المنافسة على جبل طارق ليست بالجديدة.. إليك قصة البريكسيت القديم الذي أشعل الخلاف بين بريطانيا وإسبانيا
ترجمة هافينغتون بوست عربي
بدأ البريكسيت عام 1527. وكان الأمر في الواقع أشبه بمشاحنة تافهة مع إسبانيا. كان الرجل المسؤول عن ذلك التغيير الدراماتيكي في الدستور البريطاني، الذي أثار زعزعة بالغة، ملكاً سميناً طفولياً مفرطاً في الترف، اسمه هنري الثامن، أصبح مهووساً بما نسميه “السيطرة”.
وبدا هنري في تلك الحقبة رجلاً مرحاً يحب الموسيقى ويشرب الخمر ويجيد الرقص، وكانت النساء تروق له أيضاً، على الرغم من أنه كان يخافهن نوعاً ما، وهو ما يفسر لماذا كان يقطع رؤوسهن. وكانت إنكلترا في ذلك الوقت تظن نفسها بلداً عظيماً، لكنها في الحقيقة كانت تمر بفترة تدهور. فقدت في حينها معظم أراضيها في فرنسا، وبالتأكيد كانت ضعيفة مقارنةً بإسبانيا النشيطة الجريئة، بحسب ما ذكرت صحيفة “
الغارديان“ البريطانية.
فشلت محاولة عائلة كولومبوس في إقناع آل تيودور (العائلة التي حكمت إنكلترا بين عامي 1485 - 1603) بأن يهتموا باستكشاف المحيط الأطلنطي، وأن يدعموا المغامرة التي سوف تُغير السنين الخمسمائة التالية في تاريخ العالم. لكنَّ آل تيودور كانوا ضيقي الأفق، وبدلاً من ذلك، دعمت إيزابيلا الأولى، ملكة إسبانيا، كريستوفر كولومبوس. وسيطرت إسبانيا على القرنين التاليين من تاريخ أوروبا، وامتلكت أول إمبراطورية عالمية لا تغيب عنها الشمس، و”الحق يُقال، كان هذا مجداً مشرقاً” كما قال الفيلسوف والمؤلف الإنكليزي فرانسيس بيكون لاحقاً.
وليس من المفاجئ أنَّ آل تيودور المُزعزَعين قد غمرتهم السعادة حين وصلت كاثرين أراغون، ابنة الملكة إيزابيلا، إلى إنكلترا لتكون عروساً شابةً. وكان هذا يعني أنَّ آل تيودور قد تمكنوا من توثيق العلاقات مع العائلة الملكية الإسبانية العظيمة. وفي الوقت الذي كانت فيه إنكلترا في تراجع، كانت إسبانيا شهيرة بكونها أمةً من المحاربين الأشداء الذين غزوا لتوهم المملكة الإسلامية في غرناطة.
أولى قرارات هنري الثامن البارزة بعد توليه الحكم، كانت الزواج من كاثرين، أرملة أخيه آرثر، والحفاظ على التحالف مع إسبانيا. ورأى هنري في ذلك الوقت أنه رجل مكتمل ويحتاج رجلاً آخر ليتولى الحكم من بعده، لكنَّ كاثرين فشلت في أن تنجب له ابناً.
كان هنري يظن أنه أذكى من المسؤولين عن الاتحاد الأوروبي، الذي كان يُعرف حينها باسم “العالَم المسيحي”، ويديره البابا من عاصمة أجنبية. واعتمدت إنكلترا لقرون من الزمن بأنَّ قرارات المحاكم في قضايا كثيرة مثل الطلاق، تقع أيضاً في روما.
ظن هنري الموهوم أنه يستطيع أن ينتصر على كاثرين في الجدال، لكنها كانت أذكى وأقوى. كان هنري يخسر دائماً أمامها، لكنَّ ثقته المفرطة في نفسه وفي تاريخ إنكلترا منعته من رؤية تلك الحقيقة. وفي النهاية، انتصرت كاثرين في الجدال، ورفض البابا أن يمنح هنري حق الطلاق. غضب هنري ولعَنَ الأجانب، وقرر أن يُنفذ نسخته الخاصة من البريكسيت، وهي الخروج من كنيسة روما. وأُريقت بعدها الدماء، إذ انقلب الإنكليز على بعضهم البعض، وتشاجروا حول هوية بلدهم اللاأوروبية الجديدة.
وبينما كانت إسبانيا تنعم بثروات أميركا الجنوبية، استغرقت بريطانيا قروناً لكي تُحقق صدارتها العالمية. ولم يساعدها إلا الطقس السيئ على تجنب كارثة حقيقية، حين حاول الأسطول الإسباني غزوها عام 1588. لكن مع مرور الوقت، ازدهرت إنكلترا وتدهور حال إسبانيا المدلَّلَة. وفي عام 1704، سيطرت قوة مشتركة من الإنكليز والهولنديين على جبل طارق، وهو مكان قاحل ذو أهمية مادية محدودة، لكنه كان ميناءً استراتيجياً أساسياً عند مصب البحر المتوسط.
تزامن تدهور إسبانيا مع ازدهار بريطانيا، لكنَّ كراهيتهما لفرنسا وحَّدَتهما. وحين غزت قوات نابليون إسبانيا، وقاوم الإسبان الشجعان جنوده، حيث انتشرت ظاهرة حرب العصابات، أرسلت بريطانيا جيشاً للمساعدة. وحقق الدوق ولنغتون القائد البريطاني انتصاراتٍ مبهرة، عُرِفَت فيما بعد بحرب الاستقلال في إسبانيا، وحرب شبه الجزيرة في بريطانيا.
قتل الجنود البريطانيون السكارى، واغتصبوا الكثير من سكان مدينة بطليوس، واشتهروا بإخفاقهم البطولي الأحمق في معركة لاكورونيا. لكنَّ إسبانيا كانت سعيدة بالفوز في الحرب، وباستثناء مشكلة جبل طارق، ظلَّت إلى حد كبير حليفة لبريطانيا. وأخذ دوق ولنغتون وهو عائد إلى بلده الكثير من اللوحات العظيمة، خصوصاً لوحات دييغو فيلاثكيث، لكنَّ إسبانيا المتحضرة كان لديها رسامون أكثر وأعظم مما لدى إنكلترا، لذا فهي لم تفتقد اللوحات حقاً.
ومنذ ذلك الحين، كانت العلاقات بين البلدين طيبة في الأغلب. فقد علَّمَت شركات التنقيب البريطانية الإسبان كيفية لعب كرة القدم، وقد أجادوا تعلُّمها. البقعة الوحيدة المظلمة حقاً في تاريخهما كانت حين جبُنت بريطانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، وسمحت لهتلر وموسوليني بمساعدة الجنرال فرانكو على الفوز بالحرب الأهلية الإسبانية، وهو ما قاد إسبانيا إلى حكم ديكتاتوري، وشجَّع ألمانيا النازية على تدشين الحرب العالمية الثانية. ونتيجة لذلك مات الكثيرون من البريطانيين، بينما تطوع الجمهوريون الإسبان (الذين رفضت بريطانيا مساعدتهم سابقاً) لمحاربة النازيين، وكانوا أول من دخلوا باريس.
لكن كانت هناك مشكلة واحدة كبيرة، وهي أنَّ الجنرال فرانكو أراد الاستحواذ على جبل طارق. وأغلق الحدود عدة سنوات، مما جلب المعاناة على سكان جبل طارق المساكين، ومنع القوات البحرية الملكية من التسلل عبر الحدود من أجل أطباق المُقبِّلات الإسبانية. واتفق سائر العالم عموماً على أنَّ هذه كانت مشاحنة سخيفة. أي أناس يمكن أن يقتتلوا من أجل جبل طارق؟
والآن، دوناً عن كل الدول الأوروبية الكبرى، إسبانيا هي الوحيدة المُتيَّمة ببريطانيا. وهي تريد أن يتحقق البريكسيت بسلاسة. تمتلك إسبانيا بنوكاً بريطانية، وتتحمل السياح السكارى، وهي سعيدة بأنَّ على شواطئها أعداداً كبيرة من الإنكليز الذين لا يجيدون لغتها، وبعضهم غير موثَّقين، مثلهم مثل المهاجرين غير الشرعيين. بعبارةٍ أخرى؛ إنها متسامحة للغاية. لكنها ما زالت تريد جبل طارق.
إلا أنّ هذا لا يعني أنها سوف تغزوه. في الحقيقة، كل ما تريده هو تنفيذ حق النقض (الفيتو) على الصفقات المستقبلية بين جبل طارق وبين الاتحاد الأوروبي. وبفضل البريكسيت، فهي الآن تحصل على ذلك بالفعل. وقد علم سكان جبل طارق العُقلاء حجم المخاطرة، وصوَّتوا بأعدادٍ كبيرة من أجل البقاء داخل الاتحاد الأوروبي.
والحديث بأنَّ كل هذا يمكن أن يخرج عن السيطرة، وأنَّ السفن الحربية يجب أن تُستخدم، هو رأي بريطاني محض، ويبدو سخيفاً بالقدر ذاته، الذي كانت تبدو عليه قرارات فرانكو بإغلاق الحدود وقتها