أنظمة الدفاع الجوي السعودي

القيادة والسيطرة والاتصالات

قائد الدفاع الجوي السابق ( الأمير خالد بن سلطان )

كنت في ميدان الرماية، الذي يبعد نحو 70 كيلو متراً عن مدينة جدّة، أشهد تدريباً على إطلاق صواريخ هوك عندما فُجِعت بنبأ وفاة الملك فيصل. كان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من شهر مارس 1975. انتقلت فوراً إلى المطار وتوجهت إلى الرياض. وعلمت، وأنا في الطائرة، أن الملك فيصل لم يمت ميتة طبيعية، بل قُتل بيد آثمة أطلقت عليه الرصاص. وراعَني أن الذي أطلق عليه الرصاص هو ابن عمي، الأمير فيصل بن مساعد، الذي أذكره منذ أيام الدراسة شاباً هادئاً خلوقاً، فكيف أقدم على مثل هذه الفعلة النكراء؟

بدأت الشائعات تتردد هنا وهناك، وبلغت حد القول أن الأمير فيصلاً عندما كان يدرس في بيروت ثم في جامعة كولورادو الأمريكية، أجرت له الاستخبارات الأمريكية عملية "غسل مخ" ليُقدم على قتل الملك فيصل. وتعزو الشائعات سبب ذلك إلى سياسة الملك فيصل الوطنية التي كانت مصدر قلق وضيق للسلطات الأمريكية، فقد ساند مصر وسوريا إبَّان حرب أكتوبر ، كما ساند الفلسطينيين في مقاومتهم الاحتلال الإسرائيلي، وجعل الولايات المتحدة تستشيط غضباً جرَّاء حظر البترول الذي فرضه على الغرب.

غير أنه من الصعب الاقتناع بمثل هذا التوجه في تفسير الأحداث. ومن التفسيرات التي راجت أيضاً في بعض الأوساط، أن القاتل أقدم على فعلته حينما دخل إلى مكتب الملك فيصل، أثناء استقباله وزير البترول الكويتي، بدافع الثأر لأخيه خالد. وكان أخوه، خالد، متعصباً لرأيه دينياً، وكان قد قُتل قبل ذلك ببضع سنوات في تبادل لإطلاق النار مع رجال الشرطة، حين حاول، مع مجموعة من رفاقه المتعصبين، الهجوم على مركز البث التليفزيوني في الرياض، إذ كانوا يعدون هذا المركز مخالفاً لأحكام الشريعة الإسلامية. ثم تحصّنوا في أحد البيوت القريبة من مبنى التليفزيون، وبادروا إلى إطلاق النار على الشرطة عندما حضرت لاستجلاء الأمر. كانت الأوامر الصادرة إلى قوة الشرطة تقضي بعدم الرد على النار بالمثل، لذلك فمن المرجح أن تكون الرصاصة التي قتلت خالداً قد أطلقها أحد رفاقه. وفي كل حال، فقد حوكم فيصل بن مساعد لاحقا، ونُفذ فيه حد القصاص.

لا شك أن مقتل الملك فيصل على يد أحد أفراد العائلة المالكة كان فاجعة أليمة، تأثرت بها العائلة بأسرها. وما زلت أذكر هذه الحادثة بشيء من الحرج، إذ حينما توجَّهنا لدفن الملك فيصل بعد وفاته بأربع وعشرين ساعة، في حضور الكثير من رؤساء الدول، الذين كان بينهم الرئيس أنور السادات، فغلبني الحزن ولم أستطع كبت مشاعري، فما كان من والدي إلاّ أن زجرني وطلب مني أن أتمالك نفسي. كان الملك فيصل يمثل لنا، نحن الأمراء الشبان في ذلك الوقت، شخصية مهيبة قوية، إذ كان قائداً ملهماً استطاع أن يفرض احترام العائلة والدولة على المجتمع الدولي. وترك فقده حزناً عميقاً في نفوسنا.

في ذلك الوقت الحرج والمحنة القاسية أسدى عمي، الأمير محمد، إلى العائلة معروفاً طوق به الأعناق. كان أكبر الأحياء سناً من أبناء الملك عبدالعزيز، ومن حقه تولي الحكم لو أراد. لكنه كان رجلاً متواضعاً، لم يطمح إلى حكم أو مُلك، فقد سبق أن تنازل عن ولاية العهد طواعية لشقيقه الذي يصغره سناً الأمير خالد. وقد أَرسَى بذلك سابقة مهمة مؤداها أن اختيار الملك يُبنى على السن والكفاءة معاً.

وكما تقضي التقاليد، اجتمعت العائلة بعد ساعة أو ساعتين من وفاة الملك فيصل لمبايعة الملك خالد الذي تعهد أن يحكم بهدي القرآن والسنة. كنت أقف في صف طويل أنتظر دوري لمبايعة الملك، حين رأيت الأمير محمداً يتقدم ويمسك يد الرجل الواقف أول الصف ويقول له: "أريدك أن تبايع أيضاً الأمير فهداً ولياً للعهد".

كان الأمير فهد، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء في ذلك الوقت، وسيصبح تلقائياً ولياً للعهد. وكان إزاء المأساة التي حلت بالعائلة بعد وفاة الملك فيصل، يرغب في تأجيل تعيينه رسمياً. وقال معترضاً: "إن الوقت ليس مناسباً لذلك". لكن الأمير محمداً أصرّ على موقفه قائلاً: "كلاَّ.. هذا هو الوقت المناسب". وبتعيين الأمير فهد ولياً للعهد، يكون الأمير محمد قد تخطى اثنين من أخوته هما: الأمير ناصر والأمير سعد. وكانا أكبر سناً من الأمير فهد وأصغر من الملك خالد. فرض الأمير محمد اختياره على العائلة بصفته كبيرها، وتفادى بذلك أية خلافات قد تظهر في المستقبل. كما أرسَى تقليداً جديداً بطلبه البَيعة لولي العهد. فأصبح تقليداً رسمياً أن يُبَايَع الملك وولي العهد في الوقت نفسه. والذي لا شك فيه أن الموقف الذي اتخذه الأمير محمد، لكي يحقق انتقال السلطة في صورة سلسة، هو موقف عظيم يجب أن يذكر في حقه بالشكر والعرفان.

كان عقد السبعينات في المملكة هو عقد الإثارة والقلق، إثارة مردُّها إلى تلك القفزات المتتالية في أسعار النفط عامي 1973 و 1979. قفزات نقلتنا إلى مصافِّ أغنى الدول. ولا يحتاج المرء إلى العودة بذاكرته إلى الوراء كثيراً، ففي الخمسينات، عندما كنت طفلاً كنّا فقراء، وفجأة أصبح في مقدورنا أن نقتني أي شيء في العالم. أصبحت أحلامنا في التقدم والازدهار أمراً ممكناً. أقمنا في فترة قصيرة شبكات من الطرق الحديثة وأنظمة الهاتف المتقدمة. أنشأنا المطارات في كل ركن من أركان بلادنا المترامية الأطراف. امتلكنا أفخم السيارات وأقمنا أحدث المستشفيات والفنادق والجامعات. صممنا المباني العامة التي تبهر النظر على يد أشهر المعماريين في العالم.

ارتفع دخان المصانع بكل أنواعها حول ميناءي الجبيل على الخليج، وينبع على البحر الأحمر، اللذين صُمِّما وفق أحدث الطرز العالمية. فضلاً عن الكثير من المرافق التي انتشرت في كل مكان. تحول مستوى المعيشة في بلدنا، الذي كان متقشفاً في الأربعينات ومتواضعاً في الخمسينات، ومريحاً في الستينيات، إلى مستوى من الثراء والرفاهية يتحدث عن نفسه ولا تكاد تخطئه العين.

كان علينا، في الوقت نفسه، أن ننفق الأموال الطائلة من أجل تقوية دفاعاتنا، نظراً إلى التغيرات الجذرية التي تأثرت بها كل جوانب حياتنا. حدثت تلك التغيرات في حقبة تسودها الاضطرابات والقلق والتوجس. ففي بلدنا، كان فقدان الملك فيصل صدمة قاسية، إذ فقدنا بين عشية وضحاها قائداً سديد الرأي كنّا نُعوِّل عليه كثيراً. وفي المنطقة العربية كان اتجاه مصر نحو سلام منفرد مع إسرائيل سبباً في نشأة الصراعات داخل الصف العربي، مما جعل التوتر يخيم في سماء الأمة العربية. ولم يقتنع بمبادرة السادات، في ذلك الوقت إلا العدد القليل من أبناء المنطقة. لكن الأيام أثبتت، بعد مرور 15 عاماً، أن السادات كان مُحِقاً. فقد تجددت جهود السلام وأخذت تؤتي ثمارها، وإن كان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة قد سبق السادات بعقد من الزمان في دعوته إلى السلام مع إسرائيل. كان الرئيس التونسي يحضُّ العرب على قبول ما تقدمه إسرائيل، ثم ممارسة الضغوط بعد ذلك للحصول على المزيد من التنازلات عندما تسنح الفرصة لذلك، كما فعل الصهاينة من قبل. لكن نداءه لم يجد لدى العرب آذاناً صاغية. واستمر الصراع العربي - الإسرائيلي المرير يزداد عنفاً وشراسة، تتخلله. الحروب الطاحنة بين الحين والآخر.

بلغ التوتر في المنطقة مداه، في السبعينات، عندما جاء تكتل ليكود اليميني، بزعامة مناحيم بيجن إلى سدّة الحكم في إسرائيل والليكود تكتل متشدد لا يتورَّع عن العدوان، ويسعى إلى إقامة إسرائيل الكبرى. لم يكن في وسعنا أن نغض الطرف عن نُذُر الحرب قرب حدودنا الشمالية الغربية. وكان سقوط الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979، صدمة عنيفة أخرى جعلت الاضطراب يسود منطقة الخليج كلها. وزادت مخاوفنا على أمن المملكة. ولا يفوتني أن أذكر هنا أنه لم تكن ثمة مخاوف من إيران كدولة إسلامية، لكن التوجهات السياسية المتطرفة ومحاولات النظام الإيراني تصدير الثورة، كانت هي مبعث القلق.

وإن كنت، بحكم عملي العسكري، لم أدخل معترك السياسة، إلاّ أن وجودي في قيادة الدفاع الجوي، مع مسؤولياتي المتزايدة عن تأمين الأسلحة الجديدة، جعلاني أفكر دوماً في العدد المطرد من المدن الرئيسية والمصانع والمرافق التي تنبغي حمايتها من أي عدوان جوي محتمل. فلم يكن مستبعداً بأن تخترق طائرات معادية مجالنا الجوي بين لحظة وأخرى في هذا الجو المتوتر الذي يسود المنطقة.


كان شغلي الشاغل بناء نظام متكامل للدفاع الجوي يغطي مساحة المملكة بكاملها، وكان ذلك عملاً لا يكاد ينتهي. فالحاجة كانت ماسة إلى وحدات جديدة، للدفاع عما يستجد من أهداف حيوية كثيرة. وانحصر الأمر في وضع نظام من الأولويات، إلاّ أن تلك الأولويات لم تكن ثابتة، فالأهداف التي يحتمل تعرُّضها لهجوم جوي كثيرة تشمل العاصمة والمدن الرئيسية الأخرى والمنشآت البترولية والمصافي ومحطات التحلية ومقر قيادة القوات المسلحة والقواعد الجوية والموانئ البحرية والصناعات الجديدة على الساحلين الشرقي والغربي. كان عليَّ أن أحدد الأهداف الحيوية ثـم أصنفها في ضوء احتمال تعرُّضها للهجوم. وكان هذا العمل يتطلب تخطيطاً وتنسيقًا وإدارة للموارد المتاحة. ويتطلب، فوق ذلك كله، تدريباً مكثفاً شاملاً على مختلف المستويات. ولَمّا كان هناك نقص شديد في الأيدي المدربة، فقد اعتبرت التدريب أهم من العتاد الذي نحصل عليه. ومن هنا، كان ضرورة التوسع المستمر في مدرسة الدفاع الجوي، التي أنشأتها شركة ريثيون في جدة عام 1962، إضافة إلى إرسال مئات من الشباب للتدرب في الخارج من أفراد وفنيين ومشغلين وإداريين ومهندسين وباحثين. فالتقدم في هذا المجال لا حدود له، وكنا على دراية تامة بأن الحرب الإلكترونية تتقدم يوماً بعد يوم. ويبدو ذلك الأمر جلياً بالنظر إلى التقدم في الأجهزة الإلكترونية، التي لا يكاد يخلو منها بيت في هذه الأيام.


فَرَضتْ المساحة الشاسعة للمملكة، الحاجة إلى أنظمة متداخلة متكاملة للدفاع الجوي، أنظمة بعيدة المدى وأخرى متوسطة المدى وثالثة قصيرة المدى، إضافة إلى الدفاع المحلي. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الدفاع الجوي لا يضمن الحماية الكاملة، إذ لا يمكن تأمين عدد كافٍ من الأنظمة يحقق الأمان التام. ألم ينجح مهربو المخدرات بطائراتهم الصغيرة في عبور الحدود المكسيكية - الأمريكية دون أن تكتشف أمرهم أجهزة الدفاع الجوي؟ ألم ينجح شاب ألماني، قبل بضع سنوات، في الوصول بطائرة صغيرة حتى قلب موسكو حيث هبط في الميدان الأحمر، جاعلاً من الدفاعات الجوية السوفيتية مهزلة مضحكة أدّت إلى إقالة قائدها؟

قبل التحاقي بالدفاع الجوي، كانت لدينا مدافع مضادة للطائرات من عيار 40 مم تُشغَّل يدوياً، وهي من أولى أنظمة المدفعية التي حصلت عليها قواتنا، ولا تزال تعمل حتى الآن. أضفنا بعد ذلك مدافع من أحدث الأنواع، بموجب عقدٍ تفاوضَ صالح المُحيَّا في شأنه منذ البداية، وهي مدافع أورليكون oerlikon القصيرة المدى من عيار 35 مم، التي تشتبك مع أهداف تحلق على ارتفاعات منخفضة. وتابعت العقد لاحقاً في محاولة لإخضاع كل عقود الدفاع الجوي لمعايير موحدة.

إن أهمية المدفعية المضادة للطائرات في معركة الدفاع الجوي، لا تقل عن أهمية الصواريخ. فعلى الرغم من أن قذيفة المدفع أسرع من الصاروخ، إلا أنها تختلف عنه من حيث المدى، فأقصى مدى لقذيفة المدفع هو 10 - 11 كم، أما مدى الصاروخ فيزيد على ذلك بخمسة أمثال. لكن دور المدفعية المضادة للطائرات يبرز عندما يخترق العدو الحدود ويبدأ التحليق الفعلي فوق الأهداف الحيوية. وربما لا يكون أمامك من خيار سوى استخدام المدفعية لدَرْء الخطر إذا شوَّش العدو على أنظمة الصواريخ باستخدام وسائل الحرب الإلكترونية، كما حدث للصواريخ العراقية في حرب الخليج. ولا يلزمك، في هذه الحالة، استخدام الرادار لإطلاق قذائف المدفعية، إذ يمكن استخدام العين المجردة، كما فعل العراقيون حين كانت مدافعهم التي نَصَبوها فوق المباني العالية تصيب طائرات التحالف. وكان معظم خسائر قوات التحالف في الطائرات بفعل المدفعية العراقية.

انتقلنا في مرحلة السبعينات، كما ذكرت، من صواريخ هوك الأساسي، وهو سلاح متوسط المدى، إلى صواريخ هوك المطوَّر، ثم انتقلنا في الثمانيات إلى نظام صواريخ هوك الثلاثي، نظراً إلى كثرة الأهداف المطلوب حمايتها. فحصلنا على ست سرايا منها، تتكون كل سرية من ثلاثة فصائل ضرب (fire units) ومجموعة من الرادارات ومركز قيادة سرية ومركز تنسيق المعلومات. وللمحافظة على الكفاءة القتالية لهذه السرايا، بعد نشْرها، كان لا بد من تنفيذ الصيانة الدورية والسنوية في أوقاتها المحددة والتدريب الشاق المتواصل لمنسوبيها، شأنها في ذلك شأن جميع وحدات الدفاع الجوي. وكنت أصرُّ على أن تتحرك السرايا بكامل معداتها من مواقعها إلى ميدان الرماية للتدريب على إطلاق الصواريخ. كنت أول من قرر الرماية الليلية للوحدات مع تبديل المواقع، الأمر الذي مكنني من إذكاء روح التنافس بين الوحدات وتحسين مستويات أدائها.

تخضع كل الأسلحة، التي نحصل عليها، للاختبار في شهر أغسطس للتثبت من صلاحيتها للعمل في جو المملكة، إذ تصل درجات الحرارة في هذا الشهر أعلى معدل لها. وقد أرسيتُ تقليداً يقضي بإخضاع كل مشروع جديد للتعاقد على شراء السلاح لمراجعة نصف سنوية تشمل التصنيع والصلاحية الفنية والتمويل والتدريب. وكانت تلك المراجعات التي تتم في المملكة وفي مقر الشركة المورِّدة بالتناوب، تسهم في حل ما يقرب من 90% من المشاكل التي كانت تواجهنا. كما تعطي كبار المسؤولين من الجانبين - المملكة والشركة - فرصة العمل على معالجة مشاكل التأخير في التنفيذ وقطع الغيار والتدريب.

علمتني خبرة الانتقال من نظام هوك الأساسي إلى نظام هوك المطوَّر، بكل ما انطوت عليه من مشاق، أن بعض المشاريع قد تستغرق سنوات قبل أن تؤتي ثمارها. كنت أتولى، بصفتي مديراً لقسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي، اختيار الأنظمة الملائمة، وأعمل جاهداً على إقناع اللجان المختلفة والمستشارين الفنيين والقيادات العليا في القوات المسلحة بأهمية تلك الأنظمة. كان هدفي إنشاء شبكة للدفاع الجوي على درجة عالية من الكفاءة، مع تكاملها مع أنظمة القوات الجوية. كان ذلك هدفاً نذرت له جهدي لسنوات طويلة.

كنت أعكف على الدراسة والتحليل والمشاورة قبل أن أُقْدِم على التفاوض مع شركة أجنبية. كنت أبذل قصارى جهدي لاختيار أفضل الكفاءات للعمل معي، وأضع الرجل المناسب في الموقع المناسب. كنت أريد للدفاع الجوي أن يحظى بأفضل العناصر من بين الضباط العاملين الذين يُختارون على أساس الكفاءة والخبرة، ولا شيء غير ذلك. كنت أعرف أنني رئيس صارم يتوقع من مرؤوسيه الكثير، ومن ثَم فعليه أن يكون مثالاً يُحتذى. كنت أعود إلى بيتي محملاً بحقائب مكدسة بالأوراق التي لم يتسع وقت العمل لإنهائها. كنت آخذ نفسي بالشدة، فأُصِبْتُ بآلام في الظهر أجبرتني على العمل واقفاً أشهراً عدة. واسترعى انتباهي أن بعض الزملاء ممن كانوا يعملون معي قد عانوا مشاكل صحية بعينها. فعبدالله جستنيه أُصيب بقرحة في المعدة استدعت علاجه في أحد مستشفيات جدة، وزميل آخر، هو الرائد محمد عيد القرافي، وكان ساعدي الأيمن في مفاوضاتي مع الفرنسيين، تعرض لأزمة قلبية. كان مرد ذلك، بلا ريب، إلى ضغوط العمل.

تبلغ مساحة المملكة ما يزيد على 2.25 مليون كيلومتر مربع، مساحةٌ شاسعة على شكل مستطيل طوله 1700 كيلومتر وعرضه 1400 كيلومتر تقريباً، كأنها قارة كاملة. ونظراً إلى النقص في الطاقة البشرية،
فإن الاعتماد على القوات البرية لحماية هذه المساحة الشاسعة، أمر غير معقول. ومن جانب آخر فهناك قيود على حجم قواتنا الجوية. وأعتقد أنَّ ثمة سقفاً أعلى فرضته الولايات المتحدة وأصدقاء إسرائيل داخل أمريكا، على عدد الطائرات المقاتلة التي يُسمح لنا بامتلاكها. ومعنى ذلك أن تظل قدراتنا الدفاعية محدودة دائماً وأضعف من أن تصل إلى مستوى القوة الجوية للدول المجاورة. وسبق أن ذكرت في الفصل السابع، كيف أن قدرة المصريين على استخدام صواريخ سام sam المتحركة ضد القوات الجوية الإسرائيلية وأثر ذلك في تغيير قواعد الحرب، أمرٌ أعجبني إلى حدٍّ بعيد. وخلصت إلى أن الحل يَكْمن في دفاع جوي قوي يمكن أن يؤمن قدراً معقولاً من الحماية إذا نُشر على أساس إستراتيجي متكامل وزُود بنظام إنذار مبكر.

في عام 1974، بدأت أنادي بفصل الدفاع الجوي، وكان لا يزال جزءاً من القوات البرية، واعتباره قوة مستقلة رابعة، أي أن يصبح قوة مستقلة عن القوات البرية والقوات الجوية والقوات البحرية وأن يُعطى الأولوية القصوى، لكنني واجهت معارضة قوية. ولا يفوتني أن أذكر أن مسألة القيادة والسيطرة على قوات الدفاع الجوي هو أمر يشغل فروع القوات المسلحة في كثير من بلدان العالم المختلفة.

ويُعزى الخلاف، في شأن تبعية الدفاع الجوي ضمن التسلسل القيادي للقوات، إلى مدرستين في الرأي. فالمدرسة الغربية، ترى أن اعتراض الطائرات المعادية هو مهمة القوات الجوية، وأنه يجب أن تكون قوات الدفاع الجوي تحت السيطرة العملياتية للقوات الجوية. أمّا المدرسة الشرقية - المعارضة - والتي ظهرت في الاتحاد السوفيتي السابق، فترى أن استخدام المصادر والمرافق والوسائل المختلفة كمحطات الإنذار المبكر ومحطات الرادارات الأرضية والطائرات الاعتراضية القصيرة المدى تقع كلها ضمن مهمة قوات الدفاع الجوي، وبالتالي فتجب السيطرة عليها بواسطة قيادة دفاع جوي مستقلة، بدلاً من تركها تحت قيادة القوات الجوية أو القوات البرية. ويعتمد الاختيار بين هاتين المدرستين على الإمكانات المتاحة كأعداد الطائرات والعقائد العسكرية السائدة في القوات المختلفة. وقد اختارت مصر بفعل تأثرها بالفكر العسكري السوفيتي، المدرسة الشرقية في ما يتعلق بهذا الموضوع. ولَمّا كنت معجباً باستخدام المصريين لصواريخ أرض - جو وبالأداء الرائع لقوات الدفاع الجوي المصرية أثناء عبور قناة السويس في حرب أكتوبر 1973 ، فقد بذلت محاولات لفصل دفاعنا الجوي عن القوات البرية وتعزيزه قوةً مستقلة.

كانت وجهة نظر المعارضين للفصل تستند إلى صغر حجم قوة الدفاع الجوي في ذلك الوقت. وكانوا يرون أن قوة قوامها 200 ضابط و1000 فرد لا يمكن أن تشكل قوة مستقلة. وكان للتوسع في منشآت الدفاع الجوي أثره في إضعاف تلك الحجة. كنت مقتنعاً تماماً بفكرتي، وتصديت للدفاع عنها بكل ما أوتيت من قوة. ولم أتوقف عن إثارتها في كل اجتماع ومنتدى سنحت لي الفرصة فيه. ولا شك أنني أثقلت على زملائي لكثرة ما جادلتهم في شأن تلكَ الفكرة.

بحلول عام 1976، أدركت أنني لم أحرز تقدماً يذكر في هذا الصدد، بل أدى إلحاحي إلى عكس ما اشتهيت، فبدلاً من تعزيز فكرتي وكسب مؤيدين لها، تكتلت الآراء المعارضة ضدها. لذلك، غيرتُ من خطتي وقررت اتباع أسلوب غير مباشر. وبدأت أسعى إلى تحقيق أهدافي على مراحل متدرجة وخطوة بعد خطوة. وقد آتي هذا الجهد ثماره حين صادقت القيادة العليا عام 1983 على فصل الدفاع الجوي عن القوات البرية، وأصبح مرتبطاً برئيس هيئة الأركان العامة، وتم تخصيص موازنة منفصلة له.


لكن ما أسرع ما أدركت أن الدفاع الجوي لن يثبت وجوده قوةً مستقلة، إلاّ إذا تحقق له التكامل الداخلي، وقبل كل شيء اتصالات على درجة عالية من الكفاءة بين أجزائه المختلفة. كان قد تحقق عند هذه المرحلة، من طريق برامج التسلح المختلفة، تأمين قدر كبير من منظومات الأسلحة ونشرها في شكل مجموعات للدفاع الجوي في أنحاء البلاد المختلفة، وفي المناطق الحساسة كالمنطقة الشرقية. لكن أنظمة التسليح تلك لم تكن قادرة على الاتصال بعضها ببعض. ولم يكن في وسع القائد في الرياض أن يحصل على صورة متكاملة للمجال الجوي للبلاد في كل وقت من الأوقات. كنا نحتاج إلى نظام للقيادة والسيطرة والاتصالات، يُرْمَزُ إليه بـ c3، يربط رادارات الإنذار المبكر والمدفعية والصواريخ بمركز سيطرة رئيسي.


اقتنعت السلطات بالسماح لي ببدء المفاوضات مع شركة ليتون litton، وهي شركة أمريكية كبيرة تخصصت في إنتاج مثل هذا النظام ( c3 ) وتم توقيع عقد معها قيمته 1.6 مليار من الدولارات في 8 إبريل عام 1979، بعد أكثر من عامين من الجهود المضنية. ونظراً إلى ضخامة المشروع وتعقده التقني تحدد يوم 7 فبراير عام 1985 موعداً لإتمامه وتسليمه صالحاً من وجهة النظر العملياتية، أي بعد فترة زمنية قدرها 70 شهراً أو ست سنوات إلا شهرين من توقيع العقد. شعرت بسعادة غامرة يوم توقيع العقد، كان إنجازاً باهراً. لكني لم أكن أدري وأنا أعيش تلك الفرحة الغامرة، أن إتمام هذا المشروع سيستغرق 14 عاماً وأنه سيكلفني عناءً كثيراً!
 
القيادة والسيطرة والاتصالات (تابع)

قائد الدفاع الجوي السعودي السابق ( الأمير خالد بن سلطان )


تفاوضت في شأن الخطوط العريضة للعقد مع رئيس شركة ليتون، وهو رجل متميز في إدارته يُدعى تشارلز بيتس ثورنتون من ولاية تكساس واشتهر باسم تكس ثورنتون. كان متقدِّماً في السن عندما قابلته. وكان قد أبلى بلاءً حسناً في القوات الجوية الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية، وعمل بعد ذلك في شركة فورد لتصنيع السيارات، قبل أن يصبح العقل المدبر في إنشاء شركة ليتون وإدارتها. وهي مؤسسة يبلغ رأس مالها خمسة مليارات من الدولارات. كان مديراً قديراً يفهم لغة الأرقام فهماً جيداً. ولعلنا لم نكن لنصادف أية متاعب مع شركة ليتون لو أنه ظل على قيد الحياة. فقد وافاه الأجل المحتوم متأثراً بمرض السرطان بعد توقيع العقد بوقت قصير. وحل فْرِيد أُوجرين محله رئيساً للشركة، وهو شاب ريفي خلوق، من ولاية أيوا . وسارت علاقتنا به على ما يرام، على الأقل في بداية الأمر.

وأري لزاماً عليَّ أن أسرد، ولو في عُجالة سريعة، بعض تفاصيل علاقتنا بشركة ليتون لا لشيء سوى أنها ألقت بظلالها على السنوات الأخيرة من حياتي العسكرية في قوات الدفاع الجوي قبل حرب الخليج، وأثرت بشكل مباشر في اتجاهنا نحو التعاقدات الأجنبية في مجال الدفاع بوجه عام.

ومن حق القارئ غير المتخصص أن أقدم إليه عرضاً مبسطاً عن الإمكانات التي يتيحها نظام القيادة والسيطرة والاتصالات الذي تعهدت ليتون بتقديمه.
كان النظام مصمماً لربط جميع عناصر الدفاع الجوي في أنحاء المملكة بمركز سيطرة رئيسي. فهو عبارة عن شبكة اتصالات تغطي المملكة بكاملها. فترتبط، من جهة، بالرادارات البعيدة المدى القادرة على نقل صورة للمجال الجوي، كما ترتبط، من الجهة الأخرى، بأجهزة القيادة والسيطرة التي تُعرف بـ tsq 73 تتميز هذه الأجهزة بالقدرة على تحليل الصورة الجوية، وتحديد الخطر القادم، واختيار السلاح المناسب لتدمير الأهداف الجوية المعادية. وهذا يعني أن نظام c3 الذي يعمل من طريق التكنولوجيا المتقدمة ذات السيطرة الآلية، يستطيع أن يكتشف الأهداف الجوية في الوقت الحقيقي، ويتتبعها ومن ثَم يعطي الأمر إلى سرايا الدفاع الجوي بالاشتباك معها. وكان مركز شبكة الاتصالات مدينة الرياض وتغطي تلك الشبكة المملكة بأسرها، من تبوك شمالا حتى حدود اليمن جنوباً، ومن الظهران شرقاً حتى جدّة غرباً. والهدف من هذا النظام بجملته هو تأمين صورة كاملة للمجال الجوي لقائد الدفاع الجوي، إضافة إلى تمكينه من السيطرة على جميع أنظمة الأسلحة.

وإن كان المحامون واللجان الفنية قد تولوا التفاوض في شأن كل تفاصيل العقد، كبيرها وصغيرها، إلاّ أنني كنت المحور الأساسي في تحديد محتوى البرنامج وتحمل المسؤولية كاملة. شكلتُ لجنة من كبار ضباط الدفاع الجوي، تم اختيارها من كل الإدارات والأقسام، حددت متطلباتنا من الاتصالات ومن وحدات tsq 73 ووضعت جدولاً زمنياً للتدريب الذي يحتاج إليه رجالنا.

إضافة إلى الأنظمة الإلكترونية المعقدة، كان النظام يتطلب قدراً كبيراً من أعمال الإنشاء لإيواء أجهزة القيادة والسيطرة والرادارات ومعدات الاتصالات، حتى تكون قريبة من سرايا صواريخ هوك والأسلحة الأخرى. كنت أتمنى، في بداية الأمر، أن يتمكن المقاولون المحليون من القيام بعمليات البناء، لكن الطبيعة الفنية المعقدة للمشروع جعلت الشركات المحلية عاجزة عن الإقدام على تلك العملية. وعهدت شركة ليتون بالإنشاءات، بموجب عقد فرعي ( من الباطن )، إلى مؤسسة فرانكفورت التي يمتلكها فيليب هولزمان ونتج من ذلك تأخير البرنامج 18 شهراً تقريباً.

لم يمض وقت طويل حتى أدركنا أن فترة التنفيذ، التي تحددت بسبعين شهراً، كانت مبنية على حسابات مفرطة في التفاؤل. وأضحى من الصعب على الشركة الالتزام بها، إذ واجهت صعوبات فنية جمَّة تتصل بالرادارات ذات المدى البعيد على الساحلين الشرقي والغربي بسبب ارتفاع نسبة الرطوبة في الهواء، والفروق الكبيرة في درجات الحرارة، إضافة إلى الأحوال الجوية المتقلبة. وثمة أمر جعل المهندسين في حيرة من أمرهم، هو ما أطلقوا عليه "البث الشاذ". فعندما تدير جهاز رادار منصوباً على أيًّ من شواطئ شبه الجزيرة العربية، وخاصة الشواطئ الشرقية، تظهر لك صورة فضائية تمتد حتى الهند لكنها صورة مشوشة يصعب فهمها. كان هذا التشويش يحدث في كل من الظهران وجدّة. واحتاج الأمر إلى إجراء تعديلات أساسية في نظام الرادار. وفى نهاية المطاف، نُصبت أجهزة الرادار بنجاح لتغطي كل المملكة، وتم استخدام محطات تقوية لربط محطات الرادار بالشاشة الكبيرة الموجودة في غرفة العمليات في مركز قيادة قوات الدفاع الجوي في الرياض.

ظهرت مشكلة خطيرة أخرى، فشركة ليتون لم توفر الكميات الكافية من قطع الغيار. وكانت تلك المشكلة، من وجهة نظري، هي السبب الرئيسي في تأخر إتمام المشروع. ففي وقت من الأوقات، بلغ العجز في قطع الغيار ما قيمته 100 مليون دولار. واستغرق تصحيح هذا الوضع بضع سنوات، وأصبحت مشكلة العجز في قطع الغيار أكثر إلحاحاً، في الوقت الذي ظهرت فيه مشاكل الرادار في الظهران، وبدأ تدفق بقية المعدات لتركيبها في المباني التي شيدتها شركة فيليب هولزمان.

لم يغب عن تقديري أن شركة ليتون واجهت مشاكل فنية صعبة، لكنني لم أكن راضياً عن أدائها بشكل عام. وأدى ذلك، بطبيعة الحال، إلى تعكير صفو العلاقة بيني وبين فْرِيد أُوجرين. وبعد سلسلة من الاجتماعات المرهقة مرات عدة وسيل متبادل من الخطابات المتحفظة، أُعِيدَ النظر في الجدول الزمني مرات عدة، وتم التفاوض في شأن تعديل بنود العقد الأصلي. واقترحت، بشكل حاسم، سحب روبرت سيتز ممثل شركة ليتون في المملكة، بعد أن فقدت الثقة به. وحل محله جلين جربس، وهو مدير كفء لديه إلمام تام بالأمور الفنية، وكان قد ترك شركة ريثيون، في ذلك الوقت، ليعمل نائباً تنفيذياً لشركة ويتيكر ثم مستشاراً لها. وهي شركة كانت تتولى إدارة بعض المستشفيات في المملكة.

ولا أريد أن أترك لدى القارئ انطباعاً بأن شركة ليتون لم تستطع أن تؤدّي شيئاً بصورة صحيحة. لقد بذلت جهداً مقدراً حين نظمت برنامجاً للتدريب على نظام القيادة والسيطرة في كاليفورنيا وأفاد منه مئات الشباب السعوديين، ويُعَد هذا البرنامج حقاً، من أبرز الخدمات التي قدمَتها إلينا تلك الشركة. كان برنامجاً ناجحاً في كل المقاييس. وساعدتني ليتون في حماية الطلاب المتدربين هناك من إغراءات لوس أنجلوس التي لا تقاوم. فاشترت الشركة "موتيل" صغيراً يبعد كثيراً عن المدينة، ولكن الأمر لم يسلم من بعض المخالفات حين تورط عدد من الطلاب المراهقين في مغامرات طائشة. ففي إحدى المرات، هرب اثنان منهم إلى المكسيك حيث احتجزا ثم أعيدا إلى مقرهما. وإلى جانب برامج التدريب، كانت المعدات التي وردتها الشركة جيدة حقاً، كما أن المباني التي أقامتها شركة هولزمان، لإيواء تلك المعدات مبانٍ متميزة.

ازدادت مشكلة الإدارة في ليتون تعقيداً عندما ظهر الدكتور أوريون هوخ على الساحة. وهو رجل هادئ عنيد من أصل ألماني، وحاصل على درجة الدكتوراة في الفيزياء. أصبح رئيساً للشركة عام 1987 بعد تقاعد فْرِيدْ أُوجرين. وأذكر أنه زارني في مدينة بيرمنجهام في ولاية ألاباما حين كنت في رفقة والدي الذي كان يخضع لعملية جراحية.

بادرني هو قائلاً: "يا سمو الأمير، أريد أن أبدأ معكم صفحة جديدة. فلننسَ المشاكل الماضية". سررت لذلك كل السرور وجرت بيننا مناقشة ودية ووعدته بأنني سأساعد ليتون بكل ما أستطيع. بيد أن المشاكل لم تنتهِ. فقد لاحظت، على وجه الخصوص، أن الدكتور هوخ كان يرغب في أن تكون له ولإدارته السيطرة الكاملة على البرنامج من مقر الشركة في الولايات المتحدة. لكن برنامجاً كالذي كانت ليتون في صدد تنفيذه، لم يكن ليدار من على بعد عشرة آلاف ميلٍ!

طلبت منّا الشركة تسلم النظام وقبوله بعد وضع المعدات في أماكنها. لكنني وزملائي في قيادة قوات الدفاع الجوي، رفضنا تَسلُّم الصفقة قبل أن يُجرى عليها اختبار للتحقق من تكامل النظام ومن جاهزيته للعمل بنسبة 100%. فقد علمتني التجربة أنه لا يمكن التحقق من كفاءة أي سلاح نحصل عليه، إلاّ بإجراء الاختبارات الشاملة الدقيقة.

وبعد مناقشات طويلة، تمت الموافقة والتوقيع على تعديل آخر في العقد في أغسطس عام 1988، وتم بموجب هذا التعديل تأخير التسليم حتى 31 يناير عام 1989، على أن تُجري ليتون قبل التسليم اختباراً متكاملاً للنظام يغطي أرجاء المملكة تمهيداً لقبوله. واستقدمنا مستشارين محايدين لمراقبة الاختبار، منهم العميد المتقاعد جوزيف فيمياني من الجيش الأمريكي وكان يشغل منصب مدير الدفاع الجوي في البنتاجون ( يعرف أيضاً في بعض الأوساط أنه الأب الروحي لبرنامج صواريخ باتريوت إذ كان مديراً لذلك البرنامج في أيامه الأولى عندما كان يسمى sam-d )

تطلب ذلك الاختبار، كما توقعت، قدراً كبيراً من الجهد من جانب الشركة وأيضاً من جانب قيادة قوات الدفاع الجوي. كان ممثلو الجانبين موجودين في كل المواقع حين طلبنا من القوات الجوية السعودية أن تقوم بغارات وهمية وغارات مخطًطة وغارات مفاجئة على النظام ليتأكد لنا أنه يعمل في صورة مرضية.

انتهى الاختبار في ديسمبر عام 1988. وكانت عملية تقييم أداء النظام معقدة للغاية، وظنت ليتون أن الأمر قد انتهى وأن النظام اجتاز الاختبار. وعلى الرغم من اتفاقنا على أن أداء النظام فاق توقعاتنا، إلا أنه تبين لنا ولمستشارينا بعض التناقضات العملياتية. وكانت المشكلة تكمن في مجموعة البرامج التطبيقية (software) كنت حريصاً كل الحرص، أن يعمل النظام بكفاءة تامة، إذ كنّا في أمَسّ الحاجة إليه في وقت تموج فيه منطقتنا بالاضطرابات. كنت أريد أن أثبت أن قرار شراء نظام ( c3 ) كان صائباً. لكن إذا كنّا قد انتظرنا كل هذه المدة لنرى النظام وهو يعمل، فلا ضير من الانتظار قليلاً لنراه يعمل في صورة مرضية تماماً. لم أرَ بأساً في ذلك، فما كان لي أن أقبل النظام إلا وهو يعمل بكفاءة تامة لا تشوبها شائبة. وقررت ألاَّ أعتبر أن ليتون قد وفَّت بالعقد كاملاً إلاّ بعد تصحيح كل التناقضات التي لحظناها.

لم يَرُق رأيي هذا للدكتور هوخ، فبدا شديد الاستياء. واستغرق الأمر أشهراً عدة من المفاوضات الشاقة لإقناع الشركة بإتمام العقد على النحو الذي يرضينا. وبدأ جلين جربس، ممثل ليتون الجديد في المملكة، بحصر كل الأجزاء والقطع الناقصة والتناقضات والأخطاء في أداء النظام وجَمَعَها في ملف ضخم. لكن تصحيح كل تلك الأوضاع لم يتم إلا بعد أن عينت شركة ليتون السيد ألتون بران وهو رجل يفيض حيويةً ونشاطاً وفى منتصف الأربعينات من عمره، رئيساً للشركة ومديراً عاماً لعملياتها عام 1991. وفي تلك الفترة، اندلعت أزمة الخليج وتَسلّمتُ مهام عملي قائداً للقوات المشتركة. وأوْكَلتُ قيادة قوات الدفاع الجوي إلى نائبي اللواء ماجد طلحاب العتيبي.

ولأسدل الستار على هذه القصة، يسعدني أن أقول إن ألتون بران كان نسمة هواء عليل في جو خانق مُفعَمٍ بالغبار. شرع فور تعيينه في تغيير فلسفة الشركة، وقام بتقييم البرنامج، وانتهى إلى أن ليتون ينبغي أن تتولى مسئولية إتمامه على نفقتها.
ويسعدني أن أقول إنّ النظام، وقت كتابة هذه السطور، يعمل بدرجة كفاءة 100%.

لقد اتُّهِمْتُ بالتحامل على شركة ليتون! لكنني لا أرى سبباً لذلك، فقد كنت أطالب لبلدي بنظام يعمل بكفاءة تامة مقابل الأموال الطائلة التي أنفقناها. ثم إن حصاد السنين من التجارب مع شركة ريثيون التي تكلَّلت بالوصول إلى علاقة متوازنة معها، جعلني أرفض تماماً أن أترك المجال أمام شركة ليتون أو غيرها من الشركات لتستخف بنا. نحن دولة مستقلة ذات سيادة كاملة، ولن ترهبنا شركة أيّاً كان نفوذها أو كانت حاجتنا إليها.

ولا ريب أن بعض اللوم يقع على عاتقنا نحن. ولعلنا أعطينا ليتون حرية أكثر من المطلوب. ولا أظن أن هذا الخطأ سيتكرر مرة أخرى. لقد علمتنا تجربتنا مع ليتون أن نتوخى الحيطة والحذر في مفاوضاتنا مع الشركات الأجنبية، فأضفنا إلى كل العقود بنوداً وشروطاً كثيرة تحمي مصالحنا وتضمنها.

آتى برنامج ليتون ثماره بالنسبة إليَّ، إذ تعلمتُ الكثير، واتسعت معارفي بلا حدود، وكل ما أرجوه أن تكون ليتون، بالمثل، تعلمت بعض الشيء عن المملكة العربية السعودية وشعبها.
 
كانت المملكة حريصة على أن يكون لها دور في تلك الحرب. فقررت إرسال لواء من تبوك لتعزيز الدفاعات السورية في سعْسع ، وهي نقطة على الطريق المؤدية من الجولان إلى دمشق حيث توقف الزحف الإسرائيلي. ووقع الاختيار على اللواء محمد بديره ، وهو من أكثر ضباطنا خبرة في التكتيكات العسكرية، لقيادة اللواء الذي كان مسلحاً بصواريخ المضادة للدبابات والمحملة على عربات جيب، وكان سلاحاً جديداً وفعالاً في ذلك الوقت. كنت واحداً من ستة ضباط أُرسلوا إلى تبوك، لتجهيز كتيبة الدفاع الجوي العضوية التي كانت جزءاً أساسياً من اللواء ( كان مخططاً أن تتكون الكتيبة من سريتي مدافـع مضادة للطائرات وسرية صواريخ هوك ).

تمنيت أن أذهب إلى سعْسع لقيادة سرية هوك، لكن اللواء بديره قرر أن يأخذ مدافع مضادة للطائرات عيار 40 مم. ولَمَّا لم أكن مُدرَّباً على استخدام تلك المدافـع، لم يكن لي نصيب في الذهاب إلى سعْسع في صحبة اللواء. وقد استغرقت إجراءات تجهيز اللواء وقتاً غير قليل. وبينما اللواء في طريقه إلى دمشق كانت الحرب قد وضعت أوزارها أو تكاد. وبقي هناك أكثر من سنتين لمساندة السوريين في الدفاع عن جبهتهم.



94456_o.png
 
بنـاء القوة الرابعـة

قائد الدفاع الجوي السعودي السابق ( الأمير خالد بن سلطان )


مع ازدياد متطلبات عملي صعوبة وازدياد النظُم التي نشتريها تعقيداً وتطوراً، شعرت بحاجتي إلى تحديث معلوماتي وتطوير قدراتي. ففي السنوات العشر الأولى التي أعقبت تخرجي في ساند هيرست مارست الكثير من التدريب الوظيفي أثناء ممارسة العمل، سواء أكنت مفتشاً أم قائد سرية أم ضابط مشروع صواريخ هوك أم مدير قسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي. وكانت عمليات التفاوض وإدارة العقود التي توليتها، خير معلم لي. لكن في أواخر السبعينات، شعرت في قرارة نفسي بالرغبة في المزيد من التعليم العسكري النظري. ففي الدفاع الجوي، يقضي المرء معظم وقته محدقاً إلى السماء، منصرفاً عن التعمق في التكتيك الذي يتّبعه الآخرون في ميدان المعركة، لا سيما في القوات البرية والقوات البحرية. كانت لديّ رغبة جامحة في توسيع آفاق معرفتي.

كانت أمنيتي، وأنا بعد ضابط شاب برتبة مقدم لم يتجاوز العقد الثالث من عمره، أن ألتحق بكلية القيادة والأركان العامة للجيش الأمريكي في فورت ليفنوورث في ولاية كانساس الأمريكية وكـم كنت مسروراً حين وافق الجانبان السعودي والأمريكي علي ذلك! فالتحقت بدورة مدتها سنة دراسية واحدة تبدأ في الأول من أغسطس 1978، وتنتهي في شهر يونيه 1979.

ولمّا شعرت بأنني لست مهيأً بالقدر الكافي لتلك الدورة، قررت القيام بزيارة قصيرة إلى مصر في أوائل صيف عام 1978. فمصر كانت ولا تزال موئل الفكر الإستراتيجي في العالم العربي، إذ تزخر مكتباتها بأغنى المراجع العسكرية باللغة العربية. فأمضيت فيها أياماً مثمرة متجولاً في مكتباتها، عاكفاً على القراءة والتحصيل، ومستمتعاً في أَمسياتها بمباريات حامية في لعب "الطاولة" مع أصدقائي المصريين.

ساد التوتر، أواخر عام 1977، علاقة مصر بالدول العربية بسبب زيارة الرئيس السادات الى إسرائيل في شهر نوفمبر من العام نفسه. وعلى الرغم من التقلب الذي كان يسود العلاقات أحياناً بين مصر و المملكة ، فقد كنت دوماً أؤمن بأهمية الروابط الوثيقة بينهما. وأقدر أن مصر بثروتها البشرية المتميزة وتراثها العسكري الراسخ، هي حليفنا الطبيعي في المنطقة. وقبل سنوات عدة، وفي شهر يناير عام 1974 تحديداً، دفعتني دراستي لحرب أكتوبر إلى الرغبة في زيارة خط بارليف، الذي كان يعتبر خط الدفاع الإسرائيلي الأسطوري على طول قناة السويس. وأعتقد أن كثيراً من الناس يوافقني على أن اقتحام المصريين لخط بارليف عام 1973 يُعَد أروع الإنجازات العسكرية العربية في تاريخنا الحديث. لذلك توجهتُ إلى مصر لأعرف عنه المزيد.

في أثناء زيارتي لمصر، وفي الثامنة من صباح أحد الأيام، رتب لي ضابط الارتباط السعودي زيارة للواء محمد حسني مبارك قائد القوات الجوية المصرية، فأمضيت معه نصف ساعة ممتعة. أُخِذت بذكائه وألمعيته، ولـم يدُر بخلدي أنه سيصبح نائباً لرئيس الجمهورية، ثم رئيساً لجمهورية مصر العربية بعد اغتيال الرئيس السادات. وفي اليوم نفسه، تفضل ضابط مصري كبير هو اللواء أركان حرب أحمد بدوي قائد الجيش الثالث الميداني، بمرافقتي لزيارة بقايا التحصينات الإسرائيلية شرقي قناة السويس. وأطلعني على الاستعدادات الدقيقة والجهود الجبارة التي تكللت بالنجاح في عبورالقناة. عندئذٍ، أصبحتُ على قناعة تامة أنه لا توجد خطوط دفاعية تستعصي على الاجتياح. فكل التحصينات، مهما بلغت قوتها، يمكن اختراقها إذا توافرت الإرادة الصلبة والتخطيط السليم. تناولت، بعد ذلك، طعام الغداء مع الجنود المصريين. وكانت تلك أول معرفتي بالقوات المسلحة المصرية.
ولشد ما أسفت حينما علمت أن مرافقي اللواء بدوي الذي تولى منصب وزير الدفاع في مصر في شهر مايو من عام 1980، لقي حتفه في حادث تحطم طائرة عمودية في مارس عام 1981!

لعلّ أفضل وسيلة للتعرف بالقوات المسلحة في أي بلدٍ وفهْم التقاليد والإجراءات والمصطلحات المتداولة بين جنودها، هي الالتحاق بدورات تعليمية بإحدى كلياتها العسكرية. وكما أكسبتني أكاديمية ساندهيرست معرفة السمات الخاصة للجيش البريطاني، فإن كلية القيادة والأركان العامة في فورت ليفنوورث علمتني الكثير عن القوات المسلحة الأمريكية. وإن كنت قد التقيت فعلاً من قبل عدداً كبيراً من الضباط الأمريكيين خلال حياتي العسكرية، وعملتُ، لفترة قصيرة، عضواً في فريق تفتيش أمريكي أثناء تدريباتي السابقة على صواريخ هوك في مدرسة الدفاع الجوي للجيش الأمريكي في فورت بلس في ولاية تكساس إلا أنني لم أندمج في بيئة عسكرية أمريكية مثلما فعلت في فورت ليفنوورث.

ضمت تلك الدورة ما يقرب من 900 ضابط أمريكي، تراوحت أعمارهم بين الخامسة والثلاثين والخامسة والأربعين، كلهم برتبة رائد وأعلى، وكلهم ممن ينتظرهم مستقبل زاهر. كما ضمت الدورة كذلك 96 ضابطاً من البلدان الحليفة والصديقة للولايات المتحدة، بينهم ما يقرب من 20 ضابطاً عربياً من دول مختلفة، مثل السودان و لبنان والأردن والكويت والإمارات العربية المتحدة ومصر والمغرب وتونس، والمملكة. وربما كنت من أصغر الضباط في الدورة سناً، لكني لم أكن أكثرهم تأهيلاً في أية حال من الأحوال. كان معظم الضباط غير الأمريكيين في فورت ليفنوورث قد تخرجوا في كليات الأركان في بلادهم، بل إن بعضاً منهم كانوا معلمين يدرّسون في تلك الكليات. ولكنهم اختاروا أن يصبحوا دارسين مرة أخرى كي يزدادوا علماً ومعرفة. أما أنا فلم يسبق لي الالتحاق بعمل تحضيري مماثل يزودني بمعرفة كافية أستعين بها على استيعاب مواد هذه الدورة بسهولة. كانت زيارتي القصيرة تلك إلى مصر هي كل زادي. فقد أتيت مباشرة من قسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي في الرياض. وسرعان ما أدركت أني إن أردت النجاح فعليَّ أن أعمل بجد واجتهاد لكي أحققه. ومع إدراكي أن الطمع في الفوز بالمركز الأول أمرٌ تَحفُّه مشاق وصعاب، إلا أنني في الوقت نفسه كنت أرجو ألا أكون الأخير.


مما زاد الأمر صعوبة في فورت ليفنوورث، أنه إلى جانب عبء الدراسة، كان علي إنجاز بعض الأعمال مع شركة ليتون. وكان ذلك العمل يستغرق مني قرابة الساعتين كل يوم أقضيهما في الاجتماعات والمكالمات الهاتفية والأعمال الورقية. فاللجان الفنية في الرياض أنهت أعمالها، ولم يبقَ سوى بعض الشروط والبنود، والتفاصيل المالية المهمة تنتظر التسوية. ولمّا كنت أتحمل المسؤولية النهائية عن هذا العقد، كان علي أن أقوم بمهمة الاتصال بين الخبراء من جهة، والأمير سلطان من جهة أخرى. وفي تلك الآونة، كان الملك خالد يتلقى العلاج الطبي في كليفلاند في ولاية أوهايو وفي رفقته الأمير سلطان. وكنت أسافر أيام السبت إلى هناك لأرفع إليهما تقريراً عمّا تـم إحرازه من تقدم. وكما أسلفت، تم التوقيع على العقد مع ليتون بعد ذلك ببضعة أشهر، أي في ربيع عام 1979.

كان لدورة القيادة والأركان العامة التي التحقت بها وحصلتُ في نهايتها على درجة الماجستير في العلوم العسكرية، دورها في صقل خبرتي العسكرية، وتوسيع آفاقي في التكتيك والإستراتيجية وفي صنع القرار السياسي العسكري، وإدراك الأهمية الشاملة لدراسة التاريخ لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، وكذلك في الإدارة التي استغرقت 25% من ساعات الدورة. كما علمتني تلك الدورة الكثير عن الكيفية التي ينظر بها العسكريون الأمريكيون إلى العالم. وكانت دراستنا منصبة على الاتحاد السوفييتي بصفته مصدر الخطر الرئيسي الذي يهدد الولايات المتحدة فالحرب الباردة كانت على أشدّها في ذلك الحين.

مجمل القول، أن تلك السنة كانت شاقة ومثمرة في الوقت نفسه. فسعدت بصداقة عدد كبير من الزملاء، كما حاولت، بكل ما أوتيت من عزم وجهد، أن أقدم صورة طيبة عن العرب. ولم يكن ذلك بالأمر اليسير أبداً. وإذا كانت الفترة التي قضيتها ضابط ميدان في تبوك واحدة من الخبرات المهمة والمؤثرة في حياتي العسكرية، فلا شك أن سنة التحصيل الدراسي والعمل الشاق في فورت ليفنوورث تندرج ضمن تلك الخبرات أيضاً.

من البرامج التي تضمنتها الدورة برنامج يسمى "تعرف بالعالم من حولك" يُطلب فيه من كل ضابط أجنبي أن يلقي محاضرة ويقدم عرضاً شاملاً عن بلده. وتمكنت عند تقديم محاضرتي، بفضل وسائل الإيضاح البصرية والسمعية، من اجتذاب جمهور غفير قَدِمَ بعضه من مدينة كانساس نفسها. ولعل ما أدى إلى زيادة عدد الحاضرين هو رغبتهم في مشاهدة أمير يمثِّل بلده ويتحدث عنها. وحققت المحاضرة نجاحاً كبيراً، حتى إنه طُلب إليَّ إلقاؤها مرة أخرى في قاعة تتسع لعدد أكبر من الجمهور.

قبل موعد إعادة المحاضرة بيوم واحد، استدعاني اللواء آرثر قائد الكلية، إلى مكتبه وأخبرني، وهو متجهّم الوجه، أنه تلقى تقريراً يفيد باحتمال تعرضي لاعتداء أثناء المحاضرة. لم يذكر شيئاً عن مصدر المعلومات أو عن العدو المرتقَب. لكنه أخبرني أنه أوعز إلى الشرطة السرية أن تتولى أمر حمايتي، فيراقب رجلان منها الجمهور من وراء الستار أثناء إلقائي المحاضرة. وطلب إلي ألاَّ أجلس وحيداً قبل المحاضرة أو بعدها، وألاّ أَكُفّ عن الحركة خلال تقديمي المحاضرة حتى لا أصبح هدفاً ثابتاً.

وللمرة الأولي في حياتي شعرت بأنني شخصية مهمة حقاً.

لم تكن مثل تلك الظروف مثالية للتحدث إلى جمهور في محاضرة عامة، لكنني بذلتُ قصارى جهدي للمحافظة على رباطة جأشي. وانتهت المحاضرة بسلام، على الرغم من أني، تحت ضغط المناسبة نفسها، نسيت التعليمات بأَلاَّ أَكُـف عن الحركة، فكنت أقف ثابتاً في مكاني مخالفاً بذلك التعليمات التي صدرت إليَّ من قبل.

كان في فورت ليفنوورث كنيسة وكنيس، ولم يكن فيها مسجد للمسلمين الذين يبلغ عددهم ثلاثين أو أربعين مسلماً، بينهم أُسَر الضباط. أَثَرتُ الأمر مع قائد الكلية، وقلت له إنني مستعد لترتيب هذا الموضوع ولو تطلب الأمر بناء مسجد في القاعدة على نفقتي الخاصة. ولَمّا كان الدستور الأمريكي يكفل حرية العبادة للمواطنين، فلم نتوقع أن يصدر من المسئولين اعتراض على ذلك. ووعدني قائد الكلية بأن يحاول الحصول على موافقة السلطات العليا. لكنه أبلغني، قبيل انتهاء الدورة، أنه أخفَق في الحصول على تلك الموافقة. واقترح تخصيص غرفة داخل الكلية نؤدي فيها الصلاة. لكننا افترقنا كل في سبيله قبل أن نتمكن من أداء الصلاة جماعة بالفعل. ومع ذلك، لم أستسلم إلى اليأس، بل مازلت آمل أن أتلقى دعوة من السلطات في فورت ليفنوورث في يوم من الأيام لبناء مسجد فيها.


استغرقت الدورة في كلية ماكسويل عشرة أشهر، وتركزت على موضوعات الإستراتيجية الشاملة والإدارة والاقتصاد. وهي موضوعات ثبت لي عِظَم فائدتها على المدى الطويل، لا سيما إبَّان حرب الخليج. كما احتلت المباريات الحربية مكاناً بارزاً في المنهج الدراسي، الأمر الذي أوضح لي مصاعب التوفيق بين مهام القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي. ولو كنت أعلم ما يخبئه المستقبل لي من تحديات، لبذلت جهداً أكبر، ولَمَا غفوت طرفة عين خلال بعض المحاضرات.

علمت في الأسبوع الأول من الدورة، أن بعض الضباط المشتركين فيها يزمعون الالتحاق في الوقت نفسه ببرنامج دراسي آخر للحصول على درجة الماجستير في العلوم السياسية. وكانت جامعة أوبورن تنظم هذا البرنامج مساءً في مبنى ملحق بكلية الحرب الجوية. وفكرت في أن أحذو حذوهم، إلاّ أن أحد المعلمين حذرني من مغبة ذلك، قائلاً إن الضباط الأمريكيين أنفسهم يجدون صعوبة في الالتحاق بالدورة والبرنامج معاً. لكنني لـم أستطع مقاومة التحدي، بل زادني ذلك التحذير تصميماً على الالتحاق بالبرنامج. وقلت في نفسي دعني أجرب الأمر أسبوعين أو ثلاثة، فإذا تبين لي أن دراستي العسكرية ستتأثر سلباً به، تخليت عندئذٍ عن الفكرة. ودخلت امتحاناً في مادة "الحكومة الأمريكية"، لكن درجاتي لم تكن مشجعة. ولم أحصل لدى الدكتورة آن بيرمالوف وهى أستاذة متشددة إلاّ على درجة "مقبول". فأنا لم أعتد الكتابة، لأنني درجت في الدفاع الجوي على إملاء الرسائل والتقارير والمذكرات. وشاءت المصادفات أن أتعرف بأستاذ جامعي متقاعد، كان عقيداً في الاستخبارات العسكرية، فطلبت منه المساعدة بإعطائي دروساً إضافية لتحسين مستوى كتابتي. ولكني، على الرغم من مساعدته لي، كدت أستسلم لليأس وأتخلى عن تلك المحاولة.

وفي تلك الآونة، تلقيت مكالمة هاتفية من أحد أصدقائي في المملكة وقال لي: "سمعت أنك التحقت ببرنامج لنيل درجة الماجستير؟". وهكذا، أُسقط في يدي، ولم يعد أمامي من خيار سوى الاستمرار في الدراسة حتى النهاية. فلو أقدمتُ الآن على الانسحاب من برنامج الماجستير لذاع الخبر بين الناس، ولن أُطيق أبداً أن يقال إنني تراجعت عن مواصلة الدراسة مهما كانت صعوبتها.

بهذا العزم الأكيد وذاك الإصرار الشديد، أمضيت قرابة سنة دراسية في ماكسويل، كنت أدرس خلالها في كلية الحرب الجوية نهاراً وفي ملحق جامعة أوبورن ليلاً. ولا أبالغ إن قلت إن تلك السنة هي الوحيدة في حياتي الدراسية التي كنت أعمل خلالها مدة خمس عشرة إلى سبع عشرة ساعة في اليوم دون انقطاع. لكن جهودي المضنية لم تذهب أدراج الرياح، إذ نجحت في الحصول على كلتا الدرجتين. فحصلت على لقب "خريج متميز" لدفعة عام 1980 في كلية الحرب الجوية، وهذا تكريم يُمنح لأول 24% من طلاب الدفعة، كما نلت، في الوقت نفسه، درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة أوبورن.

كان تعطشي إلى المعرفة أعظـم من أن يقاوم، حتى إنني لم أدَع الفرصة تفوتني للذهاب إلى كاليفورنيا في خريف عام 1980 للالتحاق بدورة أخرى مدتها ثلاثة أشهر في "إدارة الشؤون الدفاعية الدولية" فيمدرسة الدراسات العليا للبحرية في مونتري وكان من الموضوعات التي عالجَتْها تلك الدورة: الخيار بين أولويات الدفاع، في ظل تخصيص الموارد النادرة والموازنة بين الحاجات والإمكانات في إطار الموازنة العسكرية المحددة. وهذه كلها موضوعات اكتشفت مدى أهميتها وعظم فائدتها بعد ذلك. كما اكتشفت أني كنت أتعلم، في كل الدورات التي التحقت بها، من زملائي الضباط قدر ما أتعلمه من المعلمين. فكل ضابط كان يحاضر في مجال تخصصه في حلقة بحث خاصة. وألقيت، بدوري، عدداً من المحاضرات تناولت فيها قضايا الأمن في الشرق الأوسط.

وخلال السنتين ونصف السنة التي قضيتها في الولايات المتحدة، من 1978 حتى 1981، كنت مواظباً على الاتصال بزملائي في قيادة الدفاع الجوي السعودي، متحدثا إليهم عبر الهاتف مرات عدة كل أسبوع، للوقوف على مدى تقدم العمل. ووقع اختياري على العقيد صالح الحجاج ليحل محلي في إدارة قسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي أثناء فترة غيابي. وهو عسكري يمتاز بشخصية قوية ومواهب إدارية. وكنت أنتهز فرصة العُطلات للعودة إلى المملكة لأتابع شخصياً، على الطبيعة، مدى التقدم الذي تم إحرازه. وعدت إلى مكتبي في الرياض في شهر يناير من عام 1982، لأتابع مسيرة العقد المتعثرة مع شركة ليتون، وكذلك لسد الثغرات التي حدثت في دفاعاتنا الجوية، كذلك لأستأنف المعركة من أجل إنشاء "القوة الرابعة"، التي كنت أعلق عليها الكثير من الآمال.


 
بناء القوة الرابعة (تابع)

قائد الدفاع الجوي السعودي السابق ( الأمير خالد بن سلطان)


استحوذت صواريخ هوك من شركة ريثيون ( الأساسي أو المطوَّر أو الثلاثي ) على اهتمامي طوال سنوات عدة منذ بداية خدمتي في الدفاع الجوي. وحصلنا على هذه الصواريخ للمرة الأولى، كما أوضحت من قبل، في الستينات أثناء الحرب الأهلية في اليمن. وهي صواريخ متوسطة المدى، يبلغ مداها 40 كيلومتراً، ساعدت على الدفاع عن مدننا الحدودية.

دفعتنا حرب أخرى نشبت بعد 20 عاماً، هي الحرب العراقية - الإيرانية عام 1980، إلى اتخاذ خطوة إلى الأمام لتطوير الدفاع الجوي. فبسبب الخطر من احتمال امتداد القتال إلى من المملكة، قررنا ضرورة امتلاك أسلحة دفاع جوي قصيرة المدى. فحصلنا على صواريخ ستينجر الأمريكية الصنع، وهي صواريخ قصيرة المدى لا يكاد يتجاوز مداها الأربعة كيلومترات، وقد أثبتت فعاليتها ضد القوات السوفيتية في أفغانستان وُيعَدّ صاروخ ستينجر سلاحاً من نوع "أطلِقْ وانسَ" ، يحتاج إطلاقه إلى رجلين فقط، أحدهما يحمل الصاروخ ويطلقه، بينما يظل الآَخر على اتصال بمركز العمليات لتحديد الأهداف وتمييز العدو من الصديق.


إضافة إلى صواريخ ستينجر، قررنا في منتصف السبعينات الحصول على سلاح خفيف الوزن سريع الحركة قصير المدى يعمل ضد الأهداف التي تحلق على ارتفاعات منخفضة، وذلك لإسناد وحداتنا المدرعة والآلية. ووقع اختيارنا على صواريخ كروتال الفرنسية الصنع. وضمن المنظومة الكاملة للصواريخ الموجهة أرض-جو، تُعد صواريخ هوك المتوسطة المدى وصواريخ باتريوت البعيدة المدى، التي حصلنا عليها أثناء أزمة الخليج، من أهم نظُم الدفاع الجوي قاطبة. لكن ما أن اندلعت الحرب بين العراق وإيران حتى أدركنا مدى أهمية صواريخ كروتال في الدفاع عن منشآتنا النفطية، وغيرها من المنشآت الحيوية ضد خطر امتداد الحرب التي كانت تدور رحاها عند رأس الخليج.

ويمكن تركيب صاروخ كروتال، وهو من صنع شركـة طومسون ويبلغ مداه 9 - 10 كيلومترات، على هيكل عربة ذات عجلات (مدولبة) أو ذات جنزير(مجنزرة) تُكسِبه خفة الحركة عبر الأراضي المختلفة، كما يمكن نقله جواً بطائرات c-130 أوc-5. وبناء على طلبنا، قامت الحكومة الفرنسية، في بادئ الأمر، بتركيب بعض وحدات الإطلاق في المنطقة الشرقية كإجراء طارئ. وكان المهندسون من الفرنسيين، أما أطقم التشكيل فمن السعوديين. وعندما حاز أداء ذلك السلاح وقدرته على العمل في جميع الأحوال الجوية إعجاب القيادة العليا السعودية، قررت ضرورة حصولنا على نظام كروتال خاصُ بنا. وتم بالفعل تكليفي بإتمام هذه الصفقة.

سافرتُ إلى باريس للاجتماع إلى آلان جوميز ، المدير التنفيذي لشركة طومسون، والتعرف به عن كثب. وهو رجل عُرف بصِلاته الواسعة وحنكته الإدارية، فقد تخرج في معهد الإدارة الوطني المرموق في فرنسا ، كما كان صديقاً شخصياً للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران ، ويُعَدّ جوميز صديقاً نادراً من الرجال: إذ إنه رجل أعمال اشتراكي. وعندما اُمِّمَت شركة طومسون، وهي المؤسسة الفرنسية الرائدة في ميدان الصناعات الحربية، عينت الحكومة الاشتراكية في فرنسا جوميز رئيساً لها. وجدتُه مفاوضاً عنيداً ولكنه لطيف، شأنه في ذلك شأن كل الفرنسيين بصفة عامة. فالفرنسيون يحترمون التزاماتهم وينفذونها بدقة بعد التوقيع على العقد.


وقع اختياري على الرائد محمد القرافي، من سلاح المدرعات، لمساعدتي في تلك المفاوضات. فهو ضابط يتمتع بقدرات فائقة ويتكلم الفرنسية وذو خبرة في التعامل مع الفرنسيين منذ اشتراكه في عقد صفقة الدبابات الخفيفة amx التي حصلت عليها المملكة قبل عشرة أعوام. فطلبت نقله إلى الدفاع الجوي، وأسندت إليه مشروع صواريخ كروتال. فأحاط معرفة بالمشروع من جميع جوانبه في وقت وجيز، وأصبح ساعدي الأيمن.


لم تكن المفاوضات أمراً يسيراً. فبادئ ذي بدء، لم يَرُقْ للأمريكيين ولا للبريطانيين أن نحصل على أسلحة فرنسية، وحاولوا إقناعنا بشراء أسلحتهم القصيرة المدى. إلاّ أن الصاروخ الأمريكي المعروف باسم شابارال المصمَّم للتصدي للأهداف الجوية ذات السرعات العالية التي تحلِّق على ارتفاعات منخفضة، كان في ذلك الوقت في طور الاستغناء عنه. في حين أن الصاروخ البريطاني رابير لم يكن يرقى إلى مستوى صاروخ كـروتال الفرنسي. ولاحظنا، خلال حرب فوكلاند عام 1982، أن البريطانيين أنفسهم لجأوا إلى استعمال صاروخ كروتال بدلاً من رابير، فترك هذا الأمر دعاية سيئة لسلاحهم آنذاك. تقدم الأمريكيون بعرضهم إلى الأمير سلطان مباشرة، محاولين قطع الطريق عليَّ. ولكن الحقيقة الثابتة أن صواريخ كروتال كانت أفضّل سلاح قصير المدى في الدفاع الجوي، الأمر الذي جعلني أفضله على غيره.

كنت أفضّل دائماً العقود الشاملة ذات الاكتفاء الذاتي، وهي العقود التي تغطي كل شيء في بنودها من المعدات وقطع الغيار والتدريب ونقل التقنية، وما إلى ذلك. قد تستغرق المفاوضات في شأن هذا النوع من العقود وقتاً أطول، لكنها في نهاية المطاف توفر كثيراً من الوقت والجهد والمال. مضت سنوات عدة قبل أن يقبل الفرنسيون، الذين لهم أسلوبهم الخاص في صياغة العقود، التوقيع على عقد موحَّد كانت معظم بنوده وشروطه مستخلَصة من عقودنا مع شركة ريثيون. وواجهتُ معهم المشكلة نفسها التي واجهتُها من قبل في تعاملي مع أورليكون، الشركة السويسرية لصنع المدافع، حين أعدتُ التفاوض معها وأعدتُ أيضاً صياغة عقدها وفق شروط موحَّدة تُسهل علينا أمر الإدارة والرقابة.

تم في نهاية الأمر بعد جهد جهيد توقيع الصفقة مع شركة طومسون، واستبدلنا في الوقت المناسب بصواريخ كـروتال 2000، وهي الجيل الأول من تلك الصواريخ التي بدأنا بها، صواريخ كروتال 4000 وهي صواريخ أشد فعالية من سابقتها وذات مدى قصير يتراوح بين 9-10 كيلومترات، كما تم الاتفاق على زيادة عددها.

بذلت قصارى جهدي خلال تلك المفاوضات الطويلة لأحتفظ بزمام المبادرة. وكـما أسلفت، فإني أعتقد أن من أسباب النجاح في المفاوضات أن تؤدي
العمل على أعلى مستوى من الأداء وبأسلوب متميز لافت للنظر. فما كنت لأرضى أن يبهر الفرنسيون أعضاء فـريقنا المفاوض أو يطغى مظهرهم على مظهرنا. فخلال زياراتي لباريس، كان من دواعي سروري أني كنت دوماً أحظي باستقبال حافل رفيع المستوى. وعلى الرغم من إبرامنا العقد مع الحكومة الفرنسية، إلاّ أنني كنت قادراً دوماً على التعامل مباشرة مع الشركات الفرنسية المعنية.

كُلفتُ بعد ذلك بتولّي رئاسة لجنة للتفاوض في شأن عقد تبلغ قيمته أربعة مليارات من الدولارات مع الفرنسيين لشراء أسلحة أكثر تطوراً للدفاع الجوي. وتُعد هذه الصفقة أكبر صفقة سلاح تعقدها فرنسا في تاريخها. وكانت المملكة قد وافقت، قبل ذلك بسنوات عدة، على المساهمة في تطوير صاروخ شاهين وهو نسخة معدلة من صاروخ كروتال. ويعتبر شاهين نظاماً من الصواريخ الذاتية الدفع التي يمكن تركيبها على العربات المدرعة amx-30 وتندفع بقوة محرك توربيني خاص بها. وتحمل منصة إطلاق صواريخ شاهين ستة صواريخ، ويبلغ مدى الصاروخ 10-11 كيلومترا، ويمتاز على منافسيه بأنه سلاح يستخدم في جميع الأحوال الجوية ومزود بجهاز للرؤية الليلية مما يجعله فعالاً على مدار الساعة. وبوجه عام، كان أداء الفرنسيين جيداً وعلاقتنا بهم ممتازة والأسلحة التي تم توريدها إلينا من الطراز الأول.

لم أكن أسعى، في جميع هذه العقود، إلى شراء أسلحة متطورة فحسب، بل كنت أهتم أيضاً بتحسين مقدرة ضباطي ورفع مستواهم العلمي. ففي أوائل عام 1984، عندما تم الاتفاق على صفقة النوع المعدل من صاروخ شاهين المعروف باسم شاهين 2، أبلغت الفرنسيين أن توصيتي إلى الأمير سلطان بالموافقة على الصفقة رهن بموافقتهم على تخصيص 30 مقعداً سنوياً للطلَبة السعوديين في الأكاديمية العسكرية الشهيرة سان سير. لم يسبق للفرنسيين أن واجهوا مثل هذا الطلب من قبل، إذ كان أقصى ما يخصصونه للبلدان الصديقة مقعداً أو مقعدين على أكثر تقدير، فضلاً عن أن مثل هذا الطلب يستدعي الحصول على موافقة الرئيس الفرنسي شخصياً. وافق الفرنسيون أخيراً في عام 1984 على قبول 106 من الطلَبة السعوديين على مدى خمسة أعوام، كما وافقوا عام 1988 على قبول 100 طالب آخر. ووقع بعض التداخل بين هذين البرنامجين، لذا تراوح عدد الطلَبة بين 20 و 25 طالباً في السنة الواحدة. وتخرج بالفعل أكثر من 100 شاب سعودي في سان سير، وأثبتوا جدارتهم حين عملوا مدربين في معهد قوات الدفاع الجوي السعودي، وضباطاً في وحدات صواريخ كروتال أو شاهين، أو ضباط اتصال مع القوات الفرنسية أثناء حرب الخليج. وأتوقع أن يتولى واحد من هؤلاء الضباط الذين تلقوا تدريبهم في فرنسا منصب قائد قوات الدفاع الجوي في المستقبل.

في سان سير، لم أرتضِ لأبناء بلدي أن يُخدعوا بدراسة برنامج مبسط يُعد للطلاب الأجانب، بل أردت لهم أن يعامَلوا على قدم المساواة مع الطلاب الفرنسيين. وهذا يفرض عليهم أن يكونوا على استعداد تام لهذا التحدي. وتم الاتفاق أن يُمضي طلابنا ثلاث سنوات تحضيرية في فرنسا يدرسون خلالها اللغة الفرنسية في السنة الأولى، والرياضيات المتقدِّمة في السنتين التاليتين، قبل الشروع في دراستهم مع زملائهم الفرنسيين في سان سير لمدة سنتين. ووقع اختيارنا على الطلاب الذين أنهوا دراستهم الثانوية، وحصلوا على نسبة 80% فأعلى. وأُخضعوا لعملية اختيار من قِبَل لجنة خاصة، ولاختبار تحريري وفحص طبي دقيق. وأُجريت مقابلة شخصية لأولئك الذين اجتازوا عمليات الفرز هذه قبل التحاقهم بدورة تدريبية شاقة في معهد قوات الدفاع الجوي. وانصب التركيز في تلك الدورة على: الرياضيات وقراءة الخرائط والاستخبارات ورماية الأسلحة الصغيرة، والتدريبات العسكرية بشكل عام. هذا، بالإضافة إلى تمارين اللياقة البدنية والجري مسافات طويلة والسباحة وما إلى ذلك. وكان في تقديرنا أنه لا يوجد برنامج دراسي في سان سير يتطلب لياقة بدنية أعلى من ذلك. ولم يخفِق في اجتياز الدورة في البرنامجين الأولين سوى طالبين من مجموع الطلاب الذين ذهبوا إلى فرنسا وعددهم 206 طلاب.

وحتى إذا لم يخدم الضباط السعوديون خريجو سان سير سوى سنوات معدودة في قواتنا المسلحة، إلاّ أنهم يشكِّلون ثروة بشرية قيمة للبلاد، فخبرتهم ستزداد وتُصقل ولسوف تستفيد منهم الأجيال القادمة. لقد شعرت بالفخر والاعتزاز حقاً حين دُعيت مرة إلى حفلة التخرج في سان سير وشاهدت عدداً كبيراً من الضباط السعوديين يشاركون في العرض وهم في هيئة أنيقة ومظهر رائع، ويتكلمون الفرنسية بطلاقة.

وأذكر أنني واجهت قدراً كبيراً من المعارضة لهذا البرنامج من بعض الزملاء في القوات المسلحة. وسُئِلت غير مرة: "لِـمَ نرسل شبابنا إلى الخارج وعندنا كلياتنا العسكرية؟". لكنني أؤمن إيماناً راسخاً أن لا شيء يمكن أن يفيد ضباطنا أكثر من إعطائهم فرصة لاكتساب الخبرة الدولية، فتتسـع مداركهم ويتعرفون بالمعايير والمنجزات وأساليب العمل المتبعة في البلدان الأخرى. إذ إن الولايات المتحدة نفسها ترسل ضباطها لحضور دورات تدريبية في الكليات الأجنبية. وأعلم أن هناك مقعداً أو مقعدين مُخصَّصان للضباط الفرنسيين في كلية القادة والأركـان العامة المصرية. ولو كان الأمر في يدي لأرسلت طلابنا إلى ويست بوينت في الولايات المتحدة، وساندهيرست في بريطانيا، وإلى سان سير أيضاً، فهذه هي الطريقة المُثلى للتعرف عن كثب بالجيوش والأمم الأخرى.

أتخذت الخطوة الحقيقية الأولى نحو جعل الدفاع الجوي "القوة الرابعة"، في عام 1982، بعد عودتي من الولايات المتحدة بوقت قصير. وتمت الموافقة حينذاك على تخصيص موازنة منفصلة لنا ( أي منفصلة عن موازنة القوات البرية التي كنا حتى ذلك الحين جزءاً منها ) وأن نرتبط مباشرة برئيس هيئة الأركـان العامة.

قلت لهم: "لا تطلقوا علينا اسم "قوة" الآن، بل امنحونا فترة سنتين تجريبيتين لنعمل كهيئة مستقلة. أعطونا وقتاً للممارسة والتجريب، فإذا لم نثبت نجاحناً، فلا ضير من أن تلحقونا مرة أخرى بالقوات البرية أو بالقوات الجوية".

وخلال عامي 1982 - 1983 بذلت قصارى جهدي لإنشاء الأجهزة التي تحتاج إليها القوة الرابعة وأهمها، إدارة مالية برئاسة علي إبراهيم الحديثي، وهو من أفضل الرجال في المملكة في هذا المجال ولا يزال يشغل هذا المنصب حتى الآن. وقد استحدث نظاماً للموازنة أثبت فعاليته وحدا بالآخرين على اقتباسه، حتى إن وزارة المالية نفسها بعثت بكتاب إلى القوات الأخرى توصي فيه بالأخذ بهذا النظام. ولا يفوتني أن أذكر أن الحديثي هو أول من أدخل نظام دفع رواتب الأفراد بالشيكات بدلاً من دفعها نقداً. وإنني لأعُدّ الحديثي أحد عَمد "القوة الرابعة" لأن التمويل والموازنة كانا أكبر همومنا. أنشأ الإدارة المالية وانتقى عناصرها بنفسه، وأعتقد أنه سيرتقي إلى مناصب أرفع بفضل مواهبه وقدراته.

وقبل أن تنقضي السنتان التجريبيتان، تبيَّن للأمير سلطان والآخرين أن الدفاع الجوي أصبح أفضل فروع القوات المسلحة تنظيماً.

وإضافة إلى عملي مديراً لقسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي، تم تعييني في عام 1983 مساعداً لقائد الدفاع الجوي، اللواء الركـن منير عبد الرحمن العتيبي. وتمٍ التعاون بيننا بقدر كبير من التفاهم والانسجام، مما عزز قدرتي على المضِّي قُدماً في سعيي لتحويل الدفاع الجوي إلى قوة مستقلة كباقي فروع القوات المسلحة.


وباختصار عُيِّنت في شهر يوليه عام 1984 نائباً لقائد الدفاع الجوي، وبعد ذلك بفترة وجيزة تحقق الحلم الذي راودني وشغل تفكيري، وأصبح الدفاع الجوي "قوة رابعة" بمقتضى المرسوم الملكي الصادر بالرقم 2026 / 8 تاريخ 20 - 21 رمضان 1404هـ. تحقق الحلم بعد عشر سنوات من محاولات الإقناع وحشد الآراء المؤيدة. تحقق بالعمل الشاق الذي لا يهدأ، وبالعزم الذي لا يلين.


وعندما أعود بذاكرتي إلى ذلك الكفاح الطويل، أستطيع القول إن الخلاف الحقيقي لم يكن مع القوات البرية، التي لم تكن لتكترث أكان الدفاع الجوي تابعاً لها أم لا، وإنما كان مع القوات الجوية نفسها بقائدها وكبار ضباطها الذين كانوا متمسكين بمبادئ المدرسة الغربية في الدفاع الجوي، يساندهم في ذلك أعضاء البعثة التدريبية الأمريكية. أرادوا كلهم لوحدات دفاعنا الجوي وأجهزته أن تكون تحت قيادة القوات الجوية، ومنهم ابن عمتي الأمير فهد بن عبدالله رئيس هيئة عمليات القوات الجوية حينذاك، وهو رجل عزيز على نفسي أكنّ له ولأفكاره وذكائه كل احترام وتقدير. خضنا معاً مناقشات جادة حول المفاهيم والمبادئ والعقائد العسكرية المختلفة مما حدا بي على تطوير أفكاري وصقل آرائي، كما زادني تصميماً على الكفاح لإقناع مختلف اللجان بجدوى إنشاء "القوة الرابعة".

ومن النتائج التي تمخضت عن تفضيلي للمدرسة الشرقية على المدرسة الغربية في الدفاع الجوي، أن انطلقت شائعات مفادها أنني معادٍ للأمريكيين. ولا صحة لهذا الأمر أبداً، فلست معادياً أو مؤيداً للأمريكيين، بل لست معادياً أو مؤيداً لأي بلد آخر. إنني أؤيد المملكة فقط، بلدي ووطني. وأعتقد أن كل من يحب المملكة عليه أن يدرك تماماً أن من مصلحتنا إقامة علاقات ودية ووثيقة مع الولايات المتحدة، فتلك العلاقة حيوية لكلا الطرفين. كما أضيف، في الوقت نفسه، أن الصديق القوي خير من الصديق الضعيف، إنني لأود أن تكون المملكة صديقاً قوياً للولايات المتحدة، لا صديقاً يُستخف به.

حددت في ضوء هذا المبدأ أطر تعاملي مع الشركات والحكومة الأمريكية. ولعل من المفيد أن أتطرق في هذا المقام إلى الميزات النسبية للتعاقد على شراء الأسلحة سواء من الشركات الأمريكية مباشرة أو من طريق الحكومة الأمريكية، من خلال ما يسمى بـ "مبيعات الأسلحة إلـى الدول الأجنبية" fms. فهذا الموضوع ذو أهمية قصوى للمسؤولين عن شراء الأسلحة في القوات المسلحة السعودية.

ففي أثناء عملي في الدفاع الجوي، كنت أميل إلى تفضيل العقود المباشرة لأنها تتيح لنا قدراً أكبر من السيطرة عليها. وهذه حقيقة لمستها حتى في تعاملنا مع شركات عملاقة مثل شركة ريثيون وليتون. فإذا حدث خلل في تنفيذ بنود العقد، يمكنك أن تطلب من الشركة استبدال ممثلها الإقليمي، أو تؤخر صرف الدفعات المالية المستحقة حتى تتحقق مطالبك، بل يمكنك أيضاً استدعاء رئيس الشركة لمراجعة خطة تنفيذ المشروع ومدى الالتزام بدقة تنفيذها. ولا تتوافر مثل هذه الميزات في العقود مع الحكـومة الأمريكية fms. ومع ذلك، تبين لي من تجربتي، أن المفاضلة بين ميزات التعاقد المباشر مع الشركات والتعاقد مع الحكومة الأمريكية يتوقف، إلى حدٍّ بعيد، على نوع المشتريات نفسها، ومدى حداثتها وتقنيتها في ترسانة المخزون الأمريكي من الأسلحة.

كنت أفضل التعاقد مباشرة مع الحكـومة الأمريكية، عند الحـصول على معدات ذات تقنية متقدمة. فالجانب الإيجابي في هذا التعاقد هو ما توفره الحكومة لنا من الحصول على أحدث البيانات الفنية، فضلاً عن مشورتها لتحديد المتطلبات الفنية، وإشرافها على إدارة البرنامج. أمّا الجوانب السلبية فتكمن في فقداننا السيطرة، إلـى حدّ ما، على الأمور المالية والإدارية، لأن الحكومة الأمريكية تتولّى بنفسها أمر إدارة البرنامج، وقبول نظُم الأسلحة والمعدات نيابة عنّا. أمّا عند التعاقد المباشر مع الشركات الأمريكية، فنحن الذين نحدد نوعية المنتجات الفنية المطلوبة، كما نتولى بأنفسنا المسؤوليات الإدارية والمالية، وقبول الأسلحة والمعدات قبل شحنها إلى المملكة. ولكن في مثل هذه الحالات ربما يتعذر علينا الحصول على المعلومات الفنية، وعلى دعم الحكومة الأمريكية. لذلك، كان من الضروري دراسة كل حالة من حالات التعاقد على حدة، وفي ضوء الميزات التي تتوافر لها. مع العلم أن التوصل إلى الاختيار المناسب من الأسلوبَيْن لم يكن أمراً سهلاً على الدوام. وأود أن أضيف أنني لا أعترض، من ناحية المبدأ، على التعاقد مع الحكومة الأمريكية من خلال نظام fms لشراء أحد نُظم التسليح المتقدِّمة، فأنا أدرك ميزاتها دون أدنى شك.

تخضع عمليات شراء الأسلحة من الولايات المتحدة أحياناً لمقتضيات تمليها سياستها الداخلية. فأثناء الحصول على الموافقة على مشترياتنا من الأسلحة الأمريكية، شعرت بالاستياء الشديد من التجريح الذي يصدر عن الكونجرس الأمريكي في تحدٍّ واضح للمشاعر. ولم أكن لأستسيغ دفع مبالغ طائلة ثمناً لهذه الأسلحة الأمريكية ثم نواجَه بالتجريح، بل علينا أن نقدم الشكر للولايات المتحدة على هذا الكرم. فمن البديهي، احتراماً لأنفسنا، ألاّ نتعرض لمثل هذه المواقف. والأدهى من ذلك كله، اتهامات الصحف الأمريكية والكونجرس لنا، وهي اتهامات لا أزال أقرأها وأسمعها حتى يومنا هذا، أن الولايات المتحدة تمنحنا الأسلحة والمعدات العسكرية. على حين أن المملكة، خلافاً لإسرائيل، تدفع أموالاً طائلة ثمناً للمعدات الأمريكية وللتدريب أيضاً. وليس سراً أن الموقف الأمريكي المتردد في تلبية طلباتنا الدفاعية، هو الذي دفعنا في عام 1985 إلى توقيع عقد ضخم مع بريطانيا هو "عقد اليمامة" للحصول على طائرات تورنيدو من النوعين الدفاعي والهجومي والكثير من طائرات التدريب.

كانت أسلحة الدفاع الجوي هي الوحيدة، باستثناء صواريخ ستينجر، التي وافق عليها الكونجرس الأمريكي دون أن تتعرض المملكة للتجريح. كنت أوجِّه إلى الشركات والحكومة الأمريكية أسئلة ثلاثة: "هل تخدم هذه الصفقة مصالحكم الوطنية؟ وهل تحقق الأرباح لشركاتكم؟ وهل تساعد على دعم اقتصادكم الوطني؟ فإن كان الجواب بنعم عن هذه الأسئلة فعليكم، عندئذٍ، إقناع الكونجرس بذلك". وكنت أرى أن مهمة إقناع الكونجرس تقع على عاتق الشركات والحكومة الأمريكية، وليس على عاتقنا نحن. فما كان يروق لي أبداً إضاعة الوقت والجهد في مفاوضات لا تسفر إلاّ عن رفض الكونجرس لها. واعتدْت أيضاً على القول لمحاوريّ من الأمريكيين: "لن نتحدث عن شروط العقد وبنوده، إلاّ بعد أن تحصلوا أنتم على موافقة الكونجرس، فهذا واجبكم".
 
بناء القوة الرابعة (تابع)

قائد الدفاع الجوي السعودي السابق ( الأمير خالد بن سلطان )


في الثامن والعشرين من شهر مايو عام 1986 الموافق للرابع عشر من رمضان 1406، صدر قرار تعيني قائداً لقوات الدفاع الجوي الملكي السعودي.

كان وصولي إلى هذا المنصب هو حصاد سبعة عشر عاماً من العمل الدءوب. درست في أشهَر الكليات العسكرية وأشدّها جدية وصرامة، سواء في بريطانيا أو في الولايات المتحدة. بذلت الجهد كُل الجهد، ولم يجاملني أحد. وفي تعاملنا المضني مع الشركات الأجنبية، ناضلت ومعي كثير من زملائي ضباط الدفاع الجوي أعضاء اللجان المختلفة من أجل ضمان حصول المملكة على أفضل الأسلحة والمعدات، وتدريب السعوديين على تشغيلها. كافحنا معاً كي نجعل الدفاع الجوي قوة منفصلة. والآن، وأنا أواجه أعباء قيادة القوات، أردت أن أكون على مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقي، وأن يدرك الجنود أن الأمير يمكن أن يكون، في الوقت نفسه، جندياً محترفاً.

عقب تسلمي مقاليد القيادة أعَدْتُ تنظيم شؤون الضباط، ورفعت توصياتي إلى الأمير سلطان من خلال لجنة الضباط العليا. شملت التوصيات إحالة عدد من الضباط إلى التقاعد وترقية آخرين وإرسال عدد غير قليل إلى أوروبا والولايات المتحدة للحصول على درجات علمية أعلى. حرصتُ، تحقيقاً للمصلحة العليا، على منع أية جهة خارجية من التدخل في إدارتَيْ شؤون الضباط والأفراد. وأصدرت أوامر مشددة بوجوب التقيد باللوائح والقوانين بكل دقة، وأعلنت أنني لن أتهاون أبداً في شأن التدخل الخارجي في أمور ترقية الضباط والأفراد، أو نقلهم من مكان إلى آخر. فكل التماس للنقل يجب أن يرفع إليّ شخصياً. كنت أهدف من وراء ذلك إلى جعل الدفاع الجوي كياناً محكَماً مستقلاً بذاته، متحرراً من الضغوط الخارجية تحقيقاً للعدل.

أبديتُ تشدداً بالغاً في أمور الانضباط العسكري، إذ كان على الأفراد مخاطبة رؤسائهم بالطريقة اللائقة. ولم أكن لأسمح مطلقاً بالتكاسل أو سوء المظهر أثناء العروض العسكرية. ولكي أرسي دعائم قوة نشيطة وفاعلة، يتميز ضباطها وأفرادها بالجدية والتفاني في العمل وحسن السيرة والسلوك، أعلنت أن العمل الجيد سيُكافأ والعمل السيئ سيُعاقب، وأن الثواب والعقاب سيطبقان على الجميع دون استثناء. أما المشاكل الشخصية لجنودي، فكنت في شأنها متفهماً ومتسامحاً. ونظراً إلى صغر حجم القوة آنذاك، إذ لم يكن عدد منسوبيها يتجاوز 10 آلاف رجل، أتيحت لي فرصة التعرف الشخصي بالكثير منهم. وكنت أحب دوماً زيارتهم في الميدان بخاصة أثناء شهر رمضان. وكنت إذا مرض أحدهم وأُدْخل المستشفى، سعيت إلى الاطمئنان على صحته، والاتصال هاتفياً بالطبيب المعالج مستفسراً عن مدى تحسنه وتماثله للشفاء. وإذا أُبلغت بشكوى خلال جولاتي التفقدية كنت آمر بالتحقيق فيها ومعاملة الجميع بالعدل والإنصاف، حتى تحظى حقوق الأفراد بالاهتمام الكافي. وكنت أقول: "أعط كل ذي حق حقه". وكان الأمير سلطان، في ذلك كله، مَثَلي الأعلى، فزياراته المتكررة للوحدات، خاصة في الأعياد والمناسبات، واهتمامه البالغ بأمور منسوبيها، ورعايته الدائمة لمصالحهم كانت تجعل القادة، وأنا منهم، يشعرون بالتقصير.

كنت أحلم منذ عام 1974 أن يكون لقوات الدفاع الجوي زيّ خاص بها. والحقيقة أنني أحلم بأن يكون لجميع فروع القوات المسلحة زيّ كامل أنيق. فقد تعلمت في ساندهيرست أن على الضابط المحافظة على هندامه وأناقة مظهره المتمثل في زيّ عسكري نظيف وأنيق، وشعر قصير ومهذب. وينطبق ذلك أيضاً على الأفراد، فالهندام اللائق يترك انطباعاً طيباً لدى الآخرين، كما يزرع الفخر والاعتزاز في نَفْس كل من يرتديه. لذلك أسندتُ مهمة ابتكار الزيّ الجديد لقوتنا الرابعة إلى كلٍّ من محمد الكيال وعلي الشعيبي. وأشرفتُ على كل شيء بنفسي بدءاً بالقماش ومروراً بالتصميم والألوان وانتهاءً بالملابس الداخلية والجوارب. كنت أميل إلى اللون الأحمر، وفي إحدى المراحل شاهدت أنموذجاً يتكون من سترة حمراء وبنطلون بشريط أحمر على الجانبين، ولكن الألوان كانت زاهية أكثر مما يتناسب ووقار الزي العسكري.

وقع اختياري، في نهاية المطاف، على أربعة أزياء رسمية تشبه أزياء الجيش البريطاني. البدلة رقم 1 للمناسبات الخاصة والرسمية ( التشريفات )، والبدلة رقم 2 لحضور الاستقبالات والعروض العسكرية والزيارات والندوات، أمّا البدلة رقم 3 فتُرتدى داخل المكاتب وأثناء الجولات التفقدية والإجازات، والبدلة رقم 4 هي بدلة الميدان ( أُوفرول ) للعمل اليومي في الوحدات والتشكيلات. وصدرت الأوامر بأن يرتدي الضباط البدلة رقم 2 في منتصف كل شهر، ويرتدي الضباط والأفراد البدلة رقم 4 ( بدلة الميدان ) في اليوم الأول من كل شهر، وكان الغرض من ذلك هو التأكد من وجود تلك الملابس في حوزتهم ومن صلاحيتها أيضاً.

كان "يومٌ مشهودٌ" حين تحدد لنا موعد لمقابلة الأمير سلطان، في جدّة، لعرض الزيّ الجديد عليه والحصول على موافقته. ودخلت مكتبه مع ضباط وأفراد يرتدون الأزياء الأربعة المقترحة، فوافق سموه عليها في الحال.

ولعل من أعظم الإنجازات الفنية التي تحققت أثناء قيادتي لقوات الدفاع الجوي، إقامة شبكة اتصالات من الألياف البصرية لخدمة تلك القوات إضافة إلى قوة الصواريخ الإستراتيجية. حققت تلك الشبكة نجاحاً عظيماً، وتمت توسعتها لكي تخدم جميع فروع قواتنا المسلحة. فأصبحت تربط مدننا العسكرية وقواعدنا الجوية والبحرية وقيادات المناطق في جميع أنحاء المملكة، بوزارة الدفاع في الرياض. وتُعَدّ المملكة، اليوم، ثالث أكثر دولة في العالم، بعد الولايات المتحدة واليابان، استخداماً للألياف البصرية في الاتصالات الداخلية والإستراتيجية على امتداد آلاف الكيلومترات.

كان العميد مهندس داود أحمد البصام مستشاري ومساعدي الأول في هذا المشروع الرائد، وهو رجل يتمتع بمهارة كبيرة في الأمور التقنية وبقدرة فائقة على الإقناع. ويعود الفضل إليه في إقناعي بعدم جدوى الأنظمة الأخرى المتاحة، مثل الأقمار الصناعية والتروبوسكاتر tropo-scatter ( الموجات الانتشارية ) والكابل المحوري والمايكروويف، لأنها عرضة للكشف والتشويش والتدمير، وأن المستقبل
للألياف البصرية كأفضل وسائل للاتصالات.

كان طموحي في ذلك كله، بصفتي قائداً لقوات الدفاع الجوي، أن أطبق عملياً ما كنت أؤمن به، من تدريب ولياقة بدنية وانضباط وتفتيش وتقييم ونقل للتقنية واحتراف مهني، من أجل تشكيل قوة جاهزة للقتال. كنت أريد أن يكون تدريب القوات مماثلاً لظروف الحرب الحقيقية. فبدلاً من الانتقال إلى ميدان الرماية والعودة منه بالعربات أو الطائرات، كان على جميع وحدات الدفاع الجوي أن تنفّذ التمارين الميدانية بالرماية التي كانت تشتمل على مراحل عدة: إعداد الأوامر، والاستطلاع والتحرك واحتلال مواقع الإطلاق الرئيسية، وإعداد وتشغيل مركـز القيادة ومركز العمليات، وإدارة المعركة الجوية، والانتقال إلى المواقع التبادلية، ثم العودة إلى مناطق التمركز. فالتدريب الواقعي، يجب أن يكون هكذا، وهو الطريق الصحيح إلى الاستعداد القتالي.

كنت أؤمن بضرورة الاستعداد الدائم للقتال، وكم قلت لضباطي: " يجب ألاّ يغيب عن بالكم أن الحرب قد تنشب في أية لحظة، فلا وقت للاسترخاء، ولا تهاون في العمل، بل يقظة وجدية وتفان في خدمة الدين ثم المليك والوطن".


 
استمتعت بشدة اثناء قراءتي لهذه المذكرات الممتعة

اشكرك بعنف عزيزي صعصعه
 
موضوع مميز اخي صعصعه ولدي استفسار في مايخص نظام “MIKSA ” والخاص بوزارة الداخليه فمن المعروف انه تم تغطية الحدود الشماليه بشكل كامل ولكن ماذا عن بقية الحدود
 
الموضوع موسوعي رائع اشكر صاحبة بشدة عليه ..
في الحقيقة انما تحقق يعكس الطموح غير المحدود لقادة الدولة حفظهم الله ويعكس كم التحديات التي تجاوزناها والجهد الذي بذل يكفي ان اقول ان الدفاع الجوي الملكي السعودي كان لفترات طويلة ربما للان الجهة الاكثر استقطابا لخريجي الجامعات السعودية والاكثر في عدد حاملي شهادة الدكتوراه المنضمين تحت قطاعته
كان الطموح بلا حدود وكان العطاء من الدولة ايضا بلا حدود فاتت التنجية مذهلة ...

 
أنظمة الدفاع الجوي الملكي السعودي :


1215826.JPG


timthumb


1215824.JPG


%D8%B5%D9%88%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%20%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%83.jpg


1215823.JPG


1215821.JPG



1215822.JPG


YP22-08-2016-6975.png


%D9%85%D8%AF%D9%81%D8%B9%20%20%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%88%D9%84%D9%83%D8%A7%D9%86.jpg


upload_2017-9-30_14-12-33.png


AMX-30_SA.jpg


58fdb47b9a43c.jpg


upload_2017-9-30_14-17-30.png
 
بشكل عام الدفاع الجوي السعودي يميل الى العقيدة الغربية حيث تمثل الطائرات الأعتراضية خط الدفاع الأول أمام الاهداف الجوية ثم تشكل المنظومات الصاروخية خط الدفاع الثاني.

الدفاع الجوي السعودي متعدد الطبقات , والآن سينتقل الدفاع الجوي السعودي الى مرحلة الدفاع الجوي الطبقي المتنقل.

الدفاع الجوي مشكل من العديد من المنظومات الصاروخية , نظام باتريوت
PAC-3MSE و إيضاً PAC-2GEM , نظام HAWK Phase III , نظام شاهين , نظام CROTALE NG .

يدعم الدفاع الجوي طائرات الأواكس ويتصل بنظام القيادة والسيطرة C4I .

(( عدد البطاريات ))

حسب تقارير تعود الى ماقبل 2006

- 21 بطارية باتريوت
- 16 بطارية هوك متقدم
17 بطارية شاهين
12 بطارية مدافع Oerlikon


عندي ملاحظة بأعداد سرايا الهوك!

لأني بعد البحث الطويل وجدت 21 موقع لسرايا الهوك بأنحاء المملكة وجميعها نشطة! أي ان المملكة تمتلك مالايقل عن 21 سرية هوك..

upload_2017-10-17_23-59-54.png

 
موضوع يحتاج رجوع لواجهة المنتدى لمعرفة قوة الدفاع الجوي الملكي السعودي
 
نرجو تثبيت الموضوع في واجهة المنتدى للأهمية في الوقت الراهن وشكرا..
 
اذكر جارنا عنده قلابي دايهاتسو صغير موديل ٨١ تقريبا كان على الباب ملصق بخط ديواني جميل مكتوب
الدفاع الجوي مستقبلك
 
أثناء تدريب أفراد من الدفاع الجوي الملكي السعودي على منظومة الباتريوت

تدريب.PNG
 
عندي ملاحظة بأعداد سرايا الهوك!

لأني بعد البحث الطويل وجدت 21 موقع لسرايا الهوك بأنحاء المملكة وجميعها نشطة! أي ان المملكة تمتلك مالايقل عن 21 سرية هوك..

مشاهدة المرفق 90203

لا ازال مصر ايضا انه ٢١ بطارية باتريوت عدد غير صحيح وهي اكثر من هذا
 
عودة
أعلى