عمر بن الخطاب:
أكبر صنم فى تاريخ البشرية؟!
د. إبراهيم عوض
قرأت بآخرةٍ فى عدد من المواقع المشباكية أن مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة قد أدان كتابا يسىء إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه عنوانه: "فصل الخطاب فى تاريخ قتل ابن الخطاب" لمؤلف شيعى اسمه أبو الحسين الخوئينى. ومن يطلع على الكتاب يجد أن المؤلف قد ألحق به رسالة مسيئة كذلك إلى الفاروق تحمل اسم "شهادة الأثر على إيمان قاتل عمر" ادعى فيها أن "التابعي الشهم" أبا لؤلؤة فيروز النهاوندي (المعروف بأبى لؤلؤة المجوسى) كان مسلما قوى الإيمان وأنه من أهل الجنة.
وقد سعيت حتى حصلت على نسخة ضوئية من هذه الرسالة فألفيت الخوئينى ينبز ابن الخطاب رضى الله عنه بأنه "أكبر صنم فى تاريخ البشرية". ومثل ذلك الصنم لا بد من تحطيمه حسبما كتب المؤلف الموتور، ومن يَقُمْ بهذا العمل العظيم لا يمكن، فى رأيه، إلا أن يكون رجلا اختصه الله بفضله العميم وكتب له الرحمة وبوّأه أرفع المقامات. وهذا الرجل هو أبو لؤلؤة، الذى يسوق صاحبنا ما يزعم أنه برهان قاطع على أنه لم يكن مجوسيا ولا نصرانيا، بل مسلما عميق الإيمان، وأنه حين قتل عمر إنما كان يعمل بوحى من شعور المحبة لعلى وآل البيت، وبتوجيه مباشر من أبى الحسنين علي كرم الله وجهه.
وهذا الرأى الذى يبديه المؤلف فى أبى لؤلؤة هو رأى الشيعة منذ قديم الزمان طبقا لما قال، وليس رأيه وحده. بل هو رأى علىٍّ أيضا حسبما ذكر، إذ كان، كرم الله وجهه، قد هدد عمر بأن أبا لؤلؤة سوف يقتله جزاء وفاقا على ما اجترحتت يداه فى حق الإسلام وآل البيت، مؤكدا أنه سوف يدخل الجنة رغم أنفه. وذكر الكاتب أن السبب المباشر لقتل عمر، رضى الله عنه ولعن قاتله ومن يثنى عليه، هو الحيلولة بينه وبين الدخول بأم كلثوم بنت على وفاطمة رضى الله عنهم جميعا، زاعما فى خبل عقلى ليس له نظير أن عمر، بهذه الطريقة، لم يستطع الاقتراب من بنت الزهراء رغم ما سبق من عَقْده عليها.
ولا تقف اتهامات المؤلف لعمر عند هذا الحد، بل يزعم الكذاب أنه رضى الله عنه لم يُسْلِم اقتناعا بدين الرسول الكريم، بل لما سمعه من أحبار اليهود من أن هناك نبيا كاذبا اسمه محمد سوف يظهر فى بلاد العرب وينتصر على أعدائه، فدخل فى الإسلام طمعا فى أن يتولى ولاية بلد من البلاد حين يتم الانتصار المتوقَّع.
لكن لما طال عليه الأمد وعيل صبره تآمر على الرسول هو وأبو بكر وأمثالهما من المنافقين كعثمان بن عفان وسعد بن أبى وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبى عبيدة بن الجراح ممن اعتنقوا الإسلام لذات السبب لا لإيمان حقيقى به صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله فى عقبة تبوك، ثم بعد ذلك فى عقبة هرشى لَدُنْ سماعهم حديث الغدير، وهو الحديث الذى نَصَّ فيه النبى نَصًّا على أن الخلافة من بعده تنحصر فى علىٍّ وذريته إلى يوم القيامة لا تَعْدوهم، حسب مزاعم الشيعة. ثم أعاد أبو بكر وعمر الكَرّة فى مرض الرسول الأخير حيث سقياه السم هما وابنتاهما زاعمين أنهم كانوا يسقونه دواء "اللُّدّ"، وكان النجاح تلك المرة نصيبهم، فضلا عن قتل عمر لأبى بكر بالسم كى يخلو الجو له حسبما يقول.
ويختم المؤلف كلامه بتعداد ما يحصل عليه من ثواب عظيم زوّارُ قبر أبى لؤلؤة، الذى يصفه بأنه قد صدَّق عمله قوله فاستحق أن يكون من أهل الجنة، إذ تُغْفَر ذنوبهم أيا كان نوعها وحجمها، ويأمنون يوم الفزع الأكبر من كل هول. كما أن الزيارة دليل أكيد على صدق التبرؤ من أعداء الإسلام وكارهى آل البيت.
وهى لهذا تعدل زيارة الأئمة منهم. ويسوق المؤلف حديثا قدسيا مزيفا سخيفا سخافة عقله فى فضل اليوم الذى يزور فيه الشيعة قبر المجرم العاتى، وهو ذاته اليوم الذى يقولون إن مقتل الفاروق على يديه الدنستين قد تم فيه. وهذا نص الحديث المزيف: "آليتُ على نفسى بعزتى وجلالى وعلوّى فى مكانى لأَحْبُوَنّ من تعبَّد فى ذلك اليوم محتسبا ثواب الخافقَيْن ولأُشَفِّعَنّّه فى أقربائه وذوى رحمه ولأزيدنّ ماله إن وسّع على نفسه وعياله فيه".
ويؤكد المؤلف أن أبا لؤلؤة لم يُقْبَض عليه لدى طعنه عمر فى المسجد، بل فر إلى بيت علىّ بن أبى طالب، الذى كان يجلس على دكّة ببابه، فلما رآه أمره أن يدخل البيت ويختفى ممن يتعقبونه، ثم قام ونقل دكّته ومجلسه إلى الناحية الأخرى من الباب تحسُّبًا لما سوف يقع، فسرعان ما جاء المطارِدون يسألونه هل مر به أبو لؤلؤة هاربا، فأقسم لهم إنه لم يمر به أحد وهو فى مجلسه هذا. يقصد: مجلسه الجديد.
وكان صادقا فى قسمه بطبيعة الحال، إذ المقصود أنه لم ير فى مجلسه ذاك أحدا مر به، لأن مرور المجرم القاتل إنما كان وهو فى مجلسه الأول. ثم لما انصرف المطاردون دخل على أبى لؤلؤة وأعطاه فرسا طالبا منه أن يركبها ولا ينزل عنها إلا حين تقف، فلم تقف إلا فى كاشان! وفى حكاية أخرى أن عليًّا حين رآه أخذ يبكى متمنيا لو كانت فاطمة حية حتى تفرح بما حدث. ثم نصحه أن يخرج إلى ظاهر البلد وأن يقرأ الفاتحة سبع مرات، ولسوف يجد نفسه من فوره فى البلد الذى يريد الذهاب إليه. وبهذا استطاع ذلك المجوسى الوصول إلى كاشان والنجاة من أعدائه بمعجزة من على كما تقول الروايات الشيعية، وهناك عاش حتى وافته منيته.
***
هذا باختصار ما كتبه الحاقد المغلق الذهن والقلب والضمير. ولسوف نتناول كل شىء قاله لنرى وجه الحق فيه. ونبدأ بإسلام عمر، الذى ادعى الكذاب أنه إنما أراد من وراء اعتناقه الإسلام أن ينال ولاية يتولاها، لا حَقًّا يصيبه، ولا خيرًا يبغى عمله، ولا حُبًّا لله ورسوله يحرص عليه، ولا جَنّةً يصبو إليها... إلى آخر ما يدخل البشر المخلصون الأديان من أجل تحقيقه. ولقد رُوِيَتْ عن إسلام عمر روايتان تناقضان كل المناقضة ما يزعمه هذا الكذاب. وكلتاهما تصور إسلامه، رضى الله عنه، تصويرا يخلو تماما من محاولة تحسين صورته أو الثناء عليه مما يعضد صدقها، إذ تبديه الصورة شديد اللدد فى خصومته للإسلام وللنبى الذى جاء به إلى آخر دقيقة.
ذلك أنه، حسب تينك الروايتين، لم يكن يفكر بتاتا فى اعتناق الدين الجديد، بل كان ذاهبا لإيقاع الأذى بالنبى الذى أُوحِىَ إليه، إلا أن الأقدار كانت لها كلمة أخرى، فكان اعتناقه للدعوة الجديدة من وحى اللحظة. كما تخلو الروايتان عن ذكر أى يهودى كان يتصل به الفاروق فى مكة، لسبب بسيط جدا، وهو أن مكة لم يكن فيها يهود، كما لم نسمع أن عمر كان يتصل باليهود فى أى مكان وهو لا يزال فى مكة. إنما كان اتصال المسلمين بهم فى المدينة بعد الهجرة إليها، إذ كان اليهود يسكنونها والمناطق التى حولها، فكان بينهم وبين المسلمين اتصالات متنوعة: اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية، فضلا عن المناقشات الدينية كما هو معروف.
وسوف أنقل ما قرأته عن هذا الموضوع فى مرجع شيعى حتى لا يقال إن ما نورده إنما هو كلام أهل السنة المتعصبين لعمر رضى الله عنه. جاء فى السيرة النبوية التى كتبها جعفر السبحانى: "إنّ التاريخ الثابت والمسلّم يشهد بأنّ وجود رجال ذوي بأس وقوة بين صفوف المسلمين مثل حمزة، الذي أصبح في ما بعد من كبار قادة الإسلام، قد كان له أثر كبير في حفظ الإسلام والحفاظ على حياة الرسول صلّى اللّه عليه وآله ودعم جماعة المسلمين وتقوية جناحهم.
فهذا ابن الاثير يقول عن حمزة: لما اسلم حمزة عرفت قريش أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد عزّ وامتنع فكَفُّوا عما كانوا يتناولون منه. من هنا أخذت قريش تفكّرُ في إعداد خطط اخرى لمواجهة قضية الإسلام والمسلمين سنذكرها في المستقبل. هذا، ويرى بعضُ المؤرّخين مثل ابن كثير الشامي على أن رُدود فعل إسلام أبي بكر وعمر وأثرهما لم تكن بأقلّ من تأثير إسلام حمزة، وانّ الدين قوي جانبه باسلام هذين الرجلين، وكسب المسلمون بذلك القوة والحريّة في العمل والتحرك.
والحقيقة انه لا شك في انه لكل فرد تأثيره في تقوية ودعم الإسلام، إلا أنه لا يمكن القولُ بحال بأن تأثير إسلام الشيخين كان يعدل تأثير إسلام حمزة، فإن حمزة ما ان سمع بأن قريشا أساءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الا وتوجه، من دون أن يُعرّج على أحد، إلى المسيء وانتقم منه في الحال أشدّ انتقام، ولم يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه ومنع المسيء منه ومن غضبه وانتقامه، بينما يكتب ابن هشام في سيرته عن أبي بكر امرا يكشف عن أن أبا بكر يوم دخل في صفوف المسلمين لم يكن قادرا على حماية نفسه ولا على الدفاع عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.
واليك نصُّ الواقعة: مرَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ذات يوم على جماعة من قريش وهم جلوس عند الحجر، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم. فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: نعم أنا الذي أقولُ ذلك. فأخذ رجلٌ منهم بمجمع ردائه (وهم يقصدون قتله) فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا يقول ربّي اللّه؟ فانصرفوا عنه (ولم يقتلوه لأمر رأوه)، فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى منزله، ورجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه.
إن هذه الرواية التاريخية اذا دلّت على مشاعر الخليفة تجاه النبيّ صلّى اللّه عليه وآله إلا أنها تدل قبل أي شيء على عجزه وضعفه. إنه يدلُّ على أنه لم يملك ذلك اليوم لا أية مقدرة بدنية وروحية ولا أية مكانة اجتماعية تُرهب. وحيث أنّ إلحاق الأذى بشخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان ينطوي في نظر قريش ذلك على عواقب لا تحمد، لذلك تركوا رسول اللّه ووجّهوا ضربتهم إلى رفيقه وصدعوا فرق رأسه.
ولو أنك قارنت بين هاتين الحادثتين وقايست بين موقف حمزة الشجاع وموقف الخليفة الأوّل هذا لاستطعت أن تقضي بسهولة بأنّ عزة الإسلام وقوة المسلمين وتعزيز موقفهم وخوف الكفار كان يعود إلى إسلام أيّ واحد من ذينك الرجلين. هذا، وستقرأ في القريب العاجل كيفية إسلام عمر. وسترى بأنّ إسلامه، كاسلام صديقه، لم يزد هو الآخر من قدرة المسلمين الدفاعية، وأنهم بالتالي لم يعتزوا باسلامه. فيوم أسلم عمر كاد أن يُقتل لولا العاص بن وائل السهمي لأنه هو الذي خاطب الذين قصدوا قتل عمر قائلا: رجُلٌ اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون منه؟ أترون بني عدِيّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خَلُّوا عن الرجل.
إن هذه العبارة التي قالها العاص لانقاذ الخليفة الثاني من أيدي الذين اجتمعوا على قتله تفيد بوضوح أن الخوف من قبيلة عمر هو الذي كان وراء تركهم إياه وعدم قتله. وقد كان دفاعُ القبائل عن أبنائها سنة فطرية وعادة متعارفة يومذاك، وكان يتساوى فيها الكبير والصغير، والشريف والوضيع.
أجل إن بني هاشم هم كانوا في الواقع الحصن الحقيقي للمسلمين، وقد كان القسط الأكبر من هذا الأمر يتحمله أبو طالب وذووه، وإلا فانّ الاشخاص الآخرين الذين كانوا ينضمُّون إلى صفوف المسلمين لم يكن لديهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم، فكيف بالدفاع عن الإسلام وجماعة المسلمين ليقال أن المسلمين اعتزوا بهم؟