مقال الدكتور علي محمد فخرو، شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التقلبات الفكرية والسلوكية وما تفعله
يمر المشهد السلوكى الاجتماعى والعقيدى فى مجتمعات بلدان الخليج العربى بمرحلة تقلبات مثيرة للقلق ومشيرة إلى نقاط ضعف مجتمعية متجذرة قابلة للنمو والانتشار.
وبالطبع فقد ساعد على وجود الظاهرة إقحام بعض بلدان الخليج نفسها فى قضايا عربية خلافية أوجدت حالات استقطابات سياسية وفكرية حادة غير قابلة للحوارات الهادئة الموضوعية.
والأمثلة على هذه الظاهرة، والتى شملت كتاب أعمدة ورجالات فقه وإعلاميين وأعضاء مجالس برلمانية استشارية وغيرهم، لا تعد ولا تحصى. ويتفنن أصحابها فى استعمال وسائل علم النفس الشهيرة فى الإقناع، وفى تزوير أحداث تاريخية وتحميلها ما ليس فيها، وفى قراءات خاطئة وكاذبة لأقوال وتصرفات الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولبعض الآيات القرآنية الكريمة، وفى بث رعب متخيل كامن فى هذه الدولة الإقليمية أو تلك أو فى هذه الطائفة أو تلك أو فى هذا الحزب أو ذاك.
ولا يخجل بعض هؤلاء من أن ما يكتبونه الآن أو يقولونه يخالف جذريا وكليا ما كتبوه أو قالوه منذ بضع سنوات أو حتى منذ بضع شهور.
وبالطبع فإن تلك السلوكيات المتقلبة تجمع بين الانتهازية السياسية، أو الزبونية الشخصية لأصحاب المال والجاه على الأخص، أو نفاق وعاظ السلاطين الذين عرف عنهم التلون حسب إملاءات أصحاب السلطة، أو الارتباط المفروض بأجهزة الاستخبارات المحلية والخارجية، أو أشكال أخرى لا تعد ولا تحصى مما جاءت به، مع الأسف، ثروات البترول الهائلة وثبتتها ممارسات الاقتصاد الريعى الغنى الذى طال أمده فى هذه البقعة من الوطن العربى.
ومن المؤكد أن هذه الظاهرة موجودة، بكل تفاصيلها وتجلياتها، فى باقى بلدان الوطن العربى، لكننا فى هذه اللحظة معنيون بتواجدها المقلق الخطر فى بلدان الخليج العربى الذى بدأت تحولاته العميقة السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والإعلامية تؤثر على كل ساحات الوطن العربى.
إن الخطر لا يكمن فقط فى الانقلاب السلوكى والفكرى تجاه حدثٍ، هو مؤقت فى أغلب الأحيان على أى حال، وإنما ما يصاحب ذلك من تخل صاحبها عن مبادئ وأخلاق إنسانية، أو عن التزامات الهوية العروبية الجامعة التى بذلت جهود هائلة لبنائها وترسيخها فى الوجدان العربى العام عبر قرون من الزمن، أو عن مشاعر التعاطف مع أشقاء مظلومين ينتمون إلى نفس الأمة الواحدة.
عند بعض هؤلاء، فجأة تصبح شعارات من مثل أهمية التوحد العربى أو الاستقلال القومى والوطنى أو الممارسة الديموقراطية أو التوزيع العادل للثروة أو الكرامة الإنسانية، مما طرحه الشارع العربى وما لم يطرحه، ومما توصلت إليه عقول المفكرين العرب وقادة نضالاتهم، تصبح كل تلك الشعارات عبارة عن تهويمات وغيبيات لا أهمية لها، وذلك أمام مبدأ المصلحة المحلية الآنية الضيقة وأمام ما يقوله هذا المسئول الخليجى أو ذاك. وتصل الأمور إلى حد الشخصنة المريضة المجنونة فى الحياة السياسية والدينية والأمنية فى هذه المنطقة العربية المبتلاة بألف مشكلة وألف مؤامرة.
وتزداد خطورة الظاهرة عندما تنتقل تلك الممارسات أو آثارها الكارثية إلى عموم المجتمع كله، ثم إلى ساحات التواصل الاجتماعى، حيث يتفجر الجهل مع الطفولة الرعناء ومع العقد النفسية لنصبح أمام كارثة فكرية سياسية فجرها من كنا نعتقد ونأمل بأنهم حماة العقلانية والمبادئ المتزنة والثوابت الوطنية والقومية، وأنهم قادة المثقفين الملتزمين فى مجتمعات الخليج العربى منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا، وإذا بهم تلامذة أوفياء لبروتس الذى خان القيصر الرومانى.
نقوله بكل صراحة وخوف على المستقبل بأن الجهات التى ترعى أو تشجع أو تستعمل تلك الظاهرة إنما تلعب بمستقبل الأجيال العربية الشابة التى ستعيش فى مجتمعات لا طعم لها ولا رائحة، تتعايش فيها الفردانية الأنانية المفرطة مع النظام الاقتصادى الجائر العولمى المجنون غير المنتج، مع البعد عن المحيط العربى الكبير الذى وحده هو الضامن للاستقرار والازدهار الذاتى الحقيقى، مع بقاء الجميع كالريشة فى مهب رياح التدخلات الخارجية الحقيرة الناهبة لثرواتنا والمتلاعبة بعواطفنا.
يخطئ من يعتقد أنه سيكون فى منجى وأمان، أو حتى أنه سيحقق طموحات هذا المسئول أو ذاك. ومع غيرنا نقرع هذه الأجراس فلعل من بيدهم الأمور والقرارات يدركون أن المجاملات التقليدية المملة لن تفيد وأن عليهم أن يفكروا بعمق لمواجهة الكوارث التى جاءت بها بعض سياسات وقرارات الداخل الخاطئة وتعايش البعض مع شخصيات الخارج المريضة الكارهة لهم ولشعوبهم ولأمتهم، والتى تحتقرهم هم بالذات.