سلام الجليل حرب 1982

اين كانت السعودية بصواريخ رياح الشرق وانها لم تقطع النفط عن الغرب ولاكن احنا دافعناعن لبنان
لااريد ان اكون اسطوانه اكررنفسي واتحدث عن المساعدات السعوديه
اولا من انتم؟ وبماذا دافعت عن لبنان؟
 
لم يعي بنو صهيون الدرس... يظنون لبنان لقمة سائغة...ولكنها الصخرة التي تحطم غرورهم ... رغم المآسي
 
انا سوري وافتخر لان سورية هي الدولة الوحيدة في العالم التي دافعت عن لبنان في البقاع واستشهد الكثيرمن الجنودالسوريين وانتم
لم تفعلو شيء
 
نظرا لان اغلبنا لا يعلم حقيقة تلك الحرب

فانني اضعها بين يديكم تفصيلا كم وردت في موسوعة مقاتل

====

المبحث الأول

الغزو، مقدماته وأبعاده المختلفة

أولاُ : مقدمات الغزو، وحرب يوليه 1981
سُئل مناحم بيجن، بعد فوزه، في انتخابات عام 1981، عند تكليفه تشكيل الحكومة، عن الفترة الزمنية، التي قد يحتاج إليها للتعامل مع قضية الصراع مع لبنان. فرد طالباً طول الأناة، حتى يستطيع أن يَبَرّ ببعض ما قطعه على نفسه في المعركة الانتخابية. وكان بيجن يقصد تصفية الوجود الفلسطيني المسلّح في الجنوب اللبناني.
وتكاد تجمع المصادر الإسرائيلية، على أن فوز حكومة بيجين الثانية بثقة الكنيست، في 5 أغسطس 1981، كان إيذاناً بحرب مقبلة في لبنان. وبدا الإعلان في شأن هذه الحرب، رسمياً، يتوقف على توافر الظروف الملائمة، محلياً وإقليماً ودولياً.
وأخذ العدوان الإسرائيلي يتصاعد بوتيرة متسارعة على قواعد الثورة الفلسطينية ومراكز إدارتها وقيادتها، وعلى خطوط تنقل قواتها، وصولاً إلى الأحياء السكنية التي يوجد فيها مركز قيادة العمل الفلسطيني، السياسي والعسكري. وقد جرى ذلك كله بناء على خطة مُحكمة، وضعتها قيادة أركان الجيش الإسرائيلي، تقضي بتكثيف الضربات المتفرقة على مواقع انتشار القوات العسكرية الفلسطينية، بهدف إضعافها، وصولاً إلى تحطيم ذلك الانتشار وتصفيته في الجنوب اللبناني. وكان رئيس الأركان الإسرائيلي، رفائيل إيتان Raful Eytan ، يشرف على تنفيذ هذه الخطة بنفسه، إضافة إلى قائد المنطقة الشمالية، أفيجدور بن جال، غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث. فعلى الرغم من الجهد العسكري الضخم، الذي وظفته القيادة الإسرائيلية في هذا السبيل، ومن ثم، الأضرار المادية والبشرية الجسيمة، التي لحقت بالقرى والمدن والمنشآت على الأرض اللبنانية، والتي كانت معظمها مدنية، إلاّ أن القوات الفلسطينية صمدت، وردّت على العدوان بعمل عسكري مركز، أحبط الخطة الإسرائيلية العامة، وفرض على حكومة بيجن القبول بوقف القصف المتبادل عبر الحدود اللبنانية.
وبادرت إسرائيل إلى هذه الحرب، في إطار ما يمكن تسميته "خيار بيجن اللبناني"، الذي يأتي، بدوره، في سياق توجُّه الإدارة الأمريكية، برئاسة رونالد ريجان Ronald Wilson Reagan، لإنشاء تشكيل سياسي ـ عسكري في المنطقة، يقوم على أساس "مبدأ كارتر"[1]، الرئيس السابق (Jimmy James Earl) Carter للولايات المتحدة الأمريكية. فإدارة ريجان، منذ توليها السلطة في بداية عام 1981، أعلنت عن عزمها على القيام بمبادرة جديدة، لدفع مسار "التسوية" في الشرق الأوسط، لتحل في خريف ذلك العام، وبعد أن تكون الانتخابات الإسرائيلية قد حُسمت، وظهر الفريق الإسرائيلي الذي سيتولى السلطة.
وفي إطار الإعداد لهذه المبادرة، ووضع خطوطها وإستراتيجية تنفيذها، زار وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج Alexander Meigs Haig، بعض دول المنطقة، في 3 أبريل 1981، وأعلن أن الهدف من زيارته، هو "البحث مع أصدقائنا في السبُل لمواجهة ما يتعرض له السلام من تهديدات، من جانب الاتحاد السوفيتي، والدول التي تخضع لمشيئته، ومن أجل تقدم السلام في الشرق الأوسط". وفي مناسبة زيارة هيج إلى المنطقة، تمّ تفجير الوضع الأمني في زحـلة، وصـولاً إلى "أزمة الصواريخ السورية". ويبدو أن المفتاح الصحـيح لفهْم سليم للأسباب، التي أدّت إلى اندلاع القتال في زحلة، ومن ثم، إلى نشـوب أزمة الصواريخ، كان ينعكس بشكل أساسي على تلك الزيارة وأهدافها، وفي دوافع حكومة بيجن للتأثير في نتائجها، عبر تحرك سـياسي ـ عسكري، من شـأنه، في اعتقادها، أن يوجه قرار هيج في مسار محدد، ويضع، من ثم، تحرك الإدارة الأمريكية المرتقب على مسار يوصل إلى حيث تريد حكومة بيجن في هذه المرحلة.
إذاً، جاء هيج إلى المنطقة للتشاور مع أصدقاء واشنطن المحليين، في إستراتيجية بناء هذا التشكيل السياسي ـ العسكري، الذي كان جوهـره "مبدأ كارتر"، الذي تبنّاه ريجان، على أن يتم تجسيده بوتيرة متسارعة. وينطـلق هذا المبدأ من قاعدة "أمن الخليج أولاً". وعليه، فإن واشنطن كانت تسعى جاهدة، وفي إطار إستراتيجية محددة، إلى بناء محور إستراتيجي في الشرق الأوسط، يقوم أصلاً على الوجود العسكري الأمريكي فيه، وذلك في قواعد ثابتة أو عائمة، وعلى "قوات التدخل السريع" الأمريكية، مع كل ما يتطلبه أداء مهمتها، من تسهيلات في المرافق البحرية والجوية لدى "الدول الصديقة" في المنطقة، وعلى بناء مراكز حشد وتخزين فيها، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من أعمال الصيانة وغيرها. وعليه، فإن الفكرة كانت تنطوي بالأساس على انضمام بعض دول المنطقة إلى هذا المحور المزمع إقامته، على أن تتولى واشنطن مهمة التنسيق فيما بينها، فتصبح جميعاً في حلف سياسي ـ عسكري، بشكل مباشر. ولكن بناء هذا المحور، يصطدم بالحلقة السورية ـ الفلسطينية، التي استعصت على "كامب ديفيد". فجاء هيـج ليبحث في سُبُل كسرها، وتطويع طرفَيها لإملاء المشروع الأمريكي. واقتصرت زيارة هيج على مصر وإسرائيل والأردن والسعودية، محددة بذلك الأطراف التي تعينه في هذه المرحلة، ومستثنية الأطراف الأخرى، التي يستهدفها المحور.
وبرز في كلام هيج، أثناء الزيارة، النهج السياسي، الذي تنوي الإدارة الأمريكية الجديدة انتهاجه، في المنطقة، متذرعة بالخطر السوفيتي على أمن الخليج، ومن ثم، ضرورة مواجهة ذلك الخطر، مع كل ما يترتب على ذلك من استقطاب في المنطقة، وصولاً إلى تأجيج الصراع بين الأطراف المحلية، المنضوية إلى المحور، من جهة، وبين القوى المناوئة له، من جهة أخرى. وقد خص هيج، قبل الزيارة وأثناءها وبعدها، كلاً من منظمة التحرير الفلسطينية وسورية بقسط وافر من الاتهامات والتهديدات، مستغلاً في ذلك تفجير الموقف الأمني في لبنان.
لقد جاء هيج إلى المنطقة، وفي ذهنه تصور لأولويات التحرك الأمريكي المقبل فيها، انطلاقاً من نظرة واشنطن إلى الأمور بشكل عام. وهذا التصور، كما بدا من تصريحات هيج، قد ميّز بين الخطر الرئيسي والخطر الثانوي. فالخطر الرئيسي، في نظره، هو "الخطر السوفيتي" وتأثيره في النفط العربي ومعابره. أما الخطر الثانوي، فهو الخلافات القائمة بين الأطراف المحلية "الصديقة"، حول متطلبات تجسيد المحور السياسي ـ العسكري في المنطقة، وتحديداً حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي، أي تصفية القضية الفلسطينية بشكل أو بآخر. وفي العواصم، التي زارها، استمع هيج إلى أطروحات مختلفة عن أولويات التحرك، وإستراتيجية الوصـول إلى تشكيل المحور. ويبدو أنه اصطدم، في تلك العواصم، بتقديرات مختلفة حول القضايا المطروحة وأسلوب معالجتها. ففي القاهرة، أكد الرئيس السادات لوزير الخارجية هيج، ضرورة استئناف مفاوضات "الحكم الذاتي"، طبقاً لاتفاقيات "كامب ديفيد"، بعد أن وصلت إلى طريق مسدود. وفي إسرائيل، سمع هيج كلاماً من المعارضة الرسمية عن "الخيار الأردني"، والحل الوسط الإقليمي، ومن حكومة بيجن رفضها لذلك الخيار، وإصرارها على التمسك بالضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، وكذلك الجولان. كما أكد الجانب الإسرائيلي في المحادثات أهمية الدور الذي تستطيع الآلة العسكرية الإسرائيلية أن تؤديه، في مواجهة "الخطر السوفيتي"، ومن ثم، ضرورة تزويدها بكل وسائل القوة.
وفي عمّان، سمع هيج كلاماً عن ضرورة انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية، وإيجاد حل ملائم لمسألة الأماكن المقدسة في القدس. أمّا في الرياض، فقد أكدت المملكة العربية السعودية لهيج أهمية إيجاد حل للصراع العربي ـ الإسرائيلي، يحقق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، بما فيها القدس العربية، مع تأكيد الخيار الفلسطيني، ببناء الدولة الفلسطينية على ترابها الوطني.
وهكذا، وجدت حكومة بيجن نفسها أمام خيارات صعبة، تطرحها الأطراف الأخرى، بما فيها الإسرائيلية، وجميعها تطرح ملف الأراضي المحتلة عام 1967، على حل الانسحاب الإسرائيلي، الكلي أو الجزئي، وهو ما لا يريده بيجن. فالمقترحات التي تقدمت بها القاهرة وعمّان والرياض، حتى المعارضة الرسمية الإسرائيلية، تنطلق من ضرورة فتح الملف الفلسطيني على قاعدة "التسوية السلمية"، ومن ثم، ضرورة قبول إسرائيل بانسحاب كلي أو جزئي، من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وإعادتها إلى الجانب العربي، "أردني أو فلسطيني"، وهو ما يرفضه بيجن وحكومته بشكل قاطع. وما دام بيجن يعرف إملاءات المشروع الأمريكي العام في المنطـقة، وهو على علم بمواقف الأطراف الأخرى، فلم يبقَ أمامه إلا "الخيار اللبناني"، أي فتح الملف الفلسطيني، ولكن على قاعدة تصفية "الخـيار الفلسطيني"، وصولاً إلى حصر "الخيار الأردني" في شرقي الأردن فحسب، وقطع الطريق علـى برنامج حزب العـمل، ومن ثم، وضع جميع الأطراف أمام الخيار الوحيد، وهو اسـتئناف المفاوضات في إطار "الحكم الذاتي الفلسطيني"، وفقاً لمفهوم بيجن لاتفاقيات "كامب ديفيد". ولكن ذلك لن يتم من دون شطب منظمة التحرير الفلسطينية من المعادلة السياسية في المنطقة، والذي يستلزم إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، ومن ثم، إلحاق لبنان بركب "كامب ديفيد".
وعلى خلفية نتائج "عملية الليطاني، في مارس 1978، تأكد لمناحم بيجن صعوبة تحقيق "الخيار اللبناني"، كما يريده هو، أي بتصفية "الخيار الفلسطيني"، وإلحاق لبنان بركب "كامب ديفيد"، ما دامت قوات الردع العربيـة موجودة فيه. فلا بدّ من إخراجـها منه أولاً، ولن يتم ذلك إلا بافتعال معركة مع القوات السورية في البقاع. فحدث، من ثم، التفجير في زحلة، الذي تواكب مع زيارة هيج إلى المنطقة. غير أن الرد السوري على التحدي الكتائبي بتشجيع بيجن، جاء عنيفاً، حتى إنه لم يكن في استطاعة ميليشيا "الكتائب" الصمود في وجهه، مما حدا بحكومة بيجن على اتخاذ قرار التدخل العسكري، المباشر في القتال. ويبدو أن التقدير الإسرائيلي، جاء على أرضية القناعة بحتمية إعاقة القوات السورية من متابعة عملها العسكري في مرتفعات صنين، بعد تدخل سلاح الجو الإسرائيلي في القتال الدائر، انطلاقاً من ثقة القيادة الإسرائيلية بفاعلية القوة الرادعة لآلتها العسكرية. وتشير الدلائل إلى أن بيجن، أقدم على اتخاذ قرار التدخل المباشر في القتال، بناء على قراءة لموقف الإدارة الأمريكية من مثل هذه الخطوة، استخلصها من محادثاته مع هيج، أو من التصريحات التي أدلى بها الوزير الأمريكي عن الأزمة اللبنانية، أثناء زيارته إلى إسرائيل. وعلى أي حال، فقد جاء الرد السوري على خطوة بيجن مغايراً تماماً لتوقعاته، إذ عمدت القيادة السورية إلى تصعيد المواجهة، بإدخال بطاريات صواريخ مضادة للطائرات إلى البقاع، فما كان من بيجن إلا أن أصدر أوامره بقصف تلك البطاريات، ولكنه تراجع عن ذلك بذريعة الأحوال الجوية. وتصاعدت نبرة التهديدات الإسرائيلية، ومعها حدّة رد الفعل السوري، وصولاً إلى حافة الانفجار العسكري، مع ما واكب ذلك من تحرك للدولتين العظميين، على الصعيدين، السياسي والعسكري. وبفعل نشاط المبعوث الأمريكي، فيليب حبيب Philip Charles Habib ،ورحلاته المكوكية، تم تجميد "أزمة الصواريخ السورية".
وفي أوج تصعيدها للتوتر في لبنان حول "أزمة الصواريخ السورية"، وبينما كانت تخوض صراعاً حاداً مع الإدارة الأمريكية، حول قضية تزويد المملكة العربية السعودية بطائرات الاستطلاع من نوع "أواكس" Airborne Warning And Control System "AWAC"، وكل ذلك في خضم معركة انتخابية صعبة، تغلَّب فيها القضايا السياسية الخارجية، وتحديداً مسألة "التسوية"، على القضايا الداخلية، من اقتصادية واجتماعية ـ أقدمت حكومة بيجن على قصف المفاعل النووي العراقي. وكان قصف المفاعل في بغداد سابقة أولى من نوعها في العالم، إذ لم يحدث أن أقدمت دولة، من قبلُ، على مهاجمة المنشآت النووية لدولة أخرى. ومع ذلك، خرجت القيادة الإسرائيلية إلى العالم، لتواجه كل نقد لما اقترفته يداها، ولترفض أي إدانة لعملها هذا. وتشير الدلائل إلى تواطؤ الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل في التخطيط لهذه العملية وإعدادها، فضلاً عن تزويدها بالمعلومات ووسائل التدمير من أجهزة ومعدات، وفوق ذلك، قدمت واشنطن دعمها السياسي لإسرائيل على الصعيد الدولي، وحمتها من أي عقوبات تترتب على إدانتها في مجلس الأمن.
ومن الواضح أن حكومة بيجن أرادت بفعلتها تلك، ترسيخ مصداقية قوّتها الرادعة على صعيد الشرق الأوسط. فقد كان من الأهمية بمكان للآلة العسكرية الإسرائيلية إبراز قدرتها على العمل العسكري بعيداً عن حدودها، وذلك لإيصال رسالة واضحة إلى كل من يهمه الأمر، بأنها مستعدة للذهاب إلى أقصى الحدود، غير عابئة بالنتائج المترتبة على عملها، في سبيل الاحتفاظ بتفوّقها العسكري، ومن ثمّ، بمصداقية قدرتها على الردع. وبتدميرها المفاعل النووي العراقي، أرادت إسرائيل أن ترسل إنذاراً إلى جميع دول المنطقة، بأنها قادرة بل مستعدة لضرب منشآتهم النووية، إذا اقتضت مصلحتها ذلك. وهي كأنما أرادت أن تبرهن على عنفها، أو حتى جنونها، في سبيل تثبيت قدرتها الرادعة، وإبراز فاعلية الأسلحة، التي تمتلكها.
وإذا انتقلنا إلى نتائج "حرب تموز الإسرائيلية ـ الفلسطينية"، في يوليه عام 1981، نجد أن هناك شبه إجماع في إسرائيل، على أن القيادة الإسرائيلية فشلت في تحقـيق أهدافها من عملها العسكري ضد الفلسطينيين في لبنان. وبذلك، خرج الفلسطينيون أكثر قوة، كنتيجة مباشرة لتلك المعركة.
وعقب فوزه في الانتخابات العامة للكنيست العاشر، وقبل أن يشكل حكومته الجديدة، بادر بيجن إلى تصعيد عدوانه على المواقع الفلسطينية في لبنان، بحجة حماية أمن المستوطنين اليهود في شمالي فلسطين. وكأن بيجن يعلن أنه بذلك إنما يَبَرّ بوعده، الذي قطعه على نفسه، أثناء المعركة الانتخابية، بألاّ تسقط قذيفة كاتيوشا واحدة على المستوطنات الشمالية بعد الآن، وبذلك، انطلقت "حرب تموز" بمبادرة إسرائيلية، على غرار الخطة التي وضعتها قيادة الأركان الإسرائيلية، والقاضية بتكثيف الضربات وتصعيدها على مواقع الانتشار العسكري للقوات الفلسطينية، وصولاً إلى تدميرها بضربة قاضية، ووفقاً، لإستراتيجية بيجن، في وضع المبادرة الأمريكية المرتقبة، إلى حيث يريدها هو.
وكانت إدارة الرئيس ريجان، قد أعلنت عزمها على دعوة القيادة السياسية في كل من مصر وإسرائيل والأردن والسعودية لزيارة واشنطن، وإجراء محادثات، تنير أمامها الطريق في طرح مبادرتها الجديدة، الرامية إلى بناء تشكيل سياسي ـ عسكري في المنطقة، يكون هدفه الأساسي حماية المصالح الأمريكية في نفط الخليج. وكان ما يشغلُ بيجن من المبادرة تأمين استئثار إسرائيل في هذا التشكيل، بموقع متميز، يتناسب مع وزن إسرائيل العسكري في المنطقة، وضمان استمرار "العلاقة الخاصة" بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثمّ، استمرار الدعم الاقتصادي الأمريكي، من دون تقديم تنازلات في البعد الفلسطيني من الصراع العربي - الإسرائيلي. وكانت سياسة بيجن المعلنة هي ضم المناطـق المحتلة عام 1967، في الوقت المناسب. غير أن انخراط إسرائيل في محور سياسي - عسكري متعدد الأطراف في المنطقة، إلى جانب دول عربية أخرى، يصطدم بعقبة الحضور السياسي والعسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتمثيلها الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن يعمل بيجن على إزالة هذه العقبة، التي تتركز حالياً في لبنان. ومن هنا كان خياره، الرامي إلى طرد قوات الردع العربية من لبنان، وتصفية الوجود الفلسطيني المسلح فيه، ومن ثمّ الانفراد بالحركة الوطنية اللبنانية وتطويعها لإرادة إسرائيل.
وكان لبيجن في خياره اللبناني حساب آخر، يتعلق بمشروعه للحكم الذاتي في المناطق المحتلة عام 1967، الذي يتعارض مع مفهوم مصر، لِمَا تم الاتفاق عليه في "كامب ديفيد". فبيجن يريد ضم هذه المناطق، ومن ثم، فإنه لا يقبل بغير سيادة إسرائيل عليها، انطلاقاً من "حقها التاريخي" فيها. بل لا يريد أن يُعطي لأي طرف عربي موطئ قدم في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال "التسوية"، لأن من شأن ذلك أن يعرقل عملية الضم في المستقبل. وفي المقابل، تعمل إسرائيل على فرض "الحكم الذاتي"، كما تراه من جانب واحـد، وهو جوهر "مشروع شارون"[2]، الذي يسعى إلى تحقيقه منذ توليه وزارة الدفاع الإسرائيلية، ومن ثم، إدارة المناطق المحتلة. ومن المؤكد أن تصفية المنظمة الفلسطينية في لبنان، يمكن أن يسهّل على أرييل شارون Ariel Sharon تنفيذ مشروعه.
وترك بيجن لآلته العسكرية الحبل على الغارب. فراحت هذه، بكل أسلحتها، تصب حمم الموت في أنحاء لبنان، وتزرع الدمار في مدنه وقراه، والخراب في سهوله وجباله، ولمدة أسبوعين كاملين. وتصدت "القوات المشتركة" الفلسطينية واللبنانية، لهذا العدوان، ببسالة، وردّت على القصف البري والبحري والجوي بقصف مضـاد ومركز على المستوطنات اليهودية في شمالي فلسطين المحتلة. وفوجئت القيادة الإسرائيلية بكثافة الرماية المضادة ودقتها، بما لم تعهده سابقاً، ولم تُعد العدة لمواجهته، مما أدى إلى هجرة إسرائيلية واسعة النطاق من الشمال الإسرائيلي إلى الداخل. واضطرت القيادة الإسرائيلية إلى القبول بوقف هذا القصف المتبادل، عبر الحدود اللبنانية، والتزمـت قيادة "القوات المشتركة" بذلك. وقد لخّص أحد المراقبين الإسرائيليين، حاييم تسور، تقييم أوساط إسرائيلية لنتائج ذلك العدوان على لبنان، بالقول: "إن النقطة الأكثر مدعاة للقلق، بالنسبة إلينا، عند تقييم التطورات في لبنان، هي الإحساس بانعدام أي شكل من التخطيط والفكر الاستراتيجيين في إسرائيل، لأن ثمة خللاً في عملية التفكير والقرار السياسي عندنا. والنتيجة أن التطورات، التي كان في الإمكان توقعها سلفاً، جاءتنا مفاجأة، واليوم تجد الحكومة نفسها أسير مبالغات مناحم بيجن اللفظية، من خلال فقدان الكثير من المرونة".
وفي ضوء الفشل الإسرائيلي، تحركت الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن، من أجل إصدار قرار بوقف إطلاق النار. وأوحت أيضاً إلى مبعوثها، فيليب حبيب، بالتحرك من أجل الغاية نفسها. كما تحرك قائد قوات الطوارئ الدولية في لبنان، من أجل الحصول على موافقة الأطراف المعنية لوقف إطـلاق النار، فتم ذلك. وهكذا، فشل مخطط بيجن في تحقيق هدفه السياسي على الصعيد الفلسطيني، الذي استطاع أن يصمد في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
وقد لخص المعلق العسكري لجريدة "يديعوت أحرونوت"، إيتان هابر، على هذا الوضع، بقوله: "لقد اتضح أن المناعة النفسية، لدى جزء كبير من السكان المدنيين في حاجة ملحّة إلى التشجيع وحقن الدم. والخلل القومي في هذا الشأن كبير جداً. وقد اتضح، كما هو الحال دائما، أن الأكثر صراخاً ليس بطلاً، بالضرورة. ومن الصعب العيش في ظل هدير صواريخ الكاتيوشا المخيف والمدمر. ولـكن لا نستطيع أن نعفي أنفسنا من مناقشة كل ما حدث في مدن الشمال، عندما يحين الوقت. والقصص التي تصل من هناك محزنة جداً".
إن فشل بيجن في تحقيق أهدافه من "حرب تموز"[3]، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، لا يعني تراجعه عن سياسته إزاء منظمة التحرير الفلسطينية، أو مشروعه للحكم الذاتي. غير أن النصر، الذي حققته "القوات المشتركة الفلسطينية ـ اللبنانية"، شكل درساً في المواجهة بينها وبين إسرائيل، التي استفادت منه في المواجهة التالية من الصراع.
وعلّق إسحاق رابين على تلك الحرب، في جريدة "يديعوت أحرونوت"، بقوله: "على الرغم من الضربات الشديدة، التي أنزلها سلاح الجو بقيادات لبنان وقواعده، فقد واصل الفلسطينيون قصفهم لمستوطنات الشمال، الذي يشهد، في هذه الأيام، حرب استنزاف، تعطل الحياة العادية في إصبع الجليل والجليل الغربي. والجهود الكبيرة، التي بذلها الجيش الإسرائيلي، لم تُؤد بعد إلى إسكات مصادر النيران بصورة كاملة. وهناك شك في التوصل إلى ذلك، حتى إن استمرت العمليات العسكرية بالأسلوب الحالي. إنها لحرب استنزاف في كل شيء. إضافة إلى ذلك، فكلما استمرت الحرب بهذه الصورة، فإننا نشهد تأزماً متزايداً في العلاقـات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فالوضع على الجبهتين السياسية والعسكرية، لا يمكن أن يستمر الآن على هذا المنوال. إن المسألة الرئيسية، التي يجب على الحكومة أن تجد حلاً لها، هي حرب الاستنزاف، ولا يجوز أن تقع مثل هذه الحرب. ويبدو لي أنه يجب علينا، في المرحلة الحالية، استنفاد جميع الإمكانات للتوصل إلى وقف إطلاق شامل على الجبهة اللبنانية، بالاستعانة بخدمات الولايات المتحدة الأمريكية، ومن دون ذلك، لن يتهيّأ أي احتمال لتسوية المشكلات الداخلية في لبنان. وما دامت مشكلات لبنان هذه قائمة، فستواصل المنظمات الفلسطينية واللبنانية العمل ضد دولة إسرائيل. ومن الجائز جداً ألاّ يصمد وقف القتال طويلاً، وربما يستمر أسابيع أو بضعة أشهر فقط. وإن خرق المنظمات الفلسطينية لوقف إطلاق النار، في مثل هـذه الظروف، سيمكن إسرائيل من القيام بعملية عسكرية أشمل وأكثر فاعلية من العمليات التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في هذه الأيام، وفي مثل هذه الحالة، تتهيأ أيضاً مهلة لإعداد منطقة الشمال بصورة أفضل، ومن أجل استعداد سياسي، يضمن النتائج المرغوبة".
ويتضح من هذا التعليق، أن إسرائيل لا ترغب الدخول في حرب استنزاف طويلة بينها وبين الفلسطينيين، وأن أفضل الحلول المتاحة أمامها، هي تنفيذ عمل عسكري أكثر شمولاً وفاعلية في الجنوب اللبناني، وهذا ما حدث فيما بعد في حرب عام 1982.
ويرى عضو الكنيست الإسرائيلي، يوفال نئمان، أنـه "يجب احتلال جنوبي لبنان. فالحل، في رأيه، يَكْمُن في إبعاد الفلسطينيين إلى خط نهر الزهراني تقريباً. فعندما يصبح الشمال بأسره خارج مدى قذائف الكاتيوشا والمدفعية، سنتمكن من حماية مستوطناتنا في الشمال. ولا أعتقد أن هناك طريقاً آخر أفضل من الاحتلال الفعلي، شريطة أن تتوافر لنا القدرة على الصمود السياسي، بعدم الانسحاب، إذا ما قرر مجلس الأمن ذلك. فإذا كنا غير مستعدين لمواجهة الضغط، فمن غير المجدي تنفيذ العملية".
ثانياً: الأبعاد، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لغزو لبنان، عام 1982
1. الأبعاد السياسية
في الخامس من يونيه 1982، أقدمت إسرائيل على عملية غزو شاملة واسـعة النطاق للبنان، انتهت باحتلال إسرائيل لمعظم الأراضي اللبنانية، بما في ذلك العاصمة بيروت
، وبخروج قوات المقاومة الفلسطينية من لبنان، وتوزعها على البلاد العربية. وتخلل الغزو أبشع مذبحة شهدها التاريخ المعاصر، وهي تلك التي وقعت في مخيمَي "صبرا" و"شاتيلا" الفلسطينيَّين، وراح ضحيتها ما يزيد على ثلاثة آلاف فلسطيني.
ولا شك أن الحرب الفلسطينية ـ الإسرائيلية في لبنان، التي استمرت لمدة سبعة وسبعين يوماً، تُعد نقطة فاصلة في مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، سواء في الآثار التي تركتها في حركة المقاومة الفلسطينية، أو في مواقف الدول العربية كما تبلورت بعد الغزو، أو باعتبارها فاتحة لحقبة جـديدة، أطلق عليها الكثيرون "الحقبة الإسرائيلية" في المنطقة.
أ. أهداف الغزو
لم يكن إقدام إسرائيل على الغزو الشامل للبنان مفاجأة لأحد. فقبل الغزو بفترة طويلة، كانت جميع الأطراف تعلم تماماً، أن إسرائيل ترتب لخطوة عسكرية واسعة النطاق في لبنان. ومع مطلع عام 1982 تقريباً، كانت الخطة التفصيلية للغزو قد وضعت من قِبل أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي، بمشاركة رئيس الأركان ووزير الخارجية الإسرائيليين. وفي الفترة التي سبقت الغزو مباشرة، قام الإعلام الإسرائيلي بحملة واسعة النطاق، وحفلت الصحف الإسرائيلية بعشرات المقالات، التي تتحدث مباشرة عن الغزو القادم. فعلى سبيل المثال، كتب المحلل السياسي، زئيف شيف، في مقال بعنوان: حرب على الأبواب، ما يلي: "إن إسرائيل تتأهب لخوض الحرب في الشمال. المخربون ينتهكون وقف إطلاق النار، على الرغم من أنهم يخشون وقوع عملية عسكرية كبيرة. وإسرائيل من جانبها تقوم، عن قصد، بدفع الأمور حتى تؤدي إلى حدوث صدام. ويجب أن نقول هذه الكلمات بحزم. فليس صحيحاً أننا لا نرغب في غزو لبنان. كما يجب أن نوضح ذلك للأمريكان. وهناك عناصر ذات نفوذ، وعلى رأسها وزير الدفاع، يحبذون شن هذا الغزو، ويتخذون، بدهاء ومكـر، خطوات محسوبة، استعداداً لهذا الوضع، الذي ستضطر فيه إسرائيل، دون خيار، إلى غزو لبنان، حتى لو كان هذا مرتبطاً بالتورط في حرب مع سورية. وما دامت الحرب لم تنشب، فعلينا ألا نتوقف عن ذكر ذلك. فالصمت في هذا الموضوع، هو بمثابة عمل غير وطني".
ويقول إلياهو بن أليسار، في حديثه إلى جريدة "معاريف" الإسرائيلية، في الرابع عشر من مايو 1982، أي قبل عملية الغزو بنحو شهر، موضحاً حقيقة الإجماع في أوساط الحكومة الإسرائيلية على ضرورة شن حرب على لبنان، بهدف تدمير قواعد الفلسطينيين، وخلق حكومة لبنانية قوية، وكيف أن المسألة هي مسألة توقيت فقط،: "يجب أن تكون سياستنا واضحة. وتنفيذ هذه السياسة متروك للمؤسسات المخولة ذلك، مثل الحكومة، واللجنة الوزارية للدفاع، التي تقوم بتحديد التوقيت والحجم المناسبين، بناء على التفكير السليم والحكمة".
وقبيل الغزو، ومع بدايته، كان الهدف الإسرائيلي المعلن هو، كالعادة، "تحقيق الأمن الإسرائيلي". فقد أذاعت إسرائيل، في وقتها، أن الهدف من وراء العمليات العسكرية في لبنان، هو إبعاد التهديد، الذي يمثله الفلسطينيون الموجودون في لبنان، عن مستوطنات الشمال، وإخلاء منطقة بعمق 45 كم، إضافة إلى تحطيم البنية الأساسية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
والحقيقة أن الهدف الإسرائيلي المعلن، لم يكن إلا محاولة لإخفاء عدد من الأهداف والأطماع الأخـرى. ويمكن الإشارة إلى أربعة أهدافٍ مترابطة، قصدت إسرائيل تحقيقها، من وراء هذا الغزو الشامل للبنان.
(1) الأطماع الإسرائيلية في لبنان قديمة ومعروفة، فالخرائط الصهيونية تُدخل لبنان ضمن "حدود إسرائيل المستهدفة". والأطماع الإسرائيلية التاريخية في مياه الليطاني، على وجه الخصوص، أطماع قديمة ومعروفة أيضاً. لذا، يضع القادة الإسرائيليون، منذ فترة طويلة، على قائمة أطماعهم ضرورة احتلال جنوب لبنان، احتلالاً فعلياً ودائماً. ومنذ بداية الغزو لم تُهدر السلطات الإسرائيلية وقتاً، إذ بدأت تتخذ عديداً من الإجراءات الكفيلة بالتمهيد لبقاء احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني، وضمه في النهاية إليها. فإضافة إلى عملية "التطبيع" الواسعة النطاق، بدأ الإسرائيليون عمليات شراء واسعة النطاق للأراضي. وأُطلق العنان لجماعات الاستيطان الإسرائيلية، لتطالب بضرورة أن يعقب احتلال القوات الإسرائيلية للجنوب، برنامج استيطاني مكثف. وبدأ "رجال الدين" في إسرائيل ينقبون في "كتبهم" عن الفقرات، التي تثبت أن الجنوب جزء من "أرض إسرائيل الكبرى". باختصار، كان احتلال جنوب لبنان في مقدمة الأهداف الإسرائيلية من الغزو.
(2) في ما يتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية وقوات المقاومة في لبنان، لم يكن الهدف الإسرائيلي، كما أعلن، إبعادهما فقط عن نطاق التهديد لمستوطنات الشمال، وإنما كان الهدف محاولة الإبادة الكاملة لقوات المنظمة وبُنيتها الأساسية العسكرية، الأمر الذي يقضي عليها نهائياً، كقوة عسكرية مقاتلة. والتصور الإسرائيلي تمثل في أن مثل هذه الإبادة من شأنها، في النهاية، أن تقضي على منظمة التحرير نفسها، ليس فقط كقوة عسكرية، وإنما كقوة سياسية أيضاً.
(3) وفي ما يتعلق بلبنان، كان الهدف الإسرائيلي يتعدى احتلال الجنوب فحسب، إلى التحكم في مجمل التطورات على الساحة اللبنانية بأسرها، مستقبلاً. ففي مرحلة تالية لبداية الغزو، أعلن الإسرائيليون، صراحة، أن القوات الإسرائيلية لن تخرج من لبنان، إلاّ بعد إقامة نظام حكم لبناني موالٍ لإسرائيل، يقبل توقيع "معاهدة سلام" معهم، بالشروط الإسرائيلية، بطبيعة الحال. أي أن يصبح لبنان، في النهاية، جنوباً وشمالاً، "محمية" إسرائيلية.
(4) ثم هدف إسرائيلي أشمل، يكمن خلف الأهداف الثلاثة السابقة، وهو ترتيب الأوضاع في لبنان بالشكل الذي يخدم خطوات التوسع الإسرائيلي في المستقبل.
غزو لبنان، إذاً، جاء خطوة من خطوات التوسع الإسرائيلي في العالم العربي، خطوة مكمّلة لما سبقها من خطوات، وتخدم ما سوف يتلوها من خطوات أيضاً.
ترى إسرائيل أن عملية الغزو قد أدت إلى تحقيق أربعة جوانب أساسية، هي:
(1) أصبحت إسرائيل قوة عسكرية إقليمية عظمى، يُحسب لها ألف حسـاب. ويتباهى الإسرائيليون، في هذا الصدد، بأن الحرب أثبتت قـدرة إسرائيل على فرض ما تريد بقوة السلاح، وقدرتها على تحدي القوى العظمى نفسها. وفي هذا الصدد، يقول الكاتب الإسرائيلي، إسحق دفيتش: "يجب أن نعترف أننا خرجنا من هذه الحملة أكثر ثراء مما كنا عليه. ففي كل المعارك السياسية التي خضناها حتى الآن، أُمليت علينا شروط معينة، وهذا الإملاء كان من جانب الدول الكبرى … سيان من جانب الاتحاد السوفيتي أو من جانب الولايات المتحـدة الأمريكية. كذلك، فإن فرنسا وبريطانيا تسهمان بدورهما، في هذا الصـدد. وهذا الأمر قد وضح بشكل بارز، بعد حملة قادش، وبعد حرب يوم الغفران. وحدث الشـيء نفسه بعد معارك أخرى. وأود أن أقول إن هناك دولاً عظمى تدير سياسات عالمية، ولا يجول بخاطرها أن إسرائيل الصغيرة، سوف تتخذ موقفاً مستقلاً. وكان الخوف، كل الخوف، أن تفرض علينا القوى العظمى أوامرها بالانسحاب والتراجع. والتغيير الكبير الذي طرأ في هذه المعركة، هو أننا لم نَعُدْ صغاراً أمام الكبار. فإسرائيل لن تظهر في الساحة الدولية على أنها دولة صغيرة، تطيع أوامر الكبار. ومن الواضح أن مثل هـذا الموقف لم يكن ليحدث، لولا قوة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقوة الحسم التي أظهرها، تلك القوة التي مكنتنا من اتخاذ هذا الموقف".
(2) يرى الإسرائيليون أن من أهم نتائج الغزو، نجاحهم في تحطيم القوة العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ويرون أن ثمة نتيجتين تترتبان على تحطيم المنظمة، وهما: أن المنظمة، كقوة عسكرية وسياسية، لن تقوم لها قائمة فعلية، بعد ذلك. وأن وضع المنظمة الجديد على هذا النحو، سوف يفقِدها استقلاليتها، ويؤدي إلى تبعيتها للدول العربية.
(3) سوف تؤدي حرب لبنان إلى تسهيل مهمة السلطات الإسرائيلية في خلق "زعامات" فلسطينية موالية في الضفة الغربية. مما سوف يسهل، بشكل عام، مهمة تنفيذ السياسة الإسرائيلية في الضفة وغزة.
(4) سوف يصبح لبنان في وضعه الجديد، المدخل الطبيعي لتوغل إسرائيل وارتباطها بالعالم العربي، خاصة في ظل تطبيع إسرائيلي واسع النطاق مع لبنان، وفي ظل حكومة لبنانية موالية لإسرائيل بشكل من الأشكال، خاصة أن تجربة التطـبيع مع مصر أثبتت عـدم جدواها، من وجهة نظر إسرائيل، إذ كان تطبيعاً من جانب واحد، ولا يتوقع تطوره.
إلى جانب الأهداف السابقة، كان لإسرائيل تطلعات إستراتيجية بعيدة المدى، سعت إلى تحقيقها. إذ كان هناك دوافع، داخلية وخارجية، أسهمت في بلورة القرار الإسرائيلي.
عسكرياً: يسجل الإنفاق العسكري في إسرائيل، إحدى أعلى النسب في العالم. ويحرص المسؤولون على الاحتفاظ بالمؤسسة العسكرية في أرفع مستوى، من التدريب والتجهيز والتسليح واليقظة، وتدرك القيادات الإسرائيلية، بمختلف مواقفها، أن المشروع الصهيوني ما زال في طور التنفيذ. وهو يحتاج، أكثر من أي شيء آخر، إلى قوة ضاربة، تتفوق على كل ما يستطيع الخصم حشده. إن هذا الجيش الذي تنفق إسرائيل عليه عدة مليارات من الدولارات، لا بدّ من استخدامه، لترجمة السياسة إلى حقائق على أرض الواقع.
سياسياً: لم يكن خافياً على صانعي القرار الإسرائيلي، حالة الخلاف والانقسام الخطرة، التي بلغها العالم العربي، ولا أجواء تأييد إدارة ريجان ودعمها لإسرائيل؛ ولا حالة الجمود والتردد، التي كانت تمر بها السياسة السوفيتية تجاه المنطقة؛ ولا الطريق المسدود، الذي وصلت إليه محادثات الحكم الذاتي.
والحقيقة أن الحشود العسكرية الإسرائيلية، بدأت تتجه نحو حدود لبنان الجنوبية، منذ فبراير 1982؛ وأن شارون كان زار لبنان، سراً، في يناير 1982، ليتفحص خطوات الغزو على الطبيعة؛ وأن التحرشات الإسرائيلية، بدأت في شهرَي أبريل ومايو 1982، بقصف المواقع الفلسطينية في الجنوب اللبناني.
ب. الإجماع السياسي في إسرائيل على الغزو
عندما بدأ الغزو، لم يكن ثمة خلاف على الإطلاق بين القوى السياسية الكبرى في إسرائيل، ولا على مستوى الرأي العام الإسرائيلي، حول الأهداف المعلنة للغزو. ولكن بعد فترة من الغزو، بدأت إسرائيل تشهد عدداً من أوجُه المعارضة للغزو على مستويات مختلفة.
وكان أكثر أوجُه المعارضة إثارة للاهتمام، تلك التي بدرت من الجنود والضباط الإسرائيليين، في الوحدات المرابطة في لبنان. وما لفت الأنظار إلى تلك المعارضة، هو أنها المرة الأولى، التي يبدي فيها جنود وضباط إسرائيليون اعتراضاً على مهام قتالية خلال العمليات العسكرية نفسها. وقد اتخذت معارضة الجنود والضباط الإسرائيليين عدة أشكال، منها: " تقديم العرائض المطالبة بالإعفاء من الخدمة، والمطالبة بعودة الجنود من لبنان، وإقالة شارون في بعض الأحيان". ومنها أيضاً تكوين جماعات معارضة ضد الغزو من الجنود والضباط الاحتياطيين، والعائدين من لبنان، مثل "جماعة جنود ضد الصمت" وجماعة "هناك حد".
ومن أبرز مظاهر المعارضة للغزو داخل إسرائيل، خروج التظاهرات، الكبيرة نسبياً، ضده، والتي ضم بعضها ما يقرب من مائة ألف، وهي التظاهرات التي نظمتها، في الأساس، حركة "السلام الآن". وكذلك تلك البيانات التي أصدرتها شخصيات إسرائيلية معروفة، معارضة للغزو ومؤيدة لحقوق الفلسطينيين، سواء في داخل إسرائيل أو خارجها، مثل البيان الذي أصدره الجنرال والكاتب الإسرائيلي المعروف، متيناهو بيليد، بالاشتراك مع عصام سرطاوي، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في أوروبا، وكذلك البيان الذي أصدره ثلاثة من كبار الشخصيات اليهودية، هم فيليب فلوتزتنك، وناحوم جولدمان، ومنديس فرانس.
وعلى الرغم من أوجُه المعارضة الإسرائيلية هذه، إلا أن "الإجماع" على الغزو، بشكل عام، كان إجماعاً عاماً في إسرائيل، الأمر الذي يمكن تبيّنه في الأمور الثلاثة التالية:
(1) كانت معارضة الغزو ـ في إسرائيل ـ محدودة في إطار معين. فهي لم تبدأ إلاّ بعد فترة من بداية الغزو، وبسبب الخسائر الجسيمة، التي تكبدتها القوات الإسرائيلية في لبنان. بمعنى أنها لم تكن معارضة للأهداف السياسية للغزو، بما في ذلك توجيه ضربة قاصمة إلى منظمة التحرير، ثم إن حجمها كان محدوداً، قياساً بمواقف الإسرائيليين ككل.
(2) كانت مواقف المعارضة الكبرى، المؤثرة في إسرائيل، والمتمثلة في "المعراخ"، مؤيدة للغزو، وما خلافات المعراخ مع الحكومة إلا خلافات محدودة، تتعلق بامتداد الغزو إلى ما بعد تحقيق الأهداف المعلنة. فمع بداية الغزو، أعطت المعارضة تأييدها اللامحدود إلى حكومة الليكود في مواقفها من الغزو، الأمر الذي وصل إلى حد سفر زعيم المعارضة، شيمون بيريز، إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، لشرح مواقف الحكومة، وجمع التبرعات لتمويل العمليات العسكرية.
(3) أدى الغزو، في النهاية، إلى ارتفاع شعبية مناحم بيجن، وشعبية حكومة الليكود، بشكل عام، وهذه الحقيقة أثبتتها استطلاعات الرأي، التي أُجريت في إسرائيل. وإذا كانت حركة "السلام الآن" قد استطاعت أن تنظم تظاهرات معارضة للغزو، ضمت مائة ألف، فقد خرجت تظاهرات تأييد لبيجن تفوق هذا العدد.
باختصار، شهدت إسرائيل بأسرها، على مستوى الساسة والرأي العام، باستثناء جماعات معارضة ضعيفة التأثير والفاعلية "إجماعا" شاملاً على الغزو وأهدافه ونتائجه. والسبب في هذا واضح، فقد نجحت الحكومة الإسرائيلية في إقناع الرأي العام الإسرائيلي، بأهمية الغزو وضرورته للأمن الإسرائيلي، "العقدة الأبدية للإسرائيليين.





[1] أ. في أكتوبر 1979، أعلن الرئيس كارتر فكرته حول إنشاء قوات الانتشار السريع، وأنها سوف تستخدم لمواجهة الطوارئ في أركان العالم قاطبة.
ب. في 23 يناير 1980، وفى أعقاب الغزو السوفيتي لأفغانستان، أعلن كارتر مبدأه `باعتبار منطقة الخليج مهمة للمصالح الأمريكية، وأنها تشكل أساساً لمواجهة أي قوة خارجية تحاول التحكم في منطقة الخليج العربي، كما يٌعَدّ أي تهديد للخليج العربي هجوماً على المصالح الأمريكية المهمة، ومن حق الولايات المتحدة الأمريكية استخدام قوّتها العسكرية لمواجهتها`.
ج. في الأول من مارس 1980، أعلن رسمياً إنشاء قوة الانتشار السريع، ويكون ضمن مهامها، تأمين مصادر النفط، وتأمين نظم الحكم في منطقة الخليج.
د. في الأول من يناير 1983، أُنشئت القيادة المركزية الأمريكية للسيطرة على قوات الانتشار السريع، حيث تمتد منطقة عملياتها من جنوبي غربي آسيا حتى أفغانستان
[2] تبنى شارون هذا المشروع، وهو وزير الدفاع. وينقسم المشروع إلى شقَّين: الأول، ضم الضفة الغربية كلها في إطار إسرائيل الكبرى، مع التوسع في بناء المستوطنات في المناطق الإستراتيجية المهمة (غرب نهر الأردن ـ مناطق المرتفعات حول القدس،إلخ)، وتجميع المستوطنات المتقاربة، في مدن إسرائيلية كبيرة. ويمكن، في هذا النطاق، وجود نوع من الحكم الإداري للفلسطينيين، في إطار سيطرة إسرائيلية كاملة على الدفاع والأمن والمياه والاقتصاد. الثاني، وهو شق أمني، بوجود ملموس للقوات الإسرائيلية في النقط الحاكمة في الضفة الغربية، على أن تنظم على خطوط متتالية، وتكثف في المناطق الدينية والسياحية، لتحقيق سيطرة كاملة على الضفة

[3] استمرت حرب تموز (يوليه)، 14 يوماً في الفترة من 10 إلى 24 يوليه 1981. بدأت عندما هاجم الطيران الإسرائيلي مواقع المدفعية وصواريخ `الكاتيوشا`، التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، من صيدا شمالاً وحتى النبطية جنوباً. وفي اليوم التالي، تُبُودلت النيران بين الجيش الإسرائيلي وقوات سعد حداد، من جانب، ورجال المقاومة الفلسطينية، من جانب آخر. وردت الكاتيوشا الفلسطينية، فأصابت 14 إسرائيلياً من سكان `كريات شمونة`. وأدّى ذلك إلى مهاجمة الطيران الإسرائيلي، ولمدة ثلاثة أيام متتالية، بدءاً من 12 يوليه، منطقتَي الدامور والناعمة. وفي اليوم التالي، قصفت المدفعية الفلسطينية مناطق نهاريا وكريات شمونة ومواقع سعد حداد. وقُتل في نهاريا 3 أشخاص وجرح 13 شخصاً. وسقط 20 جريحاً في كريات شمونة وإصبع الجليل. وخلال الفترة من 16 إلى 23 يوليه، شنّت إسرائيل عدة غارات جوية على جسرَي الليطاني والزهراني، وقلعة الشقيف، وهضبة أرنون، والنبطية، ومصب نهر الزهراني. وبالمثل، ردّت الصواريخ الفلسطينية بقصف مستعمرات شمالي إسرائيل، في إصبع الجليل ونهاريا، وقتل 5 مواطنين إسرائيليين وجرح 46 فرداً. وفي 24 يوليه1981 توقف إطلاق النار

[4] تمثل المياه الجوفية 58% من مصادر المياه المتاحة، أمّا مياه الأمطار والأنهار، فلا تتعدى 25%
 
التعديل الأخير:
ج. المواقف العربية من الغزو
اتسم الموقف العربي، منذ بداية الغزو، بقدر كبير من السلبية، إذ إن الحكومات العربية بأسرها، تركت قوات المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية تقاتل وحدها، طوال فترة الغزو. ولم تقدم لها سـوى المساعدات الطبية، وبيانات الإدانة والتنديد بالغزو.
والمواقف العربية ـ على هذا النحو ـ يسهل تفسيرها. فإضافة إلى عجز الدول العربية، عملياً، عن تقديم أي مساعدات عسكرية للمقاومة الفلسطينية ـ اللبنانية، فهناك العامل الأهم، والمتمثل، كما يرى الكثيرون، في رضى الدول العربية عمّا يحدث للمقاومة الفلسطينية، في لبنان. وتفسير ذلك، أن الدول العربية، منذ فترة، وهي راغبة في إنهاء القوة العسكرية لمنظمة التحرير بشكل من الأشـكال، لأن تلك الدول كانت راغبة في تسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والعقبة الأساسـية التي وقفت دوماً دون تحقيق مثل هذه الرغبة العربية، عملياً، هو الوجود الفلسطيني المسلح.
الموقفان، المصري والسوري، ووجهة النظر الإسرائيلية تجاههما
(1) الموقف المصري
كان يحكم الموقف المصري عدة عوامل رئيسية:
العامل الأول: إن معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، قد أبعدت مصر عن مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، نتيجة للقيود التي فرضتها على حركة مصر العسكرية.
العامل الثاني: الظروف التي كانت تمر بها مصر، نتيجة لمقاطعة بعض الدول العربية لها، بعد توقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل.
العامل الثالث: الرؤية المصرية إلى ضرورة إيجاد حل سلمي للمشكلة الفلسطينية، وانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، في الضفة الغربية والجولان.
العامل الرابع: إن الظروف الدولية والإقليمية، غير مواتية لتصعيد العمل العسكري ضد إسرائيل.
وقد علّقت الصحافة الإسرائيلية على الموقف المصري، بالقول: "إن العامل الأساسي، المفسّر لعدم تجاوز مصر، في مواقفها من الغزو، حدود المساعي الدبلوماسية والمساعدات الطبية، هو خشيتها من القوة العسكرية الإسرائيلية الضاربة، ونجاح معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، في تحجيم دور مصر، ووضع قيود على حركتها.
(2) الموقف السوري
أمّا بالنسبة إلى الموقف السوري، فعلى الرغم من أن لدى سورية من القوات ما يمكن أن يحارب ضد إسرائيل، ويوقع بها المزيد من الخسائر، إلاّ أنها حرصت، منذ بداية الغزو، على تجنّب أي شكل من أشكال المواجَهة المباشرة، بين القوات السورية والقوات الإسرائيلية، حتى لا توسع نطاق المواجَهة، ليشمل الجولان، كذلك. وقد تصبح معركة خاسرة بالنسبة إلى سورية، خاصة مع السلبية التي وجدتها في الموقف السوفيتي.
وتفسر إسرائيل الموقف السوري، بالقول: "إن سورية تراهن، منذ البداية، وعلى الرغم من مواقفها المعلنة، على إمكان التوصل إلى شكل من التسوية، ولو الضمنية، مع إسرائيل، حول لبنان، وحول موقف سورية من الصراع العربي ـ الإسرائيلي بشكل عام. ومثل هذه التسوية يقوم على التغاضي عن الوجود الإسرائيلي في جنوبي لبنان، في مقابل احتفاظ سورية بوجودها ونفوذها في شمالي لبنان، في منطقة البقاع".
وعن الموقف السوري، يقول البروفيسور إدوارد لوتواك، الأستاذ اليهودي، في جامعة جورج تاون الأمريكية: "إننا في ذروة مسيرة طويلة الأمد، آخذة فيها مشاكل الأمن الرئيسية لإسرائيل في التضـاؤل. ففي عام 1948، كان لبنان، هو الآخر، يشكل تهديداً حقيقياً لأمن إسرائيل. وفي عام 1967، خرج لبنان من إطار دائرة العـداء. وفي عام 1973، خرج الأردن أيضاً من مثل هذا الإطار. وفي عام 1978، خرجت مصر، كذلك، من هذا الإطار. وخلال هذه الحرب، بقيت سورية، وحدها، هي العدو الرئيسي لإسرائيل. ولكنني أرى أن سورية الآن على بداية طريق الخروج من هذا الإطار، فقد اختارت وقف إطلاق النار، على الرغم من أنها قادرة، من الناحية العسكرية، على الاستمرار في القتال وقتاً أطـول. كما قررت سورية التخلي عن دورها، كمدافع رسمي عن منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك دليل حَسَن على هبوط درجة الحماس، الذي جرّها إلى هذه المواجـهة. كما أنني أرى أن السوريين، سوف يتفرغون لما يدور مع عدوهم الأول، والأكبر، العراق. فإذا انتصرت إيران، حليفة سورية في حرب الخليج، فسوف يتفرغ نظام الرئيس حافظ الأسد، ويوجّه طاقاته إلى التوسع السياسي في العراق. وإذا خلص العراقيون من هذه الحرب، فإن نظام البعث العراقي، سوف يوجّه كل قواه من أجل مواجَهة شرسة أكثر مما كان عليه الأمر في الماضي، ضد دمشق. وفي كل الأحوال، فإن الاهتمام السوري الأكبر، أخذ، الآن، في التحول إلى جبهة العـراق. ولذلك، فإن سورية قد وصلت إلى نتيجة مفادها أن ثمن المواجَهة مع إسرائيل باهظ النفقات، فقد أضعفت الظروف الإستراتيجية الرئيسية الحماس السوري للحرب".
ومن بين الاحتمالات، التي يراها البروفيسور إدوارد: "اتفاق حول مستقبل الجولان، مقابل موافقة إسرائيل على الوضع الحالي للسوريين في شمالي لبنان والبقاع. ومن المحتمل أن يكون هناك اتفاق حول تأجير هضبة الجولان السورية لإسرائيل، ونزع سلاح الهضبة، وإيجاد حكم مشترك (سيادة مشتركة) فيها. وأن مصلحة سورية في الوصول إلى تسوية مع إسرائيل قد ازدادت الآن، لأنها تسعى إلى تحسين علاقتها بالغرب، وإسرائيل هي التي تحول، في الواقع، دون حدوث التقارب بين سورية والغرب. ولذلك، فسورية في حاجة ماسة إلى السلام مع إسرائيل على غرار ما فعلت مصر".
د. الموقف الأمريكي من الغزو
أمّا بالنسبة إلى الموقف الأمريكي، فلم يكن فيه جديد في سياق العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية التقليدية، من زاوية التأييد، والدعم الدائم وغير المشروط للموقف الإسرائيلي. فإضافة إلى عِلم الولايات المتحدة الأمريكية المسبق بخطة الغزو وإقرارها لها، فقد حرصت طوال فترة الغزو على إعلان تأييدها للأهداف الإسرائيلية من الغزو، والعمل على عدم صدور قرارات من مجلس الأمن تدين إسرائيل، أو تطالبها بالانسحاب.
وتفسير الموقف الأمريكي على هذا النحو، هو التفسير التقليدي نفسه لمختلف أوجُه الدعم والتأييد الأمريكية لإسرائيل في سياستها بشكل عام. فإضافة إلى النفوذ الصهيوني التقليدي في الولايات المتحـدة الأمريكية، يبدو أن واشنطن نظرت إلى الخطوة الإسرائيلية في لبنان على أنها فاتحة لعصر من "السيطرة الأمريكية الشاملة" في المنطقة العربية، وبوصفها مؤشراً إلى القدرة الإسرائيلية المتفردة على حماية المصالح الأمريكية في المنطقة العربية، خاصة بعد أن ثبت إخفاق مفهوم "الإجماع الإستراتيجي"، الذي حاولت الإدارة الأمريكية أن تدفع دولاً معينة إلى تبنّيه، والقاضي بتجميع هذه الدول في مواجهة ما أطلق عليه "الخطر السوفيتي".
هـ. موقف الاتحاد السوفيتي من الغزو
تأخر تأييد السوفيت لمنظمة التحرير، إذ لم ينظروا إليها كعنصر مهم في الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وتطور اهتمام الاتحاد السوفيتي بالمنظمة عندما بدأت الدول العربية، في أواخر الستينيات، تلعب بورقة القضية الفلسطينية، ثم ازداد اهتمامه بها، في السبعينيات، عندما أُدخلت كعامل مؤثر في دائرة الصـراع العربي ـ الإسرائيلي، وهو ما حوّل القضية الفلسطينية إلى عنصر مهم في التنافس السوفيتي - الأمريكي في المنطقة. ومن الواضح أن التأييد السوفيتي، كان دائماً، تأييداً تكتيكياً. فقد نظرت موسكو إلى المنظمة على أنها "حركة تحرير" مثل المنظمات الأخرى في العالم. وعلى غرار ما جرى مع حركات التحرير الأخرى، طور الاتحاد السوفيتي علاقته بالمنظمة، مثلما تتطور مراحل أي حل من أجل المستقبل، وحتى يجد له صديقاً جديداً في المنطقة، وورقة أخرى يستخدمها ضد الولايات المتحدة الأمريكية. من أجل هذا الهدف، فإن بيع الاتحاد السوفيتي السلاح لمنظمة التحرير الفلسطينية، لم يمثل مشكلة. فقد كان لدى المنظمة أموالاً طائلة، وتقديم المساعدة والتدريبات العسكرية للمنظمة الفلسطينية، كان يسير بمحاذاة العلاقات السوفيتية بمختلف الحركات. وعلى الرغم من هذا، فإن موسكو لم تكن على استعداد أن تعرّض نفسها لأي نوع من الأخطار، قد يؤدي بها إلى نوع من المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية. لذا، كان هذا هو السبب في عدم تأييد السوفيت لسورية أو تشجيعها على الدخول في حرب شاملة ضد إسرائيل في تلك الأزمة، بل حثّوا الولايات المتحدة الأمريكية إلى ممارسة ضغوط على إسرائيل لوقف المصادمات مع القوات السورية. فواقع الأمر أن التزام القوتين العظميين تجاه أطراف الصراع في الشرق الأوسط، يختلف تماماً عن التزامهما تجاه أي أطراف أخرى للصراع في المناطق الأخرى، كأفريقيا مثلاً. فهذا الالتزام قوي إلى درجة أنه من الممكن أن يدفع بالقوتين إلى صراع أو مواجهة فيما بينهما.
والواقع أن الطابع التكتيكي للعلاقات بين الاتحاد السوفيتي ومنظمة التحرير، حال دون تقديم الدعم اللازم لها في هذه الحرب. ذلك أن التوجه الذي كان سائداً لدى الزعماء السوفيت، منذ وقت طويل، هو تفضيل العلاقات مع الدول على العلاقات بالمنظمات أو الحركات. كما أنهـم فقدوا ثقة ياسر عرفات بالأسلوب السـياسي الذي كانوا قد طرحوه عليه، وقد كان هناك احتمال أن يزداد ثقل رجال جبهة الرفض في منظمة التحرير الفلسطينية، الذين يستخدمون أسلوب الإرهاب الدولي للتعبير عن سخطهم ومطالبهم، وهو الأسلوب الذي لا يوافـق عليه الاتحاد السوفيتي. وكانت النظرة السائدة هي أن السوفيت، سيحاولون أن يبادروا أو يشتركوا على الأقل في إيجاد حل لمشكلة لبنان على حساب الفلسطينيين، وأنهم لن يفعلوا شيئاً تجاه المنظمة أكثر مما فعلوه حتى الآن. ومن ثم، فإن الموقف السـوفيتي تجاه حرب لبنان كان حريصاً على ألاّ يصطدم بالولايات المتحدة الأمريكية وألاّ يتصاعد الموقف بين القوات الإسرائيلية والقوات السورية المتمركزة في لبنان، مما يضع السوفيت في موقف صعب.
و. الموقف الفلسطيني في الضفة الغربية
تعاظم دور العناصر الوطنية وقوّتها واستمرار ارتباطها الفعلي، وعلى أقلّ تقدير، ارتباطها المعنوي بمنظمة التحرير الفلسطينية. وفشلت كل المحاولات الإسرائيلية، في تشكيل إدارة مدنية للأراضي المحتلة، كبديل من المجالس الوطنية، التي كان يتبوأها الوطنيون، الذين عُزلوا بعد قدوم حكومة الليكود.
2. الأبعاد الاقتصادية للغزو الإسرائيلي
يمكن، من خلال رصد معطيات الهيكل الاقتصادي الإسرائيلي، عشية غزو لبنان في يونيه 1982، اكتشاف إلى أي مدى كان قرار الحرب، هذه المرة، يعتمد على حسابات اقتصادية، كمرتكز أساسي في إدارة الصراع. ومن ثم، كان من المهم التعرض لهذه المعطيات، كبعد أساسي في عملية الغزو.
المعطيات الاقتصادية الإسرائيلية
اتسمت الأزمة الاقتصادية في إسرائيل، خلال النصف الثاني من عقد السبعينيات، بسمات خاصة وفريدة من نوعها، تميزها عن غيرها من الأزمات الدورية، التي مر بها الكيان الإسرائيلي (1955/1956 ـ 1965/1966). والحقيقة التي ينبغي الإشارة إليها أن الأزمة التي ظهرت في سياسات "الليكود" من مايو 1977، هي وليدة لعدة أزمات، أوضحها بنحاس سابير، وزير المالية العمالي، حينما قدم ميزانية عام 1974/1975، وربطها بالأزمة العامة التي يمر بها النظام الرأسمالي الدولي، وبأزمة أسعار الطاقة وتقلب أسـعار صرف العملات، وكذا حرب أكتوبر. ومن هنا، فالحديث حول مظاهر الأزمة والتضخم مثلاً، ومن ثم، التركيز على بحث السياسات المتبعة خلال تلك الفترة، يعد جزءاً مهماً.
أ. القطاع الزراعي
لعل الاقتصاد الإسرائيلي هو الاقتصاد الرأسمالي الوحيد ـ على حّد عِلمنا ـ الذي تسيطر فيه الملكية الجماعية والتعاونية (الموشاف ـ الكيبوتزات) على القطاع الزراعي (95%). بينما يسيطر الرأسمال الفردي على القطـاع الصناعي (80%). ومرجع ذلك إلى الطابع الاستيطاني الخاص للدولة العبرية. ففي المراحل الأولى من الاستيطان، ركزت الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية على امتلاك الأرض، لعدة أسباب، بعضها اقتصادي (إعاشة أعداد المهاجرين المتزايدة)، وبعضها الآخر سيكولوجي، يتعلق بالظرف التاريخي الخاص لليهودي. ومثلت الأرض التجسيد الحي للحلم اليهودي الأسطوري لمفهوم "العودة إلى أرض الميعاد"، وتوارى إلى الخلف قليلاً هدف التصنيع اليهودي، الذي حكمته الشروط التاريخية نفسها المحددة للعلاقات بين المراكز الرأسمالية الإمبريالية القديمة وهوامش النظام الرأسمالي. ولذا، ظلت حركة الصناعة اليهودية قاصرة عن تلبية الحاجات الخاصة بالمهاجرين الجدد إلى أرض فلسطين.
وهكذا، جاءت المعطيات الجغرافية لتمثل تحدياً أساسياً وقيداً حقيقياً للحكم الصهيوني، باستيعاب أكبر عدد ممكن من يهود الشتات، "الدياسبورا".
فالأرض، بالنسبة إلى إسرائيل هي التمهيد المناسب لنجاح المشروع الاستثماري الأكبر. وقد تنبهت لذلك الدولة الصهيونية، بعد إعلان قيام إسرائيل في مايو 1948. فأصدرت قانون أملاك الغائب في 31 مارس 1950، ثم قانون تأميم كل مصادر المياه (عام 1959). ووكلت إلى شركة "ميكوروت" الحكومية مهمة السيطرة على مصادر المياه والإشراف على عمليات التوزيع، بالتعاون مع وزير الزراعة والمجلس المائي القومي. وحتى عام 1967، كانت محصلة المصادرة الإسرائيلية للأراضي العربية منذ عام 1948، نحو 1.9 مليون فدان، لم يتعدَ المزروع منها 50% تقريباً، بسـبب ندرة مصـادر المياه، ومحدودية مياه الأمطار[4]. فعلى سبيل المثال، كان لضآلة المياه دور في الأضرار التي لحقت بمحصول القمح في جنوب إسرائيل، عام 1978، إذ لم يتجاوز 175 ألف طن. ولهذا، كثفت إسرائيل من حركة البحث عن مصادر جديدة للمياه، مثل تحلية مياه البحر المتوسط والبحر الميت، باستخدام الطاقة النووية. وبالتوازي، اشتدت قبضة الحكومة الإسرائيلية على المصادر المتاحة ، وأصدرت تعليماتها بالاستيلاء على 7 مشـروعات للمياه، كانت تزود مختلف المزارع العربية بالضفة الغربية بالمياه. ووكلت إلى شركة "مكوروت" مهمة القيام بالتطوير اللازم لتدعيم حركة الاسـتيطان، وهي مشاريع مياه (قباطية/ عرابة ـ بيت أيبا/ نابلس ـ الزاوية/ نابلس ـ أبو عمود/ شـبتين في رام الله ـ بطن الفول في بيت لحم ـ دير شعر/ الخليل ـ السموع / الخليل).
وتقدر كمية المياه المتوافرة في هذه الآبار بنحو 1300 متر مكعب/ساعة، وهو ما يتيح لإسرائيل تدعيم حركة الاستيطان في مدن الضفة الغربية وقراها، واستكمال حلقة الحزام الأمني على الحدود الشمالية والشرقية. كما أن الأزمة لم تقتصر على العملية الإنتاجية الزراعية فحسب، وإنما تعدتها إلى مشكلة تسويق الناتج من بعض الزراعات، وبخاصة الحمضيات. فالمعروف أن السوق المفضلة للمنتجات الإسرائيلية، ظلت، لسنوات طويلة، السوق الأوروبية المشتركة. إلا أن الأزمة التي حلت بمجموعة السوق المشتركة، منذ عام 1974، والتي جاء في صدارتها تخبط السياسات الزراعية في دول المجموعة، والخلافات القائمة حول تسعير الحاصلات الزراعية لدى السوق، قد ألقت بظلالها على علاقة إسرائيل بالسوق الأوروبية. وفي عام 1982 بالتحديد، تعرض موسم قطف الحمضيات لكارثة، بسبب انخفاض الأسعار، مما دفع الكثيرين إلى ترك المحصول على الأشجار، وقدرت الكميات المتروكة بنحو 10 آلاف طن.
وهكذا باتت أزمة القطاع الزراعي الإسرائيلي، تتركز في ندرة المياه للتوسع الأفقي، الضروري لاستمرار معدل استيعاب المهاجرين على مستواه، إلى جانب ضعف القدرة التصديرية للأسواق التقليدية لإسرائيل.
ب. القطاع الصناعي
أدّت الظروف غير المواتية، التي أفرزتها حرب أكتوبر1973، وارتفاع أسعار النفط والطاقة، وتزايد حدّة مشاكل النظم الرأسمالية في أوروبا وأمريكا، إلى إلقاء ظلال كثيفة من الشك على قدرة الاقتصاد الإسرائيلي واستمراره في حالة من الانتعاش. وتأثر، بالطبع، القطاع الصناعي، فانخفض معدل النمو الناتج فيه إلى 4% عام 1974، ثم عاد ليسجل أسوأ مستوى للنمو عام 1975 (2%)، حتى اضـطر حاييم بارليف Haim Bar Lev ، وزير الصناعة والتجارة، وقتئذٍ، إلى أن يصرح لجريدة "معاريف": "بأن إسرائيل قد تضطر إلى إعلان سياسة طوارئ اقتصادية".
كما زاد من حدة الأزمة الاقتصادية، وبخاصة الناتج الصناعي، تولّى كتلة "الليكود" اليمينية السلطة في إسرائيل، في مايو 1977، والتي شرعت في تنفيذ برنامجها الاقتصادي، الذي ركز، بالأساس، على عملية التخصيص النسبي للموارد وعوامل الإنتاج، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم بشكل لم يسبق أن شهده التاريخ الاقتصادي لإسرائيل. وكان لتعاقب ثلاثة وزراء مالية في حكومة "الليكود" دلالة واضحة على مدى عمق الأزمة الاقتصادية والمالية في إسرائيل.
ج. التجارة الخارجية
حاول المسؤولون الإسرائيليون خفض العجز في الميزان التجاري، وتخفيض الواردات من الخارج، وزيادة الصادرات إلى العالم الخارجي، إلا إن معظم هذه المحاولات قد باءت بالفشل. فبينما استهدفت ميزانية عام 1980 زيادة الصادرات بمعدل 8.5%، فإن الممارسة العملية لم تسفر إلا عن زيادة لا تتعدى 3.7%، على الرغم من السياسة التقشفية التي مارستها الحكومة، والتي أدت إلى تقليص حجم الواردات بنسبة 7.5%، إلا أن الفجوة استمرت في التزايد، حتى دنت عام 1981، من 1.8 مليار دولار، بسبب ارتفاع أسعار الواردات، بفعل الموجة التضخمية العالمية.
ومن الواضح أن المساعدات الأمريكية، كان لها دور كبير في تعويض إسرائيل عن العجز في الميزان التجاري. فخلال السنوات الخمس (1977ـ1981)، قدّر المتوسط السنوي للمساعدات الأمريكية (منح ـ قروض ميسرة ـ برامج تدريب ـ مساعدات عسكرية واقتصادية. إلخ)، بنحو ملياري دولار. وبعد غزو لبنان، ارتفع إلى 3مليارات دولار. هذا فضلاً عن تبرعات الجاليات اليهودية في الخارج، والتي تتراوح ما بين 200و220 مليون دولار سنوياً. ومن ثم، يمكننا القول إن جزءاً كبيراً من مستوى الطلب الفعلي والمعيشة في إسرائيل، يتم تحويله من الخارج، وإن حجم هذه المساعدات يمثل 18ـ20% من الناتج القومـي. علاوة على ذلك، فإن المساعدات اليهودية لإسرائيل، في صورة تشجيع حركة السياحة إلى إسرائيل، والتي قفزت عائداتها من أقلّ من 500 مليون دولار، عام 1976، إلى نحو مليار دولار، عام 1981، هذه المساعدات تدهورت بشكل واضح، عام 1982، بنسبة 30ـ40%، وبهذا، تكتمل لدينا صورة التحويلات الخارجية، التي تؤدي دوراً مهماً في دورة التشغيل والدخل في إسرائيل.
د. المديونية الخارجية، وخدمة الدين
مثّل النصف الثاني من عقد السبعينيات نقطة بارزة في تاريخ الأزمات الاقتصادية الدورية، التي شهدها النظام الرأسمالي العالمي. وإذا كانت إحدى ملامح هذه الأزمة، هو تفاقم المديونية الخارجية للدول الرأسمالية المتخلفة تجاه الرأسماليات المتقدمة، بصورة انفجارية، فإن إسرائيل لم تُستَثنَ من هذه القاعدة، إذ ارتفع حجم مديونيتها من10 مليارات دولار، عام 1976، إلى 16 مليار دولار، عام 1979. ثم ما أن حل ربيع عام 1982، حتى كانت مديونيتها قد تجاوزت 18.4مليار دولار.
وقد أقلق هذا الوضع المختل لميزان المدفوعات الإسرائيلي، والمديونية الخارجية، بعض المتخصصين من اليهود في المجال الاقتصادي. وهذا ما دفع البعض منهم، مثل "الساف رازينا" و"دافيد هورفيتز" و"يعقوب لافي"، إلى الإسراع بتقديم المشورة، والدعوة إلى تخفيض معدلات الاستثمار، وخفض معدل نمو الاستهلاك، لتحقيق انخفاض ملموس في عجز ميزان المدفوعات، وتقليص المديونية تجاه العالم الخارجي. ومن ثم، كانت مطالبة بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي للرئيس ريجان بإعفاء إسرائيل من دفع بعض ديونها، خاصة أن خدمة الدين، خلال السنوات الثلاث الماضية، كانت تلتهم جزءاً لا يستهان به من حصيلة صادراتها.
هـ. نفقات عملية الغزو
قدّر بعض الأوساط المسؤولة في إسرائيل النفقات المباشرة لعملية "سلام الجليل" بنحو 1.5 مليار دولار، وذلك خلال الثلاثة أشهر الأولى من المعارك (50 مليون دولار في اليوم الواحد). هذا في الوقت الذي أشار فيه بعض التقديرات، إلى أن نفقات الغزو غير المباشرة، من جراء انخفاض الناتج الصناعي، وتدهور الصادرات إلى العالم الخارجي، وانخفاض الدخل السياحي في موسم الصيف، قدّرت بنحو 1.5 مليار دولار أخرى، كما قُدرت نفقات بقاء الجيش الإسرائيلي في لبنان، خلال الفترة التالية، وحتى انقضاء فصل الشتاء، بنحو مليار دولار. وبهذا، فإن نفقات الغزو المالية، تزيد على 4 مليارات دولار أمريكي.
والتساؤل الآن: إلى أي مدى أثّرت هذه النفقات في الهيكل الاقتصادي الإسرائيلي ؟
أوضح بعض الكتاب الإسرائيليين مدى خطر انخفاض صادرات إسرائيل إلى دول العالم، أثناء الغزو، على الاقتصاد الإسرائيلي. إذ سجلت صادرات يوليه 1982 تراجعاً ملحوظاً، قياساً بيوليه عام 1981 (من 407 مليون دولار إلى 340 مليوناً من الدولارات). وعزا بعضهم ذلك إلى تدهور سمعة إسرائيل على المستوى الدولي، من جـراء القصف الجوي للأهداف المدنية في لبنان. ومن جهة أخرى، عمّقت ظروف الغزو، وتدهور سمعة إسرائيل لدى قطاعات واسعة من الرأي العام الأوروبي، تدهور النشاط السياحي في إسرائيل، فانخفض عدد السائحين في يوليه 1982 إلى 76 ألف سائح (مقابل 96 ألفاً في يوليه 1981)، بنسبة انخفاض 21%.
وعلى المدى القصير، فإن ارتفاع نسبة التضخم، وارتفاع الأسعار، وزيادة الاعتماد على المعونة الأمريكية، وتدهور قيمة العملة الإسرائيلية، "الشيكل" Shekel ، أمام العمـلات الأجنبية (5% تقريباً)، أفقد المتعاملين في أسواق المال الثقة بالعملة الإسرائيلية، مما حدا ببعضهم على المطالبة بإعلان يوم للدولار، لتخفيف الضغوط على "الشيكل"، ومن ثم، خفض معدلات التضخم. كما أدت الحرب إلى ازدياد نسبة البطالة بنحو 3%، إذ قُدّر عدد المتعطلين في إسرائيل بنحو 31.7 ألف مواطن.
و. تمويل عمليات الغزو
من الحقائق، التي تبدو محل اتفاق عام لدى المتخصصين في الشؤون الإسرائيلية، أن معدل ما تنفقه إسرائيل على الجيش والأمن، يُعد من أعلى المعدلات في العالم، بالنسبة إلى الناتج القومي الإجمالي، وإلى حجم السكان (25% في المتوسط سنوياً). بل إن كل مواطن في إسرائيل، يدفع للأمن والدفاع نحو 30 ألف شـيكل سـنوياً (ما يعادل 1083 دولاراً)، طبقاً لتقدير عام 1979. ومن ثم، فإن نفقات الدفاع، تنتزع من كل أسرة نحو خُمس دخلها الشهري. ولكن، إذا أخذنا في الحسبان حجم الدعم الأمريكي المكثف، لأمكن فهْم الطابع الاستمراري لهذا المعدل المرتفع للإنفاق الحربي. فالولايات المتحدة الأمريكية، تقدم سنوياً ما يعادل 750 دولاراً إلى كل إسرائيلي، وكل أسرة في إسرائيل( من 4 إلى 5 أفراد)، وفقاً لذلك، تحصل من أمريكا على 100 ألف شيكل تقريباً.
(1) التمويل من الداخل
باندلاع الحرب على أرض لبنـان، في يونيه 1982، أخذت وزارة المالـية الإسرائيلية في تنفيذ خطة الطوارئ المالية، التي سبق أن عرضها يورام أريدور على الحكومة الإسرائيلية منذ عدة شـهور سابقة للحرب. وبمقتضاها، تم رفع نسبة الضرائب غير المباشرة، ورسوم الإنتاج على العديد من السلع والخدمات معاً، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة تراوح ما بين 12% و15%. وكانت خطة أريدور، في جزء منها، تقضي باقتطاع 5مليارات شيكل (حوالي 190 مليون دولار) لمصلحة وزارة الدفاع الإسرائيلية، مع اللجوء إلى الاقتراض من الجهاز المصرفي (التمويل بالعجز) بمقدار 5.5 مليارات شيكل أخرى. وهو ما حدث بالفعل، عندما بلغت نفقات الحكومة في شهر أغسطس (ذروة المعارك) نحو 6.4 مليارات شيكل. كما أقر الكنيست قانون القروض لتمويل عملية الغزو، على أن يفرض هذا القرض بواقع 2% من الدخل الشهري حتى مبلغ 7500 شيكل، و4% حتى مبلغ 30 ألف شيكل، و5% على ما زاد على ذلك.
كما رفعت السلطات الإسرائيلية الضرائب غير المباشرة، المفروضة على العديد من السلع والخدمات، ولم تقصرها على الإسرائيليين وحدهم، وإنما فرضتها على العرب سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وهكذا، شهدت إسرائيل، خلال يوليه 1982، أعلى نسبة تضخم في تاريخها الاقتصادي.
(2) المساعدات والمعونات الأمريكية
خلال الفترة الممتدة من عام 1948 حتى عام 1981، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية مساعدات، لا تُردّ، إلى إسرائيل بلغت قيمتها 25 مليار دولار (15 ملياراً من الدولارات في صورة مساعدات عسكرية، 10 ملياراً من الدولارات مساعدات اقتصادية). هذا بخلاف التعويضات الألمانية، التي بلغت 20 ملياراً من الدولارات. وخلال أشهر الغزو الثلاثة، لم تتوقف المساعدة الأمريكية لإسرائيل، بل على العكس، فبينما ارتفعت أصوات بعض أعضاء الكونجرس، مطالبين بتخفيض المعونات الممنوحة لمصر في خلال ذلك العام، ازدادت الأصوات المطالبة بزيادة الدعم العسكري والاقتصادي لإسرائيل، ليصل إلى 3 مليارات دولار، خلال ميزانية عام 1983، مقابل مليارين ومئتي مليون دولار عن عام 1982. كما صاحب هذه الدعوة الحديث حول اعتزام إدارة الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، تقديم مشروع قانون بإعفاء إسرائيل من بعض ديونها العسكرية، التي مضى عليها أكثر من ثلاث سنوات، وذلك تحت حجة تشجيع إسرائيل على قبول مبادرة ريجان للتسوية. ولم يقتصر الدعم الأمريكي لإسرائيل على ما سبق، وإنما جاء في صورة دعم تكنولوجي وتطوير فعّال للصناعة الحربية الإسـرائيلية، إذ سمحت الولايات المتحدة الأمريكية للشركات الإسرائيلية بالدخول في مناقصات وعقود التوريد للبنتاجون والمؤسسات الدفاعية الأمريكية، وذلك بهدف حفز الصناعة الحربية الإسرائيلية.
(3) تمويل يهود الشتات، "الدياسبورا"
ظلت إسرائيل، منذ إنشائها، تعتمد بشكل واضح على المساعدات والتبرعات، التي تقدمها الجاليات اليهودية في الخارج. وقد أسهمت الحكومات الغربية في ذلك، بتسهيل عمليات التحويل المالية المطلوبة، من دون فرض قيود أو ضرائب. وكان اعتماد إسرائيل يركن إلى تناسب المتوسط العام لهذه التحويلات بنحو (220 مليون دولار سنوياً)، وهي مساعدات غـير مردودة. ومنذ عام 1967، ازدادت هذه المساعدات، لتستقر عند مستوى 25% من إجمالي التدفقات المالية السنوية إلى إسرائيل، وارتفعت في المقابل، المساعدات الأمريكية إلى 60% من إجمالي انتقال رؤوس الأموال إلى إسرائيل. ومن الواضح أن فترات اشتعال الصراع المسلح، كانت تشهد فترة استثنائية في مساعدات الدياسبورا لإسرائيل، وهذا ما حدث عام 1973، حين ارتفع المبلغ من متوسط 250 مليون دولار في الأعـوام السـابقة إلى 500 مليون ومليوني دولار أثناء حرب "يوم الغفران"، كما وصل أثناء غزو لبنان، عام 1982، إلى حوالي 550 مليوناً من الدولارات. وهو ما يعني أن إسرائيل حققت أكبر مبلغ جمعته في تاريخها من المنظمات اليهودية في الخارج.
ز. الأطماع الإسرائيلية في لبنان
من دراسة قام بها معهد دافيد هوروفيتز، التابع لجامعة تل أبيب، حول تطور الاقتصاد اللبناني، تناول خلالها بالمسح التفصيلي مختلف القطاعات الرئيسية (الزراعة ـ الصناعة ـ الخدمات المالية ـ السياحة)، وكذلك مستويات التركيب الاجتماعي والعرقي، يتبين، من خلال تمحيص التناول الصهيوني لهذه المتغيرات، أبعاد الأطماع الإسرائيلية في لبنان. فالإسرائيليون يهتمون بالفائض المتاح من مياه نهر الليطاني (نحو 400 مليون م3 من المياه سنوياً). كما يتركز اهتمامهم أيضاً على أهمية توسـيع هامش التعاون الزراعي المشترك (على الحدود الشمالية لإسرائيل) مع لبنان، بما يزيد من حجم الصادرات الإسرائيلية، علاوة على كونه إحدى دعامات الأمن والدفاع في مواجهة غارات الفدائيين، كما يوفر شروطاً أفضل، على المدى البعيد، لابتلاع السوق اللبنانية، خاصة أن وجود الضابط اللبناني المنشق، سعد حداد، في الجنوب أو في موقع قيادي بالدولة اللبنانية، سيمثل دعامة أساسية لاستكمال المخطط. أما بالنسبة إلى القطاع الصناعي، فإن الدراسة المشار إليها، أكدت أن البناء الاقتصادي اللبناني، يتجه بشكل مكثف إلى التجارة والخدمات ويخصص اعتمادات محدودة للقطاع الصناعي، ومن هنا يمكن السيطرة على هذا القطاع الهام، ومنع أي اتجاهات لتنميته.
ولذا، ينظر الإسرائيليون إلى السوق اللبنانية من زوايا ثلاث:
· فهي، من جهة أولى، سوق لتصريف الإنتاج الصناعي الإسرائيلي، خاصة أن الصناعات الإسرائيلية كانت تعاني أزمة تصدير.
· وهي من جهة ثانية، منفذ ونقطـة وثوب لتسلل البضائع الإسرائيلية، إلى بقية الأسواق العربية، التي تطبق قوانين مقاطعة إسرائيل. ويقرر يهوشاع تدمور وزير التجارة الإسرائيلي، أن البضائع الإسرائيلية تجد، بواسطة التجار اللبنانيين، طريقها إلى الدول العربية، من دون علامات تجارية.
· ومن جهة ثالـثة، ربط فئات اجتماعية وطنية لبنانية محددة (تجار ـ وكلاء ـ سماسرة ـ مكاتب سياحة...) بمصالح الاقتصاد الإسرائيلي، عبْر عمليات التسويق والتوزيع، وهو ما يسمح بتدعيم مرتكزات ثابتة للاحتلال الإسرائيلي في لبنان. ومما لا شك فيه أن تحقيق ذلك، يمثّل خطوة نحـو تحطيم أسُس المقاطعة العربية، ويمكّن، بالضرورة، من انهيار الخط الدفاعي الأخير، وهو ما يعدّ في المحصلة النهائية تدعيماً طويل الأجل للمشروع الإسرائيلي في المنطقة. أمّا بالنسبة إلى القطاع السياحي والخدمات المالية، فعلى الرغم من تفوق اللبنانيين على اليهود، في هذا المجال، إلاّ أن التطلع الإسرائيلي للتعاون في مجال الصيرفة، يتأتى من كون لبنان هو أحد المستودعات الصغيرة للأرصدة البترودولارية. ومن ثم، كانت المناداة في إسرائيل بضرورة إقامة جسور التعاون مع لبنان، من أجل زيادة قدرة إسرائيل على اختراق الأسواق العربية والاشتراك في مشروعاتها التنموية.
ثالثاً: الأبعاد الاجتماعية للغزو
يتكون المجتمع الإسرائيلي من عناصر شرقية وغربية، إضافة إلى طوائف درزية ومسيحية، فضلاً عن عرب إسرائيل. ولفترة غير قصيرة، احتلت العناصر الغربية "الأشكناز" أعلى الهرم الاجتماعي، تليها العناصر الشرقية اليهودية "السفارديم" كفئة أدنى تعليماً وثقافة ومراكز، ثم تحتل الطوائف الأخرى، من دروز وعرب قاعدة الهرم، كمواطنين من الدرجتين الثالثة والرابعة. ولكن هذا الترتيب خضع لبعض المتغيرات، بعد تولّي "الليكود" الحكم. فقد استطاع بيجن الوصول إلى الحكم، عندما نجح في تحويل أصوات "السـفارديم" من حزب العمل إلى حزب الليكود، حتى أصبح 70% من أصوات بيجن تقريباً من العناصر الشرقية. ويمكن إرجاع هذا التأييد إلى أسباب دينية وتقليدية. فعلى حين تهتم العناصر الغربية بقضايا الديموقراطية والاشتراكية، لا تطالب العناصر الشرقية إلا بقوة الحكومة وقدرتها على إرهاب جيرانها. فهذه العناصر الأخيرة، تتفق مع بيجن في تعريفه "للعدو"، وتؤيده في كل سياساته المتبعة داخلياً وخارجياً، خاصة سياساته إزاء العرب. فالسلام في نظر العناصر الشرقية لا يهم إلاّ إذا قام على سيطرة إسرائيل وهيمنتها على أراضي المنطقة وشعوبها، وهـي، من ثم، لا تبالي كثيراً بأهمية التعايش السلمي، الذي تنادي به العناصر الغربية. لذا، يُعدّ الغزو الإسرائيلي للبنان أحد المحكات الأساسية في تأييد وازدياد أهمية العناصر الشرقية وفاعليتها. ففي حين هاجمت معظم العناصر الغربية الحرب، وصوتت ضد الحكومة في استطلاعات الرأي، نجد أن السفارديم وحدهم هم الذين اهتموا بتأييد الحكومة أثناء الحرب، والأدهى من هذا أنهم أيدوا الأعمال الإسرائيلية في مخيمَي صبرا وشاتيلا، ولم ينتقدوها، على خلاف سائر طوائف المجتمع، بل أوجدوا لها المبررات، وأكدوا استمرار تأييدهم لبيجن مهما حدث في لبنان. وأغلب الظن أنهم وجدوا في هذه الحرب دافعاً أقوى لهذا التأييد.
أمّا عرب إسرائيل، فلم يتوانوا عن إعلان رفضهم وإدانتهم للحرب، منذ بداية اجتياح لبنان، وقتل المدنيين في بيروت ومخيمات اللاجئين، وسفك دماء العزل في صبرا وشاتيلا. فقد خرجت التظاهرات داخل قرى عرب إسرائيل احتجاجاً على الحرب، وعلى المجازر الجماعية. وخلال تلك التظاهرات التي اعتقل أثنائها ما يقرب من 80 شخصاً، رفع المتظاهرون علم فلسطين، وهتفوا مؤيدين لمنظمة التحرير على أساس أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من اختلاف توجهات هذه الجماعات، إلا أن السمة المشتركة التي تجمعها، هي الانتماء إلى الوطن العربي، وآمالها في تحرير فلسطين، وتأييدها لمنظمة التحرير الفلسطينية. ومن الواضح أن هذه العناصر، بدأت تستعيد علاقاتها بسكان الضفة الغربية، وتنظم معهم التظاهرات والإضرابات المشتركة، وتؤيد العناصر الوطنية المعزولة، والمعتقلة من الضفة. هذا، على الرغم من الحصار الذي تضربه الإدارة المدنية حول الأرض المحتلة، لتحول دون هذا الارتباط الذي أخذ في الازدياد، خاصة خلال تلك الفترة.
أمّا الدروز، فكان دورهم يختلف عن موقف عرب إسرائيل اختلافاً جذرياً، ذلك أنّ الدروز الإسرائيليين لم يحركوا ساكناً إزاء ما يجري، من تشريد وتعذيب وقتل لدروز لبنان في جبل الشوف. وقد انحصرت اهتماماتهم في تحسين أوضاعهم داخل إسرائيل، وبينما يتمثل مطلبهم الرئيسي في إعفائهم من أداء الخدمة العسكرية الإجبارية، التي يخضعون لأدائها دون باقي العرب المقيمين في إسرائيل. وعلى ذلك فالدروز، الإسرائيليون مسـتعدون لتأييد أي حاكم يحسّن أوضاعهم، ويستطيع انتزاع مكاسب جديدة لهم، خاصة أنهم يتمتعون بحق التصويت في الكنيست الإسرائيلي، مما يجعل عقد صفقة بينهم وبين الحكومة أمراً مفيداً لكلا الطرفين.
مما سبق ومن خلال رصد البناء الاجتماعي الإسرائيلي وتطوره، في ما يختص بعملية غزو لبنان، يتضح ما يلي:
1. وجود قاعدة معارضة للحرب من العناصر الغربية، التي تدين سياسات الحكومة وتَصِمُها بالفاشية، لاعتمادها على الغوغائيين " Demagogic" من السفارديم. وهذه المعارضة، لا تأخذ دائماً أشكالاً إيجابية، وإنما قد تقتصر على الشعور بالإحباط، واللجوء إلى العزلة.
2. ارتفاع أسهم العناصر الشرقية، بشكل لم يسبق له مثيل، منذ هجرتهم إثر إعلان قيام دولة إسرائيل، وازدياد قوتهم، ومن ثمّ، قدرتهم على التأثير في منظومة القِيم السياسية والاجتماعية، السائدة في المجتمع.
3. ازدياد نشاط الحركات الثورية (الراديكالية) في أوساط عرب إسرائيل، مع أهمية الإشارة إلى تنوع اتجاهاتها ما بين اليسار والإسلاميين، وتدعيم علاقاتها بسكان الضفة الغربية.
4. موقف الدروز، الذين يسعون إلى تحسين أوضاعهم، ويضعون مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية فوق كل اعتبار.





[1] أ. في أكتوبر 1979، أعلن الرئيس كارتر فكرته حول إنشاء قوات الانتشار السريع، وأنها سوف تستخدم لمواجهة الطوارئ في أركان العالم قاطبة.
ب. في 23 يناير 1980، وفى أعقاب الغزو السوفيتي لأفغانستان، أعلن كارتر مبدأه `باعتبار منطقة الخليج مهمة للمصالح الأمريكية، وأنها تشكل أساساً لمواجهة أي قوة خارجية تحاول التحكم في منطقة الخليج العربي، كما يٌعَدّ أي تهديد للخليج العربي هجوماً على المصالح الأمريكية المهمة، ومن حق الولايات المتحدة الأمريكية استخدام قوّتها العسكرية لمواجهتها`.
ج. في الأول من مارس 1980، أعلن رسمياً إنشاء قوة الانتشار السريع، ويكون ضمن مهامها، تأمين مصادر النفط، وتأمين نظم الحكم في منطقة الخليج.
د. في الأول من يناير 1983، أُنشئت القيادة المركزية الأمريكية للسيطرة على قوات الانتشار السريع، حيث تمتد منطقة عملياتها من جنوبي غربي آسيا حتى أفغانستان

[2] تبنى شارون هذا المشروع، وهو وزير الدفاع. وينقسم المشروع إلى شقَّين: الأول، ضم الضفة الغربية كلها في إطار إسرائيل الكبرى، مع التوسع في بناء المستوطنات في المناطق الإستراتيجية المهمة (غرب نهر الأردن ـ مناطق المرتفعات حول القدس،إلخ)، وتجميع المستوطنات المتقاربة، في مدن إسرائيلية كبيرة. ويمكن، في هذا النطاق، وجود نوع من الحكم الإداري للفلسطينيين، في إطار سيطرة إسرائيلية كاملة على الدفاع والأمن والمياه والاقتصاد. الثاني، وهو شق أمني، بوجود ملموس للقوات الإسرائيلية في النقط الحاكمة في الضفة الغربية، على أن تنظم على خطوط متتالية، وتكثف في المناطق الدينية والسياحية، لتحقيق سيطرة كاملة على الضفة

[3] استمرت حرب تموز (يوليه)، 14 يوماً في الفترة من 10 إلى 24 يوليه 1981. بدأت عندما هاجم الطيران الإسرائيلي مواقع المدفعية وصواريخ `الكاتيوشا`، التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، من صيدا شمالاً وحتى النبطية جنوباً. وفي اليوم التالي، تُبُودلت النيران بين الجيش الإسرائيلي وقوات سعد حداد، من جانب، ورجال المقاومة الفلسطينية، من جانب آخر. وردت الكاتيوشا الفلسطينية، فأصابت 14 إسرائيلياً من سكان `كريات شمونة`. وأدّى ذلك إلى مهاجمة الطيران الإسرائيلي، ولمدة ثلاثة أيام متتالية، بدءاً من 12 يوليه، منطقتَي الدامور والناعمة. وفي اليوم التالي، قصفت المدفعية الفلسطينية مناطق نهاريا وكريات شمونة ومواقع سعد حداد. وقُتل في نهاريا 3 أشخاص وجرح 13 شخصاً. وسقط 20 جريحاً في كريات شمونة وإصبع الجليل. وخلال الفترة من 16 إلى 23 يوليه، شنّت إسرائيل عدة غارات جوية على جسرَي الليطاني والزهراني، وقلعة الشقيف، وهضبة أرنون، والنبطية، ومصب نهر الزهراني. وبالمثل، ردّت الصواريخ الفلسطينية بقصف مستعمرات شمالي إسرائيل، في إصبع الجليل ونهاريا، وقتل 5 مواطنين إسرائيليين وجرح 46 فرداً. وفي 24 يوليه1981 توقف إطلاق النار

[4] تمثل المياه الجوفية 58% من مصادر المياه المتاحة، أمّا مياه الأمطار والأنهار، فلا تتعدى 25%
 
التعديل الأخير:
المبحث الثاني


الخطوات الأخيرة، وتخطيط الحرب

أولاً: خلفية الأزمة
في عام 1979، أعلن عيزرا وايزمان Ezar Weizman ، وزير الدفاع الإسرائيلي، آنذاك، سياسة جديدة لإسرائيل في لبنان، أسماها "الهجوم الوقائي". فباتت إسرائيل لا تنتظر عملاً فلسطينياً، تبرر به هجماتها، بل أصبحت الحكـومة الإسرائيلية تؤكد حقها في شن الغارات، وقتما تشاء. وفي بداية عام 1981، قدمت الحكومة الإسرائيلية إحصاءات، من شأنها تأكيد أن سياسة "الهجوم الوقائي" قد نجحت. واستناداً إلى هذه الإحصائيات، فإن 7, 7% فقط من جميع "الحوادث الإرهابية" في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، كان مصدرها لبنان، بينما انطلق 92% من هذه الحوادث، طبقاً للبيانات الإسرائيلية، من الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومع حلول ربيع 1981، كانت لهجة المسؤولين الإسرائيليين أكثر شراسة من قبل. فلقد أعلن يعقوب إيفن، الناطق باسم الجيش الإسرائيلي: "نحن الآن في طور الهجوم، إننا نتغلغل داخل الحدود المزعومة لدولة لبنان، ونطاردهم (أي الفلسطينيين) في كل مكان يختبئون فيه".
وكان النقاش في ما يختص بالتحركات العسكرية الكبرى في لبنان، مدار بحث علني في الصحافة الإسرائيلية. كما كانت المناظرة في شأن رد فعل الولايات المتحدة الأمريكية المحتمل تجاه عملية الاجتياح، محل النقاش. ويقول زئيف شيف، المحلل العسكري لصحيفة هاآرتس: "كان للتدخل الإسرائيلي في لبنان هدفان: ليس إلحاق الضرر بالقوات السورية فحسب، بل القضاء على بنْية المنظمة التحتية في لبنان، خصوصاً في جميع المناطق الواقعة جنوبي بيروت. إن نجاح مثل هذه العملية قد يسدد ضربة قاتلة لمنظمة التحرير. وفوق هذا وذاك، فمن المرجح أن تتفهم إدارة ريجان سياسة إسرائيل في هذا المضمار. إن واشنطن تسعى إلى ردع أي حليف للسوفيت، فلماذا تعترض، إذاً، على إلحاق الضـرر بأكثر حلفاء موسكو أهمية، أي سورية والمنظمة؟". ويستطرد زئيف شيف قائلاً: "إن إدارة الرئيس ريجان لن تعترض على أي ضرر يلحق بدمشق والمنظمة. ولكنها ليست مهتمة، في الوقت الحاضر، بالتركيز على حرب، ليست مستعدة لها على الإطلاق. إن الأمريكيين لم يعززوا مكانتهم حتى الآن بما فيه الكفاية، للرد على مثل هذا التحدي، خصوصاً إذا قرر السوفيت، مثلاً، أن يمنحوا دمشق مساعدات هائلة، في حالة نشوب حرب. إن اندلاع الحرب من شـأنه أن يعرقل خطوات أمريكا نحو إنشاء حلف معادٍ للسوفيت في المنطقة. لذا، فمن الخطأ الاعتقاد أن إدارة ريجان، ستساند مثل هذه الخطوة الإسرائيلية في الوقت الحاضر".
ومن الواضح أن هناك تغيراً قد حدث في السياسة الأمريكية، بعد تولّي ألكسندر هيج الخارجية الأمريكية. ففي خلال زيارته إلى القدس، في أبريل عام 1981، وبعد اجتماعه مع رئيس الوزراء، بيجن، قال هيج للصحفيين: "إن الاجتماعيْن، اللذيْن عقدهما مع بيجن، أسفرا عن تطابق في وجهتي نظـر الجانبين، بالنسـبة إلى الخطر السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط. وإن هذا يشمل التهديدات العسكرية التقليدية، الصادرة عن دول عظـمى غير صديقة. ويشمل تقويم الأعمال التي يقوم بها الوكلاء، وعدداً من القضايا المهمة في شأن موضوع الإرهاب الدولي عامة".
كما أعلن بيجن، في خطابه أمام الكنيست، عقب زيارة هيج إلى إسرائيل، أن هناك نقاط وفاق عديدة بين حكومة إسرائيل والإدارة الأمريكية، تتمثل في الآتي:
1. الدولتان حليفتان، وهناك آراء متفقة بينهما على الموقف تجاه المنظمات الإرهابية. وإن هناك معارضة شديدة لهذه المنظمات الدموية.
2. موقفهما المتطابق من الدور السوري في لبنان، وأنّ سورية لم تعد قوة ردع لتثبيت السلام، ولا هي جيش يجلب الاستقرار[1].
3. معارضتهما لتوسيع السوفيت نشاطهم في أجزاء عديدة من العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط.
ويبدو أن نقاط الاتفاق هذه، كانت ضوءاً أخضر للعمليات الإسرائيلية في لبنان. فقد كتب ديفيد شيبلر، مراسل صحيفة نيويورك تايمز، في القدس، ما يلي: "يبدو أن التغيير الأساسي في موقف الولايات المتحدة الأمريكية من العمل العسكري الإسرائيلي في لبنان، قد منح مرونة جديدة لجيش إسرائيل في الهجمات على مواقع الفدائيين الفلسطينيين في الأراضي اللبنانية".
تلك هي العلاقة بين أمريكا وإسرائيل حيال الأزمة اللبنانية، والتي سادت في الأسابيع التي سبقت القصف الإسرائيلي الكثيف لبيروت، في يوليه 1981. و كان رد الفعل الأمريكي، في جوهره، مسانداً تماماً لإسرائيل، في وجه موجة الغضب التي عمت الأوساط الدولية. كما أسهمت واشنطن في صياغة قرار وقف إطلاق النار، الذي ظل صامداً أحد عشر شهراً، حتى الاجتياح. كما فرضت حظراً مؤقتاً على بعض الشحنات العسكرية. ولم يبدُ قط أن حكومة بيجن انزعجت من هذا القرار، بل إن أحد المسؤولين الإسرائيليين. بادر إلى القول: "نحن نعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية، لا تبيعنا الطائرات للاستعمال في عرض عيد الاستقلال فقط. إنها تبيعها إلينا بسبب المصالح الإسـتراتيجية المشتركة بين بلدينا. وفي اعتقادي، أن الطائرات سيتم تسليمها". في حين لم تنزعج حكومة إسرائيل قط للتأخر المؤقت في تسليم الطائرات الأمريكية. ولكنها كانت ساخطة على صفقة طائرات "الأواكس" للمملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها حكومة إسرائيل وأنصارها، من أجل إحباط هذه الصفقة، إلاّ أن الكونجرس صادق عليها. وأصبحت إسرائيل في غاية القلق، بسبب تطور العلاقات العسكرية الأمريكية بعدد من الأنظمة العربيـة، لأن هذه الدول أصبحت، طبقاً للزعم الإسرائيلي، أكثر قوة، من الناحية العسكرية، نتيجة لهذه الترتيبات.
وبذلت الإدارة الأمريكية جهوداً حثيثة، لكن بلا جدوى، لطمأنة حكومة بيجن، وأنصارها في أمريكا، بالتنسيق مع اللجنة الأمريكية ـ الإسرائيلية للشؤون العامة. فزعمت أن "الأواكس"، لن تعزز موقف السعودية العسكري تجاه إسرائيل. وكان ينبغي لإسرائيل أن تجد في ذلك مصدراً للاطمئنان، غير أن بيجن لم يجد فيه أي اطمئنان، لأن مشروع الإدارة الأمريكية، كان يقتضي جهوداً واسعة النطاق، على مستوى "اللوبي"، بذلها السعوديون والشركات الأمريكية الكبرى، التي لها مصالح في هذه الصفقة، بما فيها تلك الشركات التي لها مصالح تجـارية في الشرق الأوسط، أو في صناعة الأسلحة. وعلى هذا، بقيت إسرائيل حليفاً قلقاً، تنتابه نوبات طارئة من جنـون الارتياب، خوفاً من أن تلجأ إدارة ريجان، في سعيها لكسب ود حلفائها العرب، إلى الضغط على إسرائيل، كي تعتدل في صراعها مع العرب.
ولعل هذا الخوف هو أحد الأسباب، التي حدت بالمسؤولين الإسرائيليين على تركيز الاهتمام الجدي في تهيئة الرأي العام الأمريكي للاجتياح القادم. ففي فبراير 1982، أبلغ السفير الإسرائيلي الجديد لدى الولايات المتحدة الأمريكية، موشي أرينز Moshe Arens ، الصحافة بأن الاجتياح الإسرائيلي للبنان، هو "مجرد مسألة وقت". وكانت الحجة التي تذرع بها، أن إسرائيل قد أصبحت "في مرمى مدافع المنظمة" من الشمال، وأنها تواجه احتمال فقدان "تفوّقها النوعي"العسكري"، لأن الولايات المتحدة تمدّ بعض الأنظمة العربية بأسلحة متطورة. ولذا، فقد تضطر إسرائيل إلى اللجوء إلى عمل عسكري وقائي.
كما أمدّ رئيس الاستخبارات العسكرية في إسرائيل، يهو شواعي ساغي، الصحافة الإسرائيلية بقدر وافرٍ من المعلومات، التي يراد بها الإعلان أن منظمة التحرير الفلسطينية، تتلقى إمدادات كبيرة وجديدة من الأسلحة السوفيتية. وعلى الرغم من أن الخارجية الأمريكية تلقت هذه المزاعم بحذر، وقللت من شأنها، إلاّ أن وزير الخارجية، هيج، أعارها أذناً صاغية، بل صرّح بأن الولايات المتحدة الأمريكية، تملك تقارير تفيد أن القوات الفلسطينية في الجنوب اللبناني، تتلقى صواريخ ومدفعية سوفيتية. وهذا تطور قد يعرض للخطر جهود الولايات المتحدة الأمريكية، الرامية إلى منع اندلاع قتال جديد في تلك المنطقة المضطربة. وأوضح هيج أن الولايات المتحدة الأمريكية، تنظر باهتمام إلى "شحنات الأسلحة" هذه، وترى أنها تمثل "خطراً محتملاً" على وقف إطلاق النار.
وخلال ربيع 1982، نشرت جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية العديد من التقارير الصريحة، التي أكدت احتمال حدوث اجتياح إسرائيلي كبير للبنان. وبينما كان احتمال شن إسرائيل عدواناً كبيراً، يلقى تغطية صحفية واسعة، في داخل إسرائيل وخارجها، لم يصدر عن الصحف الأمريكية، مثل "نيويورك تايمز" و"الواشنطن بوست" و"لوس أنجلوس تايمز"، أي احتجاج على هذا الاجتيـاح، الذي قُرعت له الطـبول. ولا نجد أي نداء لكي تعمل واشنطن على منـعه. بل كان هناك غياب بارز لأي تقارير صحفية في ما يتعلق بالحقيقة، العسكرية والسياسية، لأهداف هذا الاجتياح المحتملة. وقد نشرت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، في شـهر فبراير 1982، ست فقرات، تصف شعور الناس في مدينة صور تجاه الاجتياح المرتقب، وكان ذلك الخبر فريداً من نوعه.
وجاءت زيارة الجنرال شارون إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في نوفمبر 1981، قبل الهجوم بفترة، من أجل تبرير نوايا إسرائيل وأهدافها، بعد الاجتياح. وقد حرص على الاجتماع بالصحفيين، وأكّد أن الاجتياح القادم، عمل مشروع للدفاع عن النفس، إزاء الخطر الأحمر في الشمال. وخص شارون مراسلي صحيفة "وول ستريت جورنال" ورؤساء تحريرها، بلقاء صحفي، استمر ساعتين ونصف الساعة، استخدم خلاله الخرائط والبيانات الإيضاحية، لشرح أوجُه الخطر السوفيتي. وأوضح أن "الإرهاب الفلسطيني، كان ولا يزال من أهم الوسائل، التي يستخدمها السوفييت لخلق الظروف الملائمة لتوسيع نفوذهم في الشرق الأوسط".
وقد أثمرت جهود شارون. إذ صدر مقال افتتاحي في صحيفة "وول ستريت جورنال"، قبل الاجتياح بثلاثة أيام، كاد يبلغ حد تشجيع إسرائيل علناً على القيام بالاجتياح. فبعد أن أعلمت الصحيفة قراءها، أن "للحلف القائم بين سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، شريكاً أكبر، وهو الاتحاد السوفيتي"، مضى المقال يقول: "إن المسألة الأكثر إلحـاحاً في الشرق الأوسط الآن، هي الطريقة التي ينبغي أن يُعالج بها الموقف السوفيتي ـ السوري ـ الفلسطيني، المركز فـي لبنان، والخطر الذي يمثله بالنسبة إلى السلام. وفي السعي إلى حل هذه المعضـلة، من الملائـم أن يستمع صانعو السياسة الأمريكية والأوروبية، باهتمام أكبر، إلى آراء الإسرائيليين، الذين لهم بعض الخبرة بموضوع البقاء على قيد الحياة في الشرق الأوسط".
ثانياً: الخطوات الأخيرة قُبَيْل الاجتياح
وخلال الأشهر التي سبقت الاجتياح، كانت إدارة الرئيس الأمريكي ريجان، تعي تماماً الاندفاع الإسرائيلي نحو الهجوم. ولا يمكن تفسير حصيلة الأعمال التي قامت بها الإدارة، خلال تلك الفترة، إلاّ وصفها بأنها منحت إسرائيل موافقة إستراتيجية على الهجوم، بينما عمدت، من وقت إلى آخر، إلى كبح جماحها تكتيكياً.
ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية، رفضت اتخاذ أي إجراء لكبح جماح إسرائيل. ففي فبراير 1982، وحين بدا كأن العملية العسكرية الكبرى توشك أن تبدأ، قدمت هيئة رؤساء الأركان المشتركة Joint Chiefs of Staff ، خطة طارئة إلى فريق طوارئ خاص بلبنان، يرأسه نائب وزير الخارجية، وولتر ستوسِلْ. وقد رفضت الخطة أن يكون لإسرائيل اهتمام "دفاعي مشروع"، يمتد إلى الأراضي اللبنانية، كما توقعت أن يؤدي العمل العسكري الإسرائيلي في لبنان إلى التعرض لسورية، مما قد يُشعل حرباً شاملة، تؤدي إلى خطوات معادية لأمريكا، تتخذها دول عربية غاضبة.
وقد اقترحت تلك الخطة الطارئة تقديم مبادرة أمريكية ـ سوفيتية مشتركة تجاه لبنان. والأمر الأكثر غرابة، هو أن الخطة توحي بأن الولايات المتحدة الأمريكية، قـد تتورط في قتال جوي إلى جانب إسرائيل، في أثناء محاولتها تأمين غطاء جوي فوق لبنان "في جو معادٍ"، كجزء من محاولة لإجلاء الرعايا الأمريكيين عن ساحة القتال. والشيء المثير للاهتمام في هذه الخطة، هو أنها "رُفضت رفضاً قاطعاً". وقد أعلن بعض المسؤولين الأمريكيين ـ الخائفين من نتائج الاجتياح ـ لمجلة "ميدل إيست بوليسي سيرفي"، أن الخطة رفضت كلياً.
واتخذت الولايات المتحدة الأمريكية عدة خطوات، للتخفيف من الضرر، الذي قد يلحقه الاجتياح الإسرائيلي الوشيك بعلاقات الولايات المتحدة الأمريكية بالدول العربية. كما سربت الإدارة إلى الصحافة بعض التقارير، التي تفيد أنها هددت، سراً، بالانتقام في حال حدوث اجتياح، وذلك من طريق تقليص تدفق المساعدات إلى إسرائيل. كما أنها سـربت أخباراً مفادها، أن الإدارة طلبت أن تبلَّغ مسبقاً بموعد الاجتياح.
وخلال شهرَي فبراير ومارس، بدا كأنه قد برز تعارض داخل الحكومة الإسرائيلية، بين القوى المؤيدة لشارون، الذي كان يرغب في شن الهجوم العسكري الكبير على لبنان، قبل الموعد المحدد لانسحاب إسرائيل من الأجزاء الباقية من سيناء، في 25 أبريل 1982، وبين الذين كانوا، على ما يبدو، أكثر حذراً، مثل بيجن. وكان دافع شارون إلى شن الهجوم قبل 25 أبريل، هو إعاقة الانسحاب من سيناء. وكان من شأن مثل هذا الاجتياح، أن يشكل ضغطاً لا يُحتمل على مصر، للرد بصورة معادية، وهذا ما كان يأمله المسؤولون الإسرائيليون، وتخشاه الإدارة الأمريكية، فيعطي إسرائيل الذريعة للبقاء في سيناء. ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية، بذلت الجهود من أجل تأجيل الاجتياح إلى ما بعد 25 أبريل، كي تحافظ على مصالحها، في ضمان استمرار تنفيذ المعاهدة المصرية ـ الإسرائيلية.
وفي الأسابيع التي سبقت زيارة الجنرال شارون إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كانت الدلائل على الاستعدادات الإسرائيلية للهجوم، قد أصبحت أكثر وضوحاً وإثارة للقلق من أي وقت مضى. ففي 10 مايو 1982، أقرت الحكومة الإسرائيلية، رسمياً، العمل العسكري المنفرد في لبنان، وليس الانتقام فقط. وقد أوردت صحافة إسرائيل هذا النبأ. واعترف رئيس الأركان رفائيل إيتان، وللمرة الأولى، بأن الجيش الإسرائيلي قد وضع في حالة تأهب، وأن الجنود قد حشدواً على طول الحدود الشمالية. وكانت ملاحظاته، التي وردت في حديث صحافي، تنم على أن القتال أصبح وشيكاً. فقد استطرد قائلاً: "بما أنني قد صرفت مليارات من الدولارات لإنشاء نظام فريد في نوعه، فإنني قادر، بل مرغم على استخدامه".
وبعد أن أُحيطت الحكومة الأمريكية علماً بِنِية إسرائيل اجتياح لبنان، اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية، سلسلة من الإجراءات، خلال وجود شارون في واشنطن، كان من شأنها أن تطمئنه إلى أن تدفّق العتاد سيزداد أكثر مما مضى. وقبل أن تحط طائرة شارون في واشنطن، أبلغت إدارة الرئيس ريجان الكونجرس الأمريكي، بصورة غير رسمية، أنها تنوي بيع إسرائيل 75 طائرة إضافية، من نوع "F-16" وفي الوقت نفسه، تقريباً، صوتت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ على جعل شروط المساعدة لإسرائيل، أكثر ملاءمة، حتى من تلك التي افترضتها الإدارة. ففي تعديل اقترحه السيناتور آلان كرانستون، زادت لجنة العلاقات الخارجية المساعدة الاقتصادية المقترحة بـ 125 مليون دولار، حتى أصبحت توازي مدفوعات إسرائيل المبرمجة لديونها للولايات المتحدة الأمريكية، والبالغة 910 ملايين دولار عام 1983. وقال السيناتور تشارلز بيرسي، معلقاً علي ذلك: "إنه من أغرب الاقتراحات، التي سمعتها في حياتي، إنه نقطة تحوُّل تاريخية ، فللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكـية، يجَعل هذا الاقتراح المجتمع الأمريكي مسؤولاً عن ديون إسرائيل كافة، وعن ديونها أيضاً في المستقبل".
وفي هذه الأجواء، ألقى وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، خطاباً، في 20 مايو 1982، أمام مجلس العلاقات الدولية الأمريكية، في شيكاغو (Chicago)، قال فيه: "إن تدهور الأوضاع في لبنان، خلال العام الماضي، تطلب جهوداً غير عادية، لتجنب الحرب. وفي أبريل 1981، نجح المبعوث الخاص، فيليب حبيب، في قمع المواجهة العسكرية في لبنان. ولكن، لا يمكن السيطرة على النزاع سيطرة دائمة، ما دامت المشكلات، التي هي في أساسه، مستمرة ولا يمكن العالم أن يقف جانباً، ليشاهد هذه الدولة الصغيرة، تتدهور أكثر فأكثر، إلى هاوية العنف والفوضى. لقد حان الوقت للنهوض بعمل منسق، يدعم سيادة لبنان على أراضيه، داخل حدوده المعترف بها دولياً، ويدعم حكومة مركزية قوية، قادرة على إنشاء مجتمع مفتوح، ديموقراطي وتعددي".
وعَدّ شارون هذا الكلام كضوء أخضر لبدء حربه، التي كان قد تفاهم على خطوطها العريضة، مع ألكسندر هيج نفسه. وكان واضحاً، أن الانفجار بات وشيكاً، بعد أن تأخر مرات عدة، خلال النصف الأول من عام 1982؛ وأن إسرائيل تفتش عن أي ذريعة لتنفيذ هجومها.
لا ريب أن هذه الكلمات أثلجت قلب شارون، وشجعت "الكتائب". فقد استقبلت النشرة، التي يصدرها ممثل القوات اللبنانية اليمينية في واشنطن، دعوة هيج إلى "الإجراء الجماعي" بسرور بالغ.
ومما يؤكد عِلم الولايات المتحدة الأمريكية بتوقيت الهجوم الإسرائيلي، هو تحرك السفينة " U.S.S. Kennedy" من قاعدتها بالمحيط الهندي إلى الشاطئ اللبناني في أول يونيه 1982. وكذلك تحرك السفينة " U.S.S. Eisenhower" من قاعدتها في نابولي إلى جزيرة كريت. وهاتان السفينتان كُلفتا بمراقبة التحركات البحرية السوفيتية، خاصة في حالة تصاعد القتال في لبنان.
ثالثاً: التعاون الإسرائيلي مع القوى اليمينية في لبنان، قبْل الغزو
توجه شارون في زيارة سرية إلى بيروت، يومَي 12، 13 يناير 1982. وكان في صحبته مساعد وزير الدفاع، إبراهام تامير، وقائد قوات الكوماندوز، عاموس يارون، ومن رئاسة الأركان الجنرال يوري ساغي، ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، يهو شواعي ساغي، إضافة إلى ممثلي الموساد وجهاز الأمن، والدكتور بوريسلاف جولدمان. أقلت الجميع طائرة عمودية، في رحلة ليلية، اتجهت شمالاً نحو جونيه.
كان شارون غير مقتنع بالعمليات الوقائية والانتقامية، التي جرت من قَبْلُ في عهد وزير الدفاع السابق، عيزرا وايزمان، وكذلك ما فعله عام 1978، في "عملية الليطاني"، التي كان هدفها إبعاد الفلسطينيين عدة كيلومترات عن حدود إسرائيل. كما كان يرى أن إسحاق رابين، رئيس الوزراء السابق، هو المسؤول عن تعزيز سيطرة سورية على لبنان، واحتلالها العسكري له.
وكان شارون يرى ضرورة انسحاب السوريين والفلسطينيين من لبنان. وقبل سفره، أكد لرئيس الوزراء بيجن، أنه سيعمل على إقناع بشير الجميل بالتعاون مع إسرائيل. وبذلك، يمكن تحقيق النصر للمسيحيين.
وأُعدّ لهذا اللقاء بواسطة الموساد وبالتعاون مع "الكتائب"، من أجل اجتماع شارون وبشير الجميل. وكان شارون يرى أن الوقت قد حان، لإشراك مسيحيي شمالي لبنان، في عملية غزو إسرائيلية، تعالج الأوجه الثلاثة للمشكلة اللبنانية. وتعانق الجميل و شارون بحرارة، وتبادلا بعض الفكاهات.
والواقع، أن قلّة من الأشخاص كانوا يعلمون أن ركائز حرب لبنان ستُرسَى في هذه الزيارة، تلك الحرب التي سميت، فيما بعد، عملية "سلام الجليل". وكان الكتائبيون، وعلى رأسهم بيار الجميل وبشير الجميل ورئيس حزب "الوطنيين الأحرار"، الرئيس اللبناني الأسبق، كميل شمعون، يؤيدون التعاون بين "الكتائب" المارونية وجيش الدفاع الإسرائيلي، من أجل صد الأخطار المحدِقة بالسلام داخل لبنان، خاصة من جانب سورية ومنظمة التحرير. وفي هذا اللقاء، عرض شارون، بقناعة شديدة، العديد من أفكاره وخططه أمـام الحاضرين. وأكد أن إسرائيل تريد حل المشاكل، التي تواجهها، جنباً إلى جنب، مع المسيحيين اللبنانيين، على أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية مشاركة في هذا الحل، لأن ذلك من شأنه أن يلزم السوريين والفلسطينيين بالخروج من لبنان.
وقال شارون، لبشير الجميل: "إن تطور الأوضاع في المنطقة، إضافة إلى استمرار النشاط الإرهابي ضد إسرائيل، وضد المصالح الإسرائيلية في العالم، يشكل خرقاً لاتفاق وقف إطلاق النار، المعقود منذ أشهر، تحت إشراف المندوب الأمريكي فيليب حبيب. وقد يؤدي هذا الخرق، في القريب العاجل، وربما مع بداية صيف عام 1982، إلى حالة تكون فيها إسرائيل مضطرة إلى تدمير البنية التحتية للمنظمات الإرهابية في لبنان".
وأكّد شارون في حديثه، أن هدف هذه الزيارة، هو تكثيف التعاون مع "الكتائب"، من أجل تحرير لبنان من أيدي السوريين والفلسطينيين، وأن قَدَر الطرفين بات مشتركاً، وأصبحا إخوة في السلاح، وعليهما تنسيق مواقفهما وتحضير أنفسهما لكل الاحتمالات.
وكرّر شارون وعد بيجن، بقوله: "لن ندع السوريين يقضون على المسيحيين في لبنان"، وأضاف قائلاً: "عليكم أن تنفذوا وحدكم بعض العمليات، ومن دون مشاركتنا المباشرة. ومن جانبنا، سنقدم إليكم العون المادي، وسندرب قواتكم. كما سنقدم إليكم مساعدتنا في مجالات أخرى".
وردّ بشير الجميل، أنه يرى أن من أَولى الأمور، تحرير سكان شمال جونيه، وعددهم نصف مليون نسمة، من السوريين وأصدقائهم، وأن تحرير هذه المنطقة سيُرسي أسُس لبنان مسيحي. وكما تعلمون، إن من يسيطر على جبل لبنان، يستطيع أن يفرض سلطانه على البلاد كلها. وأكدّ الجميل أنه في حالة قيام قواته بالهجوم على بيروت، كما اقترح شارون، فإن السوريين يمكن أن يردوا في منطقة بيروت، وأن قواته ليست كافية لمواجهة السوريين. وبما أن الإسرائيليين سيكونون منشغلين بالقتال ضد الإرهابيين ، فإن منطقة جونيه، تُصبح لقمة سائغة للسوريين، ويجب أن تتنبهوا ـ موجهاً حديثه إلى شارون ـ إلى أن دخول عناصرنا إلى بيروت، سيجبركم على الالتقاء بنا للدفاع عن وحدة الأراضي المسيحية في شمالي لبنان.
وبعد انتهاء الاجتماع الموسع، بين شارون وقيادته وبشير الجميل وقيادته ، قاد بشير المجموعة الإسرائيلية إلى بيروت، لكي يوضح لها، على الطبيعة، أوضاع الجانبين المتصارعين[2]. في بيروت، والخط الفاصل بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية. كما زار الإسرائيليون مراكز المراقبة، حيث يطل المرء على المدينة وخط التماس ومواقع القوات. وأخذ شارون يتأمل المدينة بواسطة جهاز مراقـبة، وكان تفكيره يتركز في التكتيك الواجب إتباعه عند الهجوم الإسرائيلي على بيروت. وقرر شارون أن الوقت قد حان للتدخل من أجل تغيير الواقع اللبناني، وإيجاد نظام جديد في البلاد. وأكّد شارون للجميل: "أنه عندما يحين الوقت، لن نتوقف لا عند الليطاني، ولا عند الزهراني، بل سنواصل تقدمنا شمالاً على طول الخط الساحلي حتى مشارف بيروت. وبذلك، سيصبح لديكم الفرصة التاريخية لاستعادة المدينة. وقد علمتني هذه الزيارة، أنه من أجل السيطرة على بيروت، يكفي الاستيلاء على منطقة القصر الجمهوري ووزارة الدفاع، المسيطرة على طريق بيروت - دمشق. وطبقاً لرأيي، لن تكون أمامكم أي صعوبة للاستيلاء على هذه المنطقة، وقطع محور بيروت ـ دمشق، منذ بداية المعارك. وستكون بيروت، عندها، مطوقة. وستتمكنون من إفراغ المدينة من المخربين وأعوانهم". ووافق بشير الجميل على مقترحات أرييل شارون.
وبعد الانتهاء من زيارة مواقع بيروت، توجه الإسرائيليون إلى منطقة جبل صنين الإستراتيجية، والتي بالسيطرة عليها، يمكن السيطرة على بيروت، ثم زحلة وشتوره. وقال بشير لشارون، وهو يشير إلى محور "ضهر البيدر": "هذه هي المنطقة الحيوية، التي تسيطر على طريق بـيروت ـ دمشـق. فلو بلغتم هذه المنطقة، تَوَجّبَ عليكم الاستمرار في عمليتكم للاستيلاء على زحلة وشتوره. وبذلك يمكن تحقيق سيطرة مسيحية موحدة على معظم الأراضي اللبنانية".
وأثناء اللقاء بين شارون وبشير الجميل، في حي الأشرفية ببيروت الشرقية، في حضور بيار الجميل وكميل شمعون، توجه بيار الجميل بالشكر إلى الإسرائيليين، لجهودهم من أجل مساعدة مسيحيي لبنان. وأكد الجمـيل أن الحرب الأهلية هي السبب الرئيسي لكارثة لبنان الحالية، وأن مصير المسيحيين ومستقبلهم مرتبطان بالتعاون مع إسرائيل. وأكد بيار الجميل أن سورية هي مصدر الخطر الأعظم. وأنه في إمكان لبنان، تحت حكم المارونـيين، أن يشكل جسراً بين إسرائيل والبلاد العربية. أما كميل شمعون، الرئيس اللبناني الأسبق، فقد أشاد بالروابط بين إسرائيل ولبنان، والتي توثقت منذ بدء الحرب الأهلية، وامتدح مناحم بيجن، واصفاً إياه بأنه: "رجل ثقة".
أمّا شارون، فقد أفهم مضيفيه بشكل واضح، أن المسيحيين سيحصلون، قريباً جداً، على الوسائل الكفيلة بتغيير الأوضاع ، وسيتمكنون من تشكيل حكومة انتقالية، إلى أن يصبح في الإمكان تنظيم انتخابات حرة. وخلال هذه الفترة الانتقالية، يمكن أن يشغل بشير الجميل منصباً مهماً.
شعر الإسرائيليون، بعد هذا اللقاء ، أنهم توصلوا أخيراً إلى إيجاد طرف، يمكن الاعتماد عليه ، وأن المسيحيين سيدخلون حلبة الصراع، بالتفاهم مع إسرائيل. وفي الليلة نفسها، اتصل شارون بأحد المسؤولين الإسرائيليين، وقال له: "وضعت حداً للعبة القط والفأر مع المسيحيين. نستطيع الآن أن نمضي قُدُماً. لقد استطعت أن أُقيد أرجلهم ومعاصمهم".
رابعاً: مناقشة الخطة أمام مجلس الوزراء الإسرائيلي
في أوائل عام 1982، أتاحت قضايا الأمن المثارة داخل إسرائيل، الفرصة لشارون وإيتان، لإقناع الحكومة بضرورة التحرك من أجل العمل داخل لبنان. وأعـلن الرجلان، أمام مجلس الوزراء، أنه إذا كان مكتوباً على إسرائيل اتخاذ إجراء عسكري حاسم، كما ترى أجهزة الاستخبارات، فمن الأجدر، إذاً، التفكير في لبنان أكثر من الجولان. وأكدا أن الإسرائيليين، عـلى كل حال، لا يستطيعون الاستمرار في ترك قواتهم على هذا النحو في جبهتين، ولا البقاء طويلاً داخل لبنان، بحجة أن الأسرة الدولية، ستعارض ذلك الإجراء. ومن ثم، يجب أن تؤدي عملية غزو لبنان إلى الإسراع بإخراج القوات السورية ومنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وإلى إنشاء حكومة لبنانية موالية لإسرائيل.
وفي واشنطن، التقى ساغي، مدير الاستخبارات الإسرائيلية، وزيرَ الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، وأفهمه بوضوح، أن كل انتهاك جديد لوقف إطلاق النار، من جانب الفلسطينيين في الجنوب اللبناني، يزيد من قلق القيادة الإسرائيلية، في القدس. كما أطلعه أيضاً على إعادة بناء التحصينات الدفاعـية الفلسطينية، وعلى إعادة توزيع القوات الفلسطينية جنوبي لبنان. كما حذر الأمريكيين من أنه إذا استمرت انتهاكات وقف إطلاق النار، فإن إسرائيل ستتحرك. واستمرت الإدارة الأمريكية على رأيها، مما أدى إلى تأجيل العملية لعدة أشهر.
وفي لبنان، عادت السفن الإسرائيلية لترسو، من جديد، قبالة جونيه. كان الزائر، هذه المرة، هو الجنرال روفائيل إيتان، رئيس الأركان، والجنرال ياكونيل آدام، إضافة إلى ضباط آخرين، ومندوبين عن الموساد. ثم تبع ذلك عدة رحلات مكوكية من أجل تنسيق الخطط المشتركة. وبدأ بشير الجميل في إقامة اتصالات مع مختلف المجموعات في لبنان، من أجل إنشاء جبهة موحدة في مواجهة سورية والفلسطينيين. وكان ينتظر بصبر نافذ الوقت، الذي تقدم فيه إسرائيل لبنان إليه على طبق من فضة.
وفي القدس، ومن أجل إقناع الوزراء والمسؤولين الإسرائيليين، بذل شارون جهداً كبيراً ليؤكد أن إسرائيل لا تنوي إقامة "نظام جديد" في لبنان، ولا محاربة السوريين، بل هدفها هو القضاء على الخطر الإرهابي. وعلى كلٍ، كان جميع المراقبين غير مقتنعين بأن هذه العملية، لن تورط القدس في نزاع مع دمشق. وكانوا يتوقعون، أن النتائج ستكون مأساوية، والقضية الفلسطينية ستصبح شائكة أكثر فأكثر، وسيزداد نفوذ الاتحاد السوفيتي، في المنطقة، وستنزلق إسرائيل في الصراعات، التي لا تنتهي، بين مختلف الطوائف اللبنانية.
كانت الخطتان اللتان عرضهما شارون، واللتان طُرحتا على الحكومة الإسرائيلية، ستؤديان بطبيعة الحال، إلى تفجر الموقف. ففي حين كانت "الخطة الكبرى" توصل جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مشارف بيروت ومحاصرتها، وكذلك قطع طريق بيروت ـ دمشق، فإن "الخطة الصغرى"، كانت ستوصل جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مسافة 45 كم إلى الشمال من الحدود الإسرائيلية. وكانت "الخطة الكبرى"، ترتكز على مبدأ الاختراق من ثلاثة محاور على جبهة واسعة: من جبل حرمون إلى المتوسط. والأخرى كانت لا تختلف عنها، إلا في الأهمـية. فإذا كانت الأولى سـتؤدي حتماً، في اتجاهها أكثر نحو الشرق، إلى مواجهة مع السوريين، فإن الثانية أيضاً كانت تنطوي على نزاع مفتـوح. وفضلاً عن ذلك ، فإن "الخطة الكبرى" ستوقظ في منطقة الشوف الخصومات المحلية الخامدة منذ زمن طويل، مما يُحيي بعض الآمال للمسيحيين، إذ سيعيد لهم جيش الاحتلال الإسرائيلي سيطرتهم على هذه المنطقة، في حين تتولى إسرائيل مهمة الشرطة داخل لبنان. وكان من المفترض، بعد القضاء على الضغط العسكري السـوري، أن تتجاوز "الخطة الصغرى"مدى الـ45 كم المتوقعة، بمعنى انتقال القوات الإسرائيلية إلى تنفيذ أهداف "الخطة الكبرى"، ولكن كان من المحتمل أن يرتفع حجم الخسائر الإسرائيلية، بسبب استعداد الجانب الآخر.
ومن وجهة النظر العسكرية، اعتمدت الخطة الكبرى على أن تحتل القوات المحمولة جواً بعض المحاور الأساسية، قبل السوريين. ولكن إذا حدث الانتقال من "الخطة الصغرى" إلى "الخطة الكبرى"، فإن انتشار القوات الإسرائيلية والفلسطينية على هذه المحاور الإستراتيجية، سيتطلب تقدُم المدرعات الإسرائيلية عبْر الجليل، على طرقات ضيقة ومتعرجة، حيث تصبح المعارك أكثر صعوبة ودموية.
ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية، كانت تفكر في أنه إذا استبعدت "الخطة الكبرى"، وجرى تفضيل الأخرى عليها، يصبح من الممكن تلافي النتائج المأسوية للحرب. لكن، في الواقع، سـارت الأمور على غير هذا النحو. فخلال شهر فبراير1982 ، أوشكت الحرب أن تقع على الحدود الشمالية، حيث كان الوضع متفجراً، إذ كانت الدبابات وقوافل المشاة وشاحنات التموين، تشق طريقها بشكل مكشوف، وتنتشر في مواقع حساسة. واستمر كل من بيجن وشارون وإيتان في الإعلان أمام الصحفيين: "إننا لن ندع الإرهابيين يضربوننا تحت غطاء وقف إطلاق النار". وهكذا، كان بيجن على اقتناع بأن الشكل، الذي تضمن فيه إسرائيل أمنها، مبرراً تماماً.
وفي 12 فبراير، اتصل سام لويس، السفير الأمريكي، بنائب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، حنان باراون، وأبلغه أنه وفقاً للمعلومات المتاحة، فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي يُعِد العُدة لعملية وشيكة. ويبدو أن هذا الأمر لا يأخذ في حسبانه المحادثات الأخـيرة مع فيليب حبيب، التي كان هدفَها انفراج في الجو السياسي، وحل قضايا المنطقة، ومن ثم، الشروع في العمل. ثم أعرب عن أمنيته أن تكون كل هذه المعلومات دون أساس ، وإلاّ فإن أزمة جديدة، يمكن أن تقع في إطار العلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية. ومن الفور، أبلغ باراون رئيس الوزراء الإسرائيلي هذه الرسالة الصريحة. وكان رد بيجن على السفير موجزاً: "معلوماتكم ليس لها أي أساس ، نرجوكم عدم استخدام التهديدات ضدنا، واتركونا نواصل الحوار، كما ينبغي أن يكون".
وفي لقاء بين بيجن والسيناتور الأمريكي جـون جلين John Herschell Glenn، والسيناتور وليم كوهين William S. Cohen ، قال بيجن: "في ما يختص بوقف الأعمال العسكرية، اسمحوا لي أن أطلعكم على الخطوط الكبرى، التي تم الاتفاق عليها بيني وبين فيليب حبيب. إن وقف الأعمال العسكرية يفترض احترام النقاط التالية:
1. الامـتناع عن أي عمل عدائي، في البحر والبر والجو، ضد أهداف إسرائيلية. ولا يقتصر فقط على أعمال التسلل من لبنان.
2. عدم توجيه أي نشاط عسكري ضد لبنان.
3. الامتناع عن أي عمل عدائي ضد المنطقة التي يسيطر عليها حداد (هذا البند غالباً ما انتهكه الفلسطينيون).
4. إن إسرائيل تعُدّ كل عمل إرهابي موجه ضد الإسرائيليين واليهود في العالم، انتهاكاً للاتفاق المعقود. (هذا البند أيضاً لم يُحترم، إذ حدثت هجمات في فيينا وأثينا وروما وبرلين).
وأكّد بيجن أنه خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، اقترحتُ عليه صيغة حول أننا لن نتدخل، إلاّ للرد على "استفزاز كبير".





[1] يبدو أن التغير في الموقف الأمريكي من الدور السوري في لبنان، كان عنصراً رئيسياً، إذ قال شامير لإحدى لجان الكنيست: إن الإدارة الأمريكية كانت في السابق تَعُدّ سورية عاملاً من عوامل الاعتدال والاستقرار في لبنان. ولكنها، الآن، تعيد النظر في هذا التقويم، بسبب وجود 10 آلاف مستشار سوفيتي في سورية

[2] السوريون والفلسطينيون من جانب، وقوات `الكتائب` المسيحية، على الجانب الآخر

[3] يُشكل اللواء المدرع الإسرائيلي من 110 دبابات

[4] عقد مؤتمر القمة العربي السداسي، في الرياض، في الفترة من 16 إلى 18 أكتوبر. وقد قرر المؤتمر تعزيز قوات الأمن العربية الحالية، لتصبح قوة ردع، تعمل داخل لبنان، بأمر رئيس الجمهورية اللبنانية شخصياً، على أن تكون في حدود ثلاثين ألف جندي، ويكون من مهامها، فرض الالتزام بوقف إطلاق النار، حفظ الأمن الداخلي، مساعدة السلطة اللبنانية، عند الاقتضاء، على استلام المرافق والمؤسسات العامة
 
التعديل الأخير:
خامساً: الطريق إلى الحرب
في 25 مارس 1982 ، بدأت الحرب بالاقتراب، حين ألقيت قنبلتان يدويتان على سيارة تابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي كانت تسير على الطريق الرئيسي في غزة، وأدى انفجارهما إلى مقتل جندي واحد وجرح ثلاثة آخرين. ودعا مناحم بيجن مجلس الأمن الإسرائيلي، لمناقشة الموقف المتفجر، واقترح شارون، خلال الاجتماع، إرسال الطيران الإسرائيلي لقصف أهداف فلسطينية داخـل لبنان. إلاّ أن العديد من الوزراء، رأوا أن رد الفعل هذا، يمكن أن يؤدي إلى نزاع عام. وتأجل تنفيذ هذا الاقتراح.
وفي الوقت الذي تصاعد فيه الموقف، خلُصت الحكومة الأمريكية، بعد تحليل للأحداث، أن إسرائيل سوف تجتاح الأراضي اللبنانية قريباً. وكان فكر بيجن و شارون، يتجه نحو إنشاء منطقة عازلة بين المنطقة، التي تسيطر عليها منظمة التحرير الفلسطينية، وبين المستوطنات الإسرائيلية الشمالية، لتجنب القصف. وكذلك تدمير، أو، على الأقل، إلحاق أضرار بالبنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية في جنوبي لبنان.
وفي واشنطن، كانت الإدارة الأمريكية ترى، أن القتال في لبنان يتوقف على ثلاثة عوامل : اتساع العـمل العسكري، وعزم قادتِه على تحقيق أهدافهم، وأخيراً الوقت الذي سيتاح لهم، قبل وصول قوات الفصل. وكانت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تشك في إمكانية تحقيق إسرائيل شيئاً من اجتياحها لبنان. أمّا وزير الدفاع الإسرائيلي، فكان متفائلاً حول فرص نجاح هذه العملية.
وفي أبريل 1982، أصبحت الحرب قاب قوسين من الاندلاع. ففي الثالث منه، قُتل أحد موظفي السفارة الإسرائيلية في باريس، واستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي حكومته في الرد باستخدام سلاح الطيران. ويبدو أن بعض الوزراء لم يعجبهم ذلك الرأي، وبدأت وسائل الإعلام تندد بقوة بكل تدخل في لبنان. ولكن هذه التنديدات كانت تتحطم على أبواب مكتبَي بيجن و شارون ولا تجد أذناً صاغية. وكان بعـض أعضاء مجلس الأمن الإسرائيلي في الكنيست، على اقتناع بأن شارون سيدفع الحكومة إلى اتخاذ قرار لتنفيذ عملية عسكرية واسعة في لبنان.
وكان شارون يرى، أنه استعد، بالفعل، لتنفيذ عمل عسكري كبير داخل لبنان، ولكنه سيترك اختيار الوقت لمجلس الوزراء. وأكّد أن الأحوال الجوية ستصبح، بمرور الوقت، أكثر ملاءمة، وأنه من المنتظر وقوع اشتباكات مع سورية، عندما تتسع العمليات في لبنان. وبرر شارون تصميمه على العمل ضد لبنان، بأن النشاطات الإرهابية، كما يدعي، تزداد يوماً بعد يوم.
وفي 21 أبريل 1982، وإزاء انفجار عبوة ناسفة تحت سيارة، يقودها ضابط إسرائيلي، في الجنوب اللبناني، أصدر بيجن أوامره بشن غارات جوية على لبنـان. وبالفعل، قصف الطيران الإسرائيلي، في اليوم التالي، ثلاث قواعد في لبنان، وأسقط طائرتَي ميج ـ 23 سوريتين. وأعلن بعد الغارة الجوية، أمام أعضاء مجلس الأمن الإسرائيلي في الكنيست: "إننا عدنا إلى نقطة تجعلنا نعُدّ أنفسنا غير مرتبطين بأي عهود مع الولايات المتحدة الأمريكية أساساً،أو أي جهة أخرى سبق إعطاء وعود لها بعد قيام إسرائيل بعدوان على لبنان".
وفي 9 مايو 1982، كان اللقاء، في واشنطن، بين شارون وكل من وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، ووزير الدفاع، كاسبار واينبرجر Caspar Willard Weinberger. وأبلغ شارون واينبرجر القرار الإسرائيلي حول التدخل في لبنان، شارحاً الأسباب، قائلاً: "إننا لن نتساهل أمام أي هجوم فلسطيني. وإذا تطلبت الأحداث، فإننا سنتدخل. أهدافنا محددة، ولا نسعى إلى الحرب ضد سورية. لذا، يجب ألاّ تحيركم ردود فعلنا بعد اليوم". ورد واينبرجر: "بعض القضايا ليست من اختصاصي. يجب مناقشة هذه القضية مع وزير الخارجية. أمّا نحن، فنستطيع بحث نقاط عملية، كالمساعدة التي يمكن أن نقدمها إليكم". وبهذا الرد، رفض واينبرجر أن يكون شريكاً في جريمة، تريد أن ترتكبها إسرائيل.
وفي لقاء شارون وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، أعلن شارون أن إسرائيل قررت العمل، إذ قال: "إننا لا نرى وسيلة أخرى للدخول إلى هذه المنطقة (يقصد لبنان) وتوضيح الأمور فيها. سنقضي على البنية التحتية، السياسية والعسكرية، لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي سنـتخلص منها لسنوات عـديدة. فهدفنا ليس إقامة لبنان مستقل، ولا طرد السوريين مـنه، إنما مثل هذه الأمور يمكن أن يكون نتيجة ثانوية. ورد هيج قائلاً: "إننا نفهم مشـكلتكم، وآمل أن تدركوا أنه، من وجهة النظر الدولية، إذا كنا حساسين تجاه الاستفزازات الحقيقية، فليس في إمكاننا أن نبقى هكذا تجاه غارات متكررة. لا بدّ لنا من العثور على أسلوب لحل القضية، من طريق خلق ظروف جـديدة. إننا نتمنى أن ينسحب السـوريون من لبنان، ونريد حكومة قوية في بيروت، حليفة لإسرائيل، كما أننا نريد أيضاً انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان".
وقد شعر شارون من حديث هيج، أن الولايات المتحدة الأمريكية أعطته الضوء الأخضر. وفي نهاية اللقاء، كان انطباع هيج، أن إسرائيل تفكر في "عملية كبيرة". ولكن شارون طمأنه بأن الأمر لن يصل حد تدخلٍ واسع النطاق، وأن العمليات ستوقف، بعد تحقيق أهدافها.
وفي 16 مايو 1982 ، دُعيت الحكومة الإسرائيلية إلى الانعقاد ، وكانت مناقشة "الخطة الكبرى" لا تزال على جدول الأعمال. فأعرب الوزراء عن العديد من التحفظات ، إلاّ أن شارون طالب باتخاذ قرار حاسم. وقال: "إنه من الآن فصاعداً، عندما يُنتهك وقف إطلاق النار، ستوضع فورا "الخطة الكبرى" موضـع التنفيذ". وأكّد، خلال الاجتماع، أنه أبلغ واشنطن بهذا القرار، في ردٍ على رسالة من وزير الخارجية الأمريكية ألكسندر هيج إلى بيجن، الذي أعلن، بدوره، إنه من الآن فصاعداً، إذا أصيب مواطن إسرائيلي بجروح أثناء هجوم إرهابي، أو إذا تعرض أي هدف يهودي لهجوم، فإن إسرائيل ستتدخل من الفور. وإذا ما قصف الفلسطينيون مرة أخرى الجليل، فسيجتاح جيش الاحتلال الإسرائيلي لبنان، من أجل القضاء نهائياً على قواعد هؤلاء الإرهابيين".
وفي يوم الثلاثاء 3 يونيه، اغتيل السفير الإسرائيلي، شلومو أرجوف Shlomo Argov في لندن. وفي اليوم نفسه، طلب بيجن عقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء، وكان يعرف مقدماً أنه، في ظل هذه الظروف، لا يمكن أن يُرفض له أي طلب. فوافق مجلس الوزراء على قصف بعض الأهداف في جنوبي لبنان. وكانت إسرائيل تعلم مسبقاً أن الفلسطينيين سيردون، بقصف مستوطنات الشمال. وهذا ما حدث بالفعل، إذ سقطت القذائف على المستوطنات الإسرائيلية. فبدأ سلاح الجو الإسرائيلي يتدخل ليحسم المعركة، وشُرع في دعوة الاحتياطي، وبدأ الحشد الإسرائيلي نحو الشمال. وأيقن الجميع أن العمليات العسكرية ستعلن خلال ساعات.
أعلنت الحكومة الإسرائيلية بياناً، تُحدد فيه، بوضوح، أهداف العملية : "لقد كَلّفت حكومة دولة إسرائيل جيش الدفاع بوضع كل مستوطنات الجليل خارج مدى مدفعية الفلسطينيين، الذين حشدوا في لبنان مراكز قيادتهم وقواعدهم. إن الاسم "الرمزي" للعملية هو "سلام الجليل". وخلال هذه العملية العسكرية، لن نهاجم الجيش السوري، إلاّ إذا هاجم قواتنـا. وستحاول إسرائيل توقيع معاهدة سلام مع لبنان المستقل، القادر على صيانة سلامة أراضيه". ثم ما لبث شارون أن جاهر بهدف آخـر للحرب، عندما أعلن أن إبعاد السوريين عن لبنان، هو "الجولة الثانية" لهذه الحرب، التي كان يجب، في رأيه، تسميتها عملية "فرض نظام جديد في لبنان".
كان ضرب بنية المقاومة الفلسطينية التحتية هدفاً أساسياً لحرب "سلام الجليل". وذلك بعد أن تعاظمت القوة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، التي أصبحت تهدد أمن مستعمرات إسرائيل الشمالية. وتحت شعار "إبعاد المخربين" 40 كلم شمالاً، خاض الجيش الإسرائيلي الحرب. لكن هذا الشعار سرعان ما سقط خلال أيام الحرب الأولى، بعد أن عَبَرت المدرعات الإسرائيلية خط نهر الأولي، شمالي صيدا، وأكملت سيرها نحو بيروت والجبل، منفذة ما اصطُلح على تسميته "الخطة الكبرى"، التي انتهت بحصار بيروت، وترحيل المقاومة الفلسطينية عنها.
سادساً: حجم قوات أطراف الصراع في عملية "سلام الجليل"
1. القوات الإسرائيلية
أ. القوات البرية
حشدت إسرائيل قواتها في المنطقة الشمالية منذ مطلع عام 1982، وعلى مراحل، من أجل تنفيذ هذه العملية، عندما يتهيّأ المناخ المناسب لتنفيذها.
وقُدِّر حجم القوات الإسرائيلية على الجبهة اللبنانية بفرقتين: إحداهما مدرعة، تتكون من لواءين مدرعين ولواء مشاة آلية. والأخرى مكونة من لواء مدرع، ولواء مشاة آلية، ولواء مشاة. إضافة إلى لواء مظلات، ووحدات إسناد من المدفعية والصواريخ.
وأثناء تنفيذ هذه العملية، تم زيادة حجم القوات، لتصبح ثلاث فرق ولواءَي مظلات. وقُدِّر حجم القوات الإسرائيلية المهاجمة، مع بداية العمليات، بنحو 20 ألف جندي. ثم ازداد حجمها ليصل إلى 40 ألف جندي. وفي بعض المراحل، تراوح ما بين 80 و100 ألف جندي.
وشُكِّلت هذه القوات عملياتياً (تعبوياً) كالآتي[3]:
(1) النسق الأول العملياتي، ويشكل من:
· فرقتان: إحداهما مدرعة، والأخرى ذات تشكيل خاص، إضافة إلى لواءَي مظلات، وحتى 20 كتيبة مدفعية وهاون.
(2) احتياطي عملياتي على مستوى الجبهة، يشكّل من:
· فرقة مدرعة مشكلة من لواءَين مدرعين ولواء مشاة آلية.
(3) احتياطي إستراتيجي للمنطقة الشمالية، يُشكّل من:
· فرقة مدرعة، إضافة إلى لواء مشاة مستقل.
ب. القوات البحرية الإسرائيلية
خمس مجموعات قتال، تضم لواء زوارق صواريخ، وأربع وحدات إبرار بحري، وطائرتَي استطلاع.
ج. القوات الجوية الإسرائيلية
القوات الجوية الإسرائيلية من 670 طائرة قتال. وخصص مجهود جوي للعملية كالآتي:
· حتى 3 ـ 4 طلعة سرب / يوم (خلال مراحل القتال).
· حتى 60 ـ80 طائرة لمهاجمة صواريخ الدفاع الجوي السورية في سهل البقاع.
· حتى 36 طائرة عمودية (أنواع متعددة).
(الحجم والأوضاع الابتدائية للجانبين يونيه 1982
وتشير المصادر الإسرائيلية إلى أن حجم قواتها، في حرب عام 1982، هو كالآتي:
· القوة البشرية: 90 ألف رجل.
· الدبابات: 1300 دبابة.
· الناقلات: 12 ألف شاحنة.
1300 ناقلة جند مدرعة.
· عدد من الطائرات، قوامه 634 طائرة مقاتلة.
· عدد غير محدد من القطع البحرية.
2. القوات السورية في لبنان
نشرت سورية قواتها في لبنان تحت اسم "قوات الردع العربية"، بموافقة حكومة الرئيس إلياس سركيس، وكذلك بناء على قرارات مؤتمر القمة العربي السداسي الذي عقد بالرياض في الفترة من 16 وحتى 18 أكتوبر1976[4].
وقُدِّر حجم القوات السورية في لبنان بالفرقة الخامسة المشاة الآلية، ولواء مشاة مستقل، وعدد من كتائب المغاوير (الصاعقة)، وكتيبتَي دبابات مستقلتين، ويصل حجم هذه القوات إلى 30 ألف جندي. وأثناء سير العمليات تم تدعيمها بفرقة مشاة، دُفعت من الأراضي السورية، يومي 9 ، 10 يونيه، لمواجهة احتمالات تطـور الموقف، في أعقاب الهجوم الإسرائيلي علـى مواقع الصـواريخ السـورية في سهل البقاع، ومحاولات قطع طريق بيروت ـ دمشق بواسطة القوات الإسرائيلية. كما دُفع عدد من كتائب الصواريخ، سام ـ 6 ، سام ـ 7 ، سام ـ 8.
أمّا القوات السورية على الجبهة السورية مع إسرائيل، وفي العمق حتى دمشـق، فقد قُدِّرت، قبل بدء العمليات، بفرقة مدرعة، وفرقتين مشاة آليتين، وفرقة مشاة جبلية، ولواء مشاة مستقل.
وتشير المصادر الإسرائيلية إلى أن حجم القوات السورية، التي كانت موزعة في لبنان، هو على النحو التالي:
· الحجم: لواءان مدرعان، ولواءان من قوات المشاة المحمولة، وبضع كتائب من القوات الخاصة، ووحدات مدفعية، ووحدات مضادة للدبابات، وحدات مضادة للطائرات، وبطاريات صواريخ موجهة أرض/جو، ولواءان من مشاة جيش التحرير الفلسطيني، وسرية مدرعة تابعة لجيش التحرير الفلسطيني.
· إجمالي القوة البشرية: 30 ألف جندي، تقريباً.
· التسليح: 300 دبابة (T-55و.T-62)
300 مدفع ـ عدد غير مُحدد من الراجمات ـ 80 ناقلة جند مدرعة.
3. القوات الفلسطينية داخل لبنان
سبع كتائب مشاة، وكتيبتَا دبابات، وخمس كتائب مدفعية، وكتيبتَا مدفعية صاروخية، تتمثلان في الإمكانيات التالية: 150 قطعة مدفعية متوسطة، و80 قاذفاً صاروخياً، و80 دبابة (T-34)، (T-54)، وزورقا دورية. وقُدِّر حجم هذه القوات بنحو 15 ألف مقاتل.
وتقدر المصادر الإسرائيلية حجم القوات الفلسطينية في لبنان، كالآتي:
· القوة البشرية: 15 ألف فدائي، منهم 6 آلاف، يرابطون في الجنوب اللبناني.
· القوة العسكرية: 100 دبابة من أنواع (T-55،T-54،T-34) و150 ناقلة جند مدرعة، 250 مدفع ميدان، 100 راجمة صواريخ، 200 مدفع مضاد للطائرات.
· صواريخ دفاع جوي: 200 قاذف صاروخي سام ـ 7.
4. قوات "الكتائب" المسيحية
قُدِّر حجم هذه القوات بنحو 30 ألف جندي مسلحين بالآتي: M- 48، وعدد من العربات المدرعة من نوع M-113، و3 كتائب مدفعية، وكتيبة مدفعية صاروخية، وهاونات من عيارات مختلفة، وأعداد كبيرة من الأسلحة الخفيفة. وتم تدريب هذه القوات على أيدي خبراء عسكريين إسرائيليين.
سابعاً: تخطيط عملية (سلام الجليل)
1. الهدف من العملية
أ. الهدف المعلن
استهدفت إسرائيل من تنفيذ عملية "سلام الجليل" تحقيق أمن المستعمرات في الجليل، وإحداث أكبر قدر من الخسائر، في صفوف المقاومة الفلسطينية وقياداتها، والوصول إلى خط يراوح ما بين 40 و60 كم شمال حدودها السياسية مع لبنان.
ب. الهدف الحقيقي
استثمار نتائج الأعمال العسكرية للعملية التعرضية (أي العملية الهجومية)، في تحقيق الأهداف السياسية الآتية:
(1) القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، كقوة سياسية، بما يمهد الطريق لتمرير تسوية مقبولة، من وجهة النظر الإسرائيلية، للمشكلة.
(2) ترتيب الأوضاع الداخلية في لبنان، في ظل حكومة محررة من العناصر المسيحية اللبنانية، مع المحافظة على التوازن القومي التقليدي للطوائف.
(3) إجبار قوات الردع السورية على الانسحاب من لبنان، وبما يشكل حرجا في الموقف السياسي السوري على الصعيدين، العربي والدولي.
2. فكرة العملية
بعد التمهيد النيراني (جوي، بري، بحري) ضد التجمع الرئيسي لقوات المقاومة الفلسطينية، على امتداد عمق الجنوب اللبناني، وحتى مدينة بيروت شمالاً، ولمدة يومين، تُدفع مفارز مدرعة ومشاة آلية، على ثلاثة محاور رئيسية: المحور الساحلي في اتجاه صور وجسر القاسمية وصيدا. والمحور الأوسط من منطقة مستوطنتَي المنارة ومسكاف عام في اتجاه جسر الخردلي، والالتفاف حول النبطية ومنطقة الشقيف حتى الزهراني، على مسافة 40 كم إلى الشمال من الحدود الدولية. والمحور الثالث من الشرق، عبْر طرقات جبل حرمون. على أن تتقدم القوات الإسرائيلية حتى مسافة 4 كلم إلى الجنوب من أول موقع سوري، مع عدم مواجهة القوات السورية، والاكتفاء بتهديد أجنابها فقط.
ويتم، خلال المراحل الأولى للعملية، مهاجمة مواقع المقاومة الفلسطينية وتدميرها، بواسطة المفارز المدرعة والمشاة الآلية، بالتعاون مع أعمال الإبرار، الجوي والبحري، وتحت غطاء من القصف المركز (الجوي ـ البري ـ البحري) على الأهداف الفلسطينية، يتم الاستيلاء على الخط العام (شبعا ـ صيدا)، بعمق 40 ـ60 كم شمال الحدود السياسية، خلال يومين إلى ثلاثة أيام قتال.
وفي ضوء النجاح في تحييد الموقف السـوري، يتم تطوير الهجوم شمالاً، لاستكمال تصفية عناصر المقاومة الفلسطينية المسلحة، وحصار قياداتها داخل العاصمة بيروت، والضغط عليها حتى يتم الإذعان للشروط الإسرائيلية.
مع استثمار الظروف المواتية في توجيه هجمات قوية ضد قواعد بطاريات الصواريخ السورية، في سهل البقاع، وتدميرها، وبما يشكل ردعاً للجانب السوري، والتأثير في قراره دخول العملية أو عدمه.
تُركَّز الجهود الرئيسية، خلال المراحل الأولى للعمليات على المحور الأوسط، ثم تتحول هذه الجهود إلى المحور الساحلي، بعد تحقيق الهدف الأمني، لاستكمال تحقيق الأهداف السياسية.
ثامناً: مراحل العملية
قُسمت العملية إلى أربع مراحل، تبدأ اعتباراً من 4 يونيه 1982، وتستمر حتى تحقيق الهدف السياسي العام، وذلك كالآتي:
1. المرحلة التحضيرية
أ. مدة المرحلة: يومَا قتال (4 ـ 5 يونيه 1982).
ب. الهدف من المرحلة: إحداث أكبر قدر من الخسائر في مراكز تجمع المقاومة الفلسطينية، والتمهيد للهجوم البري الشامل علـى الجنوب اللبناني. ويتم خلالها قصف مناطق التجمع والمخيمات الرئيسية فـي كل من: صيدا، وشاتيلا، وبرج البراجنة، والأوزاعي، وخالدة، والناعمة، وصور، ومركز القيادة في الفكهاني، والمدينة الرياضية، والدامور. وكـذا قصف المواقع العسكرية الفلسطينية في: النبطية، وقلعة الشقيف، والعيشية، وعرب صاليم، ومراكز التدريب جنوبي بيروت.
2. المرحلة الأولى (تحقيق الهدف العسكري)
أ. مدة المرحلة: 3 أيام قتال ( 6 ـ 8 يونيه 1982).
ب. الهدف من المرحلة: تأمين مستوطنات شمالي إسرائيل، من أعمال القصف المدفعي والصاروخي لعناصر المقاومة الفلسطينية، والوصول إلى خط بعمق 40 ـ 60 كم، شمال الحدود الإسرائيلية (شبعا ـ صيدا). ويتم خلال هذه المرحلة تدمير التجمع الرئيسي لعناصر المقاومة الفلسطينية، في مناطق: صيدا، وصور، والنبطية، وقلعة الشقيف.
ج. تُنفذ العملية بدفع المفارز المدرعة والمشاة الآلية الإسرائيلية، في ثلاثة محاور رئيسية:
(1) المحور الأول (محور العرقوب)
بقوة حتى كتيبة مشاة آلية، في اتجاه شبعا.
(2) المحور الأوسط
بقوة لواء مشاة الجولاني، في اتجاه قلعة الشقيف والنبطية ، وبقـوة لواء مدرع، في اتجاه النبطية، لمعاونة أعمال قتال اللواء الجولاني. ثم تحول جهوده، في المرحلة التالية، إلى المحور الساحلي.
(3) المحور الساحلي
بقوة لواء مدرع، في اتجاه مدينة صور، مع حصارها، ثم دفع مفارز مدرعة شمالاً.
3. المرحلة الثانية (تحقيق الهدف السياسي)
أ. مدة المرحلة: 3 أيام قتال (9 ـ 11 يونيه 1982).
ب. الهدف من المرحلة: تطوير الهجوم شمالاً، حتى مشارف بيروت. ويتم خلالها:
(1) الاستمرار في تصفية جيوب المقاومة، في المناطق المستولى عليها.
(2) متابعة عناصر المقاومة الفلسطينية شمالاً، وحتى بيروت.
(3) مواصلة الضغط وإحكام السيطرة على قيادات المقاومة، في بيروت الغربية، للقبول بشروط إسرائيل السياسية. وذلك بالتعاون مع ميليشيات "الكتائب" المسيحية .
ج. تُنفذ العملية على المحاور الثلاثة كالآتي
(1) محور العرقوب: بقوة لواء مشاة آلية ولواء مدرع، تتقدم في اتجاه قليا ـ كوكبا، بهدف الضغط على القوات السورية، ودفعها شمالاً، ثم تطور الهجوم للوصول إلى الخط العام تنورين ـ شمال جزين.
(2) المحور الأوسط: بقوة لواء مشاة الجولاني، تهاجم المواقع الفلسطينية، وتتقدم شمالاً من أجل الاستيلاء على مناطق بيت الدين ـ الباروك.
(3) المحور الساحلي: تطوير الهجوم شمالاً، بقوة فرقة مدرعة، بعد إحكام الحصار على مدينتَي صيدا والدامور.
4. المرحلة الثالثة (حصار بيروت الغربية)
أ. مدة المرحلة: تنفذ بدءاً من 13 يونيه، وحتى تحقيق الهدف السياسي العام.
ب. الهدف من المرحلة: تكثيف الضغط على عناصر المقاومة الفلسطينية، لقبول الشروط الإسرائيلية، وإخراج مقاتليها من لبنان، مع استكمال تدمير البنية العسكرية الأساسية لفصائل المقاومة، وتهيئة أفضل الظروف الملائمة لتنفيذ الاجتياح الكامل لمراكز المقاومة في بيروت الغربية، إذا ما تطلب الموقف ذلك.
تاسعاً: تخطيط الهجوم الإسرائيلي على لبنان تخطيط الهجوم (من وجهة نظر إسرائيلية) (اُنظر شكل الهجوم على لبنان).
أوضاع القوات المعادية
1. القوات السورية
استهدف تمركز القوات السورية في لبنان، تحقيق هدفَين، هما: الفصل بين القوى اللبنانية المتنازعة؛ والدفاع عن المناطق الرئيسية؛ والتحصن في مواجهة احتمال مبادرة الجيش الإسرائيلي إلى مهاجمة دمشق، عبْر سهل البقاع. ومن أجل ذلك، اتخذت أوضاعها الدفاعية كالآتي:
أ. القطاع الأول: ويمتد شمالي منطقة صيدا حتى الدامور، على الطريق الساحلي، صعوداً حتى سفوح جبل الشيخ شرقاً، مروراً بدير القمر وبيت اليدن والعيشية وسحمر، في البقاع الغربي.
ب. القطاع الثاني: من الدامور حتى مدينة بيروت، صعوداً إلى دير العشائر، مروراً بزحلة ورياق.
ج. القطاع الثالث: ويضم مدينة بيروت. وكانت القوات السورية الموجودة فيه، تتبع القطاع الثاني.
2. القوات الفلسطينية
انتشرت القوات الفلسطينية في خمسة قطاعات رئيسية، إضافة إلى مدينة بيروت، كالآتي:
أ. قطاع الشريط الساحلي: ويضم صور صيدا والنبطية وجباع. وتمركز فيه لواء (القسطل)، بقيادة الحاج إسماعيل، وقوامه 6 آلاف فرد.
ب. قطاع العيشية: انتشر فيه لواء (اليرموك) ويقدر عدد أفراده بنحو 600 فرد.
ج. قطاع العرقوب: تمركز فيه لواء (الكرامة)، ويضم 1500 فرد، تقريباً.
د. قطاع الزهراني ـ الأولي: وكان يتبع، عسكرياً، قطاع الشريط الساحلي. انتشرت فيه كتيبة (شهداء أيلول)، التابعة للواء القسطل، بقيادة رياض كمال الشيخ. ووصل مجموع الفدائيين في هذا القطاع إلى 1500 فدائي.
هـ. قطاع الأولي ـ الدامور: ويتمركز فيه قوات (عين جالوت)، التابعة لجيش التحرير الفلسطيني.
و. قطاع بيروت: انتشر فيه نحو 6 آلاف فرد، وعدد غير محدد، من الدبابات والمدفعية والأسلحة المضادة للدبابات والطائرات.
3. هدف الخطة الإسرائيلية
· تدمير عناصر منظمة التحرير الفلسطينية، في الجنوب اللبناني.
· تدمير القوات السورية، في حالة تدخّلها في الحرب.
4. مرتكزات الخطة
· استغلال الممرات والمحاور الالتفافية، في المناطق الجبلية.
· إنزال معدات، خلف القوات الفلسطينية، لمنع انسحابها، وإنزال أعلى خسائر ممكنة بها.
وقد خصصت القوات التالية لتنفيذ الخطة (سلام الجليل):
· المنطقة الشمالية، بقيادة الجنرال أمير دروري.
· قوات البقاع، بقيادة الجنرال أفيجدور بن جال.
· تشكيلات مساندة من الجيش النظامي والاحتياطي.
· مساندة جوية كثيفة، سواء للهجوم أو النقل.
· مساندة بحرية للهجوم والإنزال.
أ. الخطة الهجومية لقيادة المنطقة الشمالية
(1) تتولى القوة (أ) تدمير تجمعات القوات الفلسطينية، على امتداد الشاطىء، من خلال التقدم حتى نهر الأولي، وتطهير المنطقة من الوجود العسكري الفلسطيني.
(2) تضطلع القوة (ب) بتدمير تجمعات القوات الفلسطينية، في مرتفعات النبطية، وتتصل بالقوة (أ)، بوساطة التقدم على محور الزهراني، بعد السيطرة على جسر حبوش.
(3) تدمر القوة (ج) التجمعات الفلسطينية، في منطقة "فتح لاند"، وتتحرك من المطلة نحو كوكبا ـ حاصبيا ـ شبعا، لمواجهة احتمال هجوم سوري.
(4) تنزل القوة (د) عند مصب نهر الأولي، وتطوق صيدا، وتعزل الجبهة من الشمال، ريثما يمكن الاتصال بالقوّتَين (أ) و(ب).
(5) توضع القوة (هـ) كقوة مساندة، لتعزيز الإنزال عند نهر الأولي، أو للتحرك في جبال الشوف، نحو جسر بسري.
(6) في حالة تدخّل الجيش السوري في الحرب، تخترق القوة (و) خط الدفاع السوري الأول، في منطقة القرعون، اختراقاً تدريجياً.
(7) القوة (ز) تحتل منطقة جزين.
ب. الخطة الهجومية لقيادة قوات البقاع
كُلِّف الجنرال أفيجدور بن جال بقيادة قوات البقاع، لإدارة الحرب من أجل تدمير القوة السورية، المتمركزة في البقاع اللبناني. ووضعت تحت قيادته قوات كافية، بالتنسيق مع القوة (و) والقوة (ج) التابعتَين لقيادة المنطقة الشمالية. وكلف سلاح الجو بمساندة القوات البرية، طوال مراحل تنفيذ العملية.
كما عهد إليها بعمليات أخرى، مثل تنفيذ عمليات وقائية، ومهاجمة أهداف الفلسطينيين، ونقل قوات المشاة بالطائرات العمودية. وكُلِّف سلاح البحرية بتنفيذ عمليات وقائية، وإنزال القوة (د) عند مصب نهر الأولي، والمحافظة على تفوق بحري، على امتداد السواحل اللبنانية.
ج. تخطيط الخداع
وضعت إسرائيل خطة خداع، لتضليل القوات السورية، وتجنّب الاصطدام بها، في المراحل الأولى من الحرب. ومن ثم، كان مجمل التصريحات الرسمية، يتركز في إخفاء نيتها في ضرب القوات السورية. ولا شك أنه كان تضليلاً مدروساً، لتحقيق الأهداف المباشرة التالية:
(1) تأخير الاصطدام بالسوريين، ريثما يُطَهَّر الشريط الساحلي من القوات الفلسطينية.
(2) عدم دفع سورية إلى استنفار كامل قوّتها، خشية جر إسرائيل إلى حرب، قد تشمل مرتفعات الجولان.
(3) حصر المعركة، ضد سورية، في لبنان، وجعل الضربة العسكرية ضد قواتها رادعة.
(4) عدم زعزعة الإجماع الداخلي، إذ توجد قوى سياسية إسرائيلية فاعلة، تتحفظ من الاصطدام بسورية.
وكان واضحاً للعديد من الخبراء الإسرائيليين، منذ اللحظة، التي قررت فيها القيادة الإسرائيلية العليا، إصدار أوامرها إلى الجيش بالتوغل إلى مسافة 40كم داخل لبنان ـ أنه لا بدّ من حدوث احتكاك قتالي، فعلي، مع القوات البرية السورية، المنتشرة في أعالي نهر الليطاني، وفي القطاعات الجبلية، على جانبَي سهل البقاع؛ إذ إن الخط الأحمر للوجود السوري، في هذا القطاع، يقع على بعد 20كم من حدود إسرائيل الشمالية. ودلت قوة المدرعات، والقوة الجوية، اللتان استخدمهما الجيش الإسرائيلي، في سهل البقاع، والجبل وفي الجنوب اللبناني، على أن القيادة العليا، قدّرت، منذ البداية، أنه ستقع، فعلاً، مواجهة برية ـ جوية مع السوريين، مما أتاح لشارون، أن ينفذ خطوات مرحلية، مهدت، ميدانياً، للمعركة الحاسمة في حرب الصواريخ السورية وتأخير المواجهة، مع قضم المواقع المهمة شيئاً فشيئاً. ففي المرحلة التالية (7 يونيه)، أبلغ شارون الحكومة أنه من أجل تجنّب المواجهة المباشرة مع السوريين في منطقة البقاع، فإن علية أن يطوقهم. فاستجابت الحكومة. ومن ثم، فتح شارون محور جزين ـ عاليه. وفي المرحلة الرابعة (8 يونيه)، طلب شارون موافقة الحكومة على الاقتراب من محور دمشق ـ بيروت لتحسين عملية التطويق. وبعد وقت قصير، فتح محور الدامور ـ عين زحلتا لتسهيل الوصول إلى طريق بيروت ـ دمشق. وفي المرحلة الخامسة (9 يونيه)، طلب شارون أن تجيز الحكومة استخدام السلاح الجوي ضد الصواريخ السورية والمدافع المضادة للطائرات. وبعد ذلك، حصل على موافقة لشن هجوم مدرع على التجمع السوري في البقاع؛ ونفذت العملية من الجنوب، وليس بالقوات، التي أُرسلت لتطويق السوريين.





[1] يبدو أن التغير في الموقف الأمريكي من الدور السوري في لبنان، كان عنصراً رئيسياً، إذ قال شامير لإحدى لجان الكنيست: إن الإدارة الأمريكية كانت في السابق تَعُدّ سورية عاملاً من عوامل الاعتدال والاستقرار في لبنان. ولكنها، الآن، تعيد النظر في هذا التقويم، بسبب وجود 10 آلاف مستشار سوفيتي في سورية

[2] السوريون والفلسطينيون من جانب، وقوات `الكتائب` المسيحية، على الجانب الآخر

[3] يُشكل اللواء المدرع الإسرائيلي من 110 دبابات

[4] عقد مؤتمر القمة العربي السداسي، في الرياض، في الفترة من 16 إلى 18 أكتوبر. وقد قرر المؤتمر تعزيز قوات الأمن العربية الحالية، لتصبح قوة ردع، تعمل داخل لبنان، بأمر رئيس الجمهورية اللبنانية شخصياً، على أن تكون في حدود ثلاثين ألف جندي، ويكون من مهامها، فرض الالتزام بوقف إطلاق النار، حفظ الأمن الداخلي، مساعدة السلطة اللبنانية، عند الاقتضاء، على استلام المرافق والمؤسسات العامة
 
التعديل الأخير:
المبحث الثالث


المرحلة التحضيرية والأولى من 4 ـ 8 يونيه 1982

بدأت إسرائيل تنفيذ مراحل الغزو، مع تعديل مخططها، الذي اشتمل على أربع مراحل، ليصبح خمس مراحل لسير أعمال القتال، التي بدأت في 4 يونيه 1982. واتسمت كل مرحلة بطابع عسكري مميز، وكذلك طابع سياسي، برز من خلال ردود فعل الأطراف المعنية بالأزمة، على المستويين، الدولي والإقليمي. كما ظهر، خلال القتال، التعاون الواضح بين إسرائيل وقوات "الكتائب". وكان المتضرر الوحيد من هذه الحرب، هو الشعب اللبناني، الذي فقد الكثير من أبنائه، ودُمّرت مدنه وقراه.
أولاً: المرحلة التحضيرية، القصف الجوي (4 ـ 5 يونيه 1982)
بدأت القوات الإسرائيلية بتوجيه الهجمات الجوية، في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الرابع من يونيه، ضد مناطق التجميع الفلسطينية، ومواقع عناصر المقاومة.
وفي الصباح الباكر من اليوم التالي، الخامس من يونيه، بدأت الطائرات الإسرائيلية في قصف مواقع الفدائيين الفلسطينيين، على امتداد وسط وجنوبي لبنان، واستمرت الغارات حتى الساعة الثانية عشر والربع، وهي تُعَدّ من أعنف الغارات التي شنتها القوات الإسرائيلية ضد لبنان، منذ عام 1948. وتمكنت وسائل الدفاع الجوي الفلسطينية و"الحركة الوطنية اللبنانية" من إسقاط طائرتين إسرائيليتين، بينما كانت خسائر المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية حوالي 130 قتيلاً و250 جريحاً. أمّا المصادر الإسرائيلية، فتذكر أن عمليات القصف الجوي، خلفت وراءها 150 قتيلاً من المدنيين والفلسطينيين
وأعلنت "الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين" أن الطائرات الإسرائيلية المغيرة، ألقت بقنابل عنقودية على منطقة عرمون، مما أدى إلى زيادة حجم الخسائر الفلسطينية.
ثانياً: المرحلة الأولى، اقتحام جنوبي لبنان (6 ـ 8 يونيه 1982)
1. أعمال القتال، يوم 6 يونيه، وردود الفعل
أ. الجانب الإسرائيلي
بدأ الغزو البري الإسرائيلي للجنوب اللبناني صباح يوم السادس من يونيه، عندما اقتحمت القوات البرية الإسرائيلية جنوبي لبنان، تحت ستار من نيران القاذفات المقاتلة والزوارق البحرية، وبمساندة من نيران دبابات ومدفعية القوات المهاجمة. وقد تقدمت المفارز المدرعة والمشاة الآلية، في السادسة من صباح يوم 6 يونيه، عابرة حدود إسرائيل الشمالية، في المنطقة التي تسيطر عليها الميليشيات المنفصلة عن الحكومة اللبنانية، في الجنوب اللبناني، والتي يقودها المنشق، الرائد، سعد حداد.
واخترقت القوات الإسرائيلية، أثناء تقدمها مواقع قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وسجل المراقبون الدوليون أن إسرائيل، هي التي بدأت إطلاق النيران، وهي التي اخترقت الحدود.
وفي الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، وعلى الرغم من صدور قرار مجلس الأمن الرقم (508)، بتاريخ 5 يونيه 1982، بإعلان الوقف الفوري لإطلاق النار في لبنان، اخترقت الأراضي اللبنانية ثلاث ألوية إسرائيلية، معززة بالدبابات وناقلات الجند من ستة محاور في القطـاعات، الشرقي والأوسط والغربي، على جبهة عرضـها 90 كم من شبعا شرقاً حتى صور غرباً، وسط مقاومة عنيفة من القوات المشتركة (الفلسطينية والعناصر الوطنية اللبنانية). وحاولت القوات الإسرائيلية الحـد من مقاومة هذه القوات بغارات جوية عنيفة، وقصف مدفعي وصاروخي مستمر، شمل معظم قرى الجنوب والطرق، لشل الإمدادات. ووصلت حتى شاطئ الدامور والرميلة ومصفاة الزهراني، الذي اندلعت فيها النيران. وتركز القتال مع "القوات المشتركة" في محيط مدينة صور، لمنع تطويقها، مع تنفيذ عمليات إنزال بحري إسرائيلي في رأس العين والبرج الشمالي والقاسمية. وتقدمت القوات الإسرائيلية على المحاور التالية:
(1) محور الرشيدية ـ صور.
(2) محور عباسية ـ معشوق.
(3) محور جسر القاسمية.
(4) محور القعقعية ـ النبطية، حيث قُسِّم إلى محورين فرعيين: الأول شرق النبطية والآخر غربها.
(5) محور الخردلي ـ سهل الباروك.
كما ذكر مراسل الإذاعة الإسرائيلية، أنه في تمام الساعة السابعة وخمس وأربعين دقيقة، واصلت القوات الإسرائيلية قصفها براً وبحراً لمدينة صور، وأنها نجحت في تنفيذ عمليات إنزال بحري، في بلدتَي عدلون والأنصارية. وفي الساعة التاسعة والثلث (سعت 2120) مساء يوم 6 يونيه، كثفت القوات الإسرائيلية هجماتها على محاور القتال الستة، تحت دعم من نـيران المدفعية والصواريخ، وإسناد جوي من الطائرات المقاتلة والطائرات العمودية الهجومية، المزودة بالصواريخ. ونجحت القوات الإسرائيلية، في حوالي الساعة العاشرة مساء (سعت 2200)، من تنفيذ إنزال جوي، بين الشواكير والرشيدية.
ب. الموقف في مجلس الأمن
في ضوء تطور الأحداث، وعدم تنفيذ إسرائيل للقرار الرقم 508، الصادر عن مجلس الأمن، في 5 يونيه 1982، قدم الأمين العام للأمم المتحدة تقريراً، في شأن الوضع في الشرق الأوسط، إلى مجلس الأمن، في 6 يونيه 1982.
وكانت المجموعة العربية قد تقدمت، في 6 يونيه 1982، بمشروع قرار أولي إلى رئيس مجلس الأمن، إلاّ أن هذا المشروع سرعان ما اصطدم بتحفظات من أعضاء آخرين.
ج. القوات المشتركة" اللبنانية والفلسطينية
صمدت القوات المشتركة للهجوم الإسرائيلي الشامل، وقاتلت بضراوة على كل المحاور، مما أدى إلى إعاقة تقدم القوات الإسرائيلية، وأوقع في صفوفها العديد من الخسائر. أُسقطت لها طائرتَي سكاي هوك، وطائرتين عموديتين
وأعلنت وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) في بيروت، أن المقاومة دمرت ثلاث دبابات إسرائيلية، بين الرشيدية ورأس العين، في الساعة الثانية والربع. كما دمرت سبع دبابات أخرى وناقلة جند على محور البرج الشمالي. وذكرت "وفا" أنه في الساعة الثالثة والثلث (سعت 1520) بعد ظهر يوم 6 يونيه، شددت القوات الإسرائيلية هجماتها المدرعـة، تعززها الطائرات المقاتلة، على جميع المحاور. كما أتمت عمـلية إنزال بحري ناجح في منطقة الزهراني، حاولت القوات الإسرائيلية على محور الخردلي في اتجاه دمشقية، تطويق مدينة النبطية. واستطاعت قوات المقاومـة إسقاط طائرة عمودية فوق النبطية. وفي الساعة الخامسة (سعت 1700) بعد ظهر يوم 6 يونيه، أذاعت وكالة "وفـا" تدمير 12 دبابة و18 آلية مدرعة على كل محاور القتال، إضافة إلى 11 دبابة كان قد دُمرت في الساعات السابقة. وأكدت "وفا" أن المقاومة أحبطت هجمات الإسرائيليين على جسر القاسمية، وصور، والرشيدية، والنبطية، والبرج الشـمالي.
د. العمليات النفسية الإسرائيلية ضد سكّان الجنوب
شنّ الجيش الإسرائيلي عمليات نفسية، منذ اليوم الأول للقتال، فأصدر عدة بيانات إلى سكان الجنوب، بثتها الإذاعة الإسرائيلية، جاء فيها:
(1) البيان الأول:
"إن جيش الاحتلال الإسرائيلي، اضطُر إلى دخول جنوب لبنان، كي يزيل الكابوس، الذي يُخيّم على السكان، ويعيد الأمن والطمأنينة، إلى ما كانا عليه في السابق. إن هدف جيش الاحتلال الإسرائيلي هو القضاء على أوكار المخربين فقط، مع بذل كل الجهود لعدم تعرض المواطنين العزّل لأي أذى. ومن أجل مصلحتكم والمحافظة على سلامتكم، التزموا الهدوء والسكينة".
(2) البيان الثاني:
"لضمان سلامتكم وسلامة أقربائكم، والحفاظ على أرواحكم وممتلكاتكم، اتبعوا بدقة ما يلي: امنعوا العناصر المسلحة من استعمال أحيائكم وبيوتكم، مراكزاً لإدارة قتال، عديم الجدوى. لازموا دوركم، ولا تغادروها. علقوا على الشرفات قطعة من القماش الأبيض، لكي يمكن رؤيتها وتميزها من بُعْد".
(3) البيان الثالث:
"حاولوا إقناع المخربين، الموجودين في منطقتكم، بالتخلي عن أسلحتهم، في أقرب وقت ممكن، وعدم الاختباء وراء ظهوركم. امنعوهم من أن يكونوا السبب في إزهاق أرواحكم وأرواح أبنائكم وأقربائكم الأبرياء. الرجاء عدم مغادرة بيوتكم أو قراكم، لأن الطرق معرضة للقصف".
وحتى الساعة الثانية عشرة والثلث (سعت 1230) بعد ظهر السادس من يونيه، استمر القتال بين القوات المشتركة والقوات الإسرائيلية في مدينة صور وضواحيها، وفي هضبة النبطية، وداخل شوارعها. ونتج من ذلك تدمير عدد من الدبابات الإسرائيلية.
هـ. ردود الفعل، الدولية والعربية
(1) ردود الفعل الدولية
على الصعيد الدولي، ذكر وزير الخارجية الأمريكي ألكسندر هيج، أن إسرائيل رفضت دعوة أمريكية للانسحاب من لبنان. بينما أعلن الرئيس الدَّوري للمجلس الأوروبي، ليوتندمانس، أن المجلس قد يعقد اجتماعاً طارئاً، لبحث الموقف في لبنان.
ونشرت وكالة "تاس TASS "السوفيتية مقالاً، اتهمت فيه كلاًّ من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بشن الحرب الخامسة على العرب، في إطار اتفاقات ثنائية، سرية، أمريكية ـ إسرائيلية.
وفي باريس، أصدرت وزارة العلاقات الخارجية بياناً، يدين، بشدة، الاعتداء الإسرائيلي على لبنان، ويعلن أن فرنسا تستنكر، بشدة، قصف الطائرات الإسرائيلية لأراضي لبنان.
وانتقدت صحيفة "يوركشير بوست Yorkshire Post "البريطانية، بشدة، رئيس الوزراء الإسرائيلي، لعدم إظهاره قدراً كافياً من الاهتمام بالمحافظة على وقف إطلاق النار، الذي رتبه المبعوث فيليب حبيب بيـن الإسرائيليين والفلسطينيين. وقالت الصحيفة إن إسرائيل لم تستطع مقاومة تسديد ضربات انتقامية ضد المخربين، على الرغم من أن فيليب حبيب يوشك أن يبدأ مهمته الجديدة في الشرق الأوسط.
(2) ردود الفعل العربية
أبلغت المملكة العربية السعودية منظمة التحرير الفلسطينية، أن الملك خالداً، بعث برسائل عاجلة إلى الرئيسين، الأمريكي رونالد ريجان والفرنسي فرانسوا ميتران Francois Maurice Marie Mitterrand، ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر Margaret Thatcher ، وإلى زعماء الدول، العربية والإسلامية، دعاهم فيها إلى الاضطلاع بمسؤولياتهم تجاه الهجمة غير الإنسانية، التي يتعرض لها الشعبان، اللبناني والفلسطيني. وفي مصر، أبلغ مجلس الوزراء المصـري إسرائيل احتجاجه، الشديد، على العدوان، من طريق السفير المصري لدى إسرائيل.
وقدم لبنان شكوى إلى مجلس الأمن،

ورسالة ملحقة بها، تطلب اجتماعاً عاجلاً، نظراً إلى تفاقم الوضع.

وتساءلت ليبيا، في تعليق لها، عن سبب عدم تدخل سورية أو اشتراكها في المعركة إلى جانب القوات المشتركة، على الرغم مما تملكه، من إمكانيات تكنولوجية وعسكرية كافية لمواجهة القوات الإسرائيلية. وبعث عرفات رسائل عاجلة إلى الرئيس السوفيتي ليونيد بريجينيف Leonid Llich Brezhnev ، وإلى كل من الملك خالد، عاهل المملكة العربية السعودية، والرئيس الدَّوري لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والرئيس دانيال آراب موي Daniel arap Moi ، الرئيس الدَّوري لمنظمة الوحدة الأفريقية، والشاذلي القليبي، الأمين العام لجامعة الدول العربية، شرح فيها الوضع، وطلب التحرك العاجل لإيقاف العدوان.
2. أعمال القتال، يوم 7 يونيه، واحتلال الجنوب
وفي يوم 7 يونيه، أغارت الطائرات الإسرائيلية على بيروت، مُركِّزة قصفها على جامعة بيروت العربية. واصطدمت الطائرات المغيرة بطائرات سورية مقاتلة، اشتبكت معها. وأسفر القتال الجوي عن سقوط طائرة سورية، تحطمت في أحراج العربانية. كما أغار الطيران الإسرائيلي ليلاً على العاصمة اللبنانية، وأُغلق مطار بيروت الدولي.
وفي إطار العمليات البرية، شارك الجيش اللبناني فـي التصدي لهجوم القوات الإسرائيلية، على محـور (بيصور ـ عين المير) في قضاء جزين. كما أعاقت تقدمها في منطقة كفرفالوس. ونتج من ذلك جرح 3 عسكريين من الجيش اللبناني[1].
كما نفّذت القوات الإسرائيلية أضخم عملية إنزال بحري في تاريخها حين أُنزلت أعداد كبيرة من الدبابات، في نقاط حاكمة، على الطريق الساحلية، خاصة في منطقة صور ـ جسر الأولي، شمال صيدا ـ الرميلة. وساند عملية الإنزال بعدد أربعة أسرابF-15،F-16، إضافة إلى عشرات الطائرات العمودية الهجومية، مع تنفيذ عمليات إبرار جوي. كما قصف الطيران الإسرائيلي المنطقة الممتدة من صيدا والدامور قصفاً كثيفاً.
واتضح من أعمال قتال هذا اليوم، أن القوات الإسرائيلية، كعادتها، تحاول سبق الزمن، إذ تقوم باندفاعات سريعة بالدبابات على بعض الطرق، يصاحبها إنزالات بحرية مختلفة بالدبابات، في محاولة للإيهام باحتلال مساحات واسعة من الأراضي، بينما كانت الحقيقة أن العديد من المواقع لا تزال تقاتل ببسالة، في مخيم البرج الشمالي ومخيمَي الرشيدية والبص، بالقرب من مدينة صور. وكذلك كان الحال في مدينة صور نفسها، والنبطية والتلال المحيطة بها في مرتفعات علي الطاهر والشقيف وإقليم التفاح وحاصبيا والحاصباني وغيرها، على امتداد عمق الجبهة. وكان الجانب الإسرائيلي قد تكبد، ما يقرب من 400 قتيل وجريح، ودُمِّر له نحو خمسين دبابة و40 ناقلة جند، إضافة إلى إسقاط خمس طائرات مقاتلة وعمودية.
3. أعمال القتال على المحاور المختلفة، بعد ظهر يوم 7 يونيه
بعد ظهر يوم 7 يونيه، دارت معركة عنيفة مع القوات الإسرائيلية، المتقدمة في اتجاه الجيَّة، من منطقة جسر الأولي.وعندما حاولت العناصر الآلية الإسرائيلية، التي تم إنزالها في منطقة جسر الأولي، التقدم في اتجاه الجيَّة، واشتبكت القوات المشتركة معها ودمرت لها ثلاثاً من آلياتها المدرعة. كما نجحت عناصر الدفاع الجوي في تدمير طائرة عمودية، تحمل آلية مدرعة، أثناء محاولة إنزالها أمام القلعة البحرية في مدينة صيدا. فضلاً عن فشل المحاولات الإسرائيلية لإنزال آليات برمائية في منطقة الاستراحة في صور، وإجبارها على الانسحاب حتى منطقة رأس العين.
وفي القطاع الأوسط: استمرت محاولات القوات الإسرائيلية للسيطرة على مخيم البرج الشمالي، من خلال أربع هجمات متتالية، بقوة كتيبة مشاة آلية، ولكنها لم تحقق سوى نجاحات طفيفة.
وفي منطقة الزهراني، تمكنت القوات الإسرائيلية، في مساء يوم 7 يونيه، من إنزال قوات محمولة جواً، ومعها بعض الآليات، وبمعاونة الطائرات العمودية المسلحة بالصواريخ. وتقدمت القوة إلي مثلث الزهراني، ثم في اتجاه الغازيَّة. ونجحت القوات المشتركة في إيقاف اندفاع القوات الإسرائيلية على محور زحلة ـ ميماس، وردتها على أعقابها.
وفي المحور الساحلي: ومنذ الساعة الثامنة مساء (سعت 2000)، حاولت القوات الإسرائيلية التقدم إلي صيدا، حيث نجحت القوات المشتركة في إيقاف تقدمها عند رأس السعديات[2]. وفي صور، اسـتمر القتال، بشدة، على أطراف المدينة. وقامت القوات الإسرائيلية بأربعة محاولات للتقدم تجاهها، حيث تمكنت القوات المشتركة من صدّها، ودمرت تسع دبابات.
سقوط قلعة الشقيف[3]:
يقول المقدم زوف، قائد الحملة الإسرائيلية التي احتلت قلعة الشقيف: "لقد تلقيت أمراً من قائد اللواء، الجنرال يكوتئيل آدام"[4]، في حوالي الخامسة (سعت 1700) من مساء يوم الأحد 7 يونيه، بمهاجمة قلعة الشقيف، وتطهيرها من القوات الفلسطينية المتمركزة فيها. وأُبلغتُ بأن عليّ أن استوليّ على الحصن من أيدي الفلسطينيين المرابطين فيه. وكان تحت قيادتي 9 دبابات و17 ناقلة جند مدرعة. وفي الساعة السابعة والنصف (سعت 1930)، كنت مع قواتي على بعد عشرات الأمتار فقط من الحصن، دون أن نواجه أي مقاومة. ونزل العديد من الجنود من مدرعاتهم، واقتربوا مني. وبينما كنت أرد على استفسارات الجنود، استعداداً لاقتحام الحصن، فُتحت علينا النيران من كل جانب. لقد أمطرونا بالقذائف الصاروخية والبازوكا، وتعالى الصراخ والصياح بين الجنود. لقد قُتل، في الحال، جميع الجنود، الذين كانوا خارج دباباتهم ومدرعاتهم. وأخذت أصرخ بالجنود للتقهقر إلى الخلف، لإعادة التنظيم والانتشار. لم يكن هناك أي مجال للنجاة، لقد وقعنا في المصيدة. استمر تبادل إطلاق النيران بيننا وبينهم حتى العاشرة ليلاً (سعت 2200). وفي تلك الأثناء، وصلتنا تعزيزات كبيرة، وتم إخلاء القتلى والجرحى، ولم يبقَ من قواتي (90 جندياً، 7 ضباط) سوى سبعة جنود فقط. كما دُمِّرت الدبابات والآليات المدرعة. كان عدد الفلسطينيين 33 فرداً "من قوات فتح". ولم نأسر أي فرد منهم، لأنهم قاتلوا حتى الموت، ولم يستسلم أحد. لقد دهشت من ضراوة مقاومة هؤلاء الفلسطينيين. إننا لم نحسن تقدير قوتهم الحقيقية".
4. الموقف العسكري في نهاية يوم 7 يونيه
في القطاع الأوسط: وصلت القوات الإسرائيلية إلى صرفند، على مسافة 15 كم شـمال شرق النبطية. وبذلك أصبحت لا تبعد أكثر من ثلاثة كيلومترات عن عيشية، حيث توجد عناصر متقدمة سورية تعمل كمفارز للقوات السورية.
في القطاع الشرقي: وصلت القوات الإسرائيلية إلى بلدة كاليا، على مسافة 25 كم شمال الجليل (أصبع)، وخمس كيلومترات شمال غرب حسبية، وهي آخر موقع للسوريين في الطرف الجنوبي لسهل البقاع. كما سقطت مدينة حاصبيا في أيدي القوات الإسرائيلية.
وعلى الساحل: تقدمت القوات الإسرائيلية، حتى صارت في اتجاه الجسر القديم على نهر الأولى، شمال مدينة صيدا.
بعد 7 يونيه 1982، وضح أن أهداف الحرب، أصبحت لا تقتصر على إبعاد نيران الفلسطينيين عن مستعمرات الشمال، بل تجاوزته إلى:
· إخلاء الجنوب اللبناني من الفلسطينيين.
· تدمير بِنية منظمة التحرير الفلسطينية العسكرية، في كل أنحاء لبنان.
· إخراج القوات الأجنبية، وتحديداً السورية، من لبنان.
· إيجاد نظام سياسي جديد، أكثر مرونة، في لبنان.
5. ردود الفعل، الدولية والإقليمية
أ. الموقف الدولي
عاد مجلس الأمن للاجتماع، وأصدر القرار الرقم (509)، في 6 يونيه 1982[5]، الذي يؤكد فيه وحدة أراضي لبنان وسيادته واستقلاله السياسي، داخل حدوده، المعترف بها دوليا، ويطلب من إسرائيل سحب قواتها العسكرية فوراً، ومن دون شروط، إلى الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، تميز الموقف بالهدوء، حيث صرح وزير الخارجية، ألكسندر هيج، أن الرئيس ريجان لا يزال يدرس الغزو الإسرائيلي للبنان، لتحديد ما إذا كان الغزو دفاعاً مشروعاً عن النفس.
وفي إيطاليا، قال الرئيس الإيطالي، برتيني Alessandro Pertini ، خلال مأدبة أعدها للرئيس الأمريكي، "إن إيطاليا تدين الهجوم على السفير الإسرائيلي شلومو أرجوف، في لندن، غير أنه ليس من الممكن تطبيق قانون قَبَلي متوحش، ضد شعب، بأسره".
وأعربت أسبانيا وقبرص واليونان وألمانيا والنرويج عن إدانتها للعدوان الإسرائيلي على لبنان.
كما أعلن وزير خارجية بلجيكا لسفير لبنان إلى الأمم المتحدة، أن الجماعة الأوروبية، ستجتمع، بناءً على طلب اليونان، لتطالب بدور مباشر، وفعال، في معالجة الأزمة.
أمّا بريطانيا، فقد التزمت بتوجهات الجماعة الأوروبية، المتعاطفة مع احترام استقلال لبنان وسيادته، وانتهاج سياسة التوازن، في التعامل مع قرارات مجلس الأمن الخاصة بالجنوب.

ب. الموقف العربي
في جدة، أصدرت سبع دول إسلامية ومنظمة التحرير الفلسطينية بياناً، أدانت فيه الاعتداء الإسرائيلي على لبنان، ودعت إلى ممارسة المزيد من الضغوط، لإجبار إسرائيل الانسحاب وقبول وقف إطلاق النار.
وفي مصر، أعلنت الحكومة المصرية أنها ستبادر إلى اتخاذ خطوات عدة، في سبيل تحجيم العدوان الإسرائيلي. وبادر المندوب المصري في الأمم المتحدة، إلى الاتصال بالسفير اللبناني، وأبلغه رسالة من وزير الخارجية المصري، تتضمن الموقف الرسمي للحكومة المصرية،
وتلقي الضوء على التحرك المصري، على المستويَين، المحلي والدولي. وطلب نقل الرسالة إلى بيروت.
وفي الأردن، أعلن مُضر بدران، رئيس الوزراء الأردني، آنذاك، أن الحكومة الأردنية ستضع التسهيلات اللازمة، لتأمين الأردنيين الراغبين في التطوع للقتال، إلى جانب إخوتهم، في منظمة التحرير الفلسطينية.
ج. الموقف الإسرائيلي
أعلنت إسرائيل، بعد اجتماع رئيس وزرائها مع المبعوث الأمريكي في الشرق الأوسط، فيليب حبيب، أن الحكومة الإسرائيلية أبلغت حبيباً، أن الوضع لا يمكن حله من طريق وقف إطلاق النار، وأن إسرائيل ترفض العودة إلى الوضع السابق.
6. أعمال القتال، يوم 8 يونيه، واحتلال الشوف، وقطع طريق بيروت ـ دمشق
تمكنت القوات الإسرائيلية، قبل ظهر يوم 8 يونيه، من احتلال منطقة الشوف الأعـلى. وتقدمت على محورين، حيث تمكنت من احتلال مرج بعقلين، والمختارة، وبيت الدين، والمعاصر، وكفرينرخ، وبتلون، ومزرعة الشوف، ووصلت إلى الباروك، ثم استطاعت اجتياح الشوف الأعلى. واستمرت العمليات العسكرية على ساحل الشوف، من خلدة حتى السعديات، التي أنزل فيها الإسرائيليون وحدات من رجال الكوماندوز معززة بالآليات. وتعرض الإسرائيليون، في هذه الأماكن، لهجمات عدة، شنتها "القوات المشتركة"، الأمر الذي دفعهم إلى الاستعانة بالطائرات والزوارق، التي قصفت المنطقة الساحلية. كما حدثت عدة اشتباكات بين الطائرات السورية والطائرات الإسرائيلية، سقط فيها عدد من طائرات الطرفين، داخل الأراضي اللبنانية.
وخلال الليل، قامت إسرائيل بعملية إنزال بحري على مشارف الدامور. أمّا بالنسبة إلى مدينة صور، فقد أعلن تيمور جوكسيل، المتحدث باسم قوة الطوارئ الدولية، في لبنان، أن صور تحترق، وأنها خلت من سكانها، بعد أن أحكم الإسرائيليون سيطرتهم عليها. وأضاف أنه يوجد عدد قليل من الوحدات الإسرائيلية في هذه المدينة، تركها الجيش الإسرائيلي خلفه، قبل أن يتجه نحو صيدا والدامور.
وفي صيدا، تمكن الإسرائيليون من تطويق المدينة، وعزلها عن بقية المناطق. ودارت عدة اشتباكات داخل المدينة، وحول تلالها. وتمكنت القوات الفلسطينية من صد هجوم إسرائيلي على مخيم عين الحلوة، على مشارف صيدا .
وفي جبل الشوف، جنوب شرق بيروت، توغلت المدرعات الإسرائيلية، في حركة دائرية، نحو منطقة إقليم الخروب والدامور، حيث تحتشد القوات الفلسطينية والمتقدمة، على مسافة 17 كم جنوب بيروت على الساحل. كما قصفت المدفعية الإسرائيلية القرى اللبنانية شرق الطريق، ولا سيما المختارة وبيت الدين. وكان هذا الزحف الإسرائيلي في جبل الشوف، يهدف إلى تطويق منطقة الدامور من جهتَي الجبل والبحر، إذ ترابط قوات إسرائيلية أخرى على الساحل من صيدا إلى السعديات (21 كم جنوب بيروت، على مسافة 5 كم من الدامور).
وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية: "أن القـوات السورية في منطقة جزين، في القطاع المتقدم لقوة الردع العربية ـ وسط الجنوب اللبناني ـ تقهقرت صوب بلدة مشغرة، عند مدخل وادي البقاع، التي تبعد عشرة كم شرقي جزين. وكانت جزين ـ 35 كم شرق صيدا ـ قد تعرضت لقصف المدرعات الإسرائيلية، التي تقدمت من منطقة صيدا صوبها، حيث جرت الاشتباكات الجوية والبرية بينها وبين القوات السورية". وقالت وكالة الأنباء الفرنسية: "إن الجنود السوريين، الذين كانـوا يدافعون عن جزين، انسحبوا بعد قصف جوي مكثف، دام أكثر من ساعة، إلى سهل البقاع وجبل الشوف[6]، وإن الإسرائيليين وصلوا إلى مشارف المدينة، ثم مروا بطريق الجبل المؤدي إلى إقليم الخروب، حيث ترابط حشود ضخمة من القوات الفلسطينية واللبنانية المشتركة".
أمّا المتحدث العسكري السوري، فقد ذكر: "أن القوات السورية المرابطة في بلدة جزين والمناطق المحيطة بها، قد اشتبكت في معارك عنيفة مع القوات الإسرائيلية الموجودة في موقعين، شمالي غربها وجنوبي غربها، في بلدة روم، على مسافة 6 كم من جزين". وأعلن المتحدث عن وقوع معركة جوية فوق جزين، حيث "تصدت وسـائل الدفاع الجوي السوري للمقاتلات الإسرائيلية المهاجمة في جزين، وأسقطت إحداها غربي البلدة. وتدخـل الطيران السوري، لمنع المقاتلات الإسرائيلية من قصف هذه المناطق. وقد أُسقطت طائرة إسرائيلية، وأُصيبت طائرتان سوريتان".
وفي بلدة كترمايا ـ الشوف، سقط مائة ضحية لبنانية، بين قتيل وجريح، من المدنيين، حيث وقعت مجزرة رهيبة، نتيجة إغارة الطائرات الإسرائيلية على جامع كترمايا، والحي السكني المحيط به، حين كان أهالي البلدة مجتمعين في الجامع لتأدية واجب العزاء. ولم يتمكن أحد من إنقاذ من بقي حياً تحت أنقاض المنازل المهدمة، بسبب استمرار الغارة الإسرائيلية لمدة ساعتين متواصلتين.
واعترفت البيانات العسكرية الإسرائيلية بمصرع 25 جندياً إسرائيلياً، وجرح 96 آخرين وأسر جندي واحـد. في الوقت الذي أصبحت فيه صور، وصيدا، والدامور، والطرق التي تربط الدامور بالشوف، وصيدا ببيروت، وصور بصيدا، وأطراف خلدة، والناعمة، متفرقة ومتباعدة، لقطع أوصال مناطق الجنوب اللبناني بعضها عن بعض.
وبنهاية هذه المرحلة، أصبح معظم الجنوب اللبناني في أيدي القوات الإسرائيلية، وسقطت الدامور، أهم معقل للمقاومة الفلسطينية. كما دفعت إسرائيل بنحو 15 ألف جندي إضافي إلى الجبهة، من أجل تطوير الهجوم.
7. ردود الفعل، العربية والدولية، بعد الأيام الثلاثة الأولى للقتال
أ. ردود الفعل العربية
(1) المملكة العربية السعودية:
دعا الملك خالد بن عبدالعزيز الدول الإسلامية إلى توحيد صفوفها، وحشد طاقاتها لمواجهة إسرائيل. ووصف، في بيان أصدره، بصفته الرئيس الحالي ـ آنذاك ـ لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الوضع بأنه "يمثل مرحلة جديدة من مراحل حرب الإبادة، لتحقيق أهداف إسرائيل في اغتصاب أجزاء من أراضي الأمة الإسلامية، وتكريس استعمارها الاستيطاني للأراضي العربية والمقدسات الإسلامية".
(2) مصر: بعث الرئيس المصري محمد حسني مبارك برسالة عاجلة إلى الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، يدعوه فيها "لموقف أمريكي حازم"، وطالب الولايات المتحدة الأمريكية بالضغط على إسرائيل لقبول قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار في لبنان، والقيام بمسعى شامل، لتأمين انسحاب القوات الإسرائيلية، من الأراضي اللبنانية.
(3) الكويت : طالب رئيس الوزراء، سعد العبدالله الصباح، بعقد اجتماع عاجل لوزراء الخارجية العرب، لبحث عملية الغزو الإسرائيلي لجنوبي لبنان.
ب. ردود الفعل الدولية
تواصلت حملات التنديد ـ قولاً فقط ـ ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان، والدعوة إلى الانسحاب الفوري، من دون اتخاذ مواقف جادة، من أجل الضغط على كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
(1) الموقف الأمريكي:
فقد ظهر واضحاً من خلال خطاب الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، أمام مجلسَي العموم واللوردات البريطانيين في لندن، حيث أكد أن الانسحاب الإسرائيلي من لبنان أمر غير كاف، وأن العمل المطلوب هو القضاء على الإرهاب وخطره. في حين أعلن وزير الخارجية الأمريكي في مؤتمر صحفي بلندن، أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى تقليص الوجود السوري في لبنان.
(2) موقف الأمم المتحدة:
انعقد مجلس الأمن في جلسة طارئة، دعا إليها المندوب اللبناني، السفير غسان تويني، لبحث الموقف في لبنان، بعدما رفضت إسرائيل الانسحاب ووقف النار، مشترطة ترتيبات دائمة، تستبعد احتمال تنفيذ الفلسطينيين أعمالاً عدائية ضد مواطنيها.
كما قدم الأمين العام للأمم المتحدة تقريرين، في 8 يونيه 1982، أحدهما في شأن الموقف في لبنان. والآخر يتناول قرار مجلس الأمن، الرقم (509)
كما عرض السفير اللبناني إلى الأمم المتحدة، الموقف أمام مجلس الأمن. وشرح الأحداث داخل لبنان، وعدم تنفيذ إسرائيل القرارَين (508) و(509). كما شرح الموقف، في مؤتمر صحفي في الأمم المتحدة، عقده ظهر اليوم نفسه
وبعد مداولات، استمرت اثنتي عشرة ساعة، في مجلس الأمن، توصل المجلس إلى مشروع قرار معتدل. ولكن سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأمم المتحدة، تلقت تعليمات من الخارجية الأمريكية، فاستخدمت حق النقض (الفيتو).
(3) الموقف السوفيتي:
اتسم الموقف السوفيتي بالصمت، والسلبية المطلقة. وشكل هذا الموقف منعطفاً جديداً في السياسة السوفيتية إزاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وللمرة الأولى، يترك الاتحاد السوفيتي الساحة العربية ـ الإسرائيلية للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، لكي تسوّيا الأوضاع في المنطقة بالشكل المناسب لهما، ويكتفي باتخاذ موقـف الإدانة الخطابية. والجديد في الموقف السوفيتي، هو إسقاطه لجانب من سياسته، وهو الدعم النشيط للموقف العربي. وهذا يمـكن تفسيره في ضوء عدة اعتبارات، منها الموقف السلبي للأمة العربية من الغزو، وكذا النفقات الباهظة للوجود السوفيتي، العسكري والسياسي، في المنطقة العربية، منذ أوائل الخمسينيات. ولا شك أن هذا الموقف السوفيتي السلبي من الغزو الإسرائيلي للبنان، قد أحرج كلاًّ من سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية.


[1] بيان للقوات المشتركة في الجنوب اللبناني، في 6 يونيه 1982

[2] الفكر الإسرائيلي في الهجوم، لا يلجأ إلى مهاجمة المدن بالأنساق الأولى. ولكن يحاصرها بجزء من القوات المهاجمة، ويندفع بالقوات الرئيسية، لتحقيق المهام، إذ يترك المدينة مؤقتاً، تحت ثلاثة احتمالات، إمّا تنسحب القوات المدافعة عنها، ومن ثَم يُستولى على المدينة من دون قتال، أو تنهار المدينة وتستسلم، أو تُهاجَم في ظروف تالية، بعد تليين دفاعاتها، بنيران المدفعية والصواريخ والقصف الجوي

[3] قلعة الشقيف: تقع على الضفة الشمالية لنهر الليطاني. وهي أحد المعاقل الفلسطينية المهمة، ومن الأهداف الرئيسية في الجنوب اللبناني. وتطل القلعة من ارتفاع 700 متر على منعطف نهر الليطاني. ولا تبعد سوى ستة كيلومترات عن المطلة، عاصمة الجليل الأعلى. وكانت هذه القلعة الإستراتيجية، التي بناها الصليبيون، قد صمدت، على مدى سنوات، في مواجَهة الهجمات الجوية وقصف المدفعية الإسرائيلية

[4] قتل على أيدي الفدائيين الفلسطينيين، في الدامور، في 10 يونيه 1982

[5] اجتمع مجلس الأمن لمناقشة القرار الأول المقترح، ثم طرح الوفد الأيرلندي مسودة قرار وافقت عليه البعثتان، الأمريكية والسوفيتية، وبعد مداولات مطولة في المجلس، تم إقرار القرار (509)

[6] ترابط القوات السورية في منطقة جزين ـ الشوف عند الطرف الجنوبي اللبناني. وتقع هذه المنطقة على مسافة 16 كيلومتراً شمال العيشية، وهي من المواقع السورية المهمة
 
التعديل الأخير:
المبحث الرابع


المرحلة الثانية (التقدم نحو بيروت)


(9 ـ 13 يونيه 1982)

أولا: أعمال القتال يوم 9 يونيه، وتصعيد الموقف إزاء سورية
المواجهة السورية ـ الإسرائيلية
أخذت المواجهة السورية ـ الإسرائيلية، التي ظهرت بوادرها بعد اجتياح الشوف الأعلى، بُعداً جديداً، زاد من احتمال تفجّر الموقف، حين قصفت إسرائيل بطاريات الصواريخ السورية (سام ـ 6) في سهل البقاع، بعد معركة جوية عنيفة. وذكرت الإذاعة الإسرائيلية أن 22 طائرة سورية قد أُسقطت.
واستطاعت إسرائيل، من خلال معلومات استطلاع دقيقة، واستخدام تكنولوجيا متقدمة حصلت عليها من الولايات المتحدة، تدمير بطاريات الصواريخ السورية، في سهل البقاع، وبعد سلسلة من التجارب، تمكنت من تنفيذ هذه العملية على مرحلتين:
أ. المرحلة الأولى، عملية الاستطلاع (6 ـ 8 يونيه)
أعدت القوات الإسرائيلية نفسها، خلال هذه المرحـلة، لمهاجمة قواعد وبطاريات الصواريخ (أرض/جو) السورية في سهل البقاع، بعد أن تمكنت من الحصول على جميع البيانات الإلكترونية والرادارية السورية، باستخدام كافة وسائل الاستطلاع المتيسرة لديها، من طائرات الاستطلاع الموجهة بدون طيار، وطائرات الاسـتطلاع الإلكتروني (E2C) والطائراتBoing 707.وتم خلال هذه المرحلة، تحديد الترددات الرئيسية والتبادلية، والمواقع الرئيسية والتبادلية، وكذا جميع أنواع الرادارات المستخدمة في كل بطارية صواريخ. وفي الوقت نفسه، نفذت عملية إبرار جوي في منطقة مرتفعات الباروك، بقوة سرية مشاة مدعمة، تطل على منطقة انتشار الصواريخ السورية بسهل البقاع. (اُنظر شكل بطاريات أرض/جو)
ب. المرحلة الثانية، عملية التدمير (9 ـ 10 يونيه)
وجهت القوات الجوية الإسرائيلية، خلال هذه المرحلة، ضربة جوية منفصلة إلى مواقع الصواريخ السورية في سهل البقاع، يوم 9 يونيه 1982، بالتسلسل التالي:
(1) أعاقت طائرات الاستطلاع والإعاقة الإلكترونية، البوينج (707 )، الشبكات اللاسلكية للإنذار والمراقبة بالنظر.
(2) استطلعت الطائرة (E2C) مواقع الصواريخ السورية والقوات الجوية السورية، واستخدمت في السيطرة على أعمال قتال القوات الجوية الإسرائيلية، عند تنفيذها الضربة الجوية.
(3) حلقت طائرات المشاغلة، شوكار بعد تركيب عواكس رادارية بها، على الحد البعيد لمناطق تدمير بطاريات الصواريخ. وأدى هذا الإجراء إلى تشغيل القوات السورية رادارات الإنذار وقيادة النيران، للتفتيش والاشتباك مع هذه الأهداف.
(4) بعد التأكد، من طريق طائرات الاستطلاع الإلكتروني، وطائرات القيادة والسيطرة، من أماكن مواقع الصواريخ السورية، وتحديد توزيعها بدقة، أُطلقت الصواريخ الموجهة ضد الرادارات. وفي الوقت نفسه، تم قصف بطاريات صواريخ أرض/جو (سام SAM)، بواسطة المدفعية والصواريخ من أعلى جبل الباروك.
(5) بعد إتمام عملية القصف بالصواريخ الموجهة ضد الرادارات السورية، وتحت ستر أعمال الإعاقة الإلكترونية الإيجابية، من طائرات الإعاقة أو المصادر الأرضية، وجهت المجموعة الضاربة من الطائرات الإسرائيلية ضربات جوية إلى مواقـع بطاريات الصواريخ السورية، بمعدل طائرتين إلى 4 طائرات لكل بطارية، لاستكمال تدميرها بواسطة القنابل التقليدية والصواريخ الموجهة، جو/أرض، مع الاسترشاد بنتائج آخر استطلاع إلكتروني للطائرات الموجهة بدون طيار. وتمكن الطيران الإسرائيلي، خلال هذه العملية، من تدمير 18 ـ 19 بطارية صواريخ أرض/جو.
(6) وفي ضوء رد الفعل السوري، الذي دفع نحو 80 طائرة لصدّ الهجمات الجوية الإسرائيلية على مواقع الصواريخ، تعامل الجانب الإسرائيلي معها من خلال كمائن مدبرة من طائرات F-15 ، وF-16، تطير على ارتفاعات منخفضة، مع استخدام طائرة الإنذار المبكر والقيادة والسيطرة (E2C) في كشف وتحديد أعداد الطائرات المهاجمة ونوعيتها[1]. كما استُخدامت طائرات Boing 707 في أعمال الإعاقة اللاسلكية والرادارية على شبكات التوجيه السورية.
(7) واستغلت الطائرات الإسرائيلية F-15 ، وF-16 ، قدراتها في الاشتباك بالصواريخ جو/جو مع الطائرات السورية، من نوع Mig-23 ، من خارج مدى رمي صواريخ الطائرات السورية، واستطاعت تدمير 36 طائرة سورية، خلال هذه المعركة.
(8) أعادت القوات الإسرائيلية الهجمة الجوية على بطاريات الصواريخ السورية، بعد 40 دقيقة من الهجمة الأولى، لإحداث أكبر قدر من الخسائر. كما كررت هجومها يوم 10يونيه فدمرت 4 بطاريات SAM-6 .
وفي الواقع، اتسمت هذه العملية بالاستخدام واسع النطاق للمعدات الإلكترونية الحديثة. (اُنظر شكل تحديد مواقع بطاريات الصواريخ)
ج. استمرار العمليات البرية، يوم 9 يونيه
استمرت العمليات الإسرائيلية في الشوفَين، الأعلى والأوسط، والساحل الممتد من خلدة إلى السعديات، مروراً بالدامور، وفي الجنوب والبقاع الغربي.
في الشوف الأعلى: توقف التقدم الإسرائيلي عند مشارف عين زحلـتا، بعد يوم من التراشق المدفعي مع الدبابات السورية، المتمركزة في منطقة المديرج، ومحاور طريق بيروت ـ دمشق. وأدخلت إلى المنطقة أرتال جديدة من الآليات الإسرائيلية، انتشرت في القرى المحيطة. كما تقدم الإسرائيليون نحو الشوف الأوسط من محورين، ووصلوا إلى شحيم، ومشارف كفرحيم .
أمّا على المحور الساحلي: فقد كثفت إسرائيل عملياتها، البرية والبحرية والجوية. وتمكنت من احتلال الدامور. كما نفذت القوات الإسرائيلية عمليات إبرار بحري في منطقة خلدة، حيث اشـتبكت في معركة ضارية مع القوات الفلسـطينية، التي تمكنت من تدمير 7 دبابات، والاسـتيلاء على ناقلتَي جند إسرائيليتين. واضطرت القوات الإسرائيلية، بعد هذه المعركة، إلى تجميع قواتها في اتجاه تلال الدوحة. وكانت إسرائيل تهدف من وراء ذلك إلى غلق كل المنافذ من بيروت وإليها، استعداداً لحصارها. وأعلنت إذاعة إسرائيل، أن جميع الزعماء والمسؤولين الفلسطينيين، بمن فيهم ياسر عرفات، أصبحوا محاصرين في بيروت.
وفي الجنوب: استمر القتال حول مخيم عين الحلوة قرب مدينة صيدا. ولم تتمكن القوات الإسرائيلية من دخوله، لكنها أحكمت الحصار حول المدينة من جميع الجهات.
وفي القطاع الشرقي: تقدم الإسرائيليون في اتجاه عين عطا في البقاع الغربي. ودارت، ليلاً، معارك بالدبابات والآليات المدرعة، على محور برج الزهور. واضطرت القوات السورية إلى نسف نقطتَي عبور، لمنع تقدم القوات الإسرائيلية في اتجاه البقاع الغربي.
وفي إطار شن الحرب النفسية، تابعت الإذاعة الإسرائيلية بث بيانات قيادة الجيش الإسرائيلي إلى المدنيين والمقاتلين، بهدف القضاء على معنوياتهم. وجاء في بيان موجه إلى مدينة صيدا: "لقد استجاب إخوانكم سكان صور لنداء جيش الاحتلال الإسرائيلي، فأخلوا مدينتهم، ليتركوا المجال مفتوحاً أمـام قواتنا لتطهير المدينة. يا سكان صـيدا، من أجل مصلحتكم، وللمحافظة على سلامتكم، غادروا منطقة الخطر على جناح السرعة. وسيتيح لكم جيش الاحتلال الإسرائيلي إمكان العودة إلى منازلكم بأمن وكرامة، في أقرب وقت".
ثانياً: أعمال القتال يوم 10 يونيه، تدفق الإمدادات الإسرائيلية
1. الموقف العسكري على المحاور المختلفة
دخل الغزو الإسرائيلي للبنان يومه السابع، واتسعت رقعة انتشاره، فأصبح يواجه مزيداً من المقاومة. ووقع بين القوات الإسرائيلية والقوات السورية والقوات المشتركة عدة معارك، على محور البقاع الغربي والشوفَين، الأعلى والأوسط. فيما فشلت محاولات عديدة للإنزال على شاطئ خلدة، مما جعل الإسرائيليين يكثفون غاراتهم الجوية، وقصفهم البحري والبري، في بيروت والجبل والبقاع. كما استمرت المقاومة في الجـنوب، خاصة حول مخيمَي عين الحلوة والمية ومية.
وفي ضوء هذه المقاومة، دفعت القوات الإسرائيلية بإمدادات جديدة، شملت نحو 330 دبابة و280مركبة مدرعة وأعداد كبيرة من المدفعية والهاونات. ويمكن تحديد الموقف على المحاور المختلفة كالآتي:
في بيروت: قصف الطيران الإسرائيلي، منذ الصباح، أحياء المنطقة الغربية، من العاصمة، وضاحيتها الجنوبية. كما قصف المدينة الرياضية، ومنطقة الفاكهاني، ومخيمات صبرا وشاتيلا، وبرج البراجنة، ومحيط مطار بيروت، وصحراء الشويفات ـ خلدة. وأدى هذا القصف إلى وقوع أعداد كبيرة من القتلى والجرحى بين المدنيين.
وعلى الطريق الساحلي: أُحبطت محاولات إنزال إسرائيلية في خلدة، وللمرة الثانيـة، مما جعل الإسرائيليين يقصفون بعنف الخط الساحلي، حتى الناعمة، وعرمون، والدوحة، والدامور.
وفي الشوف الأعلى: تبودل القصف المدفعي بين القوات الإسرائيلية، في منطقة الباروك، والقوات السورية، في المديرج، على طريق بيروت ـ دمشق الدولي، شمل عدة قرى في الشوف، والمتنَين، الأعلى والشمالي، وتخلل القصف معارك جوية. وقصف الإسرائيليون جسر المديرج، بعد قتال ضد المدرعات السورية، المنتشرة حتى ضهر البيدر، وعلى التلال المشرفة على منطقتَي الشوف وعاليه.
وفي الشوف الأوسط: أحبطت القوات المشتركة محاولة تقدم القوات الإسرائيلية من كفرمتى في اتجاه قبرشمون، في قضاء عاليه. ودار قتال عنيف، سقط فيه عدد من القتلى والجرحى من الجانبين. وحاولت القوات الإسرائيلية تحقيق الاتصال بين مواقعها في المنطقة ومواقعها على الساحل، لكنها لم تنجح في ذلك.
وفي البقاع: أغارت الطائرات الإسرائيلية على طريق بعلبك ـ حمص، وقذفت، بصواريخها، قافلة من السيارات المدنية، كانت متوجهة إلى الأراضي السورية. فسـقط 60 قتيلاً و200 جريح، معظمهم نازحون من مناطق القتال.
المنطقة الغربية من بيروت: تمكن الجيش اللبناني من تعزيز مواقـعه في المنطقة الغربية من بيروت وضاحيتها الجنوبية. وأُرسلت وحدات مدرعة إلى الحمام العسكري، وثكنة هنري شهاب، ومطار بيروت، ومحلة المتحف، مقر قيادة منطقة بيروت العسكرية. وأُعطيت هذه الوحدات أوامر بالتصدي للقوات الإسرائيلية الغازية.
2. البيانات العسكرية للأطراف المختلفة
في إسرائيل: أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، أرييل شارون، في حديث إلى الإذاعـة الإسرائيلية "أن الحشود الإسرائيلية الضخمة في الجولان، تستهدف إقناع القيادة السورية بأنه ما من فرصة أمامها لخوض حرب ضد إسرائيل، بأمل إحراز نصر. وأوضح أنه منذ اللحظة التي بدأنا فيها تخطيط العملية، وضعنا أمام أعيننا بذل كل جهد، من أجل عدم الدخول في حرب ضد سورية، كما أنه ليس للسوريين سبب للتورط في حرب لا شأن لهم بها، وأن إسرائيل لا تريد شن حرب ضد سورية، ولكن يتعين على سورية عدم عرقلة عملياتنا، الخاصة بالقضاء على فاعلية العمليات الفلسطينية في لبنان". كما أعلنت إسرائيل، أن خسائرها، بلغت، في ذلك اليوم، 100 قتيل و600 جريح.
وفي لبنان: أعلنت جمعية الهلال الأحمر أن حصيلة العدوان الإسرائيلي، وحتى يوم 10 يونيه 1982، فاقت أكثر من عشرة آلاف شهيد وجريح من المدنيين، نساءً وشيوخاً وأطفالاً. أما الإسرائيليون، فقد أعلنوا أنّ خسائرهم، منذ بداية الغزو 68 قتيلاً و420 جرحى و8 مفقودين[2].
وفي سورية: أعلن متحدث عسكري سوري، بأن القوات السورية خسرت، في قتالها ضد إسرائيل، 194 قتيلاً و314 جريحاً و83 دبابة، وعدداً من بطاريات الصواريخ والطائرات، المقاتلة والعمودية.
3. الموقف الإسرائيلي، بعد انتهاء الأسبوع الأول من القتال
مع انتهاء الأسبوع الأول من العملية العسكرية الإسرائيلية، كان يمكن ملاحظة المؤشرات التالية:
أ. دفعت إسرائيل إلى هذه العملية، أعداداً ضخمة من القوات، البرية والجوية والبحرية، بلغت نسبتها إلى أعداد المقاتلين، الفلسطينيين واللبنانيين، 1:8، في بداية القتال، 1:12، أثناء القتال.
ب. ركّزت إسرائيل جهودها الرئيسية في الشريط الساحلي، في الأيام الأولى، بهدف الوصول إلى أقرب نقطة تمركز من العاصمة اللبنانية.
ج. تعمدت الحكومة الإسرائيلية التعتيم على أهداف العملية الحقيقية، مما أربك الوضع، الدولي والعربي، إضافة إلى بعض أعضاء الحكومة أنفسهم.
د. لم يقدم رئيس الحكومة، ووزير الدفاع، تقييماً صحيحاً، في شأن حجم العملية وأهدافها. وعلى الرغم من وصول القوات الإسرائيلية إلى مشارف بيروت، إلا أنها كانت لا تزال تخوض المعارك.
هـ. على الرغم من التفهم الأمريكي التام، لدوافع العملية العسكرية في لبنان، والدعم المطلق لها، فإن تبايناً بدأ يظهر بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية في ما يتعلق بكيفية التسوية السياسية.
4. وقف إطلاق النيران، يوم الجمعة 11 يونيه
بينما كانت إذاعة إسرائيل تعلن، في الثانية فجراً، أن وقف إطلاق النار دخل حيز التنفيذ على كل جبهات لبنان، استمرت الطائرات الإسرائيلية في قصف كل من بيروت والجبل، والبقاع. كما شاركت القطع البحرية الإسرائيلية في قصف الأماكن الساحلية، خاصة، بعد فشل محاولة جديدة للإنزال البحري في منطقة الأوزاعي. وأكّدت بعض المصادر الصحفية أن حجم القوات الإسرائيلية في لبنان، وصل بنهاية يوم 11 يونيه، إلى نحو 100 ألف جندي.
وأعلنت دمشق الموافقة على وقف إطلاق النار، على أساس الانسحاب الإسرائيلي الشامل من الأراضي اللبنانية. أما منظمة التحرير الفلسطينية، فقد حددت موقفها برسالة بعثت بها إلى الأمين العام للأمم المتحدة، السيد خافيير بيريز دي كويلار Javier Perez deCuellar ، مؤكدة التزامها بوقف إطلاق النار في ضوء قرارَي مجلس الأمن رقمي 508 ، 509. أما البرقيتان الرقمان 386، 387، في 12 يونيه،(اُنظر ملحق البرقيتان الرقمان 386، و387، في 12 يونيه 1982، والمرسلتين من وزير الخارجية اللبناني إلى السفير اللبناني بالأمم المتحدة) فهما يوضحان موقف لبنان تجاه وقف إطلاق النار.
5. الموقف العسكري على المحاور المختلفة
المحور الساحلي، لم يتوقف إطلاق النار على المحور الساحلي، إذ استمرت المعارك عنيفة على الخط الممتد من الأوزاعي وخلدة وبرج البراجنة والشويفات، وخط سوق الغرب ـ عاليه. وحاولت إسرائيل تنفيذ عملية إبرار بحري في منطقة خلدة، ولكن "القوات المشتركة" وحركة "أمل" تمكنتا من صدّها، مما أدى إلى لجوء إسرائيل إلى القصف البحري والجوي، المركز ضد هذه المنطقة.
وفي الدامور، تمكنت المقاومة الفلسطينية من قتل الجنرال يكوتئيل آدام ومرافقيه، أثناء اجتماعهم في الدامور. ويكوتئيل هو الرجل الثاني في رئاسة الأركان الإسرائيلية. وبعد مقتل الجنرال آدام، أخذ الإسرائيليون ينتقمون من الدامور ويهدمونها تهديماً، بواسطة الطيران الإسرائيلي. أمّا المنازل، التي بقيت في أعقاب القصف الجوي المكثف، فقد هدمتها الجرافات الضخمة (البلدوزرات).
وفي صيدا، في الجنوب اللبناني، أوردت تقارير أولية للصليب الأحمر اللبناني، أن ثمة ألف قتيل، على الأقل، وثلاثة آلاف جريح، في صيدا. وأن الوضع أصبح مأسوياً في المدينة، بسبب نقص الغذاء والماء والمواد الطبية. وذكرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أن عدد النازحين في جزين، يُقدر بنحو 200 ألف شخص، معظمهم من سكان صيدا، الذين هجروها نتيجة للقصف الإسرائيلي العشوائي.
وفي بيروت، قصفت القوات الإسرائيلية أحياءها، مما أدى إلى إصابات عديدة بين المدنيين. (اُنظر ملحق بيان الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة في 11 يونيه 1982،عن الاعتداءات الإسرائيلية على منطقة بيروت، والمساعدات الإنسانية للمدنيين)
6. الخسائر الإسرائيلية في نهاية يوم 11 يونيه
ذكر الناطق العسـكري الإسرائيلي، "أن 23 جندياً إسرائيلياً قُتلوا، و240 جرحوا، و11 فقدوا، في معارك يومَي الخميس والجمعة 10 و 11يونيه 1982. وبذلك ترتفع الخسائر، وفق البيانات الإسرائيلية إلى 91 قتيلاً و660 جريحاً و19 مفقوداً، منذ بدء الغزو الإسرائيلي للبنان".
ثالثاً: أعمال القتال، يوم 12 يونيه
في اليوم التاسع للاجتياح الإسرائيلي للبنان، أعلنت إسرائيل قبول وقف إطلاق النار مع المقاومة الفلسطينية في بيروت، ابتداء من التاسعة ليلاً (سعت 2100)، مشددة على أن ذلك لا يعني إجراء مفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية. وصدر هذا الإعلان نتيجة لتحركات دبلوماسية سوفيتية، للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية. وكذلك نتيجة للدور السياسي، الذي مارسته المملكة العربية السعودية مع الجانب الأمريكي، حيث تم الاتصال بين وليّ العهد السعودي، الأمير فهد بن عبدالعزيز، والرئيس الأمريكي، رونالد ريجان. كذلك تمت اتصالات عدة بين ياسر عرفات، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وبعض المسؤولين السعوديين. وأعلنت القوات المشتركة موافقتها على وقف إطلاق النار.
وبالفعل، ساد الهدوء، فجأة، جبهات القتال، في بيروت، والضاحية الجنوبية، والساحل الممتد من الأوزاعي حتى خلدة صعوداً إلى منطقة عالية. وكالعادة، وقبل بدء سريان وقف إطلاق النار، صعّـدت إسرائيل عملياتهـا، التي استمرت طوال النهار، وتخللتها اشتباكات ضارية على محور خلدة ـ الأوزاعي، حيث أُحبطت 5 محاولات إنزال إسرائيلية، مهدت لها إسرائيل، بقصف من البحر والجو، على أحياء سكنية، في عمق المنطقة الغربية، والضاحية الجنوبية، ومطار بيروت، وقرى منطقة عاليه. وحوصر عدد من الإسرائيليين على خط الساحل في محيط فندق فرساي، بعد فشلهم في التقدم تجاه الأوزاعي.
قرر شارون العمل على جبهة عاليه ـ بحمدون، ضد القوات السورية، وذلك بهدف إبعاد السورييـن عن قطاع الجبل اللبناني. وعُدّ ذلك بداية جولة جديدة من الحرب، وتطوراً لا بدّ منه في عملية كان يجب أن تكون تسميتها الحقيقية "فرض نظام جديد في لبنان".
واستمرت معركة الجبل، على محور عاليه ـ بحمدون، أربعة أيام، إلى أن حسمها سلاح الجو في مصلحة الجيش الإسرائيلي. ولا شك أن معركة الجبل، قد وفرت لإسرائيل موقفاً تفاوضياً أفضل من السابق.
وبعد 18 ساعة من القصف الجوي الإسرائيلي على أحياء بيروت، أعلنت إسرائيل، من طرف واحد، وقف العمليات العسكرية، ضد بيروت، والضواحي الجنوبية في برج البراجنة، وحي السلم، وخلدة، والجبل. وكان هذا الإعلان مفاجئاً لكل الأوساط السياسية والعسـكرية، التي أكدت عنف المواجهة، التي قوبلت بها إسرائيل، وفشلها في تحقيق أي تقدم جديد على محور خلدة ـ الجبل، وأن هذه المواجهة كانت السبب في إسراعها بالموافقة على وقف إطلاق النار.
وفي صيدا، عجزت القوات الإسرائيلية عن التقدم داخل المدينة، لأن القوات المشتركة استطاعت، من خلال تشكيل مجموعات فدائية مسلحة، إيقاع الذعر بين صفوف الإسرائيليين. أمّا عن الأضرار التي نزلت بالمدينة، فهي جسيمة، وتفوق كل تصور. فقد أحال القصف بعض أحيائها إلى أفران من الأسمنت والبشـر، حتى يخيل الناظر إلى الدمار أنه أمام ستالينجراد Stalingrad أخرى. وعلى الرغم من مرور سبعة أيام منذ اختراق القوات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية، إلاّ أن صيدا ومخيم عين الحلوة، استمرا في مقاومة الغزو الإسرائيلي، وتركّزت المعارك على المدخل الشمالي الشرقي، ومحور جسر الأولي ـ شرحبيل، والنافعة، حتى حدود ضاحية القياعة.
أمّا الموقف على الساحة السياسية، على المستويَين، الأمريكي والإسرائيلي، فقد أوضحه السفير غسان تويني، لوزير الخارجية، فؤاد بطرس، مؤكداً أن الموقف الأمريكي، يدور حول وحدة لبنان، وتقوية الحكم المركزي، وتحقيق أمن إسرائيل. (اُنظر ملحق نص البرقية الرقم (258) في 12 يونيه 1982، من السفير اللبناني، غسان تويني، إلى وزير الخارجية فؤاد بطرس)
أمّا موقف إسرائيل، فيجيء على لسان سفيرها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، موشي أرينز، الذي يطالب بتوقيع اتفاق سلام، بين لبنان وإسرائيل، يؤدي إلى سحب جميع القوى والجيوش الأجنبية من لبنان.
رابعاُ: أعمال القتال، يوم 13 يونيه
1. الموقف العسكري
وسعت إسرائيل نطاق اجتياحها للبنان، فاحتلت قواتها، ليلاً، بلدة بعبدا، والسرايا والمستشفى الحكومي بها. ثم واصلت تقدمها إلى "ضاحية الحدث"، وأدركت، بعد منتصف الليل، مشارف الشويفات. ورافـق هذه القوات إلى بعبدا وزير الدفاع الإسرائيلي، أرييل شارون.
وقعت هذه التطورات الخطيرة على إثر انهيار وقف إطلاق النار، الذي بدأ تنفيذه يوم 11 يونيه، وتجدد القتال على محور خلدة ـ الأوزاعي، ورافقه قصف مدفعي وصاروخي، من البر والبحـر والجو، شمل عدة أحياء في المنطقة الغربية من بيروت، والضاحية الجنوبية، والمطار. وصدّت القوات السورية والقوات المشتركة وحركة أمل، تقدم الإسرائيليين على محور خلدة، واتهمت إسرائيل بخرق وقف إطلاق النار.
وفي هذه الأثناء، انتشرت الآليات الإسرائيلية في بعبدا، ثم تقدمت إلى "الحدث"، عبْر مشـارف الأنطونية. ثم دخلت أحياء "الحدث" بعد أن دمرت موقعاً للجيش اللبناني، ووصلت، فجراً، إلى مشارف الشويفات. وبذلك أصبح الإسرائيليون يحيطون بالقصر الجمهوري، ويبعدون عن العاصمة نحو ستة كيلومترات.
2. تطورات الموقف والدعوة إلى انسحاب القوى الأجنبية من لبنان
أ. الموقف الأمريكي
للمرة الأولى منذ بدء الغزو الإسرائيلي للبنان، دعا وزير الخارجية الأمريكية، ألكسندر هيج، صراحة، إلى خروج كل القوات الأجنبية من لبنان. ورفض في حديث تليفزيوني، أجرته معه شبكة (ABC News)، الدعوة إلى انسحاب إسرائيلي، لا يكون مرتبطاً بانسحاب سوري وفلسطيني من لبنان.
ب. الموقف الألماني
وبالتصور نفسه، تحدث هانز ديتريش جينشر Hans-Dietrich Genscher ، وزير الخارجية الألماني الغربي. فأكّد أن الانسحاب الإسرائيلي لن يُنهي الأزمة اللبنانية، إنما سيعيد الأمور إلى ما كانت عليه. واقترح البحث عن حل يعيد للبنان سيادته، بضمان دولي.
ج. الموقف العربي
شهد الوطن العربي حدثاً مهماً، إذ انتقل إلى رحمة الله عاهل المملكة العربية السعودية، الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود، مما أثار مخاوف الشعَبْين، اللبناني والفلسطيني، نظراً إلى الدور الذي كانت تمارسه المملكة على الصعيد العالمي، لوقف الاجتياح الإسرائيلي. ولكن مبايعة الأمير فهـد بن عبدالعزيز، ملكاً، أعادت الطمأنينة إلى النفوس، خاصة أن الملك الجديد كان على صِلة بالأزمة اللبنانية، ويتولى الضغط لوقف الغزو الإسرائيلي، منذ بداية الاجتياح.
د. الموقف اللبناني
وعلى الساحة الداخلية اللبنانية، انصبت الجهود الرسمية على البحث في أفضل الوسائل، الواجب إيجادها لمواجهة مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، والدعوة إلى تشكيل حكومة طوارئ. كما دعت الحركة الوطنية في بيان لها، إلى تعزيز وحدة الصف الوطني، وأعلنت استمرارها في النضال حتى تحرير لبنان.
هـ. الموقف الإسرائيلي
خلال الأسبوع الثاني من الحرب، بدأت تصريحات القادة الإسرائيليين، تكشف الأهداف الكامنة للعملية العسكرية. فوزير الدفاع، شارون، يقول: "إنه يجب على سكان يهودا والسامرة وقطاع غزة، أن يدركـوا، الآن، أنه لا توجد جهة سواهم، مؤهلة لحل مشكلاتهم. وأن تلك المسألة ما زالت مرتبطة بالتطورات النهائية في بيروت، وبالحدّ الذي سيتضاءل إليه حجم منظمة التحرير الفلسطينية. إني أعتقد أن عرب يهودا والسامرة وقطاع غزة، سينهضون لإجراء مفاوضات. وفي الأيام القادمة، عندما تهدأ جبهة الحرب، سنشن هجوم السلام على عرب المناطق، من أجل إيجاد اتصال مركز معهم، للحِوار، بهدف إقامة الحكم الذاتي".


[1] قدرة الطائرة ` E2C` ، في ذلك الوقت، هي التوجيه والإدارة على 30 هدفاً جوياً

[2] أبلغ الصليب الأحمر الدولي أسماء الثمانية المفقودين، وهم: العقيد أليعازر زيون ـ النقيب الطيار إيهامي سبكتور ـ النقيب الطيار جـوزيف كيلر ـ النقيب أليكس لاند ـ النقيب الطيار أهارون أخيعاز ـ الملازم الأول إسرائيل شرنز ـ الرقيب الأول ديفيد تور ـ الرقيب الأول هرتزل كلاب
 
التعديل الأخير:
المبحث الخامس


المرحلة الثالثة، تشديد الحصار حول بيروت (14 يونيه ـ 31 يوليه)

تُعدّ هذه المرحلة أطول مراحل القتال، إذ استمرت نحو شهر ونصف الشهر، شدّدت إسرائيل خلالها الحصار حول بيروت من أجل تحقيق مكاسب سياسية. وعلى الرغم من إعلان وقف إطلاق النار، إلاّ أن هذه المرحلة شهدت نماذج متعددة من القتال. وعلى الساحة السياسية، بدأ الحديث يدور حول خروج المنظمات الفلسطينية من لبنان، كما استمرت الجهود السياسية من أجل التوصل إلى حل سياسي للأزمة. وفي الوقت نفسه، كانت إسرائيل تخطط لمرحلة جديدة للقتال، تقتحم خلالها العاصمة اللبنانية، من أجل تحقيق المكاسب السياسية التي خططت لها.
أولاً: أعمال القتال، يوم 14 يونيه
1. الموقف العسكري
وسّعت إسرائيل نطاق احتلالها لمشارف بيروت، في محاولة لعزل العاصمة عن الضواحي والجبل. وتقدمت قواتها حتى وصلت، في منتصف الليل، إلى "عين سعادة" في الجزء الشمالي، وفي اتجاه المنطقة الشرقية، من بيروت. كما تحركت بعض القوات الإسرائيلية المتمركزة في بعبدا، في ثلاثة اتجاهات، لاستكمال إحكام الطوق حول بيروت، وتم تمركزها دون مقاومة.
أ. المجموعة الأولى: تقدمت إلى ضهور الشويفات ومفترق عرمون، وقطعت جسراً يصل مفترق عرمون بمفترق بشامون. وعززت قواتها على طريق المعروفية ـ بسابا.
ب. المجموعة الثانية: عبرت طريق الشام، وتحركت من الحازمية إلى الفياضية واليزرة. وأقامت مراكز ثابتة لها في أماكن عدة، منها مركز قبالة ثكنة الجيش اللبناني في الفياضية، وآخر قرب منزل قائد الجيش اللبناني، العماد فيكتور خوري.
ج. المجموعة الثالثة: سلكت طريق الحازمية ـ جسر الباشا، وتوجهت إلى المكلِّس فمنصورية المتن. ثم تمركزت على الطريق، الذي يربط المتن الشمالي بالمتن الأعلى.
كما دفعت القيادة الإسرائيلية لواءً مدرعاً لتعزيز منطقة بعبدا، حيث تمركز أمام المبنى الجديد لوزارة الخارجية اللبنانية، قبالة القصر الجمهوري اللبناني.
وفي الجنوب اللبناني، واصلت القوات الإسرائيلية محاصرتها مخيم عين الحلوة. كما بدأ الجيش الإسرائيلي حملة مطاردة للفلسطينيين في المناطق التي احتلها بالجنوب، واحتجز نحو 12 ألف لبناني وفلسطيني، كانوا قد لجأوا إلى مركز الصليب الأحمر الدولي. ثم أُخلي سبيل اللبنانيين، واحتفظ بالفلسطينيين الذي نُقلوا إلى مركزين، في منطقة جنوب صور.
وعن الخسائر الإسرائيلية، صرح رئيس الأركان الإسرائيلي، بأن خسائر الجيش الإسرائيلي، في معارك لبنان، حتى ذلك اليوم، بلغت 170 قتيلاً و700 جريح.
2. الموقف السياسي، اللبناني والعربي
أ. الموقف اللبناني
شهد الوضع السياسي حدثين: الأول، إعلان إنشاء هيئة الإنقاذ الوطني[1]، برئاسة رئيس الجمهورية، إلياس سركيس، لتعاونه على مواجهة الظروف الحاضرة. والآخر، وصول السفير فيليب حبيب، المبعوث الشخصي للرئيس الأمريكي، إلى بيروت، آتياً من دمشق، وبدء محادثاته مع المسؤولين اللبنانيين.
ب.الموقف العربي
ذكرت وكالة "وفا" الفلسطينية، أن ياسر عرفات تلقى برقية من الملك فهد، رداً على برقية بعث بها القائد الفلسطيني إلى العاهل السعودي. وجاء في برقية الملك فهد: "علمنا مما أوضحتموه استمرار العدو في عملياته العسكرية الصهيونية على بيروت وضواحيها ومطارها، ومخيمات الإخوة الفلسطينيين. وكما سبق أن أخبرناكم وأكدنا لكم، أننا معكم بكل قلوبنا وجوارحنا، وإننا مستمرون في بذل الجهد الدائم والحثيث، على كل الأصعدة والمجالات العربية والدولية. ولن نتوانى عن القيام بكل ما نستطيع، في سبيل العمل على إرغام هؤلاء الصهاينة الغادرين على سحب قواتهم إلى الحدود الدولية".
ثانياً: أعمال القتال، يوم 15 يونيه
1. الموقف العسكري
واصل الإسرائيليون تقدمهم في ضواحي بيروت وعلى مشارفها. واحتلوا بيت مري، في المتن الشمالي، ودير القلعة. كما عززوا مواقعهم على طريق الجسر، الذي يربط المتنَين، الشمالي والأعلى.
وفي بعبدا، انتشرت القوات الإسرائيلية في البلدة، وفي "الحدث" والحازمية. واقتحمت القوات الإسرائيلية، ليلاً، بلدة الشويفات، وقامت بقصف صحراء الشويفات، امتداداً من خلدة حتى محيط المطار.
وفي المقابل، قطعت القوات الإسرائيلية طريق بيروت ـ دمشق الدولي، في محلة الجمـهور، إضافة إلى عدة طرق في قرى قضاء عاليه. ووجّه الإسرائيليون رسالة، طالبوا فيها القوات السورية، المنتشرة في بيروت والضواحي، بإخلاء مواقعها، فرفضت القوات السورية ذلك الطلب، مؤكدة استمرار وجودها دفاعاً عن الأراضي اللبنانية والشعب اللبناني.
(أذاع راديو دمشق بياناً رسمياً أعلن فيه: أن قوات الردع السورية تلقت إنذارا من قوات الغزو الإسرائيلية، بإجلاء مدينة بيروت وما جاورها، من القوات السورية، التي يبلغ عددها 1000 جندي. وإن السلطات السورية رفضت هذا الإنذار، وأبلغت العميد سامي الخطيب، قائد هذه القوة، أنها موجودة هناك بطلب من السلطة الشرعية في لبنان).
كما تجدد القتال بين القوات السورية (قوة الردع) والقوات المشتركة، من جهة، والقوات الإسرائيلية، من جهة أخرى، على محور خلدة ـ صحراء الشويفات. واستخدم فيه نيران الدبابات والمدفعية.
وفي صيدا، تمكنت القوات المشتركة من صدّ هجوم إسرائيلي على مخيم عين الحلوة. ومن ثم، قصفت القوات الإسرائيلية المنطقة، من البر والبحر والجو، من دون أن تتمكن من اقتحام المخيم.
وأصبح من الواضح، أن القوات الإسرائيلية ماضية في توسيع رقعة احتلالها وتصعيد الموقف. فقد بدأت بتعزيز مواقعها شرق وشمال شرق بيروت، على نحو يمكنها من تحقيق السيطرة على المخيمات الفلسطينية من الخلف، واستمرار مهاجمتها من الجنوب، مع تطويق المواقع السورية المدافعة على طـريق دمشـق، فضلاً عن الاقتراب من مرتفعات صنين، بما يسمح لها بالسيطرة على البقاع. كما وضح من الإجراءات الإسرائيلية، أن الإسرائيليين ينوون البقاء لفترة طويلة، إذ حولوا منطقة الشوف إلى مركز تجمع عسكري كبير، يضم مستودعات ومستشفيات وأراضٍ لهبوط الطائرات العمودية.
2. الموقف السياسي
وترافقت التطورات العسكرية مع تحرك سياسي، واهتمام دولي بمعالجة الوضع الخطير، تمثلا في المفاوضات، التي أجراها المبعوث الأمريكي إلى منطقة الشرق الأوسط، السفير فيليب حبيب، والمبعوث الفرنسي، السيد فرنسيس جوتمان، الأمين العام لوزارة العلاقات الخارجية الفرنسية، الذي اجتمع مع الرئيس إلياس سركيس، إضافة إلى اجتماعات هيئة الإنقاذ الوطني، التي شُكلت لمعاونة رئيس الجمهورية على مواجهة ظروف الحرب.
وفي العواصم الأوروبية والعربية، بدأ العالم يدين الأعمال الوحشية الإسرائيلية، ورأى فيها انتهاكاً فاضحاً لحق الشعوب[2].
ثالثاً: أعمال القتال، أيام 16، 17، 18 يونيه
1. الموقف العسكري
اقتصرت العمليات العسكرية في الضاحية الجنوبية لبيروت، على عدة اشتباكات، وقعت بين القوات السـورية، العاملة في قوات الردع، والقوات المشتركة، من جهة، والقوات الإسرائيلية، من جهة أخرى. أما في الجنوب فقد ركزت القوات المشتركة نشاطها في بعض العمليات خلف الخطوط، ضد المواقع الإسرائيلية في صور وصيدا.
وفي غضون مآسي الحرب، كان انقطاع الماء والكهرباء عن بيروت عاملاً من عوامل إرهاق الشعب اللبناني الصامد. وقد عانى المواطنون في بيروت المحاصرة أشد العناء من هذا السلاح، الذي استعمل ضدهم بقسوة. كما قصفت القوات الإسرائيلية الضاحية الجنوبية في بيروت، موقعة العديد من الإصابات في برج البراجنة وحي السلّم، فضلاً عن إحراق عدة طائرات لبنانية مدنية على أرض المطار.
وواقع الأمر، أن وقف إطلاق النار، الذي وافقت عليه إسرائيل، بناء على طلب المبعوث الأمريكي، فيليب حبيب، لم يستمر، إذ استأنفت المدفعية الإسرائيلية قصف الضاحية الجنوبية، على طول المحور الممتد من الأوزاعي إلى مطار بيروت، ومخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا وصحراء الشويفات.
وفي 16 يونيه 1982، انضمت، وبصفة رسمية وعلنية، ميليشيات حزب "الكتائب" اليميني اللبناني، إلى قوات الغزو الإسرائيلي في المعارك الدائرة ضد معاقل المقاومة الفلسطينية المحاصرة داخل القطاع الغربي من بيروت. وقالت وكالات الأنباء: "إن قوات الغزو والقوات المناوئة استولت على المعقل الفلسطيني في "كلية العلوم" بضاحية كفار شيما جنوب شرقي بيروت. وذكر ضابط كتائبي أن ميليشياته تلقت أمراً بمهاجمة المواقع الفلسطينية، في الوقت نفسه، الذي وجه فيه بشير الجميل، قائد الميليشيات "الكتائبية" نداءً لإنقاذ بيروت، من التعرض للمصير الذي تعرضت له صيدا وصور". وذكرت الأنباء أن مدفعية الكتائب ظلت تقصف "كلية العلوم" لمدة ساعتين قبل أن تقتحمها قوات الغزو. وأن سقوط "كلية العلوم" يجعل المدرعات الإسرائيلية على المداخل الجنوبية لمخيم اللاجئين في برج البراجنة، وعلى حافة ممر الإقلاع الرئيسي في مطار بيروت.
وعن الخسائر الإسرائيلية، حتى 17 يونيه 1982، ذكر رئيس شعبة الطاقة البشرية في الجيش الإسرائيلي، اللواء موشيه ناتينف، أن خسائر الجيش الإسرائيلي، في معارك لبنان، بلغت 214 قتيلاً و1114 جريحاً. وأن لدى الجيش الإسرائيلي 149 أسيراً سورياً ونحو 5 آلاف مخرب.
2. التمديد للقوات الدولية في لبنان
دُعي مجلس الأمن إلى الانعقاد، للنظر في التمديد للقوات الدولية، في 15 يونيه 1982، وهو الموعد الأقصى لانتهاء ولايتها. واقترحت الولايات المتحدة الأمريكية، أن يكون التمديد لفترة ثلاثة أشهر. واتفق الجانبان اللبناني والأمريكي، على مشروع قرار، يؤكد القرارَين 508 و509. أمّا الاتحاد السوفيتي، فكان يوافق على التمديد المؤقت.(اُنظر ملحق مشروع القرار اللبناني ـ الأمريكي بالتمديد للقوات الدولية في 16 يونيه 1982). و (ملحق البرقيتان الرقمان 262، في 15 يونيه 1982؛ و263، في 16 يونيه 1982الصادرتين من السفير اللبناني إلى الأمم المتحدة، غسان تويني، إلى وزير الخارجية اللبناني، فؤاد بطرس)
3. الموقف السياسي
أ. موقف المملكة العربية السعودية
رأى صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، أن الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على إرغام إسرائيل على الانسحاب من لبنان، إذا قطعت عنها المساعدات العسكرية. وقال: "إن ربط الانسحاب الإسرائيلي بسحب جميع القوات غير اللبنانية من لبنان، أمرٌ متروك للحكومة اللبنانية، على أساس أنها صاحبة القرار. وليس من حق إسرائيل ولا الولايات المتحدة الأمريكية أو أي دولة أخرى، أن تشترط هذا على لبنان". وحذر من أنه إذا امتنعت إسرائيل عن الانسحاب من كل الأراضي اللبنانية، فسنضطر إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة، لإجبارها على ذلك، معرباً عن أمله أن تمارس الولايات المتحدة الأمريكية قوة إقناعها، لإجبار إسرائيل على الانسحاب.
وعن الموقف الذي يمكن أن تتخذه بلاده لمعالجة الموقف، قال سموّه: "إن السعودية تترقب ما يمكن أن يحققه العمل الدبلوماسي الدولي على هذا الصعيد، وأنها تواصل اتصالاتها مع الحكومة اللبنانية، للبحث في العمل العربي الجماعي، الذي يمكن القيام به في مواجهة الغزو الإسرائيلي، والموقف المتفاقم في لبنان". وحذّر من أن عدم التدخل الأمريكي، لوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، سيؤثر سلباً، بشكل أو بآخر، في العلاقات بين الرياض وواشنطن.
كما صدر عن الديوان الملكي في الطائف بيان مهم، وزعت نصه وكالة الأنباء السعودية الرسمية، جاء فيه: "بناء على ما صدر على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين، من تهديدات مستمرة باجتياح عاصمة لبنان الشقيق ، تحذر المملكة العربية السعودية من إقدام إسرائيل على هذه الخطوة، وتعلن أن اجتياح عاصمة دولة عربية مستقلة، ذات سيادة وكيان، سيبطل كل الجهود السياسية والمساعي العربية، المبذولة على كل ساحات العمل، السياسي والعسكري والاقتصادي، ..الخ، بما فيها ميدان المعركة نفسه. وسيضع الأمة العربية أمام مسؤولياتها التاريخية، وهي ممارسة حقها المشروع في الدفاع عن أراضيها ومقدساتها، بكل الطاقات والإمكانات. وإن المملكة ستكون أول من يلبي نداء الواجب".
ب. موقف إسرائيل
وعن العاصمة اللبنانية المحاصرة، يقول زئيف شيف، المحرر العسكري الإسرائيلي لجريدة هاآرتس:
"يعتقد الكثيرون منّا أن الذي يحدث الآن في بيروت الغربية، سيؤدي إلى إحراج رجال المنظمات وقياداتهم. ويبدو أن هذا الاعتقاد خاطئ، لأن رجال المنظمات، في استطاعتهم الصمود طويلاً، ولأشهر عديدة. وفي ظل الظروف الحالية، فإن ما تعانيه إسرائيل، سياسياً وإعلامياً، يفوق النتائج السلبية العسكرية التي يُعاني منها رجال المنظمات. إن الحصار، الذي يفرضه الجيش الإسرائيلي على بيروت، هو حصار جزئي، يسبب عدم ارتياح السكان. ولكن لا يمكن عدّه حصاراً جدياً، من الناحية العسكرية.
فرجال المنظمة، يمتلكون مخازن ضخمة للأسلحة، ومواقع تحت الأرض. كما يوجد لديهم مخزون من المواد الغذائية، تكفي ستة أشهر. وفي ظل الاعتبارات العسكرية، والحصار الحالي، يستطيع رجال المنظمات والسكان، العيش في بيروت المحاصرة لفترة طويلة، وغير محددة. كما يعلم رجال المنظمات الوضع الغريب، الذي وضعت إسرائيل نفسها فيه، فهم يسمعون عن التحذيرات الأمريكية لإسرائيل، بضرورة عدم الدخول إلى بيروت الغربية، وأن واشنطن لا تسمح بفرض حصار تامٍ على المدينة.
إن أهداف رجال المنظمات، الآن، تكمن في الصمود. وهذا سيفسح أمامهم المجال لإدارة مفاوضات ناجحة، يستطيعون خلالها، على الأقل، تحقيق جزء من مطالبهم.
ويُعد هذا الموقف ورطة، وجدت إسرائيل نفسها فيها. فمن ناحية، هو حصار جزئي، وغير حاسم، من الناحية العسكرية. ومن ناحية ثانية، نحن ندفع ثمناً غالياً مقابل كل الأعمال العسكرية، التي نقوم بها. فكل العالم أصبح ينظر بازدراء إلى إسرائيل وآلتها العسكرية، التي تُدمر عاصمة دولة مجاورة على رؤوس سكانها، لا لشيء، إلا لوجود عدة آلاف من رجال المنظمات فيها. فواقع الأمر أن بيروت أصبحت فخّاً لإسرائيل. وحتى من الناحية المنطقية، لا يوجد حدود للأعمال العسكرية، التي تقوم بها. وسيجيء الحل السياسي، الذي يختلف تماماً عما تعرضه إسرائيل الآن".
وهكذا أصبح الموقف أمام إسرائيل، بعد أن وضعت نفسها في ورطة، لا تستطيع الخروج منها، وأصبحت بيروت تشكل فخّاً للقوات الإسرائيلية.
رابعاً: أعمال القتال، خلال الفترة من 19 إلى 22 يونيه
1. الموقف العسكري
تجددت الاشتباكات، خلال تلك الفترة، في الجزء الجنوبي الغربي من بيروت. كما نفذت إسرائيل عملية إبرار جوي بالطائرات العمودية ـ بقوة غير معلومة الحجم ـ على قمة جبل ظهر القضيب بالقرب من بلدة الأرز، شمال شرق بيروت، بالقرب من الطريق الذي يربط بين طرابلس، عاصمة شمال لبنان، بسهل البقاع شرقي لبنان. وبهذا العمل تتضح النية الإسرائيلية في مواصلة الزحف صوب الشمال من طريق محور جبل لبنـان. وبذلك يمكن إسرائيل تهديد مدينة طرابلس، التي تعَدّ المنفذ إلى الشمال وإلى سورية، مع إمكان تهديد الخطوط الخلفية للقوات السورية في سهل البقاع.
ووجّه الجنرال أمير دوري، قائد المنطقة الشمالية في إسرائيل، تحذيراً إلى سورية، من إذاعة القوات المسلحة الإسرائيلية، قال فيه: "إنه إذا لم تعِ سورية الدرس، الذي تلقته في المعارك السـابقة، فسنكون مضطرين إلى القيام بعمل واسع النطاق".
ومن ناحية أخرى، عززت القوات الإسرائيلية، خلال تلك الفترة، مواقعها في منطقة الشوف، ومنطقة خلدة، والمطار. كما قصفت ضواحي العاصمة اللبنانية قصفاً مدفعياً مكثفاً، شمل مختلف ضواحي بيروت الغربية. فقصفت البحرية الإسرائيلية الجزء الساحلي من بيروت الغربية، وكذلك المشارف الجنوبية للعاصمة. فضلاً عن أن وحدات مدرعة إسرائيلية حاولت التقدم نحو بلدتَي بحمدون والمنصورية في الجبال القريبة من شرق بيروت، حيث تقدمت على ثلاث محاور في منطقة عاليه، وذلك بهدف احتلال المنصورية وتطويق منطقة عاليه، ومحاصرة القوات السورية فيها، وقطع طريق بيروت ـ دمشق. وتمكنت تلك القوات، وسط تغطية من نيران المدفعية الكثيفة، من احتلال بلدة منصورية بحمدون، كما نشب قتال بالدبابات بين الإسرائيليين والقوات السورية، تدخلت فيه الطائرات الإسرائيلية، التي قصفت ضهور عاليه، وتلال سوق الغرب، وبحمدون، والعبادية، والجمهور. وردت القوات السورية بقصف مواقع الإسرائيليين في بعض قرى قضاءَي عاليه والشوف. كذلك تزايدت حدة الاشتباكات بين سورية وإسرائيل، بهدف السيطرة على طريق بيروت ـ دمشق الدولي. وبعد قصف مركز من الطيران والمدفعية الإسرائيليين، استطاعت القوات الإسرائيلية أن تحتل مراكز مهمة في عاليه، وبحمدون، على مسافة 16 كم من بيروت.
2. التمديد للقوات الدولية
في 19 يونيه 1982، أصدر مجلس الأمن الدولي، بالإجماع، القرار الرقم (512)، الذي يمدد للقوات الدولية، ويؤكد استمرار منظمة الأمم المتحدة، والوكالات المتفرع منها، بالاضطلاع بمهامها الإنسانية. كذلك، أكد القرار، في مقدمته، القرارَين (508) و(509).
3. الموقف السياسي، العربي والأمريكي
أ. الموقف العربي
عقدت المجموعة العربية في الأمم المتحدة، اجتماعاً، بعد ظهر يوم 21 يونيه 1982، بناءً على طلب منظمة التحرير الفلسطينية، من أجل طلب استئناف الدورة الطارئة السابقة، الخاصة بقضية فلسطين. ولكن بعض الدول العربية، اعترضت على مقترح المنظمة؛ إذ رأت أن لا فائدة كبرى من هذه الدورة. وتقرر، في نهاية الجلسة، تأجيل بت هذا الموضوع.(اُنظر ملحق البرقية الرقم 272، في 21 يونيه 1982، الصادرة عن السفير اللبناني إلى الأمم المتحدة إلى وزير الخارجية اللبناني) و(ملحق رد وزير الخارجية اللبناني، في البرقية الرقم 410)، في 22 يونيه 1982)
(1) موقف المملكة العربية السعودية
صرح الدكتور محمد عبده يماني، وزير الإعلام السعودي، "أن أي هجوم إسرائيلي على بيروت، يُعَدّ مؤامرة أكبر مما يمكن أن تصوره إسرائيل، لأنها تهدف إلى إبادة شعب، هو الشعب الفلسطيني، وانتهاك حقوق الشعب اللبناني واستقراره وأمنه". وقال: "إن الرياض أبلغت البلدان العربية بضرورة العمل المشترك، في إطار جامعة الدول العربية"، معتبراً أن الخلافات العربية، أيّاً كانت، هي عابرة، وأن الأمة العربية قادرة على توحيد صفوفها في مواجهة العدوان الإسرائيلي". وكان الديوان الملكي السعودي، قد أعلن أن الملك فهداً، أمر بصرف 20 مليون ريـال، من أجل إعانة المواطنين، اللبنانيين والفلسطينيين.
(2) موقف مصر
انتقد الرئيس محمد حسني مبارك الموقف الأمريكي في لبنان. ورحب بتشكيل حكومة فلسطينية مؤقتة في المنفى في القاهرة ـ وهي المرة الأولى التي يتحدث فيها مبارك عن مثل هذه الحكومة ـ وحذّر الرئيس المصري من لُعبة، تقضي بنقل الفلسطينيين إلى الأردن.
(3) موقف الكويت
أعلنت الحكومة أنها وضعت مبلغ مليون دولار تحت تصرف مركز الغوث، في لندن، المكلف بإرسال المساعدات الطبية والغذائية إلى لبنان، بالتعاون مع الصليب الأحمر الدولي.
(4) موقف لبنان
في برقية إلى سفير لبنان إلى الأمم المتحدة، في 21 يونيه 1982، أكد وزير الخارجية اللبناني،(اُنظر ملحق نص برقية وزير الخارجية للبناني إلى سفير لبنان إلى الأمم المتحدة، في 21 يونيه 1982) على أهمية:
· تنفيذ قرارَي مجلس الأمن (508) و(509)، مع الإشارة إلى أن لبنان لا يزال يَعُدّ اتفاق الهدنة، هو الذي يرعى الوضع بينه وبين إسرائيل؛ وأن وقف إطلاق النار، ما هو إلا جزء من أحكام الهدنة.
· السعي إلى إنقاذ مدينة بيروت من الدمار والاحتلال.
· إعادة السيادة اللبنانية على كافة أراضي لبنان.
ب. موقف الولايات المتحدة الأمريكية
انتقد وزير الدفاع الأمريكي، واينبرجر، الغزو الإسرائيلي للبنان. وأعلن أن هدف الولايات المتحدة الأمريكية، في الوقت الحالي، هو انسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان، وتعزيز قدرات الحكومة اللبنانية، لتكون حكومة قوية ومستقرة. وادعى ألاّ سيطرة لواشنطن على أعمال إسرائيل، بل لم تكن على علم بها.
خامساً: أعمال القتال، خلال الفترة من 23 إلى 25 يونيه
1. الموقف العسكري
على الرغم من وقف إطلاق النار، إلا أن تلك الفترة شهدت نماذج متعددة من القتال:
أ. ففي محور الجبل، تجدد القتال بين القوات السورية والقوات الإسرائيلية، واستخدم الجانبين نيران الدبابات والمدفعية. كما شمل القتال بين الجانبين محاور عاليه ومنصورية بحمدون في اتجـاه حمدون ـ الضيعة. وكذلك منطقة البقاع، شرقي بحيرة القرعون. كما استمرت القوات الإسرائيلية في تدعيم قواتها في الجبل ومنطقة الدامور، وعلى امتداد الطريق الساحلي من الجيَّة حتى خلدة، وأعلن ناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، أنه خلال المعارك التي دارت بين قواته والقوات السورية، سقط له ثلاثة قتلى وثمانية وأربعون جريحاً.
ب. وفي منطقة بحمدون، تمكنت القوات الإسرائيلية من الاستيلاء على جزء من طريق بيروت ـ دمشق عند بلدة بحمدون، الواقعة على مسافة 16 ميلاً شرق بيروت، بعد قصف مدفعي وجوي للمواقع السورية والفلسطينية. ووقعـت معركة جوية بين السوريين والإسرائيليين، أُسقطت خلالها طائرتان سوريتان، من طراز (ميج). وخلال هذه المعركة، تمكنت القوات السورية والفلسطينية من تدمير 17 دبابة إسرائيلية وحاملة جند، وقُتل وجُرح 85 جندياً إسرائيلياً، طبقاً لِمَا أذاعته المصادر الفلسطينية، في 24 يونيه 1982. أما المصادر الإسرائيلية، فقد أعلنت أن خسائرها، بلغت 28 قتيلاً و160 جريحاً. كما أنها دمرت بطاريتَي صواريخ مضادّة للطائرات، من نوع (S.I 6)، كان السوريون قد دفعوا بها إلى جبهة القتال.
ج. وفي بيروت، تعرض الجزء الغربي من بيروت لقصف مركز بالطائرات والزوارق البحرية، مما ألحق به دماراً هائلاً، وأدى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى من المدنيين. كما هاجم الطيران الإسرائيلي الضواحي المحيطة ببيروت، والقرى شرقيها.
د. وفي إسرائيل، ذكرت الإذاعة الإسرائيلية، أن قوات ميليشيات "الكتائب" استولت على بلدة "الجمهور"، على بعد خمسة كيلومترات شرق بيروت. وأن القوات السورية انسحبت من منطقة عاليه، بعد الخسائر التي مُنيت بها، مما يتيح للقوات الإسرائيلية السيطرة، بلا منازع، على الطريق الدولي بين دمشق وبيروت. وأوضحت إذاعة إسرائيل، أن سيطرة قوات "الكتائب" على "الجمهور"، يُعدّ نقطة تحول في المعارك، لأنها أول مرة، تشترك فيها "الكتائب" بشكل مباشر في المعارك، إلى جانب القوات الإسرائيلية.
2. الموقف السياسي
أ. الموقف اللبناني
على الساحة السياسية اللبنانية، وفي ضوء موقف "الكتائب" وتعاونها مع القوات الإسرائيلية، أعلن وليد جنبلاط انسحابه من هيئة الإنقاذ الوطني، وعقد مؤتمراً صحفياً، اتهم فيه المسؤولين اللبنانيين "بالتضلع من المؤامرة". كما استقال رئيس الوزراء واثنان من الوزراء المسلمين.
ب. الموقف الأمريكي
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، قدّم وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، استقالته إلى الرئيس الأمريكي. وعلى الفور، تم تعيين جورج شولتز George Pratt Shultz خلفاً له. وهو دليل واضح على الخلافات، التي تصاعدت داخل الإدارة الأمريكية، خاصة بين وزيرَي الدفاع والخارجية، حول الوضع في لبنان. كما أنه دليل واضح على فشل سياسة ألكسندر هيج. وباستقالة هيج، فقدت إسرائيل صديقاً لها في واشنطن، ومؤيداً شجّع الحكومة الأمريكية على اتخاذ قرارات لمصلحة إسرائيل في لبنان.
ومع استقالة هيج، انتهى عصر من السياسة الأمريكية، بالنسبة إلى الأنشطة الإسرائيلية في لبنان. وبالفعل، دفع البيت الأبيض هيج إلى الاستقالة بسبب دوره في حرب لبنان. إذ إنه لم يستطع السيطرة على التقارير، التي تصل إلى الرئيس، فهناك تقارير ترسل إلى البيت الأبيض، تعطي صورة قاتمة لعملية لبنان، بل أن بعض التقارير وصفت ما يحدث في لبنان بأنه مأساة. وفي لقاء هيج والسفير الإسرائيلي في واشنطن، موشى أرينز، بعد استقالة وزير الخارجية الأمريكي مباشرة، قال هيج للسفير: أنه "استطاع منع تنفيذ مشروع اقترحه حبيب، كان بموجبه سيوجه ريجان إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي رسالة قاسية، يهدده فيها بفرض عقوبات على إسرائيل". ثم ألقى بعض الأضواء على ظروف استقالته، شاكياً بمرارة، أن مستشاري الرئيس، هم الذين وجهوا إليه هذه الضربة، ونسفوا سياسته".





[1] تشكلت هيئة الإنقاذ الوطني من السادة شفيق الوزان، رئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية؛ فؤاد بطرس؛ بشير الجميل، (القوات اللبنانية)؛ وليد جنبلاط، نبيه بري، (حركة أمل)؛ نصري المعلوف، (الوطنيون الأحرار)؛ ولم تجتمع اللجنة إلاّ في 20 يونيه 1982

[2] في القاهرة: ذكرت جريدة `الأهرام`، في عددها الصادر في 15/6/1982، `النازية الجديدة` في الشرق الأوسط، وأنها لن تفلح في مصادرة حق شعب في الحياة، واقتلاع جذوره من الأرض. وأضافت أنه مع الغزو الإسرائيلي الهمجي للبنان، يدخل الشرق الأوسط منعطفاً تاريخياً بالغ الخطـر. ومع حرب الإبادة البربرية، التي تشنها قـوات جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، بنسائه وأطفاله وشيوخه، يقف العالم كله مبهوراً ببسالة الفدائيين الفلسطينيين، الذين يتصـدون لحشود السلاح الأمريكي، في أيدي الجيش الإسرائيلي، بجسـارة واستماتة. فإذا كان الهدف الأول من غزو لبنان هو إبادة الشعب الفلسطيني، فإن بيجين وزملاءه، هم أول من يعلم أن الشعوب، لا يمكن أن تموت

[3] في 29 يونيه اجتمعت في بروكسل القمة الأوروبية المشكلة من عشر دول، ودعا البيان الصادر إلى إنسحاب متزامن للقوى الإسرائيلية والفلسطينية من جبهة بيروت. وقد شجب الاجتماع، بقوة، الاجتياح الإسرائيلي

[4] صرح الرئيس ريجان، في الأول من يوليه 1982، في الطائرة التي عادت به من سانتا بربارا إلى واشنطن، أن ثمة أسباباً لبعض التفاؤل بإيجاد تسوية للأزمة اللبنانية، تتضمن استخدام قدرات أمريكية. أمّا السنتاور تشارلز بيرس، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، فقال، أن على الزعاء الإسرائيليين الاعتراف بأن الرأى العام في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم يتحول ضدهم بسبب الحرب في لبنان. واعتبر أن العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية في أسوأ حال منذ أزمة السويس عام 1956
 
التعديل الأخير:
سادساً: أعمال القتال، خلال الفترة من 26 إلى 30 يونيه
1. الموقف العسكري
أعلنت إسرائيل موافقتها على وقف إطلاق النار الرابع، بناء على طلب المبعوث الأمريكي، فيليب حبيب. لكن هذا الموقف لم يُحل دون توسيع الإسرائيليين رقعة غزوهم في اليوم الثالث والعشرين للاجتياح. فقد تقدمت آليات إسرائيلية من بحمدون، واحتلت عاليه وسوق الغرب والقماطية، محققة بذلك اتصالاً مع قواتها في القرى الساحلية لقضاء عاليه. كما تمكن الإسرائيليون من قطع طريق بيروت ـ دمشق الدولي في أول "صوفر". وواصل الإسرائيليون تعزيز مواقعهم في عاليه وبحمدون وصوفر والقرى التي احتلوها. وذكرت المصادر الإسرائيلية، أن خسائرها، بلغت، حتى 27 يونيه 1982، 271 قتيلاً، و15 مفقوداً، بخلاف الجرحى.
2. الموقف السياسي
أ. موقف الأمم المتحدة
(1) المشروع الفرنسي في مجلس الأمن: (اُنظر ملحق مشروع القرار الفرنسي في 24 يونيه 1982)
أجرت فرنسا العديد من الاتصالات، على المستوى العربي عامة، واللبناني خاصة، وعلى المستوى الإسرائيلي، من خلال زيارة الرئيس الفرنسي، فرانسوا ميتران، إلى إسرائيل. واقترحت التقدم بمشروع قرار جديد إلى مجلس الأمن، في 24 يونيه 1982، بهدف حماية بيروت ولبنان من الأخطار المحدقة، وضرورة احترام وقف إطلاق النار، وأهمية إرسال مراقبين.
وإزاء بعض التحفظات اللبنانية من المشروع الفرنسي، عدَّلت فرنسا مشروعها، (اُنظر ملحق مشروع القرار الفرنسي في 25 يونيه 1982) في اليوم التالي. وفي 25 يونيه، عقد مجلس الأمن جلسة مشاورات رسمية، استمع، خلالها، إلى بيان من السفير الفرنسي، في صدد مشروع القرار المقدم من بلاده. وقد أثار المشروع جدلاً كبيراً في المجلس.
وفي 26 يونيه، اجتمع مجلس الأمن، للمرة الثانية، لمناقشة المشروع الفرنسي. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية، استخدمت ضده حق النقض (الفيتو)، بسبب اعتراضها على إحدى فقراته. واقترح السفير الفرنسي تعديلاً، (اُنظر ملحق مشروع القرار الفرنسي في 26 يونيه 1982) وضعه وزير الخارجية نفسه، شيسون، ويتعلق بوضع العاصمة، بيروت، دون سواها، تحت السلطة اللبنانية، وإحلال الجيش اللبناني. وحاول السفيران، اللبناني والمصري، إقناع واشنطن بقبول هذا التعديل، ولكنها أصرت على النقض. وقد اقترع إلى جانب المشروع، أربعة عشر عضواً. ونددت فرنسا والاتحاد السوفيتي والمملكة العربية السعودية ومصر بالنقض الأمريكي.
(2) وفي الجمعية العمومية للأمم المتحدة
في 26 يونيه 1982، اقتُرع على مشروع القرار، الذي صدر بالأغلبية الساحقة (127 مؤيداً). ولم تعارض سوى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. ولم يمتنع أحد. وقد أصرت الجمعية العامة، في قرارها، على المطالبة بتنفيذ القرارَين 508، 509، وتأكيد سيادة لبنان المطلقة على كل أراضيه.
ب. الموقف الأمريكي
أوضح ألكسندر هيج، في رسالة، بعث بها إلى الحكومة الإسرائيلية، أهداف بلده، المباشرة، التي تتلخص في الآتي:
(1) خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها، من بيروت.
(2) تسليم سلاح المنظمة إلى الجيش اللبناني.
(3) سيطرة القوات الشرعية اللبنانية على بيروت الغربية.
(4) تأليف حكومة مركزية قوية، في لبنان.
(5) خروج جميع القوات الأجنبية، من الأراضي اللبنانية.
ج. الموقف الأوروبي
في بروكسل، دعت القمة الأوروبية، التي اختتمت أعمالها يوم 29يونيه 1982، إلى انسحاب فوري للقوات الإسرائيلية من مواقعها حول العاصمة اللبنانية، على أن يرافقه انسحاب للقوات الفلسطينية من بيروت الغربية[3].
د. الموقف العربي
على المستوى العربي، بعث الملك فهد والرئيس حسني مبارك برسالتين إلى الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، يدعوانه فيها إلى القيام بعمل عاجل من أجل وقف الغزو الإسرائيلي للبنان. وأبلغ العاهل السعودي ريجان: "أن ما تقوم به إسرائيل، سيؤدي إلى عواقب خطيرة على السلام، في العالم كله. وأنه من الضروري وقف الغزو، وانسحاب إسرائيل الفوري من لبنان".
وفي لبنان، وجّه الرئيس إلياس سركيس نداء إلى الملوك والرؤساء العرب، أذيع عبْر التليفزيون اللبناني، في 28 يونيه 1982، جاء فيه: "في أحلك الأوقات من سنوات المأساة الطويلة، التي يعيشها لبنان منذ أكثر من سبع سنوات، وفي الساعات الصعبة، التي يحبس فيها اللبنانيون أنفاسهم، مترقبين المخاطر، التي باتت تنذر مدينة بيروت بخراب شامل، أوجّه إليكم هذا النداء، الذي يعبّر عن صرخة نابعة من ضمير شعب معذب، أصبح مهدداً بأعز ما يرمز إلى علة وجوده … ورغبة مني في المحافظة على أرواح مئات الألوف من المدنيين الأبرياء، وعلى ما تحتويه مدينة بيروت من معالم إنسانية وحضارية، جئت أوجّه إليكم نداء عاجلاً، كي تساهموا معنا في إنقاذ بيروت من الكارثة الأكيدة المحدقة بها. وإنني إذ أرجو من صميم القلب، أن يَلقَى ندائي هذا لديكم الاستجابة الفورية، أعرب لكم عن أسمى مشاعر اعتباري".
وفي لبنان، أيضاً، دعا التجمع الإسلامي والجبهة الوطنية، رئيس الوزراء، شفيق الوزان، إلى الاستمرار في تحمل مسؤولياته الوطنية، حرصاً على الوطن والمصير، مع تقديرهما وتفهمها للدوافع التي أدت إلى استقالته. وتراوحت ردود الفعل، الرسمية والشعبية، بين الدعوة إلى الصمود ودعوة رئيس الحكومة والعدول عن استقالته.
في تونس، اجتمع مؤتمر وزراء الخارجية العرب، يومي السبت والأحد الموافقَين 26 و27 يونيه 1982، لبحث الموقف في لبنان. وتقدم لبنان بورقة عمل (اُنظر ملحق ورقة العمل اللبنانية في 26 ـ 27 يونيه 1982) إلى المؤتمر اقترح فيها: "إدانة العدوان الإسرائيلي على شعب لبنان وأرضه، ودعم لبنان في كل ما يؤول إلى تنفيذ قرارَي مجلس الأمن، الرقمَين 508 و509، ووقف العمل العسكري الفلسطيني في لبنان، تقديم المساعدة الاجتماعية إلى الشعب اللبناني".
هـ. الموقف الإسرائيلي
في القدس، حدد رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحم بيجن، خلال جلسة مناقشات في الكنيست، في 29 يونيه1982، رفضه إعطاء أي تعهد، يُلزم الجيش الإسرائيلي عدم دخول بيروت الغربية. ودعا المدنيين المقيمين في بيروت إلى مغادرتها فوراً، مطالباً بدخول الجيش اللبناني، وخروج الفلسطينيين "براً وبحراً". وقال إنه بعد رحيل المنظمة، تبدأ مفاوضات لضمان سلامة الأراضي اللبنانية، وانسحاب الجيوش الأجنبية. وسنجلس مع الحكومة اللبنانية ونوقع معاهدة سلام.
في نهاية الشهر الأول من الاجتياح، كان الموقف الإسرائيلي، داخلياً وعسكرياً وسياسياً، كما يلي:
(1) داخلياً: تجلي، بصورة واضحة، وخصوصاً في معارك الجبل، تفرد الثنائي بيجين ـ شارون باتخاذ القرارات الخاصة بسير العمليات وتوجيهها. ورافق ذلك تطبيق متشدد للرقابة العسكرية على الجرائد ووكالات الأنباء.
(2) عسكرياً: على الرغم من الاندفاعة السريعة، التي سجلها الجيش الإسرائيلي، في أيام الحرب الأولى، بهدف الوصول إلى أقرب نقطة ممكنة من العاصمة، بيروت، فقد اضطر هذا الجيش إلى خوض معارك ضارية، بالسلاح الأبيض، أحياناً، ضد القوات الفلسطينية ـ اللبنانية المشتركة. وهو ما دفع شارون إلى اتّباع سياسة الحصار الطويل، والقصف المتواصل لبيروت.
(3) سياسياً: استفادت إسرائيل من انخفاض مستوى النشاط السياسي للإدارة الأمريكية، خلال العطلة السنوية، في الأسبوعَين، الأول والثاني، من يوليه 1982.
و. موقف المنظمات الفلسطينية
حدث تقدم طفيف في الحوار اللبناني ـ الفلسطيني، والذي يهدف إلى خروج فدائيي المنظمات الفلسطينية بأسلحتهم الشخصية من بيروت، حتى يتجنّب لبنان معركة دموية في بيروت الغربيـة. وعلى الرغم من ذلك، كان هناك عقبات كبرى في طريق التوصل إلى تسوية، تمثلت إحداها في طـلب الفلسطينيين إبقاء وحدة رمزية من قواتهم في لبنان، تكون خاضعة لقيادة الجيش اللبناني.
وقال بيار الجميل، في لقائه وفداً من الصحافة الغربية: "ليس في استطاعة لبنان أن يتحمل 700ألف فلسطيني. كما أن القضية الفلسطينية تخطت إطارها الإقليمي وأصبحت قضية دولـية، وإذا كان لا بد من حل لها، فليكن، ولكن ليس على حساب لبنان".
سابعاً: أهم أحداث النصف الأول من شهر يوليه
1. الموقف العسكري
ضيّقت إسرائيل الحصار على المنطقة الغربية من بيروت، وعلى ضاحيتها الجنوبية. ولجأت إلى قطع الماء والكهرباء عن الأحياء الغربية، إضافة إلى منع وصول المواد التموينية، في إطار الضغط العسكري والاقتصادي، الذي مارسته لإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان. كما عزز الإسرائيليون وجودهم على مداخل بيروت الغربية، وأحكموا الطوق حول العاصمة، بعدما سدّوا بوابات العبور.
وفي الضاحية الجنوبية من بيروت، دارت اشتباكات عنيفة بين القوات الإسرائيلية والقوات المشتركة، تركزت في مهبط مطار بيروت، ورافقها قصف مركز على أحياء برج البراجنة والطريق الجديدة. وتحت ستر نيران المدفعية الكثيفة، تمكنت المدرعات الإسرائيلية من التقدم نحو المدرج الشرقي للمطار، حيث تمركزت في تلال الرمل المحيطة به إلى الجهة الغربية.
وتجدد القتال على محور المطار بين القوات الإسرائيلية والقوات المشتركة، إذ تبادل الجانبان القصف المدفعي الصاروخي، الذي أدى إلى إشعال النيران في عدد من أحياء المنطقة الغربية، مما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى في منطقتَي بيروت، الشرقية والغربية، بينهم جنودا إسرائيليون ولبنانيون.
كما تجدد الاشتباك يوم 11 يونيه 1982، وشمل المنطقتين الشرقية والغربية من بيروت، واستمر التراشق لمدة 16 ساعة متواصلة على الأحياء السكنية، وكانت محصلة الاشتباك في هاتين المنطقتين، مقتل 75 فرداً و180 جريحاً من المدنيين. وللمرة السادسة، يتم الاتفاق على وقف جديد لإطلاق النار. وذكرت الإذاعة الإسرائيلية وقوع 28 جريحاً بين صفوف قواتها ومقتل جنديين.
وفي الثالث عشر من يوليه 1982، عززت إسرائيل من قواتها حول بيروت الغربيـة، إذ دفعت بلواءين، إحداهما مدرع، والآخر آلي. وانتشرت هذه القوات في المواقع الإسرائيلية الممتدة من خلدة، جنوب بيروت، حتى الميناء، الذي يشكل المدخل الشمالي لبيروت. وبذلك قدّر حجـم القوات الإسرائيلية التي تحاصر بيروت بنحو 30 ألف جندي و300 دبابة و500 عربة مدرعة.
2. الموقف السياسي
أ. الموقف اللبناني
استمرت الاتصالات والمساعي من أجل التوصل إلى حل سياسي لأزمة بيروت وضواحيها الجنوبية، ومسألة وجود المقاومة الفلسطينية فيها. وذكرت وكالة "الصحافة الفرنسية" أن مشروعاً من ثلاث نقاط، تم التوصل إليه في الاجتماع، الذي تم بين رئيس الوزراء اللبناني وياسر عرفات. وتقضي النقطتان الأُولَيان برحيل 5000 مقاتل فلسطيني من لبنان إلى الدول العربية، وتألـيف كتيبتين عسكريتين فلسطينيتين، كل واحدة من 250 جندياً، على أن تنسحب هاتان الكتيبتان، بعد إخلاء لبنـان من القوات الإسرائيلية. وتقضي النقطة الثالثة بفض اشتباك، يؤدي إلى انسحاب القوات الإسرائيلية بضعة كيلومترات من محيط بيروت في الوقت الذي يغادر الخمسة آلاف مقاتل فلسطيني لبنان.
وفي لبنان، أيضاً، تم التوصل إلى مشروع اتفاق بين فيليب حبيب ورئيس الوزراء اللبنـاني، ينص على فك الاشتباك بين القوات الفلسطينية والقوات الإسرائيلية، تحت إشراف قوات دولية، إلا أن الأطراف المختلفة لم تقبل هذا الاتفاق. ولهذا لم تعلن تفصيلاته.
ومن جهة أخرى، أبلغت واشنطن السفير اللبناني إلى الأمم المتحدة، رغبتها في اشتراك مراقبين دوليين، من الأمم المتحدة، من أجْل مراقبة وقف إطلاق النار، والجلاء عن بيروت. كما طالب سفير لبنان إلى الأمم المتحدة، من خلال رسالة، بعث بها إلى رئيس مجلس الأمن، في 13 يوليه 1982، بإرسال مراقبين من الأمم المتحدة إلى منطقة بيروت. (اُنظر ملحق نص رسالة مندوب لبنان إلى رئيس مجلس الأمن في شأن طلب مراقبين من الأمم المتحدة لمنطقة بيروت)
وفي 15 يوليه، أبلغت الولايات المتحدة الأمريكية، من طريق السفير الأمريكي المناوب، وليم شيرمان، إلى المندوب اللبناني الدائم في الأمم المتحدة، موقفها من المراقبين، وأنها تخشى أن يؤدي تقديم المقترح إلى مجلس الأمن، إلى فتح مناقشة، تعرقل المفاوضات الميدانية، وأنها تخشى، كذلك، رفض السوفيت الطلب، كجزء من رفضهم القوات الأمريكية.(اُنظر ملحق نص البرقية الرقم (321) في 15 يوليه 1982،التي توضح الرسالة والحديث بين السفير الأمريكي والمندوب اللبناني).
ب. الموقف السعودي
وفي الطائف في المملكة العربية السعودية، عُقد اجتماع اللجنة السداسية، المنبثقة من المؤتمر الطارئ لوزراء الخارجية العرب، لإيجاد مخرج للوضع القائم في لبنان، وقد بدأت أعمالها في الأول من يوليه 1982. وقد عكفت اللجنة على دراسة مشروع اتفاق لبناني ـ فلسطيني حول الوجود، العسكري والسياسي، للمقاومة الفلسطينية في لبنان. وجاء هذا المشروع نتيجة للجهود التي بذلتها السـعودية. وفي إطار بحث هذا الاتفاق، وصل إلى الطائف الشيخ بشير الجميل، قائد قوات "الجبهة اللبنانية"، بناء على دعوة رسمية من وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، أعرب فيها الوزير السعودي عن رغبته ورغبة اللجنة السداسية، في إجراء مشاورات مع بشير الجميل، من أجل التوصل إلى اتفاق، يحقق انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان، وتأمين احترام حقوق منظمة التحرير الفلسطينية.
ج. الموقف الكويتي
وفي الكويت، اتهم الشيخ جابر الأحمد، أمير دولة الكويت، الولايات المتحدة الأمريكية بدعم الغزو الإسرائيلي للبنان، ودعا الدول العربية إلى إعادة النظر في علاقاتها الدولية، لئلاّ تواجه "الهزيمة المستمرة". وقال الشيخ جابر إنه لم يكن في وسع إسرائيل القيام بعدوانها، وتجاهل القيم والتقاليد الإنسانية والدولية، من دون تلّقي الدعم الكامل من الولايات المتحدة الأمريكية.
د. الموقف المصري
وفي القاهرة، انتقد الرئيس حسني مبارك، مجدداً، سورية. بسبب الأداء العسكري السوري، في المعارك الأخيرة، ضد القوات الإسرائيلية في لبنان. وقال إن القوات السورية، لم تبدأ الاشتباك مع القوات الإسرائيلية، إلا بعد ما أصبحت المسافة بينهما لا تتجاوز 20 متراً. وتساءل هل هناك أي اتفاق سري بين سورية وإسرائيل على هذه المسألة؟ وأجاب أن هذا هو فهْمه للموقف السوري.
هـ. موقف الأمم المتحدة
في الأمم المتحدة، تقدمت مصر وفرنسا بمشروع جديد إلى مجلس الأمن، تضمن 12 بندا أهمها: (اُنظر ملحق مشروع القرار المصري ـ الفرنسي المُقدم إلى رئيس مجلس الأمن في 2 يوليه 1982)
(1) الانسحاب الفوري للقوات الإسرائيلية من ضواحي بيروت إلى مسافة مقبولة، كخطوة أولى نحو انسحاب شامل من لبنان.
(2) رحيل القوات الفلسطينية من بيروت الغربية، بأسلحتها الخفيفة، إلى أحد المخيمات خارج بيروت.
(3) انسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان، ماعدا تلك التي قد تسمح لها الحكومة الشرعية في لبنان بالبقاء.
واقترح لبنان إجراء بعض التعديلات. فتأجّل عرض المشروع، ريثما ينتهي لبنان من هذه التعديلات. وفي الرابع من يوليه 1982، وعلى أثر توارد أخبار عن تزايد الأعمال اللاإنسانية، التي تمارسها إسرائيل، اتصل المندوب الفلسطيني بسفير الأردن، وطلب إليه دعوة مجلس الأمن للنظر في الموضوع. وبعد المشاورات التقليدية، صادق مجلس الأمن، بالإجماع، ومن دون مناقشة، على المشروع الأردني، والذي صدر تحت الرقم (513)، في 4 يوليه 1982.
وفي 12 يوليه 1982، وافق لبنان على المشروع الفرنسي ـ المصري المعدل، والمقترح المقدم إلى مجلس الأمن. (اُنظر ملحق مشروع القرار المصري ـ الفرنسي المعدل بناءً على طلب لبنان، في 12 يوليه 1982) أمّا الوفد الفلسطيني فقد تقدم، في اليوم نفسه، بمشروع فلسطيني، إلى مجموعة عدم الانحياز في مجلس الأمن. (اُنظر ملحق مشروع القرار الفلسطيني إلى مجموعة عدم الانحياز في مجلس الأمن، في 12 يوليه 1982)
و. الموقف الأمريكي
وفي واشنطن، أعلن الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، أنه وافق، مبدئياً، على اقتراح لبناني، غير رسمي، بمساهمة أمريكية في قوة متعددة الجنسيات، تحل في بيروت، وتشرف على خروج الفلسطينيين منها، بحراً[4]. ورحب رئيس الوزراء الإسرائيلي بالتعاون الأمريكي ـ الفرنسي، من أجل إخراج القوات الفلسطينية من العاصمة اللبنانية.
كما أعربت الإدارة الأمريكية عن اعتقادها أن إيجاد مكان، يلجأ إليه مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية يعَدّ مسؤولية عربية. وصرح دين فيشر، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، بأنه جاء الوقت المناسب، ليساهم العالم العربي في حل هذه المسألة. كما ذكر أن منظمة التحرير الفلسـطينية وافقت، مبدئياً، على مغادرة بيروت. كما قال كاسبار واينبرجر، وزير الدفاع الأمريكي، أن ثمة حاجة إلى إشراك الفلسطينيين في عملية التسوية في الشرق الأوسط، مؤكداً أنه من دون وطن للفلسطينيين، لا يمكن التوصل إلى سلام دائم في الشرق الأوسط.
ثامناً: أهم أحداث النصف الثاني من شهر يوليه
1. الموقف العسكري
موقف بيروت: خلال الأسبوع الثالث من شهر يوليه، استمرت الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة على عدة أحياء في المنطقة الغربية من بيروت. وشاركت القطع البحرية الإسرائيلية في هذا القصف. في حين شهدت الضاحية الجنوبية عدة اشتباكات بالمدفعية، شملت أيضاً المناطق الواقعة قرب خطوط التماس. كما استمر تشديد الحصار الإسرائيلي لمنع الإمدادات الغذائية إلى بيروت الغربية، مع دخول أعداد محدودة من سيارات الصليب الأحمر، المحملة بكميات محددة من الأدوية والدقيق والأرز.
وخلال الأسبوع الرابع من شهر يوليه، اتسع نطاق القصف الإسرائيلي لبيروت، ليشمل المناطق الجنوبية والغربية، وكذلك المنطقة الشرقية وضواحيها، وساحل المتن الشمالي. واستمر هذا القصف يومَي 28،29، حتى تم إيقاف إطلاق النار ـ للمرة الثامنة. وأدى هذا القصف إلى تدمير 250 منزلاً في بيروت الغربية، كما وصل حجم الخسائر إلى نحو 554 قتيلاً وجريحاً من المدنيين.
موقف مدينة صيدا: استمرت القوات الإسرائيلية في عزل مدينة صيدا عن العالم، بمنع التجـول فيها أو الخروج منها أو الدخول إليها. كما أفاد الصحفيون الذين زاروا المدينة، أن مخيم عين الحلوة، أصبح مهدماً بنسبة 90%، وأن عدد المنازل التي دُمرت تماماً في صيدا وصل إلى 1450 منزلاً، علاوة على تصدع 2350 منزلاً. وأفادت الوكالة المركزية للصليب الأحمر أن 1100 فرد، لبناني وفلسطيني، أصبحوا في عداد المفقودين.
وفي القطاع الشرقي: اشتبكت القوات الإسرائيلية والقوات السورية، في 22 يوليه 1982، في قطاع، عرضه 40 كم. واستمر القتال أكثر من ساعتَين، بالطائرات والمدفعية والمدرعات. وانتهى الاشتباك بتدمير 72 دبابة سورية، وعدد من مركبات الجيش السوري ومدفعيته. وخلال يوم 24 يوليه 1982، تكرر الاشتباك، وتمكنت القوات الإسرائيلية من تدمير ثلاث مركبات سورية، حاملة صواريخ مضادّة للطائرات، من نوع (SS8) أُدخلت، ليلاً، إلى سهل البقاع اللبناني.
الموقف القتالي على باقي المحاور: في منطقة الأوزاعي، حاولت كتيبة مدرعة إسرائيلية التقدم في اتجاه منطقة الأوزاعي، حيث اشتبكت معها "القوات المشتركة" ودمرت لها عدداً من المركبات المدرعة، وقتلت وجرحت نحو100 جندي إسرائيلي.
كما نشطت مجموعات "القوات المشتركة" في الجنوب اللبناني، خلف الخطوط الإسرائيلية، حيث أغارت على مقر القيادة الإسرائيلية في مدينة صور، وقتلت عدداً من الضباط في ذلك الهجوم. كما أغارت على المنطقة الواقعة بين بحمدون وعاليه، حيث دمرت عدد من المركبات المدرعة الإسرائيلية. ونصبت عدة كمائن في البقاع الغربي، وزرعت الألغام على محاور التحرك الإسرائيلية، الأمـر الذي زاد من حجم الخسائر الإسرائيلية، على نحوٍ أزعج قيادتها.
2. الموقف السياسي
أ. الموقف الأمريكي
عُقد اجتماع يوم 20 يوليه في البيت الأبيض، بين الرئيس الأمريكي، ريجان، ووزيرَي خارجية المملكة العربية السعودية وسورية، من أجل إيجاد حل وسط للأزمة اللبنانية. وصرح وزير الخارجية السعودي، إثر اجتماعه ونظيره السوري بالرئيس ريجان، أنهما أبلغا الرئيس الأمريكي: "بضرورة تنفيذ قرارَي مجلس الأمن رقمَي 508، 509 اللذين يدعوان إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان، وأن هذين القرارين قد وافقت عليهما الولايات المتحدة الأمريكية". وأكد سعود الفيصل أنه نقل إلى الرئيس الأمريكي رغبة الدول العربيـة وجدّيتها، في تحمل مسؤوليتها في مساعدة الحكومة اللبنانية على المحافظة على استقلال لبنان وسلامة أراضيه، والمحافظـة، في الوقت نفسه، على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وأكد أن منظمة التحرير الفلسطينية وافقت على الانسحاب من بيروت ومن لبنان. وأن ما يجب ضمانه هو الخطوات الضرورية، المطلوب اتخاذها من أجل الانسحاب الإسرائيلي من لبنان.
ب. موقف مجلس الأمن
في 27 يوليه 1982، استأنفت البعثتان، المصرية والفرنسية، تحركهما في مجلس الأمن، لوضع صيغة معدلة لمشروع القرار الفرنسي ـ المصري، تمهيداً لتقديمه، رسمياً، إلى مجلس الأمن. واجتمع السفيران، المصري والفرنسي، إلى مجلس الأمن، وطلبا إليه، رسمياً، عقد اجتماع، يوم الخميس، الموافق 29 يوليه 1982.
كما أكدت السفيرة الأمريكية إلى الأمم المتحدة، كير كباتريك، لسفير مصر إلى الأمم المتحدة، عمرو موسى، أن تعديلاً طرأ على الموقف الأمريكي، إذ إنها ستعرب، في المشاورات، عن ترحيبها، من حيث المبدأ، بالمشروع المصري ـ الفرنسي، وستتحفظ من بعض بنوده؛ إلا أنها لن تشترك في المناقشة الرسمية.(اُنظر ملحق البرقية الرقم 335، في 28 يوليه 1982، الصادرة من السفير اللبناني، غسان تويني، إلى وزير الخارجية اللبنانية).
وفي 29 يوليه 1982، عُرض القرار، وصدر عن مجلس الأمن القرار الرقم (515)، في 29 يوليه 1982، الداعي إلى رفع الحصار عن مدينة بيروت، بغية السماح بإرسال المؤن، وتأمين الحاجات الملحّة للسكان المدنيين. وصوّت في مصلحة المشروع 14 دولة، بينما امتنعت الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت.
ج. الموقف السعودي
اجتمعت في جدة، يومَي 28، 29 يوليه 1982، اللجنة السداسية، المنبثقة من مجلس الجامعة العربية في دورته الطارئة. وعقدت اللجنة سلسلة من الجلسات، برئاسة وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، وشارك في الاجتماعات وزراء خارجية الكويت وسورية ولبنان، ورئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وسفير الجزائر، وأمين عام جامعة الدول العربية، الشاذلي القليبي. وانتهت اللجنة إلى إصدار قرارات ستة، عُدّت خطوة إيجابية في سبيل حل الوضع في بيروت. كما وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة قواتها المسلحة بيروت، مع المطالبة بتوفير ضمانات تؤمن هذا الانتقال، وكذا ضمانات أمن المخيمات، بالاتفاق بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وأكدت اللجنة ضرورة مشاركة القوات الدولية في عملية ضمان الأمن والسلامة لبيروت وضواحيها.
د. الموقف اللبناني
جرت مباحثات، يوم 25 يوليه 1982، بين ياسر عرفات ووفد يمثل مجلسَي النواب والشيوخ الأمريكيين، وانتهى الاجتماع بتوقيع عرفات على وثيقة، جاء فيها: "أنه يوافق على كل قرارات الأمم المتحدة، المتعلقة بالمسألة الفلسطينية، بما فيها قرارَا مجلس الأمن الرقمان 242، 338".
كما اجتمع السفير فيليب حبيب مع الرئيس اللبناني، إلياس سركيس، ورئيس الوزراء اللبناني، شفيق الوزان، وأطلعهما على المحادثات التي أجراها مع زعماء مصر والمملكة العربية السعودية وسورية والأردن وإسرائيل، في شأن مشكلة بيروت والقضية الفلسطينية. وتبع ذلك اجتماع بين ياسر عرفات ورئيس الوزراء اللبناني، للبحث في سُبُل تنفيذ قرارات اللجنة السداسية العربية، المنعقدة في جدة. وتقدم ياسر عرفات إلى الحكومة اللبنانية بخطة تفصيلية لأسلوب انسحاب القوات الفلسطينية من لبنان.
وفي وسط هذه الحرب الدامية، رشح بشير الجميل نفسه لرئاسة الجمهورية، وأكد تمسكه بوحدة لبنان. وجاءت ردود الفعل سلبية، إزاء هذا الترشيح، على مستوى الجبهات السياسية اللبنانية، إذ عُدّ أنه مسؤول عما يجري في لبنان، وأن حزب "الكتائب" رفض إدانة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، بل قدّم العديد من التسهيلات للقوات الإسرائيلية.
هـ. الموقف المصري
بعث الرئيس حسني مبارك رسالة عاجلة إلى الشيخ بشير الجميل، أوضح فيها، رأي مصر في ما يجري داخل لبنان، معرباً عن قلقه البالغ إزاء المواقف، التي يمكن أن تتورط فيها "الكتائب" بالمشاركة في المخطط الإسرائيلي. وتضمنت الرسالة النقاط الآتية:
(1) إن مصر ترى، أن تصفية منظمة التحرير الفلسطينية من طريق اقتحام بيروت، لن يؤدي إلى استقرار الأوضاع في لبنان، خاصة مع وجود نصف مليون فلسطيني، يعيشون داخل لبنان، بل سيترتب على ذلك موجة من الإرهاب لن ينجو منه لبنان.
(2) أن "الكتائب"، ستقع في خطأ تاريخي، يصعب محوُه، إذا ما تأكدت صورتها في العالم العربي، خلال هذه المحنة، كوجه حليف، يساند مخططات إسرائيل، التي تهدف إلى تدمير الشعب الفلسطيني.
(3) أن "الكتائب"، إذا لم تراجـع، بروح موضوعية، مواقفها السابقة، فستجد نفسها، في المستقبل القريب، في عزلة عربية، بل سوف تواجه أيضاً خطر استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وتوغّل نفوذه في لبنان.
(4) إن الموقف يفرض على "الكتائب"، أن ترتفع فوق الحزازات القديمة، وألاّ تعوق أي جهود إيجابية، تهدف إلى الحفاظ على كرامة المنظمة. وأن وحدة لبنان واستقراره وقدرته على إعادة بناء ما دمرته الحرب، سوف يتوقف على المسلك الراهن لـ "الكتائب".
كذلك، أكد الرئيس حسني مبارك، خلال خطابه بذكرى مرور ثلاثين عاماً على ثورة يوليه 1952، أن مصر ستقف ضد أي محاولة لتقسيم لبنان، أو فرض سيطرة فئة على الفئات الأخرى، مكرراً دعوته إلى تبادل الاعتراف بين إسرائيل والفلسطينيين. ودعا الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبنّي حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.





[1] تشكلت هيئة الإنقاذ الوطني من السادة شفيق الوزان، رئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية؛ فؤاد بطرس؛ بشير الجميل، (القوات اللبنانية)؛ وليد جنبلاط، نبيه بري، (حركة أمل)؛ نصري المعلوف، (الوطنيون الأحرار)؛ ولم تجتمع اللجنة إلاّ في 20 يونيه 1982

[2] في القاهرة: ذكرت جريدة `الأهرام`، في عددها الصادر في 15/6/1982، `النازية الجديدة` في الشرق الأوسط، وأنها لن تفلح في مصادرة حق شعب في الحياة، واقتلاع جذوره من الأرض. وأضافت أنه مع الغزو الإسرائيلي الهمجي للبنان، يدخل الشرق الأوسط منعطفاً تاريخياً بالغ الخطـر. ومع حرب الإبادة البربرية، التي تشنها قـوات جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، بنسائه وأطفاله وشيوخه، يقف العالم كله مبهوراً ببسالة الفدائيين الفلسطينيين، الذين يتصـدون لحشود السلاح الأمريكي، في أيدي الجيش الإسرائيلي، بجسـارة واستماتة. فإذا كان الهدف الأول من غزو لبنان هو إبادة الشعب الفلسطيني، فإن بيجين وزملاءه، هم أول من يعلم أن الشعوب، لا يمكن أن تموت

[3] في 29 يونيه اجتمعت في بروكسل القمة الأوروبية المشكلة من عشر دول، ودعا البيان الصادر إلى إنسحاب متزامن للقوى الإسرائيلية والفلسطينية من جبهة بيروت. وقد شجب الاجتماع، بقوة، الاجتياح الإسرائيلي

[4] صرح الرئيس ريجان، في الأول من يوليه 1982، في الطائرة التي عادت به من سانتا بربارا إلى واشنطن، أن ثمة أسباباً لبعض التفاؤل بإيجاد تسوية للأزمة اللبنانية، تتضمن استخدام قدرات أمريكية. أمّا السنتاور تشارلز بيرس، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، فقال، أن على الزعاء الإسرائيليين الاعتراف بأن الرأى العام في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم يتحول ضدهم بسبب الحرب في لبنان. واعتبر أن العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية في أسوأ حال منذ أزمة السويس عام 1956
 
التعديل الأخير:
المبحث السادس


المرحلة الرابعة، معركة بيروت (1 ـ 21 أغسطس 1982)

أولاًُ: الموقفان، العسكري والسياسي، يومَي 1 و 2 أغسطس
1. الموقف العسكري
بدأت القوات الإسرائيلية، منذ فجر اليوم الأول من أغسطس 1982، شن هجوم وحشي واسع النطاق، على محورين، براً وجواً، على القطاع الغربي من بيروت، بقوة لواءَين مشاة آلية. واستولت القوات الإسرائيلية، تعززها الدبابات ومدفعية الميدان، على المقر الرئيسي لمطار بيروت، وملتقى الطرق الإستراتيجية عند ميدان "كوكودي". وأصبحت بذلك على مسافة 5كم من وسط العاصمة اللبنانية، فضلاً عن مهاجمة طريق بيروت ـ صيدا. وكانت حصيلة القصف الجوي والمدفعي، الذي استمر 14 ساعة، مقتل أكثر من165 شخصاً، وجرح 400 شخص من المدنيين. وغرقت بـيروت وضواحيها تحت وابل من القذائف، أوقع أضراراً جسيمة ودماراً لم يسلم منه حي من الأحياء.
وأصبحت الدبابات والمدفعية الإسرائيليتان على مشارف المخيمات الفلسطينية، في صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، في الوقت الذي أحاط فيه الفك الآخر للكماشة ببيروت الغربية من جهة الشرق، عند الخط الذي يفصل منطقتيها، الشرقية والغربية. وأصبح مخيم برج البراجنة محصوراً بين القوات الإسرائيلية، التي ترابط على محور الحدث ـ بعبدا، وتلك التي تهاجم مطار بيروت، الواقع غربي المخيم (اُنظر شكل المعالم الرئيسية للعاصمة).
وقد أشارت المصادر الإسرائيلية، في شأن نتائج هذا الهجوم ضد بيروت، إلى أن القوات الإسرائيلية، واجهت مقاومة عنيدة، وصلبة على جميع المحاور، الأمر الذي عرقل تقدمها، بل أوقفه تقريباً، وأوقع في صفوف الجيش الإسرائيلي إصابات جسيمة جداً، فاقت، في يوم واحد، مجموع ما أُعلن في شأنه، خلال شهر يوليه كله.
وبات من المرجح، أن شارون، لن يرضى بأقل من إبادة المقاومة الفلسطينية، أفراداً وقيادة ومؤسسات. فكانت كثافة القصف، براً وبحراً وجواً، تزداد ضراوة، كلما توالت الأنباء عن قرب التوصل إلى اتفاق سياسي، في شأن إخلاء المقاومة الفلسطينية بيروت.
وعلى الرغم من موافقة ياسر عرفات، وقيادة المنظمة، على الخروج من بيروت، فقد عاشت العاصمة اللبنانية المحاصرة يومَين قتالين من القصف الرهيب. وكان واضحاً، أن هذا القصف ينطوي على رغبة شارون في تحقيق الميزات التالية:
أ. إنزال أكبر قدر من الخسائر بصفوف المقاتلين الفلسطينيين.
ب. الرد على الخسائر الجسيمة، التي تكبدتها القوات الإسرائيلية المحيطة ببيروت، في أثناء محاولاتها التقدم نحو مواقع منظمة التحرير.
ج. تكثيف الضغط على المقاومة الفلسطينية، لتقديم المزيد من التنازلات، قبْل الإنسحاب.
2. الموقف السياسي
بناء على طلب من لبنان، وفي ضوء مشروع القرار، المُقدم من المندوب الأردني والسفير الأسباني، وفي إطار التنسيق مع المندوب اللبناني، وبعد مراجعته من السفيرة الأمريكية اتُّفق على القرار، الذي صدر بالرقم (516)، في الأول من أغسطس 1982، بإجماع 15 عضواً. وينص القرار على:
أ. الوقف الفوري للنيران، ووقف كل الأنشطة العسكرية، داخل لبنان، وعبْر الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية.
ب. يُسمح للأمين العام أن ينشر، من الفور، بناء على طلب الحكومة اللبنانية، مراقبين من الأمم المتحدة، لمراقبة الوضع في بيروت.
ج. يُطلب إلى الأمين العام، أن يرفع تقريراً إلى المجلس، تماشياً مع هذا القرار.
ثانياً: الموقف العسكري، يوم 3 أغسطس
وفي الساعات الأولى من صباح يوم 3 أغسطس 1982، تحركت الدبابات الإسرائيلية صوب الضواحي الجنوبية لبيروت الغربية، في محاولة للتقدم نحو مواقع المقاومة الفلسطينية في القطاع الغربي من بيروت. وفي الوقت نفسه، قَصَفَتْ البحرية الإسرائيلية بيروت الغربية. وقد تمكنت المقاومة الفلسطينية، والقوات اللبنانية الوطنية، من صدّ المحاولة الجديدة للهجوم الإسرائيلي.
ثالثاً: الموقف العسكري، يوم 4 أغسطس
وفي الرابع من أغسطس 1982، وتحت ستر تمهيد نيراني من المدفعية والهاونات، بدأت القوات الإسرائيلية هجومها على بيروت الغربية، على ثلاثة محاور، بقوة 3 ألوية مشاة آلية و لواءَي مظلات. وبعد 16 ساعة من القصف المدفعي والجوي، تحولت بيروت الغربية إلى مدينة للأشباح، تشتعل فيها الحرائق. كما قصف الطيران الإسرائيلي المخيمات الفلسطينية. وعلى الرغم من أن المدرعات الإسرائيلية، تمكنت من اختراق الدفاعات الفلسطينية في غير موقع، وسيطرت على منطقتَي المتحف الوطني والأوزاعي، إلا أن القوات الفلسطينية استمرت في السيطرة على مواقعها في منطقة الميناء ووسط مدينة بيروت. وأعلنت إذاعة بيروت: "أن القوات السورية، التي كانت متمركزة عند أحد الحواجز في مدخل منطقة الأوزاعي، انسحبت، ظهر اليوم، مع تقدم القوات الإسرائيلية، الأمر الذي يسّر لهذه القوات أن تتقدم وتحتل منطقة الأوزاعي".
رابعاً: الموقفان، العسكري والسياسي، يوم 5 أغسطس
1. الموقف العسكري
استأنفت القوات الإسرائيلية هجومها البري على مواقع المقاومة الفلسطينية في بيروت الغربية، تحت ستار من القصف المدفعي والدبابات. فتمكنت من اختراق الدفاعات الفلسطينية، والوصول إلى امتداد طريق "كورنيش المزرعة"، الذي يُعَدّ الشريان الرئيسي لبيروت الغربية، إلى ملتقَى طرق "بربير" الإستراتيجي، الذي يتحكم في طرق القطاع، وفي مداخل مخيمَي صبرا وشاتيلا. واستمر القتال مع القوات الإسرائيلية على المحاور الثلاثة للهجوم الإسرائيلي على بيروت الغربية، من اتجـاه الضاحية الجنوبية للقطاع، وعند منطقة ممر المتحف، ومنطقة المرفأ. وواصلت القوات الإسرائيلية تقدمها، حتى أصبحت على مشارف المخيمات الفلسطينية الثلاثة، صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة. وأعلنت المصادر اللبنانية أن 250 مدنياً قتلوا، على الأقل، و670 أصيبوا. وفي الوقت نفسه، أعلنت المصادر الإسرائيلية أن 84 جندياً إسرائيلياً أُصيبوا، ولقي 19 آخرون مصرعهم، خلال اشتباكات يومَي 4 و5 أغسطس 1982.
2. الموقف السياسي
أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً جديداً، بالرقم (517) في 4 أغسطس 1982، دعا فيـه إسرائيل إلى سحب قواتها، فوراً، من المواقع التي احتلتها بعد الأول من أغسطس 1982، في بيروت الغربية، والامتثال للقرار الرقم 516، الداعي إلى وقف فوري لإطلاق النار، ووقف كل الأعمال العسكرية، وإيفاد مراقبين دوليين. وأصدر المجلس قراره بأغلبية 14 صوتاً مقابل لا شيء مع امتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت.(اُنظر التقرير الذي قدمه الأمين العام عن القرار الرقم (517)، للأمم المتحدة).
أوضح المسؤولون الفلسطينيون أن منظمة التحرير الفلسطينية مستعدة للانسحاب من بيروت الغربية فور وصول القوة الدولية المتعددة الجنسيات. وأن المنظمة تنازلت عن شرطها بأن يتزامن مع هذا الانسحاب انسحاب مقابل للقوات الإسرائيلية، على أن تمر المقاومة خلال الخطوط الإسرائيلية مباشرة إلى سورية، مسقطة بذلك شرط التمركز المؤقت في سهل البقاع شرقي لبنان، أو في مدينة طرابلس شمالي لبنان.
وقد جاء هذان التنازلان في إطار خطة من 11 نقطة، من أهمها:
أ. وقف إطلاق النار، يشرف عليه مراقبون دوليون تابعون للأمم المتحدة.
ب. يبدأ الفدائيون الفلسطينيون في التجمع في نقاط معينة في اليوم الذي يبدأ فيه وصول أولى دفعات من قوة حفظ السلام الدولية، ويبدأون، بالاشتراك مع الجيش اللبناني، في الدخول إلى المواقع، التي يسيطر عليها الفدائيون، على أن يكون دور هذه القوات هو حماية المخيمات واصطحاب الفدائيين في طريقهم إلى خارج المدينة.
ج. ينسحب الفدائيون من طريق بيروت ـ دمشق.
د. تكوين لجنة مشتركة.
هـ. ينسحب الفدائيون بأسلحتهم.
و. فترة تنفيذ الانسحاب تستغرق 21 يوماً.
ز. الفدائيون، الذين لا يمكنهم التوجه إلى سورية، بسبب معتقداتهم السياسية، توفر لهم وسائل لخروجهم من لبنان، من طريق مطارين صغيرين، في شرق لبنان، أو عبر ميناء طرابلس الشمالي.
ح. تضمن الحكومة الأمريكية أمر الفدائيين المنسحبين.
ط. تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، التي تطالب بانسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان.
3. الموقف السوفيتي
تقدم السفير السوفيتي إلى الأمم المتحدة، بمشروع قرار عاجل، في 5 أغسطس 1982، (اُنظر ملحق مشروع القرار السوفيتي في 5 أغسطس 1982) إلى رئيس مجلس الأمن. وعند عرضه استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض (الفيتو).
خامساً: الموقفان، العسكري والسياسي، يومَي 6 و 7 أغسطس
1. الموقف العسكري
وفي السادس من أغسطس، واصلت القوات الإسرائيلية هجومها الواسع النطاق، ضد مواقع القوات الفلسطينية، بهدف إسقاطها، واجتياح بيروت الغربية. وعلى الرغم من استخدام إسرائيل لكافة أنواع الأسلحة، فإن المقاومة الفلسطينية، حالت دون تنفيذ القوات الإسرائيلية لمخططها، واعترفت إسرائيل بأنها دفعت ثمناً باهظاً لكي تتقدم بضعة كيلومترات، شمال مطار بيروت، للاستيلاء على حي الأوزاعي. كما دارت معارك عنيفة بين قوات المقاومة الفلسطينية وقوات الغزو الإسرائيلية، في منطقة ميدان سباق الخيل، التي تبعد 200م غربي ممر المتحف، وتحت ستر تمهيد نيراني، بدأ في الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه، حيث حاولت القوات الإسرائيلية التقدم نحو المواقع الفلسطينية، ولكن أمكن صدّها. كما قصف الإسرائيليون حرج الصنوبر بالقرب من منطقة أرض سباق الخليل، الأمر الذي أدى إلى اشتعال النيران فيه. علاوة على قصفهم مبنى برج المرّ، وهو مرصد وموقع مهم قرب الميناء، ويمثل مركزاً مهماً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتمكنوا من تدمير هذا البرج، فتحول إلى ركام من الأنقاض. وبنهاية هذا اليوم، أُعلن عن وقف إطلاق النيران العاشر. وأعلنت إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي، أن إسرائيل خسرت في هذه المعارك 21 دبابة و18 ناقلة جند مدرعة و5 جرافات و3 دقاقات ألغام، وقتل وجرح 64 جندياً. كما أعلنت مصادر إسرائيلية أخرى، أن خسائر إسرائيل، منذ بداية العملية وحتى 7 أغسطس 1982، بلغت 323 قتيلاً، و11 مفقوداً، بخلاف الجرحى، إضافة إلى ثلاثة أسرى.
2. الموقف السياسي
كما أذاعت وكالة الأنباء السعودية، أن الملك فهداً، اتصل هاتفياً بالرئيس الأمريكي رونالد ريجان، داعياً إياه إلى العمل بسرعة على وقف الهجوم الإسرائيلي على بيروت. ودعا الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية لوقف تدهور الوضـع. ونقلت الوكالة عن الملك فهد: "أن الهجوم الوحشي يشكل تهديداً خطيراً للبنان والشرق الأوسط، وأنه يعيق كل الجهود لإيجاد حل للمشكلة اللبنانية، وجميع جهود السلام في المنطــقة".
وفي السابع من أغسطس 1982، ذكرت إذاعة بيروت، نقلاً عن مصادر سياسية، أن احتمالات التسوية السياسية تتزايد الآن، نتيجة لتطور مواقف أطراف الأزمة، إذ سلم شفيق الوزان، رئيس الوزراء اللبناني، وثيقة الخطة، التي تم الاتفاق عليها مع منظمة التحرير الفلسطينية، إلى فيليب حبيب. وتتضمن هذه الخطة ما يلي:
أ. تغادر الوحدة الأولى من المقاومة بيروت، بحراً، إلى ميناء العقبة الأردني، على أن تتخذ الوحدة الفرنسية، التي ستشكل جزءاً من القوة الدولية، مواقعها في بيروت الغربية، بعد يوم واحد من مغادرة الوحدة الفلسطينية الأولى.
ب. تُسلم المنظمة أسلحتها الثقيلة إلى الجيش اللبناني في بيروت، بدلاً من تسليمها عند بلدة صوفر، على طريق بيروت ـ دمشق الدولي، على أن يتم التسليم في اليوم الرابع عشر لتنفيذ الخطة، وهو الموعد الذي ستكون فيه عملية مغادرة الفلسطينيين لبيروت قد استكملت.
ج. توافق المنظمة على أن يجري إجلاء بقية الفلسطينيين، من طريق بيروت ـ دمشق الدولي، وفي ظل ضمانات أمريكية.
د. يشترك الجيش النظامي اللبناني في توفير الضمانات لسلامة الانتقال على الطريق البري.
هـ. توافق المنظمة على تسليم قائمة، تضم أسماء أفراد المقاومة الفلسطينية، الذين سيرحّلون وفقاً للخطة، إلى الجيش اللبناني وليس إلى إسرائيل.
سادساً: الموقف العسكري، يوم 9 أغسطس
قصفت المدفعية الإسرائيلية الأحياء والمواقع في برج البراجنة وحتى المتن الأعلى، كما قصف الطيران الإسرائيلي أماكن تمركز القوات السورية، والمخيمات الفلسطينية، ومواقع "القوات المشتركة".
سابعاً: الموقف العسكري، يوم 10 أغسطس
استأنفت الطائرات الإسرائيلية قصفها لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الضواحي الجنوبية لبيروت، أي في الوقـت الذي دخلت فيه مساعي المبعوث الأمريكي فيليب حبيب، لتحقيق الانسحاب السلمي للمقاومة الفلسطينية من بيروت، مرحلة حاسمة، إثر إعلان الحكومة الإسرائيلية، ذلك اليوم، موافقتها من حيث المبدأ على مشروع فيليب حبيب للانسحاب، الذي وافقت عليه الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية. ولكن إسرائيل وضعت شرطين جديدين، وهما: أن تحصل الحكومة الإسرائيلية على قائمة محددة بأسماء الدول المستعدة لاستقبال المقاومة الفلسطينية، وأن تتسلم إسرائيل قائمة عددية بالمقاتلين الذين ستستقبلهم كل دولة، مع ضرورة أن يغادر الفلسطينيون بيروت قبل أن تتخـذ القوة الدولية مواقعها داخل المدينة. كما واصلت القوات الإسرائيلية عملياتها العسكرية في بيروت وضاحيتها الجنوبية، ودفعت، بصورة مفاجئة، قوة تتكون من 40 دبابة إلى منطقة جبيل، ثم غزّزتها بوحدات من المشاة الآلية، في خطوة تحمل معنى التحرك عسكرياً، في اتجاه الشمال، وفرض وجود أمر واقع هناك، قبل وصول القوات الدولية إلى بيروت، وفي الوقت عينه، وضع العراقيل أمام عملية التفاوض.
وأعلنت المصادر الإسرائيلية، أن خسائر هذا اليوم، هي إصابة ثلاثة جنود، ومقتل اثنَين، نتيجة إصابة سيارتهما بلغم، في القطاع الأوسط، بالقرب من عين زحلتا.
ثامناً: الموقفان، العسكري والسياسي، يوم 11 أغسطس
1. الموقف العسكري
استأنفت الطائرات الإسرائيلية قصفها المكثف للمواقع الفلسطينية، في بيروت الغربية، والذي اشتركت فيه السفن الحربية والدبابات والمدفعية. وقد استهدف القصف الإسرائيلي مخيم برج البراجنة وضاحيتي شاتيلا والفكهاني. ثم أوقفت إسرائيل إطلاق النيران، عند حلول المساء، للمرة الحادية عشرة، بعد أن شجب العالم بأسْره الغارات الانتقامية الإسرائيلية على بيروت طوال الأيام الماضية. وأعلنت المصادر الإسرائيلية مقتل جندي، وإصابة تسعة آخرين، نتيجة إطلاق النار بين الجانبَين.
2. الموقف السياسي داخل إسرائيل
أذاعت وكالة الأنباء الإسرائيلية، "إيتيم"، عريضة تحمل توقيع ألفين من الجنود والضباط الاحتياطيين يعارضون حرب لبنان، ويطالبون باستقالة وزير الدفاع الإسرائيلي، أرييل شارون، الذي ظهر ممتعضاً، أثناء لقائه فيليب حبيب، حيث قال له أن الرأي العام الإسرائيلي، أخذ يندد، أكثر فأكثر، بهذه الحرب، التي لم تنتهِ بعد. وكانت التهمة موجهة إلى شارون شخصياً، حتى إن وحدة الجيش بدأت تتفتت، وأخذت الشكوك تتولد، على كل مستويات القيادة، وبدأ الاحتياطيون يجاهرون بها. وتوقع بعض المراقبين أن ساعات شارون أصبحت معدودة، وإن الإدارة الأمريكية أصبحت لا تريده، كمتحدث معها. وفي الوقت نفسه، أعلن حبيب، بعد عودته من مباحثات القدس، أن مباحثاته كانت جيدة، وأن الحل الدبلوماسي لأزمة بيروت أصبح وشيكاً.
تاسعاً: الموقفان، العسكري والسياسي، يوم 12 أغسطس
1. الموقف العسكري
وفي الثاني عشر من أغسطس1982، وعلى مدى إحدى عشرة ساعة كاملة، ومن خلال 220 غارة جوية و44 ألف قذيفة، حاولت إسرائيل تدمير مباني بيروت الغربية. وأدت هذه الغارات إلى مقتل وجرح أكثر من 500 مواطن، فلسطيني ولبناني، وتدمير 800 منزل.
2. الموقف السياسي
في ضوء تقدُّم القوات الإسرائيلية، لا سيما في جبل لبنان، نحو الشمال، خارقة قرارات الأمم المتحدة، وموسعة رقعة انتشارها في الأراضي اللبنانية، إذ وصل إلى شمال جبيل ـ وجّه الاتحاد السوفيتي، في 12 أغسطس، دعوة ملحّة لعقد جلسة علنية لمجلس الأمن، من الفور، للنظر في الوضع المتدهور. وبناءً على طلب الاتحاد السوفيتي، دعي مجلس الأمن إلى الانعقاد للنظر في الوضع المتدهور في لبنان. وتقدمت مجموعة عدم الانحياز بمشروع قرار إلى مجلس الأمن، وبعد إجراء بعض التعديلات، ووفق عليه، بالإجماع، تحت الرقم (518)، في 12 أغسطس 1982. (اُنظر تقرير الأمين العام عن القرار الرقم (518)، في 13 أغسطس 1982).
وعلق المندوب اللبناني على القرار، بقوله: "إن ما ورد في القرار، يمثل الحدّ الأدنى". كما بعث الأمين العام للأمم المتحدة، برسالة إلى وزير الخارجية اللبناني، حول القرار (518)، (اُنظر ملحق نص رسالة الأمين العام إلى وزير الخارجية اللبناني) طالب فيها بإبلاغه جميع المعلومات، التي تتعلق بتطبيق القرار الرقم (518).
عاشراً: تطورات الموقف السياسي، وخروج القوات الفلسطينية من لبنان (13 أغسطس ـ 4 سبتمبر 1982)
1. الموقف، يوم 13 أغسطس
استأنف المبعوث الأمريكي، فيليب حبيب، مفاوضاته السياسية من أجل تحقيق خطوات عملية ببدء تنفيذ الحل السياسي. فأرسلت إسرائيل، شروطاً تعجيزية، رفضت معظمها الحكومة اللبنانية والمقاومة الفلسـطينية. وكان من أهم الشروط الإسرائيلية رفضها نشر المراقبين الدوليين للإشراف على وقف إطلاق النار، ورفض التزامن بين وصـول القوات الدولية المتعددة الجنسيات وبين مغادرة المقاتلين الفلسطينيين. وأكـدت الردود الرسمية، اللبنانية والفلسطينية، أن قضية المراقبين الدوليين هي مسألة في يد مجلس الأمن الدولي، صدر عنها قراره الأخير، ولا يجوز لإسرائيل رفض هذا القرار أو التفاوض عليه.
كما أوردت الإذاعة الإسرائيلية تقريراً عن المناقشات، التي جرت خلال جلسة مجلس الوزراء الإسرائيلي، أثر تلقّي رئيس الحكومة، مناحم بيجن، تحذيراً من الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، يهدد فيه بسحب مبعوثه، فيليب حبيب، ما لم يوقف الطيران الإسرائيلي غاراته على بيروت. وانتهت الجلسة بإعلان أن سلاح الجو لن يُستخدم، إلا بعد مصادقة رئيس الوزراء.
2. الموقف، يومَي 14 و15 أغسطس
توجه المبعوث الأمريكي، فيليب حبيب، إلى إسرائيل، ربما في خاتمة رحلته المكوكية. وقد أكد المبعوث الأمريكي لوزير الخارجية اللبناني، فؤاد بطرس، أن الموقف الإيجابي للولايات المتحدة الأمريكية، من قرار مجلس الأمن الأخير (518)، كان بإلحاح وتشجيع منه، لإظهار استياء الولايات المتحدة الأمريكية من استمرار حصار العاصمة ومن خرق إسرائيل وقف إطلاق النار.(ملحق البرقية الرقم 565، في 15 أغسطس 1982، من فؤاد بطرس، إلى غسان تويني).
أما الموقف السوري، فكان يرى أن يعالج الموضوعات المتعلقة بالجيش السوري في لبنان، في محادثات ثنائية بين سورية والحكومة اللبنانية.
أما الموقف اللبناني، فتحرك في إطار المطالب التالية:
أ. وقف إطلاق النار، ونشر المراقبين.
ب. تنفيذ قرارات مجلس الأمن، لا سيما بالنسبة إلى رفع حصار بيروت.
ج. مساندة الحكومة اللبنانية على جهودها واتصالاتها، الهادفة، في مرحلة أولى، إلى إنقاذ مدينة بيروت، وذلك بخروج القيادة الفلسطينية والمقاتلين الفلسطينيين، وباقي القوات غير اللبنانية، من بيروت، إلى خارج لبنان.
3. الموقف، يوم 16 أغسطس
حققت محادثات المبعوث الأمريكي فيليب حبيب، تقدماً واضحاً نحو الوصول إلى حل سلمي للأزمة اللبنانية. فقد قدمت إسرائيل تنازلاً مهماً، تمثّل في سحب ثلاثة من شروطها، التي كانت تتمسك بها، مقابل موافقتها النهائية على الخطة، التي أعدها حبيب لإجلاء الفدائيين عن بيروت. فقبلت بمبدأ التزامن، بين وصول قوات حفظ السلام الدولية وبدء عملية خروج الفدائيين من لبنان. كما وافقت على أن تكون طلائع القوات الفرنسية، هي أول قوة تبدأ في الانتشار في بيروت، ضمن قوات حفظ السلام الدولـية. ثم تنازلت عن شرط حصولها على قوائم مفصلة بأسماء الفدائيين الفلسطينيين، الذين يغادرون بيروت، وأعلنت أنها تكتفي بالحصول على قائمة بأسماء الدول العربية، التي سيتوجه إليها الفدائيون.
وعلى المستوى العربي: عقدت المجموعة العربية في الأمم المتحدة، صباح 16 أغسطس 1982، جلسة، لدراسة مشروع القرار، الذي قدمته منظمة التحرير الفلسطينية، تمهيداً لطرحه على الجمعية العامة، في دورتها الطارئة، التي تبدأ في اليوم نفسه، تحت بند فلسطين. وشُكلِّت لجنة مصغرة، لتعديل القرار المقترح تعديلاً يُلغى منه الإجراءات المتعلقة بالوضع في بيروت، التي هي موضع تفاوض. (اُنظر ملحق النص المُعدل لمشروع قرار طرحته منظمة التحرير الفلسطينية على الجمعية العامة في 16 أغسطس 1982)
4. الموقف، يوم 17 أغسطس
بدأت ترتيبات دخول القوة الدولية متعددة الجنسيات إلى بيروت، للفصل بين القوات الإسرائيلية والفلسطينية، تمهيداً لترحيل المقاومة. وتوجهت إلى الساحل اللبناني قوة بحرية أمريكية، تتكون من خمس سفن، تحمل على متنها 1800 جندي من مشاة البحرية الأمريكية، للاشتراك في القوة متعددة الجنسيات، التي ستشرف على انسحاب الفدائيين الفلسطينيين.
وعن الموقف العسكري، أعلنت المصادر الإسرائيلية، أن خسائرها، منذ بداية القتال في لبنان، بلغت 331 جندياً إسرائيلياً، وأُصيب 2011 آخرون، وفُقد 12 جندياً، وأُسر 3 جنود.
وعلى مستوى مجلس الأمن، جرت المشاورات في شأن إصدار القرار الرقم (519) للتمديد للقوات الدولية، على أساس أن تكون مدة التمديد في حدود شهرَين. وتم التصويت على القرار، في جلسة علنية، انتهت بالموافقة من 13 دولة، وامتناع دولتَين هما بولندا والاتحاد السوفيتي.
كما أعلنت تونس، أن جانباً كبيراً من قيادة المنظمة الفلسطينية، من بينهم ياسر عرفات، سوف يتوجهون إلى تونس. وأضافت بأن ياسر عرفات سيرافقه 50 شخصاً من قيادات منظمة "فتح" .
5. الموقف، يوم 18 أغسطس
وفي الثامن عشر من أغسطس1982، أعلنت المصادر الفلسطينية، التي اشتركت في مفاوضات فيليب حبيب لتسوية أزمة بيروت، أن الخطة أصبحت جاهزة، وتشتمل على النقاط التالية:
أ. الوقف التام لإطلاق النيران.
ب. إتمام عملية الجلاء عن بيروت سلمياً، ووفقاً لجدول زمني محدد، وتشرف قوات فضّ الاشتباك الدولية على عملية الجلاء.
ج. يخضع الفلسطينيون، من غير المقاتلين، الذين سيبقون في لبنان، للقوانين اللبنانية.
د. تنتشر القوات الدولية مع بداية إجلاء القوات الفلسطينية، ضماناً لأمن الفلسطينيين واللبنانيين المقيمين ببيروت الغربيـة، ولمسـاعدة الدولة اللبنانية. وتضم هذه القوات 800 جندي فرنسي، و800 جندي أمريكي، و400 جندي إيطالي، يتعاون معهم 300 جندي لبناني.
هـ. تقدر فترة عمل هذه القوة بشهر واحد، قابل للتجديد بناء على طلب الدولة اللبنانية، في حالة الضرورة.
و. تتم عملية الإجلاء بحراً، من ميناء بيروت إلى قبرص، وبراً عبْر طريق بيروت ـ دمشق، بعد أن ينسحب الجيش الإسرائيلي منه، وهو الانسحاب الذي يُعدّ ضرورياً لتأمين الإجلاء. ويتحرك الجيش اللبناني، بالتنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية، ضماناً للأمن .
ز. إنهاء عملية الانسحاب خلال أسبوعين، وفي وضح النهار، على أن يحمل المقاتلون الفلسطينيون معهم الأسلحة الخفيفة، من بنادق ومسدسات. وتسلم الأسلحة الثقيلة للجيش اللبناني.
ح. تغادر وحدات جيش التحرير الفلسطيني لبنان، بالطريق البري، إلى سورية، وينضم الجنود السوريون في قوة الردع العربية في بيروت، إلى القوات السورية المرابطة في البقاع، وفي الشمال اللبناني.
6. الموقف يوم 19 أغسطس
خلال الدورة الاستثنائية، الطارئة، السابعة، للجمعية العامة للأمم المتحدة، صدر قرار الجمعية، الذي تضمن ثلاثة قرارات:
الأول، يعالج القضية الفلسطينية، ويتطرق إلى الوضع اللبناني، في ضوء قرارات مجلس الأمن الأخيرة. وأقر بموافقة 120 صوتاً، وامتناع 20.
الثاني، يتعلق بالتحضير للمؤتمر الدولي، حول قضية فلسطين، وأقر بموافقة 122 صوتاً، وامتناع 18.
الثالث، ويتعلق بإحياء ذكرى ضحايا العدوان، من الأطفال الأبرياء، في 4 يونيه من كل عام، في نطاق الأمم المتحدة. وأقر بموافقة 102 من الأصوات، وامتناع 34 صوتاً. أمّا الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فقد صوتتا ضد هذه القرارات الثلاثة.
7. الموقف يوم 20 أغسطس، وبدء الخروج الفلسطيني
وفي العشرين من أغسطس 1982، انسحبت القوات الإسرائيلية من ميناء بيروت، وحلت محلها قوات تابعة للجيش اللبناني، قوامها 600 جندي، استعداداً لاستقبال طلائع القوات المتعددة الجنسيات، فضلاً عن أن قوة فرنسية سوف تنتشر في محيط مرفأ بيروت، مع الجيش اللبناني. كما اكتملت جميع الإجراءات الضرورية، لتأمين النجاح للخطوة الأولى من تنفيذ مشروع الحل السياسي لمدينة بيروت، وذلك بانتقال الدفعة الأولى من المقاتلين الفلسطينيين، التي بلغ عدد عناصرها 400 مقاتل، إلى الميناء حيث سينقلون، بحراً، بالسفينة اليونانية، "أفروديت Aphrodite" ، إلى ميناء لارناكا Larnaca القبرصي، ترافقها قطع حربيـة أمريكية، وفرنسية وإيطالية. ومن هناك، ينقل، جواً إلى عمان 265 مقاتلاً وإلى بغداد 135 مقاتلاً.
وسلّمت منظمة التحرير الفلسطينية إسرائيل أسيرين، هما الطيار آهارون أهياز، والجندي روني عوش، وجثث تسعة جنود آخرين.
8. مغادرة باقي القوات الفلسطينية لبنان (23 أغسطس ـ 4 سبتمبر)
تحددت توقيتات ترحيل باقي القوات الفلسطينية كالآتي:
أ. يوم 23 أغسطس، تسافر المجموعة الثانية، وتضم 1000 مقاتل تابعين لمنظمة "فتح" إلى تونس. كما تغادر المجموعة الثالثة، وتضم 1000 مقاتل ميناء بيروت، متجهة إلى اليمن الجنوبي.
ب. يومَي 24، 25 أغسطس، تسافر المجموعة الرابعة، المتجهة إلى اليمن الشمالي، وتضم 1300 مقاتل. وفي الوقت نفسه، تغادر المجموعة الأولى، المتحركة براً، على طريق دمشق الدولي، إلى العاصمة السورية.
ج. الفترة من 26 إلى 28 أغسطس، تصل باقي القوة المتعددة الجنسيات، من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن فرنسا 800 جندي، ومن إيطاليا 400 جندي. وفي التوقيتات عينها، تتحرك مجموعة تضم 3500 مقاتل إلى سورية، ومجموعة تضم 683 مقاتلاً، بحراً، إلى اليمن الشمالي.
د. يومي 29 ـ 30 أغسطس يُعاد توزيع القوات السورية خارج بيروت.
هـ. الفترة 1 ـ 4 سبتمبر، تستكمل مغادرة جميع مقاتلي المنظمة وجيش التحرير الفلسطيني، فيتجه 1500 مقاتل إلى سورية، براً، و670 مقاتلاً، بحراً. وخلال يومَي 2، 3 سبتمبر، يتم التحرك، بحراً، لجميع المقاتلين المتوجهين إلى السودان والجزائر،550مقاتلاً إلى الأخيرة، و488 مقاتلاً إلى الأولى.
وفي 30 أغسطس، غادر ياسر عرفات بيروت، يرافقه ثلاثة من كبار القادة الفلسطينيين، وأعضاء مكـتبه ومكتب الإعلام الفلسطيني، والحرس الخاص، على متن السفينة اليونانية، أتلانتي"، التي أبحرت في حراسة وحدات بحرية، أمريكية وفرنسية ويونانية، صوب ميناء بيريه Piraeus اليوناني، حيث غادرها بعد ذلك إلى المغرب، لحضور مؤتمر القمة العربي في مدينة "فاس".
ويعلق الكاتب الإسرائيلي، زئيف شيف، على خروج القوات الفلسطينية، بالقول: "من الواضح، أن عدد الفلسطينيين، الذين انسحبوا من بيروت، كان أكبر كثيراً مما قدرنا. وقد ظهروا في مظهر الجنـود، عند مغادرتهـم، وفي زي لائق. ولم نلاحظ عليهم علامات الانهيار، الجسدي أو النفسي. ولا شك في أنهم كانوا سيحاربون، في حال اختراق المدينة. ولو لم ينسحبوا، فإن إصاباتنا، كان من المحتمل أن تبلغ مئات عديدة. ويمكن إدراك ذلك، في معركة صغيرة، نسبياً، استمرت ليلة واحدة، أدت إلى سقوط 19 قتيلاً من جنودنا، وإصابة مائة منهم.
9. الإعلان الأمريكي عن مغادرة الفلسطينيين بيروت
وفي واشنطن، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، أن نحو 8300 من أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، و2600 من أعضاء جيش التحرير الفلسطيني، و3600 جندي سوري، غادروا بيروت خـلال الفترة من 21 أغسطس حتى الأول من سبتمبر 1982. هذا، إضافة إلى 175 من الجرحى، نقلوا إلى اليونان وقبرص للعلاج. وأشارت إلى أن أكثرية المقاتلين الفلسطينيين (نحو 3850 مقاتلاً) انتقلوا إلى سورية ونحو ألف مقاتل إلى تونس، ونحو 1100 مقاتل إلى اليمن الجنوبي، و850 مقاتلاً إلى اليمن الشمالي، و600 مقاتل إلى الجزائر، و500 مقاتل إلى السودان، ونحو 260 مقاتلاً إلى الأردن، و130 مقاتلاً للعراق.
10. الموقف الداخلي اللبناني، بعد خروج الفلسطينيين
وفي الوقت الذي بدأت تُنفذ فيه خطة انسحاب القوات الفلسطينية ... بدأت بوادر الانقسام الطائفي في لبنان، تهدد بحرب أهلية أخرى، بسبب انتخاب بشير الجميل رئيساً للبنان. إذ أعلن رشيد كرامي، زعيم السُّنَّة في شمالي لبنان، أن الشمال سيقطع علاقاته بدولة الجميل في الجنوب. وأكد أن انتخاب بشير الجميل باطل، من الناحية الدستورية، لأنه تم في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وبممارسة الضغوط على أعضاء مجلس النواب. وأعلن صائب سلام، أن الديموقراطية اللبنانية، تتعرض للخطر بانتخاب الجميل رئيساً للبلاد.
حادي عشر: خسائر الحرب اللبنانية (يونيه ـ أغسطس 1982)
1. الجانب الإسرائيلي
قدّرت تقارير المعاهد الإستراتيجية، العالمية، حجم الخسائر الإسرائيلية بنحو 350 قتيلاً، 2000 جريح، وثلاث طائرات قتال وثلاث طائرات عمودية، وما يقرب من 80 دبابة ، 100 عربة مدرعة.
كما صدر عن الجيش الإسرائيلي البيانات التالية: (332 قتيلاً، و12 مفقوداً، و4 أسرى، و2011 جريحاً). وبعد الانسحاب الإسرائيلي الجزئي من لبنان، والتي تم في شهرَي أغسطس وسبتمبر 1983، صدرت إحصائية عن الخسائر الإسرائيلية والتي قُدرت بـ 517 قتيلاً، 3000.
2. الجانب الفلسطيني واللبناني والسوري:
بلغ عدد القتلى (915 17) والجرحى (203 30) موزعين كالآتي :
· 470 قتيلاً، 697 جريحاً من المدنيين اللبنانيين، في الجنوب اللبناني.
· 725 1 قتيلاً، 384 2 جريحاً من الفلسطينيين والقوات المشتركة، في صور وعدلون والبص والبرج الشمالي والرشيدية وقرى قضاء صور.
· 239 1 قتيلاً، 588 1 جريحاً من المدنيين اللبنانيين، 137 4 قتيلاً، و 851 6 جريحاً من الفلسطينيين والقوات المشـتركة والقوات السورية، في صيدا والمية مية وعين الحلوة والرميلة والجيَّة والسعديات والدلهمية وسبلين ووادي الزينة والدامور.
· 458 قتيلاً، 797 جريحاً من المدنيين اللبنانيين، 348 3 قتيلاً و 169 5 جريحاً من الفلسطينيين والسوريين، في الشوف وعالية والبقاع الغربي.
· 436 قتيلاً، 589 جريحاً من المدنيين اللبنانيين، 587 قتيلاً و 989 جريحاً من الفلسطينيين والقوات المشتركة والسوريين، في الناعمة وخلدة والأوزاعي .
· 515 5 قتيلاً، 139 11 جريحاً من القـوات المشتركة والفلسطينيين والسوريين والمدنيين، في بيروت والضاحية الجنوبية.
 
التعديل الأخير:
المبحث السابع


الانسحاب الإسرائيلي من لبنان

أولاً: تطور الأوضاع على الساحة السياسية، عقب فوز بشير الجميل بالرئاسة
1. فوز بشير الجميل برئاسة الجمهورية، ورد الفعل، الإسرائيلي والأمريكي
في الثالث والعشرين من أغسطس 1982، انتخب مجلس النواب اللبناني الشيخ بشير الجميل[1]، انوذلك بأكثرية 57 صوتاً، نالها في الدورة الثانية للاقتراع. وكان لهذه الانتخابات رد فعل سلبي داخل لبنان، إذ أُطلقت النيران على منازل بعض النواب، الذين شاركوا في انتخاب هذا الرئيس. وذكر التليفزيون الإسرائيلي، أن الرئيس المنتخب، بشير الجميل، قال: "أنوي حل الحكومة الحالية في لبنان، وتشكيل حكومة جديدة، يكون أحد أهدافها الأولى إمكان توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل"، وأضاف التليفزيون الإسرائيلي: "إن الرئيس المنتخب طلب من سورية إقامة علاقة بلبنان، على أساس المساواة بين البلدين. وإن على سورية أن تعتبر لبنان، من الآن فصاعداً، بلداً حراً وسيداً. أما المقاتلون الفلسطينيون، فعليهم مغادرة لبنان حتى آخرهم. كما توقع مناحم بيجن، رئيس الوزراء الإسرائيلي، ووزير دفاعه، أرييل شارون، أن يوقع الرئيس المنتخب، بشير الجميل، معاهدة سلام مع الدولة العبرية. وأشارت جريدة "معاريف" الإسرائيلية إلى أن الجميل، أشار، سراً، إلى أنه يعتزم توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، خلال ستة أو سبعة أشهر.
وأكّد بيجن أن إسرائيل ستنسحب من لبنان لدى انسحاب القوات السورية منه، وأن بلاده على استعداد لمساعدة الرئيس اللبناني المنتخب، بشير الجميل، على بناء جيش ممتاز، منضبط، ومسلح تسليحاً جيداً. واستطرد قائلاً: "آمل أن نتبادل الزيارات، يأتي هو إلى القدس، وأذهب أنا إلى بيروت. كما آمل توقيع معاهدة سلام مع لبنان في القريب العاجل".
كما أرسل بيجن رسالة شخصية إلى بشير الجميل، جاء فيها: "تفضلوا بقبول أحر تحياتي في مناسبة انتخابكم. ليكن الله في عونكم، يا صديقي العزيز، ويوفقكم في تنفيذ مهمتكم التاريخية، من أجل تحرير لبنان واستقلاله".
وفي لقاء بشير الجميل رئيس الأركان الإسرائيلي، رفائيل إيتان، كان الأول مهتماً بما سيستتبعه انسحاب الفلسطينيين. وذكر أن السوريين يقلقونه في الدرجة الأولى. إلاّ أن إيتان طمأنه، بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي، سينتشر في البقاع، في مواجهة السوريين، وهو على أهبة لضرب كل تحرك.
وبدأت إسرائيل تُحضِّر لمشروع اتفاق سلام مع لبنان. وبسبب طبيعته السرية، رفض واضعوه كشف النقاب عن مضمونه، حتى أمام خبراء وزارة الخارجية، أو أعضاء الحكومة.
وفي ذلك الوقت، كانت واشنطن تحتفل بنتيجة أخرى ـ في الأول من سبتمبر ـ وهي انتهاء جلاء الفلسطينيين عن بيروت، وأصبح فيليب حبيب بطلاً وطنياً. وطلب الرئيس ريجان من مشاة البحرية الأمريكية، الذين أرسلوا إلى بيروت في إطار قوات الفصل المتعددة الجنسيات، مراقبة وقف إطلاق النار، دون الاهتمام بإسرائيل وبجيش الدفاع الإسرائيلي. وثار غضب رئيس الوزراء الإسرائيلي، فقال: يتولد الانطباع لدى سماع الرئيس ريجان، أن كل ما حصل هو نتيجة لوجود بعض جنود البحرية، الذين تكرمت الولايات المتحدة الأمريكية بإرسالهم إلى لبنان، بعد أن وعد الإرهابيون فيليب حبيب بالمغادرة. أليس في هذا ما يدعو إلى الدهشة؟
وكانت واشنطن مهتمة بإعلان مبادرة سياسية جديدة، تحمل اسم الرئيس ريجان. فخلال أشهر عديدة، وبسرية تامة، أعدت وزارة الخارجية الأمريكية، بمشاركة مجلس الأمن القومي والبنتاجون، مشروعاً هدفه دفع العملية السياسية إلى الأمام. وكان بيجن أول من اطلع على مبادرة ريجان، وقد سارع إلى القول للسفير الأمريكي، لويس: "يا له من يوم صعب، بالنسبة إلينا نحن الاثنين، بالنسبة إليكم، وبالنسبة إِليّ حتى وصلنا إلى هنا!". كان يرى، بوضوح تام، أن الأمريكيين لن يتركوا ثمار بيروت تنضج، وقد أعرب بيجن عن هذا الشعور، في الأيام التالية، حين قرر رفض المشروع الأمريكي، وقال: "إنه مشروع ولد ميتاً". ثم أصدر أمراً بعقد اجتماع طارئ لحكومته، لتأكيد هذا الرفض.
2. لقاء بيجن وبشير الجميل
كان بيجن قد وعد شعبه بالهدوء لمدة أربعين عاماً، وبعقد اتفاق سلام مع لبنان، وبتحالف ثلاثي بين لبنان وإسرائيل ومصر. وقرر بيجن أن يناقش بشير الجميل في مستقبل العلاقات بين لبنان وإسرائيل، من خلال لقاء يُعقد بينهما. وحاول مستشارو بشير الجميل إقناع مندوبي الموساد وشارون، بتأجيل هذا الاتفاق، قائلين: "يجب أن تختاروا بين السلام مع بشير وبين عملية السلام مع لبنان". ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي كان مصرّاً على اللقاء. واختير مبنى في كارلتون نهاريا، وهي مدينة اصطياف صغيرة، شمالي إسرائيل. وبالفعل، تم اللقاء، وتصافح بيجن والجميل، ثم تعانقا، وتبادلا النكات. وبدأ بيجن حديثه إلى ضيفه بشير الجميل، بالقول: "عزيزي الرئيس بشير الجميل، أعزائي الزملاء، عزيزي شامير وشارون، أعزائي حضرات المدعوين. اسمحوا لي أن أتكلم كما كنت أفعل دائماً. يا بنَي، سأكلمك كأب. لقد فكرت دائماً في أنك ستصبح رئيساً للبنان، وأنك ستعيد بلادك إلى الاستقلال، والسيادة على كل أرضها، وإلى تحقيق الديموقراطية والسلام مع جيرانك. ... وإن العلاقات المتينة، القائمة بيننا، لن تنقطع. أمّا الآن، وقد رُسمت الطريق، وأزيلت عنها كل العوائق لإقامة لبنان مستقل، فقد حان الوقت لبناء مستقبل مشترك لشعبينا، يرتكز على السلام وعلاقات حسن الجوار". ورداً على كلمة بيجن، شكر الجميل رئيس الوزراء الإسرائيلي مساعدته، التي حصل عليها هو ورجاله، وتوفيره ظروف انتخابه رئيساً للجمهورية.
وواصل بيجن حديثه قائلاً: "لقد ارتكز تعاوننا معكم على واقع أن اتفاقاً للسلام، سيجري توقيعه فوراً، بعد الحرب". وحدق بيجن إلى بشير، الذي بدا شاحب اللون. فشرح بشير مشاكله قائلاً: "أتريدون دولة مسيحية صغيرة، تسيطر على قسم ضئيل من لبنان، وترغب في توقيع اتفاق سلام معكم، وكذلك معاهدة دفاع مشترك؟ أم تريدون أن تفسحوا لي المجال للاستفادة من الظروف الجديدة الناشئة في لبنان، وتشكيل حكومة تمثل قسماً كبيراً من السكان المسلمين؟ أمامي فرصة فريدة، بالفعل، لتوحيد لبنان تحت سلطتي، وتشكيل حكومة ترتكز على كل العناصر، التي يعز عليها مستقبل لبنان واستقلاله. أعطوني مهلة من ستة إلى تسعة أشهر، من أجل تحقيق الإجماع الوطني وتوطيده. عندها نستطيع أن نوقع معاهدة سلام معكم، تحقق علاقات طبيعية ومباشرة بين إسرائيل ولبنان، وكذلك ضمان أمن إسرائيل على حدودها الشمالية .
حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي، دون جدوى، إقناع بشير الجميل بتغيير موقفه، وقال: "يجب ضرب الحديد، وهو ساخن. فمع الزمن، تبرز تعقيدات ناجمة عن الحرب، يمكن أن تشكل خطراً على العلاقات الإيجابية، التي طورناها". ومن ثمّ، تقرر تكوين لجنة، تضم ممثلين عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزارتَي الدفاع والخارجية، وكبار القادة في إدارة بشير الجميل، من أجل مناقشة مستقبل العلاقات الإسرائيلية ـ اللبنانية.
وغادر بشير الجميل هذا الاجتماع مكتئباً ومُحَرَّجاً من اللهجة القاسية، التي استخدمها رئيس الوزراء الإسرائيلي. وبعد وقت قصير، عندما أُذيع من صوت إسرائيل، تقرير مفصّل عن هذا اللقاء، اغتاظ بشير، لأنه كان على اقتناع بأن تسريب هذا التقرير، كان مغرضاً، وأن المقصود هو إرباكه، وحرمانه من فرصة المناورة تجاه العناصر الإسلامية في لبنان، والمعادية للعلاقات بإسرائيل.
3. اغتيال بشير الجميل، واقتحام إسرائيل العاصمة اللبنانية
في الرابع عشر من سبتمبر 1982، وقبل تولّي بشير الجميل السلطة في لبنان، الذي كان مقرراً يوم 23 سبتمبر، وعندما كان يدير اجتماعاً في قيادة الميليشيات في بيروت، نُسف المبنى بقنبلة زنة 200 كجم، وعُثر على الجميل ميتاً وسط الأنقاض. وبموته مات التفكير في إقامة علاقات طبيعية بإسرائيل.
وفي الساعة السابعة، صباح يوم 15 سبتمبر 1982، أعلنت إذاعة صوت إسرائيل اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي بيروت الغربية. والواقع، أن بيجن، عندما سمع نبأ مقتل بشير الجميل، أمر قواته باحتلال بيروت الغربية. وفي الساعة الثامنة صباحاً، وصل وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون إلى بيروت، فأطلعه رئيس الأركان رفائيل إيتان، على الاتفاقات، التي تمت مع "الكتائب اللبنانية"، حيث تنص على التعبئة العامة، ومنع التجول، ودخول "الكتائب" إلى مخيمات اللاجئين. فوافق شارون، ثم اتصل برئيس الوزراء، وأبلغه بعدم وجود مقاومة، وأن كل شيء يسير كما كان متوقعاً.
وفي الساعة الحادية عشرة، أعلن الناطق باسم الجيش الإسرائيلي اقتحام بيروت الغربية، من أجل حفظ النظام، ومنع حدوث اضطرابات خطيرة". وفي التوقيت نفسه، التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي المبعوث الأمريكي، موريس درايبر، الذي احتج بشدة على دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت الغربية. فأبلغ بيجن المبعوث الأمريكي، أن هذه العملية، حدثت لاستباق بعض الأحداث. ثم أضاف: إننا نتخوف من أن تُسفك الدماء، أثناء الليل. واستطرد قائلاً: الكتائبيون يتصرفون بشكل صحيح، وقائدهم يسيطر جيداً على قواته. لكننا لا نستطيع قول الشيء نفسه عن القوى الأخرى. فهدفنا هو المحافظة على الأمن، وعدم حدوث مجازر".
وفي ظهر اليوم عينه، اجتمع وزير الدفاع الإسرائيلي مع قادة "الكتائب" في بيت الكتائب المركزي ببيروت. وقال شارون في هذا الاجتماع: "إن الوضع حرِج، ويجب علينا الآن اتخاذ قرارات. إننا معكم، وسنقدم إليكم كل مساندة ضرورية". وردّ زاهي بستاني، أحد زعماء "الكتائب" مطالباً شارون أن يحتل كل بيروت. فرد شارون قائلاً: "سنفعل ذلك، لكننا سنحتاج إلى مساعدتكم. سنحتل بعض الجسور الإستراتيجية، ومفارق الطرق. لكن يجب على "الكتائب" أن تفعل هي أيضاً ذلك. ابقوا على اتصال مع الجنرال دروري، وقرروا ما يجب فعله".
وفي السادسة مساءً، استمر تقدم القوات الإسرائيلية داخل بيروت، دون أي مقاومة. وفي التاسعة من صباح اليوم التالي، التقى السفير الأمريكي، موريس درايبر، وزير الدفاع الإسرائيلي، وطالبه بسحب قواته من بيروت الغربية، وذكر له "إن إسرائيل وضعت الولايات المتحدة الأمريكية في وضع صعب، لأنه من الممكن اتهامنا بالتواطؤ معكم، وأنه يجب توفير الفرصة أمام الجيش اللبناني لتسوية القضية". وأعلن درايبر، بحزم، أن إسرائيل لم تفِ بوعد، قطعه رئيس الوزراء، بعدم دخول الإسرائيليين إلى بيروت. ورد شارون: "عندما قطعنا هذا الوعد، كانت الأمور مختلفة، أما الآن، فإن الوضع صعب جداً. فإذا ما انتُهك الاتفاق، فإن الخطأ يقع على الفلسطينيين، لأنهم خدعوكم وخدعونا. اليوم، هناك عنصر واحد يستطيع تلافي الانفجار الشامل، هذا العنصر هو نحن".
وفي الساعة العاشرة، قدم إيتان تقريره التالي إلى وزير الدفاع: "المدينة كلها أصبحت بين أيدينا. الهدوء تام. والمخيمات معزولة ومحاصرة. سيدخل إليها الكتائبيون حوالي الساعة الحادية عشرة، أو عند الظهر". وبذلك، نجح شارون في تسيير "الكتائب" نحو مخيمَي اللاجئين، صبرا وشاتيلا، للقضاء على الفلسطينيين في هذين المخيمَين.
وفي ظهر يوم 15 سبتمبر، وصل القادة الكتائبيون إلى اجتماع مع قيادة الجيش الإسرائيلي في لبنان، قبل الدخول إلى مخيمَي صبرا وشاتيلا. وطبقاً للخطة، اتفق على دخول 150 كتائبياً مسلحاً إلى المخيمين. وكان الهدف المعلن هو القضاء على باقي أفراد منظمة التحرير الفلسطينية، المعتقد وجودهم في المخيمات.
وفي الساعة السابعة مساءً، التقط الملازم علول، مسؤول قوات القيادة العامة في بيروت، على جهازه، محادثة بين ضابط كتائبي، يحتجز النساء والأطفال والشيوخ، يستفسر إيلي حبيقة عما يجب أن يفعل بهم، فأجابه الأخير: "للمرة الأخيرة تطرح عليَّ مثل هذا السؤال. إنك تعرف جيداً ما يجب أن تفعل". وانفجر الكتائبيون ضاحكين، فأدرك علول أن هؤلاء النساء والأطفال والشيوخ سيقتلون، فأبلغ قائد القوة مضمون الحديث. وعلى الفور، ظهرت صورة بشعة فقد نفذت ميليشيات "الكتائب" مجزرة، قُتل فيها مئات الشيوخ والنساء والأطفال.
وفي الساعة السابعة والنصف مساءً، عقدت الحكومة الإسرائيلية اجتماعاً طارئاً، كشف خلاله وزير الدفاع الإسرائيلي النقاب عن أنه أجرى، في 12 سبتمبر، أي قبل يومين من اغتيال بشير، محادثات مع الرئيس الراحل، وأنهما توصلا إلى قرارات مهمة، حول طبيعة العلاقات الإسرائيلية ـ اللبنانية. كما وضعا خططاً تفصيلية، تنص على دخول الجيش اللبناني إلى بيروت الغربية، والقضاء، في غضون شهر واحد، على كل نشاط إرهابي في المدينة. وبرر شارون دخول قواته إلى بيروت الغربية، بالقول: حتى لا يتكرر القتال مرة أخرى حول بيروت الغربية. وخلال الاجتماع قال شارون للوزراء: "لقد أُبلغنا الآن بدخول فرقة كتائبية كبيرة إلى مخيمَي صبرا وشاتيلا، وهي تقوم بتمشيطه الآن". وفي نهاية الاجتماع، قال ديفيد ليفي: "إن الأمور الآن ليست بتبرير الحجج لدخول جيش الدفاع إلى بيروت، فإن هذه الحجج سريعة العطب، وتعرضنا لخسارة مصداقيتنا. فعندما نسمع أن الكتائبيين دخلوا إلى بعض الأحياء، ونحن نعرف إلى أي درجة يريدون الثأر، فإني هنا أتخوّف من مجزرة. فلن يصدق أحد أننا دخلنا بيروت الغربية لإحلال النظام، بل سنكون موضع اتهام. ومن ثم، أعتقد أننا متورطون بعملية، سنُلام عليها، ولن تنفعنا الحجج أبداً". والواقع أن هذه الكلمات، تبخرت في الفراغ، ولم يتحرك أي وزير.
وفي نهاية الاجتماع، اتُّفق على أن تصدر الحكومة البيان التالي: "بعد اغتيال بشير الجميل، احتل جيش الدفاع مواقع في بيروت الغربية من أجل تلافي أعمال العنف وسفك الدماء، إذ لا يزال في هذه المدينة ألفا إرهابي مزودين بأسلحة ثقيلة حديثة، مما يشكل انتهاكاً فاضحاً لاتفاقية الجلاء". وبطبيعة الحال، كان هذا البيان أكذوبة واضحة من أجل تبرير هذا التدخل. وفي الوقت عينه، ممارسة للضغط على أي حكومة لبنانية، من أجل أن توقع مع إسرائيل اتفاق سلام، طبقاً لشروط الأخيرة.
وفي الساعة السادسة من صباح يوم 17 سبتمبر، تلقّى رئيس مكتب الاستخبارات الإسرائيلية تقريراً بأن المعلومات الأولية، تفيد أن قوات "الكتائب" قتلت نحو 300 شخص في مخيمَي صبرا وشاتيلا. وفي الساعة التاسعة من صباح اليوم نفسه، بعث فادي فرام، قائد "القوات اللبنانية"، رسالة إلى إسرائيل، بعد حديث مع أمين الجميل[2]، جاء فيها أن أميناً وافق على عقد اتفاق سلام مع القدس، كما كان يتمنى أخوه الرئيس الراحل، بشير.
وفي ظهر هذا اليوم، تم الاجتماع بين شارون وشامير والمبعوث الأمريكي، درايبر، الذي طالب بسحب القوات الإسرائيلية من بيروت، ولكن شارون رفض هذا المطلب. وبعد الظهر، اجتمع رئيس الأركان الإسرائيلي مع قادة "الكتائب"، وعبّر لهم عن ارتياحه لتصرفهم في عملية التنظيف، التي تمت في مخيمَي صبرا وشاتيلا، وطالبهم بمواصلة هذه العملية في المخيمات، التي انسحب منها الإرهابيون ـ كما يطلق عليهم ـ إلى جنوب منطقة الفاكهاني، على أن يتم ذلك قبل صباح اليوم التالي، استجابة للضغط الأمريكي. وطلب زعماء "الكتائب" جرافات لهدم الأبنية الفلسطينية في المخيمين، فقبِل إيتان مطلبهم. وفي الساعة التاسعة مساءً، وخلال مكالمة هاتفية بين وزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس الأركان، أبلغ الأخير الأول، أن "الكتائب" قتلوا من المدنيين أكثر مما هو متوقع، وأضاف إيتان أنه طالب بإنهاء هذه العملية قبل الساعة الخامسة صباح اليوم التالي.
4. الموقف اللبناني بعد خرق إسرائيل وقف إطلاق النار
في 16 سبتمبر 1982، طلب لبنان إلى رئيس مجلس الأمن، دعوة المجلس إلى الانعقاد، من الفور. إذ تقدم بمشروع قرار، يتضمن إدانة إسرائيل، لخرقها وقف إطلاق النار؛ والانسحاب الفوري لقواتها من بيروت؛ وتأكيد قرارَي مجلس الأمن، الرقمَين (508) و(509). وتقدم مندوب الأردن بمشروع القرار، مضافاً إليه فقرة، تتعلق بإدانة اغتيال الرئيس المنتخب، بشير الجميل. وبعد مداولات بين الدول الأعضاء، أقر مجلس الأمن، بالإجماع، القرار الرقم (520)، في 17 سبتمبر 1982، الذي نص على إدانة التوغلات الإسرائيلية الأخيرة في بيروت، والتي تشكل انتهاكاً لاتفاقات وقف إطلاق النار، وقرارات مجلس الأمن (اُنظر نص تقرير الأمين العام عن القرار الرقم (520)، الصادر في 18 سبتمبر 1982)
5. موقف مجلس الأمن من المجزرة، التي تعرض لها المدنيون الفلسطينيون، في بيروت
في ضوء أحداث المجزرة، التي ارتكبتها إسرائيل، بالتعاون مع قوات "الكتائب"، اجتمع مجلس الأمن، في 19 سبتمبر 1982، وأصدر القرار الرقم (521)، في اليوم نفسه، بالإجماع، والذي يدين المجزرة، التي تعرض لها المدنيون الفلسطينيون. وأكد المجلس قراراته السابقة، التي تدعو إلى احترام حقوق السكان المدنيين، من دون تمييز. ويسمح القرار للأمين العام بزيادة عدد المراقبين الدوليين، في بيروت، من 10 مراقبين إلى 50 مراقباً، يمنحون حرية الحركة والانتشار، بالتشاور مع الحكومة اللبنانية. وأكد القرار سلامة السكان المدنيين.
6. الموقف اللبناني في شأن تشكيل قوات متعددة الجنسيات
وافق مجلس الوزراء اللبناني، في 20 سبتمبر 1982، على استدعاء قوات متعددة الجنسيات، لمساعدة الجيش اللبناني على الحفاظ على الأمن، وحماية المدنيين، في بيروت الغربية، لمدة محددة، قابلة للتجديد. وسلمت رسالة بذلك إلى الأمين العام للأمم المتحدة. (اُنظر ملحق مذكرة مندوب لبنان الدائم إلى الأمين العام للأمم المتحدة، في شأن إعادة تشكيل القوات المتعددة الجنسيات، في 20 سبتمبر 1982)
وفي اليوم نفسه، بعث الرئيس ريجان، برسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة يعلمه بموافقة الولايات المتحدة الأمريكية على طلب لبنان المشاركة في القوات المتعددة الجنسيات. (اُنظر ملحق نص الرسالة من الرئيس ريجان إلى الأمين العام للأمم المتحدة، الصادرة في 20 أغسطس 1982)
تفاصيل المجزرة، في الصحافة العربية، ووسائل الإعلام الأجنبية
في 19 سبتمبر 1982، صدر في جريدة "الأهرام"، في صفحتها الأولى، ما يصف بشاعة ما حدث:
· "ميليشيات الكتائب وحدّاد تقتحم المخيمات، وتقتل 1400 من الأطفال والنساء والشيوخ تحت حماية دبابات الغزو الإسرائيلي"
· "المخيمات تتحول إلى مقابر جماعية"
· ريجان يطالب إسرائيل بالانسحاب الفوري من غرب بيروت دون قيد أو شرط"
· بيروت في 18/9 ـ لقى اليوم ما يزيد على 1400 لاجئ فلسطيني، من الأطفال والنساء والشيوخ، مصرعهم في أبشع مجزرة دموية تشهدها لبنان، وذلك حينما اقتحمت قوات الميليشيا اليمينية، التابعة لكل من حزب الكتائب والرائد المنشق سعد حدّاد، مخيمات صبرا وشاتيلا، التي يعيش فيها اللاجئون الفلسطينيون، داخل العاصمة اللبنانية. ثم فتحت نيران الرشاشات، دون تميز، في الوقت الذي كانت فيه القوات الإسرائيلية تقوم بأكبر حملة اعتقالات ضد سكان المخيمات الفلسطينية المحاصرة بالدبابات والمدرعات، شملت ما يزيد على 1500 شخص من الفلسطينيين.
· أكوام الجثث ملقاة على الأرصفة ـ وفي مداخل المخيمات وداخلها، في مجموعات من عشرة أفراد، كان بينها بعض النساء وهن يحتضن أطفالهن، بينما اخترقت طلقات الرصاص القتلى من ظهورهم من الخلف. إن أشلاء الجثث والأطراف المقطوعة للأطفال والضحايا، كانت تبرز من تحت أكوام الأنقاض التي تراكمت داخل مخيمات اللاجئين، في أعقاب الهجوم الوحشي.
نعم، جريمة بشعة ارتكبها أُناس، بلا قلوب، تجردوا من إنسانيتهم، وتحكمت فيهم شهوة الانتقام. فقد صدرت جريدة "الأهرام"، يوم 20 سبتمبر 1982، تصف التفاصيل المروعة للمذبحة الوحشية:
· "بقر بطون النساء، وطعن الأطفال الرضع بالسكاكين، وتهشيم الرؤوس، وسلخ الجلد"
· "الميليشيات اليمينية قتلت كل من لم يفر، ذبحاً أو حرقاً، وقيدت الضحايا بالحبال"
· بيروت في 19/9 ـ أجمعت المصادر المختلفة على أن رجال الميليشيات اليمينية بقروا بطون النساء، وربطوا الضحايا بالحبال قبل إعدامهم، وطعنوا الأطفال الرضع بالسكاكين، وهشموا رؤوس الضحايا، وشوهوا الوجوه بالرصاص، كما سلخوا جلد البعض الآخر … إن جثث الضحايا لا تزال ملقاة، حتى صباح اليوم، في الشوارع وتحت الأنقاض، وفي كل شبر من أرض المخيمات … إن الميليشيات الكتائبية اقتحمت المخيمات، في حوالي الساعة السادسة من مساء يوم الجمعة الماضي، 17/9، أي بعد الغزو الإسرائيلي لبيروت الغربية بيومين، واستمرت في عمليتها القذرة حتى صباح السبت.
كما وصف مراسل وكالة الأنباء الفرنسية، بشاعة ما حدث:
إن سكان مخيم شاتيلا قُتلوا "بهدوء". شاهدت في نهاية ممر ضيق، غرفة مظلمة تفترش أرضها مراتب تناثرت فوقها خمس جثث تلتصق ببعضها، لرجل وسيدة وصبيين وطفل رضيع، اغتيلوا جميعاً وهم نائمون. وفي ممر آخر أُلقيت خمس جثث أخرى تغطيها الدماء، وقد انتفخت وجوه الضحايا، بسبب إعدامهـم رمياً بالرصاص قبل إلقاء جثثهم. وفي أحد الشوارع اغتيلت عائلة حاولت الفرار مع أطفالها، بينما لا يزال نبض الحياة يدق في جسد طفل رضيع يرتدي فانلة حمراء بين يدي أمه الميتة. .. تحت إحدى عربات النقل كان هناك جثث 15 شاباً تحطمت رؤوسهم وشوهت وجوههم بطلقات الرصاص وقيدوا بالحبال. على جانبي الطريق .. تنتشر أيضاً جثث القتلى ومن بينها جثث المسنين والكهول … إن رؤوس كثيرين من القتلى كانت مهشمة، في حين جحظت أعينهم وبقرت بطونهم.
وقال صحفيان تابعان لمحظة راديو "باسيفيكا" الأمريكية:
"لقد رأينا جثتين انتزع منهما جزئياً الجلد، "أي مسلوخين"، في حين تحمل جثث بعض الأطفال الرضع آثار طعنات بالسكين". وأفادت الأنباء أن كل من لم يتمكن من الفرار من المخيم، سواء كان طفلاً أو امرأة أو شيخاً مسنّاً. قد ذبح".
7. رد الفعل الإسرائيلي
وفي الساعة الثامنة صباح يوم 19 سبتمبر، تجمهر العديد من الإسرائيليين متظاهرين أمام منزل بيجن، ووصفوه بـ "بالمجرم"، وطالبوا باستقالة الحكومة، وتشكيل لجنة رسمية لبحث أحداث مخيمَي صبرا وشاتيلا. وفي ظهر اليوم عينه، وفي كلمة أمام فريق من الإسرائيليين، وعد أمين الجميل بالمحافظة على علاقات متينة بالقدس، وأكد عزمه على القيام بكل الالتزامات، التي كان قد تعهد بها شقيقه، إذ قال: "فيما يتعلق بعلاقاتنا الرسمية، يجب أن نتخذ قرارات توافق عليها أغلبية حكومتي". واحتج أمين على التقرير، الذي أذيع من صوت إسرائيل، محملاً "الكتائب" مسؤولية المجازر الدموية، التي حدثت في المخيمَين الفلسطينيَّين، قائلاً: "حتى لو كانوا هم الذين فعلوا هذا، فلماذا يُعلن عن ذلك؟ ولماذا يراقب جيش الاحتلال الإسرائيلي عمل هذه القوات؟ وعلى كل حال، يعرف الجميع ما يمكن أن تفعله الميليشيات في مثل هذه الظروف!". وألمح أيضاً إلى أنه سيلتقي القادة الإسرائيليين، بعد انتخابه رئيساً للجمهورية.
وفي الساعة التاسعة مساءً، دُعي الوزراء إلى منزل مناحم بيجن، لمناقشة مجازر مخيمَي اللاجئين. وأوضح شارون، خلال الاجتماع، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي، لم يدخل إلى المخيمَين. كان بيجن غاضباً مما حدث، بسبب توجيه الاتهامات إليه مباشرة وإلى حكومته، داخل إسرائيل وخارجها، فأصبح هو المسؤول الأول عن تلك المجازر. وعلى الرغم من أن البيان، الذي صدر عن الوزارة الإسرائيلية بأن الاتهامات المتعلقة بمسؤولية الجيش الإسرائيلي عن هذه المأساة، هي افتراء بغيض ضد حكومته، إلا أن السخط العام لم ينخفض، بل على العكس من ذلك، أخذ يزداد تدريجياً، كما أن المطالبين بلجنة تحقيق رسمية، أصبحوا أكثر تشدداً.
لقد أدت أخبار المجزرة إلى احتجاج دولي ضد الحكومة الإسرائيلية. وطلبت أحزاب المعارضة الإسرائيلية اجتماعاً طارئاً للكنيست، وقدمت استجواباً إلى الحكومة. ونادت باستقالة رئيس الوزراء ووزير الدفاع. وقالت إن حقيقة إعلان إسرائيل مسؤوليتها عن استتباب القانون والنظام في بيروت الغربية، قد حمّلها، مباشرة، مسؤولية الأحداث المأسوية، التي نزلت بمخيمَي صبرا وشتايلا، بل إن سماحها للميليشيات بدخولهما، كان خطأً كبيراً، يقع على عاتق من اتخذوا هذا القرار.
وفي البداية، قاوم بيجن الضغط العام لتنفيذ الاستجواب، قائلاً: "إنه يكفي أن يجري استجواب من دون السلطة المخولة، قانوناً، للجنة الاستجواب". وصوّت وزير الطاقة في حكومة بيجن، إسحاق برمان، وعضو آخر من تجمع الحزب الليبرالي ضد الحكومة، ودعما طلب الاستجواب، واستقال برمان من الوزارة. ووافق الحزب القومي الديني، وحزب تامي، وكلاهما من التجمع الحاكم، على طلب الاستجواب. وبذا، تعرضت الحكومة لخطر مواجهة طلب الأغلبية في الكنيست. كما طالب نحو 400 ألف إسرائيلي بضرورة الاستجواب. وفي ضوء الإلحاح في هذا المطلب، من داخل إسرائيل وخارجها، تراجع بيجن، وتم تنفيذ الاستجواب، برئاسة مدير المحكمة العليا، إسحاق كاهان، وعضوية أهارون باراك ويونا أفرات، عضوَي المحكمة العليا.
وانعقدت المحكمة لعدة أشهر، واستمعت لعدد كبير من الشهود، بمن فيهم رئيس الوزراء، ووزير الدفاع وأعضاء آخرون من الوزارة. وفي فبراير عام 1983، نُشر تقرير اللجنة، وفيه تأنيب لرئيس الوزراء على نقص سيطرته الحازمة، وكذا لوزير الدفاع، ورئيس الأركان، وقائد المنطقة الشمالية، الجنرال دروري، وقائد القوات في بيروت، العميد أموس يارون، ومدير الاستخبارات العسكرية، يهو شواعي ساغي، ووزير الخارجية، إسحاق شامير Yitzhak Shamir. وطالب التقرير بعزل وزير الدفاع، وطرد مدير الاستخبارات العسكرية، وإبعاد العميد يارون عن المناصب القيادية، لمدة ثلاث سنوات. وبالفعل، أُعفِيَ شارون من منصبه، كوزير للدفاع، واستبدل به موشي أرينز، الذي كان سفيراً لإسرائيل في واشنطن.
ثانياً: انتخاب أمين الجميل رئيساً للجمهورية، وسياسته تجاه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل
1. انتخاب أمين الجميل، وردود الفعل المختلفة
انتُخب أمين الجميل رئيساً للبنان، في 21 سبتمبر 1982. ولم يرسل له مناحم بيجن برقية تهنئة، فالقدس كانت تعرف، أن أسلوب العلاقات بشقيق بشير، سيكون مختلفاً. وشعرَ بعضُ المسؤولين الإسرائيليين بالذنب لعدم إقامتهم علاقات بأمين، خلال الحرب؛ إذ كانوا يعتقدون أن بشيراً لن يرضى عن ذلك، لأن والدهما، بيار الجميل، قدم الرئيس الراحل، كرجل الحوار اللبناني ـ الإسرائيلي، في حين أن أميناً، كان مكلفاً بإقامة علاقات بالبلدان العربية. وأظهر أمين معرفة كبيرة بالحلول، التي كانت إسرائيل قد اتفقت عليها مع شقيقه، إذ كان يطّلع عليها دورياً، من خلال اجتماعات عائلية في بيت والدهما، في بكفيّا. وكان أمين على اطّلاع أيضاً على الاتفاقات، التي عقدت خلال آخر لقاء بين شارون وبشير، في 12 سبتمبر. وكان يعرف أن مناقشات قد تمت حول مستقبل جنوبي لبنان، ووجود جيش الاحتلال الإسرائيلي في هذه المنطقة.
والواقع، أن أميناً كان مختلفاً كثيراً عن شقيقه. فبعد تسلّمه مقاليد الحكم، لم يأتِ أبداً على ذكر إسرائيل في خُطبه. في حين تحدث كثيراً عن برقيات الدعم، التي بعث بها الرئيس حافظ الأسد، وشخصيات من الأوساط الإسلامية اللبنانية.
كان أمين الجميل في وضع حرِج، بين القدس ودمشق. كان يقف على مسافة سواء، بين الكتائبيين الحذرين، الذين كانوا على يقين من أنه لن يخونهم، وبين مراكز السلطة الإسلامية، التي كان أمين يفكر في تأسيس نشاطه عليها. وفضلاً عن ذلك، كان هناك الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبح ممثلوها من أقرب مستشاريه، فكان لا يخطو خطوة واحدة من دونهم. وظهر وكأن الخطة الإسرائيلية، لم تؤدِّ إلى شيء.
كانت أول تجربة للحكم على موقف أمين الجميل تجاه إسرائيل، ما طلبته واشنطن، وبموافقة من الأُسرة الدولية: "يجب على إسرائيل، فوراً، سحب قواتها من بيروت، لإفساح المجال أمام عودة قوات الفصل المتعددة الجنسيات إلى لبنان". وتحت الضغوط الخارجية، وبدعم من الرأي العام الإسرائيلي، انسحبت القوات الإسرائيلية، على عجَل، من العاصمة اللبنانية، ورابطت قوات الفصل المتعددة الجنسيات حول بيروت، من أجل مساعدة الجيش اللبناني على تطبيع الوضع، ونزع سلاح الميليشيات العديدة.
وفي نهاية عام 1982، حاولت إسرائيل، مرة ثانية، جسّ النبض من أجل عقد اتفاق سلام مع لبنان، وذلك لسببين. أولهما معنوي. والثاني عسكري، كوجود الجيش الإسرائيلي في لبنان، مع إمكان تطبيع العلاقات بين البلدين. ولكن الجهود الإسرائيلية كان يتم تعليقها من قِبل الحكومة اللبنانية، بسبب الأوضاع السياسية اللبنانية. وحدث تقارب بين أمين الجميل والولايات المتحدة الأمريكية، من خلال مبعوثها، موريس درايبر، أدى إلى زيارة أمين واشنطن، حيث استقبل استقبال المنتصرين الحقيقيين في الحرب.
2. تطور المباحثات اللبنانية ـ الإسرائيلية
بدءاً من شهر نوفمبر 1982، بدأت المباحثات بين الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية، بمشاركة من الولايات المتحدة الأمريكية. وانعقدت الاجتماعات، بالتبادل، في إسرائيل ولبنان. وطلبت إسرائيل انسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان، بما فيها القوات السورية والإسرائيلية، مع اتخاذ ترتيبات كافية في جنويي لبنان، لضمان عدم عودته، مرة أخرى، قاعدة لهجمات منظمة التحرير الفلسطينية على شمالي إسرائيل، مع إقامة علاقات طبيعية بين إسرائيل ولبنان، متضمنة حرية التنقل والسياحة والتجارة ومتعلقاتها الأخرى، والمحافظة على مكاتب التمثيل المتبادل بين الحكومتين. وطالبت إسرائيل بمنطقة أمنية، عمقها 45 كم
وأثناء المباحثات، سحبت إسرائيل مطلبها الخاص بالاحتفاظ بمراكز ملاحظة وإنذار داخل الأراضي اللبنانية. ونُوقشت الترتيبات لتنشيط دوريات مشتركة من الجانبين، وتم بحث طلعات الاستطلاع الجوي الإسرائيلية والدوريات البحرية، في أجواء لبنان وعلى سواحله. وطلبت إسرائيل استبقاء الرائد سعد حداد، ليكون قائداً للمنطقة الجنوبية من لبنان، وبالتحديد لمسافة 25 ميلاً شمال الحدود الإسرائيلية، وذلك في إطار الجيش اللبناني. وكان هذا المطلب يمثل مشكلة رئيسية في المباحثات مع الحكومة اللبنانية، التي رفضت الاعتراف بالرائد حداد، إذ تُعدّه خائناً، بينما رفضت إسرائيل التخلي عمّن ثبتت صداقته في الأوقات العصيبة.
وفي فبراير 1983، وصلت المناقشات الإسرائيلية ـ اللبنانية إلى طريق مسدود. واستمر أمين الجميل يرفض إقامة علاقات بإسرائيل، مماثلة لتلك التي تقام في زمن السلم، في الوقت الذي كان يعيش فيه أرييل شارون أيامه الأخيرة كوزير للدفاع، إذ كانت لجنة التحقيق في مجازر صبرا وشاتيلا على وشك تقديم تقريرها.





[1] ولد بشير الجميل في بيروت، عام 1947. وحصل على إجازة في الحقوق والعلوم السياسية، من جامعة القديس يوسف، في بيروت. يتحدث اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية. فقد ابنته في انفجار سيارة مفخخة عام 1980، ولم يتعدَ عمرها، في ذلك الوقت، العامين. وله ابن وبنت آخران. عيِّن قائداً لـ `القوات اللبنانية` الموحدة، عام 1976. كان صديقاً حميماً لبعض القادة الإسرائيليين، وتعاون معهم قبل الغزو الإسرائيلي للبنان. وكان يطالب، علناً، بانسحاب القوات السورية.')، رئيساً للجمهورية اللبنانية. وهو الرئيس السابع منذ استقلال لبن

[2] كان أمين الجميل قد رشح نفسه للرئاسة اللبنانية في 16 سبتمبر، على أن تجرى الانتخابات قبل 21 سبتمبر 1982، وقبل نهاية ولاية الرئيس (سركيس). وبعث زعماء `الكتائب` برسالة إلى إسرائيل، وعدوا فيها بأن أمين الجميل، سيتابع نهج شقيقه السياسي

[3] كانت إسرائيل تتشكك في نيات السوريين بسحب قواتهم من لبنان، فأكدت، بدورها، أنها لن تنسحب ما لم تتخذ الترتيبات الفعلية الكافية لضمان انسحاب القوات السورية، كذلك

[4] أعلن الرئيس حافظ الأسد، خلال محادثاته مع حبيب، أنه لن يتخذ قراراً بالانسحاب من لبنان، إلاّ بعد الاطلاع على الاتفاق الإسرائيلي ـ اللبناني

[5] عملية السلام من أجل الجليل`، ص 548 ـ 549

[6] يوجد في الجنوب اللبناني أعداد كبيرة من الشيعة الموالين لإيران، وقد اقترحت إيران، خلال الغزو، إرسال قوات لمساعدة سورية في لبنان
 
التعديل الأخير:
ثالثاً: مواقف القوى المختلفة تجاه مشكلة لبنان
1. الموقف الأمريكي
تركّزت الإستراتيجية الأمريكية، خلال هذه الفترة، في الدعوة إلى حل المشكلة على مرحلتين:
أ. المرحلة الأولى: ضرورة التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل ولبنان، مع دعوة إسرائيل، بصورة أساسية، لسحب قواتها من كل الأراضي اللبنانية.
ب. المرحلة الثانية: يُعرض الاتفاق، بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية، على العالم كله، مع محاولة إقناع السوريين بضرورة التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل.
ج. وفي مايو 1983، تم التوصل إلى اتفاق إسرائيلي ـ لبناني، يحدد انسحاب جميع القوات الأجنبية من التراب اللبناني، وتنظيم ترتيبات بمختلف أشكال التعاون بين إسرائيل ولبنان، بما فيها بدء المفاوضات، بعد الاتفاق بستة أشهر، وذلك لإقامة علاقات طبيعية بين البلدين.
ضمنت نصوص الاتفاق لإسرائيل رد الفعل ضد ـ ما تُسميه إسرائيل ـ قواعد الإرهاب في الجنوب اللبناني. كما شمل النشاط المشترك للدوريات الإسرائيلية ـ اللبنانية في لبنان، على الرغم من عدم السماح بتمركز القوات الإسرائيلية داخل البلاد. وترك الاتفاق العديد من الأسئلة من دون إجابة. وفي يونيه 1983، صدّق كل من الكنيست الإسرائيلي والبرلمان اللبناني على الاتفاق، وارتبط به موضوع انسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان. وكان متصوَّراً أنه لو لم يتم الانسحاب، سيصبح الاتفاق باطلاً. وعلى الرغم من موافقة البرلمان اللبناني على الاتفاق، إلا أن الرئيس أمين الجميل أجّل إبرامه. وفي نهاية المطاف، وبضغط من سورية ألغي الاتفاق في عام 1984.
وفي منتصف مارس 1983، جرت مباحثات أمريكية ـ إسرائيلية في شأن لبنان، حضرها من الجانب الإسرائيلي إسحاق شامير، ومن الجانب الأمريكي جورج شولتز. وفي نهاية هذه المباحثات، تولّد لدى الأمريكيين الشعور بأن إسرائيل، أصبحت على استعداد للتخلي عن مطالبها، مقابل منطقة أمنية، والاكتفاء بمقترحات واشنطن. ولم يرفض شامير عروض الأمريكيين، وأصبح عليه، الآن، مواجهة مشكلة أخرى: كيف سيقنع زملاءه في الحكومة بقبول مثل هذه المقترحات؟ ومنذ عودته إلى إسرائيل، اتُّهم بأنه "تخلَّى" عن إسرائيل، في واشنطن. (ولا يوجد في المصطلحات السياسية الإسرائيلية كلمة أسوأ من "التخلي". فما أن يُتّهم رجل السياسة بأنه "تخلى"، حتى يجد نفسه في وضع الدفاع). غير أن شامير أكد أنه لم ينحرف أبداً عن النهج الحكومي (أي سياسة حكومته المعلنة).
2. الموقف السوري
أعلن السوريون مجدداً ـ أنهم سينسحبون من لبنان[3]، بعد معرفة تفاصيل مسوّدة الاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي[4]. وخلال الاجتماع، الذي تم بين وزير الخارجية الأمريكي، جورج شولتز، والرئيس حافظ الأسد، شرح الوزير الأمريكي مضمون الاتفاق بين إسرائيل ولبنان، الذي ينص على انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية. وكان الرئيس حافظ الأسد يعلم جيداً تفاصيل الاتفاق، إذ قال: "إنه أسوأ من اتفاقات كامب ديفيد، إن الاتفاق يحدّ من السيادة اللبنانية، ويشكل خطراً على سورية والبلدان العربية الأخرى. وطبقاً لنص الاتفاق، لا يحق للبنان أن يحتفظ على أراضيه بأي سلاح مضادّ للطائرات، يزيد مداه على 45 كم. وهذا يعني، أن إسرائيل ستسيطر على الأجواء اللبنانية؛ فسلاح الجو اللبناني، لا يحق له التحليق فوق جنوبي لبنان، دون إذنٍ مسبق من السلطات الإسرائيلية. وإن كل القرارات، المتعلقة بجنوبي لبنان، يجب اتخاذها بصورة مشتركة بين الإسرائيليين واللبنانيين".
هاجم الرئيس السوري، حافظ الأسد، فكرة "المنطقة الأمنية"، التي طالبت بها إسرائيل. ووصف هذا الاتفاق بأنه استسلام، ترفضه سورية والدول العربية. كما أعلن الأسد، بكل صراحة، أمام شولتز، أن فيليب حبيب خدعه، خلال الأسبوع الأول من حرب لبنان، إذ وعده، باسم بيجن، أن الوضع سيبقى على الأرض كما كان خلال الأسبوع الأول من المعارك. وبعد مرور عدة أيام على ذلك، هاجمت إسرائيل مواقع الصواريخ السورية في لبنان ودمرتها، وهكذا، أصبح حبيب حليفاً للعملية الإسرائيلية.
3. موقف الاتحاد السوفيتي
من الواضح أن السوفيت بدأوا، بعد الاجتياح الإسرائيلي التحرك بشكل أكثر إيجابية، إذ أرسلوا كميات كبيرة من المعدات إلى سورية من أجل تعزيز خطوطها الأمامية في وادي البقاع، في مواجهة القوات الإسرائيلية. وفي فبراير1983، أقام الروس موقعين كبيرين لصواريخ أرض/ جو (سام ـ 5)، يصل مداها إلى 300 كم، أي أنها يمكن أن تصل، فوق جزء من البحر الأبيض المتوسط، أمام الساحل اللبناني، حيث ينتشر الأسطول الأمريكي السادس. وكان تشغيل الصواريخ وحمايتها يتم بواسطة القوات السوفيتية. وقد فُسر هذا الأمر على أنه إجابة سوفيتية على التدمير الكثيف لبطاريات الصواريخ أرض/جو السوفيتية، الموجودة في البقاع الغربي، وفى بعض المواقع داخل الأراضي السورية، التي تشكل عمقاً لهذه البطاريات، خلال حرب لبنان، وكرد فعل سوفيتي لتمركز مشاة الأسطول الأمريكي في بيروت، ضمن القوات الدولية المتعددة الجنسيات. بل إن بعضهم رأى في ذلك إنشاء قاعدة لقوات الانتشار السريع السوفيتية في الشرق الأوسط.
كما أدّت سورية، مدعمة من الاتحاد السوفيتي، دوراً كبيراً، في تشجيع معارضة أي رغبة من جانب عرفات في الترخيص للملك حسين في التفاوض مع إسرائيل.
رابعاً: موقف كلٍّ من سورية والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من الانسحاب
على الرغم من الضغوط الدولية والعربية على سورية، إلا أن أنها كرست جهودها في إيقاع اللوم على الاتفاق الإسرائيلي ـ اللبناني، بل إن الرئيس الأسد أكد أن الاتفاقية تهدد أمن سورية. كان ذلك يعني أن القوات السورية لن تنسحب من لبنان. وكان تصور الرئيس الأسد، أن استمرار النزف الإسرائيلي، بإيقاع الخسائر، واستمرار التعبئة والأعباء الاقتصادية، التي يشكلها لبنان على إسرائيل، من شأنهما أن يزيدا من الضغط السياسي داخل إسرائيل، لكي تنسحب من لبنان دون ارتباط ذلك بانسحاب سورية.
ومارست الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطها، ونشطت المملكة العربية السعودية، وبعض الدول العربية، للحصول على موافقة سورية على الانسحاب. وزار وزير الخارجية الأمريكي، شولتز، المنطقة عدة مرات، وبصفة خاصة سورية، التي كانت مصممة على إلغاء الاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي. وفي الوقت عينه، تعالت الصيحات في إسرائيل، ضد تشغيل قواتها في حراسة المنطقة بين القوى اللبنانية المتنازعة، والتي تؤدي إلى إحداث خسائر في القوات الإسرائيلية. وتحت هذا الضغط، أعادت إسرائيل انتشار قواتها على طول نهر الأولي. ووجدت نفسها تحت ضغط دولي، أمريكي ولبناني وأوروبي، من أجل تنفيذ الانسحاب من لبنان.
وعلى أي حال، فقد دفعت الخسائر التي حلت بالقوات الإسرائيلية، التي تسللت، ثانية، إلى داخل منطقة بيروت ومناطق أخرى بلبنان، إضافة إلى العبء الاقتصادي، الحكومة الإسرائيلية إلى أن تقرر منفردة، إعادة تنظيم أوضاع القوات، بما يقلل الأعباء التي تتحملها هذه القوات، وتضمن لها التأمين المناسب[5]. وبدا واضحاً أن أمل تحقيق الموافقة السورية على الانسحاب معدوم. ووجدت إسرائيل نفسها، في منتصف عام 1983، تواجه موقفاً يصعُب حله، فالمسيحيون مشتبكون في قتال مميت مع الدروز. ومختلف العناصر المسلحة، انقسموا في معركة مهلكة في شمالي لبنان. والسوريون يقاتلون قوات الميليشيات في المناطق المسيحية. ومنظمة التحرير الفلسطينية ممزقة نتيجة ثورة داخلية. والمفارز الليبية والإيرانية، تزيد من حجم الاضطراب داخل وادي البقاع.
ووسط هذا الصراع، جاء تفجير مركز القيادة الأمريكي في بيروت، في 23 أكتوبر 1983، حيث سُحبت جثث مشاة البحرية الأمريكية، وجثث موظفي سفارة الولايات المتحدة في بيروت، من تحت أنقاض المبنى، الذي دمره الانفجار، الذي قتل 16 موظفاً وعسكرياً أمريكياً. كانت النتائج رهيبة، بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إذ قُتل اثنان من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بالشرق الأوسط، كما قُتل أيضاً مدير أجهزة الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. وبدأت الأصوات تعلو داخل واشنطن، مطالبة بإجلاء الألف والخمسمائة جندي المرابطين في لبنان.
وقد تأكد للولايات المتحدة الأمريكية، أنه من المستحيل حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي من طريق استبعاد سورية عن هذه العملية. ولقد أعلن الأسد، بكل وضوح، أمام جورج شولتز، ما أثبتته التجربة من أن الحلول الجزئية، لا يمكنها أن تخفف حدّة النزاع أبداً في المنطقة، وأن الحل الوحيد المقبول، هو، إذاً، اتفاق، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة.
إن الطريق المسدود، الذي وجدت إسرائيل نفسها فيه في لبنان، أدى إلى انسحابها، من جانب واحد، إلى خط جبهة جديد. وهذا ما كان يتناقض مع الموقف الإسرائيلي السابق، أنها لن تنسحب من الأراضي المحتلة في لبنان، ما لم يبدأ السوريون انسحابهم منه.
وخلال صيف 1983، كانت الولايات المتحدة الأمريكية موجودة في لبنان، في حين بدأت إسرائيل بتنفيذ الانسحاب من الأراضي اللبنانية. وخلال تلك الفترة، أصبح مشاة البحرية الأمريكية هدفاً لعمليات دامية، شنتها بعض الطوائف اللبنانية. وانسحب الجيش الإسرائيلي من الشوف، الذي كان مسرحاً لصراعات دامية بين المسيحيين والدروز. وواجهت الحكومة الأمريكية صعوبات في العثور على مفاوض في القدس. وشيئاً فشيئاً، أخذ مناحم بيجن يغيب سياسياً، حتى إن أكثر مستشاريه ولاء، لم يستطيعوا إخفاء انزوائه. وكان أول إشارة إلى الغياب السياسي لبيجن، هو قراره بإلغاء زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وتفسير ذلك بسيط؛ فمع فشل بيجن في لبنان، أصبح ذا مزاج قاتم. لقد أدرك أن التحالف مع مسيحيي لبنان، كان مجرد وهم، ولم تتحقق تصفية منظمة التحرير الفلسطينية، ولم تستبعد أخطار إنشاء دولة فلسطينية. وإضافة إلى ذلك، حدثت انقسامات ونزاعات داخلية في المجتمع الإسرائيلي بسبب العديد من ضحايا الحرب في لبنان. كل هذه المعطيات، أدت بهذا الرجل إلى مواجهة الواقع، والقول بكل ما بقي له من قوة: "لن أذهب أبعد من ذلك". وقدم مناحم بيجن استقالته إلى رئيس دولة إسرائيل، حاييم هرتسوج، في 16 سبتمبر 1983، وانتهى عهد من الصراع داخل لبنان … مملوء بالدماء والحروب.
خامساً: الدروس المستفادة
بدأ الغزو الإسرائيلي للبنان يومَي 4 و5 يونيه سنة 1982، بقصف من الطائرات الإسرائيلية، وذلك بحجة الرد على حادثة إطلاق النار على السفير الإسرائيلي في لندن، شلومو أرجوف. واستهدفت الهجمات الجوية معاقل منظمة التحرير الفلسطينية، المتاخمة للحدود الإسرائيلية. ووقع هجوم أيضاً في أقصى الشمال على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ورد الفدائيون الفلسطينيون على ذلك، بقصف المستوطنات الإسرائيلية في الجليل.
وفي اليوم السابع من يونيه، اتصل ضابط إسرائيلي، بواسطة جهاز لاسلكي، بقائد الكتيبة النرويجية، وأخبره أن الجيش الإسرائيلي، "قد" يخترق خطوط الأمم المتحدة في منطقته. وعقب ذلك مباشرة، تقدمت الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية، مخترقة المنطقة. وخلال بضع دقائق، تحوّل وقف إطلاق النار إلى مجرد خرافة، وكذلك قدرته قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في جنوبي لبنان.
كان الغزو الإسرائيلي للبنان أمراً متوقعاً على مدى العامين السابقين للغزو، فأعد الفلسطينيون خططاً مفصلة لمواجهته، ولكن الشيء الذي لم يتنبه له الفلسطينيون، هو مدى ضخامة حجم الهجوم فلقد صرح أحد القادة الفلسطينيين في مدينة صور لمجلة "ميدل إيست Middle East" ، قبل بدء الغزو بأربع وعشرين ساعة، بقوله: إننا نشعر الآن بالثقة، استناداً إلى ما في أيدينا من أسلحة جديدة. ولن يكون الهجوم الإسرائيلي مهمة سهلة. واعتقادي أنهم يحتاجون، كي يتمكنوا من مواجهتنا، إلى حشد عدد ضخم من الطائرات، علاوة على 30 ألف جندي على الأقل. ولكن ما توقعه القادة الفلسطينيون، كان غير دقيق. فقد دفعت إسرائيل، في بداية الغزو، ما يقرب من 85 ألف جندي، ثم عزّزتهم حتى بلغ عديدهم 120 ألف جندي. وثبت أن ما لدى الفلسطينيين من أسلحة، لا يقارن بالتفوق النوعي والعددي للقوات الإسرائيلية. ويرجع الفضل في عدم جعل الغزو الإسرائيلي "مجرد نزهة قصيرة"، إلى استخدام الفلسطينيين لتكتيكات حرب العصابات، "تكتيكات القوات الخاصة"، التي تدربوا عليها. ووصل الإسرائيليون بسرعة إلى بيروت، ولكنهم لم "يمشطوا" كافة الأراضي التي عبروها. وتعين على أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي، أن يعترف، بعد حوالي أسبوعين من بدء القتال، بأنه لا يزال هناك عشرة آلاف من رجال المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني.
لقد كانت نية إسرائيل تتجه، بالأساس، نحو الاستيلاء على بيروت، والقضاء على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، متوقعة أن هذه العملية، يمكن أن تستغرق نحو أسبوع. ومن دون شك، كان من بين دوافع الغزو الإسرائيلي للبنان، السيطرة على نهر الليطاني، ذلك الحلم القديم. بيْد أن الدافع، الأهم من ذلك، إلى القيام بعملية الغزو، هو الاعتقاد أنه يتعين على إسرائيل، قبل أن يصبح في وسعها أن تقهر الضفة الغربية، وتفرض عليها الصيغة الإسرائيلية للحكم الذاتي، أن تدمر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وفي الوقت عينه، كسر هيمنة سورية على لبنان، وإقامة حكومة فيه، يسيطر عليها الموارنة، لتحرس المصالح الإسرائيلية هناك.
وفي الوقت نفسه، كانت التحركات الإسرائيلية، تخدم أيضاً الأهداف الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وذلك بتوجيه ضربة قاصمة إلى كل من سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية، الحليفين الرئيسيين للاتحاد السوفيتي.
وعلى الرغم من نفي واشنطن أي تورط لها في تلك الخطط الإسرائيلية، فإن ثمة دليلاً واضحاً جلياً على أن العكس هو الصحيح، بل إن وزير الخارجية، ألكسندر هيج، كان أحد المشجعين الرئيسيين على ذلك الغزو. وتم التنسيق الكامل بينه وبين شارون والسفير الإسرائيلي، موشي أرينز، قبل الغزو بعدة أيام، في واشنطن. بل إن إرجاء إسرائيل شن هجومها إلى ما بعد إتمام الانسحاب من سيناء، جاء نزولاً على إرادة واشنطن.
ولم يكن الفلسطينيون، وحدهم، هم الذين توقعوا ذلك الهجوم منذ شهور. إذ توقعه أيضاً الإسرائيليون المعنيون بهذا الأمر. فلقد تنبأت مقالة، نشرت في جريدة "هاآرتس" الإسرائيلية، في 28 أغسطس 1981، بأنه لا مجال لتحقيق رغبة إسرائيل في أن يسود الهدوء على جبهتها الشمالية، إلا من طريق دفع قوة عسكرية، براً، تطوق تلك المنطقة تماماً، ثم تطهرها. وتنبأت المقالة بأن شارون، سيسعى إلى الحصول على مساندة الولايات المتحدة الأمريكية لخططه هذه، وذلك لأنه يدرك أن ليس في مقدوره أن ينفذ مثل هذا المشروع، في مواجهة معارضة أمريكية قوية. وطرح الصحفي الإسرائيلي، ماكسيم جيلان، تحليلاً مماثلاً، في مارس 1982، قال فيه: "إن الإستراتيجية الإسرائيلية، تتمثل في زعزعة استقرار منظمة التحرير الفلسطينية، وغزو جنوبي لبنان حتى نهر الليطاني، وإقامة حكومة يسيطر عليها الكتائبيون اليمينيون، بقيادة بشير الجميل".
وبعد بداية الغزو الإسرائيلي، وضح جلياً حجم التواطؤ الأمريكي، من خلال استخدام الفيتو الأمريكي ضد قرار مجلس الأمن، في 9 يونيه 1982، الذي طالب بفرض عقوبات على إسرائيل. وفي تصريح لوزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، في 15 يونيه، قال: "أصبح غير واقعي المطالبة بانسحاب إسرائيلي غير مشروط". كما أشار ديفيد جونز، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، في اليوم نفسه، إلى أن الأمريكيين سعوا إلى انسحاب كافة القوات الأجنبية من لبنان، بما في ذلك القوات السورية وعناصر منظمة التحرير الفلسطينية. وازداد التواطؤ الأمريكي وضوحاً، في إثر وصول قطعتين بحريتين أمريكيتين إلى المنطقة، مع بداية الغزو، تمركزتا قبالة الساحل الإسرائيلي ـ اللبناني، وفي كريت، من أجل رصد تحركات البحرية السوفيتية.
ومن الواضح، أن واشنطن كانت متورطة تماماً في هذا الغزو. ويؤيد ذلك قول شارون: "كنت أناقش مع الأمريكان احتمال أن عملية الغزو قد تحدث. وبحثتها، في عدة أوقات، مع ألكسندر هيج، حين قام بزيارة المنطقة. وبحثتها مع واينبرجر، حين زرت واشنطن، قبل الغزو. وبحثتها أكثر من مرة مع السفير حبيب.
كما أكد شارون في حديثه: "إن تحالفنا مع الأمريكان، يقوم على المصالح المشتركة، وهم يعلمون ذلك. إن إسرائيل ساهمت في أمن الولايات المتحدة الأمريكية بقدر لا يقلّ عن مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية في أمن إسرائيل". وما يؤكد ذلك، أن وزير الخارجية، إسحاق شامير، صرح، خلال الغزو، "أن عملية السلام في الجليل، قد بدأت بموافقة تامة من واشنطن". وليس هناك شك، أن التواطؤ الأمريكي يعود، بالأساس، إلى اعتبارات سياسية، من أجل تحقيق الأهداف الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة. فعلى سبيل المثال، إن القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، سيؤدي إلى تحقيق رجحان لمصلحة "الكتائب" في لبنان، الحزب الذي تعتبره واشنطن موالياً للغرب وصديقاً لإسرائيل. كما أن هزيمة القوات السورية في لبنان، هي هزيمة للاتحاد السوفيتي، حليف سورية، بل سيؤدي القضاء على المنظمة أيضاً إلى شلل الدور الإيراني في لبنان[6].
كما أن الولايات المتحدة وافقت، قبل الغزو، على بيع 50 طائرة F-16 ، بمبلغ 3 مليارات دولار، و11طائرةF-15، بمبلغ 510 ملايين دولار، لإسرائيل. كما وافق الكونجرس الأمريكي على تقديم معونات إضافية إلى إسرائيل، قوامها 125 مليون دولار. وبذا، وصل حجم إجمالي المعونات الأمريكية لإسرائيل إلى 910 ملايين دولار، تم تحويلها إلى هِبة، بعد أن كان من المقرر، أصلاً، اعتبار نصف ذلك المبلغ قرضاً.
ومن الواضح، أن الولايات المتحدة الأمريكية، اشترطت على إسرائيل أن تنفذ هذه العملية في غضون أسبوع واحد، قبل تزايد الضغط الدولي. ولذا، نجد أن حماس واشنطن لتلك العملية، بدأ في الفتور، بعد مرور أكثر من عشرة أيام على بدء الهجوم، حينما أصبح من الواضح، أن الإسرائيليين قد أخفقوا في إنجاز المهمة في الموعد المحدد لها. وتحت ضغط من المجموعة الاقتصادية الأوروبية، ومن موسكو، ومن المملكة العربية السعودية، أصبحت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل مضطرين إلى قبول تحويل الأمور من ساحة الحرب إلى ساحة الدبلوماسية، واتخاذ خطوات لكبح إسرائيل دون مواصلة هجومها على بيروت. وإزاء إحساس واشنطن بتفاقم السخط، الدولي والإقليمي، على الغزو، اضطرت إلى الموافقة على تشكيل قوة حفظ السلام، من بعض القوى المتعددة الجنسيات، تشارك الولايات المتحدة الأمريكية فيها.
1. الدور العربي
ارتكزت المغامرة الإسرائيلية في لبنان على أن العرب لن يتحركوا. ولم يُدهش الفلسطينيين عدم تحرك العرب، لأنهم كانوا يتوقعون ذلك. ومن ناحية أخرى، أخذت الصحافة العربية على الموقف السوري قبوله وقف إطلاق النار، بينما كانت منظمة التحرير الفلسطينية تواصل القتال. وعلاوة على ذلك، فإن سورية تخلت عن عدة مناطق في لبنان.
كان للمملكة العربية السعودية، منذ بداية الغزو، الثقل الأكبر في تحريك العملية الدبلوماسية، وفي الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية، وصل إلى حدّ التهديد باتخاذ مواقف حازمة من واشنطن. بل كان لها دور إيجابي في دعم المنظمة الفلسطينية بالمعونات المادية، من طريق هيئة الصليب الأحمر الدولي. كما كان لها دور مهم في اجتماع اللجنة السداسية العربية، من أجل إيجاد حل دبلوماسي لمشكلة بيروت، ومنع إسرائيل من الهجوم عليها.
على الرغم من القطيعة العربية لمصر، خلال تلك الفترة، إلاّ أن التحرك الدبلوماسي المصري والضغط الذي مارسته القاهرة لإقناع واشنطن بالضغط على إسرائيل، كان دوراً إيجابياً، ميز الدور المصري. كما كان لمصر دور مهم في مجلس الأمن، من خلال المشروعات المشتركة، التي قدمتها، بالتعاون مع فرنسا، وكان لها التأثير الإيجابي في الساحة الدولية. بل خرجت التصريحات من القاهرة بأن مساندة الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل، بلا حدود، يمكن أن تؤدي إلى هزيمتها في المنطقة، وتفتح الباب للاتحاد السوفيتي، كي يعود إلى المنطقة. بل تساءلت إحدى الصحف عن سبب تحذير الولايات المتحدة الأمريكية الدائم للعرب من الخطر السوفيتي، وقالت: "إنه في الوقت الذي يطعن فيه الخنجر الإسرائيلي أعماق قلب العرب، وتقصف فيه الطائرات الأمريكية الآلاف من الفلسطينيين، فإننا لن نقبل مقولة أن الخطر يأتي من البحر الأسود".
2. الموقف السوفيتي
اتصف الموقف السوفيي بالصمت والسلبية المطلقة. وهذا ما دعا جريدة "لوفيجارو Le Figaro" الفرنسية إلى القول: "إن أقلّ ما يمكن أن يقال عن الكرملين، هو أنه التزم الصمت إزاء أحداث لبنان". بل إن وكالة "تاس" السوفيتية، أصدرت بياناً، اتهمت فيه واشنطن بالتواطؤ مع تل أبيب، وأدانت العدوان الإسرائيلي. ولكن البيان جاء خالياً من أي مساندة لسورية، ولو شفوية. بل إن موسكو فضلت اتّباع مبدأ "انتظر حتى ترى"، لذلك التزمت الصمت المشوب بالحذر. ومن ثم، كان هذا الموقف السوفيتي السلبي بالغ الغرابة، ويدعو إلى العجب.
ولا شك أن الموقف السوفيتي، بالنسبة إلى الغزو الإسرائيلي للبنان، يمثل منعطفاً جديداً ومهماً في السياسة السوفيتية إزاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي. فللمرة الأولى منذ عام 1967، يترك الاتحاد السوفيتي الساحة العربية ـ الإسرائيلية للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، لكي تسوّيا الأوضاع في المنطقة بالشكل المناسب لهما، مع الاكتفاء باتخاذ موقف الإدانة اللفظية، وتخلّيه عن حلفائه في المنطقة، وهم سورية والفلسطينيون والقوى التقدمية اللبنانية. والجديد في الموقف السوفيتي، هنا، هو إسقاطه لسياسة الدعم النشيط للموقف العربي. وهذا يمكن تفسيره في ضوء عدة اعتبارات، منها موقف الأمة العربية من الغزو الإسرائيلي للبنان، والذي أثبت للاتحاد السوفيتي عدم جدّية الأمة العربية في مواجهة الخطر الإسرائيلي. أضف إلى ذلك أن الاتحاد السوفيتي، بدأ ينوء بالنفقات الباهظة لوجوده، العسكري والسياسي، في المنطقة العربية، منذ أوائل الخمسينيات وحتى السبعينيات، فآثر الخروج من المنطقة.
سادساً: الدروس المستفادة من الحرب
تعَدّ حرب لبنان، عام1982، من الحروب البارزة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، في ضوء ما شملته من دروس ونتائج، فيما يختص بأساليب القتال، واستخدام نُظُم حديثة من الأسلحة والذخائر.
الدروس المستفادة، من وجهة النظر الإسرائيلية
1. سلاح الجو الإسرائيلي
إن إحدى الظواهر اللافتة للانتباه، والتي ميزت حرب لبنان، كانت في مجال سلاح الجو. وكانت كتابات المعلقين، التي رافقت إنجازات سلاح الجو الإسرائيلي، وتدميره بطاريات الصواريخ أرض ـ جو، هي الشيء الأبرز في حرب لبنان. ولم ينتبه أحد ـ لسبب أو آخر ـ إلى أن نجاح سلاح الجو كان له وجه آخر، وهو مدى مساهمة القوة الجوية الإسرائيلية في حسم المعركة البرية. وقد أبرزت حرب لبنان، أن التعاون القائم بين سلاح الجو والأسلحة البرية، لا يمكن أن يستمر بشكله الحالي، لأنه لا يتوافق مع ما يجري في ميدان القتال العصري. ففي حرب لبنان، لم يكن سلاح الجو قادراً على إعطاء القوات البرية ما تريد، إذ إنه استعد بصورة جيدة، في مجال تحقيق السيطرة الجوية، وتدمير الصواريخ المضادة للطائرات، لكنه لم يكن على استعداد لتقديم مساعدة متواصلة إلى القوات البرية وفق عقيدة الجيش الإسرائيلي القتالية. ومن ثم، فإن نظرية استخدام سلاح الجو خلال حرب لبنان، كانت نظرية قديمة.
ومن دروس القوات الجوية المستفادة، ذلك النجاح الذي حققته الطائرات العمودية الهجومية، من نوع كوبرا وديفندر، والمسلحة بالصواريخ (تو TOW ). فقد استطاعت هذه الطائرات تدمير عشرات الدبابات السورية، من نوع T-72.كما دمرت العشرات من السيارات وأجهزة الرادار ومصادر النيران الأرضية والأسلحة المضادة للطائرات فاستطاعت شل تحركات العناصر الفلسطينية على الطريق الساحلي.
2. مشكلة التوازن الصحيح في بناء القوات
أضاف ظهور الصواريخ المتنقلة، المضادة للطائرات، من نوع سام ـ 6 وسام-8 وسام ـ 9، بُعداً جديداً إلى القتال في الساحة الجوية، في ميدان القتال الحديث. إذ إن مفهوم "منطقة خالية" من أسلحة مضادة للطائرات، أصبح غير موجود، وهو المفهوم الذي يقيد استغلال الطائرات الهجومية، في مجال مساعدة القوات البرية. وفي هذا المجال، تعلم الجيش الإسرائيلي الدرس، وعزز قنوات التنسيق بين القوات البرية والجوية. وعمل على ترسيخ نظرية "مساعدة القوات البرية" (إسناد القريب) في مفهومها الجديد، والذي يتطلب تغييراً، عقلياً ونظرياً، بين قادة القوات البرية.
وقد استفاد جيش الاحتلال الإسرائيلي درساً مهماً، من هذه الحرب، هو "أهمية تحقيق التوازن الصحيح في بناء القوة"، خاصة التوازن بين الوحدات المدرعة ووحدات المشاة الآلية ووحدات المشاة، عند العمل في مناطق قتال ذات طبيعة طبوغرافية مختلفة، صحراوية أو جبلية، أو مبنية.
3. فائض في المعلومات، ونقص في الاستخبارات
كشفت حرب لبنان عن خلل عام في نظام "استخبارات المعركة الحديثة"، وهو أن المستوى الآمر في ميدان القتال، يعاني فائضاً في المعلومات، لكنه يعاني نقصاً في الاستخبارات. فالمعلومات هي عملية جمع بيانات عن الوقائع والأحداث، ومصادر الجمع خلال الاجتياح كانت معيناً، لا ينضب. وقد نتج من ذلك، وجود جهاز متطور لجمع المعلومات من مصادرها المختلفة، المدنية والعسكرية. أمّا الاستخبارات، فمعناها فرز المعلومات وتحويلها إلى استخبارات (فرز، تصنيف، تحليل، وتوزيع). وكان جهاز الاستخبارات، خلال حرب لبنان، مضطرباً، ولم تصل المعلومات، بعد تحويلها إلى استخبارات، إلى المكان الصحيح، في الوقت الصحيح. ومن ثم، لم يمكّن هذا الجهاز القادة من اتخاذ القرارات المناسبة.
4. الحرب الإلكترونية
أظهرت الحرب اللبنانية، أهمية تطوير استخدام وسائل الحرب الإلكترونية، سواء في مجال الاستطلاع أو الإجراءات المضادة (الإعاقة). وبرغم امتلاك إسرائيل تفوق كبير في هذا المجال إلا أن بعض الإجراءات الإلكترونية المضادة التي تعرضت لها وحداتها سواء من القوات السورية، أو أي مجالات أخرى قد أثرت على أعمال قتالها. مما دفع القيادة الإسرائيلية إلى البحث عن إجراءات ووسائل متطورة حتى تؤكد تفوقها في هذا المجال.
5. العقيدة القتالية
لم تتعرض القوات الإسرائيلية لمواقف قتالية صعبة، كذلك لم تشترك قواتها في معارك كبرى ضد قوات نظامية حتى تضع الأساليب القتالية في موقف اختبار. لذلك، فإن العقيدة القتالية بالكامل لم يطرأ عليها أي تغييرات بسبب هذه الحرب. وبصفة عامة، يمكن الخروج بالدروس التالية من حرب لبنان، عام 1982.
إن سلاح الجو الإسرائيلي، المسلح بطائرات أمريكية حديثة، والمزود بالمعدات الإلكترونية الحديثة والتسليح المتطور، يستطيع تدمير التكنولوجيا السوفيتية، في مجال صواريخ الدفاع الجوي. وكان أحد الدروس المهمة من هذه الحرب، هو إنتاج نظام الطائرات غير المرئية للرادار، والتي تجعل شبكة الصواريخ السوفيتية عديمة الجدوى، وأصبح بقدرة الغرب تهديد العمق السوفيتي.
كما يعدّ مجال الحرب الإلكترونية، هو أبرز مجالات الاستخدام في الحرب الإسرائيلية ـ اللبنانية، إذ تتوافر لدى إسرائيل أسلحة متعددة في هذا المجال، أثبتت حرب لبنان قدراتها وفاعليتها. فقد أدت المعدات الأمريكية دوراً كبيراً في مجالات التشويش، خاصة منها تلك المضادة للرادار والصواريخ. وقد نجح الإسرائيليون في ذلك نجاحاً كبيراً، وخير دليل على ذلك عمليات تدمير صواريخ SAM السورية في سهل البقاع. فقد أمكن الأسلحة المتقدمة تكنولوجياً تدمير الصواريخ، أرض ـ جو، السوفيتية الصنع، والتي تعدّ من أحدث الأسلحة التي أنتجها الاتحاد السوفيتي.
كذلك، فإن استخدام عمليات الإبرار، الجوي والبحري، طوال مراحل الحرب، كان له تأثير كبير في خلخلة الدفاعات الفلسطينية، بل الإسراع في تحقيق الهدف العسكري، وهو الوصول إلى بيروت.
كذلك، أثبتت هذه الحرب أهمية التخطيط المبني على معلومات دقيقة، وتفصيلية، وشاملة، مع استمرار الحصول على المعلومات بكافة الوسائل المتاحة خلال مراحل القتال، لأن ذلك يعني القدرة على تنفيذ أعمال القتال بصورة دقيقة، مع تقليل الخسائر.





[1] ولد بشير الجميل في بيروت، عام 1947. وحصل على إجازة في الحقوق والعلوم السياسية، من جامعة القديس يوسف، في بيروت. يتحدث اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية. فقد ابنته في انفجار سيارة مفخخة عام 1980، ولم يتعدَ عمرها، في ذلك الوقت، العامين. وله ابن وبنت آخران. عيِّن قائداً لـ `القوات اللبنانية` الموحدة، عام 1976. كان صديقاً حميماً لبعض القادة الإسرائيليين، وتعاون معهم قبل الغزو الإسرائيلي للبنان. وكان يطالب، علناً، بانسحاب القوات السورية.')، رئيساً للجمهورية اللبنانية. وهو الرئيس السابع منذ استقلال لبن

[2] كان أمين الجميل قد رشح نفسه للرئاسة اللبنانية في 16 سبتمبر، على أن تجرى الانتخابات قبل 21 سبتمبر 1982، وقبل نهاية ولاية الرئيس (سركيس). وبعث زعماء `الكتائب` برسالة إلى إسرائيل، وعدوا فيها بأن أمين الجميل، سيتابع نهج شقيقه السياسي

[3] كانت إسرائيل تتشكك في نيات السوريين بسحب قواتهم من لبنان، فأكدت، بدورها، أنها لن تنسحب ما لم تتخذ الترتيبات الفعلية الكافية لضمان انسحاب القوات السورية، كذلك

[4] أعلن الرئيس حافظ الأسد، خلال محادثاته مع حبيب، أنه لن يتخذ قراراً بالانسحاب من لبنان، إلاّ بعد الاطلاع على الاتفاق الإسرائيلي ـ اللبناني

[5] عملية السلام من أجل الجليل`، ص 548 ـ 549

[6] يوجد في الجنوب اللبناني أعداد كبيرة من الشيعة الموالين لإيران، وقد اقترحت إيران، خلال الغزو، إرسال قوات لمساعدة سورية في لبنان
 
التعديل الأخير:
موضوع جميل ولكنه اغلب الاراء التي وردت فيه هي راراء خاصة باصحابها وكثير منها مجرد استنتاجات لا اكثر اغلبها متفق عليه لكن الكثير منها فيه وجهات اختلاف
اهم ما لفت نظري في الموضوع هو اهداف اسرائيل من الحرب واكيد هذا يدعم ما قلناه في موضوع سابق وان لم يشر اليه صراحة هنا
ثانيا مواق الدول العربية وعلى الخصوص مصر وسوريا فما قيل عن الموق المصري صحيح باري الخاص وكذلك بعض ما جاء عن الموقف السوري
السوريين معروف عنهم عدائهم لمنظمة التحرير اللسطينية وهو ما يفسر المعارك الشرسة التي دارت بين القوتين ولكن السؤال لما وقف السوريين في وجه منظمة ياسر عرفات
هنا نجد الكثير من الاقوال من الجانبين ولكن صراحة اعتبر منظمة عرفات كانت لها اطماع خاصة وتحالات خاصة خصوصا مع النظام العراقي الذي كان عدوا للنظام السوري زيادة على ذلك وهذا رايي الشخصي ان ماكانت تقوم به منظمة التحرير اللسطينية كان يتناقض مع ما يصبوا اليه النظام السوري
 
اخي الزعيم لايوجد في التاريخ مايسمى استنتاجات او اراء شخصية

هي امور حدثت ولها مصادر وذكرت مصادرها في الهامش غالبا

والتعويل يكون اولا و اخيرا على دقة المصادر ومصداقيتها

تحياتي
 
موضوع ممتاز ... بارك الله فيك أخي فهد . لكن صراحة يحتاج إلى كثير من الوقت لقراءته بتمعن فهو ضخم لذا ربما سأكتفي بالشق العسكري منه لأتمعن به و هذا في وقت لاحق إن شاء الله .

يعطيك العافية و الشكر الجزيل لك .
 
موضوع هام اشكرك على طرحه المميز

لى عودة ان شاء الله بعد اكمال قراءته.
 
عودة
أعلى