بللسمر... مدينة الغيوم والذاكرة العربية العتيقة
طبيعتها تعانق سماء المملكة وتهمس في أذن تاريخها
بللسمر من المناطق التاريخية الجميلة في المملكة (الشرق الاوسط)
حين تتجول بين سفوح ووديان بللسمر، تشعر وكأنك تمشي في ممرات التاريخ نفسه، فكل زاوية من هذه المدينة تحكي قصة، وكل نسمة تحمل عبق مجد قديم، والإبهار هنا ليس لحظة عابرة، بل حالة ترافقك طوال الرحلة.
بللسمر في المملكة العربية السعودية مهد الأساطير ومسرح البطولات، كل حجر فيها يروي حكاية نصر، وكل وادٍ يحتفظ بصدى أبطال مرواً من هنا.
تقع بللسمر في قلب منطقة عسير جنوب غربي المملكة، وتحتضن بين جبالها كل ما هو مدهش؛ من نقوش أثرية وجبال شاهدة على حضارات تعاقبت، إلى جبل لقمان الحكيم وصدى أشعار الشنفرى صاحب «لامية العرب».
طبيعة رائعة في أعالي جبال السعودية (الشرق الاوسط)
ولكثرة الحكايات والمواقع والنقوش المنثورة التي تحكي لك تفاصيل أمة عاشت واستوطنت قبل أكثر من 3 آلاف عام، فالمكان مدجج بالتاريخ، لا تعبث مع الحكايات قف وتأمل، عطر الانتصارات ونشوة المجد، واسمع ما يسلي خاطرك عن قبائل «الأزد» وقصة الصحابة في صدر الإسلام، وما يروى عن قبر «لقمان» الحكيم.
احتضنت بللسمر، الواقعة في منطقة عسير جنوب غربي السعودية، جميع ما هو معقول ولا معقول من جبل لقمان، والنقوش المتناثرة في جبال المدينة، إلى صاحب «لامية العرب» الشنفرى، وهو ثابت بن أواس الأزدي، ليأخذك المسير فيما أنت عليه من انبهار إلى أقدم مساجد الصحابة في المدينة، وسوق «أم طير» الذي يعود تاريخه لأكثر 400 عام، وللسوق حكاية مع طير يحوم فوقه بحثاً عن الطعام فسمي بسوق «أم طير» باللهجة التهامية.
نقوش وآثار (الشرق الاوسط)
ولا تكتفي بللسمر بعمق تاريخها، فالطبيعة التي تعانقها من الاتجاهات الأربعة وارتفاعها عن سطح البحر بنحو 2800 متر جعلها وجهة للباحثين عن الجمال والاسترخاء، إذ تلتقي الغابات الكثيفة بالسحب المنخفضة، في مشهد يعكس جمال الطبيعة الجبلية في جنوب المملكة، وهذه الطبيعة الفريدة تستقطب آلاف الزوار والسياح من الداخل والخارج على مدار العام، وإن كان فصل الصيف يسجل حضوراً أكثر، خاصة مع انتشار كبير للمنتزهات الفريدة بأجوائها الباردة والضبابية.
وفي كل موسم صيف تنظم العديد من الفعاليات السياحية التي تحكي واقع المدينة كما تحتضن سنوياً مهرجان البر، الذي يُبرز منتجات المزارعين المحليين من الحبوب، ويُعد من أبرز الفعاليات الزراعية في المنطقة، إذ تشتهر بللسمر بهذا المنتج على المستوى المحلي والدول المجاورة.
موقع جميل وتاريخ غني (الشرق الاوسط)
يروي اللواء متقاعد فايز الأسمري، والمهتم بتاريخ بللسمر، أن المدينة جزء من رجال الحجر الذين يتكونون من أربع قبائل هي «بلحمر، وبللسمر، وبني شهر، وبني عمرو»، وجميعهم من أولاد الحجر بن الهنوء بن الأزد بن قحطان، من العرب القحطانيين، مشيراً إلى أن بللسمر تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية «قسم في تهامة، وقسم في الحجاز، وقسم في السهول الشرقية (نجد)»، وجميعها ترتبط بنسب واحد وتاريخ مشترك.
وأشار الأسمري في حديثة لـ«الشرق الأوسط» إلى أن تاريخ استقرار الأزد في هذه الجبال يعود إلى ما قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، بنحو ألفي عام، وذلك بعد هجرة الأزد من مأرب باليمن عقب انفجار سد مأرب، وهو الحدث الذي أدى إلى تفرّق قبائل الأزد في أنحاء الجزيرة وخارجها، موضحاً أن القبائل تفرعت داخل المملكة وخارجها، منها رجال الحجر، وبلقرن، وغامد، وزهران، والأوس والخزرج في الداخل، فيما سكن الغساسنة بلاد الشام.
طبيعة غناءة تعانق سماء المملكة (الشرق الاوسط)
ويذكر اللواء فايز، أن اختيار «الأزد» للإقامة في جبال السراة لم يكن عشوائياً، بل بسبب توفر مقومات الحياة؛ فالمياه والأمطار كانت متوفرة، والمراعي خصبة، والزراعة مزدهرة، وكانت المنطقة مصدر رزق للوافدين من نجد وبيشة، إذ كانت الجبال تنتج القمح والشعير، بينما تأتي التمور من بيشة، فكانت بللسمر منطقة تبادل اقتصادي ومعيشي مهمة في الجزيرة العربية.
من جهته، قال سعيد الأسمري، مهتم بتاريخ بللسمر ومالك حصن معشي، إن اسم بللسمر صفة وليس نسباً، فهم يرجعون إلى الأواس بن حجر مباشرة، وتجمعهم صلة قوية ببقية قبائل رجال الحجر وهي: «بللسمر، وبلحمر، وبني شهر، وبني عمرو»، موضحاً أن المنطقة شهدت معارك قبل الإسلام وفي صدره، من أبرزها المعركة التي وقعت في عيار بللسمر، كما شهدت المنطقة ما عُرف بـ«يوم العرب» أو يوم «حراق»، وهي حروب دارت بين قبائل بني واس التي انقسمت لاحقاً إلى ثلاث مجموعات، وكانت تلك الحروب تدور غالباً بسبب الغزو القبلي.
منطقة خضراء في أعالي جبال السعودية (الشرق الاوسط)
ويصف سعيد الأسمري، تضاريس بللسمر، أنها تتكون من أربع بيئات مختلفة، لكل منها مناخها ولهجتها وطبيعتها فالبادية في الجهة الشرقية، والسراة وهي الجبال العالية كجبال السودة، والرهو التي ورد ذكرها عند الهمداني قبل أكثر من 1200 سنة، حيث قال إن بها أرضاً تُسمى ذْبوب من بوزر، وتضم تسعةً وتسعين بئراً، والصدر الذي يرتفع ما بين 1200 إلى 1500 متر، وفيه جبلان بارزان هما هادا وضرم.
ويضيف أن سوق خميس أمطير وهو من الأسواق القديمة سُمي بهذا الاسم لأن طائراً كان يقف فيه لالتقاط بقايا الطعام، فكان الأهالي يقولون باللهجة التهامية «أم طير»، وقد كانت السوق قائمةً قبل خمسمائة عام وما يزال موجوداً حتى اليوم، لافتاً إلى أن آثار بني واس تدل على وجودهم في المنطقة قبل أكثر من 3 آلاف عام، ومن هذه القبيلة خرج الشنفرى أحد أشهر صعاليك العرب، الذي امتدح الخليفة عمر بن الخطاب شعره وعدّه من أميز الشعراء العرب.
ويذكر مالك حصن معشي، أن من أقدم المساجد في بللسمر «مسجد دبوب، ومسجد مرحب»، وهما من المساجد التي شُيدت في صدر الإسلام، إذ شيد مسجد رحب الصحابي معاذ بن جبل رضي الله عنه، وحمل اسمه لاحقاً، مع وجود موقع أثري يُنسب إلى لقمان عليه السلام، حيث توجد نقوش تعود إلى أكثر من أربعة آلاف عام، إضافة إلى جبل يُعرف باسم لقمان.