حركة الأمير عبدالقادر الجزائري:
وهي الحركة الأكبر والأشهر والأقوى والأطول في تاريخ حركات التحرير الجزائريَّة، وقائدها الأمير عبدالقادر بن محيي الدين الحسني الجزائري هو رمز المقاومة الجزائريَّة ضد الاحتلال الفرنسي الصليبي، وتبدأ هذه الحركة عندما اجتمَع شيوخ المرابطين وتشاوروا فيما بينهم في كيفيَّة التصدِّي للاحتلال الصليبي الذي حلَّ ببلادهم، فأشار عليهم الشيخ محيي الدين بن مصطفى الحسني - وهو والد الأمير عبدالقادر - بالتوجُّه إلى إخوانهم بالمغرب، ففعلوا وجاء ردُّ فعل سلطان المغرب عبدالرحمن بن سليمان طيبًا للغاية ويعبِّر عن وحدة المسلمين وأخوَّة الدين؛ إذ أرسل إليهم خمسةَ آلاف مقاتل بقيادة ولده الأمير علي، وأمدَّهم بمساعدات قوية.
فبايعوا الشيخَ محيي الدين أميرًا على الجهاد ضد الصليبيِّين، وكان شيخًا كبيرًا، فقادهم سنتين 1246هـ - 1248هـ، ثمَّ تنازل عن القيادة لولده عبدالقادر، وكان وقتها في السادسة والعشرين من العمر.
بويع عبدالقادر الجزائري أميرًا للجهاد في 29 جمادى الآخرة سنة 1248هـ، ولم يدخل في هذه البيعة العديد من شيوخ القبائل أمثال "مصطفى ود إسماعيل" زعيم قبائل الدوائر والزمالة، وسيدي العريبي والفهاري رئيس قبائل أنجاد وغيرهم؛ لأسباب تتعلَّق بالسِّن والحسَد والعصبية القبليَّة أو حب الزعامة، وكان هؤلاء الخصوم أشد على حركة عبدالقادر الجزائري من الفرنسيين أنفسهم، وقد اضطرَّ لقتالهم مرات كثيرة، وخسرت المقاومة الإسلامية بسبب الحسَد وحب الزعامة الكثيرَ من الأموال والرجال؛ بل إنَّ بعض هؤلاء الزعماء قد تحالف مع الفرنسيين ضد عبدالقادر وحركته، مما أثَّر كثيرًا على حركة عبدالقادر، وكان ذلك من أهم أسباب فشلها في النهاية.
أعلن عبدالقادر الجهادَ سنة 1248هـ، وانضمَّت إليه معظم القبائل الجزائرية وبقايا الحامية العثمانيَّة التي كانت موجودة في الجزائر وقتها، فاتَّبع عبدالقادر سياسةَ الجهاد والمقاومة بالبناء وتكوين الدولة على النُّظم الحديثة، فكان هو بمثابة الرئيس للوزراء، وله نائب ووزراء للخارجية، والخزانة والأوقاف، والزكاة والدفاع، واختار مجلسًا للحلِّ والعَقد يتألَّف من أحد عشر عضوًا يمثِّلون مختلف الأقاليم، ومجلسًا للقضاء، ورتَّب الجيش ترتيبًا جيدًا وقسمه وفقًا للنُّظم القتالية الحديثة، ووضع الحاميات العسكرية في المدن، وأنشأ معاملَ لصُنع الأسلحة، واختار زيًّا خاصًّا لجيشه، وضرب نقودًا سمَّاها المحمدية، وأقام علاقات كاملة مع سلطان المغرب الذي دعم حركة الأمير عبدالقادر بكلِّ قوته.
اتَّخذ الأمير عبدالقادر من مدينة "المعسكر" بالقرب من وهران عاصمةً له وقاعدةً انطلقَت منها كتائب المجاهدين، وأخذَت المقاومة تحقِّق الانتصارَ تلو الآخر على الصليبيين والقبائل الموالية لهم على حدِّ السواء، مما أجبر الفرنسيين على توقيع معاهدة مع الأمير عبدالقادر لوقف القتال وتبادلِ الأسرى، فاغتاظ الصليبيون في فرنسا من هذه المعاهدة، فعزلوا الجنرال دي ميشل مُوقِّعها، وعيَّنوا مكانه الجنرال "ديرلون" الذي ألغى المعاهدةَ السابقة واستغلَّ فرصة انشغال الأمير عبدالقادر بقتال خصومه من زعماء القبائل المنافسين، وحشد جيشًا ضخمًا وانقضَّ على جيش الأمير عبدالقادر عند نهر المقطع قرب الساحل سنة 1251هـ، غير أنَّ عبدالقادر قد حقَّق انتصارًا ساحقًا على هذا الجيش الصليبي، اضطر معه الفرنسيون لتوقيع معاهدة أخرى مع عبدالقادر لوقف القتال، وكان عبدالقادر يوافِق على أمثال هذه المعاهدات المؤقَّتة؛ من أجل التقاط الأنفاس، وتنظيمِ الصفوف، والقضاء على المتمرِّدين والمخالفين من زعماء القبائل.
لم ترق هذه المعاهدة للفرنسيين، فعَزلوا الجنرال "ديرلون"، وحلَّ مكانه الجنرال "درالانج"، وأعيد الجنرال "كلوزيل" حاكمًا عامًّا للجزائر، وقد استطاع كلوزيل أن يحتلَّ مدينة "المعسكر" قاعدة المقاومة للأمير عبدالقادر في شعبان سنة 1251هـ - ديسمبر 1835م، غير أنَّ الأمير قد أعاد تنظيم صفوفه وعاهدَته القبائل على الجهاد وعدم الفرار، وخرج بهم للدِّفاع عن تلمسان واستعادةِ المعسكر، وبدأ الأمير بتأديب القبائل الموالية للفرنسيِّين، وأنزل بها هزيمةً ساحقة؛ مما جعل كلوزيل يتحرَّك بسرعة لنجدة هذه القبائل.
وبالفعل استطاع الفرنسيون وحلفاؤهم من القبائل العميلة دخولَ تلمسان في رمضان سنة 1251هـ، واضطر الأمير عبدالقادر إلى الانسِحاب إلى منطقة "وجدة" على الحدود الجزائرية المغربية.
انتفش كلوزيل بما حقَّقه من انتصارات على المقاومة، ودفعه غروره لأن يتوغَّل في الصحراء الجزائرية خلف الأمير عبدالقادر، فوقع في فخٍّ مُحكم نصبَته المقاومة له، وهُزم هزيمة شديدة عند منطقة "تافنة"، فانسحب منها إلى تلمسان وخلفه جيوش الأمير فتركها إلى وهران، فتبعه فصيل من المقاومة ومنعوه دخول وهران، فاستمرَّ يلهث في الصحراء من شدَّة الخوف من الأسر أو القتل، حتى وصَل العاصمة الجزائر وكلَّف الجنرال "دارلانج" بمواجهة المقاومة، ومنع تقدُّم جيوشها، ولكنه هُزم هزيمة منكرة وأُبيدَت معظم القوات الفرنسيَّة؛ ممَّا دفع كلوزيل لأن يَطلب إمدادات عاجلة من فرنسا، فأرسلت إليه ثلاث فرق عسكرية كاملة التجهيز، قويَّة التسليح، وخاض الأمير معها معركةً عنيفة عند الزقاق في صفر سنة 1252هـ، هزم فيها الأمير بسبب تخلِّي القبائل عن مواقعها.
لم تَثنِ هذه الهزائم عضدَ
الأبمير، فاستغلَّ فرصة انشغال الفرنسيين بقتال الباي أحمد زعيم المقاومة في "قسنطينة"، فنظَّم صفوفَه وأحكم سيطرتَه على إقليم وهران وسهل متيجة، واستعاد تلمسان، واستطاعت قوَّاته دخولَ الجزائر، وأجبر الفرنسيين على توقيع معاهدة مع الأمير عبدالقادر سنة 1253هـ - 1837م، اعترفوا فيها بحُكم الأمير على الداخل الجزائري، وأن يتمتَّع المسلمون في سائر أرجاء الجزائر بالحريَّة الكاملة في أداء الشعائر الدينية والتحاكم إلى الشريعة الإسلاميَّة، وغيرها من البنود التي كانت في مجملها لصالح المسلمين، وإن كان قد استفاد منها الفرنسيون أيضًا.
لم تحافظ فرنسا على المعاهدة سوى شهور قليلة واندلَع القتال مرَّة أخرى في رمضان سنة 1255هـ، واتَّبعَت المقاومة أسلوبَ حرب العصابات ضد القوات الفرنسيَّة للتفاوت الكبير في العدد والعدَّة بين الفريقين، وطلب الأمير عبدالقادر مساعدات عاجلة من سلطان المغرب، فأسرع الأسطول الفرنسي وقصَفَ المدن المغربية بالأسلحة الثقيلة، فتخلَّى سلطان المغرب عن نصرة الأمير، مما أثَّر بشدة على المقاومة الجزائرية، ولكن ظلَّت قوات الأمير صامدة في الميدان تناوِش المحتل الفرنسي.
اتبع المحتلُّ الفرنسي الصليبي أسلوبَ الأرض المحروقة مع القبائل الموالية للمقاومة، وشنوا حربَ إبادة شامِلة للسكَّان والحيوانات والمزارع والآبار، ووقعَت سلسلة مجازر بشِعة في غاية الوحشية؛ مثل مجزرة قبيلة أولاد رباح، وذبحَت قبائل بأكملها رجالًا ونساءً أطفالًا وشيوخًا؛ مثل قبيلة العوفية، فدب الذعر في قلوب الناس؛ إذ لم يشاهدوا من قبل مثلَ هذه الوحشيَّة والهمجية من أحد قط، وأسفرَت الأحقاد الصليبية عن وجهها القبيح الكالح.
وفي النهاية، اضطر الأمير عبدالقادر أن يسلِّم نفسه للاحتلال؛ حتى يَحقن دماءَ الجزائريين، فاستسلَم في محرم سنة 1261هـ، وتمَّ نفيه من البلاد، وغادرها إلى غير رجعة، بعد رحلة مقاومة وكِفاح ضد المحتلِّ الصليبي استمرَّت 15 سنة، خاض خلالها عشرات المعارك بمعدَّل معركتين وثلاثًا في الشهر الواحد، والسلبية الوحيدة التي أُخذَت على حركة الأمير عبدالقادر تخلِّيه عن نصرة الباي أحمد في "
قسنطينة"، ممَّا أدى لتضعضع موقف المقاومة في شرق الجزائر.
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/culture/0/119758/#ixzz5ANeVXww0