومعركة الكبداني، ومعركة الناظور، ومعركة تزي عزة… وقد سبب المجاهدون الريفيون للجيش الأيبيري عدة خسائر مادية وبشرية ، فأثارت الرأي العام العالمي ، ثم أثارت الرأي العام الإسباني. وبعد ذلك، نوقشت تداعيات حرب الريف في المجالس الوزارية والحكومية وفي جلسات البرلمان الإسباني. وضغطت الصحف الإسبانية على الحكومة القائمة في عهد ألفونصو الثامن بضرورة توجيه ضربة قاضية للمقاومة الريفية للانتقام والتشفي من الريفيين، ورد الاعتبار للإمبراطورية الإسبانية التي مرغ شرفها في وحل منطقة الريف، ولو اقتضى الأمر في ذلك باستخدام الأسلحة المحرمة دوليا، ولو استلزم الموقف أيضا الاستعانة بتجنيد المتطوعين الأجانب في قنبلة جبال الريف كيماويا، واللجوء إلى الأسلحة الغازية السامة لإخماد شعلة ثورة الريف بأي ثمن كان.
ومن هنا، أعطيت أوامر من السلطات المركزية بمدريد باستعمال الأسلحة الغازية الفتاكة للقضاء على التهديد الريفي بصفة نهائية. وقد طلبت الحكومة الإسبانية المساعدة من فرنسا وألمانيا لتشييد معامل عسكرية عصرية متخصصة في إنتاج الأسلحة الفتاكة وتوليد المركبات الكيماوية الحربية. فأنشئ لذلك معملان أحدهما بمدينة مريوزا بإسبانيا، والثاني قرب مدينة مليلية بضاحية مارشيكا قرب بحيرة الناظور.
وابتداء من سنة 1921م، أصبحت إسبانيا تملك العديد من المدافع الغازية والطائرات الحاملة للقنابل السامة التي استوردتها من فرنسا. وتلقى أكثر من 300 جندي إسباني تدريبهم في فرنسا على كيفية استخدام الأسلحة السامة وتركيب القنابل كيماويا. بل هناك الكثير من الجواسيس والمهندسين الألمان الذين كانوا يزورون مدينة مليلية كل شهر ، وكانوا يسهرون على تسيير معمل الغازات السامة ويشرفون بأنفسهم على تأطير الجنود وعمال المصنع في عمليات التركيب والتوليد والإنتاج. واستوردت إسبانيا طائرات خاصة بحمل قنابل الغازات السامة من فرنسا وألمانيا والدانمارك، واستعانت بالطيارين المرتزقة الأمريكيين والفرنسيين والأوروبيين استعدادا لاستعمال الأسلحة الكيماوية في جبال الريف على نطاق شامل.
والدليل على رغبة السلطات العامة في استخدام الغازات السامة ضد الريفيين ما قرره المقيم العام بمليلية السيد برينكر أثناء حديثه الهاتفي مع وزير الحربية إيزا ، وقد أورده المؤرخ الإسباني خوان باندو Juan Pando في كتابه: ” التاريخ السري لحرب الريف” في شكل حوار يعبر عن وحشية السلطات العسكرية الإسبانية:
” يوم الثاني عشر من غشت(1921م)، جرى اتصال تلغرافي آخر بين كل من الوزير إيزا وبرنكر. أما ميان استراي فكان متواجدا بمكتب الوزير، إذ ذهب إلى (بوينابيستا) ليطلعه على آخر الأنباء بمليلية، وجاءت نهاية المحادثات على هذا النحو:
الوزير: وبشأن المدفعية التي يشغلني أمرها كثيرا، أود القول بأن كل الطلبات طور الإنجاز، كما قمنا كذلك بشراء عربات مصفحة ومدرعات، ومواد تستخدم في تركيب غازات خانقة ستحضر هناك في مليلية.
المقيم العام: كنت دائما أعارض استعمال الغازات السامة ضد هؤلاء الأهالي، الآن وقد خدعونا وبعد تصرفاتهم المشينة معنا، فسنستعملها ضدهم بكل سرور.
الوزير: وفيما يخص الغازات، فقد فكرت في تشييد مصنع في مليلية، ولك أنت أن تتدبر كيفية استعمالها وتنفيذها، هذا هو كل شيء. وداعا الآن ولك مني أحر السلام.
المقيم العام: صدقني، سأستعمل هذه الغازات.أتركك الآن مع أطيب التحيات”.
لم يشعر برنكر بصفته مقيما عاما أن أهدافه تحققت كاملة. لكن الكبريت والفوسجين، وهي نفس الغازات التي استعملها الألمان في حروبهم سنة 1915م، كانت في طريقها إلى المغرب.”
يتبين لنا بأن استعمال الغازات السامة في حرب الريف استوجبته الهزيمة النكراء للإسبان في معركة أنوال التي حقق فيها البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي انتصارا ملحميا كبيرا بواسطة فئة قليلة من المجاهدين على جيش إسباني نظامي مؤهل عسكريا عددا وعدة ليخوض كل حرب نظامية حديثة.
وعليه، فقد أعدت إسبانيا كل مالديها من قوة بشرية ومالية ومادية وما تتملك من ترسانة من الأسلحة الحديثة الفتاكة لدحر المقاومة الريفية الإسلامية قصد الانتقام من المجاهدين الريفيين الأشاوس عن طريق إيجاد470 طن من الغازات الكيماوية السامة و530 طائرة مصنوعة في فرنسا وألمانيا والدانمارك ، يقودها طيارون متطوعون مرتزقة من أوروبا وأمريكا الشمالية.
4/ أنواع الغازات السامة المستعملة في حرب الريف:
استعمل الإسبان في العدوان الكيماوي ضد الريف العديد من الغازات السامة والمواد الكيماوية الجرثومية برا وبحرا وجوا. كما استخدمت الطائرات الخاصة لرمي السموم الكيماوية بالريف لأول مرة في التاريخ العالمي، بعد أن كانت تستعمل برا بواسطة المدافع والرشاشات الغازية.
ومن الغازات الموظفة في حرب الريف نذكر: غاز اللوست (غاز الخردل أو الأبرايت أو الأصفر) الذي كان له آثار تدميرية قوية في الريف وتأثيرا سلبيا على صحة المواطنين وبيئتهم. كما استخدم الإسبان الكبريت، والكاربونت، ومادة الكلوروبكرينا Cloropicrina، وغاز لاكريموجين lacrymogènes، وغاز الدك، وغاز BN ، والفوسجينfosgeno ، والإببريت l’ypérite، والكلور، والأوكسول، والفوسفور الأصفر، والإلكترون وهو مزيج من المغنزيوم والألومنيوم.
هذا، وقد قال المهندس الألماني شتولتسبرغ المشرف على تصنيع الغازات السامة بإسبانيا سنة 1924م عن غاز اللوست:” إن واحدا على خمسمائة1/500 من نقطة غاز اللوست تكفي لتوفير شروط تعفن اللسان الذي يؤدي إلى الموت”
وقد أشار خوان باندو أيضا في كتابه :” التاريخ السري لحرب الريف ” إلى مجموعة من الغازات السامة التي كانت تركب بطريقة كيماوية مهجنة ، وكان لها تأثير سلبي وخطير على صحة الريفيين وبيئتهم الطبيعية الفطرية:” في تركيبة تعتمد أساسا على كبريتور- كلور، ولدت هذه الغازات السامة تشكيلة مميتة، إذ إن تأثيراتها كانت خطيرة جدا، فهي تستهدف الغشاءات المخاطية للخلايا التنفسية فتدمرها،محدثة بذلك اختناقات حادة ،وبالتالي، الموت. أعراض تجلت في ظهور(قروح) خطيرة على الجلد، أو التسبب في العمى الجزئي أو الكلي.
هذا ، وقد كانت اتفاقيات لاهاي الموقعة ما بين عامي 1899و1907م (التي وقعت عليها إسبانيا في عهد الملك ألفونصو) لتؤكد على هذا الخطر. لكن اليأس الذي تسببت فيه مجازر الإسبان في كل من أعروي ، والكبداني، والناظور، وسلوان، قضى على كل أشكال الحواجز الأخلاقية التي تمنع استعمال هذه الغازات”.
وكانت القنابل التي ترمى على الريف تزن 20 كلغ ، و50كلغ، و100كلغ، وتترك آثارا تدميرية مروعة عبر مسح العديد من الكيلومترات المربعة، أي إن كل قنبلة تدمر 2500م2. وتحملها طائرات مستوردة من فرنسا وألمانيا والدانمرك كطائرة كولياث Goliath، وطائرة فارمان FarmanF-60، وبريگيت Breguet XIV ، وDH-9 ، و DH-4.
وتنطلق هذه الطائرات في إقلاعها وتحليقها قصد القنبلة والتدمير من مطارات الناظور(تاويمة)، وتطوان، والعرائش، وتستخدم الغازات المصنعة بمليلية ، أوالمحملة بالسفن إلى مدينة سبتة، أو المصنعة بمعمل بلامر إينوسا بمدريد.
وقد :” بلغت كمية غاز(اللوست) المحصل عليها من طرف إسبانيا 110طن استعملت لمفردها لقنبلة القرى الريفية؛ مما خلف المئات من القتلى من جراء الاختناقات والإصابة بتسممات جماعية وحروق مختلفة في الجلد وقروح على مستوى المعدة والأمعاء والتهابات مزمنة في الحلق والأنف وعلى مستوى الجهاز التنفسي بالإضافة إلى التشويهات الجسمانية والإصابة بالعمى، كما اجتاح الريف صيف 1925 وباء التفويد الذي أهلك العديد من السكان وكان له دور مباشر في تهجير قرى بأكملها، ويعود السبب في ذلك إلى استعمال الغازات السامة الملوثة، حيث زاد جهل الناس بطبيعة هذا الغاز وقدرته على الانتشار في حصد المزيد، فهو ذو خاصية شديدة الالتصاق بكل مايحيط به من الملابس والمواد الغذائية ومحيط المنزل، ويسبب ضعفا وهزالا شديدين وعياء ملازما.”.
ولتفادي هذه الغازات السامة الخطيرة، التجأ الريفيون إلى الكهوف والمغارات والمخابئ، فنلفي من كان يختار الهجرة إلى الشرق أو الغرب أو الجنوب، و من كان يستعمل الكمامات الوقائية التي اشتراها محمد بن عبد الكريم من الفرنسيين عبر التهريب أو المتاجرة كما تبين ذلك الوثيقة التي وردت على لسان حمو بن حدو ممثل محمد بن عبد الكريم على المستوى الخارجي الذي استشار الأمير في شراء مجموعة من الكمامات الوقائية من وهران لاستعمالها وقاية من الغازات السامة التي سيستخدمها الأعداء ضد الريفيين بكثافة بعد هزيمتهم بأنوال. وهناك من كان يداوي قروح هذه الغازات السامة بوسائل الطب الشعبي التقليدي ، وهناك من كان ينفذ تعليمات الأمير في تفادي هذه الغازات السامة عن طريق اتخاذ مجموعة من التدابير الوقائية.
بيد أن إمكانية الهرب :” هي الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام القبائل الريفية والاختباء في مغاور تحت الأرض عند كل عملية قصف، ويزيد تناثر الغازات وانتشارها في الهواء بسرعة، في انتقاله إلى مساحات واسعة. بالرغم من توفر المجاهدين على وحدة صحية ومعدات طبية حصلوا عليها من غنائم أنوال سنة 1921، فإنها غير قادرة على تحقيق غرض العلاجات لأن الإصابة بالغازات تحتاج إلى معالجة فائقة العناية والدقة؛ ويضطر الأهالي إلى الاستعانة بمواد طبيعية وتقليدية مثل الأعشاب للتداوي بها. وصب الزيت الحار على الجروح للحد من تعفنها.
أمام هول الكارثة وازدياد عدد الجرحى بالإصابات الخطيرة، اضطرت الحكومة الريفية صيف 1925 إلى طلب المساعدة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر بجنيف للتدخل بشكل مستعجل لتوفير الإعانة الطبية لصالح ضحايا الغازات الخانقة. لكن دون أن يؤخذ الأمر بمحض الجد.”
وإلى جانب الغازات المذكورة سابقا، كثفت إسبانيا من استعمال غاز الأكسول الذي تسلمت منه 20 طنا من ألمانيا على وجه السرعة لقنبلة الريف ومحاصرتها عسكريا وتطويقها من جميع الجهات لإرغامها على الاستسلام والخنوع بعد أن تضآلت فعالية الغازات السامة الأخرى التي استخدمت في صد المقاومة.
وعلى العموم، فإن:” ضخامة حرب الريف وحجم استعمال أسلحة الدمار الشامل فيها وخاصة الأسلحة الكيماوية من غاز الخردل عبر قنابل الكاربونت والإلكترون انطلاقا من 533 طائرة وبحجم 400 طن من غاز اللوست، حيث وصل حجم القنبلة الواحدة ما بين 20 إلى 100كلغ، يعد من أخطر الجرائم التي تدخل في حرب الإبادة الجماعية.”
ومن هنا، فإننا نسجل بأن إسبانيا والدول التي تحالفت معها قد ارتكبت جرما تاريخيا كبيرا وخطأ عسكريا فادحا لايغتفر عندما التجأت إلى استعمال الغازات الكيماوية وأسلحة الدمار الشامل للقضاء على المقاومة الريفية التي كانت مقاومة مشروعة في مبادئها وأهدافها تدافع عن سيادتها وكينونتها وخيراتها. وبذلك، دخل الريف سجل الأمجاد والبطولات الشريفة، في حين دخلت إسبانيا وحليفاتها سجل الإجرام الكيماوي ضد الإنسانية قاطبة.
5- مراحل حرب الغازات السامة بالريف :
مرت حرب الريف بمرحلتين أساسيتين: مرحلة استعمل فيها الأعداء الأسلحة المرخصة دوليا كاستعمال الدبابات والمدافع والرشاشات والمدرعات والطائرات والسفن الحربية المدمرة. وقد بدأت هذه الفترة من سنة 1914م إلى سنة 1921م مع انهزام الإسبان في معركة أنوال المظفرة. كما تلقت إسبانيا في هذه المرحلة عدة خسائر بشرية ومادية في عدة مواقع حربية كجبل العروي، وكبدانة، وسلوان، وأظهار ءوبران، والناظور…مما أثر سلبا على معنويات الجيش الإسباني ، وكانت لها أيضا انعكاسات وخيمة على الرأي العام الإسباني وحكوماته المتعاقبة.
ويعني هذا أن المقاومة الريفية في هذه المرحلة حققت انتصارات فائقة على قوات العدو عددا وعدة، وأسرت الكثير من الأسرى بمافيهم الجنرال نيفارو، واستطاعت المقاومة الريفية أن تحصل على غنائم كثيرة على مستوى العدة العسكرية، إذ حصلت على الكثير من الرشاشات والدبابات من مختلف العيارات فضلا عن الأسلحة الحديثة تقنيا بما فيها : البنادق، والطائرات، والسفن، والمدرعات، والمصفحات، والقنابل، ورصاص البنادق، والمتفجرات بمختلف أنواعها…
بيد أن ظروف الحرب ستتغير من سنة 1923م إلى غاية 1927م، إذ ستستعمل القوات الغازية الأسلحة الكيماوية الفتاكة والغازات السامة في مجابهة الريفيين للقضاء على المقاومة الريفية بشكل نهائي وإبادة السكان إبادة جماعية ليسهل على المحتل الاستيلاء على منطقة الريف قصد استغلالها استغلالا شاملا.
ولم يكن هذا التنفيذ إلا إرضاء للضغوطات السياسية والإعلامية وانتقاما من الريفيين الذين حققوا انتصارات مظفرة على حساب الكتائب الإسبانية في الكثير من مناطق الريف:” فأمام وحشية الحرب التي كان الطرفان المتنازعان، بشق النفس يحصلان فيها على الأسرى، وأمام التماطل والتأخير في تكوين جيش قادر على القتال ومداهمة الجبهات بقوة، وأمام عجز القيادات ومعاناة الجيش، طلب البرلمان استعمال الغازات السامة. وبهذه العبارات كان الحديث يجري بين كل من سولانوSolano وكرسبو دي لارا. Crespo de Lara
جاء الطلب على هذه الغازات في العشرين من غشت 1921م، وهو نفس التاريخ الذي طلبت فيه غازات سامة لشحن القنابل والمتفجرات المناسبة. لكن المواثيق الدولية أجهضت هذه المحاولة ، فمرت سنتان”.
وابتداء من سنة 1923م، ستقرر إسبانيا بناء معملين لتصنيع الأسلحة السامة والمواد الكيماوية ، الأول في :” سان مارتين دي لافيغا (في الجنوب الشرقي لمدريد)، أطلق عليه اسم” ألفونصو الثالث عشر”. لكن وأمام ضعف الإنتاج، تم ربط الاتصال بمجموعة ستولزينبرغ Stolzenberg الألمانية، التي اقترحت تصنيع الكبريت بمليلية بطريقة تقليدية، تعتمد على معالجة المادة الأولية- ديجلكتول- بحامض الهيدروكلوريك. وتمت العملية بشراء أطنان من الديجلكتول، كانت الوحيدة من نوعها في العالم بأسره، وتم تهريبها من ألمانيا. كل هذه الأنباء والمعطيات وردت في برقية عثر عليها بين وثائق رومانوس. أما عن المصنع الذي كان إيزا يريد بناءه بمليلية، فقد تأتى له ذلك. فالمصنع حسب خريطة أنجزتها شركة مناجم الريف للمنطقة سنة 1934م بسلم 1/20.000 كان يقع بموازاة الخيمة الثانية، في الكيلومتر7.400 من الطريق المؤدية إلى الناظور، وسمي بشكل واضح بمصنع الغازات.”
وقد شاركت في قنبلة الريف كيماويا مجموعة من الطائرات الحديثة الخاصة بحمل القنابل الغازية الثقيلة من حجم 50كلغ، و100كلغ، يقودها كما قلنا سابقا طيارون مرتزقة من الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا وألمانيا. ويتضح هذا الأمر جليا من خلال ماجاء في تقرير لطيارين ألمانيين كانا قد شاركا إلى جانب الجيش الإسباني في حرب الريف يوليوز 1925م، ” عندما ظهرت الحالات المرضية الأولى ، الناجمة عن القصف بواسطة قنابل الغاز(اللوست) من دون أن يتمكن سكان الريف من الوقوف على أسبابها الحقيقية، ظهر لدى القبائل التي تعرضت للقصف الجوي ميل واضح للهجرة، إلا أنه(محمد بن عبد الكريم ) كان قد وجه إليها نداء يحثها فيه على اتخاذ مجموعة من التدابير الوقائية المضادة للغازات التي تستعمل فيها الغازات السامة”.
من هنا، نستنتج بأن دولتي فرنسا وألمانيا لم تلتزما باتفاقية فرساي لسنة 1919م التي كانت تحظر استخدام الأسلحة الفتاكة ، فالتجأتا إلى بيعها لإسبانيا قصد استعمالها بطريقة تجريبية مخبرية في جبال الريف ، بعد أن استعملت بضراوة في الحرب العالمية الأولى سنة 1917م.
وعلى الرغم من تردد ألمانيا وفرنسا في بداية الأمر بتمرير صفقة بيع هذه الغازات إلى إسبانيا، فإنهما ، بعد ذلك، قبلتا بتنفيذ الصفقة في إطار حرب براگماتية عنصرية صليبية للقضاء على المقاومة الريفية الإسلامية لتحقيق مصالحهما المادية.
ومن ثم فقد سجل التاريخ العسكري الحديث ، يقول الدكتور علي الإدريسي، :” بأن إسبانيا وفرنسا الموقعتين على معاهدة تحريم استعمال الغازات السامة في الحروب، أصبحتا أول دولتين في العالم تدشنان الحرب بالغازات الكيميائية عن طريق الجو بالطائرات، وبشكل ممنهج يرمي إلى تلويث المنطقة تلويثا شاملا بالغازات، خاصة وأن المختصين في آثار الغازات وتأثيرها أقنعوا القيادة الإسبانية أولا، ثم القيادة الفرنسية ثانيا، بأن منطقة الريف ذات التضاريس الوعرة، هي أكثر ملاءمة لإستراتيجية التلويث، لأن مفعول الغازات السامة بالوهاد والوديان يدوم مدة أطول من تلك التي يستغرقها بقاؤه بالأرض المنبسطة التي تبعدها الرياح عنها بسرعة.”
وقد ترتب عن ذلك أن تعرضت أماكن كثيرة بشمال المغرب لهذه الغازات السامة بما فيها الناظور، وتمسمان، والحسيمة، وبني ورياغل، وتارگيست، وشفشاون، وتطوان، وطنجة ، والعرائش. بيد أن المناطق التي تلقت ضربات غازية كثيرة هي مناطق القيادة ببني ورياغل وتمسمان . ويعني هذا أن القنابل الكيماوية كانت هادفة وانتقائية تختار أماكن المقاومة والقيادة العسكرية والأسواق العامة.
وتعد تيزي عزى المنطقة الريفية الأولى التي تلقت هجوما عنيفا بالأسلحة الغازية السامة المحظورة دوليا بعد أن أظهرت تيزي عزى مقاومة شرسة كادت أن تقضي بشكل نهائي على القوات الإسبانية: ” وجاء هذا القرار الدموي بعد الاستيلاء على تيزي عزى، جنة الريف، فتبددت كل المخاوف، ففي يوم الخامس عشر من يوليوز 1923م، تحدث لويس سيلفيلا الذي كان وزيرا سابقا للبحرية، وآنذاك مقيما عاما على أيثبورو Aizpuro ، إن الرعب الذي أحدثته سابقا التجارب البسيطة التي تمت في تيزي عزى باستعمال قذائف المدفعية، وطلب سيلفيلا بانعقاد اجتماع غدا بمجلس الوزراء، والعمل على حل الملف العالق، والذي يخص شراء وإرسال خمسة آلاف من قنابل الغازات السامة. وبعد التشاور مع الجنرالين كاسترو جيرونا ، ومارتينيث أنيدو،اعتبر سيلفيلا أن الحل السريع يكمن في استعمال هذه الوسيلة، وستسمح هذه المبادرة بإنقاذ حياة رجالنا. وكيفما كان الحال فهذا أفضل من أن يروع الرأي العام بمنظر اشتباكات دامية.”
واستعملت هذه الغازات السامة في التجمعات الكبرى كالأسواق كما وقع في سوق شفشاون،وأسواق غمارة حيث تسببت غارة واحدة أو غارتان في عمي أكثر من 80 فردا. وأطلقت الطائرات على سوق الأربعاء توريرت بوادي نكور بآيت ورياغل غازات سامة من نوع الإيبريت ضمن 100 قنبلة من 20كلغ C5. ودمرت كذلك بهذه الغازات السامة قرى بني زليعة وواد لاو في ناحية غمارة. ويعني هذا أن إسبانيا استعملت هذه الغازات السامة ضد الريفيين وضد جبالة، وضد بني عروس الساكنين بمحاذاة مدينة طنجة وتطوان.
ولم تنته إسبانيا من إطلاق هذه الغازات الكيماوية إلا في سنة 1927م عندما أعلن الجنرال سان خورخو Sanjurjoمن باب تازة بشكل رسمي نهاية الحرب في منطقة الريف.
6- نتائج العدوان الكيماوي:
كان للعدوان الكيماوي على الريف نتائج بشرية واجتماعية وعسكرية وبيئية وصحية ونفسية وأخلاقية.
ففيما يخص النتائج البشرية، فقد ساهمت هذه الغازات السامة في قتل أكثر من 3000 قتيل برا وجوا وبحرا، كما أثبت ذلك محمد سلام أمزيان صديق عبد الكريم في القاهرة. ولم تقتصر هذه الغازات على إبادة الريفيين فحسب، بل أصابت حتى الجنود الإسبان بسبب الرياح التي كانت تجري عكس مايشاؤون، أو أثناء تحطم طائراتهم بفعل الأخطاء التقنية والضربات المضادة من قبل المجاهدين ، ومن أمثلة ذلك ما وقع بمطار تاويمة بالناظور، وما حدث من تسربات غازية مرات كثيرة داخل مصانع الغازات الكيماوية.
وقد دفعت هذه الغازات السامة على المستوى الاجتماعي كثيرا من الريفيين إلى هجرة منازلهم وقراهم وحقولهم ليتجهوا نحو الجزائر، أو إلى المناطق الغربية القريبة كتطوان وطنجة والعرائش، أو إلى مناطق النفوذ الفرنسي كفاس ومكناس ووجدة وبركان.
أما فيما يتعلق بالنتائج العسكرية، فقد أدت هذه الغازات السامة إلى عرقلة المقاومة الريفية والتأثير على ميزان المعركة بعد أن كان الانتصار حليف الريفيين، فباستعمال المواد الكيماوية تغيرت الكفة لتكون من حظ الأعداء الغزاة؛ لأن المجاهدين الريفيين لم يستطيعوا أن يقفوا في وجه هذه الغازات السامة التي كانت تسمى عندهم بلفظة ” أرهاج/ السم”. ” وقد ساهمت هاته الضربات في إضعاف المقاومة الريفية وبث الفزع في صفوف الأهالي الريفيين خصوصا بعد أن تكثف القصف الجوي، الذي كانت تقوم به أسراب من طائرات القوتين الحليفتين، والتي كانت تلقي بالغازات السامة والمحرقة، فتلحق أضرارا مهولة بكل ما هو حي”.
ومن ثم، يعود فشل ثورة عبد الكريم الخطابي واستسلامه إلى الاستخدام المكثف للأسلحة الكيماوية الخطيرة في كل مناطق الريف من الناظور شرقا إلى طنجة وتطوان غربا مرورا بالحسيمة وترگيست . وفعلا ، فقد أخمد غاز اللوست الثورة الريفية بعد أن استلمت” إسبانيا 110 طن من غاز الإيبريت(اللوست) لاستعمالها في حرب الريف، فتم لها بذلك القضاء على التمرد الريفي”.
وإذا انتقلنا إلى النتائج الصحية، فقد سببت هذه الغازات السامة في قتل الكثير من الريفيين وتشويههم عضويا وإصابتهم بالعمى واسوداد جلودهم، وإصابتهم بمرض السرطان، فقد صرح أطباء الإنكولوجيا بأن 50% من مرضى السرطان بالمغرب من منطقة الريف ، وأغلبهم من الأطفال والنساء والعجزة.
وقد نتج عن الغازات المستعملة من قبل الأعداء في سقوط الشعر، وتساقط الجلد بفعل الحرائق الفسفورية، وكثرة الحروق، وارتفاع درجة الحمى، والإصابة بالأوجاع المعوية، والتأثير سلبا على الجهاز التنفسي بمافيه الصدر والفم والأنف، بله عن الأجهزة العضوية الأخرى كالجهاز الدموي والجهاز التناسلي والجهاز الهضمي.
وكان الريفيون يداوون هذه الأمراض الناتجة عن المبيدات الكيماوية باستعمال الزيت الحار، والنباتات التقليدية واللجوء إلى الطب الشعبين ولكن بدون جدوى ولاهدف.
كما كلفت أمراض السرطان الناتجة عن هذه الغازات السامة خزينة المغرب مصاريف مالية باهضة ، كما يتجلى ذلك واضحا في استيراد أدوية مكافحة السرطان الغالية الثمن، وتكوين الأطباء الأنكولوجيين في الخارج، و بناء مستشفيات خاصة بمداواة مرض السرطان في المدن المغربية كالرباط، وجرادة، ووجدة،وغيرها من المدن بفاتورات مالية ضخمة.
أما النتائج البيئية لهذه الحرب الجرثومية الكيماوية، فتتمثل في تلويث البيئة، وتدمير السبل باللوست والأدخنة الغازية الصفراء، وتسميم المياه والأجواء والهواء، والقضاء على المزروعات والثمار، وإحراق الغلات المزروعة، وتخريب البنيات التحتية، وتجفيف النباتات الخضراء. وبهذا، كان لغاز اللوست تأثير خطير على البيئة وجميع مكوناتها النباتية والمائية والحجرية والحيوانية . فنتج عن هذا أن كثرت العقارب المسمومة في الريف والحشرات الجرثومية :” ومايزال غاز اللوست أو الكبريت أو غاز دقة الخردل، مستعملا حتى أيامنا هذه ، كسلاح ذري ذي فعالية قصوى، وكغاز حربي ممتاز على المستوى الميداني، ملائم تماما لتلويث التربة والنباتات والطرق والمواد الغذائية(كما يتضح ذلك من خلال استعماله في الصراع الإيراني- العراقي). وينفذ السائل الغازي عبر كافة أنواع الألبسة العادية كالقماش والجلد، بل وحتى الكاوتشوك، كما يلتصق بالخشب والمعدن… وتتميز عملية التخلص من التسمم الذي يحدثه بصعوبات كبيرة. كما يحدث غاز اللوست، بعد ملامسته للجلد بساعات قليلة، نفاطات وأوراما مبرحة، تتميز بصعوبة برئها، وتؤدي إلى الموت في الحالات المستعصية منها. كما تتسبب سحب ذلك الغاز في العمى المؤقت أو الدائم، وتلحق ضررا بليغا بالمسالك التنفسية، وتشكل في كل الحالات خطرا محدقا بالحياة”.
وقد أصبحت الأمراض السرطانية تنتقل وراثيا وجينيا عبر تواتر الأجيال ، وتنتقل من البيئة الحيوانية والنباتية والهوائية إلى الإنسان عبر العصور من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد.
أما على المستوى النفسي، فقد سببت الغازات السامة والمبيدات الكيماوية في كآبة قاتلة ، و إذكاء التهيج العصبي، وإثارة كثرة الانفعال وسرعة رد الفعل، مع الميل إلى العنف، وتلقي الصدمات النفسية المؤثرة،والجنوح نحو الخمول التام ، والعزلة التامة، وتفشي الحزن النفسي، والخيبة الدائمة، ناهيك عن الإحساس بالغربة والوحدة عند الكبار والصغار على السواء بسبب اليأس من الواقع والحياة، واسترجاع الذاكرة، وتكرار سرد الأحداث تخييلا ولعبيا مع اللجوء إلى الصمت ولحظات التأمل، والإحساس بالقلق. أما المشوهون والمعطوبون فيحسون بالنقص، والهروب من الآخرين، وبالتالي، يشعرون بالعجز . لذا، يتلذذون بالوحدة والإخفاق والفشل والهذيان والعصاب النفسي، ويحسون أيضا بالخوف واقتراب الموت أثناء منامهم وارتياد أحلامهم.
وقد حدد الدكتور أحمد الحمداوي المتخصص في علم النفس المرضي مجموعة من الانعكاسات النفسية والإجرامية للسلاح الكيميائي على سكان الريف كالخوف الكثير، والشعور بعدم القدرة، والإحساس بالفزع، والرعب،والإثارة المفرطة، والحلم المتكرر للحدث، والإحساس بالضيق، وظهور انطباعات أو تصرفات مهيجة مفاجئة، وبلورة شعور الابتعاد عن الآخرين، وبلورة شعور عدم الاستثمار النفسي مثل: عدم القدرة على بناء المستقبل والنجاح في مهمة من المهام، ومشاكل الانخراط في السير العادي للحياة.
ومن النتائج الأخلاقية لهذه الحرب الموبوءة أن دولة إسبانيا والدول الحليفة معها دول همجية متوحشة لا حضارة لها ولا أخلاق ، وما تدعيه من مدنية وازدهار تقني لاتستفيد منه سوى شعوب هذه الدول المتغطرسة، والباقي هم عبارة عن رعاع وهمج دون مستوى العرق الأوربي. وفي هذا السياق يقول محمد بن عمر بن علي العزوزي الجزنائي:” من أعمال الإسبانيين السيئة التي لاتقبلها أي شريعة في الأرض، استخدامهم للغازات السامة ضد قرى الريف، وهي فضائع جنتها أيدي الإسبانيين كما اعترف بذلك رئيس وزرائهم حينذاك: (بريمودي ريفيرا)، والعقيد( فرانساشكو فرانكو) قيل: إنهما ندما على ذلك، يحملون أشد الكراهية لهؤلاء الغزاة، وأشد من ذلك، وأدهي وأمر، إنهم كلما قتلوا ريفيا، إلا وقطعوا أذنيه وأنفه، وحملوه معهم كعربون، وهو عرض لهمجية الغزاة( والذين لاأخلاق لهم)” .
بيد أن الإسلام وديننا الحنيف حرم استعمال الأسلحة السامة والمبيدات الكيماوية وتخريب العمران وتلويث المياه وتسميمها وحرق المزروعات وقتل الشيوخ والعجزة والأطفال والنساء مهما كانت دواعي الحروب وسياقاتها.
7- إجراءات المحاسبة والمعالجة:
بعد هذا العرض الوجيز حول عبد الكريم الخطابي وحرب الغازات السامة، لابد من التعريف بهذه القضية دوليا وإعلاميا عن طريق النشر الورقي والرقمي، والإكثار من الندوات من أجل تنوير الرأي العام العالمي والمغربي على حد سواء بهذه القضية الخطيرة التي نعتبرها تعديا على حقوق الإنسان الأمازيغي واستعمال أسلحة محظورة دوليا ضد شعب يدافع عن استقلاله وسيادته وحريته.
ومن هنا، لابد من الضغط على إسبانيا وفرنسا وألمانيا للاعتراف بما ارتكبته في حق الريفيين من مجازر لا إنسانية باسم المدنية والتحضر بإشعال حرب كيماوية ضد شعب أعزل ، هذه الحرب الفظيعة التي حرمتها مواثيق جنيف ومؤتمر ﭭرساي وهيئة الأمم المتحدة.
ونطالب إسبانيا وفرنسا بتعويض أهالي الريف ماديا ومعنويا، وإنشاء مؤسسات صحية أنكولوجية في منطقة الريف، والاستثمار اقتصاديا واجتماعيا في هذه المنطقة قصد تحقيق تنمية بشرية شاملة.
وهناك خطوات وإجراءات لابد من القيام بها للضغط على هذه الدول المتغطرسة، منها: مداولة قضية حرب الغازات السامة على مستوى منطقة الريف عن طريق عقد ندوات مكثفة على المستوى المحلي والجهوي والوطني كما هو شأن ندوات جريدة العالم الأمازيغي التي يشرف عليها رشيد راخا، وأمينة بن الشيخ، ومحمد الشامي… ، واستحضار المؤسسات الجمعوية والحقوقية التي تهتم بهذه القضية كجمعية إلياس العمري بالحسيمة، ومؤسسة محمد بن عبد الكريم الخطابي بنفس المدينة التي تعتبر أن :” مسؤولية الدول التي كانت وراء استعمال الغازات السامة بالريف، مسؤولية جنائية ومدنية، وهي مسؤولية ثابتة لاغبار عنها، فإسبانيا، مثلا، لم تكتف بتدمير كيان الريفيين، بل سلمت الريف بعد سنوات من استغلال خيراته وموارده إلى العصابات الحزبية التي ارتكبت جرائم سياسية واقتصادية، لازال الريف يعيش على وقعها، والمطلوب من إسبانيا اليوم، ليس الاعتراف بجرائمها في الريف فحسب،بل تقديم اعتذار رسمي للريفيين، وتوفير الشروط الضرورية لتحقيق المصالحة التاريخية بين شعبين جارين، وذلك بالمساهمة في تنمية الريف الذي لازال يكتوي بسياسات الحصار والتهميش والتهجير، وعلى المغرب الرسمي أن يتعامل بجدية مع الموضوع، وأن يفسح المجال أمام المجتمع المدني للضغط على إسبانيا، عوض تلجيم دور هذا الأخير، كما حدث في السابق مع جمعية الدفاع عن ضحايا حرب الغازات السامة بالريف، التي منعت من تنظيم ندوة دولية حول آثار الغازات السامة على الطبيعة والإنسان في أبريل 2001 ويناير 2002″..
وبعد ذلك، لابد من عرض القضية على البرلمان المغربي والمجالس الاستشارية لحقوق الإنسان لمطالبة إسبانيا بالتعويض وجبر الضرر. ولا تقف الأمور عند عتبة المؤسسات المغربية سواء أكانت استشارية آم حقوقية أم سياسية فقط ، بل لابد من رفع القضية إلى البرلمان الأوروبي ومجلسه المتعلق بحقوق الإنسان، والاتصال بالأحزاب السياسية الإسبانية المعارضة للضغط على الحكومة القائمة للاعتراف بجرمها التاريخي وتعويض الضحايا الريفيين، وإلا سترفع القضية إلى هيئة الأمم المتحدة ومحكمة لاهاي الدولية لمحاكمة المجرمين التاريخيين.
وقبل كل شيء لابد للمغرب من الاعتراف بهذا الحدث التاريخي الخطير قبل الاعتراف الدولي، وإن كانت الحكومة تتهرب من مناقشة هذه القضايا؛ لأن السلطة المغربية استعملت هي بدورها أسلحة فتاكة في سحق الريفيين ما بين 1956م و1958م.
خاتمـــــة:
تلكم هي الحرب القذرة الصليبية التي شنها الغزاة الإسبان ضد الريفيين المسلمين الذين لايملكون من السلاح سوى العتاد البسيط في مقابل الأسلحة المتطورة الفتاكة التي يستعملها المستعمر وحلفاؤه ضد شعب أعزل آمن يدافع عن دينه وسيادته وأرضه وعرضه. بيد أن الريفيين لقنوا العداة درسا في البطولة لاينسى ولاسيما في حرب أنوال التي حصدت الكثير من الجنرالات وقواد الجيش ناهيك عن حروب أخرى كدهار ءوبران، ومعركة أعروي، ومعركة سلوان، ومعركة ورغة…
وحينما فشلت القوات المتحالفة في صد قوات عبد الكريم الخطابي والقضاء على مقاومته الشرسة، اضطرت هذه القوات العدائية أمام ضغط الرأي العام العالمي وتوسع عبد الكريم الخطابي في شمال النفوذ الفرنسي إلى استعمال الأسلحة الكيماوية والغازات المبيدة الخطيرة؛ مما اضطر محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى الاستسلام في 27 ماي 1926م.
وإذا كانت إسبانيا وفرنسا قد انتصرتا في هذه الحرب غير المتكافئة عددا وعدة، فإن هذا النصر لم يتحقق في الحقيقة إلا باستخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة دوليا، ويبقى المجد في الأخير للريف على حد تعبير أحد الصحافيين الأمريكيين.
وبالتالي، فحرب الريف انتصرت على الأعداء أخلاقيا وحضاريا والتزمت بمبادئ الإسلام في إدارة شؤون الحرب، لذا قال الأمير عبد الكريم ضمن أقواله المأثورة تاريخيا للذين اعتقلوه واتهموه بالتوحش:” حضارتكم مبنية على النار والحديد، تتوفرون على قنابل وقذائف ضخمة، لهذا تعتبرون أنفسكم متحضرين، وليس لدي سوى خراطيش البندقية لهذا فإنكم تعتبرونني متوحشا”.
الهوامش:
– انظر رشيد راخا وآخرون: الحرب الكيماوية ضد الريف، مطبعة بني يزناسن، سلا، الطبعة الأولى، سنة 2007م؛
– زكية داود:عبد الكريم ، ملحمة الذهب والدم، ترجمة: محمد الشرگي، منشورات وزارة الثقافة، مطبعة المناهل، الرباط، سنة 2007م؛
– انظر: الطيب بوتبقالت: عبد الكريم الخطابي، حرب الريف والرأي العام العالمي، منشورات شراع، طنجة، رقم الكتاب الشهري 14، أبريل 1997م؛
– خوان باندو: التاريخ السري لحرب الريف، ترجمة : سناء الشعيري، سلسلة ضفاف، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2008م، ص:319؛
– Paco Soto Gaz Toxique contre le Rif), la guerre chimique contre le Rif, p:73;
– رود بيرت كونز ورولف دييتر مولد: حرب الغازات السامة بالمغرب، عبد الكريم الخطابي في مواجهة السلاح الكيماوي، ترجمة: عبد العالي الأمراني، الرباط، 1996م، ص:82؛
– خوان باندو: التاريخ السري لحرب الريف ، ص:320؛
– سعيد محمد عبد الكريم الخطابي: (الحرب الكيماوية القذرة في الريف)، الحرب الكيماوية ضد الريف، مطبعة بني يزناسن، سلا، طبعة 2007م، ص:17؛
– سعيد محمد عبد الكريم الخطابي: (الحرب الكيماوية القذرة في الريف)، الحرب الكيماوية ضد الريف، ص:19-20؛
– الدكتور أحمد الحمداوي: الانعكاسات النفسية والإجرامية للسلاح الكيميائي على سكان الريف)،الحرب الكيماوية ضد الريف، ص:39؛
– خوان بادو: التاريخ السري لحرب الريف، ص: 320؛
– خوان باندو: التاريخ السري لحرب الريف، ص:320؛
– رود بيرت كونز ورولف دييتر مولد: حرب الغازات السامة بالمغرب، عبد الكريم الخطابي في مواجهة السلاح الكيماوي، ترجمة: عبد العالي الأمراني، الرباط، 1996م، ص:136؛
– الدكتور علي الإدريسي : عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر، منشورات جريدة تفراز، الطبعة الأولى سنة 2007م، مطبعة دار النجاح الجديدة بالدار البيضاء، ص:86-87؛
– خوان باند و: التاريخ السري لحرب الريف، ص: 320؛
– Maria Rosa de Madariaga et Carlos lazaro Avila: (la Guerre chimique dans le Rif (1921-1927) Etat de la question), la Guerre chimique contre le Rif, p:37;
– محمد سلام أمزيان: عبد الكريم وحرب الريف، مطبعة المدني، القاهرة، طبعة 1971م، ص:249؛
– الدكتور عز الدين الخطابي: محمد عبد الكريم الخطابي: القائد الوطني، منشورات تيفراز،الحسيمة، ص:57؛
– انظر الدكتور علي الإدريسي: عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر، ص:90؛
– نقلا عن علي الإدريس: عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر، ص:96؛
– الدكتور أحمد الحمداوي الانعكاسات النفسية والإجرامية للسلاح الكيميائي على سكان الريف)،الحرب الكيماوية ضد الريف، ص:40-41؛
– محمد بن عمر بن علي العزوزي الجزنائي: محمد بن عبد الكريم نادرة القرن العشرين في قتال المستعمرين، دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 2007م، ص:166؛
– انظر ندوة 14 فبراير 2004م، وندوة 21 يونيو 2008م بالغرفة الصناعة والتجارة والخدمات بالناظور؛
– عمر لمعلم: (كلمات الافتتاحية)، الحرب الكيماوية ضد الريف، مطبعة بني يزناسن، سلا، الطبعة الأولى سنة 2005م، ص:15-16؛
– نقلا عن مالك بن نبي: مذكرات شاهد القرن، الجزء الأول، منشورات، دار الفكر، دمشق، 1969م، ص:223.