المغرب يتخلى عن فرنسا تدريجيا.. هكذا تفقد باريس حُظوتها في مجالات استراتيجية لفائدة الروس والصينيين والأمريكيين
طيلة عقود ما بعد الاستقلال وإلى غاية بضع سنوات خلت، كانت فرنسا البلد الذي يعتمد عليه المغرب أكثر من غيره في العديد من مجالاته الاستراتيجية، لدرجة أن الرباط كانت تُصنف في الأدبيات الإعلامية لباريس، وبنبرة لا تخلو من تعالٍ بأنها "حديقة خلفية لفرنسا"، ما يفسر نيلها حظوة كبيرة في العديد من المجالات على غرار الاستثمارات المتعلقة بالبنى التحتية والشراكات التجارية والصناعات المختلفة.
غير أن الأمر لم يعد كذلك في السنوات الأخيرة، فالمغرب أصبح بلدا يؤمن بتعدد الشركاء، وبالمصلحة الاقتصادية وفق منطق "رابح – رابح"، لذلك لم يكن غريبا أن تصبح إسبانيا هي الشريك التجاري الأول للمملكة، وأن تتحول أمريكا إلى المزود الرئيس للجيش المغربي بالأسلحة بما في ذلك النوعية منها، وأن تطرق الصين باب الاستثمار في البنى التحتية وأن تستعد روسيا لبناء مفاعل نووي مغربي
روسيا والخبرة النووية
ولم تعد مسألة العثور على بديل لفرنسا بخصوص مجموعة من الشراكات الاستراتيجية أمرا معقدا بالنسبة للمغرب، وإن كان من دليل واضح على ذلك فهي الرغبة التي برزت لدى المملكة من أجل الحصول على مفاعل نووي من أجل الاستعمالات السلمية، يضمن لها الحصول على مصدر جديد نظيف للطاقة الكهربائية، الأمر الذي دفع الرباط إلى عقد شراكة مع روسيا، والتي اتخذت الطابع الرسمي بعد توقيعها من لدن رئيس الوزراء الروسي، ميخائيل ميشوستين.
وفي الأصل كان المغرب يبحث سبل تنزيل هذا المشروع على أرض الواقع مع فرنسا، وهو ما أعطت هذه الأخيرة موافقتها عليه منذ سنوات، لكنها أخذت تتماطل بسبب مخاوف من غضب الجزائر، والمثير في الأمر هو أن هذا العُذر لم يكن مطروحا لدى موسكو، وهي العاصمة التي تربطها بالجزائر علاقات أقوى لكونها أكبر مزود لهذه الأخيرة بالأسلحة، غير أنها في الوقت نفسه بدأت الإعداد لإنجاز المفاعل النووي مع الرباط منذ زيارة الملك محمد السادس إلى روسيا ولقائه بالرئيس فلاديمير بوتين في سنة 2016.
ويتعلق الأمر باتفاق بين المؤسسة الحكومية الروسية المتخصصة في مجال الطاقة النووية "روساتوم" والحكومة المغربية، بهدف دعم أهداف المملكة في إنشاء مفاعل نووي وتحسين البنى التحتية النووية الموجودة حاليا، الأمر الذي يضمن الاستخدام السلمي لهذه الطاقة في 14 مجالا بما في ذلك إنتاج الكهرباء وتحلية مياه البحر وإنشاء محطة لمُسَرِّعات الجسيمات الأولية المستخدمة في عمليات الشحن الكهربائي.
ويشمل الاتفاق أيضا الاعتماد على التجربة الروسية في مجال التعامل مع النفايات النووية وتدوير الوقود النووية المشع، بالإضافة إلى التنقيب على رواسب اليورانيوم والبحث عن الموارد المعدنية، كما يتضمن أيضا جانبا تكوينيا يتمثل في قيام الخبراء الروس بتدريب موظفي المحطات النووية المغربية والعاملين في المركز الوطني للطاقة والعلوم والتقنيات النووية، وذلك بناء على اتفاق مسبق مع جرى توقيعه بين الرباط وموسكو سنة 2018.
الصين ومزاحمة على "التيجيفي"
فرنسا لم تعد وحدها الشريك المفضل للمغرب حتى في مجال البنى التحتية، وهو ما يبرز حاليا عند الحديث عن خط القطار الفائق السرعة الجديد الرابط بين الدار البيضاء وأكادير، ذلك أن باريس التي كان لها السبق في إنجاز خط "البراق" الرابط بين طنجة والدار البيضاء مرورا بالقنيطرة والرباط، لكنها اليوم، لم تعد الإسم المتداول بخصوص الخط الجديد المزدوج، الذي يشمل الدار البيضاء مراكش ثم مراكش أكادير، والتي تبدو الصين أقرب ما تكون إليه.
وإذا كانت فرنسا قد استفادت من إنشاء خط "البراق" من خلال ذهاب صفقة بيع القطارات إلى شركة "ألستوم"، ثم من خلال تمويله عبر قروض غطت 50 في المائة من تكلفته الإجمالية البالغة 23 مليار درهم، فإن الصين دخلت على الخط رسميا بخصوص المشاريع المستقبلية، من خلال إبدائها الاهتمام بخطوط مراكش وأكادير وحتى فاس الذي خرج رسميا إلى العلن مؤخرا، حيث عرضت على المغرب، من خلال سفيرها بالرباط، لي تشانغ لين، خبرتها التي تجمع بين السرعة والجودة.
لكن هذا الأمر ليس وليد الصدام المغربي الفرنسي، ففي نونبر من سنة 2019، أكد ربيع لخليع، المدير العام للمكتب الوطني للسكك الحديدية، أن المغرب يضع الصين على رأس خياراته لإنجاز القطار فائق السرعة بين مراكش أكادير، وذلك بمناسبة مرور عام على تدشين "البراق"، مبرزا أن المغرب وقع مع الصين، خلال زيارة الملك محمد السادس لها سنة 2016، مذكرة تفاهم تتعلق بالشراكة في التكوين في مجال السكك الحديدية والدراسات.
وكان كلام الخليع دليلا على أن المغرب لم يعد يعتبر فرنسا الشريك الممكن الوحيد في مجال البنى التحتية، لأنه وإن كان لم يُبعدها عن السباق، إلا أنه ضم إليه أيضا روسيا والصين، وبعبارات براغماتية أكد أن ما سيحسم الموضوع هي الدراسات التي ستكشف عن كلفتة المشروع وشكله قبل الحسم في الجهة التي ستُنفذه، علما أن الأمر أضحى يتعلق بمجال استراتيجي في قطاع النقل بالمملكة.
الجيش يرحب بمُنافسي فرنسا
وفقدت فرنسا أيضا حظوتها مع المغرب في المجال العسكري، وذلك نتيجة التحالف الاستراتيجي الذي يربط المغرب بالولايات المتحدة الامريكية، والذي تعزز بشكل أكبر منذ دجنبر من سنة 2020، تاريخ توقيع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على مرسوم رئاسي يُعلن الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء، والمستمر مفعوله في عهد الرئيس الحالي جو بايدن، ما فتح الباب على مصراعيه لموردي الأسلحة الأمريكيين في خضم عمليات التحديث التي تعرفها القوات المسلحة الملكية.
ووفق تقرير لمؤسسة "انترناشيونال بوليسي"، الصادر سنة 2020، فإن المغرب أضحى يقتني 91 في المائة من أسلحته من الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي تعزز بشكل أكبر في السنتين الأخيرتين مع صفقات اقتناء أسراب من طائرات "إف 16" بـ2,8 مليار دولار و"مروحيات "أباتشي" بـ1,6 مليار دولار، وسط الحديث عن مفاوضات من أجل تزويد المغرب بأحدث الطائرات القتالية وأكثرها كفاءة في العالم "إف 35"، ناهيك عن أنظمة الدفاع الجوي المتطورة "باتريوت".
ومنتصف العام الماضي قالت وزارة الدفاع الفرنسية إن المغرب كان هو زبونها الأول في القارة الإفريقية سنة 2020، بـ8 في المائة من إجمالي صادراتها إلى مختلف دول العالم، متفوقا على الجزائر التي احتلت الصدارة في 2019، لكن ما اشترته الرباط يبقى بعيدا بكثير من حيث القيمة والنوعية من الأسلحة التي اشترتها من الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك أنها لا تتجاوز إجمالا 427 مليون يورو، علما أن هذا الرقم لم يكن يتجاوز قبل ذلك بعا 82 مليون يورو.
لكن فرنسا لا تجد نفسها في موضع منافسة غير متكافئة مع الولايات المتحدة فحسب، بل إن الأمر يتعلق أيضا بمزاحمتها على الهامش الضئيل من المتبقي لها داخل منظومة الأسلحة المغربية، من طرف دول أخرى، على غرار إسرائيل التي تريد دخول مجال التصنيع العسكري من خلال إنشاء 3 مصانع للطائرات الانتحارية المُسيرة عن بُعد، وحتى الصين التي أضحت من بين أبرز مزودي المغرب بالدرونات، وكذا إسبانيا التي تتعامل معها الرباط في مجال الدفاع البحري.
طيلة عقود ما بعد الاستقلال وإلى غاية بضع سنوات خلت، كانت فرنسا البلد الذي يعتمد عليه المغرب أكثر من غيره في العديد من مجالاته الاستراتيجية، لدرجة أن الرباط كانت تُصنف في الأدبيات الإعلامية لباريس، وبنبرة لا تخلو من تعالٍ بأنها
www.assahifa.com