لماذا حرّم السلاطين العثمانيون استخدام الآلة الطابعة؟
تأخر الآلة الطابعة في الوصول إلينا لمدة ثلاثة قرون فاقم الجهل والتخلف لدى المسلمين
في العصور الوسطى، في منتصف القرن الـ15 تحديدًا، استطاع المخترع الألماني يوهان غوتنبرغ صناعة أول آلة طابعة في أوروبا، التي ساهمت إلى حد كبير في نشر المعرفة بين الأوربيين، والدخول إلى عصر النهضة. وكانت الطابعة مكونة من قوالب لحروف يمكن رصها بجوار بعضها، ثم يوضع فوقها الورق، ويُضغط عليها لتصبح مطبوعة.
وبعد انتشار الآلة الطابعة في أوروبا وتأثيرها على مجرى حياة المواطنين، استطاع المحدّثون خلالها طبع الكتاب المقدّس بنسخ كثيرة، وتوزيعه على الناس، بعد أن كان حكرًا على رجال الدين لعصور طويلة، وبعد أن كان تفسيره يقتصر على أهوائهم ومصالحهم، مما أثر على الحياة الدينية والمعرفية للأوروبيين. وكان من نتائج ذلك التأثير نشأة المذهب البروتستانتي الإصلاحي على يد مارتن لوثر، الذي جعل من الكتاب المقدس المطبوع كتابًا في متناول جميع المسيحيين.
وبعد 35 عامًا من الاختراع، عرض غوتنبرغ مشروع الآلة الطابعة على بلاط الخليفة العثماني بايزيد الثاني، ثامن الخلفاء العثمانيين، وعرض عليه استيرادها من أوروبا، إلّا أن الفقهاء ورجال الدين الإسلاميين رفضوا تلك الفكرة وعارضوها بشدّة، لخشيتهم أن يجري استخدام الطابعة في تحريف القرآن الكريم، ومعتبرين الطابعة فكرة “تغريبية”!
وبالفعل أصدر السطان بايزيد الثاني فرمانًا يمنع استخدام الآلة الطابعة في الدول التي تخضع لسلطة الدولة العثمانية، وصدرت فتوى تكفير بحق من يستخدمها.
كما عارض شيوخ الدين بقوة تلك الفكرة لأسباب نفعية، لأنهم كانوا يعملون في نسخ القرآن، وهو ما يعود عليهم بالدخل الاقتصادي الوفير، وخافوا أن يقل دخلهم إذا جرى استخدام الطابعة بدلًا منهم. كما عارض استخدام الطابعة كل من يعمل في القضاء وكبار موظفي الدواوين في بلاط السلطان، لأن دخول الطابعة كان سيحرمهم من الحظوة والمال والسلطان وعلو الشأن.
ولكن فرمان السلطان العثماني استثنى من المنع الطائفة اليهودية؛ فقد أخذوا وحدهم امتياز استخدامها في أماكن تواجدهم داخل حدود السلطنة، وقاموا بطباعة ترجمة عربية للتوراة، وكذلك كتاب في مبادئ تعلم العبرية، سنة 1494م.
لم يأخذ رجال الدين والسلطان العثماني بعين الاعتبار أن الآلة الطابعة يمكن استخدامها في طبع كتب ثقافية ومعرفية، ولذلك وبحسب المؤرخين فقد أضاعوا على العالمين العربي والإسلامي فرصة ثمينة للتقدم العلمي والحضاري، بينما كان جهد العثمانيين ينصب على القوة العسكرية، في الوقت الذي أخذت فيه أوروبا تتقدم في العلم والمعرفة.
استمر سلاطين الدولة العثمانية على رأيهم، لمدة ثلاثة قرون تقريبًا، في تجريم ومنع استخدام المطبعة، حتى لا تؤدي إلى “تنوير” شعوبهم، فمن المعروف أن المتعلمين يقاومون الظلم، ومن الصعب حكمهم بطريقة استبدادية مقارنة بغير المتعلمين.
وقد صاغ المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، إستراتيجية الحكام في تجهيل شعوبهم كأحد وسائل السيطرة عليهم، وهي التي استخدمتها الدولة العثمانية طوال ثلاثة قرون منعت خلالها دخول الطباعة إلى العالم العربي والإسلامي، وساهمت في نشر الأمية عبر تقييد تشييد المدارس. وفي الوقت ذاته، أشغلوا العرب بحروب خارجية، لم تكن تهم المواطن العربي في شيء، كما أخذوا الشباب العرب للقتال في أوروبا وبلاد الثلج.
وكان تشومسكي قد كتب مقالاً قال فيه إن إبقاء العامة في حالة من الجهل والغباء يعتبر إحدى الإستراتيجيات العشرة للسيطرة عليه. وكتب في النقطة السابعة: “يجب أن تكون جودة التعليم المقدم للطبقات الدنيا رديئة، بشكل يعمق الفجوات بين تلك الطبقات والطبقات الراقية التي تمثل صفوة المجتمع، كي يصبح من المستحيل على تلك الطبقات الدنيا معرفة أسرار تلك الفجوة”.
وتعتبر تلك النقطة هي من أنجح الإستراتيجيات التي استخدمها العثمانيون في السيطرة على الأمة العربية ، عبر تجهيل فقرائها، في الوقت الذي كانت فيه المدن التركية واحة للمجتمع الراقي، فتتقدم ويتعلم أبناؤهم. ولذلك اشترك العثمانيون، مع رجال الدين، في شيطنة الآلة الطابعة، فاحتكرت النخبة الحاكمة الحرف والكلمة، وضيّعوا على العرب فرصة منافسة أوروبا المتقدمة.