"الولد" الذى حكم مصر!!
عاش "لامبسون" فى مصر 12 عاما.. بدأت فى زمن الملك "فؤاد" وانتهت يوم 9 مارس عام 1946.. وخلال أيامه الأخيرة سجل فى مذكراته واقعة يندى لها الجبين.. حدث يوم 3 يناير أن اقترح الملك "فاروق" على السيدة "الفيرى" زوجة القائد العام للقوات البريطانية فى مصر, أن يتناول الغذاء عندهم إحتفالا بالعام الجديد – 1946 – يقول "لامبسون" أنه حدثت مفاجأة صاعقة: "تجاوز الملك فاروق كل حدود اللياقة, عندما فرض عليهم أن يحضر ومعه عشيقته – ميللى سى – ولم تبد صاحبة البيت اعتراضا.. سمحوا لعشيقة الملك أن تحضر.. ذلك جعلنى أرى تصرف الملك مشين ومثير للسخط.. وقلت بأننى لو كنت مكان السيدة الفيرى ما كنت لأقبل ذلك"
كان الموقف مثار تعليقات كثيرين فى دوائر السفارة البريطانية وقيادة قواتهم فى مصر.. دفع ذلك أحدهم أن ينقل ردود الفعل للملك "فاروق" وأنهم اعتبروا ما حدث سلوكا فاضحا.. يسجل "لامبسون" فى مذكراته يوم 5 يناير رد الملك: "برر الملك فاروق ما فعله بأن الآنسة – ميللى سى – كانت لطيفة ورقيقة.. وقال فاروق أن أمير ويلز سبق أن فعل ذلك, وبدا غير مكترث بغضب الدوائر البريطانية وعائلاتهم"!! وحدث فى هذا الوقت أن وقعت جريمة محاولة اغتيال "أمين عثمان" الشهيرة يوم 5 يناير فطغت على الفعل الفاضح لجلالته!!
قبل أن يتبجح أحد "خدم الملكية والاستعمار" بأى رد أو تعليق.. تعالوا نقرأ ورقة من مذكرات "كريم ثابت" صديق الملك "فاروق" ومستشاره الصحفى والوزير فى آخر حكومات "زمن الملكية" وصدرت المذكرات عام 2000 وتمت طباعتها أربع طبعات, وفيها يروى صاحبها: "كنت أستمع للإذاعة المصرية, فسمعت أن دولة إسماعيل باشا صدقى رئيس الوزراء وسعادة حسن يوسف باشا رئيس الديوان الملكى بالنيابة, سيسافران فى الغد إلى جزيرة رودس ليعرض دولة الرئيس مشروع التعديل الوزارى على جلالة الملك.. كان القصر قد تلقى فى خلال اليوم العاشر لمغادرة الملك إلى قبرص, برقية من اليخت الملكى تقول أن جلالته نزل فى رودس لأنه قرر أن يمد فترة استجمامه.. وأذيع فى المساء أن جلالتة تفضل, فوافق على التعديل الوزارى وأمضى المراسيم به.. وقد تعطف جلالته بدعوة رئيس الوزراء إلى الغذاء على مائدته.. وبعد عودته صرح إسماعيل باشا صدقى بأن جلالة الملك بصحة جيدة وأنه أفاد من سياحته كثيرا.. ونوه بالدعاية الطيبة العظيمة التى ينشرها جلالته فى كل مكان ينزل فيه.. ويظهر أن أن إسماعيل صدقى لم يلمح الفنانة كاميليا التى كانت بصحبة جلالته فى رحلته"!!
جلالته كان لا يخجل من المجاهرة بعشيقته.. لا يخفى تركه للبلاد أسابيع ليستمتع مع الفنانة "كاميليا" ولم يخجل من فضائح أمه وأخته.. لذلك ستجد أن الذين يدافعون عن زمن جلالته لا يخجلون حين يقولون أن مصر فى الثلاثينات والأربعينات كانت أجمل فالتاريخ عندهم مجموعة لقطات سينمائية وصور فوتغرافية.. ليتهم يقرأون مذكرات "سيد مرعى" وعنوانها "أوراق سياسية" ونشرها عام 1977, وفيها يصف حالة مصر.. فيقول: "كان الشعب يبحث عن الخبز فلا يجده.. بل أن لا يمكن تصور نوع الخبز الذى لا يجد الناس غيره.. إنه خبز مخلوط بالذرة والأرز, بعد أن حدث نقص فى كميات القمح.. نتيجة أن مصر التى كانت تتمتع باكتفاء ذاتى من القمح راحت تطعم عشرات الآلاف من قوات الاحتلال.. لهذا بدأت صناعة الخبز من الذرة المخلوط بدقيق الأرز.. ولو تركت رغيف الخبز ثلاث ساعات يصبح جامدا كقطعة خشب وأسود بلون التراب"!!
حدث ذلك فى زمن الملك "فاروق" خلال الحرب العالمية الثانية.. وسبق أن حدث وقت الحرب العالمية الأولى, وخلالها دفعت مصر ثمنا فادحا من حياة أبنائها وثروات شعبها وكرامتهم.. وذلك ما يجسده "سيد مرعى" فى مذكراته بقوله: "نتيجة النقص الشديد فى المواد الغذائية لأفراد الشعب, والتكدس الشديد لدى جنود الاحتلال.. بدأ بعض الناس يتخصصون فى نهب قطارات التموين الذاهبة إلى معسكرات الانجليز.. بل أن بعض الجنود الانجليز كانوا يبيعون للشعب ما لديهم من سلع, بطريقة غير مشروعة.. كنا نرى لورى محمل بالبضائع وفيه جنديين أو ثلاثة, ويقف فى شارع أو ميدان ليبدأ الجنود فى البيع للأهالى بطاطين وملايات سرير.. بعدها يعود الجنود إلى معسكراتهم ويبلغون أنهم تعرضوا للسرقة فى الطريق"!
فقط نتذكر ما قاله "تشرشل" خلال اجتماعه مع "النحاس": "لا يهمنى غير توفير الحبوب للمجهود الحربى والقوات البريطانية"!! وصحيح أن وسط القاهرة وشوارعه كانت تتراقص فيها محلات اليهود بالإضاءة..بل وتعج بالملاهى وعلب الليل الفاخرة.. وفيها تجد الموضة على أجساد الخواجات والباشوات.. وسجل "سيد مرعى" فى مذكراته ما شاهده بعينيه, وكان واحدا من كبار الملاك والأثرياء ونائبا فى برلمان ما قبل الثورة.. فقال: "فى المرات القليلة التى كنا نأتى فيها إلى القاهرة.. نشاهد جنود الانجليز سكارى يعربدون خلال خروجهم من الملاهى.. يوقف أحدهم أى مواطن يمر أمامه ويشهر فى وجهه السلاح ليستولى على نقوده.. يقوم بتكسير فاترينة لأحد المحلات لينهبه.. وإذا شاهد أحدهم سيدة فى الشارع يطاردها.. وحدث أن ذهبنا إلى سينما متروبول أنا وزوجتى وأخى وزوجته, وبعد خروجنا من السينما وقرب سيارتنا فوجئنا بأربعة جنود مسلحين يقفزون فوق رفارف السيارة وهم سكارى.. ركبنا بسرعة وأدرت المحرك وأسرعت بقوة لأهرب منهم, وتركتهم يسقطون فى مشهد لا يختلف عن مشاهد السينما.. وهؤلاء كانوا محصنون ولا يخضعون للحساب أو القانون"!
نامت الكتب.. صمتت الوثائق.. تم حجب كل صوت قادر على تنوير الشعب.. ثم درات ماكينات تشويه ثورة 23 يوليو وزعيمها "جمال عبد الناصر" بعد رحيله بعام واحد فقط.. تهدأ هذه الماكينات أحيانا, لكنها لم تتوقف لأكثر من نصف قرن.. ثم جاء اليوم الذى شاهدنا فيه من رفع السلاح فى وجه الدولة, وشارك فى انقلاب على "عبد الناصر" بعد نكسة 1967 على منصة رئاسة مجلس الشيوخ.. وأمامه فى القاعة كل المشاركين فى الترويج لأيام الملكية!
يقولون أن "زمن الملكية الجميل" كانت فيه مصر "غنية" و"ديمقراطية"
يقول "كريم ثابت" صديق الملك ومستشاره والوزير فى آخر حكومات "زمن الملكية" الكثير عن هذا الزمن.. سيكون مفيدا أن نقلب أوراقه فى مذكراته التى كتبها بخط يده ونشرها فى مصر.. فيها يذكر: "صارحنى الملك فاروق بأن خلافه الشديد مع مصطفى النحاس, ونفوره منه يرجع إلى ما قبل حلفه اليمين الدستورية.. فقد كان فى باريس حين كان النحاس يزور لندن لإمضاء المعاهدة المصرية – الانجليزية عام 1936.. فلم يكلف النحاس نفسه مشقة الحضور إلى باريس للسلام على وإطلاعى على ما جرى فى لندن, لأننى لم أكن قد باشرت سلطتى الدستورية.. فقد كنت فى نظره ولدا صغيرا لا يستحق أن يهتم به.. ولم يحضر لزيارتى إلا بعد أن نبهوه إلى هذا الواجب.. وعندما حضر تأخر ساعة كاملة عن الموعد الذى حددته له.. ولا أظن أنه كان يجرؤ على هذا التأخير لو كانت المقابلة مع والدى"!!
قبل أن يصف كل من عرف آخر ملوك مصر بأنه "ولد"!!
كان الملك نفسه يعرف أنه "ولد" صغير!!
لكن "خدم الاستعمار والملكية" يرونه ملكا عظيما.. مظلوما.. شوهته الثورة التى يرونها خربت مصر!! ربما لأن ثورة 23 يوليو عبرت عن الشعب.. كسرت أنف الاستعمار ورجاله.. وقد يكون لأن الثورة قام زعيمها "جمال عبد الناصر" بتأميم قناة السويس.. فتجدهم يروجون أن امتيازها كان سينتهى عام 1968.. ولو انتظرنا لعادت إلينا.. وهؤلاء لا يذكرون أن الانجليز حاولوا مد امتيازها لأربعين عاما أخرى عام 1910.. كادت المحاولة تنجح بعد أن وافق الخديوى "عباس" وشرع رئيس الوزراء "بطرس غالى" فى التوقيع.. لكن رصاصات شاب من أبناء مصر كانت أسبق فاغتالته!! ليطوى الاستعمار هذه الصفحة, ويطور خطة بقاه فى مصر ببناء أكبر القواعد البريطانية على ضفاف قناة السويس.
نعود لمذكرات "كريم ثابت" الذى يروى عن جلالته أنه حكى له: "النحاس قال لى يوما بعد أن حلفت اليمين الدستورية عام 1937.. أرجو من جلالتك أن تعتبرنى بمثابة والدك.. كتمت غيظى لأنه خاطبنى كما يخاطب الوالد ولده"!!
كيف كان يفكر آخر ملوك مصر قبل ثورة 23 يوليو؟!
يجيب على السؤال "كريم ثابت" فى مذكراته, فيقول بالنص: "لاحظت حبه للظهور بمظهر العارف بكل شىء.. يكره أن يبدو كمن يتعلم من إنسان آخر, أو من يستفيد من خبرة غيره.. فقد باعد بينه وبين رجال كثيرين لأنهم أشعروه, أو خيل إليه أنهم أرادوا أن يشعروه بأنهم على استعداد لأن يكونوا مستشارين له فى السياسة أو الشئون العامة.. وحدث أن توفيق دوس باشا الذى كان مقربا للملك فؤاد إلتقى بالملك فاروق بعد أن جلس على العرش.. فقال له فاروق أنه يعرف مكانته لدى الملك فؤاد, وثقته فيه وفى آرائه.. وكان طبيعى أن يرد الرجل بأنه يأمل أن يفوز بالثقة نفسها من جلالته.. فعامله فاروق بجفاء, وكان يدعوه إلى بعض المناسبات ليفهمه أنه ليس فى حاجة إلى آرائه أو نصائحه"!!
يوضح "كريم ثابت" فى مذكراته الإجابة أكثر.. فيقول: "بعد مصرع أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى.. كتبت الصحف والمجلات فى مصر وخارجها عنه, أنه كان المستشار الذى يصعب على فاروق تعويضه.. فامتعض الملك من هذه الكتابات ووضع خطا أحمر تحت كل عبارة وصفت الراحل بأنه كان مستشارا.. وقال لى: هؤلاء المغفلين يظنون أن حسنين هو الذى كان يعمل ويتصرف.. لا يعلمون أن حسنين كان آلة منفذة"!! وليؤكد ذلك ترك منصب رئيس الديوان شاغرا لمدة سنة ليتأكد الجميع أنه قادر على العمل بلا مستشارين!!
فهمه "كريم ثابت" وقرأ عقله وتفكيره.. هو يعترف بذلك بوضوح فيقول: "إقترحت عليه يوما رأيا دون أن أنسبه إليه.. وافقنى وهنأنى.. أردت التهوين من شعوره بأن هذا تفكيرى فقلت له: جلالتك تهنئنى على ما قلت كما لو كان ثمرة تفكيرى.. والحقيقة أن ملازمتى لكم أتاحت لى معرفة آرائك, لذلك عند طرح أى موضوع أفكر بوجهة نظر جلالتك.. أسعده كلامى وقال: فهمت لماذا أكثر من اصطحابك معى؟! لذلك كنت إذا اقترحت شيئا أقول أننى سمعته منه"!! وبعدها يؤكد المعنى بوضوح أكثر فيقول: "كان مطلوبا منى التأكيد على أننى وسائر رجاله ننفذ تعليماته وتوجيهاته"!!
التفاصيل كثيرة.. الوثائق متوفرة.. التاريخ شاهد وذاكرته قوية.. لكنه صامت مع سبق الإصرار والترصد.. مسموح فقط للسفهاء وخدم الاستعمار والملكية أن يتكلمون!!