هشام محمود من لندن
في عام 1848 اكتشف شخص يدعى جيمس مارشال بعض القطع الذهبية الخام في مجاري الأنهار في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وأراد جيمس أن يحتفظ بهذا الاكتشاف سرا، لكنه فشل في ذلك، إذ فضحت الصحافة الأمريكية الاكتشاف، وكان ذلك كفيلا بهجرة آلاف بل ملايين الأشخاص من أمريكا وبلدان أخرى إلى كاليفورنيا للتنقيب على الذهب، وعرف هذا الحدث باسم "حمى الذهب".
بالطبع اغتنى كثير من الأشخاص نتيجة اكتشاف كميات كبيرة من الذهب، لكن ذلك ترافق مع صراعات وأعمال عنف، وحسم الأمر في نهاية المطاف بتدخل الشركات الكبرى التي أطاحت بالجميع واحتكرت المشهد بمفردها.
مشهد مشابه يتكرر حاليا، لكنه لا يتضمن هذه المرة صراعا على المعدن الأصفر، إنما يتضمن صراعا على معدن آخر، بات في نظر كثيرين ذهب القرن الحادي والعشرين، إلا أن صراعه لم يتضمن منافسة بين أشخاص، إنما منذ البداية صراع طاحن بين شركات دولية عملاقة ميزانياتها بمليارات، وتقف خلفها وتساندها حكومات دول مستعدة لاستخدام أساطيلها وقواتها العسكرية لحماية مصالحها، بل إن البعض يصل في تحليله إلى أن التنافس على هذا المعدن كان أحد أسباب اندلاع حروب أهلية في بلدان إفريقية ومقتل آلاف لضمان الحفاظ على الإمدادات.
الكوبالت الذي يصفه البعض بذهب القرن الحادي والعشرين، لا يعد معدنا حديث الاكتشاف، إذ عرف منذ العصر البرونزي واستخدم في القرون الماضية لتلوين الزجاج والخزف والسيراميك.
وبطبيعة الحال لم تكن تلك الاستخدامات تستدعي أي صراعات على هذا المعدن، إلا أن بروز استخدامات حديثة له باعتباره مكونا رئيسيا في بطاريات أيونات لليثيوم التي تعمل على تشغيل الأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف والحواسيب المحمولة والسيارات الكهربائية، حول المعدن الذي ظل لقرون محدود الفائدة إلى أحد أهم المعادن في العصر الحديث.
ولمعرفة أهمية المعدن الاستراتيجية تكفي الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية في شهر فبراير الماضي، أضافته إلى قائمة من 35 مادة معدنية تعتبر حاسمة للتطور الاقتصادي.
تبرز أهمية الكوبالت على المستوى العالمي من التوقعات المرتبطة بأسعاره مستقبلا، إذ يتوقع أن ترتفع الأسعار سنويا بما يراوح بين 8 إلى 10 في المائة، ما جعل المعدن محور اهتمام كبرى شركات التعدين في العالم.
مع هذا فإن إحدى إشكاليات المعدن التي تجعل التزاحم العالمي عليه محتدما، تكمن في أن معظم الكوبالت في العالم يتم استخراجه كمنتج ثانوي من النحاس وخامات النيكل، أما التعدين على الكوبالت بمفرده فإنه مكلف للغاية، وبالتالي فإن عرض الكوبالت يعتمد إلى حد كبير على أسعار النحاس والنيكل، فارتفاع أسعار النحاس والنيكل يدفع إلى مزيد من التنقيب وبالتالي إلى مزيد من الكوبالت، أما انخفاض أسعار النحاس والنيكل، فإنها تؤدي تلقائيا إلى تثبيط النشاط الاستكشافي، وبالتالي تؤثر في التوسع في إنتاج الكوبالت.
وهنا علق لـ "الاقتصادية" جيمس هيبل من الشركة العالمية للمعادن، قائلا "من المؤكد أن عددا من الصناعات المتقدمة التي تعد أساسية لوضع الدول في مصاف الاقتصادات القوية تعتمد في تطورها على الكوبالت، والاحتياطي العالمي المؤكد من الكوبالت بلغ 7.2 مليون طن متري في نهاية عام 2016، لكن وفقا للمسح الجيولوجي الأمريكي فإن المتوافر منه يصل إلى 25 مليون طن متري، وهذا سيكون كافيا لتلبية الطلب العالمي الحالي لنحو 250 سنة".
وأضاف، أن "جمهورية الكونغو الديمقراطية لديها أكبر احتياطي في العالم ويقدر ب 3.4 مليون طن أي ما يعادل 47 في المائة من الاحتياطي العالمي، تليها استراليا 14 في المائة، ثم كوبا 7 في المائة، أما الصين فإن نصيبها من الاحتياطي العالمي لا يزيد على 1.1 في المائة، أما أكبر المنتجين فكندا التي تنتج 7 في المائة من الإنتاج العالمي تليها الصين وروسيا بنحو 6 في المائة".
وأشار إلى أن "هناك اختلافا شاسعا بين الكونغو ودولة مثل أستراليا، ويرجع الفرق في الأساس إلى البنية التحتية المتخلفة في الكونغو ونقص منشآت الصهر والتجهيز العميق على عكس أستراليا، أما بالنسبة إلى المنتجين الرئيسيين فإنهم يقومون بتصدير الخام إلى الصين وفنلندا لمزيد من الصهر والمعالجة العميقة، ولذلك نجد أن حجم إنتاج الكوبالت في الصين بلغ نحو 650 طنا في عام 2016، تم استخلاص معظمها من الخام المستورد".
بصفة عامة تبدو الآفاق إيجابية بالنسبة إلى الطلب على الكوبالت خاصة بعد عام 2022، فمن المتوقع أن يتجاوز استهلاك الكوبالت 122 ألف طن هذا العام، مقارنة بـ 75 ألف طن عام 2011، وعلى الرغم من الزيادة المحتملة في الإنتاج التي يمكن أن تساعد في تلبية الطلب في السنوات المقبلة، إلا أن أغلب التقديرات تشير إلى فجوة بين العرض والطلب بعد عام 2022 لمصلحة الطلب، وسط تقديرات عالمية بأن يبلغ الطلب على الكوبالت 310 آلاف طن بحلول عام 2027، وسيأتي أكثر من 240 ألف طن من البطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية والحواسيب والهواتف المحمولة، وهو ما سيترجم عمليا في شكل ارتفاع في أسعار الكوبالت.
وتدرك واشنطن وأوروبا واليابان أنه حتى مع توسيع منشآتها الإنتاجية، فإن الصين ستظل لاعبا مهيمنا في عالم تكرير الكوبالت، وهو ما يوجد صراعا عنيفا بين تلك الأطراف للهيمنة على مناطق الخام الرئيسية في العالم وتحديدا الكونغو.
من جانبها، قالت لـ"الاقتصادية" الدكتورة أماندا جورج؛ أستاذة الدراسات الإفريقية، "إنه لا يمكن فهم الأزمة السياسية في الكونغو المتواصلة منذ سنوات وأدت إلى صراعات مسلحة عنيفة، دون فهم الصراع الأمريكي الأوروبي الياباني من جانب في مواجهة الصين من جانب آخر للسيطرة على إنتاج خام الكوبالت". وتابعت أن "المعدن بات حيويا للغاية بالنسبة إلى الصناعات الإلكترونية وصناعة السيارات، وطوكيو على سبيل المثال تعتبر أن نجاح الصينيين في السيطرة على خام الكوبالت يعني عمليا وفاة صناعة السيارات اليابانية مستقبلا".
ولتوحيد الجهود أعلنت وزارة الصناعة اليابانية أواخر الشهر الماضي، أن شركات صناعة السيارات اليابانية تهدف إلى إنشاء هيئة مشتريات مشتركة بحلول مارس المقبل، لتأمين إمدادات مستقرة من الكوبالت، عبر توقيع عقود طويلة الأجل مع الموردين العالميين أو الاستثمار في مشاريع تنموية في البلدان المنتجة للكوبالت.
وربما تكون تلك المخاوف واحدا من أسباب تركيز جميع البلدان المتقدمة على تطوير منشآت إعادة تدوير الكوبالت لتفادي تعرضها لأي نقص في هذا المعدن الحيوي، وعلى الرغم من تلك الآفاق الواعدة لمعدن الكوبالت، فإن أسعاره شهدت انخفاضا نسبيا في الفترة الأخيرة.
وأوضح لـ "الاقتصادية" إدوارد أونيل؛ المحلل المالي في بورصة لندن، أن "التراجع السعري كان نتيجة تأجيل المستهلكين عمليات الشراء للسيارات الكهربائية على أمل انخفاض أسعارها، لكن الاتجاه العام للطلب على السيارات الكهربائية سيستمر في الارتفاع، وهذا يعني أن تراجع أسعار الكوبالت مؤقت، وخلال العام الماضي كان متوسط الزيادة السعرية 66 في المائة".
وأصدرت منظمة الطاقة العالمية، تقريرا بشأن أوضاع سوق الكوبالت العالمية، تدعو فيه إلى زيادة الجهود الدولية لمزيد من الاكتشافات بشأن الكوبالت، محذرة من أن السوق العالمية قد تتعرض إلى هزات ضخمة، إذ واصل العالم اعتماده على الكونغو كمصدر أساسي للمعدن.
بدوره، بين أرون مهتا؛ المدير التنفيذي في شركة الاستثمارات الدولية، أن "تحذير منظمة الطاقة العالمية منبعه أن طلب شركة صناعة السيارات الكهربائية على الكوبالت سيتضاعف 25 مرة خلال العقد المقبل، وذلك في ظل تعهد الاقتصادات المتقدمة بأن 30 في المائة من سوق السيارات العالمية ستكون سيارات كهربائية، بمعنى آخر ستكون هناك 220 مليون سيارة كهربائية في الطرقات".
وأضاف "يزداد الوضع خطورة بالنسبة إلى الدول المتقدمة في أن الاعتماد على الكونغو في إنتاج الخام يترافق مع اعتماد شبه مطلق على الصين التي تتحكم حاليا في 90 في المائة من الطاقة الإنتاجية لمنشآت ومعامل إعادة تدوير الكوبالت، وهذا بالطبع وضع غير مريح للمنافسين الآخرين
المصدر جريدة لاقتصاديه