أوهام الثورة الجزائرية، ومضامين التجربة العسكرية‏

الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.

معمر القذافى

عضو مميز
إنضم
8 أكتوبر 2008
المشاركات
2,471
التفاعل
81 0 0
أوهام الثورة الجزائرية، ومضامين التجربة العسكرية

أولاً:مرحلة تدعيم المؤسسات المؤقتة للثورة،
وارهاصات ولادة المجتمع المدني
إذا كانت هنالك من ثورة شعبية جذرية وظافرة ضد النظام الكولونيالي القديم في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، فإنها بكل تأكيد تلك التي حصلت في فيتنام والجزائر، وبينما اتجهت الثورة الفيتنامية ذات المضمون الوطني الديمقراطي نحو بناء الاشتراكية بصرف النظر عن الاخفاقات التي تعرضت لها، عرفت الثورة الجزائرية بعد انتصارها سلسلة من الانقطاعات، واختلافات حادة ومحددة حول مسألة بناء الدولة ومؤسساتها، وتنظيم المجتمع، وطرائق بناء الاشتراكية فيه، التي تفصلها فوارق جوهرية مع الاشتراكية العلمية. وعلاوة على ذلك لاقت الموت بلا مجد تحقيق الديمقراطية والاشتراكية، إذا ما نظرنا إليها من زاوية السياسة الراديكالية التي تطمح إلى بناء دولة الحق والقانون، والمجتمع المدني الحديث، وهذا لا يحجب عنا رؤية ما تحقق من انجازات تقدمية خلال المرحلة السابقة.
قبل اندلاع الثورة في تشرين الثاني 1954، كانت الحركة الوطنية الجزائرية تعاني من انقسامات عميقة بسبب موقف اللجوء إلى العنف المسلح ضد المستعمر الفرنسي، حيث أن "حركة انتصار الحريات الديمقراطية" بزعامة مصالي الحاج، "وحزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري" بزعامة فرحات عباس، والحزب الشيوعي الجزائري الذي كان مرتبطاً أيديولوجياً وسياسياً بالحزب الشيوعي الفرنسي، وأخطأ تاريخياً في تقدير الموقف الوطني السليم من قضية الاستقلال للشعب الجزائري قبل الانتصار المسبق للبروليتاريا الفرنسية، هذه الأحزاب جميعها التي اكتسبت خبراتها السياسية في إطار النظام السياسي الاستعماري الفرنسي، كانت ضد الصراع المسلح، وعملت على تحقيق الاستقلال بطريقة برلمانية. وتفرد الحزب الشيوعي الجزائري بموقفه من هذه المرحلة الجديدة في تاريخ عرب الجزائر بالدعوة إلى "البحث عن حل ديمقراطي يحترم مصالح جميع سكان الجزائر دون ما تمييز في العرق أو الدين، ويأخذ بعين الاعتبار مصالح فرنسا"(1).
على نقيض القيادات السياسية الليبرالية والراديكالية التي قادت الحركة الوطنية الجزائرية طيلة الفترة بين 1946-1954، كان الثوريون الذين ينحدرون من أصول اجتماعية فقيرة، أي من فئات البرجوازية الصغيرة الفلاحية والمدنية المضطهدة، قد أنشأوا في شهر أذار من العام 1954 ما عرف أنذاك بـ "اللجنة الثورية للوحدة والعمل"، التي بدأت في تشكيل مجموعات ومغاور للانصار، والتحضير لانتفاضة مسلحة. وتحولت اللجنة الثورية للوحدة والعمل" منذ أن انفصلت عن العملية السياسية الشرعية، في مقتبل تفجيرها الكفاح المسلح إلى ما يعرف بـ"جبهة التحرير الوطني الجزائرية" كما تحولت مفارز الأنصار إلى جيش التحرير الوطني الجزائري.
إن الثورة الجزائرية على الرغم من الطابع الوطني التحرري الذي تصدر أولى الأولويات في برنامجها السياسي، لم تكن تحمل في طياتها مشروعاً أيديولوجياً وسياسياً لتحقيق الثورة الديمقراطية العميقة، ويرجع هذا بشكل رئيس إلى طبيعة القوى السياسية القائدة لهذه الثورة -جبهة التحرير الوطني- من حيث تشكلها السياسي والتنظيمي وبرنامجها، وقصور وعيها السياسي والأيديولوجي، وتركيبتها الطبقية التي يغلب عليها طابع البرجوازية الصغيرة الفلاحية، وبنيتها التنظيمية غير الديمقراطية، التي لا تسمح بحرية النقاش والحوار الداخلي، بالإضافة إلى سيطرة الجناح العسكري من البرجوازية الصغيرة على السلطة. ويقول المؤرخ الجزائري محمد حربي عن كيفية نجاح جبهة التحرير الوطني في انتزاع شرعية التمثيل السياسي، وفرض صورة المقاومة والممثل الوحيد للجزائر، ما يلي: "يجب التسليم بأنه كانت هناك رغبة بوحدة حركة المقاومة سواء في مصر أو في فرنسا، وهما بلدان كانت شعبية جبهة التحرير الوطني فيهما هي الأقوى، وذلك لأسباب مختلفة جداً، ففي مصر ألغت الناصرية الأحزاب السياسية، بيروقراطياً، بهدف فرض وجودها، وكانت فكرة التعددية بالذات تثير شبهة القادة المصريين، أما في فرنسا فلقد بقي اليسار موسوماً بقوة بأسطورة مقاومة فرنسية موحدة وبرفض المجموعات التحرير الوطني كنقيض للحركة الوطنية الجزائرية، أي أداة عصرية، علمانية وبعيدة عن "العروبة والاسلام" وهذه الصورة الصغيرة طورها مثقفون جزائريون يتكلمون على أنفسهم أكثر مما يتكلمون على مجتمعهم أو حتى على المشاعر العميقة للغالبية الساحقة من قادة جبهة التحرير"(2).
هل استطاعت جبهة التحرير الوطني الجزائرية أن تحقق قطيعة جذرية منهجية ومعرفية، وسياسية وأيديولوجية، مع المنهج والأيديولوجيا السائدة داخل أحزاب الحركة الوطنية، وأن تشكل إطاراً استراتيجياً ممثلاً لمشروع الكفاح المسلح، وداعماً لخصائص ولادة "المجتمع الجزائري في فضاء الثورة".
مع انتشار حرب التحرير الوطني داخل الجزائر بدأت جبهة التحرير الوطني تستقطب جماهير وقيادات من الحركة الوطنية الجزائرية التي أسسها مصالي الحاج، ومن الراديكاليين والليبراليين الذين ضموا قواهم إلى الثوريين، ومن الشيوعيين الذين انضموا إلى الجبهة كأفراد. وكان هذا الرفد للجبهة بالكوادر والقيادات السياسية يزيدها خبرات ومهارات تنظيمية جديدة وييسر لها كسب اعتراف دولي. ومع ذلك لم يحصل الاندماج بمفهومه السياسي والتنظيمي. فقد ظلت العلاقات بين القيادات التقليدية القديمة والقيادات الجديدة داخل إطار جبهة التحرير الوطني معقدة ومبلبلة، ويشوبها الحذر. وكانت تنمو تعارضات سياسية وأيديولوجية بين قادة جبهة التحرير الوطني الذين يريدون فرض تاريخهم الحديث الذي يعطيهم الشرعية السياسية والجماهيرية، ومن القوة والتفوق باعتبارهم "مقاتلي أول نوفمبر" ومؤسسين لهوية "قومية عصرية" للجزائر لانتشالها من غموض تاريخي، وبين القيادات التقليدية التي تعتمد على شرعيتها السياسية النضالية الماضية.
في سيرورة تراكم التناقضات الداخلية، كان لا بد من مؤتمر لمعالجة الأوضاع الداخلية المتفاقمة لجبهة التحرير الوطني لكي تثبت قدرتها على قيادة الثورة، ولمغتابيها أن "..الثورة الجزائرية ليست تمرداً ذا طابع فوضوي، محدوداً محلياً. من دون تنسيق، ولا قيادة سياسية، ومحكوماً عليه بالفشل"(3).
وليس ثمة ما يؤكد على أن المؤتمر التأسيسي لجبهة التحرير الوطني الجزائرية الذي عقد على طرف واد الصمام في منطقة القبائل ما بين 20-22آب 1956 في ظروف قاسية، قد بلور برنامجاً سياسياً واضح المعالم حول طبيعة الثورة الديمقراطية وقضية بناء الاشتراكية. وكل ما يوجد في الخطوط السياسية العامة التي أقرها المؤتمر، هو انتظام البرنامج السياسي حول فكرتين أساسيتين: استقلال الأمة، ووحدة الشعب، دون تمييز بين الطبقات (4)، وأن الثورة الجزائرية تناضل من أجل بعث دولة جزائرية على شكل جمهورية اشتراكية وديمقراطية، وليست إعادة لنظام ملكي أو ديني عفا عليهما الزمن (5). غير أن ما تميز به هذا المؤتمر هو وضعه اللبنات الأولى لمؤسسات الثورة الجزائرية، وبخاصة منها (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) الذي يضم 34 عضواً، 17 أصيلين و17 احتياطيين، وقيادة من خمسة أعضاء، هي لجنة التنسيق والتنفيذ، التي تمثل السلطة التنفيذية، وتملك "سلطة الإشراف على كل أجهزة الثورة". ويعكس تاليف المجلس الوطني للثورة الجزائرية بكيفية خاصة توازن القوى السياسية المختلفة داخل جبهة التحرير الوطني، وطابعها المفتوح، من حيث أنها ضمت سبعة عشر من الأعضاء السابقين في "اللجنة الثورية للوحدة والعمل"، وخمسة من "المركزيين" واثنين من "الاندماجيين" وفردين معروفين بروابطهما مع العلماء. ومع ذلك فإن الانقسام بين زعماء الداخل والخارج يتضح في أنه من بين أكبر سبع عشرة شخصية، كان ثمانية من الخارج وسبعة من الداخل(6).
ومن المهمات المركزية للمجلس الوطني للثورة الجزائرية حل قضية الصراع المستمر بين القادة في الداخل وأولئك في الخارج إنه الصراع الدائم الذي تتعرض له كل ثورة، بسبب ظروف القمع والاعتقال والهجرة إلى المنافي إلخ.
أما الجهاز الثاني للثورة: لجنة التنسيق والتنفيذ، فقد أختير أعضاءه من بين الأعضاء الداخليين، وكان دوره يكفي في اتخاذ القرارات بين انعقاد دورات المجلس الوطني للثورة. لقد عكس مؤتمر الصمام التباينات والتفاوتات في الانتماءات الطبقية والأيديولوجية لكل من السياسيين والعسكريين، وأثر ذلك كله على مستقبل الصراع داخل جبهة التحرير الوطني، وعلى صعيد السلطة السياسية. وعلى الرغم أن وحدة وتماسك الثوريين في خضم حرب الاستقلال قد أضعف الانقسامات والنزاعات الشديدة بين قادة الداخل والخارج إلا أن هذه الانقسامات ظلت بلا حل، وأصبحت أكثر وحدة مع عدم إجابة المؤتمر بوضوح على المسألة الأساسية التي كانت مطروحة أنذاك ألا وهي تأكيد أولوية العمل السياسي على العمل العسكري.
بقدر ما عكست السنوات الأولى للثورة في ربيع (1954) وربيع (1957) "سنوات البطولة" في عمر الثورة، وطابع التحالف بين العسكريين والسياسيين، واستخدام أساليب النضال السياسية والعسكرية في آن معاً مثل إدارة معركة الجزائر وإضراب الأيام الثمانية- بقدر ما أثبتت حرب الاستقلال هذه الطويلة الأمد في سياق سيرورتها المعقدة وهيمنة التشكيل العسكري المميز لجيش التحرير الوطني أي الأنوية المسلحة التي وجدت قبل أي تنظيم سياسي على جبهة التحرير الوطني، إذ أن هذه الأخيرة لا وجود خاص لها، خارج إطار جيش التحرير الوطني وحتى الدور الذي كان منوطاً بالمفوضيين السياسيين لم يتجاوز حدود "السهر على التطابق بين الأهداف السياسية والعمل العسكري" إذ سرعان ما سيظهر المستقبل أن وظيفة المفوضين السياسيين قد أمتهنت قيمتها لصالح وظيفة المسؤولين العسكريين...​
"​
وباختصار فإن الجبهة -جيش التحرير الوطني، كتعبير عن ثورة شعبوية قطعت مع حركة وطنية متأزمة، لم تتوصل إلى تجاوز مكامن ضعفها الأصلية. فخلف التمييز بين "سياسيين" و"عسكريين" كان يختفي في الواقع الصراع بين خطين متخاصمين. الأول، ويجسده عبان، كان يجد سنده في المدن، وإذا كان برجوازياً بيروقراطياً بشكل كامن، فقد كان يعقوبياً وداعياً إلى المركزة. أما الثاني، ويمثله قادة جيش التحرير، فكان عامياً ويستند إلى الطبقات الريفية، كان يهتم قليلاً جداً بالمسائل الأيديولوجية، وكان أصحابه يناضلون من أجل مصالح ثورية ويجعلون من استقلال منظماتهم رهان المستقبل (7).
ضمن هذا السياق يمكن فهم جذور الصراع بين العسكريين (جيش التحرير الوطني) والسياسيين حول قيادة الثورة، ومضمون الاستقلال، ولاحقاً حول الهيمنة على السلطة- فبمجرد أن انتقل مركز الثورة من الأرياف والجبال إلى المدن، أصبح السياسيون- وبخاصة منهم أنصار الاستقلال التدريجي- يجدون في الفئات الوسطى والبرجوازية التجارية أرضاً أكثر تقبلاً لفكرة التسوية مع الاستعمار الفرنسي، خصوصاً وأن البرجوازية بدأت تقدم دعمها لجبهة التحرير الوطني سياسياً وتشترك في الثورة عبر مشاركتها المالية والتموينية. وكانت هذه الطبقات تخطط لاستعادة السيطرة على جيش التحرير الوطني، كي لا يصبح عقبة حقيقية في أية تسوية مقبلة مع فرنسا. وكان السياسيون يسعون إلى توظيف المهارات الإدارية والتنظيمية والتثقيفية للمثقفين الثوريين، الذين كانوا يناضلون في صفوف الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، والاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير الوطني، والخبرات القتالية العسكرية للعسكريين، من أجل بناء جبهة التحرير الوطني، كإطار سياسي أوسع وأكثر توحيداً ويضم الجميع- لكي يتم إضفاء الشرعية والتمثيل السياسي عليها وتطويق جيش التحرير، بسبب الخوف "التاريخي" المتبادل بين العسكريين والسياسيين، ومن أجل زيادة إمكانيات التسوية في المفاوضات التالية التي رحب بها الوطنيون.
وبالمقابل كان العسكريون ينحدرون من أصول طبقية واجتماعية فلاحية في الأعم الأغلب، وكانوا أصغر سناً من السياسيين الذين كانوا في قيادة الثورة إبان حرب التحرير، وإلى جانب هذا لم يأتوا إلى الثورة عن طريق قناة سياسية، وكان مستواهم التعليمي الأكاديمي متواضعاً، وتوجههم الأيديولوجي مبسطاً بعض الشيء، بسبب اختلافهم عن السياسيين والثوريين في نوع النشاط السياسي الذي كان يقومون به، باعتبار أن معظم القادة العسكريين أمضوا معظم أوقاتهم داخل الجزائر كمحاربين في المقاومة، وعلى علاقة عضوية بالفلاحين الذين كانوا يمدون الجيش بالرجال المحاربين. وعلى الرغم من أوجه التشابه بين العسكريين والثوريين الذين قادوا الثورة المسلحة بنشاط داخل الجزائر على صعيد المنبت الطبقي والاجتماعي المتواضع، واستخدام العنف والقوة بإعتبارهما ضروريين لإنهاء النظام الاستعماري في الجزائر، وانتماؤهم إلى الجيل السياسي عينه إلا أن أوجه الاختلاف بين الفئتين تبرز في الثقافة المتقدمة التي يتمتع بها الثوريون، وفي نوعية العمل السياسي الذي كان يقومون به، حيث أن مثقفي الثورة برزوا كدعائيين ودبلوماسيين وإداريين، ومفكرين، ورجال يمتلكون مهارات تنظيمية رائعة...
لقد وحدت حرب الاستقلال العسكريين والمثقفين من أجل الظفر بالاستقلال الوطني، والتمدن للجزائر، لكن الصراع على السلطة الذي بدأ كل من العسكريين وإلى درجة أقل المثقفين يستعدون لخوضه مع بداية استقلال الجزائر، جعل العسكريون يختلفون مع المثقفين، كما يقول وليم كواندت: "فبينما كان يشعر الثوريون شعوراً قوياً بأن عليهم وحدهم أن يقودوا الثورة كان يحتاج العسكريون بشكل عام إلى طموح قوي إلى السلطة، بل على العكس فإن شعورهم حول من يصلح للحكم قد انتقل إلى الجيش أو إلى ولايتهم ويبدو أن الولاء الدستوري أو الاقليمي قد احتل مكان الطموح الشخصي والإحساس الفردي بمزية المسؤولية لدى الثوريين"(8).
مع اتساع جبهة التحرير الوطني التي استوعبت كافة القوى السياسية الوطنية، التي كانت قائمة قبل الثورة، بإستثناء حركة مصالي الحاج، وصعود العسكريين والمثقفين الثوريين إلى مراكز نفوذ بارزة، عجزت هذه الجبهة عن إنشاء تنظيم سياسي فعال ومستقر نسبياً، يستوعب التيارات السياسية والأيديولوجية الكبيرة المختلفة والمتباينة، الأمر الذي قاد إلى تعميق الانقسامات والمسافات والخصومات فيما بينها. وككل ثورة، عرفت الثورة الجزائرية منذ ولادتها صراعات حالت دون تركيز السلطة في أيدي قيادة تحظى بالإجماع تقود حرب الاستقلال، وتسيطر على الحياة السياسية الداخلية في جبهة التحرير الوطني، وتبني عملية سياسية ديمقراطية.
فالعسكريون في جيش التحرير الوطني يريدون أن يوظفوا نفوذهم على الصعيد العسكري والسياسي والإداري لبسط هيمنتهم على الولايات الجزائرية، التي تحولت إلى إقطاعات عسكرية يمارسون حكمهم "الاستبدادي"، وحيث انتهى بعض القادة منهم إلى اكتساب مواقف زعماء إقطاعيين أو زعماء عصابات على حد قول بن بلا، ولإضعاف جبهة التحرير الوطني وتعزيز التجهيز العسكري على حساب تسييس الجماهير والمقاتلين.
والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي تشكلت عقب حل لجنة التنسيق والتنفيذ الثانية في 19 أيلول 1958، بدل من أن تعمل كوحدة سياسية لقيادة حرب الاستقلال والمفاوضات مع فرنسا، عملت على تشكيل ثلاث لجان متخصصة، الأولى وتتكون من العسكريين "الثلاثي" كريم وبوسوف وبن توبال الذين تسلموا معاً وزارات الحرب والاتصال والمواصلات والداخلية، وتولى فرحات عباس الليبرالي ورئيس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري رئاسة الحكومة المؤقتة. أما اللجنة الثالثة فقد تألفت من الراديكاليين بن خده ومحمد يزيد والأمين دباغين والمهري، وكانت مسؤولة عن وزارات الشؤون الاجتماعية والإعلام والشؤون الخارجية وشؤون شمال افريقيا. وهكذا فإن الحكومة المؤقتة احتوت ثلاثة أنشطة ذات فعاليات مختلفة: الأول نشاط العسكريين تحت إشراف الثوريين، الثاني نشاط الليبراليين بقيادة عباس الذين يتميزون بالمرونة السياسية. والثالث نشاط الراديكاليين الذين كانوا رجال تنظيم ومحرضين جيدين في الحركة الوطنية.
ولهذا، ليس غريباً أن تبرز انقسامات داخل الحكومة المؤقتة بسبب تعدد مصادر اتخاذ القرارات. ووجود اجماع هزيل سائد بين لجانها المتخصصة. وهذا ما دعى أحد أعضاء الحكومة المؤقتة بن خده إلى القول أن لها استراتيجية عسكرية، سياسية، أو دبلوماسية، وقد علل كثير من المحللين عدم تحديد أيديولوجية لجبهة التحرير الوطني أثناء الحرب إلى طبيعة الإنقسامات في القيادة السياسية. ولكن خطر هذا النوع من القرار حول مشكلة السلطة في أنه يدعو إلى اتخاذ القرارات بإعطاء أولوية كبيرة للاجماع غير الموجود تقريباً. وبما أن الموافقة على الأسس شبه مستحيلة. وهنالك ميل لتجنب مناقشة هذه المواضيع. ويعطي النقد اللاذع للحكومة المؤقتة الذي قدمه بن خده أحد أعضائها الصورة التالية للأعمال الداخلية لأول حكومة مؤقتة. لقد نشأت في المنفى بيروقراطية سياسية وعسكرية تميزت بغياب الحياة الداخلية، فقد جرى تجاهل الديمقراطية الداخلية والنقد الذاتي والعوامل الهامة في اختيار القادة فاتحين المجال للوصولية والمجاملات.(9).
وجاء برنامج طرابلس، عقب انعقاد المجلس الوطني للثورة الجزائرية في ليبيا ما بين 16 كانون أول 1959 و18 كانون ثاني 1960، وتفاقم الإنقسامات داخل جبهة التحرير الوطني، ليقر وثيقتين مهمتين هما: 1-الدستور المؤقت للدولة الجزائرية -2-النظام الداخلي لجبهة التحرير الوطني. ومن الجدير بالذكر أن الدستور المؤقت قد جعل ممارسة السلطة التنفيذية "من مهام وصلاحيات الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية".
ومن المعروف أن برنامج طرابلس قد صاغه في ذلك الوقت محمد حربي وهو ماركسي، ومصطفى الأشراق وهو أستاذ بجامعة السوربون، ومحمد يزيد. ويعكس هذا البرنامج ثلاثة مفاهيم كانت سائدة في معرض تحليلها للطبيعة الاجتماعية للثورة الجزائرية. وهي مفاهيم مختلطة ومختلفة، تعبر عن الحساسيات الأيديولوجية المتباينة في قيادة الثورة، وأرائهم في قراءة الواقع الجزائري، وآفاقه المستقبلية. ويمكن إدراج هذه التفسيرات المتباينة على النحو التالي: أولاً: تحليل كل من مصطفى الأشراف، ورضا مالك ومحمد يزيد، الذي يؤكد بأن طبيعة المجتمع الجزائري هو مستعمر نصف إقطاعي، ولذا فإن مرحلة الانتقال إلى الاستقلال والعصر الحديث، تتطلب بناء دولة حديثة، والقيام بإصلاح زراعي وتصنيع، وتحرير المرأة، والقضاء على الأثار الإقطاعية. وليس من شك أن هذا الطرح ينطلق من المرجعية الأيديولوجية الماركسية التي تحدد طبيعة الثورة بأنها ديمقراطية برجوازية. وبسبب عجز البرجوازية في البلدان المستعمرة عن القيام بها، وضعف الطبقة العاملة، فقد أحل مالك والأشراف محل الثورة الديمقراطية البرجوازية مصطلح الثورة الديمقراطية الشعبية. التي لا يقع على يد طبقة واحدة "بل على دولة تبقي البرجوازية تحت وصايتها، وتجسد قاعدتها الاجتماعية لدى الفلاحين والشغيلة بوجه عام، والشبيبة والمثقفين الثوريين". ثانياً تحليل بن بلا المتأثر إلى حد كبير بأفكار فرانزفانون التي طرحها في كتابه "معذبو الأرض" والذي يرى أن الثورة الجزائرية لا يمكن أن تستقيم إلا إذا إنساقت في سياق الثورة الاشتراكية حيث تكون القوة القيادية فيها للفلاحين. ويعطي تحليل بن بلا دوراً استراتيجياً للاسلام. باعتباره "يشكل متراساً للفقراء ضد الأغنياء ويعطي طابعاً مميزاً للأصالة الجزائرية". وينادي بن بلا بأممية بلدان العالم الثالث ضد البلدان المصنعة حيث "تبرجزت الطبقة العاملة "في الغرب. ثالثاً: تحليل محمد حربي الذي يجد ضالته في المرجعية الماركسية حيث يرى أن الجزائر ليس بلداً اقطاعياً. لأن نمط الملكية ودور الدولة، والعلاقة بين المدن والأرياف، تختلف كلياً عن نمط الإقطاع الذي كان سائداً في العصر الوسيط في الغرب وأكد محمد حربي بأن البرجوازية الجزائرية عاجزة عن إنجاز مهام الثورة الوطنية، وركز على الترابط العضوي بين مهام الثورة الوطنية والثورة الاجتماعية، الأمر الذي يتطلب "النضال على جبهتين ضد الإمبريالية وضد البرجوازية المحلية، أما البرجوازية الصغيرة الاقتصادية فيجب تحييدها... وقد اعتبر أن محرك الثورة لا يمكن أن يكون غير الطبقة العاملة مهما تكن ضعيفة... أضف إلى ذلك أن للثورة الاشتراكية طابعاً أممياً لذا فإن تحالفاً استراتجياً مع الاتحاد السوفياتي والصين أمر لا غنى عنه".
وفيما تم ادخال الإحالة إلى الإسلام طبقاً لمطلب بن بلا الذي كان يطالب بإعادة النظر في مسألة علمانية الدولة وعلمانية جبهة التحرير الوطني، كان مناقضه الرئيس مصطفى الأشرف يعارض هذا التوجه، بحجتين أولاً: إن الإسلام يحمل في ذاته ثقل القيم الخاصة بحضارة ريفية قديمة ويمكن أن يلعب دمجه في الأيديولوجية السياسية دور الكابح لتحديث البلد وثانياً: سوف تستند القوى المحافظة إلى الدين لتأييد عادات رجعية بما يخص العائلة ووضع المرأة والعلاقات في المجتمع".
في معرض تحليله التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية، والبنية الطبقية للمجتمع الجزائري، أكد برنامج طرابلس على وجود أربع طبقات: الفلاحين الفقراء -بروليتاريا المدن- البرجوازية الصغيرة- والبرجوازية. غير أنه في تحديده لقوى الثورة، تبين بأن الفلاحين والعمال بوجه عام هم الذين كانوا القاعدة النشيطة للحركة والذين أعطوها طابعها الشعبي الأساسي "مضيفاً بأن" مهام الثورة الديمقراطية في الجزائر هائلة. ولا يمكن انجازها بواسطة طبقة اجتماعية هي البرجوازية مهما كانت مستنيرة. ولكن مهما كان شأن القيمة المترتبة على فهم طبيعة الثورة الديمقراطية، إلا أن البرنامج لم يحدد مهماتها ولا أهدافها بدقة ماعدا الإشارة إلى ضرورة تحقيق "الإصلاح الزراعي" وهو في جانب كبير منه يتوافق مع طموحات الجناح العسكري لجبهة التحرير الوطني المتكون أساساً من الفلاحين الفقراء. والذي تهيمن عليه أيديولوجية فلاحية بسيطة، نظراً للمستوى التعليمي والثقافي المتدني لدى غالبية أعضائه. وظلت الأيديولوجية المهيمنة على قيادة جبهة التحرير الوطني والذي أكد عليها برنامج طرابلس هي معاداة الاستعمار والإمبريالية، والتأكيد على سيادة الشعب ورفض الليبرالية الاقتصادية، وضرورة التخطيط دون ذكر الاشتراكية.
ولعل في هذا الغموض وسطحية عموميات المفاهيم الأيديولوجية ما يؤكد لنا بأن جبهة التحرير الوطني لم تشقها صراعات أيديولوجية بشأن نمط الحزب المطلوب بنائه إذ جاء النص حول الحزب تسوية بين أنصار حزب جماهيري يستبعد من صفوفه "تعايش أيديولوجيات مختلفة"، وبين حزب طليعي يتم تنظيمه على أساس مبادئ المركزية الديمقراطية: انتخاب المسؤولين على مختلف المستويات أولويات الهيئات العليا على الهيئة الدنيا، خضوع الأقلية للأكثرية.
ومع ذلك، فإن برنامج طرابلس، لم يشكل نقلة نوعية لكي تتجاوز الثورة الجزائرية الخلافات الماضية، والصراعات التي تعمقت عند اقتراب الاستقلال بين القيادات السياسية للحكومة المؤقتة وجيش التحرير الوطني ورئاسة الأركان المامة التي تسيطر على الولايات الداخلية. فعملية الانتقال من الحركة الوطنية إلى الاستقلال، عملية صعبة ومعقدة بسبب ما يلازمها من ظاهرة الصراع على السلطة بين الفئات والأفراد الذين كافحوا من أجل حرية الجزائر تحت راية جبهة التحرير الوطني. فهناك السياسيون الليبراليون والراديكاليون المنحدرون من أصول مدينية ويتمتعون بثقافة عالية. وهناك المثقفون الذين يتشابهون مع السياسيين من حيث أصلهم الطبقي ويختلفون من حيث الجيل الذي ينتمي إليه كل منهما. وهنالك الثوريون المنحدرون من أصول ريفية ولا يتمتعون بثقافة عالية، ولكنهم يشكلون الأكثرية، واستطاعوا أن يسيطروا على القيادة السياسية خلال الحرب، بل أصبحوا من أبرز القادة الوطنيين المطالبين بحقهم الخاص في تولي مناصب عليا في السلطة في الدولة الجديدة. وهناك أخيراً العسكريون الذين يتشابهون مع الثوريين من حيث الخلفية والوسط الاجتماعي، والذين استطاعوا أن يفرزوا من صفوفهم قيادات فرعية توصلت إلى احتلال مراكز قيادية مثل بومدين.
وانطلاقاً من تحديد هذه اللوحة التصنيفية للفئات السياسية الجزائرية يمكن أن نصل إلى استنتاج محدد من أن السياسيين التقليديين؛ الذين قادوا الحركة الوطنية، وانتهجوا سياسة تختلف وتتناقض أحياناً مع الاستعمار الفرنسي، وطالبوا بالاستقلال من خلال عمل سياسي مشروع، من دون أن يقاتلوا من أجله، لأن الاستقلال يحقق لهم مصالح ليست متناقضة إلى هذا الحد مع الاحتلال، فشلوا في تحقيق المطالب الوطنية، على الرغم من أنهم يمتلكون ثقافة عالية، فرنسية في الأعم الأغلب. وكان الكثير منهم يمارسون مهناً حرة. إنه الوضع الذي أفسح في المجال لبروز الثوريين والعسكريين الممثلين للفئات الاجتماعية الأكثر سحقاً في المجتمع الجزائري الكولونيالي والأقل ثقافة، والأدنى مستوى اجتماعياً قبل الاستقلال، الذين فجروا الثورة ضد المستعمر الفرنسي من أجل الاستقلال، واستطاعوا أن يتبوؤا مراكز قيادته في الحركة الوطنية الجزائرية، وأن يستعيدوا سيطرتهم عليها.
في معرض تحليله لظاهرة انتقال الحركة الوطنية إلى الاستقلال، يستشهد وليم كواندت بعدة دراسات مكثفة تعطي تعليلاً عاماً لعدم استقرار بنية القيادة السياسية في الحركة الوطنية في البلدان المستعمرة عامة، والجزائرية بصورة خاصة، وانتقالها من القيادات ذات المستوى الثقافي العالي إلى القيادات ذات المستويات الأدنى. "تصف دراسات كثيرة كماً وكيفاً تغير القيادة السياسية التي رافقت التحول من نظام سياسي إلى نظام آخر. لقد قورنت الحركات الوطنية بحكومات ما بعد الاستقلال. والقيادات الثورية بقيادة ما بعد الثورة، وبين الذين يصوغون الأيديولوجيات والذين يقودون الحركات الأيديولوجية. وفي كل حال يبدو أن تشكل التطور يبدأ بسيطرة قيادة عالية الثقافة عالمية ثم تنتقل إلى قيادة أقليمية محدودة بمناطق معينة وأقل ثقافة نسبياً، وفي كثير من الأجزاء النامية من العالم يبدو أنه تظهر بعد الاستقلال قيادة أقليمية ريفية بالمقارنة مع قيادات فترة الحركة الوطنية ذوي الثقافة الغربية الذين يتكلمون الإنكليزية أو الفرنسية وكذلك فقد لاحظ ليرنر بالنسبة للحركات الجماعية الالزامية في أوروبا وآسيا إن المثقفين ذوي الأوضاع الاجتماعية العالية هم الذين أسسوا الحركات التي شق من خلالها أناس ذوو أوضاع أدنى طريقهم إلى السلطة القيادية وقد لاحظوا مؤخراً التغيرات الثورية تحول السلطة من(رجال الكلام) المعتدلين إلى (رجال العمل) الأقل ثقافة والأكثر تطرفاً. إن شيوع تعميم كهذا شيء مؤثر ويعني أن هنالك عملية مشتركة تدعو إلى تحولات من الحركات المعارضة إلى القيادات الحاكمة. ويمكن تحديد شكلين متميزين داخل الاتجاه العام الذي تنتقل خلاله السلطة من محرضين ذوي أوضاع عالية إلى إداريين أوضاعهم أدنى والشكل الأول هو تحول الحركة الوطنية أو الحزب الأيديولوجي إلى نظام استبدادي تتمركز فيه السلطة غالباً بيد قائد مرموق يؤدي في هذا النموذج إرتقاء قائد حازم إلى السلطة إلى تفكك القيادة الوطنية ويفسح في المجال لنشوء قيادات أدنى تنجح في تعزيز السلطة من خلال استخدام الجيش والسلطة"(10).
ثانياً: من الصراع على السلطة إلى ميلاد الدولة الجزائرية
أدت أزمة صيف 1962 إلى تفجير مجموعة من التناقضات المتداخلة الشخصية والسياسية والأيديولوجية، باعتبارها تعكس حساسيات طبقية متفاوتة ومتباينة، حول طبيعة السلطة، وكيفية تنظيم المجتمع، وقد أفرزت هذه الأزمة على السطح أبرز الكتل السياسية الثلاثة المتصارعة على السلطة، الأولى: مجموعة بن بلا التي كسبت تأييد المكتب السياسي المتكون من المعتقلين السابقين رابح بيطاط ومحمد خيضر، وانحاز إليها التنظيم العسكري الخارجي وجيش الولايتين الأولى والسادسة، ولكن الحليف القوي والمنظم لبن بلا كان هيئة الأركان بزعامة بومدين التي تحظى بتأييد قوي من جانب قسم من العسكريين وقسم من الثوريين، والتي تعتبر نفسها النواة الأساسية للجيش الوطني النظامي المحترف وتتحكم في رؤيتها الاستراتيجية أولوية العسكري على السياسي، وعدم الإعتراف بالمؤسسات (الحكومة المؤقتة، والمجلس الوطني للثورة) بوصفهما مؤسستين أخفقتا في حل الأزمة الداخلية، والتحالف مع الشرائح المدنية طالما أن الجيش ليس مهيأ بعد ليضطلع لوحده بالسلطة. "وعلى الصعيد السياسي، كان" الاصلاح الزراعي وتصنيع البلد، والتوزيع العادل للانتاج والثروات" تشكل جوهر برنامجهم. الثانية: الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي اعترفت بها عدة دول كممثلة لجبهة التحرير الوطني والاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير الذي أسهم، إسهاماً قوياً في تمويل الثورة. الثالثة: مجموعة القادة العسكريين للولايات الثانية والثالثة والرابعة (شمال قسنطينة -القبائل- والجزائر. البعيدة عن الحدود المراكشية والتونسية) والبعيدة أيضاً عن سيطرة رئاسة الأركان والمتناقضة مع العقيد بومدين وزملائه بحجة فشله في تزويد هذه الولايات بما يكفي من الأسلحة. وقاد الصراع على السلطة إلى برزو تحالفين: تحالف التف حول الحكومة المؤقتة، ويتكون من الاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير، وقوى الولايات الثلاث التي كانت معارضة لرئاسة الأركان. أما التحالف الثاني فقد ألتف حول بن بلا وخيضر، ويتمتع بدعم قوي من جانب هيئة الأركان التي تدعمها الولايات الأولى (الأوراس)، والسادسة (الصحراء)، والخامسة (وهران). بقيادة زبيري وشعباني وعثمان. وكان لهذين التحالفين ارتباطات أقليمية ودولية، فبن بلا كانت تربطه تحالفات استراتيجية مع مصر عبد الناصر، أما الحكومة المؤقتة فقد عقدت تحالفاً ثابتاً مع تونس وفرنسا ضد بن بلا.
انتهت أزمة صيف 1962 باستحواذ بن بلا نهائياً على السلطة. بفضل تحالف الثوريين والعسكريين الذين اختاروه ممثلاً لهم، وأصبح أول رئيس للجزائر المستقلة في أواخر أيلول 1962، بعد أن انتخبته الجمعية التأسيسية الوطنية بنحو (141) صوتاً من أصل (194) ويعكس انتخاب الجمعية الوطنية التأسيسية الأولى (والأخيرة) آراء متباينة حول دور الجمعية، ومهامها.
تركيب الجمعية الوطنية التأسيسية العام 1962 (11)​


المهن
النسبة​
العسكريون​
18%​
أعمال حرة​
18%​
تجارة​
14%​
معلمون​
12%​
زراعيون​
11%​
عمال​
7%​
كوادر ومستخدمون وموظفون مدنيون​
10%​
طلاب​
10%​
المجموع​
100%​
العدد​
194​
 
وكانت هذه أول جمعية تنتخب فجر استقلال الجزائر، قبل أن يحسم مصير السلطة التنفيذية نهائياً. لذا وصفالعديد من النواب عمل الجمعية خلال سنتها الأولى بـ "المناقشة الحرة" و"التعبير الحر"، حيث تجدر الإشارة هنا إلى أن السنة الأولى للجمعية كانت برئاسة الليبرالي فرحات عباس، ويرى كنيث برويت وهينز بولوبيترل في "التأثيرات الاجتماعية السياسية والأدوار السياسية "الرأي العام الجزء 30 ص582" أنه لم يكن واضحاً ما إذا على الجمعية أن تضع الدستور أو تتبناه وكذلك بقي دور الجمعية كمشروع غير محدود لذلك استطاع أن يتطلع النواب الجدد إلى مراكز السلطة في الجمعية داخل النظام السياسي وإلى دورها الأكبر في رسم السياسة ولعدم وجود تعريف لهذه السلطات ومهامها كانت تطلعات النواب تعكس مواقف تكونت في مناسبات أخرى تتعلق بالأنظمة السياسية والعملية السياسية". كان هناك تياران من النواب يختلفان في تصورهما لدور الجمعية. التيار الأول، ويمثل الأقلية داخل الجمعية الوطنية ويقوده فرحات عباس المتأثر بتجربته الطويلة في الهيئات البرلمانية الفرنسية. والذي يرى أن على الجمعية أن تكون المصدر النهائي للسلطة في النظام السياسي. أي أن تلعب دوراً تشريعياً مهماً. ويظهر تصور عباس عن طبيعة النظام السياسي. ودور الجمعية فيه، في إيمانه العميق بضرورة إقرار دستور للبلاد يؤمن ويحترم فصل السلطات التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، حيث تكون الجمعية هي المسؤولة عن القوانين التي تطبقها السلطة التنفيذية، فضلاً عن أن الجمعية هي التي يجب أن تختار الحكومة وتقيلها بالتصويت بحجب الثقة، وأن تقوم برقابة السلطات الحزبية والتنفيذية. ولعل هذا التصور ناجم عن قناعة فرحات عباس بضرورة إقرار النظام البرلماني في الجزائر. على غرار تقاليد الجمهورية الفرنسية الرابعة.
أما التيار الثاني في الجمعية، فكان يتكون في معظمه من النواب الثوريين والعسكريين الذين لا يمتلكون خبرة في هذا النمط من العمل السياسي البرلماني، والذين كانت ثقتهم بأهمية عمل النقاش الحر داخل البرلمان قليلة. وبينما كان التيار الأول ينادي بالتعددية السياسية في الجزائر، ويستعمل منبر البرلمان للتعبير عن أرائه السياسية، كان التيار الثاني في الجمعية ينادي بضرورة الحاجة إلى نظام الحزب الواحد، وأن على النواب أن يكرسوا جل وقتهم من أجل توطيد قوة الحزب الواحد، وأن لا يعطوا إلا دور محدود للجميعة، أي رفض المهمة التشريعية لها، وبدل من ذلك يجب أن تكون القوانين صادرة عن المكتب السياسي، وما على الجمعية إلا الموافقة عليها. في ضوء الانتماءات السياسية للنواب وخلفياتهم الثقافية المتباينة، بين نواب يتمتعون بثقافة عالية ويعبرون عن آرائهم السياسية طبقاً لارتباطهم بالتقاليد الفرنسية. وبين نواب أقل ثقافة يميلون إلى التخصص في المناقشات السياسية، كانت المعارضة داخل الجمعية تعبر عن رأيها بحدود ضيقة في السنتين الأولى والثانية، إذ تم إقصاء معظم المثقفين وعدد كبير من السياسيين والثوريين من النظام السياسي الجزائري. وكانت هذه المعارضة تنقد بشدة الطابع الشخصي في السلطة لبن بلا، وعقلية الحزب الواحد الذي يمنح السلطة لشخص واحد...
وقاد هذا الوضع إلى إقصاء المعارضة السياسية ولجوئها إلى الخارج، أو إلى العمل السري في الداخل، وإلى بروز ثلاثة أقطاب رئيسية: خيضر الأمين العام لجبهة التحرير، وبن بلا رئيس مجلس الوزراء، وبومدين وزير الحربية." كان خيضر وبومدين من قبل صانعي نصر بن بلا على الحكومة المؤقتة. وكان يبدو أنهما مصممان على كسب جزء كبير من النفوذ لأنفسهم فقد أشار خيضر في تصريحات عامة كثيرة إلى الحاجة إلى حزب جماهيري يشرف على نشاطات الدولة وعلى انسحاب الجيش من ميدان السياسة. وكان بومدين القليل الكلام قد بين أن الجيش ينوي أن يلعب دوراً سياسياً. وتحدث بن بلا عن الحاجة إلى تعزيز سلطة الدولة وعن تشكيل حزب طليعي يتألف من العسكريين بعد اختيارهم وتحدث عن الدور الاقتصادي والاجتماعي الذي قد يلعبه الجيش"(12)
ومن الواضح أن بروز هذا التحالف القوي بين الرئيس الجديد بن بلا الذي تحيط به مجموعة كبيرة من المستشارين اليساريين. والجيش بقيادة هواري بومدين، قد تم بعد أن اعترى أزمة 1962، والفترة الانتقالية التي تحملت فيها هذه الشخصيات الرئيسية مسؤولية القيادة السياسية للجزائر، خلافات فكرية وسياسية حول طبيعة النظام السياسي المرجو إقامته، وسلسلة كاملة من المناورات والتحالفات التكتيكية المؤقتة، والتحالفات المضادة لفرقاء الصراع. غير أن هناك سببين بررا هذا التحالف: 1-هشاشة وضعف بنية حزب جبهة التحرير الوطني على مختلف الأصعدة الأيديولوجية والسياسية والتنظيمية، وعدم تماسكه. فجبهة التحرير زمن حرب الاستقلال كانت إطاراً يضم كافة الاتجاهات السياسية، لا كحزب سياسي ذي تعبير أيديولوجي لطبقة اجتماعية معينة. وقد حاول خيضر أن يجعل من جبهة التحرير الوطني حزباً طليعياً، من خلال معارضته لنظام تعدد الأحزاب من ناحية، واخضاع المنظمات النقابية والجماهرية لسيطرة حزب جبهة التحرير الوطني من ناحية أخرى، في نطاق استراتيجيته الداعية إلى أن يتولى الحزب السلطة على كافة أجهزة الدولة السياسية. وهو الأمر الذي لم يتسامح معه بن بلا، الذي سرعان ما أصبح أميناً عاماً للحزب بعد استقالة خيضر، حين تفاقمت الخلافات بين الرجلين، حيث أصبحت كل السلطة متركزة في يد بن بلا شارحاً أسباب الجدل مع خيضر في العبارات التالية: "تحتاج الجزائر إلى سلطة محترمة لا تقبل التحدي من أي سلطة أخرى. ولقد وصلنا اليوم إلى حد ازدادت فيه ازدواجية السلطة في كل مكان حيث يهاجم ممثلوا الحزب ممثلي الحكومة المركزية ويحطون من نشاطاتهم وبهذه الأعمال يضعفون الحكومة إلى حد كبير".​
2-​
مواجهة الدولة الفتية مجموع الصعاب الداخلية في الميدانين السياسي والاقتصادي ، والأخطار الخارجية جراء الأزمة مع المغرب، وهذا ماجعل الجيش يبرز كقوة منظمة ومتماسكة ومنضبطة. وعلى هذا النحو أصبح الرئيس بن بلا معتمداً أكثر من أي وقت مضى على قوة الجيش، الذي نجح في إعادة بنائه وتشكيله بصورة حديثة، على الرغم من حذره وتخوفه الشديد، إلا أنه كان مجبراً على ذلك في ظل تلك الظروف المعقدة. ولأن جدل الصراع على السلطة وإفرازاته السياسية العملية أبرزت قوتين على المسرح السياسي الجزائري، بعد انشقاق الثوريين عن بن بلا، واعتقال بوضياف الذي كان رفيقاً له في المعتقلات الفرنسية، هما قوة بن بلا الذي يتمتع بشعبية غير منظمة وعفوية وقوة بومدين الذي يعتمد على الجيش، وكان لا بد أن تتصارعا من أجل الإمساك بجهاز الدولة والسيطرة عليه. وهو ما بدا واضحاً مع موافقة غالبية الجمعية الوطنية على الدستور الذي قدمه بن بلا، والذي يركز كل السلطة في يده. فقد بينت مقدمة الدستور أهداف الدولة في الاشتراكية، وفي التطور الاقتصادي في إطار الاشتراكية والإسلام. حيث أكد الدستور على أن الإسلام هو دين الدولة ودين رئيسها، وإن الاستقرار لا يتوطد إلا بنظام الحزب الواحد الطليعي الذي يكون المصدر الأول للسلطة، والحال هذه فإن جبهة التحرير الوطني هي الحزب الوحيد في الجزائر الذي يحدد سياسة الأمة ويشرف على أعمال الجمعية والحكومة. ولقد منح الدستور الجمعية سلطات محدودة جداً (المادة 38)، بينما أعطى الرئيس سلطات واسعة بما فيها سلطات الطوارئ المادة (59) وأما على صعيد الجيش فقد أكد الدستور أن على الجيش أن يلعب دوراً سياسياً، ولكن في إطار الحزب. غير أن تعزيز السلطة من جانب بن بلا، وممارسته الفردية لها، خلق له معارضة قوية وعنيفة هددت النظام في صراع مسلح بزعامة حسين أيت أحمد زعيم "جبهة القوى الاشتراكية" وهو ما جعل بن بلا أكثر اعتماداً على الجيش في مواجهة المعارضة المسلحة، والقضاء على مراكز مقاومة النظام.
وقد فجر مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني المنعقد في نيسان 1964، الصراع بين بن بلا الذي كان يريد إعادة بناء الحزب لتوظيفه في مواجهة كل المعارضة والجيش، وبين بومدين المسيطر على الجيش باعتباره مصدر سلطته، والمدافع عن "الاشتراكية الإسلامية" وعن ضرورة توطيد جذور الجزائر الإسلامية. واصطف محمد حربي ورفاقه إلى جانب بن بلا في هذا الصراع، ودافعوا عن الاشتراكية العلمية. وتمخض عن هذا المؤتمر وثيقة جديدة سميت ميثاق الجزائر (العاصمة) الذي هو بمزلة برنامج استراتيجي لجبهة التحرير الوطني، حيث حدد الميثاق الخيار الاشتراكي للجزائر، واصفاً الاشتراكية بأنها قابلة للتحقيق بفضل "الديناميات الشاملة للصراع الاجتماعي كما تبدى بعد تحرير الوطن مباشرة". ويقول الميثاق أن الأساس الرئيس الذي تقوم عليه الاشتراكية بشكله التسيير الذاتي في كل من الصناعة والزراعة. "في هذه العملية سيصبح دور العمال الحضريين والريفيين المشتركين في التسيير الذاتي أكثر وأكثر حسماً لأن الأساس الاجتماعي للسلطة الثورية لا يمكن إلا أن يكون جماهير العمال المتحالفين مع فقراء الفلاحين في القطاع التقليدي ومع المثقفين الثوريين"(13).
ويحذر الميثاق في نطاق تحليله للبنية الاجتماعية الطبقية من تشكل شريحة اجتماعية جديدة في "الجهاز الإداري والدولة والاقتصاد" حيث يؤكد بأن هذه القوة بمركزها في جهاز الدولة والاقتصاد قد تصبح أشد خطورة بكثير من الاشتراكية، والتطور الديمقراطي للثورة من أية قوة اجتماعية قائمة في البلد.
يحدد الميثاق خيار التسيير الذاتي كنموذج اقتصادي للجزائر الذي يوجه فترة الانتقال. وهو يعترف بالتناقض البنيوي الذي يعترض مبدأ التنظيم الاقتصادي هذا وبين "طرائق وبنى تنتمي لتنمية رأسمالية وأهدافه اشتراكية". لكن الميثاق يعطي أولوية لمبدأ التخطيط المركزي من جانب الدولة، بهدف خلق "مؤسسات مختلطة ووطنية"، وتقوية القطاع العام الاشتراكي، ومحاربة المشاريع الخاصة. ويعترف الميثاق بأنه "يتعين على المرء أن لا ينسى أن التعاونيات -وكذلك المؤسسات المختلفة والوطنية، أو رأسمالية الدولة يمكن أن تكتسب مغزى مختلفاً تماماً تبعاً لما إذا كانت الدولة تخضع هي بنفسها لقوى اشتراكية أو لقوى رجعية. "فإذا كانت الدولة تمثل مصالح البرجوازية الوطنية، فإن المؤسسات المختلطة ستقوم بدور المفصل بين مصالح هذه المؤسسات ومصالح الامبريالية. أما إذا كانت الدولة - من الناحية الأخرى تمثل مصالح الشعب الذي تتولى مسؤوليته، فإن الإرتباط مع المجموعات الخاصة الأجنبية يمكن في ظل شروط معينة- أن يكون مفيداً"(14).
ليس هناك نص واضح في الميثاق يحدد بدقة كيفية بناء الدولة الحديثة، وإرساء أسس سليمة للديمقراطية. فالحل الذي يوحي به الميثاق يتمثل في أن يعهد لـ "المراكز الرئيسية في كل فروع جهاز الدولة إلى المجاهدين الذين يشكل تدريبهم السياسي ووعيهم القوي واليقظ بمصالح الثورة ضمانات لا غنى عنها للحزب ولجماهير العمال. ومن المحتم أن يخضع تعيين الكوادر في كافة فروع الدولة لموافقة الحزب"(15) فالميثاق لا يطرح برنامجاً لثورة ديمقراطية تقع على عاتقها بناء المجتمع المدني بالتلازم مع دولة الحق والقانون. وإنما ركز على موضوع المجاهدين، وعملية إفراز الكوادر من صلبهم للاضطلاع بمهام بناء الدولة الحديثة. وهذا أمر غاية في الاستعصاء لمن يعرف واقع وظروف الثورة الجزائرية. وفضلاً عن ذلك، فإن اختيار الديمقراطية لا يجوز أن تكون في ميدان الحزب الواحد كما نص عليها ذلك صراحة الميثاق، بل في فضاء المجتمع المدني الحديث الذي تقع على عاتقه انجاز مهماتها. وقد ركز الميثاق على أن الحزب هو الذي يخلق "تصوراً جديداً للديمقراطية... إنها ديمقراطية يعبر بها مجموع العمال عن أنفسهم تعبيراً كاملاً... المركب الذي يتالف من ديمقراطية مباشرة حيثما كانت ممكنة فعلية، ومن مركزية ذات سيطرة حازمة سوف يتمكن من أن يجدد نفسه باستمرار، وأن يتكيف مع أوضاع جديدة، وأن يظهر أقصى درجة من المرونة... وهكذا ستمنع هذه الديمقراطية الجديدة حدوث انشقاق بين المشكلات الاقتصادية اليومية الحسية والمشكلات السياسية والمشكلات المجتمعية الأعم، وهي ستمنع أيضاً عملية زوال الطابع السياسي التي هي نتيجة انعزال عن مراكز صنع القرارات"(16).
بقدر ما ينطوي الميثاق على أساس أيديولوجي مبني على العداء للامبريالية، ويدعم قضايا الاشتراكية، والديمقراطية والمساواة الاجتماعية، بقدر ما كان يفتقد إلى مشروع جديد لبناء الدولة الديمقراطية، والمجتمع المدني الحديث، يتجاوز جدلياً استمرار الصراع على النفوذ على جهاز الدولة، المقترن دائماً باستخدام أسلوب العنف بين فرقاء الصراع، الذين يختلفون في تصوراتهم الأيديولوجية والسياسية لبناء الدولة الفتية، ويوظفون الإسلام كل حسب طريقته كمصدر للشرعنة والتبرير السياسي، خصوصاً وإن الإسلام في الجزائر تميز بحضوره القوي على الساحة السياسية "لأنه شكل إطاراً مرجعياً لكل الحركات السياسية حتى تلك التي أدعت العلمانية أو سعت إلى تحقيقها، مثل حركة الشبان التونسيين بمختلف اتجاهاتها، وحركات مصالي الحاج وفرحات عباس... وقد دعم الاصلاح السلفي والديني في الجزائر هذه المرجعية جاعلاً منها مرجعية مركزية بالنسبة إلى كل قوى التحرير الوطني في الجزائر"(17).
ونعود إلى موضوع الصراع على السلطة بين بن بلا والجيش لنؤكد، بأن القيادة السياسية الجزائرية على اختلاف مشاربها الأيديولوجية، لم تكن حريصة على الاطلاق على تنظيم الحياة السياسية في الجزائر على أساس ديمقراطي، ووفق مبدأ المشاركة السياسية للشعب في إنشاء الدولة الوطنية الفتية والمجتمع المدني الحديث، وعلى أساس الاضطلاع بمهمة على درجة عالية من الأهمية ألا وهي تسييس الشعب من قبل قوى التغيير الراديكالية. ذلك أن عملية تسييس الشعب ونقل الوعي الكوني والتاريخي الجديد في صفوفه، بالدعاية (التربية والتثقيف) تارة، وبالدعوة (التحريض) تارة أخرى، من جانب قوى التغيير السياسي الراديكالية الجزائرية، هي التي تفسح في المجال لظهور سيرورة تاريخية جديدة تبني الدولة الديمقراطية الحديثة، وتمضي قدماً في بناء عمارة المجتمع المدني في طوابقها كافة، وتشكل قطيعة مع سيرورة نزع السياسة من المجتمع، وسيرورة انبعاث التاريخ الجزائري ما قبل الكولونيالي وما بعده (العثماني والفرنسي) الذي قوامه سيادة العلاقة العدائية المتبادلة بين الدولة والمجتمع، حيث تحول العنف المتبادل إلى قانون فاعل في الحياة السياسية وأسلوب عمل الدولة والمجتمع"، أسهمت في تكريسه بوجه خاص الدولة الكولونيالية، التي اقتلعت بواسطة العنف مجتمعاً زراعياً بكامله من خلال اغتصاب أراضيه الزراعية، وتدمير بناه التقليدية والزراعية تدميراً عنيفاً. وفضلاً عن ذلك، فإن عملية تسييس الشعب في سيرورة ديمقراطية ثورية كمبدأ سياسي وكإجراء نظامي وكجوهو لعملية البناء الديمقراطية للدولة الوطنية وللمجتمع المدني سواء بسواء، وللمارسة السياسية التي تقوم على قيم التعددية أو الأيديولوجيا التعددية، المتناقضة على طول الخط مع النزعة الشمولية السائدة في البنيان الأيديولوجي والسياسي للدولة العربية، هي وحدها التي يمكن أن تشكل رافعة لعمارة بناء المجتمع المدني الحديث برمتها في كافة حيزاتها ومستوياتها، تهيئ لها النضج والتوازن والإتساق.
سواء كان بن بلا من أنصار النزعة الاشتراكية الأممية أم لا، فإن حكومته قامت بتأميم الأرض والمشاريع الصناعية، وتبنت مبدأ التسيير الذاتي كخيار اقتصادي -اجتماعي للجزائر ما بعد الاستقلال، من أجل إدارة المشاريع الزراعية والصناعية من قبل العمال والفلاحين. ولقد اعترى مرحلة 1962-1965 التي عرفت فيها الجزائر عملية التسيير الذاتي مجموعة من التناقضات أبرزها:​

1-​
إن أحلال التسيير الذاتي في مجتمع ورث بنى اقتصادية اجتماعية مفككة الأوصال، بل ومدمرة من جراء العنف الاستعماري الذي دمر قسماً كبيراً من القوى المنتجة، يتناقض مع طبيعة مرحلة ما بعد الاستقلال، والذي كان من باب الأولويات السياسية والتاريخية فيها تحقيق الثورة الديمقراطية كمرحلة لا بد منها. ذلك أن العلاقة التي سادت بين الدولة والمجتمع في الجزائر خلال القرون الماضية، وبخاصة خلال مرحلة الكولونيالية، كانت علاقة عدائية واقصائية متبادلة، الأمر الذي قاد إلى تحقيق القطيعة الكاملة بين المواطن/ الإدارة والمواطن/ الدولة، "لأن العلاقة لم تشهد لحظة هدنة أو تجانس، بل كانت متوترة كل التوتر. ولعل ذلك ما خلق تقاليد تمرد دائمة وحالة انشطار مستمرة بين السلطة المركزية والتخوم فتوزعت الجزائر إلى فضاءين، واحد رسمي ومهيمن والآخر معارض وهامشي"(18). ولهذا فإن تنظيم الحياة السياسية في المجتمع الجزائري، الذي عرف بداية تشكل أطر وتكوينات المجتمع المدني الحديث من الأحزاب السياسية إلى النقابات العمالية والطلابية، الممثلة لمشروع الكفاح المسلح ضد المستعمر الفرنسي، والمنتظمة لبناء الدولة الوطنية الفتية، يقتضي خلق المجال السياسي الشرعي الذي يتيح للمعارضة السياسية والنقابات الممثلة للطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة، الحق في ممارسة نشاطها السياسي بشكل حر وديمقراطي، والحق في الدفاع الجماعي عن المصالح في المجال المحلي، وفي المجال الوطني والقومي، ويقتضى أيضاً أن تكون العلاقة بين السلطة والمجتمع قائمة علىعقلانية الحقوق والواجبات، وتستند إلى منطق التكافؤ في الحقوق السياسية.​

2-​
ثم أن التسيير الذاتي يتطلب أن تكون الطبقة العاملة هي القوة المنتجة الرئيسية إلى جانب الفلاحين، كما يفترض وجود حزب ثوري قوي ومتماسك، أسس وعياً سياسياً وأيديولوجياً راسخاً في أوساط الطبقات الشعبية، وقام بتدريب الفئات المتقدمة من العمال والفلاحين على تنظيم وإدارة المؤسسات الاقتصادية في الزراعة والصناعة. وهذا ما كانت تفتقده الجزائر كلياً، حيث أن البنى المجتمعية، لم تنتقل انتقالاً تاماً ناجزاً من المجتمع ما قبل القومية إلى مجتمع الأمة الحديثة البرجوازية، بسبب استمرار وثبات التشكيلات الاجتماعية التقليدية كالعائلة والعشيرة، ونظام القرابة الموغل في بدائيته أولاً. وكمون المجتمع المدني الجزائري الوليد مع انبثاق الدولة الوطنية ذات الطبيعة الاقصائية، الأمر الذي قاده إلى العمل "خارج إطار الفضاء السياسي"، الذي تحكمه هذه الدولة الفتية، التي لا تتمتع بنيتها السياسية بطابع ديمقراطي ثانياً. ولأن الطبقة العاملة ضعيفة مادياً، ومعنوياً من ناحية وعيها الطبقي والأيديولوجي، حيث تسيطر الأمية على الغالبية العظمى من الشعب الجزائري. والواقع أن هذا الوضع المجتمعي -الأيديولوجي السياسي ما قبل الأموي Pré -national في البلدان المتأخرة، ومنها البلدان العربية عامة، والجزائر بخاصة،" هو الذي مسخ في أحوال كثيرة وما زال يمسخ قوى تغيير تريد نفسها راديكالية وعصرية إلى قوى تقليدية جديدة. من هنا فإن قوى التغيير مطالبة بأن تكسب طابعها الحديث باستمرار، أي أن تعيد كسبه إلى ما لا نهاية، ومطالبة بالتالي بأن تكسب طابعها الأموي باستمرار. أن البنى المجتمعية التقليدية ما قبل الأمّوية سيف مسلط على رقبة حداثة قوى التغيير وهي، في حالة قصور الوعي، تقضم هذه الحداثة شيئاً فشيئاً تارةً وتتسلل إليها تدليساً تارة أخرى بحيث تغدو الحداثة الأمّوية مجردة لافتة مرفوعة على واقع ما قبل أُمّوي"(19).​

3-​
ومهما يكن الأمر فإن التسيير الذاتي الذي كان عفوياً في البداية عن طريق استيلاء جماهير الفلاحين على أراضي المعمرين الفارين واستيلاء عمال المدن على الورشات والمصانع المهجورة، في ظل الفراغ السياسي الكامل في الجزائر أو عندما أصبح لاحقاً، متبنياً من قبل الدولة من خلال مراسيم أذار 1963، قد اصطدم بمجابهة قوية من جانب بيروقراطية الدولة المدافعة عن امتيازاتها ومصالحها الطبقية، والمتناقضة مع مصالح العمال والفلاحين. وكان ذلك واضحاً في الهيمنة الكاملة التي مارسها المكتب الوطني للاصلاح الزراعي بمساعدة حزب جبهة التحرير الوطني على الفلاحين، وفي فقدان اتحاد العمال الجزائريين استقلاليته في وجه السيطرة الحزبية عليه، وفي امتناع البنك الجزائري المركزي وصندوق التنمية الجزائرية عن تقديم قروض مالية إلى لجان إدارة مؤسسات التسيير الذاتي عن تحقيق انتاجية مرضية، وهو ما جعل قسماً منه يتحول إلى القطاع الخاص أمام تراكم المصاعب الإدارية والتسويقية للانتاج.​

4-​
حيث أن التسيير الذاتي هو نمط اجتماعي للانتاج يعمل على تقوية قطاع الانتاج الاشتراكي، ويتناقض إلى هذا الحد أو ذلك مع وجود سلطة مركزية قوية، ويتطلب وجود تنظيمات نقابية ديمقراطية في أوساط العمال والفلاحين تدافع عن مصالحها المهنية الخاصة. غير أن الدولة الجزائرية الفتية استخدمت التسيير الذاتي واحتوته من أجل تدعيم سلطتها على نطاق المجتمع، حيث أن العمال والفلاحين داخل المجلس الوطني لا يمثلون إلا أقلية، وحيث أيضاً أن غلبة المصلحة الدولية تمنع أي تحرك من خارج الحزب الحاكم المهيمن يمكن أن يأخذ شكل المشروع السياسي المستقل المستند إلى قوى النقابات والمنظمات الشعبية الموجودة. "فالبنسبة لجهاز الدولة، يعتبر حضور الحزب والحضور داخله شرطاً أساسياً لضمان ديمومة هذه النقابات الجماهيرية. فالحزب غالباً ما يفتتح مؤتمرات النقابات العمالية والفلاحية ويؤكد للمشاركين أن مطالبهم الخاصة ليس لها أي معنى سوى ضمن عملية انخراط فعلية في خدمة أهداف النظام). وقد لاحظ بعض المحللين أن الاستراتجية الجزائرية الخاصة بالمنظمات الشعبية ترفض مبدأ الدفاع المهني المنفصل (غير المؤطر) كما ترفض التسييس المستقل. وتشترط هذه الاستراتيجية التسييس عبر الحزب للمطالب الاجتماعية التي تدافع عنها المنظمات، وعبر هذه المنظمات تنفذ المشروع السياسي للحزب الذي يشكل الرابط بين جميع أشكال التمثيل"(20)
وهكذا، أصبحت التناقضات بين الأيديولوجية المهيمنة على الدولة وخطابها السياسي، وبين الواقع المعاشي من السوء بما يكفي لقيام تباينات ولتكشف بكل جلاء هشاشة تجربة التسيير الذاتي. ولقد حسم الانقلاب العسكري في 19 حزيران 1965 الصراع الذي كان حاداً بين بلا وبومدين، لمصلحة هذا الأخير.
على الرغم من أن البرجوازية الصغيرة المهيمنة على السلطة تحالفت تاريخياً مع الجيش، بحكم الانتماء الطبقي المشترك لكليهما من الناحية الموضوعية، في سبيل منع البرجوازية الصاعدة من استلام السلطة، إلا أن مرحلة ما بعد الاستقلال أظهرت لنا التعارضات فيما بينهما. ففي حين كانت البرجوازية الصغيرة متأثرة بتجربة التسيير الذاتي والاشتراكية عامة، كان العسكريون يريدون بناء دولة قوية من أجل فرض تاريخ الثورة الجزائرية الحديث، معتمدين في ذلك عوامل الصراع الجيوبوليتيكي في منطقة المغرب العربي. ولهذا ركزوا اهتمامهم على الكفاية الاقتصادية والتصنيع الثقيل السريع، الأمر الذي جعلهم يلبون حاجات التكنوقراطيين الصاعدين، المهتمين بقضايا التنمية الاقتصادية والإنتاجية.
واتجهت معظم الانتقادات لبن بلا من جانب العسكريين وخصومه من المعارضين المقصيين، إلى تركيز السلطة المتزايد في يديه وإلى تكوين "حالة شخصية" حوله، نتيجة "لعقدته بعدم المشاركة الفعلية في حرب التحرير" على حد قول بومدين الذي انتقد بن بلا لانفتاحه على النفوذ الأجنبي، والعبث بمصادر الثورة، واستئثاره بالسلطة ومن أجل (تصفية الكوادر الثورية)، ومن أجل رغبته الزائدة في السلطة. وقد أضاف أحد معاوني بومدين وهو شريف بلقاسم إلى هذه القائمة من الفشل اضطراب بن بلا الأيديولوجي وأعطى مثلاً على ذلك "الاشتراكيات الخمسة": اشتراكية كاسترو، والاشتراكية الجزائرية، والاشتراكية العلمية، والاشتراكية العربية الاسلامية وقوله "أقبل بالتحليل الماركسي للاقتصاد ولكن أرفض المادية"(21).



 
تحليل خاطئ سخيف ، و كيف لا ، و كتابه أعرفهم جيدا من الفرانكو لبنانيين يعيدون نشر تقارير أسيادهم في ال rg و dst الفرنسية .
لو كان كتابه عاشوا الواقع الجزائري و كتبوا تقريرا أكاديميا ، مهما كان شكل التقرير ، نحترم فيه الموضوعية.
أما استنساخ تقارير و تحاليل استخباراتية مشبوهة فلا و مليار لا.
و مهما كانت أخطاء انطلاقة ما بعد الإستقلال ، لا يمكن أبدا ربطها بالثورة بل بنقص التجربة لدى المسؤولين الشباب الذين تحملوا المسؤولية ، و هو ما تفطن له الرئيس الراحل هواري بومدين بعد ذلك ...
للعلم أن هذا التقرير هو جزء من دراسة استخباراتية فرنسية مؤرخة مباشرة بعد حرب الخليج الثانية و نعلم جيدا كيف دفعت الجزائر الثمن بعد ذلك.

للعلم يا ناقل الموضوع ، نفس الملاحظة ستجدها في الجزء الآخر من التقرير في قسم شمال افريقيا.
أرجو من الإدارة غلق الموضوع.
 
وجب الحذر من تشويه حقائق ثوراتنا الخالدة...






اللهم أنصر إخوتنا المرابطين في غزة المجاهدة
 
الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.
عودة
أعلى