أوهام الثورة الجزائرية، ومضامين التجربة العسكرية
أولاً:مرحلة تدعيم المؤسسات المؤقتة للثورة،
وارهاصات ولادة المجتمع المدني
إذا كانت هنالك من ثورة شعبية جذرية وظافرة ضد النظام الكولونيالي القديم في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، فإنها بكل تأكيد تلك التي حصلت في فيتنام والجزائر، وبينما اتجهت الثورة الفيتنامية ذات المضمون الوطني الديمقراطي نحو بناء الاشتراكية بصرف النظر عن الاخفاقات التي تعرضت لها، عرفت الثورة الجزائرية بعد انتصارها سلسلة من الانقطاعات، واختلافات حادة ومحددة حول مسألة بناء الدولة ومؤسساتها، وتنظيم المجتمع، وطرائق بناء الاشتراكية فيه، التي تفصلها فوارق جوهرية مع الاشتراكية العلمية. وعلاوة على ذلك لاقت الموت بلا مجد تحقيق الديمقراطية والاشتراكية، إذا ما نظرنا إليها من زاوية السياسة الراديكالية التي تطمح إلى بناء دولة الحق والقانون، والمجتمع المدني الحديث، وهذا لا يحجب عنا رؤية ما تحقق من انجازات تقدمية خلال المرحلة السابقة.
قبل اندلاع الثورة في تشرين الثاني 1954، كانت الحركة الوطنية الجزائرية تعاني من انقسامات عميقة بسبب موقف اللجوء إلى العنف المسلح ضد المستعمر الفرنسي، حيث أن "حركة انتصار الحريات الديمقراطية" بزعامة مصالي الحاج، "وحزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري" بزعامة فرحات عباس، والحزب الشيوعي الجزائري الذي كان مرتبطاً أيديولوجياً وسياسياً بالحزب الشيوعي الفرنسي، وأخطأ تاريخياً في تقدير الموقف الوطني السليم من قضية الاستقلال للشعب الجزائري قبل الانتصار المسبق للبروليتاريا الفرنسية، هذه الأحزاب جميعها التي اكتسبت خبراتها السياسية في إطار النظام السياسي الاستعماري الفرنسي، كانت ضد الصراع المسلح، وعملت على تحقيق الاستقلال بطريقة برلمانية. وتفرد الحزب الشيوعي الجزائري بموقفه من هذه المرحلة الجديدة في تاريخ عرب الجزائر بالدعوة إلى "البحث عن حل ديمقراطي يحترم مصالح جميع سكان الجزائر دون ما تمييز في العرق أو الدين، ويأخذ بعين الاعتبار مصالح فرنسا"(1).
على نقيض القيادات السياسية الليبرالية والراديكالية التي قادت الحركة الوطنية الجزائرية طيلة الفترة بين 1946-1954، كان الثوريون الذين ينحدرون من أصول اجتماعية فقيرة، أي من فئات البرجوازية الصغيرة الفلاحية والمدنية المضطهدة، قد أنشأوا في شهر أذار من العام 1954 ما عرف أنذاك بـ "اللجنة الثورية للوحدة والعمل"، التي بدأت في تشكيل مجموعات ومغاور للانصار، والتحضير لانتفاضة مسلحة. وتحولت اللجنة الثورية للوحدة والعمل" منذ أن انفصلت عن العملية السياسية الشرعية، في مقتبل تفجيرها الكفاح المسلح إلى ما يعرف بـ"جبهة التحرير الوطني الجزائرية" كما تحولت مفارز الأنصار إلى جيش التحرير الوطني الجزائري.
إن الثورة الجزائرية على الرغم من الطابع الوطني التحرري الذي تصدر أولى الأولويات في برنامجها السياسي، لم تكن تحمل في طياتها مشروعاً أيديولوجياً وسياسياً لتحقيق الثورة الديمقراطية العميقة، ويرجع هذا بشكل رئيس إلى طبيعة القوى السياسية القائدة لهذه الثورة -جبهة التحرير الوطني- من حيث تشكلها السياسي والتنظيمي وبرنامجها، وقصور وعيها السياسي والأيديولوجي، وتركيبتها الطبقية التي يغلب عليها طابع البرجوازية الصغيرة الفلاحية، وبنيتها التنظيمية غير الديمقراطية، التي لا تسمح بحرية النقاش والحوار الداخلي، بالإضافة إلى سيطرة الجناح العسكري من البرجوازية الصغيرة على السلطة. ويقول المؤرخ الجزائري محمد حربي عن كيفية نجاح جبهة التحرير الوطني في انتزاع شرعية التمثيل السياسي، وفرض صورة المقاومة والممثل الوحيد للجزائر، ما يلي: "يجب التسليم بأنه كانت هناك رغبة بوحدة حركة المقاومة سواء في مصر أو في فرنسا، وهما بلدان كانت شعبية جبهة التحرير الوطني فيهما هي الأقوى، وذلك لأسباب مختلفة جداً، ففي مصر ألغت الناصرية الأحزاب السياسية، بيروقراطياً، بهدف فرض وجودها، وكانت فكرة التعددية بالذات تثير شبهة القادة المصريين، أما في فرنسا فلقد بقي اليسار موسوماً بقوة بأسطورة مقاومة فرنسية موحدة وبرفض المجموعات التحرير الوطني كنقيض للحركة الوطنية الجزائرية، أي أداة عصرية، علمانية وبعيدة عن "العروبة والاسلام" وهذه الصورة الصغيرة طورها مثقفون جزائريون يتكلمون على أنفسهم أكثر مما يتكلمون على مجتمعهم أو حتى على المشاعر العميقة للغالبية الساحقة من قادة جبهة التحرير"(2).
هل استطاعت جبهة التحرير الوطني الجزائرية أن تحقق قطيعة جذرية منهجية ومعرفية، وسياسية وأيديولوجية، مع المنهج والأيديولوجيا السائدة داخل أحزاب الحركة الوطنية، وأن تشكل إطاراً استراتيجياً ممثلاً لمشروع الكفاح المسلح، وداعماً لخصائص ولادة "المجتمع الجزائري في فضاء الثورة".
مع انتشار حرب التحرير الوطني داخل الجزائر بدأت جبهة التحرير الوطني تستقطب جماهير وقيادات من الحركة الوطنية الجزائرية التي أسسها مصالي الحاج، ومن الراديكاليين والليبراليين الذين ضموا قواهم إلى الثوريين، ومن الشيوعيين الذين انضموا إلى الجبهة كأفراد. وكان هذا الرفد للجبهة بالكوادر والقيادات السياسية يزيدها خبرات ومهارات تنظيمية جديدة وييسر لها كسب اعتراف دولي. ومع ذلك لم يحصل الاندماج بمفهومه السياسي والتنظيمي. فقد ظلت العلاقات بين القيادات التقليدية القديمة والقيادات الجديدة داخل إطار جبهة التحرير الوطني معقدة ومبلبلة، ويشوبها الحذر. وكانت تنمو تعارضات سياسية وأيديولوجية بين قادة جبهة التحرير الوطني الذين يريدون فرض تاريخهم الحديث الذي يعطيهم الشرعية السياسية والجماهيرية، ومن القوة والتفوق باعتبارهم "مقاتلي أول نوفمبر" ومؤسسين لهوية "قومية عصرية" للجزائر لانتشالها من غموض تاريخي، وبين القيادات التقليدية التي تعتمد على شرعيتها السياسية النضالية الماضية.
في سيرورة تراكم التناقضات الداخلية، كان لا بد من مؤتمر لمعالجة الأوضاع الداخلية المتفاقمة لجبهة التحرير الوطني لكي تثبت قدرتها على قيادة الثورة، ولمغتابيها أن "..الثورة الجزائرية ليست تمرداً ذا طابع فوضوي، محدوداً محلياً. من دون تنسيق، ولا قيادة سياسية، ومحكوماً عليه بالفشل"(3).
وليس ثمة ما يؤكد على أن المؤتمر التأسيسي لجبهة التحرير الوطني الجزائرية الذي عقد على طرف واد الصمام في منطقة القبائل ما بين 20-22آب 1956 في ظروف قاسية، قد بلور برنامجاً سياسياً واضح المعالم حول طبيعة الثورة الديمقراطية وقضية بناء الاشتراكية. وكل ما يوجد في الخطوط السياسية العامة التي أقرها المؤتمر، هو انتظام البرنامج السياسي حول فكرتين أساسيتين: استقلال الأمة، ووحدة الشعب، دون تمييز بين الطبقات (4)، وأن الثورة الجزائرية تناضل من أجل بعث دولة جزائرية على شكل جمهورية اشتراكية وديمقراطية، وليست إعادة لنظام ملكي أو ديني عفا عليهما الزمن (5). غير أن ما تميز به هذا المؤتمر هو وضعه اللبنات الأولى لمؤسسات الثورة الجزائرية، وبخاصة منها (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) الذي يضم 34 عضواً، 17 أصيلين و17 احتياطيين، وقيادة من خمسة أعضاء، هي لجنة التنسيق والتنفيذ، التي تمثل السلطة التنفيذية، وتملك "سلطة الإشراف على كل أجهزة الثورة". ويعكس تاليف المجلس الوطني للثورة الجزائرية بكيفية خاصة توازن القوى السياسية المختلفة داخل جبهة التحرير الوطني، وطابعها المفتوح، من حيث أنها ضمت سبعة عشر من الأعضاء السابقين في "اللجنة الثورية للوحدة والعمل"، وخمسة من "المركزيين" واثنين من "الاندماجيين" وفردين معروفين بروابطهما مع العلماء. ومع ذلك فإن الانقسام بين زعماء الداخل والخارج يتضح في أنه من بين أكبر سبع عشرة شخصية، كان ثمانية من الخارج وسبعة من الداخل(6).
ومن المهمات المركزية للمجلس الوطني للثورة الجزائرية حل قضية الصراع المستمر بين القادة في الداخل وأولئك في الخارج إنه الصراع الدائم الذي تتعرض له كل ثورة، بسبب ظروف القمع والاعتقال والهجرة إلى المنافي إلخ.
أما الجهاز الثاني للثورة: لجنة التنسيق والتنفيذ، فقد أختير أعضاءه من بين الأعضاء الداخليين، وكان دوره يكفي في اتخاذ القرارات بين انعقاد دورات المجلس الوطني للثورة. لقد عكس مؤتمر الصمام التباينات والتفاوتات في الانتماءات الطبقية والأيديولوجية لكل من السياسيين والعسكريين، وأثر ذلك كله على مستقبل الصراع داخل جبهة التحرير الوطني، وعلى صعيد السلطة السياسية. وعلى الرغم أن وحدة وتماسك الثوريين في خضم حرب الاستقلال قد أضعف الانقسامات والنزاعات الشديدة بين قادة الداخل والخارج إلا أن هذه الانقسامات ظلت بلا حل، وأصبحت أكثر وحدة مع عدم إجابة المؤتمر بوضوح على المسألة الأساسية التي كانت مطروحة أنذاك ألا وهي تأكيد أولوية العمل السياسي على العمل العسكري.
بقدر ما عكست السنوات الأولى للثورة في ربيع (1954) وربيع (1957) "سنوات البطولة" في عمر الثورة، وطابع التحالف بين العسكريين والسياسيين، واستخدام أساليب النضال السياسية والعسكرية في آن معاً مثل إدارة معركة الجزائر وإضراب الأيام الثمانية- بقدر ما أثبتت حرب الاستقلال هذه الطويلة الأمد في سياق سيرورتها المعقدة وهيمنة التشكيل العسكري المميز لجيش التحرير الوطني أي الأنوية المسلحة التي وجدت قبل أي تنظيم سياسي على جبهة التحرير الوطني، إذ أن هذه الأخيرة لا وجود خاص لها، خارج إطار جيش التحرير الوطني وحتى الدور الذي كان منوطاً بالمفوضيين السياسيين لم يتجاوز حدود "السهر على التطابق بين الأهداف السياسية والعمل العسكري" إذ سرعان ما سيظهر المستقبل أن وظيفة المفوضين السياسيين قد أمتهنت قيمتها لصالح وظيفة المسؤولين العسكريين...
وارهاصات ولادة المجتمع المدني
إذا كانت هنالك من ثورة شعبية جذرية وظافرة ضد النظام الكولونيالي القديم في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، فإنها بكل تأكيد تلك التي حصلت في فيتنام والجزائر، وبينما اتجهت الثورة الفيتنامية ذات المضمون الوطني الديمقراطي نحو بناء الاشتراكية بصرف النظر عن الاخفاقات التي تعرضت لها، عرفت الثورة الجزائرية بعد انتصارها سلسلة من الانقطاعات، واختلافات حادة ومحددة حول مسألة بناء الدولة ومؤسساتها، وتنظيم المجتمع، وطرائق بناء الاشتراكية فيه، التي تفصلها فوارق جوهرية مع الاشتراكية العلمية. وعلاوة على ذلك لاقت الموت بلا مجد تحقيق الديمقراطية والاشتراكية، إذا ما نظرنا إليها من زاوية السياسة الراديكالية التي تطمح إلى بناء دولة الحق والقانون، والمجتمع المدني الحديث، وهذا لا يحجب عنا رؤية ما تحقق من انجازات تقدمية خلال المرحلة السابقة.
قبل اندلاع الثورة في تشرين الثاني 1954، كانت الحركة الوطنية الجزائرية تعاني من انقسامات عميقة بسبب موقف اللجوء إلى العنف المسلح ضد المستعمر الفرنسي، حيث أن "حركة انتصار الحريات الديمقراطية" بزعامة مصالي الحاج، "وحزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري" بزعامة فرحات عباس، والحزب الشيوعي الجزائري الذي كان مرتبطاً أيديولوجياً وسياسياً بالحزب الشيوعي الفرنسي، وأخطأ تاريخياً في تقدير الموقف الوطني السليم من قضية الاستقلال للشعب الجزائري قبل الانتصار المسبق للبروليتاريا الفرنسية، هذه الأحزاب جميعها التي اكتسبت خبراتها السياسية في إطار النظام السياسي الاستعماري الفرنسي، كانت ضد الصراع المسلح، وعملت على تحقيق الاستقلال بطريقة برلمانية. وتفرد الحزب الشيوعي الجزائري بموقفه من هذه المرحلة الجديدة في تاريخ عرب الجزائر بالدعوة إلى "البحث عن حل ديمقراطي يحترم مصالح جميع سكان الجزائر دون ما تمييز في العرق أو الدين، ويأخذ بعين الاعتبار مصالح فرنسا"(1).
على نقيض القيادات السياسية الليبرالية والراديكالية التي قادت الحركة الوطنية الجزائرية طيلة الفترة بين 1946-1954، كان الثوريون الذين ينحدرون من أصول اجتماعية فقيرة، أي من فئات البرجوازية الصغيرة الفلاحية والمدنية المضطهدة، قد أنشأوا في شهر أذار من العام 1954 ما عرف أنذاك بـ "اللجنة الثورية للوحدة والعمل"، التي بدأت في تشكيل مجموعات ومغاور للانصار، والتحضير لانتفاضة مسلحة. وتحولت اللجنة الثورية للوحدة والعمل" منذ أن انفصلت عن العملية السياسية الشرعية، في مقتبل تفجيرها الكفاح المسلح إلى ما يعرف بـ"جبهة التحرير الوطني الجزائرية" كما تحولت مفارز الأنصار إلى جيش التحرير الوطني الجزائري.
إن الثورة الجزائرية على الرغم من الطابع الوطني التحرري الذي تصدر أولى الأولويات في برنامجها السياسي، لم تكن تحمل في طياتها مشروعاً أيديولوجياً وسياسياً لتحقيق الثورة الديمقراطية العميقة، ويرجع هذا بشكل رئيس إلى طبيعة القوى السياسية القائدة لهذه الثورة -جبهة التحرير الوطني- من حيث تشكلها السياسي والتنظيمي وبرنامجها، وقصور وعيها السياسي والأيديولوجي، وتركيبتها الطبقية التي يغلب عليها طابع البرجوازية الصغيرة الفلاحية، وبنيتها التنظيمية غير الديمقراطية، التي لا تسمح بحرية النقاش والحوار الداخلي، بالإضافة إلى سيطرة الجناح العسكري من البرجوازية الصغيرة على السلطة. ويقول المؤرخ الجزائري محمد حربي عن كيفية نجاح جبهة التحرير الوطني في انتزاع شرعية التمثيل السياسي، وفرض صورة المقاومة والممثل الوحيد للجزائر، ما يلي: "يجب التسليم بأنه كانت هناك رغبة بوحدة حركة المقاومة سواء في مصر أو في فرنسا، وهما بلدان كانت شعبية جبهة التحرير الوطني فيهما هي الأقوى، وذلك لأسباب مختلفة جداً، ففي مصر ألغت الناصرية الأحزاب السياسية، بيروقراطياً، بهدف فرض وجودها، وكانت فكرة التعددية بالذات تثير شبهة القادة المصريين، أما في فرنسا فلقد بقي اليسار موسوماً بقوة بأسطورة مقاومة فرنسية موحدة وبرفض المجموعات التحرير الوطني كنقيض للحركة الوطنية الجزائرية، أي أداة عصرية، علمانية وبعيدة عن "العروبة والاسلام" وهذه الصورة الصغيرة طورها مثقفون جزائريون يتكلمون على أنفسهم أكثر مما يتكلمون على مجتمعهم أو حتى على المشاعر العميقة للغالبية الساحقة من قادة جبهة التحرير"(2).
هل استطاعت جبهة التحرير الوطني الجزائرية أن تحقق قطيعة جذرية منهجية ومعرفية، وسياسية وأيديولوجية، مع المنهج والأيديولوجيا السائدة داخل أحزاب الحركة الوطنية، وأن تشكل إطاراً استراتيجياً ممثلاً لمشروع الكفاح المسلح، وداعماً لخصائص ولادة "المجتمع الجزائري في فضاء الثورة".
مع انتشار حرب التحرير الوطني داخل الجزائر بدأت جبهة التحرير الوطني تستقطب جماهير وقيادات من الحركة الوطنية الجزائرية التي أسسها مصالي الحاج، ومن الراديكاليين والليبراليين الذين ضموا قواهم إلى الثوريين، ومن الشيوعيين الذين انضموا إلى الجبهة كأفراد. وكان هذا الرفد للجبهة بالكوادر والقيادات السياسية يزيدها خبرات ومهارات تنظيمية جديدة وييسر لها كسب اعتراف دولي. ومع ذلك لم يحصل الاندماج بمفهومه السياسي والتنظيمي. فقد ظلت العلاقات بين القيادات التقليدية القديمة والقيادات الجديدة داخل إطار جبهة التحرير الوطني معقدة ومبلبلة، ويشوبها الحذر. وكانت تنمو تعارضات سياسية وأيديولوجية بين قادة جبهة التحرير الوطني الذين يريدون فرض تاريخهم الحديث الذي يعطيهم الشرعية السياسية والجماهيرية، ومن القوة والتفوق باعتبارهم "مقاتلي أول نوفمبر" ومؤسسين لهوية "قومية عصرية" للجزائر لانتشالها من غموض تاريخي، وبين القيادات التقليدية التي تعتمد على شرعيتها السياسية النضالية الماضية.
في سيرورة تراكم التناقضات الداخلية، كان لا بد من مؤتمر لمعالجة الأوضاع الداخلية المتفاقمة لجبهة التحرير الوطني لكي تثبت قدرتها على قيادة الثورة، ولمغتابيها أن "..الثورة الجزائرية ليست تمرداً ذا طابع فوضوي، محدوداً محلياً. من دون تنسيق، ولا قيادة سياسية، ومحكوماً عليه بالفشل"(3).
وليس ثمة ما يؤكد على أن المؤتمر التأسيسي لجبهة التحرير الوطني الجزائرية الذي عقد على طرف واد الصمام في منطقة القبائل ما بين 20-22آب 1956 في ظروف قاسية، قد بلور برنامجاً سياسياً واضح المعالم حول طبيعة الثورة الديمقراطية وقضية بناء الاشتراكية. وكل ما يوجد في الخطوط السياسية العامة التي أقرها المؤتمر، هو انتظام البرنامج السياسي حول فكرتين أساسيتين: استقلال الأمة، ووحدة الشعب، دون تمييز بين الطبقات (4)، وأن الثورة الجزائرية تناضل من أجل بعث دولة جزائرية على شكل جمهورية اشتراكية وديمقراطية، وليست إعادة لنظام ملكي أو ديني عفا عليهما الزمن (5). غير أن ما تميز به هذا المؤتمر هو وضعه اللبنات الأولى لمؤسسات الثورة الجزائرية، وبخاصة منها (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) الذي يضم 34 عضواً، 17 أصيلين و17 احتياطيين، وقيادة من خمسة أعضاء، هي لجنة التنسيق والتنفيذ، التي تمثل السلطة التنفيذية، وتملك "سلطة الإشراف على كل أجهزة الثورة". ويعكس تاليف المجلس الوطني للثورة الجزائرية بكيفية خاصة توازن القوى السياسية المختلفة داخل جبهة التحرير الوطني، وطابعها المفتوح، من حيث أنها ضمت سبعة عشر من الأعضاء السابقين في "اللجنة الثورية للوحدة والعمل"، وخمسة من "المركزيين" واثنين من "الاندماجيين" وفردين معروفين بروابطهما مع العلماء. ومع ذلك فإن الانقسام بين زعماء الداخل والخارج يتضح في أنه من بين أكبر سبع عشرة شخصية، كان ثمانية من الخارج وسبعة من الداخل(6).
ومن المهمات المركزية للمجلس الوطني للثورة الجزائرية حل قضية الصراع المستمر بين القادة في الداخل وأولئك في الخارج إنه الصراع الدائم الذي تتعرض له كل ثورة، بسبب ظروف القمع والاعتقال والهجرة إلى المنافي إلخ.
أما الجهاز الثاني للثورة: لجنة التنسيق والتنفيذ، فقد أختير أعضاءه من بين الأعضاء الداخليين، وكان دوره يكفي في اتخاذ القرارات بين انعقاد دورات المجلس الوطني للثورة. لقد عكس مؤتمر الصمام التباينات والتفاوتات في الانتماءات الطبقية والأيديولوجية لكل من السياسيين والعسكريين، وأثر ذلك كله على مستقبل الصراع داخل جبهة التحرير الوطني، وعلى صعيد السلطة السياسية. وعلى الرغم أن وحدة وتماسك الثوريين في خضم حرب الاستقلال قد أضعف الانقسامات والنزاعات الشديدة بين قادة الداخل والخارج إلا أن هذه الانقسامات ظلت بلا حل، وأصبحت أكثر وحدة مع عدم إجابة المؤتمر بوضوح على المسألة الأساسية التي كانت مطروحة أنذاك ألا وهي تأكيد أولوية العمل السياسي على العمل العسكري.
بقدر ما عكست السنوات الأولى للثورة في ربيع (1954) وربيع (1957) "سنوات البطولة" في عمر الثورة، وطابع التحالف بين العسكريين والسياسيين، واستخدام أساليب النضال السياسية والعسكرية في آن معاً مثل إدارة معركة الجزائر وإضراب الأيام الثمانية- بقدر ما أثبتت حرب الاستقلال هذه الطويلة الأمد في سياق سيرورتها المعقدة وهيمنة التشكيل العسكري المميز لجيش التحرير الوطني أي الأنوية المسلحة التي وجدت قبل أي تنظيم سياسي على جبهة التحرير الوطني، إذ أن هذه الأخيرة لا وجود خاص لها، خارج إطار جيش التحرير الوطني وحتى الدور الذي كان منوطاً بالمفوضيين السياسيين لم يتجاوز حدود "السهر على التطابق بين الأهداف السياسية والعمل العسكري" إذ سرعان ما سيظهر المستقبل أن وظيفة المفوضين السياسيين قد أمتهنت قيمتها لصالح وظيفة المسؤولين العسكريين...
"
وباختصار فإن الجبهة -جيش التحرير الوطني، كتعبير عن ثورة شعبوية قطعت مع حركة وطنية متأزمة، لم تتوصل إلى تجاوز مكامن ضعفها الأصلية. فخلف التمييز بين "سياسيين" و"عسكريين" كان يختفي في الواقع الصراع بين خطين متخاصمين. الأول، ويجسده عبان، كان يجد سنده في المدن، وإذا كان برجوازياً بيروقراطياً بشكل كامن، فقد كان يعقوبياً وداعياً إلى المركزة. أما الثاني، ويمثله قادة جيش التحرير، فكان عامياً ويستند إلى الطبقات الريفية، كان يهتم قليلاً جداً بالمسائل الأيديولوجية، وكان أصحابه يناضلون من أجل مصالح ثورية ويجعلون من استقلال منظماتهم رهان المستقبل (7).
ضمن هذا السياق يمكن فهم جذور الصراع بين العسكريين (جيش التحرير الوطني) والسياسيين حول قيادة الثورة، ومضمون الاستقلال، ولاحقاً حول الهيمنة على السلطة- فبمجرد أن انتقل مركز الثورة من الأرياف والجبال إلى المدن، أصبح السياسيون- وبخاصة منهم أنصار الاستقلال التدريجي- يجدون في الفئات الوسطى والبرجوازية التجارية أرضاً أكثر تقبلاً لفكرة التسوية مع الاستعمار الفرنسي، خصوصاً وأن البرجوازية بدأت تقدم دعمها لجبهة التحرير الوطني سياسياً وتشترك في الثورة عبر مشاركتها المالية والتموينية. وكانت هذه الطبقات تخطط لاستعادة السيطرة على جيش التحرير الوطني، كي لا يصبح عقبة حقيقية في أية تسوية مقبلة مع فرنسا. وكان السياسيون يسعون إلى توظيف المهارات الإدارية والتنظيمية والتثقيفية للمثقفين الثوريين، الذين كانوا يناضلون في صفوف الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، والاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير الوطني، والخبرات القتالية العسكرية للعسكريين، من أجل بناء جبهة التحرير الوطني، كإطار سياسي أوسع وأكثر توحيداً ويضم الجميع- لكي يتم إضفاء الشرعية والتمثيل السياسي عليها وتطويق جيش التحرير، بسبب الخوف "التاريخي" المتبادل بين العسكريين والسياسيين، ومن أجل زيادة إمكانيات التسوية في المفاوضات التالية التي رحب بها الوطنيون.
وبالمقابل كان العسكريون ينحدرون من أصول طبقية واجتماعية فلاحية في الأعم الأغلب، وكانوا أصغر سناً من السياسيين الذين كانوا في قيادة الثورة إبان حرب التحرير، وإلى جانب هذا لم يأتوا إلى الثورة عن طريق قناة سياسية، وكان مستواهم التعليمي الأكاديمي متواضعاً، وتوجههم الأيديولوجي مبسطاً بعض الشيء، بسبب اختلافهم عن السياسيين والثوريين في نوع النشاط السياسي الذي كان يقومون به، باعتبار أن معظم القادة العسكريين أمضوا معظم أوقاتهم داخل الجزائر كمحاربين في المقاومة، وعلى علاقة عضوية بالفلاحين الذين كانوا يمدون الجيش بالرجال المحاربين. وعلى الرغم من أوجه التشابه بين العسكريين والثوريين الذين قادوا الثورة المسلحة بنشاط داخل الجزائر على صعيد المنبت الطبقي والاجتماعي المتواضع، واستخدام العنف والقوة بإعتبارهما ضروريين لإنهاء النظام الاستعماري في الجزائر، وانتماؤهم إلى الجيل السياسي عينه إلا أن أوجه الاختلاف بين الفئتين تبرز في الثقافة المتقدمة التي يتمتع بها الثوريون، وفي نوعية العمل السياسي الذي كان يقومون به، حيث أن مثقفي الثورة برزوا كدعائيين ودبلوماسيين وإداريين، ومفكرين، ورجال يمتلكون مهارات تنظيمية رائعة...
لقد وحدت حرب الاستقلال العسكريين والمثقفين من أجل الظفر بالاستقلال الوطني، والتمدن للجزائر، لكن الصراع على السلطة الذي بدأ كل من العسكريين وإلى درجة أقل المثقفين يستعدون لخوضه مع بداية استقلال الجزائر، جعل العسكريون يختلفون مع المثقفين، كما يقول وليم كواندت: "فبينما كان يشعر الثوريون شعوراً قوياً بأن عليهم وحدهم أن يقودوا الثورة كان يحتاج العسكريون بشكل عام إلى طموح قوي إلى السلطة، بل على العكس فإن شعورهم حول من يصلح للحكم قد انتقل إلى الجيش أو إلى ولايتهم ويبدو أن الولاء الدستوري أو الاقليمي قد احتل مكان الطموح الشخصي والإحساس الفردي بمزية المسؤولية لدى الثوريين"(8).
مع اتساع جبهة التحرير الوطني التي استوعبت كافة القوى السياسية الوطنية، التي كانت قائمة قبل الثورة، بإستثناء حركة مصالي الحاج، وصعود العسكريين والمثقفين الثوريين إلى مراكز نفوذ بارزة، عجزت هذه الجبهة عن إنشاء تنظيم سياسي فعال ومستقر نسبياً، يستوعب التيارات السياسية والأيديولوجية الكبيرة المختلفة والمتباينة، الأمر الذي قاد إلى تعميق الانقسامات والمسافات والخصومات فيما بينها. وككل ثورة، عرفت الثورة الجزائرية منذ ولادتها صراعات حالت دون تركيز السلطة في أيدي قيادة تحظى بالإجماع تقود حرب الاستقلال، وتسيطر على الحياة السياسية الداخلية في جبهة التحرير الوطني، وتبني عملية سياسية ديمقراطية.
فالعسكريون في جيش التحرير الوطني يريدون أن يوظفوا نفوذهم على الصعيد العسكري والسياسي والإداري لبسط هيمنتهم على الولايات الجزائرية، التي تحولت إلى إقطاعات عسكرية يمارسون حكمهم "الاستبدادي"، وحيث انتهى بعض القادة منهم إلى اكتساب مواقف زعماء إقطاعيين أو زعماء عصابات على حد قول بن بلا، ولإضعاف جبهة التحرير الوطني وتعزيز التجهيز العسكري على حساب تسييس الجماهير والمقاتلين.
والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي تشكلت عقب حل لجنة التنسيق والتنفيذ الثانية في 19 أيلول 1958، بدل من أن تعمل كوحدة سياسية لقيادة حرب الاستقلال والمفاوضات مع فرنسا، عملت على تشكيل ثلاث لجان متخصصة، الأولى وتتكون من العسكريين "الثلاثي" كريم وبوسوف وبن توبال الذين تسلموا معاً وزارات الحرب والاتصال والمواصلات والداخلية، وتولى فرحات عباس الليبرالي ورئيس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري رئاسة الحكومة المؤقتة. أما اللجنة الثالثة فقد تألفت من الراديكاليين بن خده ومحمد يزيد والأمين دباغين والمهري، وكانت مسؤولة عن وزارات الشؤون الاجتماعية والإعلام والشؤون الخارجية وشؤون شمال افريقيا. وهكذا فإن الحكومة المؤقتة احتوت ثلاثة أنشطة ذات فعاليات مختلفة: الأول نشاط العسكريين تحت إشراف الثوريين، الثاني نشاط الليبراليين بقيادة عباس الذين يتميزون بالمرونة السياسية. والثالث نشاط الراديكاليين الذين كانوا رجال تنظيم ومحرضين جيدين في الحركة الوطنية.
ولهذا، ليس غريباً أن تبرز انقسامات داخل الحكومة المؤقتة بسبب تعدد مصادر اتخاذ القرارات. ووجود اجماع هزيل سائد بين لجانها المتخصصة. وهذا ما دعى أحد أعضاء الحكومة المؤقتة بن خده إلى القول أن لها استراتيجية عسكرية، سياسية، أو دبلوماسية، وقد علل كثير من المحللين عدم تحديد أيديولوجية لجبهة التحرير الوطني أثناء الحرب إلى طبيعة الإنقسامات في القيادة السياسية. ولكن خطر هذا النوع من القرار حول مشكلة السلطة في أنه يدعو إلى اتخاذ القرارات بإعطاء أولوية كبيرة للاجماع غير الموجود تقريباً. وبما أن الموافقة على الأسس شبه مستحيلة. وهنالك ميل لتجنب مناقشة هذه المواضيع. ويعطي النقد اللاذع للحكومة المؤقتة الذي قدمه بن خده أحد أعضائها الصورة التالية للأعمال الداخلية لأول حكومة مؤقتة. لقد نشأت في المنفى بيروقراطية سياسية وعسكرية تميزت بغياب الحياة الداخلية، فقد جرى تجاهل الديمقراطية الداخلية والنقد الذاتي والعوامل الهامة في اختيار القادة فاتحين المجال للوصولية والمجاملات.(9).
وجاء برنامج طرابلس، عقب انعقاد المجلس الوطني للثورة الجزائرية في ليبيا ما بين 16 كانون أول 1959 و18 كانون ثاني 1960، وتفاقم الإنقسامات داخل جبهة التحرير الوطني، ليقر وثيقتين مهمتين هما: 1-الدستور المؤقت للدولة الجزائرية -2-النظام الداخلي لجبهة التحرير الوطني. ومن الجدير بالذكر أن الدستور المؤقت قد جعل ممارسة السلطة التنفيذية "من مهام وصلاحيات الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية".
ومن المعروف أن برنامج طرابلس قد صاغه في ذلك الوقت محمد حربي وهو ماركسي، ومصطفى الأشراق وهو أستاذ بجامعة السوربون، ومحمد يزيد. ويعكس هذا البرنامج ثلاثة مفاهيم كانت سائدة في معرض تحليلها للطبيعة الاجتماعية للثورة الجزائرية. وهي مفاهيم مختلطة ومختلفة، تعبر عن الحساسيات الأيديولوجية المتباينة في قيادة الثورة، وأرائهم في قراءة الواقع الجزائري، وآفاقه المستقبلية. ويمكن إدراج هذه التفسيرات المتباينة على النحو التالي: أولاً: تحليل كل من مصطفى الأشراف، ورضا مالك ومحمد يزيد، الذي يؤكد بأن طبيعة المجتمع الجزائري هو مستعمر نصف إقطاعي، ولذا فإن مرحلة الانتقال إلى الاستقلال والعصر الحديث، تتطلب بناء دولة حديثة، والقيام بإصلاح زراعي وتصنيع، وتحرير المرأة، والقضاء على الأثار الإقطاعية. وليس من شك أن هذا الطرح ينطلق من المرجعية الأيديولوجية الماركسية التي تحدد طبيعة الثورة بأنها ديمقراطية برجوازية. وبسبب عجز البرجوازية في البلدان المستعمرة عن القيام بها، وضعف الطبقة العاملة، فقد أحل مالك والأشراف محل الثورة الديمقراطية البرجوازية مصطلح الثورة الديمقراطية الشعبية. التي لا يقع على يد طبقة واحدة "بل على دولة تبقي البرجوازية تحت وصايتها، وتجسد قاعدتها الاجتماعية لدى الفلاحين والشغيلة بوجه عام، والشبيبة والمثقفين الثوريين". ثانياً تحليل بن بلا المتأثر إلى حد كبير بأفكار فرانزفانون التي طرحها في كتابه "معذبو الأرض" والذي يرى أن الثورة الجزائرية لا يمكن أن تستقيم إلا إذا إنساقت في سياق الثورة الاشتراكية حيث تكون القوة القيادية فيها للفلاحين. ويعطي تحليل بن بلا دوراً استراتيجياً للاسلام. باعتباره "يشكل متراساً للفقراء ضد الأغنياء ويعطي طابعاً مميزاً للأصالة الجزائرية". وينادي بن بلا بأممية بلدان العالم الثالث ضد البلدان المصنعة حيث "تبرجزت الطبقة العاملة "في الغرب. ثالثاً: تحليل محمد حربي الذي يجد ضالته في المرجعية الماركسية حيث يرى أن الجزائر ليس بلداً اقطاعياً. لأن نمط الملكية ودور الدولة، والعلاقة بين المدن والأرياف، تختلف كلياً عن نمط الإقطاع الذي كان سائداً في العصر الوسيط في الغرب وأكد محمد حربي بأن البرجوازية الجزائرية عاجزة عن إنجاز مهام الثورة الوطنية، وركز على الترابط العضوي بين مهام الثورة الوطنية والثورة الاجتماعية، الأمر الذي يتطلب "النضال على جبهتين ضد الإمبريالية وضد البرجوازية المحلية، أما البرجوازية الصغيرة الاقتصادية فيجب تحييدها... وقد اعتبر أن محرك الثورة لا يمكن أن يكون غير الطبقة العاملة مهما تكن ضعيفة... أضف إلى ذلك أن للثورة الاشتراكية طابعاً أممياً لذا فإن تحالفاً استراتجياً مع الاتحاد السوفياتي والصين أمر لا غنى عنه".
وفيما تم ادخال الإحالة إلى الإسلام طبقاً لمطلب بن بلا الذي كان يطالب بإعادة النظر في مسألة علمانية الدولة وعلمانية جبهة التحرير الوطني، كان مناقضه الرئيس مصطفى الأشرف يعارض هذا التوجه، بحجتين أولاً: إن الإسلام يحمل في ذاته ثقل القيم الخاصة بحضارة ريفية قديمة ويمكن أن يلعب دمجه في الأيديولوجية السياسية دور الكابح لتحديث البلد وثانياً: سوف تستند القوى المحافظة إلى الدين لتأييد عادات رجعية بما يخص العائلة ووضع المرأة والعلاقات في المجتمع".
في معرض تحليله التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية، والبنية الطبقية للمجتمع الجزائري، أكد برنامج طرابلس على وجود أربع طبقات: الفلاحين الفقراء -بروليتاريا المدن- البرجوازية الصغيرة- والبرجوازية. غير أنه في تحديده لقوى الثورة، تبين بأن الفلاحين والعمال بوجه عام هم الذين كانوا القاعدة النشيطة للحركة والذين أعطوها طابعها الشعبي الأساسي "مضيفاً بأن" مهام الثورة الديمقراطية في الجزائر هائلة. ولا يمكن انجازها بواسطة طبقة اجتماعية هي البرجوازية مهما كانت مستنيرة. ولكن مهما كان شأن القيمة المترتبة على فهم طبيعة الثورة الديمقراطية، إلا أن البرنامج لم يحدد مهماتها ولا أهدافها بدقة ماعدا الإشارة إلى ضرورة تحقيق "الإصلاح الزراعي" وهو في جانب كبير منه يتوافق مع طموحات الجناح العسكري لجبهة التحرير الوطني المتكون أساساً من الفلاحين الفقراء. والذي تهيمن عليه أيديولوجية فلاحية بسيطة، نظراً للمستوى التعليمي والثقافي المتدني لدى غالبية أعضائه. وظلت الأيديولوجية المهيمنة على قيادة جبهة التحرير الوطني والذي أكد عليها برنامج طرابلس هي معاداة الاستعمار والإمبريالية، والتأكيد على سيادة الشعب ورفض الليبرالية الاقتصادية، وضرورة التخطيط دون ذكر الاشتراكية.
ولعل في هذا الغموض وسطحية عموميات المفاهيم الأيديولوجية ما يؤكد لنا بأن جبهة التحرير الوطني لم تشقها صراعات أيديولوجية بشأن نمط الحزب المطلوب بنائه إذ جاء النص حول الحزب تسوية بين أنصار حزب جماهيري يستبعد من صفوفه "تعايش أيديولوجيات مختلفة"، وبين حزب طليعي يتم تنظيمه على أساس مبادئ المركزية الديمقراطية: انتخاب المسؤولين على مختلف المستويات أولويات الهيئات العليا على الهيئة الدنيا، خضوع الأقلية للأكثرية.
ومع ذلك، فإن برنامج طرابلس، لم يشكل نقلة نوعية لكي تتجاوز الثورة الجزائرية الخلافات الماضية، والصراعات التي تعمقت عند اقتراب الاستقلال بين القيادات السياسية للحكومة المؤقتة وجيش التحرير الوطني ورئاسة الأركان المامة التي تسيطر على الولايات الداخلية. فعملية الانتقال من الحركة الوطنية إلى الاستقلال، عملية صعبة ومعقدة بسبب ما يلازمها من ظاهرة الصراع على السلطة بين الفئات والأفراد الذين كافحوا من أجل حرية الجزائر تحت راية جبهة التحرير الوطني. فهناك السياسيون الليبراليون والراديكاليون المنحدرون من أصول مدينية ويتمتعون بثقافة عالية. وهناك المثقفون الذين يتشابهون مع السياسيين من حيث أصلهم الطبقي ويختلفون من حيث الجيل الذي ينتمي إليه كل منهما. وهنالك الثوريون المنحدرون من أصول ريفية ولا يتمتعون بثقافة عالية، ولكنهم يشكلون الأكثرية، واستطاعوا أن يسيطروا على القيادة السياسية خلال الحرب، بل أصبحوا من أبرز القادة الوطنيين المطالبين بحقهم الخاص في تولي مناصب عليا في السلطة في الدولة الجديدة. وهناك أخيراً العسكريون الذين يتشابهون مع الثوريين من حيث الخلفية والوسط الاجتماعي، والذين استطاعوا أن يفرزوا من صفوفهم قيادات فرعية توصلت إلى احتلال مراكز قيادية مثل بومدين.
وانطلاقاً من تحديد هذه اللوحة التصنيفية للفئات السياسية الجزائرية يمكن أن نصل إلى استنتاج محدد من أن السياسيين التقليديين؛ الذين قادوا الحركة الوطنية، وانتهجوا سياسة تختلف وتتناقض أحياناً مع الاستعمار الفرنسي، وطالبوا بالاستقلال من خلال عمل سياسي مشروع، من دون أن يقاتلوا من أجله، لأن الاستقلال يحقق لهم مصالح ليست متناقضة إلى هذا الحد مع الاحتلال، فشلوا في تحقيق المطالب الوطنية، على الرغم من أنهم يمتلكون ثقافة عالية، فرنسية في الأعم الأغلب. وكان الكثير منهم يمارسون مهناً حرة. إنه الوضع الذي أفسح في المجال لبروز الثوريين والعسكريين الممثلين للفئات الاجتماعية الأكثر سحقاً في المجتمع الجزائري الكولونيالي والأقل ثقافة، والأدنى مستوى اجتماعياً قبل الاستقلال، الذين فجروا الثورة ضد المستعمر الفرنسي من أجل الاستقلال، واستطاعوا أن يتبوؤا مراكز قيادته في الحركة الوطنية الجزائرية، وأن يستعيدوا سيطرتهم عليها.
في معرض تحليله لظاهرة انتقال الحركة الوطنية إلى الاستقلال، يستشهد وليم كواندت بعدة دراسات مكثفة تعطي تعليلاً عاماً لعدم استقرار بنية القيادة السياسية في الحركة الوطنية في البلدان المستعمرة عامة، والجزائرية بصورة خاصة، وانتقالها من القيادات ذات المستوى الثقافي العالي إلى القيادات ذات المستويات الأدنى. "تصف دراسات كثيرة كماً وكيفاً تغير القيادة السياسية التي رافقت التحول من نظام سياسي إلى نظام آخر. لقد قورنت الحركات الوطنية بحكومات ما بعد الاستقلال. والقيادات الثورية بقيادة ما بعد الثورة، وبين الذين يصوغون الأيديولوجيات والذين يقودون الحركات الأيديولوجية. وفي كل حال يبدو أن تشكل التطور يبدأ بسيطرة قيادة عالية الثقافة عالمية ثم تنتقل إلى قيادة أقليمية محدودة بمناطق معينة وأقل ثقافة نسبياً، وفي كثير من الأجزاء النامية من العالم يبدو أنه تظهر بعد الاستقلال قيادة أقليمية ريفية بالمقارنة مع قيادات فترة الحركة الوطنية ذوي الثقافة الغربية الذين يتكلمون الإنكليزية أو الفرنسية وكذلك فقد لاحظ ليرنر بالنسبة للحركات الجماعية الالزامية في أوروبا وآسيا إن المثقفين ذوي الأوضاع الاجتماعية العالية هم الذين أسسوا الحركات التي شق من خلالها أناس ذوو أوضاع أدنى طريقهم إلى السلطة القيادية وقد لاحظوا مؤخراً التغيرات الثورية تحول السلطة من(رجال الكلام) المعتدلين إلى (رجال العمل) الأقل ثقافة والأكثر تطرفاً. إن شيوع تعميم كهذا شيء مؤثر ويعني أن هنالك عملية مشتركة تدعو إلى تحولات من الحركات المعارضة إلى القيادات الحاكمة. ويمكن تحديد شكلين متميزين داخل الاتجاه العام الذي تنتقل خلاله السلطة من محرضين ذوي أوضاع عالية إلى إداريين أوضاعهم أدنى والشكل الأول هو تحول الحركة الوطنية أو الحزب الأيديولوجي إلى نظام استبدادي تتمركز فيه السلطة غالباً بيد قائد مرموق يؤدي في هذا النموذج إرتقاء قائد حازم إلى السلطة إلى تفكك القيادة الوطنية ويفسح في المجال لنشوء قيادات أدنى تنجح في تعزيز السلطة من خلال استخدام الجيش والسلطة"(10).
ثانياً: من الصراع على السلطة إلى ميلاد الدولة الجزائرية
أدت أزمة صيف 1962 إلى تفجير مجموعة من التناقضات المتداخلة الشخصية والسياسية والأيديولوجية، باعتبارها تعكس حساسيات طبقية متفاوتة ومتباينة، حول طبيعة السلطة، وكيفية تنظيم المجتمع، وقد أفرزت هذه الأزمة على السطح أبرز الكتل السياسية الثلاثة المتصارعة على السلطة، الأولى: مجموعة بن بلا التي كسبت تأييد المكتب السياسي المتكون من المعتقلين السابقين رابح بيطاط ومحمد خيضر، وانحاز إليها التنظيم العسكري الخارجي وجيش الولايتين الأولى والسادسة، ولكن الحليف القوي والمنظم لبن بلا كان هيئة الأركان بزعامة بومدين التي تحظى بتأييد قوي من جانب قسم من العسكريين وقسم من الثوريين، والتي تعتبر نفسها النواة الأساسية للجيش الوطني النظامي المحترف وتتحكم في رؤيتها الاستراتيجية أولوية العسكري على السياسي، وعدم الإعتراف بالمؤسسات (الحكومة المؤقتة، والمجلس الوطني للثورة) بوصفهما مؤسستين أخفقتا في حل الأزمة الداخلية، والتحالف مع الشرائح المدنية طالما أن الجيش ليس مهيأ بعد ليضطلع لوحده بالسلطة. "وعلى الصعيد السياسي، كان" الاصلاح الزراعي وتصنيع البلد، والتوزيع العادل للانتاج والثروات" تشكل جوهر برنامجهم. الثانية: الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي اعترفت بها عدة دول كممثلة لجبهة التحرير الوطني والاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير الذي أسهم، إسهاماً قوياً في تمويل الثورة. الثالثة: مجموعة القادة العسكريين للولايات الثانية والثالثة والرابعة (شمال قسنطينة -القبائل- والجزائر. البعيدة عن الحدود المراكشية والتونسية) والبعيدة أيضاً عن سيطرة رئاسة الأركان والمتناقضة مع العقيد بومدين وزملائه بحجة فشله في تزويد هذه الولايات بما يكفي من الأسلحة. وقاد الصراع على السلطة إلى برزو تحالفين: تحالف التف حول الحكومة المؤقتة، ويتكون من الاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير، وقوى الولايات الثلاث التي كانت معارضة لرئاسة الأركان. أما التحالف الثاني فقد ألتف حول بن بلا وخيضر، ويتمتع بدعم قوي من جانب هيئة الأركان التي تدعمها الولايات الأولى (الأوراس)، والسادسة (الصحراء)، والخامسة (وهران). بقيادة زبيري وشعباني وعثمان. وكان لهذين التحالفين ارتباطات أقليمية ودولية، فبن بلا كانت تربطه تحالفات استراتيجية مع مصر عبد الناصر، أما الحكومة المؤقتة فقد عقدت تحالفاً ثابتاً مع تونس وفرنسا ضد بن بلا.
انتهت أزمة صيف 1962 باستحواذ بن بلا نهائياً على السلطة. بفضل تحالف الثوريين والعسكريين الذين اختاروه ممثلاً لهم، وأصبح أول رئيس للجزائر المستقلة في أواخر أيلول 1962، بعد أن انتخبته الجمعية التأسيسية الوطنية بنحو (141) صوتاً من أصل (194) ويعكس انتخاب الجمعية الوطنية التأسيسية الأولى (والأخيرة) آراء متباينة حول دور الجمعية، ومهامها.
تركيب الجمعية الوطنية التأسيسية العام 1962 (11)
ضمن هذا السياق يمكن فهم جذور الصراع بين العسكريين (جيش التحرير الوطني) والسياسيين حول قيادة الثورة، ومضمون الاستقلال، ولاحقاً حول الهيمنة على السلطة- فبمجرد أن انتقل مركز الثورة من الأرياف والجبال إلى المدن، أصبح السياسيون- وبخاصة منهم أنصار الاستقلال التدريجي- يجدون في الفئات الوسطى والبرجوازية التجارية أرضاً أكثر تقبلاً لفكرة التسوية مع الاستعمار الفرنسي، خصوصاً وأن البرجوازية بدأت تقدم دعمها لجبهة التحرير الوطني سياسياً وتشترك في الثورة عبر مشاركتها المالية والتموينية. وكانت هذه الطبقات تخطط لاستعادة السيطرة على جيش التحرير الوطني، كي لا يصبح عقبة حقيقية في أية تسوية مقبلة مع فرنسا. وكان السياسيون يسعون إلى توظيف المهارات الإدارية والتنظيمية والتثقيفية للمثقفين الثوريين، الذين كانوا يناضلون في صفوف الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، والاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير الوطني، والخبرات القتالية العسكرية للعسكريين، من أجل بناء جبهة التحرير الوطني، كإطار سياسي أوسع وأكثر توحيداً ويضم الجميع- لكي يتم إضفاء الشرعية والتمثيل السياسي عليها وتطويق جيش التحرير، بسبب الخوف "التاريخي" المتبادل بين العسكريين والسياسيين، ومن أجل زيادة إمكانيات التسوية في المفاوضات التالية التي رحب بها الوطنيون.
وبالمقابل كان العسكريون ينحدرون من أصول طبقية واجتماعية فلاحية في الأعم الأغلب، وكانوا أصغر سناً من السياسيين الذين كانوا في قيادة الثورة إبان حرب التحرير، وإلى جانب هذا لم يأتوا إلى الثورة عن طريق قناة سياسية، وكان مستواهم التعليمي الأكاديمي متواضعاً، وتوجههم الأيديولوجي مبسطاً بعض الشيء، بسبب اختلافهم عن السياسيين والثوريين في نوع النشاط السياسي الذي كان يقومون به، باعتبار أن معظم القادة العسكريين أمضوا معظم أوقاتهم داخل الجزائر كمحاربين في المقاومة، وعلى علاقة عضوية بالفلاحين الذين كانوا يمدون الجيش بالرجال المحاربين. وعلى الرغم من أوجه التشابه بين العسكريين والثوريين الذين قادوا الثورة المسلحة بنشاط داخل الجزائر على صعيد المنبت الطبقي والاجتماعي المتواضع، واستخدام العنف والقوة بإعتبارهما ضروريين لإنهاء النظام الاستعماري في الجزائر، وانتماؤهم إلى الجيل السياسي عينه إلا أن أوجه الاختلاف بين الفئتين تبرز في الثقافة المتقدمة التي يتمتع بها الثوريون، وفي نوعية العمل السياسي الذي كان يقومون به، حيث أن مثقفي الثورة برزوا كدعائيين ودبلوماسيين وإداريين، ومفكرين، ورجال يمتلكون مهارات تنظيمية رائعة...
لقد وحدت حرب الاستقلال العسكريين والمثقفين من أجل الظفر بالاستقلال الوطني، والتمدن للجزائر، لكن الصراع على السلطة الذي بدأ كل من العسكريين وإلى درجة أقل المثقفين يستعدون لخوضه مع بداية استقلال الجزائر، جعل العسكريون يختلفون مع المثقفين، كما يقول وليم كواندت: "فبينما كان يشعر الثوريون شعوراً قوياً بأن عليهم وحدهم أن يقودوا الثورة كان يحتاج العسكريون بشكل عام إلى طموح قوي إلى السلطة، بل على العكس فإن شعورهم حول من يصلح للحكم قد انتقل إلى الجيش أو إلى ولايتهم ويبدو أن الولاء الدستوري أو الاقليمي قد احتل مكان الطموح الشخصي والإحساس الفردي بمزية المسؤولية لدى الثوريين"(8).
مع اتساع جبهة التحرير الوطني التي استوعبت كافة القوى السياسية الوطنية، التي كانت قائمة قبل الثورة، بإستثناء حركة مصالي الحاج، وصعود العسكريين والمثقفين الثوريين إلى مراكز نفوذ بارزة، عجزت هذه الجبهة عن إنشاء تنظيم سياسي فعال ومستقر نسبياً، يستوعب التيارات السياسية والأيديولوجية الكبيرة المختلفة والمتباينة، الأمر الذي قاد إلى تعميق الانقسامات والمسافات والخصومات فيما بينها. وككل ثورة، عرفت الثورة الجزائرية منذ ولادتها صراعات حالت دون تركيز السلطة في أيدي قيادة تحظى بالإجماع تقود حرب الاستقلال، وتسيطر على الحياة السياسية الداخلية في جبهة التحرير الوطني، وتبني عملية سياسية ديمقراطية.
فالعسكريون في جيش التحرير الوطني يريدون أن يوظفوا نفوذهم على الصعيد العسكري والسياسي والإداري لبسط هيمنتهم على الولايات الجزائرية، التي تحولت إلى إقطاعات عسكرية يمارسون حكمهم "الاستبدادي"، وحيث انتهى بعض القادة منهم إلى اكتساب مواقف زعماء إقطاعيين أو زعماء عصابات على حد قول بن بلا، ولإضعاف جبهة التحرير الوطني وتعزيز التجهيز العسكري على حساب تسييس الجماهير والمقاتلين.
والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي تشكلت عقب حل لجنة التنسيق والتنفيذ الثانية في 19 أيلول 1958، بدل من أن تعمل كوحدة سياسية لقيادة حرب الاستقلال والمفاوضات مع فرنسا، عملت على تشكيل ثلاث لجان متخصصة، الأولى وتتكون من العسكريين "الثلاثي" كريم وبوسوف وبن توبال الذين تسلموا معاً وزارات الحرب والاتصال والمواصلات والداخلية، وتولى فرحات عباس الليبرالي ورئيس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري رئاسة الحكومة المؤقتة. أما اللجنة الثالثة فقد تألفت من الراديكاليين بن خده ومحمد يزيد والأمين دباغين والمهري، وكانت مسؤولة عن وزارات الشؤون الاجتماعية والإعلام والشؤون الخارجية وشؤون شمال افريقيا. وهكذا فإن الحكومة المؤقتة احتوت ثلاثة أنشطة ذات فعاليات مختلفة: الأول نشاط العسكريين تحت إشراف الثوريين، الثاني نشاط الليبراليين بقيادة عباس الذين يتميزون بالمرونة السياسية. والثالث نشاط الراديكاليين الذين كانوا رجال تنظيم ومحرضين جيدين في الحركة الوطنية.
ولهذا، ليس غريباً أن تبرز انقسامات داخل الحكومة المؤقتة بسبب تعدد مصادر اتخاذ القرارات. ووجود اجماع هزيل سائد بين لجانها المتخصصة. وهذا ما دعى أحد أعضاء الحكومة المؤقتة بن خده إلى القول أن لها استراتيجية عسكرية، سياسية، أو دبلوماسية، وقد علل كثير من المحللين عدم تحديد أيديولوجية لجبهة التحرير الوطني أثناء الحرب إلى طبيعة الإنقسامات في القيادة السياسية. ولكن خطر هذا النوع من القرار حول مشكلة السلطة في أنه يدعو إلى اتخاذ القرارات بإعطاء أولوية كبيرة للاجماع غير الموجود تقريباً. وبما أن الموافقة على الأسس شبه مستحيلة. وهنالك ميل لتجنب مناقشة هذه المواضيع. ويعطي النقد اللاذع للحكومة المؤقتة الذي قدمه بن خده أحد أعضائها الصورة التالية للأعمال الداخلية لأول حكومة مؤقتة. لقد نشأت في المنفى بيروقراطية سياسية وعسكرية تميزت بغياب الحياة الداخلية، فقد جرى تجاهل الديمقراطية الداخلية والنقد الذاتي والعوامل الهامة في اختيار القادة فاتحين المجال للوصولية والمجاملات.(9).
وجاء برنامج طرابلس، عقب انعقاد المجلس الوطني للثورة الجزائرية في ليبيا ما بين 16 كانون أول 1959 و18 كانون ثاني 1960، وتفاقم الإنقسامات داخل جبهة التحرير الوطني، ليقر وثيقتين مهمتين هما: 1-الدستور المؤقت للدولة الجزائرية -2-النظام الداخلي لجبهة التحرير الوطني. ومن الجدير بالذكر أن الدستور المؤقت قد جعل ممارسة السلطة التنفيذية "من مهام وصلاحيات الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية".
ومن المعروف أن برنامج طرابلس قد صاغه في ذلك الوقت محمد حربي وهو ماركسي، ومصطفى الأشراق وهو أستاذ بجامعة السوربون، ومحمد يزيد. ويعكس هذا البرنامج ثلاثة مفاهيم كانت سائدة في معرض تحليلها للطبيعة الاجتماعية للثورة الجزائرية. وهي مفاهيم مختلطة ومختلفة، تعبر عن الحساسيات الأيديولوجية المتباينة في قيادة الثورة، وأرائهم في قراءة الواقع الجزائري، وآفاقه المستقبلية. ويمكن إدراج هذه التفسيرات المتباينة على النحو التالي: أولاً: تحليل كل من مصطفى الأشراف، ورضا مالك ومحمد يزيد، الذي يؤكد بأن طبيعة المجتمع الجزائري هو مستعمر نصف إقطاعي، ولذا فإن مرحلة الانتقال إلى الاستقلال والعصر الحديث، تتطلب بناء دولة حديثة، والقيام بإصلاح زراعي وتصنيع، وتحرير المرأة، والقضاء على الأثار الإقطاعية. وليس من شك أن هذا الطرح ينطلق من المرجعية الأيديولوجية الماركسية التي تحدد طبيعة الثورة بأنها ديمقراطية برجوازية. وبسبب عجز البرجوازية في البلدان المستعمرة عن القيام بها، وضعف الطبقة العاملة، فقد أحل مالك والأشراف محل الثورة الديمقراطية البرجوازية مصطلح الثورة الديمقراطية الشعبية. التي لا يقع على يد طبقة واحدة "بل على دولة تبقي البرجوازية تحت وصايتها، وتجسد قاعدتها الاجتماعية لدى الفلاحين والشغيلة بوجه عام، والشبيبة والمثقفين الثوريين". ثانياً تحليل بن بلا المتأثر إلى حد كبير بأفكار فرانزفانون التي طرحها في كتابه "معذبو الأرض" والذي يرى أن الثورة الجزائرية لا يمكن أن تستقيم إلا إذا إنساقت في سياق الثورة الاشتراكية حيث تكون القوة القيادية فيها للفلاحين. ويعطي تحليل بن بلا دوراً استراتيجياً للاسلام. باعتباره "يشكل متراساً للفقراء ضد الأغنياء ويعطي طابعاً مميزاً للأصالة الجزائرية". وينادي بن بلا بأممية بلدان العالم الثالث ضد البلدان المصنعة حيث "تبرجزت الطبقة العاملة "في الغرب. ثالثاً: تحليل محمد حربي الذي يجد ضالته في المرجعية الماركسية حيث يرى أن الجزائر ليس بلداً اقطاعياً. لأن نمط الملكية ودور الدولة، والعلاقة بين المدن والأرياف، تختلف كلياً عن نمط الإقطاع الذي كان سائداً في العصر الوسيط في الغرب وأكد محمد حربي بأن البرجوازية الجزائرية عاجزة عن إنجاز مهام الثورة الوطنية، وركز على الترابط العضوي بين مهام الثورة الوطنية والثورة الاجتماعية، الأمر الذي يتطلب "النضال على جبهتين ضد الإمبريالية وضد البرجوازية المحلية، أما البرجوازية الصغيرة الاقتصادية فيجب تحييدها... وقد اعتبر أن محرك الثورة لا يمكن أن يكون غير الطبقة العاملة مهما تكن ضعيفة... أضف إلى ذلك أن للثورة الاشتراكية طابعاً أممياً لذا فإن تحالفاً استراتجياً مع الاتحاد السوفياتي والصين أمر لا غنى عنه".
وفيما تم ادخال الإحالة إلى الإسلام طبقاً لمطلب بن بلا الذي كان يطالب بإعادة النظر في مسألة علمانية الدولة وعلمانية جبهة التحرير الوطني، كان مناقضه الرئيس مصطفى الأشرف يعارض هذا التوجه، بحجتين أولاً: إن الإسلام يحمل في ذاته ثقل القيم الخاصة بحضارة ريفية قديمة ويمكن أن يلعب دمجه في الأيديولوجية السياسية دور الكابح لتحديث البلد وثانياً: سوف تستند القوى المحافظة إلى الدين لتأييد عادات رجعية بما يخص العائلة ووضع المرأة والعلاقات في المجتمع".
في معرض تحليله التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية، والبنية الطبقية للمجتمع الجزائري، أكد برنامج طرابلس على وجود أربع طبقات: الفلاحين الفقراء -بروليتاريا المدن- البرجوازية الصغيرة- والبرجوازية. غير أنه في تحديده لقوى الثورة، تبين بأن الفلاحين والعمال بوجه عام هم الذين كانوا القاعدة النشيطة للحركة والذين أعطوها طابعها الشعبي الأساسي "مضيفاً بأن" مهام الثورة الديمقراطية في الجزائر هائلة. ولا يمكن انجازها بواسطة طبقة اجتماعية هي البرجوازية مهما كانت مستنيرة. ولكن مهما كان شأن القيمة المترتبة على فهم طبيعة الثورة الديمقراطية، إلا أن البرنامج لم يحدد مهماتها ولا أهدافها بدقة ماعدا الإشارة إلى ضرورة تحقيق "الإصلاح الزراعي" وهو في جانب كبير منه يتوافق مع طموحات الجناح العسكري لجبهة التحرير الوطني المتكون أساساً من الفلاحين الفقراء. والذي تهيمن عليه أيديولوجية فلاحية بسيطة، نظراً للمستوى التعليمي والثقافي المتدني لدى غالبية أعضائه. وظلت الأيديولوجية المهيمنة على قيادة جبهة التحرير الوطني والذي أكد عليها برنامج طرابلس هي معاداة الاستعمار والإمبريالية، والتأكيد على سيادة الشعب ورفض الليبرالية الاقتصادية، وضرورة التخطيط دون ذكر الاشتراكية.
ولعل في هذا الغموض وسطحية عموميات المفاهيم الأيديولوجية ما يؤكد لنا بأن جبهة التحرير الوطني لم تشقها صراعات أيديولوجية بشأن نمط الحزب المطلوب بنائه إذ جاء النص حول الحزب تسوية بين أنصار حزب جماهيري يستبعد من صفوفه "تعايش أيديولوجيات مختلفة"، وبين حزب طليعي يتم تنظيمه على أساس مبادئ المركزية الديمقراطية: انتخاب المسؤولين على مختلف المستويات أولويات الهيئات العليا على الهيئة الدنيا، خضوع الأقلية للأكثرية.
ومع ذلك، فإن برنامج طرابلس، لم يشكل نقلة نوعية لكي تتجاوز الثورة الجزائرية الخلافات الماضية، والصراعات التي تعمقت عند اقتراب الاستقلال بين القيادات السياسية للحكومة المؤقتة وجيش التحرير الوطني ورئاسة الأركان المامة التي تسيطر على الولايات الداخلية. فعملية الانتقال من الحركة الوطنية إلى الاستقلال، عملية صعبة ومعقدة بسبب ما يلازمها من ظاهرة الصراع على السلطة بين الفئات والأفراد الذين كافحوا من أجل حرية الجزائر تحت راية جبهة التحرير الوطني. فهناك السياسيون الليبراليون والراديكاليون المنحدرون من أصول مدينية ويتمتعون بثقافة عالية. وهناك المثقفون الذين يتشابهون مع السياسيين من حيث أصلهم الطبقي ويختلفون من حيث الجيل الذي ينتمي إليه كل منهما. وهنالك الثوريون المنحدرون من أصول ريفية ولا يتمتعون بثقافة عالية، ولكنهم يشكلون الأكثرية، واستطاعوا أن يسيطروا على القيادة السياسية خلال الحرب، بل أصبحوا من أبرز القادة الوطنيين المطالبين بحقهم الخاص في تولي مناصب عليا في السلطة في الدولة الجديدة. وهناك أخيراً العسكريون الذين يتشابهون مع الثوريين من حيث الخلفية والوسط الاجتماعي، والذين استطاعوا أن يفرزوا من صفوفهم قيادات فرعية توصلت إلى احتلال مراكز قيادية مثل بومدين.
وانطلاقاً من تحديد هذه اللوحة التصنيفية للفئات السياسية الجزائرية يمكن أن نصل إلى استنتاج محدد من أن السياسيين التقليديين؛ الذين قادوا الحركة الوطنية، وانتهجوا سياسة تختلف وتتناقض أحياناً مع الاستعمار الفرنسي، وطالبوا بالاستقلال من خلال عمل سياسي مشروع، من دون أن يقاتلوا من أجله، لأن الاستقلال يحقق لهم مصالح ليست متناقضة إلى هذا الحد مع الاحتلال، فشلوا في تحقيق المطالب الوطنية، على الرغم من أنهم يمتلكون ثقافة عالية، فرنسية في الأعم الأغلب. وكان الكثير منهم يمارسون مهناً حرة. إنه الوضع الذي أفسح في المجال لبروز الثوريين والعسكريين الممثلين للفئات الاجتماعية الأكثر سحقاً في المجتمع الجزائري الكولونيالي والأقل ثقافة، والأدنى مستوى اجتماعياً قبل الاستقلال، الذين فجروا الثورة ضد المستعمر الفرنسي من أجل الاستقلال، واستطاعوا أن يتبوؤا مراكز قيادته في الحركة الوطنية الجزائرية، وأن يستعيدوا سيطرتهم عليها.
في معرض تحليله لظاهرة انتقال الحركة الوطنية إلى الاستقلال، يستشهد وليم كواندت بعدة دراسات مكثفة تعطي تعليلاً عاماً لعدم استقرار بنية القيادة السياسية في الحركة الوطنية في البلدان المستعمرة عامة، والجزائرية بصورة خاصة، وانتقالها من القيادات ذات المستوى الثقافي العالي إلى القيادات ذات المستويات الأدنى. "تصف دراسات كثيرة كماً وكيفاً تغير القيادة السياسية التي رافقت التحول من نظام سياسي إلى نظام آخر. لقد قورنت الحركات الوطنية بحكومات ما بعد الاستقلال. والقيادات الثورية بقيادة ما بعد الثورة، وبين الذين يصوغون الأيديولوجيات والذين يقودون الحركات الأيديولوجية. وفي كل حال يبدو أن تشكل التطور يبدأ بسيطرة قيادة عالية الثقافة عالمية ثم تنتقل إلى قيادة أقليمية محدودة بمناطق معينة وأقل ثقافة نسبياً، وفي كثير من الأجزاء النامية من العالم يبدو أنه تظهر بعد الاستقلال قيادة أقليمية ريفية بالمقارنة مع قيادات فترة الحركة الوطنية ذوي الثقافة الغربية الذين يتكلمون الإنكليزية أو الفرنسية وكذلك فقد لاحظ ليرنر بالنسبة للحركات الجماعية الالزامية في أوروبا وآسيا إن المثقفين ذوي الأوضاع الاجتماعية العالية هم الذين أسسوا الحركات التي شق من خلالها أناس ذوو أوضاع أدنى طريقهم إلى السلطة القيادية وقد لاحظوا مؤخراً التغيرات الثورية تحول السلطة من(رجال الكلام) المعتدلين إلى (رجال العمل) الأقل ثقافة والأكثر تطرفاً. إن شيوع تعميم كهذا شيء مؤثر ويعني أن هنالك عملية مشتركة تدعو إلى تحولات من الحركات المعارضة إلى القيادات الحاكمة. ويمكن تحديد شكلين متميزين داخل الاتجاه العام الذي تنتقل خلاله السلطة من محرضين ذوي أوضاع عالية إلى إداريين أوضاعهم أدنى والشكل الأول هو تحول الحركة الوطنية أو الحزب الأيديولوجي إلى نظام استبدادي تتمركز فيه السلطة غالباً بيد قائد مرموق يؤدي في هذا النموذج إرتقاء قائد حازم إلى السلطة إلى تفكك القيادة الوطنية ويفسح في المجال لنشوء قيادات أدنى تنجح في تعزيز السلطة من خلال استخدام الجيش والسلطة"(10).
ثانياً: من الصراع على السلطة إلى ميلاد الدولة الجزائرية
أدت أزمة صيف 1962 إلى تفجير مجموعة من التناقضات المتداخلة الشخصية والسياسية والأيديولوجية، باعتبارها تعكس حساسيات طبقية متفاوتة ومتباينة، حول طبيعة السلطة، وكيفية تنظيم المجتمع، وقد أفرزت هذه الأزمة على السطح أبرز الكتل السياسية الثلاثة المتصارعة على السلطة، الأولى: مجموعة بن بلا التي كسبت تأييد المكتب السياسي المتكون من المعتقلين السابقين رابح بيطاط ومحمد خيضر، وانحاز إليها التنظيم العسكري الخارجي وجيش الولايتين الأولى والسادسة، ولكن الحليف القوي والمنظم لبن بلا كان هيئة الأركان بزعامة بومدين التي تحظى بتأييد قوي من جانب قسم من العسكريين وقسم من الثوريين، والتي تعتبر نفسها النواة الأساسية للجيش الوطني النظامي المحترف وتتحكم في رؤيتها الاستراتيجية أولوية العسكري على السياسي، وعدم الإعتراف بالمؤسسات (الحكومة المؤقتة، والمجلس الوطني للثورة) بوصفهما مؤسستين أخفقتا في حل الأزمة الداخلية، والتحالف مع الشرائح المدنية طالما أن الجيش ليس مهيأ بعد ليضطلع لوحده بالسلطة. "وعلى الصعيد السياسي، كان" الاصلاح الزراعي وتصنيع البلد، والتوزيع العادل للانتاج والثروات" تشكل جوهر برنامجهم. الثانية: الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي اعترفت بها عدة دول كممثلة لجبهة التحرير الوطني والاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير الذي أسهم، إسهاماً قوياً في تمويل الثورة. الثالثة: مجموعة القادة العسكريين للولايات الثانية والثالثة والرابعة (شمال قسنطينة -القبائل- والجزائر. البعيدة عن الحدود المراكشية والتونسية) والبعيدة أيضاً عن سيطرة رئاسة الأركان والمتناقضة مع العقيد بومدين وزملائه بحجة فشله في تزويد هذه الولايات بما يكفي من الأسلحة. وقاد الصراع على السلطة إلى برزو تحالفين: تحالف التف حول الحكومة المؤقتة، ويتكون من الاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير، وقوى الولايات الثلاث التي كانت معارضة لرئاسة الأركان. أما التحالف الثاني فقد ألتف حول بن بلا وخيضر، ويتمتع بدعم قوي من جانب هيئة الأركان التي تدعمها الولايات الأولى (الأوراس)، والسادسة (الصحراء)، والخامسة (وهران). بقيادة زبيري وشعباني وعثمان. وكان لهذين التحالفين ارتباطات أقليمية ودولية، فبن بلا كانت تربطه تحالفات استراتيجية مع مصر عبد الناصر، أما الحكومة المؤقتة فقد عقدت تحالفاً ثابتاً مع تونس وفرنسا ضد بن بلا.
انتهت أزمة صيف 1962 باستحواذ بن بلا نهائياً على السلطة. بفضل تحالف الثوريين والعسكريين الذين اختاروه ممثلاً لهم، وأصبح أول رئيس للجزائر المستقلة في أواخر أيلول 1962، بعد أن انتخبته الجمعية التأسيسية الوطنية بنحو (141) صوتاً من أصل (194) ويعكس انتخاب الجمعية الوطنية التأسيسية الأولى (والأخيرة) آراء متباينة حول دور الجمعية، ومهامها.
تركيب الجمعية الوطنية التأسيسية العام 1962 (11)
المهن
النسبة
العسكريون
18%
أعمال حرة
18%
تجارة
14%
معلمون
12%
زراعيون
11%
عمال
7%
كوادر ومستخدمون وموظفون مدنيون
10%
طلاب
10%
المجموع
100%
العدد
194