مقال للكاتب تاج الدين عبدالحق
منذ الانقلاب الأول الذي جاء ” بالأمير السابق ” الشيخ
حمد بن خليفة آل ثاني عام 1995، وقطر تبحث عن كيفية الإفلات من عقدة الجغرافيا.
ظنت أن مركزها العالمي كثالث منتج للغاز وأكبر مصدر له، يبرر لها البحث عن مكانة سياسية موازية، لكن صياغة معادلة جديدة، وفق هذه المعطيات، كانت تصطدم على الدوام، بحقائق الجغرافيا.
في بحثها عن مخرج، وجدت الدوحة في كواليس السياسة الخلفية ودهاليزها، من زين لها حلمها المزمن، ووفر لها الإمكانية، وهيأ لها الوسائل، قالوا لها إن المنطقة على مرجل التقسيم، ومذبح التغيير، وأن فرصة تحقيق الحلم، وتحويله إلى واقع باتت متاحة وممكنة.
وقبل أن تتبين الخيط الأبيض لثورات ما سمي بـ”
الربيع العربي“، من خيطها الأسود، بشرت الدوحة بتغير خارطة الإقليم، وراهنت في الخفاء على التشرذم والتقسيم، علاجًا لعقدتها المزمنة التي حشرتها بين الكبار مرة بحكم الجغرافيا، ومرة بحكم الثروة الطارئة التي وظفتها في كل اتجاه من أجل حلمها البعيد.
لم يصدق أحد أن قطر الصغيرة، هي من يدفع باتجاه تقسيم السعودية الشقيق الأكبر، إلا عندما رأينا ذلك موثقًا بالصوت والصورة، على لسان عراب الدبلوماسية القطرية حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، في تسجيل تبادلته الأوساط السياسية والإعلامية بكثافة عبر الانترنت، ليصبح بتواتر الشواهد، حقيقة سياسية لا يمكن إنكارها، أو التبرؤ منها.
كان مضمون التسجيل، يحمل نوعًا من التشفي الذي يضمره القلب، لا التحليل العلمي والسياسي الذي يستند إلى معطيات ومعلومات، ظنت الدوحة أنه بتقسيم السعودية إلى دويلات صغيرة، تتخلص قطر من عقدتها، لتتأهل بعدها للعالمية التي طالما سعت إليها.
وجدت في إسرائيل الصغيرة جغرافيا، والقوية إقليميًا ودوليًا، النموذج والمثال، الذي ينجح في استثمار الأزمات الإقليمية، ويحولها إلى فرص تكسب القوة وتمنح القدرة، فحاولت الاقتداء والنسج على هذا المنوال.
لم يكن بإمكان الدوحة أن تتدخل مباشرة في الشأن السعودي، فهي تعلم أن يدها قصيرة، وأن كلفة مثل هذا التدخل ستكون باهظة، ونتائجه غير مضمونة، لذلك حاولت الدخول للمملكة من البوابة الخلفية، عبر الانخراط في أجندة تعامل خاصة وخفية مع الثورات العربية وصولًا إلى هدفين:
– إذكاء المشاعر الطائفية بالمنطقة وخاصة في البحرين طمعًا في أن تمتد نيران هذه الطائفية إلى المنطقة الشرقية في السعودية لسلخها عن الوطن الأم وإلحاقها بولاية الفقيه ضمن خط مواز يقوم على توثيق العلاقة بإيران التي تملك أجندة أهداف مشابهة .
– دعم الجماعات الدينية التي اختطفت ثورات الربيع العربي – وخاصة جماعة
الإخوان المسلمين -، بهدف زعزعة الثقل الديني المعنوي الذي تتمتع به السعودية، أو التشويش عليه على الأقل، توطئة لجعل تلك الجماعات رأس حربة تقوض الاستقرار في المنطقة، وتمهد للانقضاض على الأنظمة القائمة فيها، مع ما يستتبع ذلك من فوضى من جنس الفوضى الخلاقة التي قدمت لما يسمى بالربيع العربي.
وبالطبع فإن السلاح الأمضى، الذي استخدمته قطر في كل ذلك، هو المال السياسي الوافر، الذي لم تتردد في توزيعه شمالا ويمينا بسخاء، لدعم وتمويل تنظيمات مسلحة، واحتضان قيادات حزبية وعسكرية، تحت عناوين ومسميات مختلفة، فمرة كانت تستخدمه كشكل من أشكال الدعم لثورات المعارضة، ومرة كجزء من صفقات الوساطة لشرعنة علاقاتها بتلك التنظيمات، وإضفاء مسحة رسالية عليها.
وكانت الدوحة تفلت من رقابة المجتمع الدولي، وتغطي أهدافها البعيدة من خلال شبكة من العلاقات المتناقضة حتى لا نقول المشبوهة والملتبسة.
فلعبت على المشاعر والعواطف الشعبية، رغم أنها كانت تتنقل في مواقفها، من النقيض إلى النقيض، فأقامت علاقات وثيقة مع إسرائيل طمعًا في دعم اللوبي اليهودي في واشنطن، أو رغبة في تبادل المعلومات الاستخباراتية، لكنها غطت على هذه العلاقات بخطاب إعلامي صارخ وضعها في مقدمة المدافعين عن القضية الفلسطينية والداعمين لها.
وقدمت نفسها كوسيط مسموع بين القوى التي تحارب الإرهاب، وبين قيادات وتنظيمات إرهابية معروفة، ليتبين بعد ذلك، أن تلك الوساطة لم تكن إلا مظلة لتنسيق المواقف مع تلك التنظيمات، وتغطية للدعم المالي والسياسي المقدم لها.