الفتح المغربي لبلاد السودان
بعد سقوط الأندلس واستيلاء البرتغاليين والإسبانيين على معظم السواحل المغربية الشمالية والغربية، انطلقت حركات الجهاد التي تعددت قواعدها بتعدد مراكز الاحتلال والتي أفسدت على الغزاة كل محاولة للتوغل داخل البلاد.
وازداد الشعور بالخطر عندما قاد الملك البرتغالي ”دون سباستيان“ الحملة الصليبية التي انهزمت في معركة وادي المخازن يوم الاثنين 30 جمادى الأولى عام 986 هـ الموافق 4 غشت 1578 م: ”وناهيك عن يوم أجلى عن ثلاثة ملوك موتى ما بين مجندَلٍ وغريق وفائض النفس حتف الأنف وعن ثمانين ألفاً من المشركين ما بين قتيل وأسير“([1]).
لقد كان الانتصار في معركة وادي المخازن التي انتهت بمقتل ”دون سباستيان“ وأسر الآلاف من الجيش البرتغالي حافزاً ومشجعاً على تحرير القواعد البرتغالية بالسواحل المغربية. ولكن التدخل العسكري الإسباني من جهة، والتهديدات التركية بضم المغرب من جهة أخرى حالت دون ذلك:
فقد تدخلت القوات الإسبانية في اليوم الثالث لمعركة وادي المخازن بدعوى حماية القواعد البرتغالية الأربع (سبتة وطنجة وأصيلا ومازكان) من الهجومات المغربية([2]).
وتوالت مؤامرات الأتراك العثمانيين للإطاحة بالمولى أحمد المنصور والتدخل لضم المغرب إلى الإمبراطورية العثمانية:
l ساعة توليته: فقد نادوا بالأمير إسماعيل بن المعتصم المستقر مع أمه بالجزائر، ”فلم يقبل ذلك أهل مراكش. فجيء بمولاي أحمد أينما كان، فولوه. فكان مولاي أحمد أميراً“ ([3]).
lعندما وصل إلى فاس، ”قتل النفر الأربعة جميعاً ليوم واحد من شهر رجب عام ستة وثمانين وتسعمائة وأصبحت رؤوسهم معلقة على الشرفات بباب السبع من أبواب فاس الجديد“([4])، بعد مؤامرة فاشلة.
lمساندتهم للأمير داود بن عبد المومن في ثورته على عمه المنصور بسوس في شعبان عام 987 هـ/ أكتوبر 1579 م.
lالتهديد بالتدخل العسكري بقيادة علوج باشا في جمادى الثانية عام 989 هـ/ يونيه 1581 م([5]).
وبذلك ضاعت على المغاربة فرصة تحرير ما تبقى للبرتغال من قواعد احتلال في السواحل المغربية، وأجبر المنصور على تسليم جثة ”دون سباستيان“ إلى الوفد الإسباني ـ البرتغالي الذي قدم إلى المغرب ”يرغبونه في الامتنان عليهم بشلو الطاغية بستيان الموارى بالقصر في تابوته... فامتن لذلك به عليهم وأسلمه إليهم“([6]).
خلال الربع الأخير من القرن العاشر للهجرة، ظل المغاربة حذرين من أي تحرك إسباني يستهدف الانتقام لهزيمة الحملة الصليبية في المخازن أو التمركز في قواعد تهدد بلاد الإسلام وديار المسلمين في غربي إفريقيا وبلاد السودان التي تربطها بالمغرب علاقات دينية واجتماعية واقتصادية منذ قرون بعيدة.
وحرصاً من المولى أحمد المنصور السعدي (1578 ـ 1603 م) على تدعيم هذه الروابط للحيلولة دون أي تهديد خارجي، سارع إلى تعزيز الوجود المغربي في المنطقة الساحلية ما بين درعة ونهر السينغال عام 992 هـ/ 1585م.
وخاضوا القفر مع الساحل إلى السودان، فوصلوا إليها من بعد الجهد لتسعين مرحلة متصلة من ثغور ممالك العرب القبلية… وارتحلت العساكر تخترق ممالك السودان حتى انتهت لخليج النيل المنبعث من قاصية السودان… وكان الذي استجاب لهم ودان بالطاعة والانقياد من عرب الفلاة فقط وأممهم الذين ينتجعون الكلأ في مجالات القفر الممتد من ثغور المغرب القبلية إلى ممالك السودان بالجنوب نيفاً وأربعين ألف خيمة([7]).
وبذلك حال المنصور دون أي تدخل للإسبان في بلاد السودان بالرغم من احتلالهم لجزيرة ”أركان“ القريبة من الرأس الأبيض ومصب نهر السينغال: ” … العساكر والأجناد التي جعلناها لنكاية عدو الدين بالمرصاد واعتدناها للذب عن كلمة الإسلام وحياطة البلاد والعباد “([8]) أو القيام بأي تبشير مسيحي:
ولما رأيناهم قد أتوا من الغواية… وتفاقم الأمر حتى… النزوع إلى دين النصرانية واستبدال الملة التوحيدية بالملة التثليثية، فوجهوا وفداً خاض من بلادهم ثبج البحر إلى الاشبونة قاعدة برتغال من بلاد الكفر حتى أتوا منها بقسيسين يفقهونهم في دين الطاغوت وعقائد اللاهوت… فانقدح بذلك دين النصرانية في من يليهم انقداح النار حتى تفاقم الداء واستشرى ورجعت كلمة الإسلام في تلك الآفاق القهقرى… ([9]).
وتمتعت نتيجة لذلك بلاد السودان بالطمأنينة والسلام: وهي جنود الله التي لولا ما حجزت بينكم وبين طواغيت الشرك سيوفها القاصمة وضربت في وجه الكفر دونكم بأسوارها العاصمة… لفاض عليكم طوفانه السائل وسال على أرضكم منه شؤبوب هاطل. وكبحت عنكم عنان الكفر حتى نمتم في كفالتها آمنين وفي حياطتها وادعين مطمئنين ([10]).
غير أن اضطراب الأوضاع الداخلية لدولة سنغاي الممتدة على الحوض الأوسط لنهر النيجر والمضاعفات الخطيرة التي ترتبت عليها في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ”ثم بدلوا نعمة الله كفراً، وما تركوا شيئاً من معاصي الله تعالى إلا وارتكبوها جهراً“ ([11]) جعلت أحوال السودانيين تتصف ”بالأحوال الذميمة والطبائع الرذيلة“([12]) وأيامهم بأنها ”أيام بؤس ومجاعة“ ([13]) في وقت ارتفعت فيه أصوات الاستغاثة وطلبات النجدة من الخليفة المنصور، وهو الحريص على ”لم شعث المسلمين ودعم دعائم الدين وتشييد معالم الجهاد وإخماد شرر الكفر“ ([14]).
أرسل المولى أحمد إلى السودان قوات عسكرية لإقرار الأمن والطمأنينة في شهر جمادى الأولى 999 هـ الموافق لمارس 1591 م. وعندما وصلت إلى تمبوكتو، شرعت ”في التمهيد وتسكين الشارد وتأمين الطريد وخفض الجناح حتى اطمأنت النفوس المستنة في مجال القلق واستقرت الأفئدة الجائشة“ ([15]).
ومن الذين استقبلوا القوات المغربية استقبال الفاتحين قاضي القضاة بتمبوكتو عمر بن محمود بن عمر وخطيب جامع كاغو محمود رامي، ”وتلقاهم الخطيب المذكور بالترحيب والإكرام وأضافهم إضافة فاخرة كبيرة“([16])، وعدد كبير من الأمراء السودانيين. ”وكان ممن انخذل عن الاسكيا أخوه في نحو ثلاثمائة من إخوته ووجوه عساكره ورؤساء دولته… راسل أجناد المنصور ليصل يده بأيديهم“ ([17]).
وعن عدالة الحكم المغربي في السودان يؤكد المؤرخ السوداني عبد الرحمن السعيدي ـ وهو معاصر ـ بأن سلوك أغلبية المسؤولين المغاربة كان محموداً:
فعندما أخذت الأوضاع تستقر، ولوا على بلاد السودان الاسكيا سليمان. ”وأكرم الباشا سليمان غاية الإكرام حتى جعله اسكيا عليهم“([18]).
وقد كان الباشا منصور ”رجلاً مباركاً عدلاً ذا حكم شديد في الجيش وأمسك أيدي الظلمة والفسقة على المسلمين فصار يحبه الضعفاء المساكين ويبغضه الفسقة والظالمون“ ([19]).
أما الباشا محمد طابع، ”فذو معرفة وذو رأي وتدبير“ ([20]).
والباشا سليمان كان ”ذا همة عالية ورأي فائق وتدبير عجيب وحكم سديد وسار بذلك في الجيش كله“ ([21]).
وعن القائد مامي المغربي ذكر السعيدي في "تاريخـ"ـه: ”ثم جاء القائد مامي إلى جني… وأصلح من أمور البلاد ما أصلح… ثم رجع القائد مامي لتمبوكتو وقد استقام الحال بحيث لم يبق في تلك الناحية ما يشوش البال والحمد لله الكبير المتعال“ ([22]).
وهكذا ساد الأمن والاستقرار مجموع بلاد السودان وازدهرت بالتالي أحوالها الاقتصادية. ”وعن قريب إن شاء الله تعود تلك الأقطار تزهو على
جِلَّقَ وشط الفرات ويطير صيتها في الخصب فتمير القاصي والداني من أقاليم السودان“([23]).
وبالفتح المغربي للسودان، ”اجتمعت اليوم ـ بحمد الله ـ بانتظام هذه الممالك كلمة الإسلام وارتقى الأمر ـ بحول الله ـ إلى الكمال “([24]).
[و] الهمم الشريفة قد همت بتجديد الأسطول وكلفت بالاستكثار من المراكب الجهادية والآلات الحربية بما كان مولانا أمير المؤمنين ـ أيده الله ـ يؤمل من فتح جزيرة الأندلس وعبور البحر إليها بجنود الله وعساكر الإسلام لتجديد رسوم الإيمان بها وافتكاكها من أيدي الكفر المتغلب عليها ([25]).
لما تم لمولانا الإمام الخليفة المنصور بالله أمير المؤمنين ـ أيده الله ـ ما أراد من فتح إقليمي توات وتيكورارين…، بادر بتجهيز العساكر إلى جهة الساحل… وبعث عن مولاه القائد أبي عبد الله محمد بن سالم صاحب الشرطة بفاس. فعقد له عليهم وسرحه إلى السوس بالمال وخزائن العدة والبارود وأوعز إلى القائد أبي محمد عبد المولى بن عيسى بن بر الوالي كان على عمالة تكاوصت ووادي نول بالحركة معه بقومه وسائر عشائره من عبده النازلين معه وجعله إسوة مولاه ابن سالم في تدبير الحروب دون الخراج، فنهضوا من السوس من بعد استكمال الأهبة في شهور عام اثنين وتسعين (وتسعمائة) وخاضوا القفر مع الساحل إلى السودان فوصلوا إليها من بعد الجهد لتسعين مرحلة متصلة من ثغور ممالك العرب القبلية ولم يكن لأهل السودان من علم بالعساكر لوحشية القفر حتى نزلوا بساحتهم… ولم يكن إلا أن بادر ملوكهم باللحاق إلى المعسكر واللياذ بالطاعة… ووصلوا إلى معسكر جنود الإمام أمير المؤمنين يقدمهم كبيرهم الموفى على الغاية في السن والهرم إبراهيم بن رضوان يامرفال وموسى جوب وغولي أخو يامرفال وكلهم من ملوك السواحل ببلاد السودان وألقوا أنفسهم على القواد مستسلمين فتلقوهم بما يتلقى به أمثالهم من عظماء القوم وملوكهم وأكرموا موصلهم وخلعوا عليهم… وارتحلت العساكر من بعد ذلك وسارت تحت رايات أمير المؤمنين تخترق ممالك السودان حتى انتهت لخليج النيل المنبعث من قاصية السودان وكرعت خيل المنصور في مائة وخفقت راياتها على شطه… وقفلت العساكر إلى المغرب ظافرة ظاهرة وكان الذي استجاب لهم ودان بالطاعة والانقياد من عرب الفلات فقط وأممهم الذين ينتجعون الكلأ في مجالات القفر الممتد من ثغور المغرب القبلية إلى ممالك السودان بالجنوب نيفاً وأربعين ألف خيمة كلها من أهل الوبر والكراع المربى على النمل كثرة والجراد انتشاراً.
عبد العزيـز الفشتـالي، مناهل الصفا في
مآثر موالينا الشرفا، ص ص .78 ـ 80.
وبعد الفتح المغربي لبلاد السودان،
كتب ـ أيده الله ـ إلى الجهـات والأقطار من ممالكه بالفـتح وإنهاء البشرى…
ولما استوى القدم بعساكرنا ـ وفرها الله ـ في البلاد، وأصبحوا في دنيا لا تفي العبارة لها بكنه ولا تعارض بشبه ولا نظير لها في الأرضين بوجه، ما شئت من ممالك متعددة الأقطار، متنوعة الأوطان والأوطار، جمة المرافق والفوائد وما ألف الوافد والرائد، لا تحد بغاية ولا تدرك بها نهاية محشر الأمم وبستان العالم ومدرج الذر من بني آدم، وملك ضخم لا تصل إليه الهمم لولا عنايته التي لا تقاوم. وناهيك بممالك يخترقها بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه الرحمة… تزخر بالنعم واتصال العمران… ولقد اجتمعت اليوم ـ بحمد الله ـ بانتظام هذه الممالك كلمة الإسلام وارتقى الأمر ـ بحول الله ـ إلى الكمال الذي دل منه حسن الابتداء على حسن الاختتام، ولم يبق ـ بحول الله ـ إلا صـرف العزائمـ إلى جهـاد العدو الكافر وأن تدور عليه ـ بحول الله ـ الدوائر حتى نغزوه بجنود الله في عقر دياره ومحل قراره، ويعلو حزب الله على حزب الشيطان وأنصاره بعز الله وتأييده… وفي ليلة الجمعة سابعة شعبان المكرم عام تسعة وتسعين وتسعمائة.
عبد العزيز الفشتالي، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا، صص 142 ـ 146.
([1]) عبد العزيز الفشتالي، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا، ص. 39.
([2]) عبد الكريم كريم، المغرب في عهد الدولة السعدية، ص. 110.
([3]) عبد الرحمن السعيدي، تاريخ السودان، ص. 208.
([4]) مناهل الصفا، ص. 47.
([5]) المغرب في عهد الدولة السعدية، ص. 112.
([6]) مناهل الصفا، ص. 49.
([7]) عبد العزيز الفشتالي، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا، ص. 80.
([8]) عبد الله كَنون، رسائل سعدية، ص. 132.
([9]) مجموع مخطوط بالخزانة العامة بالرباط. ك 278، ص. 187.
([10]) رسائل سعدية، ص. 132.
([11]) عبد الرحمن السعيدي، تاريخ السودان، ص. 135.
([12]) المصدر والصفحة نفسهما.
([13]) المصدر نفسه، ص. 122.
([14]) المناهل، مصدر مذكور، ص. 133.
([15]) المصدر نفسه، ص. 148.
([16]) تاريخ السودان، ص. 141.
([17]) المناهل، ص. 153.
([18]) المصدر نفسه، ص. 152.
([19]) تاريخ السودان، ص. 177.
([20]) المصدر نفسه.
([21]) المصدر نفسه، ص. 190.
([22]) المصدر نفسه، ص. 162.
([23]) المناهل، ص. 167.
([24]) المصدر نفسه، ص. 145.
([25]) المصدر نفسه، ص. 170. الدكتور عبد الكريم كريم
بعد سقوط الأندلس واستيلاء البرتغاليين والإسبانيين على معظم السواحل المغربية الشمالية والغربية، انطلقت حركات الجهاد التي تعددت قواعدها بتعدد مراكز الاحتلال والتي أفسدت على الغزاة كل محاولة للتوغل داخل البلاد.
وازداد الشعور بالخطر عندما قاد الملك البرتغالي ”دون سباستيان“ الحملة الصليبية التي انهزمت في معركة وادي المخازن يوم الاثنين 30 جمادى الأولى عام 986 هـ الموافق 4 غشت 1578 م: ”وناهيك عن يوم أجلى عن ثلاثة ملوك موتى ما بين مجندَلٍ وغريق وفائض النفس حتف الأنف وعن ثمانين ألفاً من المشركين ما بين قتيل وأسير“([1]).
لقد كان الانتصار في معركة وادي المخازن التي انتهت بمقتل ”دون سباستيان“ وأسر الآلاف من الجيش البرتغالي حافزاً ومشجعاً على تحرير القواعد البرتغالية بالسواحل المغربية. ولكن التدخل العسكري الإسباني من جهة، والتهديدات التركية بضم المغرب من جهة أخرى حالت دون ذلك:
فقد تدخلت القوات الإسبانية في اليوم الثالث لمعركة وادي المخازن بدعوى حماية القواعد البرتغالية الأربع (سبتة وطنجة وأصيلا ومازكان) من الهجومات المغربية([2]).
وتوالت مؤامرات الأتراك العثمانيين للإطاحة بالمولى أحمد المنصور والتدخل لضم المغرب إلى الإمبراطورية العثمانية:
l ساعة توليته: فقد نادوا بالأمير إسماعيل بن المعتصم المستقر مع أمه بالجزائر، ”فلم يقبل ذلك أهل مراكش. فجيء بمولاي أحمد أينما كان، فولوه. فكان مولاي أحمد أميراً“ ([3]).
lعندما وصل إلى فاس، ”قتل النفر الأربعة جميعاً ليوم واحد من شهر رجب عام ستة وثمانين وتسعمائة وأصبحت رؤوسهم معلقة على الشرفات بباب السبع من أبواب فاس الجديد“([4])، بعد مؤامرة فاشلة.
lمساندتهم للأمير داود بن عبد المومن في ثورته على عمه المنصور بسوس في شعبان عام 987 هـ/ أكتوبر 1579 م.
lالتهديد بالتدخل العسكري بقيادة علوج باشا في جمادى الثانية عام 989 هـ/ يونيه 1581 م([5]).
وبذلك ضاعت على المغاربة فرصة تحرير ما تبقى للبرتغال من قواعد احتلال في السواحل المغربية، وأجبر المنصور على تسليم جثة ”دون سباستيان“ إلى الوفد الإسباني ـ البرتغالي الذي قدم إلى المغرب ”يرغبونه في الامتنان عليهم بشلو الطاغية بستيان الموارى بالقصر في تابوته... فامتن لذلك به عليهم وأسلمه إليهم“([6]).
* * *
خلال الربع الأخير من القرن العاشر للهجرة، ظل المغاربة حذرين من أي تحرك إسباني يستهدف الانتقام لهزيمة الحملة الصليبية في المخازن أو التمركز في قواعد تهدد بلاد الإسلام وديار المسلمين في غربي إفريقيا وبلاد السودان التي تربطها بالمغرب علاقات دينية واجتماعية واقتصادية منذ قرون بعيدة.
وحرصاً من المولى أحمد المنصور السعدي (1578 ـ 1603 م) على تدعيم هذه الروابط للحيلولة دون أي تهديد خارجي، سارع إلى تعزيز الوجود المغربي في المنطقة الساحلية ما بين درعة ونهر السينغال عام 992 هـ/ 1585م.
وخاضوا القفر مع الساحل إلى السودان، فوصلوا إليها من بعد الجهد لتسعين مرحلة متصلة من ثغور ممالك العرب القبلية… وارتحلت العساكر تخترق ممالك السودان حتى انتهت لخليج النيل المنبعث من قاصية السودان… وكان الذي استجاب لهم ودان بالطاعة والانقياد من عرب الفلاة فقط وأممهم الذين ينتجعون الكلأ في مجالات القفر الممتد من ثغور المغرب القبلية إلى ممالك السودان بالجنوب نيفاً وأربعين ألف خيمة([7]).
وبذلك حال المنصور دون أي تدخل للإسبان في بلاد السودان بالرغم من احتلالهم لجزيرة ”أركان“ القريبة من الرأس الأبيض ومصب نهر السينغال: ” … العساكر والأجناد التي جعلناها لنكاية عدو الدين بالمرصاد واعتدناها للذب عن كلمة الإسلام وحياطة البلاد والعباد “([8]) أو القيام بأي تبشير مسيحي:
ولما رأيناهم قد أتوا من الغواية… وتفاقم الأمر حتى… النزوع إلى دين النصرانية واستبدال الملة التوحيدية بالملة التثليثية، فوجهوا وفداً خاض من بلادهم ثبج البحر إلى الاشبونة قاعدة برتغال من بلاد الكفر حتى أتوا منها بقسيسين يفقهونهم في دين الطاغوت وعقائد اللاهوت… فانقدح بذلك دين النصرانية في من يليهم انقداح النار حتى تفاقم الداء واستشرى ورجعت كلمة الإسلام في تلك الآفاق القهقرى… ([9]).
وتمتعت نتيجة لذلك بلاد السودان بالطمأنينة والسلام: وهي جنود الله التي لولا ما حجزت بينكم وبين طواغيت الشرك سيوفها القاصمة وضربت في وجه الكفر دونكم بأسوارها العاصمة… لفاض عليكم طوفانه السائل وسال على أرضكم منه شؤبوب هاطل. وكبحت عنكم عنان الكفر حتى نمتم في كفالتها آمنين وفي حياطتها وادعين مطمئنين ([10]).
غير أن اضطراب الأوضاع الداخلية لدولة سنغاي الممتدة على الحوض الأوسط لنهر النيجر والمضاعفات الخطيرة التي ترتبت عليها في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ”ثم بدلوا نعمة الله كفراً، وما تركوا شيئاً من معاصي الله تعالى إلا وارتكبوها جهراً“ ([11]) جعلت أحوال السودانيين تتصف ”بالأحوال الذميمة والطبائع الرذيلة“([12]) وأيامهم بأنها ”أيام بؤس ومجاعة“ ([13]) في وقت ارتفعت فيه أصوات الاستغاثة وطلبات النجدة من الخليفة المنصور، وهو الحريص على ”لم شعث المسلمين ودعم دعائم الدين وتشييد معالم الجهاد وإخماد شرر الكفر“ ([14]).
أرسل المولى أحمد إلى السودان قوات عسكرية لإقرار الأمن والطمأنينة في شهر جمادى الأولى 999 هـ الموافق لمارس 1591 م. وعندما وصلت إلى تمبوكتو، شرعت ”في التمهيد وتسكين الشارد وتأمين الطريد وخفض الجناح حتى اطمأنت النفوس المستنة في مجال القلق واستقرت الأفئدة الجائشة“ ([15]).
ومن الذين استقبلوا القوات المغربية استقبال الفاتحين قاضي القضاة بتمبوكتو عمر بن محمود بن عمر وخطيب جامع كاغو محمود رامي، ”وتلقاهم الخطيب المذكور بالترحيب والإكرام وأضافهم إضافة فاخرة كبيرة“([16])، وعدد كبير من الأمراء السودانيين. ”وكان ممن انخذل عن الاسكيا أخوه في نحو ثلاثمائة من إخوته ووجوه عساكره ورؤساء دولته… راسل أجناد المنصور ليصل يده بأيديهم“ ([17]).
وعن عدالة الحكم المغربي في السودان يؤكد المؤرخ السوداني عبد الرحمن السعيدي ـ وهو معاصر ـ بأن سلوك أغلبية المسؤولين المغاربة كان محموداً:
فعندما أخذت الأوضاع تستقر، ولوا على بلاد السودان الاسكيا سليمان. ”وأكرم الباشا سليمان غاية الإكرام حتى جعله اسكيا عليهم“([18]).
وقد كان الباشا منصور ”رجلاً مباركاً عدلاً ذا حكم شديد في الجيش وأمسك أيدي الظلمة والفسقة على المسلمين فصار يحبه الضعفاء المساكين ويبغضه الفسقة والظالمون“ ([19]).
أما الباشا محمد طابع، ”فذو معرفة وذو رأي وتدبير“ ([20]).
والباشا سليمان كان ”ذا همة عالية ورأي فائق وتدبير عجيب وحكم سديد وسار بذلك في الجيش كله“ ([21]).
وعن القائد مامي المغربي ذكر السعيدي في "تاريخـ"ـه: ”ثم جاء القائد مامي إلى جني… وأصلح من أمور البلاد ما أصلح… ثم رجع القائد مامي لتمبوكتو وقد استقام الحال بحيث لم يبق في تلك الناحية ما يشوش البال والحمد لله الكبير المتعال“ ([22]).
وهكذا ساد الأمن والاستقرار مجموع بلاد السودان وازدهرت بالتالي أحوالها الاقتصادية. ”وعن قريب إن شاء الله تعود تلك الأقطار تزهو على
جِلَّقَ وشط الفرات ويطير صيتها في الخصب فتمير القاصي والداني من أقاليم السودان“([23]).
وبالفتح المغربي للسودان، ”اجتمعت اليوم ـ بحمد الله ـ بانتظام هذه الممالك كلمة الإسلام وارتقى الأمر ـ بحول الله ـ إلى الكمال “([24]).
[و] الهمم الشريفة قد همت بتجديد الأسطول وكلفت بالاستكثار من المراكب الجهادية والآلات الحربية بما كان مولانا أمير المؤمنين ـ أيده الله ـ يؤمل من فتح جزيرة الأندلس وعبور البحر إليها بجنود الله وعساكر الإسلام لتجديد رسوم الإيمان بها وافتكاكها من أيدي الكفر المتغلب عليها ([25]).
لما تم لمولانا الإمام الخليفة المنصور بالله أمير المؤمنين ـ أيده الله ـ ما أراد من فتح إقليمي توات وتيكورارين…، بادر بتجهيز العساكر إلى جهة الساحل… وبعث عن مولاه القائد أبي عبد الله محمد بن سالم صاحب الشرطة بفاس. فعقد له عليهم وسرحه إلى السوس بالمال وخزائن العدة والبارود وأوعز إلى القائد أبي محمد عبد المولى بن عيسى بن بر الوالي كان على عمالة تكاوصت ووادي نول بالحركة معه بقومه وسائر عشائره من عبده النازلين معه وجعله إسوة مولاه ابن سالم في تدبير الحروب دون الخراج، فنهضوا من السوس من بعد استكمال الأهبة في شهور عام اثنين وتسعين (وتسعمائة) وخاضوا القفر مع الساحل إلى السودان فوصلوا إليها من بعد الجهد لتسعين مرحلة متصلة من ثغور ممالك العرب القبلية ولم يكن لأهل السودان من علم بالعساكر لوحشية القفر حتى نزلوا بساحتهم… ولم يكن إلا أن بادر ملوكهم باللحاق إلى المعسكر واللياذ بالطاعة… ووصلوا إلى معسكر جنود الإمام أمير المؤمنين يقدمهم كبيرهم الموفى على الغاية في السن والهرم إبراهيم بن رضوان يامرفال وموسى جوب وغولي أخو يامرفال وكلهم من ملوك السواحل ببلاد السودان وألقوا أنفسهم على القواد مستسلمين فتلقوهم بما يتلقى به أمثالهم من عظماء القوم وملوكهم وأكرموا موصلهم وخلعوا عليهم… وارتحلت العساكر من بعد ذلك وسارت تحت رايات أمير المؤمنين تخترق ممالك السودان حتى انتهت لخليج النيل المنبعث من قاصية السودان وكرعت خيل المنصور في مائة وخفقت راياتها على شطه… وقفلت العساكر إلى المغرب ظافرة ظاهرة وكان الذي استجاب لهم ودان بالطاعة والانقياد من عرب الفلات فقط وأممهم الذين ينتجعون الكلأ في مجالات القفر الممتد من ثغور المغرب القبلية إلى ممالك السودان بالجنوب نيفاً وأربعين ألف خيمة كلها من أهل الوبر والكراع المربى على النمل كثرة والجراد انتشاراً.
عبد العزيـز الفشتـالي، مناهل الصفا في
مآثر موالينا الشرفا، ص ص .78 ـ 80.
وبعد الفتح المغربي لبلاد السودان،
كتب ـ أيده الله ـ إلى الجهـات والأقطار من ممالكه بالفـتح وإنهاء البشرى…
ولما استوى القدم بعساكرنا ـ وفرها الله ـ في البلاد، وأصبحوا في دنيا لا تفي العبارة لها بكنه ولا تعارض بشبه ولا نظير لها في الأرضين بوجه، ما شئت من ممالك متعددة الأقطار، متنوعة الأوطان والأوطار، جمة المرافق والفوائد وما ألف الوافد والرائد، لا تحد بغاية ولا تدرك بها نهاية محشر الأمم وبستان العالم ومدرج الذر من بني آدم، وملك ضخم لا تصل إليه الهمم لولا عنايته التي لا تقاوم. وناهيك بممالك يخترقها بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه الرحمة… تزخر بالنعم واتصال العمران… ولقد اجتمعت اليوم ـ بحمد الله ـ بانتظام هذه الممالك كلمة الإسلام وارتقى الأمر ـ بحول الله ـ إلى الكمال الذي دل منه حسن الابتداء على حسن الاختتام، ولم يبق ـ بحول الله ـ إلا صـرف العزائمـ إلى جهـاد العدو الكافر وأن تدور عليه ـ بحول الله ـ الدوائر حتى نغزوه بجنود الله في عقر دياره ومحل قراره، ويعلو حزب الله على حزب الشيطان وأنصاره بعز الله وتأييده… وفي ليلة الجمعة سابعة شعبان المكرم عام تسعة وتسعين وتسعمائة.
عبد العزيز الفشتالي، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا، صص 142 ـ 146.
([1]) عبد العزيز الفشتالي، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا، ص. 39.
([2]) عبد الكريم كريم، المغرب في عهد الدولة السعدية، ص. 110.
([3]) عبد الرحمن السعيدي، تاريخ السودان، ص. 208.
([4]) مناهل الصفا، ص. 47.
([5]) المغرب في عهد الدولة السعدية، ص. 112.
([6]) مناهل الصفا، ص. 49.
([7]) عبد العزيز الفشتالي، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا، ص. 80.
([8]) عبد الله كَنون، رسائل سعدية، ص. 132.
([9]) مجموع مخطوط بالخزانة العامة بالرباط. ك 278، ص. 187.
([10]) رسائل سعدية، ص. 132.
([11]) عبد الرحمن السعيدي، تاريخ السودان، ص. 135.
([12]) المصدر والصفحة نفسهما.
([13]) المصدر نفسه، ص. 122.
([14]) المناهل، مصدر مذكور، ص. 133.
([15]) المصدر نفسه، ص. 148.
([16]) تاريخ السودان، ص. 141.
([17]) المناهل، ص. 153.
([18]) المصدر نفسه، ص. 152.
([19]) تاريخ السودان، ص. 177.
([20]) المصدر نفسه.
([21]) المصدر نفسه، ص. 190.
([22]) المصدر نفسه، ص. 162.
([23]) المناهل، ص. 167.
([24]) المصدر نفسه، ص. 145.
([25]) المصدر نفسه، ص. 170. الدكتور عبد الكريم كريم
التعديل الأخير: