محللون: الاقتصاد التركي يتصدع .. وأموال قطر لا تسمن من جوع
الاقتصادية» من الرياض
كشفت الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا، كثيرا من جوانب الضعف الكامنة في هيكل الاقتصاد التركي، إلا أن أخطر ما في المحنة التركية من وجهة نظر الخبراء، أنها فضحت هزالة شبكة الأمان الدولي التي يمكن أن تساند أنقرة في أزمتها، وأن عدد الدول التي تبدو قادرة ومستعدة لدعمها ومؤازرتها أقل كثيرا مما روجت له تركيا في السنوات الماضية.
وباستثناء الـ 15 مليارا التي نالتها أنقرة من الدوحة، والتي يدرك الأتراك والقطريون أنها لا تسمن ولا تغني من جوع، وأنها لن تكون حتى نواة تسند الاقتصاد التركي المصاب بالشروخ والتصدعات، فإن جل ما تلقته تركيا من دعم دولي انحصر في سلسلة من الاتصالات الهاتفية من بعض قادة الاتحاد الأوروبي، يشدون فيها على عضد الرئيس رجب طيب اردوغان، ويعلنون فيها مساندتهم "الكلامية" له، دون أن يترجم ذلك في حزمة من المساعدات المالية الحقيقية والسريعة، خاصة أنه كان قبل أيام يصب جام غضبه على ألمانيا ووصفها بـ "العنصرية"، وملأ الدنيا صخبا وضجيجا، بأن بلاده ليست في حاجة إلى الاتحاد الأوروبي، وأنه يستطيع أن يتوجه شرقا إلى الصين وروسيا وجمهوريات وسط آسيا، وإيران وبلدان جنوب شرق آسيا.
الدعم "الكلامي" الذي قدمه الاتحاد الأوروبي، لم يمنع أنقرة من اعتبار أزمتها الاقتصادية ربما تكون مدخلا ملائما لإعادة صياغة علاقتها مع الاتحاد مجددا، بعد ما أصابها شروخ وفتور.
فأنقرة وفقا للبروفيسور روي بنجامين، تبني مساعيها للبحث عن مساندة الاتحاد الأوروبي على أساس العوامل "السلبية".
وقال بنجامين لـ"الاقتصادية"، إن "تركيا بالطبع اتجهت إلى طلب مساعدة الاتحاد الأوروبي لدعمها في أزمتها الراهنة، على أساس إمكانية أن يوجه الاتحاد كبار المستثمرين فيه للاستثمار في الاقتصاد التركي، بالطبع لم يحدث هذا حتى الآن، ومن المشكوك أن يحدث ذلك على الأقل في الأجل القريب، وحتى تهدأ العاصفة، فلا أحد يستثمر أمواله في أجواء مشحونة بالاضطراب مثل تلك التي تضرب الاقتصاد التركي، وما قامت به الدوحة لا يدخل ضمن المعايير الاقتصادية، وإنما مساندة سياسية فحسب".
واستدرك "تركيا توجهت إلى أوروبا من منطلق سلبي، فأردوغان يعتقد أن الخلاف الأمريكي - الأوروبي سيجعل أوروبا تهرع لإنقاذه، من منطلق عدو عدوي صديقي، وبالطبع لم يتحقق ذلك لأن أوروبا وباختصار لا يمكن أن تعمق خلافاتها مع واشنطن بسبب أردوغان، فحجم العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن يفوق عشرات المرات حجم التبادل الأوروبي - التركي، كما أن أردوغان استهزأ في عديد من المرات بعلاقته الاقتصادية مع أوروبا، وأظهر استعدادا للتوجه شرقا".
وأضاف، أن "العامل الثاني الذي راهن عليه الرئيس التركي للحصول على دعم الاتحاد الأوروبي، يكمن في قناعته بأن أوروبا ستخشى من أن الأزمة التركية إذا اتسع نطاقها، فلن تقف عند حدود تركيا وستمتد إلى باقي أنحاء القارة الأوروبية، وهذا كفيل من وجهة نظر أنقرة، بأن تحتشد أوروبا لمساندة الليرة التركية، والحيلولة دون تعرضها لمزيد من الانهيار".
إلا أن الدكتور ام. ال جورج؛ أستاذ الاقتصاد الأوروبي، فيعتقد أن الأمر الحاسم في الأزمة التركية لا يكمن في التماس أردوغان المساعدة من الأوروبيين، وإنما في مدى استعداد أوروبا للوقوف بجانبه.
وقال لـ"الاقتصادية"، إن "قبول أوروبا بتركيا بات أكثر صعوبة الآن من أي وقت مضى، فانهيار الليرة التركية وقضية الديون المتراكمة عليها، تجعل أوروبا حريصة على إبقاء مسافة بعيدة بينها وبين أنقرة، خاصة في ضوء الخلافات الراهنة بين الطرفين بشأن هيمنة أردوغان على السلطة، وأسلوب إدارته الاقتصادية، وتدخله المفرط في الحياة الاقتصادية".
وأوضح "انخفاض قيمة الليرة يعني ارتفاعا شديدا في معدل التضخم المرتفع بطبعه الذي بلغ 15 في المائة قبل الأزمة، كما أن ارتفاع معدل التضخم الذي يترافق مع تراجع الاستثمار المحلي والدولي سيسفر عن زيادة ملموسة في معدلات البطالة، والاتحاد الأوروبي بطبيعة الحال وفي ظل التحديات الاقتصادية التي يمر بها لن يكون قادرا على الاقتراب من كرة النار التركية".
إلا أن تلك التقديرات لا تنفي قناعة البعض بأن أنقرة لن تصمت أمام المواقف الأوروبية، إذ يبدو الخطاب التركي من وجهة نظر بعض الخبراء الاقتصاديين مشحونا بنبرة تهديدية عبر تذكير البنك المركزي التركي لنظيره الأوروبي بإجمالي قيمة الديون التركية لأوروبا، فديون تركيا لإسبانيا تبلغ 83 مليار دولار، ولإيطاليا 38 مليار دولار، ولفرنسا 17 مليار دولار، وهو ما يثير قلقا أوروبيا مشروعا بالتداعيات التي يمكن أن تنجم عن فشل تركيا في الوفاء بما عليها من تعهدات مالية.
ربما تكون نبرة "التذكير" التركية للبنك المركزي الأوروبي بأن أنقرة إذا غرقت فإنها لن تغرق بمفردها، أو في أقل تقدير فإن كثيرا من المياه سيفسد المظهر الارستقراطي لأوروبا، يدفع البعض للتساؤل، هل يمكن أن تتقدم ألمانيا وبمبادرة فردية من جانبها لمساعدة تركيا لإخراجها من عسرتها، تفاديا لمزيد من المصاعب المحتملة للاتحاد الأوروبي.
من جانبه، يرى ريتشارد أوين، الاستشاري السابق في مجموعة السبع، أن زيارة أردوغان المقررة لألمانيا الشهر المقبل، قد تتضمن طلبا تركيا رسميا للمستشارة ميركل للمساعدة، لكن الألمان يسعون إلى تفادي ذلك، وهو ما يتضح في تصريحات المتحدث الرسمي باسم الحكومة الألمانية بأنه إذا كانت تركيا تبحث عن المساعدة فلتحصل عليها من صندوق النقد الدولي.
وقال أوين لـ"الاقتصادية"، إن "من يعتقد أن هناك خلافا ألمانيا أمريكيا بشأن أسباب الأزمة الاقتصادية التركية خاطئ، فالألمان كما الأمريكيون يعتقدون أن جوهر الأزمة يكمن في سياسة أردوغان الاقتصادية، أما الباقي فتفاصيل تحتمل الاتفاق والاختلاف".
لكن ما الحل إذا ما أخفقت مساعي أنقرة في أن تستغل الأزمة لمزيد من التقرب من أوروبا، فهل يمكن أن تلجأ لصندوق النقد الدولي كبديل آخر؟
حتى الآن ترفض تركيا رسميا اللجوء لصندوق النقد، ليس لأي أسباب تتعلق بالمنطق الاقتصادي، وإنما لحالة الفخر المبالغ فيها من قبل أردوغان بأنه قادر على إخراج تركيا من أزمتها دون مساعدة الصندوق الذي يعد المكان الملائم للدول للحصول على المساعدات المالية في أوقات الأزمات، حتى وإن كان ذلك على مضض، إذا أن مساعدات الصندوق تأتي على شكل قروض في شرائح مالية، مشروطة بإكمال تنفيذ برنامج الصندوق.
وهنا قال لـ"الاقتصادية" الدكتور لورنس فيسك؛ الاستشاري السابق في البنك الدولي، إن "الأرجنتين كانت في وضع أسوأ من تركيا، ولم تجد أمامها غير الصندوق لطلب المساعدة المالية، وبطبيعة الحال ارتبط ذلك بخطة تقشفية لم تحظ بالطبع برضا الجماهير، لكن أردوغان حتى الآن يرغب في الحفاظ على شعبيته بصورة تفوق سعيا حقيقيا لحل أزمته، وبالطبع يمكنه تبني هذا النهج لبعض الوقت، لكن إذا واصلت الليرة الانهيار والاستثمارات الأجنبية الفرار، فلن يكون أمامه من خيار غير صندوق النقد".
وتبدو المفارقات في أن صندوق النقد الدولي أصدر في أيار (مايو) الماضي وقبل انهيار العملة التركية تقريرا عن الاقتصاد التركي تضمن تحذيرات للحكومة التركية بأن المسار الاقتصادي لها غير سليم.
وجاء في التقرير، أنه "على الرغم من أن السياسات التوسعية كانت مبررة في البداية، إلا أنها لم تعد مناسبة، لأن الاقتصاد يظهر علامات ومظاهر احتقان وأزمة، فالسياسة المالية فضفاضة للغاية، ومصداقيتها منخفضة نتيجة ضغوطات الرئيس التركي على البنك المركزي، والسياسات المالية توسعية بطريقة تهدد مصداقية تركيا المالية المكتسبة بصعوبة".
ومع ارتفاع التضخم وتزايد العجز في الحساب الجاري، أكد التقرير على "نقاط الضعف الأساسية في الاقتصاد التركي"، التي تشمل احتياجات التمويل الخارجية الكبيرة، واحتياطيات النقد الأجنبي المحدودة، وزيادة الاعتماد على تدفقات رأس المال قصيرة الأجل، وارتفاع تعرض الشركات لمخاطر صرف العملات الأجنبية"، إضافة إلى "علامات زيادة العرض في قطاع البناء والتشييد في مواجهة الطلب".
ولذلك ترى الخبيرة المصرفية راشيل فرانسيس، أن لجوء تركيا إلى صندوق النقد مسألة وقت. وقالت لـ"الاقتصادية" إن أردوغان سيناور لبعض الوقت، لكن مؤشرات الاقتصاد الدولي لا تصب في صالحه، وارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية سيحول دون عودة رؤوس الأموال الأجنبية لتركيا.
وأشارت إلى أنه مهما كانت الجهود التي يبذلها لإصلاح الاقتصاد داخليا، فإن قارب الاقتصاد التركي سيرسو في نهاية المطاف في ميناء صندوق النقد الدولي لسبب بسيط، هو أن الشهادة التي سيحصل عليها من الصندوق هي الضامن الأساسي للاستثمارات الدولية بأن الاقتصاد التركي يسير في الطريق السليم"