يسلِّط المقال التالي الأضواء على تأثر الرئيس الأمريكي جورج بوش بسياسي إسرائيلي مثير للجدل، هو ناتان شيرانسكي، إلى درجة أن يعتبره بوش مرشداً روحياً له.
ويفتح الكاتب الإسرائيلي المعارض للصهيونية أوري أفنيري، ملف شيرانسكي هذا، مبرزاً الثغرات في سيرته وتوجهاته، وكيف أنه من المفزع أن يكون شيرانسكي ذاته موجهاً أدبياً لزعيم أقوى دولة في العالم.
ويوضح أفنيري في مقاله هذا، المنشور بواسطة مجموعة "غوش شالوم" (كتلة السلام) الإسرائيلية على الإنترنت، في الثاني عشر من آذار (مارس) 2005، أنّ "النظرية غير الأصلية التي يتفوّه بها تقضي بأنّ "دولة ديمقراطية لا تشن حرباً على دولة ديمقراطية أخرى". إنّ هذه ذريعة ممتازة للولايات المتحدة لتشن حربها على العراق أو سورية أو إيران، فهذه الدول في نهاية المطاف دول غير ديمقراطية، في الوقت الذي تدعم فيه أنظمة حكم استبدادية مثل الأنظمة في باكستان وتركمانستان".
وخلص أفنيري إلى القول "إنّ فكرة أنّ نظرية هذا الفيلسوف السياسي هي التي توجِّه أهم زعماء العالم، وقائد أضخم آلية عسكرية في التاريخ؛ تدبّ الرعب في القلوب"، كما كتب في مقاله.
(بداية النص)
المرشد الروحي لبوش
بقلم: أوري أفنيري
جندي أمريكي وجندي سوفييتي يلتقيان عام 1945 في برلين، ويتناقشان أي من دولتيهما هي الأكثر ديمقراطية.
"ما معنى ذلك"، كما قال الأمريكي "يمكنني أن أقف وسط ساحة التايمز في نيويورك وأن أصرخ "الرئيس ترومان وغد"، ولن يحدث لي أي مكروه".
"وماذا في ذلك؟"، كما أجاب الروسي وأضاف، "يمكنني أن أقف في وسط الساحة الحمراء في موسكو وأن أصرخ بأعلى صوتي: "الرئيس ترومان وغد" ولن يحدث لي أي مكروه".
يمكن أن تكون هذه النكتة هي التي أوحت بخلق نظرية ناتان شيرانسكي (السياسي الإسرائيلي المتطرف الذي ينحدر من الاتحاد السوفياتي السابق)، والتي تقضي بأنّ الاختبار الأقسى للديمقراطية هو أنّ إنسانا يستطيع أن يقف في ساحة المدينة وأن يوجه الشتائم إلى الحكومة، دون أن يُصاب بأي مكروه. هذا صحيح، ولكنه مجرّد وبسيط، وكدت أقول إنه بسيط إلى حد يجعله يستحوذ على مخيلة المفكر العبقري جورج دبليو بوش.
فعند سماعنا، لأول مرة، عن تصريح بوش بأنّ شيرانسكي هو مرشده ومعلمه؛ فُغرت أفواه بعضنا عجباً، لا نؤمن لما نسمع. ماذا، شيرانسكي؟ شيرانسكي الذي هو منّا وفينا؟.
لكي نشرح ردّ الفعل، علينا أن نستذكر الماضي قليلاً. لقد سمعنا للمرة الأولى باسم أناتولي شيرانسكي، حين كان "مناهضاً للنظام" في الاتحاد السوفييتي. فبعد أن استقطب الاهتمام العالمي؛ اعتقله "كي جي بي" (وكالة الاستخبارات السوفياتية)، وقد حكم عليه بالسجن بتهمة الخيانة، وقد كانت هذه محاولة فظة لإسكاته. سمعنا بأنه لم يخضع حتى في جهنم غولاغ (اسم سجن)، بل بقي يناضل دفاعاً عن حقوقه وآرائه. لقد طالبت آلية دولية هائلة بإطلاق سراحه.
وفي نهاية الأمر؛ قرّر السوفيات التخلص منه، ومقايضته بجاسوس سوفياتي كبير، كان مسجوناً في سجن أمريكي. كلنا نتذكر الصورة التي لا تُنسى، كيف مرّ ذلك الطيف القصير، ولكن منتصب الهامة، على جسر برلين.
حبسنا أنفاسنا ننتظر قدومه إلى إسرائيل. وها لنا بطل حقيقي، وهو الرجل الذي انتصر بمفرده على العملاق السوفياتي، داوود العصر الحديث الذي تحدى جالوت العملاق وانتصر عليه.
لقد كان حضوره مخيباً للآمال. لم يبْدُ كبطل. غير أنّ المظهر الخارجي يمكن أن يوقع بالخطأ.
في المطار؛ انضم أناتولي، الذي أصبح يدعى الآن ناتان، إلى زوجته، وهي أيضاً من "مناهضي النظام" المعروفين. وبعد أن اشتهرت زوجته في البلاد بتطرفها الديني وعنصريتها، كانت العلاقة بينها والمناضل من أجل حقوق الإنسان غريبة بعض الشيء.
لقد بدأت خيبة الأمل الحقيقية، بالنسبة لي على الأقل، في قضية الحسيني. إحدى النفوس الطيبة رتبت لقاء بين المناضل السوفياتي من أجل حقوق الإنسان وفيصل الحسيني، المناضل الفلسطيني من أجل حقوق الإنسان، الذي كان إنسانياً حقيقياً. وافق شيرانسكي على اللقاء، ولكنه ألغى اللقاء في اللحظة الأخيرة، مدّعياً بأنه لم يكن يعلم مسبقاً بانتماء الحسيني إلى منظمة التحرير الفلسطينية. هذا يشبه الادعاء كما لو لم يكن يعلم أنّ بوش أمريكي.
لقد كتبت مقالاً عنه (في حينه) وأسميته "شافانسكي"، وهو نحت من كلمتي أرنب وشيرانسكي.
منذ ذلك الحين؛ تحوّل المناضل من أجل حقوق الإنسان تدريجياً إلى مناضل لا يرتدع ضد الحقوق الإنسانية، وسائر الحقوق الأخرى، للفلسطينيين في المناطق المحتلة.
في البداية أسّس حزباً من القادمين الجدد من الاتحاد السوفياتي سابقاً، وأحرز إنجازاً طيباً في الانتخابات، وانضم إلى الائتلاف برئاسة حزب العمل. غير أنّ حزبه، بعد فترة وجيزة؛ أخذ بالتفكك. لقد حاول إنقاذه عن طريق الانسحاب من حكومة إيهود باراك، مدّعيا بأنها قدمت تنازلات مبالغ بها للفلسطينيين في القدس.
في نهاية الأمر اعترف بإفلاسه السياسي وانضم إلى الليكود، وهو الآن عضو ثانوي له في الحكومة. إنه يعرّف نفسه على أنه "وزير لشؤون القدس"، غير أنه في الحقيقة وزير بلا حقيبة، تم تسليمه معالجة شؤون المدينة.
في هذه الأثناء واجه بعض الإحراج. فقد نشر قادم جديد مشهور آخر من روسيا، وهو الدكتور يولي نودلمان، كتاباً انتقادياً شديد اللهجة ضد شيرانسكي، يدّعي فيه أنّ شيرانسكي لم يكن ذات مرة "فقيد" هام، بل إنّ وكالة المخابرات السوفياتية هي التي ضخّمت من أهميته عن سابق قصد ليشكل ورقة في يدها في المحادثات لإطلاق سراح ذلك الجاسوس الكبير من السجن الأمريكي. وقد ادّعى نودلمان أيضاً أنّ تصرف شيرانسكي، بعد إطلاق سراحه؛ لم يكن بطولياً كما أدعي بالفعل.
لقد قدّم شيرانسكي دعوى قضائية بالتشهير وكسبها كذلك، رغم أنّ عددا من مناهضي النظام (السوفياتي) الآخرين قد شهدوا ضده.
مع مرور الوقت؛ توجه شيرانسكي، مثله مثل العديد من القادمين الجدد من روسيا، إلى اليمين المتطرف. ومنذ أن أصبح وزيراً للبناء والإسكان؛ قام بتوسيع المستعمرات في الضفة الغربية بشكل منهجي، على أرض عربية مستولى عليها. إنه الآن من بين "متمردي الليكود" الذين يحاولون إحباط "خطة الانفصال"، التي ينوي شارون تنفيذها، ومنع إخلاء المستعمرات.
إنه يحاول منذ عدة سنوات الترويج للنظرية القائلة بأنّ السلام مع العرب غير ممكن طالما لا يتحوّل العرب إلى ديمقراطيين. يبدو هذا الأمر في إسرائيل ألعوبة أخرى لتبرير رفض الحكومة إرجاع الأراضي المحتلة. ولأنه ليست لشيرانسكي أية دراية بالشؤون العربية، لا من قريب ولا من بعيد، وعلى الأرجح لم يُجْرِ في يوم من الأيام أية محادثة جدِّية مع عربي؛ فمن الصعب على الإسرائيليين أخذه بعين الاعتبار بجدية فيما يتعلق بهذا الموضوع. وفعلاً، على حد علمي؛ لا يفعل أي شخص في اليمين ذلك.
إنّ النظرية غير الأصلية التي يتفوّه بها تقضي بأنّ "دولة ديمقراطية لا تشن حرباً على دولة ديمقراطية أخرى". إنّ هذه ذريعة ممتازة للولايات المتحدة لتشن حربها على العراق أو سورية أو إيران، فهذه الدول في نهاية المطاف دول غير ديمقراطية، في الوقت الذي تدعم فيه أنظمة حكم استبدادية مثل الأنظمة في باكستان وتركمانستان.
إنّ فكرة أنّ نظرية هذا الفيلسوف السياسي هي التي توجِّه أهم زعماء العالم، وقائد أضخم آلية عسكرية في التاريخ؛ تدبّ الرعب في القلوب.
المصدر قدس برس