*
2017/3/12 الساعة 13:20 (مكة المكرمة) الموافق1438/6/14 هـ
عبيدة عامر
محرر سياسي
في لحظة وصفت بأنها "ثقيلة الدم"، وفي موقف اعتبره البعض "إهانة" للأمريكيين؛ ألقى بوش الابن، الذي كان قد بدأ غزوه للعراق بذريعة "البحث عن أسلحة الدمار الشامل"، مزحة أثناء عشاء المراسلين في البيت الأبيض لعام ٢٠٠٤٤، قائلًا: "هذه الأسلحة لا بد أن تكون في مكان ما، ربما قد تكون هنا تحت سقف البيت الأبيض".
بعد ستة أعوام، وفي تصادف يمكن وصفه بالنادر بين الرئيس الجمهوري وخلفه الديمقراطي؛ وفي ذات المناسبة (أي عشاء المراسلين في البيت الأبيض)ألقى باراك أوباما، الأكثر كاريزمية والأقل سماجة، مزحة اعتبرها البعض "مهينة" كذلك، موجهًا حديثه لفرقة "جوناس برذرز" التي كان أفرادها حاضرين بقوله: "ابنتاي ميليا وساشا معجبتان كبيرتان؛ لكن إياكم أن تفكروا بأي شيء، لدي كلمتان لكم: بريديتور درونز، ولن تتوقعوا قدومها أبدًا".
تعكس عبارة أوباما الأخيرة، عراب استخدام الطائرات بدون طيار المسماة بالـ"درونز" (Drones)، الاسم العلمي لذكور "الزنابير"، نسبة إلى لسعتها السريعة القاتلة وأزيزها المزعج، الحجم الذي أولاه الرئيس الديمقراطي لاستخدامها؛ إذ بالرغم من أن سلفه بوش هو الذي بدأ باستخدامها رسميًا، إلا أن استخدامها تضاعف خلال عهد أوباما عشر مرات كاملة، من ٥٧٧ ضربة في فترتين رئاسيتين لبوش، إلى ٥٦٣ ضربة في فترتين رئاسيتين لأوباما، في أوضح انقلاب يدخله استخدام الدرونز على شكل الحروب العسكرية، من التقليدية المعتمدة على الالتحام المباشر، إلى شكل غير تقليدي؛ يعتمد على الاستهداف عن بعد، وليس آخر هذه الانقلابات، ولا أشدها تعقيدًا، في نقل للحرب من ناتج إلى جوهر، تمتد منه العلوم الإنسانية والسياسية والعسكرية.
الافتراس
يرى البروسي "كارل فون كلاوزفيتز" (أول المنظرين الحربيين الفعليين، وواضع الأسس المنهجية لـ"دراسة الحرب"، صاحب التنظير الشهير: الحرب شكل من أشكال الوجود الاجتماعي، في كتابه الكلاسيكي: "عن الحرب") يرى أن الحرب في جوهرها "صراع إرادات قائم على العنف بالدرجة الأولى"؛ أي أن الحرب امتداد للسياسة، وقد تكون حالة اقتصادية واجتماعية ونفسية، قائمة على العنف والصراع، خدمة للسياسة، إلا أن هذا لم يستمر وساهمت الحروب الجوية -وبشكل أكبر أتمتتها ودخول الدرونز- بقلب هذا المفهوم التاريخي الكلاسيكي.
تأسست تقنية الدرونز بعد الحرب العالمية الأولى، وتطورت تدريجيًا حتى بلغت أوجها على يد مهندس الطيران الإسرائيلي "أبراهام كاريم"، الذي بدأ من مرأبه في ولاية كاليفورنيا الأمريكية في ثمانينيات القرن الماضي، ثم توسع بفضل منح وكالة مشروعات البحث الدفاعي المتقدمة الأمريكية "داربا"، صاحبة النسخ الأولية من المشاريع الرائدة تقنيًا مثل الجي بي إس وشبكة الإنترنت، إلى أن وصل إلى الشركة رائدة الطائرات بدون طيار العالمية اليوم جنرال أتوميكس، صانعة الدرونز الأكثر شهرة واستخدامًا وفتكًا عالميًا: البريديتور أو "المفترسة"، وزميلتها الأحدث الريبر أو "الحاصدة"، والتي تشتريها وكالة المخابرات المركزية، المسئول الأول عن عمليات الاغتيال باستخدام الطائرات بدون طيار.
وجد باراك أوباما في الطائرات بدون طيار ضالته للتطبيق العسكري لعقيدته المعتمدة على تحقيق النتائج دون التحام مباشر، فهو من اعتبر أكبر أخطائه مشاركته المباشرة في ليبيا، وأفضل قراراته عدم المشاركة في سوريا، كما عرفنا من خلال حواره الشهير مع "جيفري جولدبرج" المعنون بـ "عقيدةأوباما"، كما وجدت بها المخابرات المركزية الأمريكية ضالتها في التخلص الفعال من أعدائها دون محاكمات، بعد أن اكتشفوا الخطأ الذي ارتكبوه باعتقال المشتبه بهم بدون تهم وأسرهم في سجون حول العالم، أبرزها معتقل "غوانتنامو"، وأثر ذلك على العلاقات العامة لإدارة بوش الابن داخليًا وخارجيًا؛ مما ساهم في التحول من "الإيهام بالغرق" إلى "اقتل ولا تعتقل" ما مثل اغتيالًا لمبدأ الدبلوماسية، وانتقالًا للفعالية والتصدر في السياسة الخارجية من وزارة الخارجية إلى المخابرات الأمريكية ووزارة الدفاع، بحسب ما تروي الصحفية "ميديا بنجامين" في كتابها: "حروب الطائرات بدون طيار" رغم دفاع المؤسسات الأمنية والعسكرية المؤيدة لهذا المبدأ، وأبرزها مؤسسة "راند"، التي يصفها باحثون بـ"الابنة غير الشرعية لوزارة الدفاع الأمريكية".
تعتمد هذه الحروب الجديدة على تقنية مكلفة؛ إذ أن كل ساعة تحلق بها طائرة بدون طيار في الجو تكلف ما بين ٢٠٠٠ و ٣٥٠٠ دولار، كما ارتفعت ساعات التحليق في الجو بنسبة ٣٠٠٠ % ما بين أعوام ٢٠٠٢ و ٢٠١٠؛ حيث لم تفارق طائرات "البريديتور" الأجواء في العراق وأفغانستان، وأطلقت آلاف صواريخ الهيل فاير أو "نيران الجحيم" التي يكلف الواحد منها ٦٨ ألف دولار، وبذلك يكون مفهومًا أن تكون الميزانية الوحيدة التي لم يتم المساس بها من ميزانيات الدفاع هي ميزانية الطائرات بدون طيار، والتي ارتفعت بنسبة 30% منذ عام ٢٠٠٨ حتى ٢٠١٦، سلاح يعتبر مثاليا لمهام الدالات الثلاث (3D)، اختصار "الرتيبة والقذرة والخطرة"، لتوفير الدعم للقوات البرية، وعمليات المراقبة، وقتل المستهدفين والمشتبه بهم، وما يرافق ذلك من مدنيين تصفهم المؤسسة العسكرية الأمريكية بالـ"أضرار الجانبية" وذكروا رقميًا في إحصاء مكتب التحقيق الاستقصائي.
ضحايا المدنيين من الطائرات بدون طيار
يتمثل سبب الإقبال الكبير على الطائرات بدون طيار في ارتقائها من مستوى تعقب ومراقبة الأهداف فقط، بدون إمكانية إبداء ردة فعل عملي، إلى اغتيال تلك الأهداف بسرعة مدهشة ودقة عالية، مبدية نجاعتها القصوى في سياسة "قطع الرؤوس" مسمى تمت تحته أوسع عمليات اصطياد كبار قيادات تنظيم القاعدة المركزي في باكستان وأفغانستان، وتم بموجبه أيضًا إنهاء فرع التنظيم الأكبر "تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب"، عبر اغتيال كبار قياداتها في اليمن، بدون كلفة بشرية، من على بعد آلاف الأميال، وتوفير أعباء دبلوماسية باختراق الأجواء بدون إذن رسمي.
عالم الدرونز
بينما يكافح عددٌ لا بأس به من القطاعات الصناعية الأمريكية للبقاء أقوياء اقتصاديًا بما يكفي، في ظل البحث في الخارج عن العمالة، والمزايا الضريبية التي توفرها اتفاقيات التجارة الحرة؛ بقي قطاع صناعي واحد لم يتضرر: شركات أدوات الحرب الحديثة ذات التقنية العالية، والتي يصفها "آشتون كارتر"، وزير الدفاع الأمريكي في إدارة أوباما، والمسئول الأبرز عن شراء الأسلحة في وزارة الدفاع بأنها "سوق مزدهرة".
يتوقع أن يتجاوز مجموع الإنفاق العالمي على أبحاث وصناعة الطائرات بدون طيار ٩٤ مليار دولار، بين عامي ٢٠١١ و ٢٠٢٠، ولن يقتصر الأمر على الولايات المتحدة فقط؛ وإنما سيظهر في اللعبة دول مثل إسرائيل والصين على وجه الخصوص؛ لكن الشركات الأمريكية ستبقى متصدرة لوقت غير قريب على الأرجح.
شركة "جنرال أتوميكس"، المُصنّع الأكبر للطائرات العسكرية الشهيرة بدون طيار: البريديتور والريبر
أحد أكبر الأمثلة على هذا التصدر هو شركة "جنرال أتوميكس"، المُصنّع الأكبر للطائرات العسكرية الشهيرة بدون طيار: البريديتور والريبر؛ حيث أتى ٩٠% من ٦٦١,٦ مليون دولار، وهو حجم أرباح الشركة عام ٢٠١٠، من مبيعاتها للبنتاغون؛ إذ باعت الشركة، التي يعتقد أنها أكبر منشأة مخصصة لصناعة الطائرات بدون طيار في العالم، على مساحة ٨٥ هكتارا في كاليفورنيا، بين عامي ٢٠٠٠ و ٢٠١٠ ما تزيد قيمته عن ٢,٤ مليار دولار من المعدات للجيش الأمريكي، معظمها من الطائرات بدون طيار، التي باعت منها أكثر من ٤٣٠ طائرة بريديتور وريبر ما بين ١٩٩٤ و ٢٠١٠، والاتفاق على نسخ تجريبية قادمة، مثل "البريديتور سي أفينجر".
ليس هذا هو الاستثمار الوحيد للشركة الصغيرة. يفاخر "جايمس بلو" مدير "جنرال أتوميكس" التنفيذي، بقوله: "نملك بالنسبة لحجمنا رأس مال سياسي أكثر تأثيرًا مما يمكن أن تظنوا"؛ إذ رعت الشركة لسنوات أعضاء بارزين في الكونغرس، وأنفقت ببذخ على حملاتهم الانتخابية وأنشطتهم أكثر من أي شركة أخرى، بالإضافة إلى سعيها للخروج من أمريكا لدول أخرى، بعد إقرار الحكومة الأمريكية في يوليو /تموز ٢٠١٠ السماح بتصدير نسخ من بعض الطائرات بدون طيار.
بعد "جنرال أتوميكس" تأتي شركة "أيروفايرنمينت"، التي تضاعفت قيمتها السوقية عشر مرات، من ٣٠ مليون دولار إلى ٣٠٠ مليون دولار، خلال عقد واحد، قيمة تمثل ٨٥% منها مبيعات الطائرات بدون طيار للحكومة الأمريكية، وثبتت نفسها كعملاقة صناعة الطائرات بدون طيار صغيرة الحجم.
لم تخرج كبرى الشركات الدفاعية عن هذا السوق بالطبع، فشركة "رايثيون" على سبيل المثال، أحد أكبر خمسة متعاقدين فيدراليين في الولايات المتحدة، لا تزال توفر برمجيات الطائرات التي تمكن مشغلي صاروخ نيفادا من الوصول المباشر لمعطيات استخبارية فعلية، كما عملت في بعض أنواع الصواريخ المستخدمة في الدرونز أهمها صواريخ "بايفواي"، منافس صواريخ "هيل فاير" التي تنتجها عملاق الصناعات الدفاعية العالمي الآخر "لوكهيد مارتن"، والمستخدم في طائرات البريديتور، بالإضافة إلى عملاق صناعة الطائرات المدنية والعسكرية "بوينج"، التي دخلت هذا السوق بكل ما لديها كذلك، وحصلت على براءة اختراع لطائرات تقود نفسها بصورة أساسية، وغيرها من الشركات الكبرى والصغرى، والأبحاث الحكومية الخاصة، انطلاقا من كبرى الوكالات المخصصة لذلك: "داربا".
خارج الولايات المتحدة، تظهر إسرائيل كأكبر مصدر للطائرات بدون طيار في العالم، انطلاقًا لكونها "حكومة في حالة حرب دائمة"؛ إذ بدأت باستعمال الطائرات بدون طيار أثناء غزو لبنان عام ١٩٨٢، ومن ثم بدأ بيع هذه الطائرات إلى الولايات المتحدة، وصولًا إلى استخدام ستة جيوش من جيوش الدول الأعضاء في الناتو للطائرات الإسرائيلية بدون طيار، المعروفة بعلامتها الصفراء المميزة، بعد اندلاع الانتفاضة الثانية وتزايد عمليات الاغتيالات، وحرب غزة عام ٢٠٠٨.
"غيورا كاتز" (نائب رئيس شركة "رافائيل" للأنظمة الدفاعية الإسرائيلية المتقدمة) (مواقع التواصل)
يتوقع "غيورا كاتز" (نائب رئيس شركة "رافائيل" للأنظمة الدفاعية الإسرائيلية المتقدمة) أن يصبح ثلث المعدات العسكرية الإسرائيلية إلكترونيا بالكامل، وبلا تدخل بشري بحلول عام ٢٠٢٥، كما وقعت الحكومة الإسرائيلية عام ٢٠٠٩ اتفاقًا يقضي ببيع ما قيمته ٥٠ مليون دولار من الطائرات بدون طيار إلى روسيا، أعقبه محادثات لعقد صفقة أخرى بقيمة ١٠٠ مليون دولار، كجزء من عقد شامل بقيمة ٤٠٠ مليون دولار، كما تستخدم تركيا الطائرات الإسرائيلية الصنع للقيام بمراقبة الأكراد في شمال العراق، وأيضًا تستخدمها الهند كجزء من سباق التسلح الطويل مع الجارة باكستان التي صنعت طائرة محلية بدون طيار، بالإضافة للتعاون الإسرائيلي مع البريطانيين لصناعة الطائرة البريطانية المنتظرة ووتش كيبر (Watch Keeper).
دون الولايات المتحدة وإسرائيل، فاجأت الصين عددًا من المسئولين الغربيين بكشفها النقاب عما لا يقل عن 25 نوعًا مختلفًا من المركبات الجوية غير المأهولة في نوفمبر /تشرين الثاني لعام ٢٠١٠، من بينها طائرتان بدون طيار هما: التيروداكتل والساور دراغون، اللتان تحاكيان البريديتور، ودون هؤلاء دخلت إيران وحوالي ٨٦ دولة -بينها ثمانية دول تملك درونز مسلحة- السوق بشكل متواضع ومبدئي، بالإضافة لعدد من الفاعلين من غير الدول؛ مثل "حزب الله" و"تنظيم الدولة الإسلامية"، بما يكسر الاحتكار ويغير قواعد اللعبة.
الدول التي تملك الدرونز المسلحة
أرضٌ تحت السيطرة
في إحدى تحذيراته الشهيرة من تبعات هجمات الحادي عشر من سبتمبر؛ قال الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش إن الولايات المتحدة أعلنت "حربًا من نوع جديد، حربًا تتطلب منا الدخول في صيد عالمي"، بما يتنافى مع مفهوم الحرب التقليدية، ويجعل المجتمع المستهدف بهذا الصيد مجتمعًا من الفرائس للصيادين، ويجعل العالم ساحة معركة عالمية، دون اعتراف بالحدود الجغرافية، ودون حاجة للصدام والاحتكاك المباشر، بحسب ما يصفه الفيلسوف الفرنسي "جريجوار شامايو"، الذي يناقش التبعات الأخلاقية والفلسفية لاستخدامات الدرونز، في كتابه "نظرية الدرونز".
يتساءل "شامايو" في كتابه عن تبعات استخدامات الدرونز: "ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للأساس الأخلاقي للحرب؟ ألا يؤدي غياب تبادل لإطلاق النار إلى انتفاء الفكرة القائلة بضرورة أن تكون الحرب أخلاقية وعادلة؟ ثم ماذا عن قانون الحرب نفسها؟ فطائرات الدرونز لا تستطيع أخذ أسرى أو رعاية جرحى العدو؟ وماذا عن قرينة البراءة؟؛ أي أن كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً منها إلى أن تثبت إدانته. ولعل السؤال الأهم هو: ألا يمكن أن تشرع بعض الحكومات يوماً ما في استعمال الطائرات القاتلة ليس في حروب تُشن على أجانب في بلدان بعيدة فحسب؛ ولكن في داخل بلدانها أيضاً ضد مواطنيها؟".
وبالفعل، فأول المتضررين المستهدفين من طائرات الدرونز هي المجتمعات المستهدفة بهذه الطائرات، والتي صار أنين صوتها يذكرهم بالموت، فبجانب الموت والإصابات المباشرين، نتيجة "الأضرار الجانبية"؛ تعيش هذه المجتمعات حالة من الرعب والهلع الدائمين في القرى والمدن الواقعة دائمًا تحت الرقابة، محملين بكراهية أزلية لهذه الطائرات وصانعيها ومشغليها والمتسببين باستهدافهم، مما يطرح أسئلة حول جدوى استخدامها في مكافحة الإرهاب، بدل استمراره؛ إذ بعد يوم واحد من دعابة الرئيس أوباما، في ١ مايو /أيار ٢٠١٠، التي ابتدأنا بها، فشلت محاولة الباكستاني فيصل شهرزاد في تفجير سيارة مفخخة في ساحة التايمز في نيويورك، محاولة قال فيصل إن من دوافعها: "الطائرات بدون طيار"، والتي عدها سكان مدينة الموصل العراقية الخطر الأكبر، والأشد خطورة من "تنظيم الدولة" نفسه، والتي تجيد هذه التنظيمات استخدامها واستغلالها، بعد أن تشعل هذه الطائرات نيران الانتقام والعنف.
إلا أن هذا هو الغرض الواضح من الدرونز، فجوهرها هو دفع العالم كله، وليس المجتمعات المستهدفة وحدها، ليكون "مجتمعا تحت الرقابة"؛ تتم فيه مراقبة وتمحيص وتسجيل كل ما يجري لصالح السلطات والاستخبارات العالمية، فعلى سبيل المثال؛ أجاز الكونغرس لإدارة الجمارك وحماية الحدود عام ٢٠٠٥ شراء طائرات بريديتور غير مسلحة، لمراقبة الحدود وتعقب المهاجرين غير الشرعيين والمهربين، كما قامت شرطة ميامي بشراء طائرة بدون طيار قالت إنها "للمراقبة، لا للتجسس"؛ مما يطرح أسئلة حول الخصوصية والفردية في امتدادات هذا الفضاء.
يصف العقيد المتقاعد "كريس تشامبليس" وظيفة مشغل الطائرات بدون طيار بقوله: "تهيئ نفسك، في الطريق إلى هنا، لولوج الجزء المتعلق بالقتال الجوي في حياتك، وتتهيأ في الطريق إلى المنزل للجزء المتمثل في لعبة كرة القدم منها، وتقتل بينهما"، حيث يمكن للعقيد تشامبيلس، من قاعدة كريتش للقوات الجوية في نيفادا، التي يتم تشغيل معظم الطائرات بدون طيار منها، بالإضافة إلى قاعدة نيليس للقوات الجوية، القريبة أيضًا، يمكن له أن يوجه البريديتور المفترسة باستخدام هيل فاير لقتل "مشتبه فيهم" في أي مكان في العالم، ثم يعود لمنزله ويشاهد مسلسله المفضل ويلاعب ابنه وابنته، بعد أن فقد المشتبه به أبناءه كـ"أضرار جانبية"، مستخدمين ما يسمونه بـ"تلفاز الموت".
بالإضافة للطيارين العسكريين، نشأت "عقلية بلاي ستيشن للقتل" لدى الطيارين المشغلين المدربين على أساليب القرن الحادي والعشرين؛ حيث تم إعداد جهاز التحكم على غرار لعبة البلاي ستيشن، بحسب ما ينقل بي دبليو سينغر في كتابه "وايرد فور وار"، مما فتح المجال لما يسمى "سلسلة القتل" التي يعمل بها موظفون خصوصيون متعاقدون مع وزارة الدفاع، كتقنيين وميكانيكيين ومحللين استخباراتيين ومشغلين للطائرات بدون طيار، ويخضعون لشركاتهم الخاصة، لا للدولة.
ومع أن الطيارين اللذين قصفا هيروشيما وناغازاكي لم يريا آثار القنبلة بعد القائها مباشرة؛ فإن من يشغلون الطائرات بدون طيار يرون ما يجري بالتفاصيل، فبعد فترة من الرقابة تتحول العلاقة إلى نوع من العلاقة الشخصية بين المراقب والمراقَب، ثم يشاهد بدقة كيف يُقتل، وقد يكون مع ابنه أو ابنته أو أحد أطفال القرية؛ مما يترك آثارًا نفسية حادة، أبرزها "اضطراب توتر ما بعد الصدمة"، الشبيه بما يصيب الضحايا المستهدفين أنفسهم، آثارٌ ستنتهي قريبًا بعد الأتمتة الكاملة للطائرات المسلحة بدون طيار، وتسليمها لآلات لا تملك عواطفًا أو مشاعر من أي نوع.
في مقاربة وزير العدل أريك هولدر "مقاربة المسائل القانونية للدرونز"، في مارس /آذار ٢٠١٢، في خطاب له بجامعة نورث وسترن، قال "هولدر" إن "الدستور فوض الرئيس لحماية الأمة من أي تهديد بهجوم وشيك"، وهو ما رد عليه، بسخرية، لا المجتمع القانوني الذي يعتمد على "قانون تفويض الدفاع الوطني" في عمليات القتل هذه، بل المقدم الساخر "ستيفن كولبرت"، الذي تنهد قائلًا: "إن كنا سننتصر في حربنا الدائمة مع الإرهاب، فلا بد أن نتكبد الخسائر، وقد شاء القدر أن يكون الدستور من بينها".
وبجانب الدستور، يبدو أن الولايات المتحدة ستخسر المبادئ المؤسسة لها كذلك، ففي استطلاع أجرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، لم يتجاهل الشعب الأمريكي الهجمات وحسب؛ بل أيدها كذلك؛ بينهم 79% أيدوا استخدام الطائرات ضد المشتبه فيهم بالإرهاب، حتى لو كانوا مواطنين أمريكيين يعيشون في بلدان أخرى، كما ساعدت الدرونز على ما قد نسميه "التطبيع مع العنف والقتل"، مترافقة مع حملة منسقة من التخويف التي باتت اعتيادية للغاية؛ بل وتحويل الحرب إلى نوع من التسلية التي يدعوها الجنود "دعارة الحرب"، بعد أن أصبحت وزارة الدفاع تنشر مقاطع العمليات على الإنترنت، كوسيلة لترويج الطائرات بدون طيار داخليًا، ولـ"إرهاب العدو خارجيًا".
لم تعد هناك حاجة لتوحيد البلاد في نزاع ما، أو الدعوة لبذل التضحيات، أو إجراء نقاشات مضنية في الكونغرس، بما أن الدرونز تحفظ الخسائر البشرية للجنود، وكل ما يتطلبه الأمر مجرد قرار من الرئيس الأمريكي يحدد من يجب وضعه على قائمة القتل والموافقة على استهدافه؛ إذ يبدو أن الحرب أصبحت هي الغاية والوسيلة لذاتها، دون ضوابط أو روادع من أي نوع، لأن الآلة لا تعرف هذه الحدود الإنسانية، وتكفي البشر مؤونة ذلك..!
http://midan.aljazeera.net/reality/...درونز-كيف-أمسكت-الولايات-المتحدة-بأطراف-الأرض