يهود العراق والتاريخ القديم
الدكتور احمد سوسة
ان التاريخ القديم ليهود العراق يكون صورة مظلمة من تاريخ الحضارة البشرية جمعاء، أفلح اليهود بطمس حقيقتها أكثر من ألفين وخمسمائة عام، إذ دونوا في الأسر في بابل تاريخا زائفا لأصل اليهود ونسبهم وصلتهم بالأقوام الأخرى وبالعالم القديم وفق أهوائهم ورغباتهم الدنيوية ونزعاتهم الدينية. وقد قبل العالم هذا الزيف وظل الباحثون والكتاب يرددونه وكأنه حقائق تاريخية، حتى ظهرت الاكتشافات التاريخية الحديثة فكشفت لنا زيف الادعاءات اليهودية كحقهم في أرض العرب وما إلى ذلك من الادعاءات الوهمية. وهذه المدونات المكتشفة تشكل أحداثا بلغات الأقوام القديمة، وقد عاصرت تلك الأحداث ذاتها كالسومريين والآكاديين والكنعانيين الفينيقين والمصريين والحثيين والبابليين والآشوريين والكلدانيين، وذلك قبل تدوين التوراة بعدة قرون. وتزودنا هذه المراجع والبينات التي كانت تعوز من سبقنا من الباحثين للتوصل إلى بعض الحقائق التاريخية عن العصور القديمة ومن ضمنها التاريخ القديم ليهود العراق، والخروج بها من دائرة الحدس والظن إلى صلب الحقيقة الواقعة.
ولا توجد حسب علمي أية دراسة علمية لتاريخ يهود العراق القديم، فالمصدر الوحيد الذي يعول عليه الباحثون من عرب وأجانب هو ما يلقنه الصهاينة عن تاريخ اليهود القديم، وهو ادعاؤهم خلافا للواقع التاريخي بأن العراق وطن اليهود الأصلي لأنهم هاجروا مع إبراهيم الخليل من العراق إلى فلسطين قبل أربعة آلاف سنة قبل الميلاد وكان عددهم أربعة آلاف نسمة. وهكذا ربطوا نسبهم وأصلهم بإبراهيم الخليل وبالعراق على اعتبار أن العراق كان وطنهم الأصلي الذي هاجروا منه. في حين أن المعلومات التي تركها لنا الأقدمون تدل على أن اليهود ظهروا في العراق لأول مرة في عهد الآشوريين بصفة أسرى في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن السابع قبل الميلاد، أي بعد عصر إبراهيم الخليل بألف ومائتي سنة لأن إبراهيم الخليل ظهر في القرن التاسع عشر قبل الميلاد حسب رأي الخبراء المحدثين.
هذا في حين أن التوراة ذاتها تؤكد بكل صراحة أن إبراهيم الخليل هاجر من العراق بمفرده فذهب ومعه ساراي امرأته ولوط ابن أخيه، ولم يكن لليهود وجود في العراق في عصره. لذلك ليس لليهود أي تعاصر مشترك مع إبراهيم الخليل.
ويدعي الصهاينة فيما يكتبون وينشرون في وسائل إعلامهم وبخاصة ما يلقنونه لطلاب المدارس أن أرض فلسطين ملك لليهود عبر التاريخ منحها لهم الرب في الكتاب المقدس. هذا في حين أن أرض فلسطين باعتراف التوراة ذاتها كانت أرض غربة بالنسبة الى آل إبراهيم وآل اسحق وآل يعقوب، إذ كانوا مغتربين في أرض فلسطين بين الكنعانيين سكانها الأصليين، والتوراة تتحدث عنهم بصفتهم غرباء وافدين طارئين على أرض فلسطين. ثم أن أبناء يعقوب الإثني عشر ولدوا كلهم باعتراف التوراة في فدان آرام (منطقة حران) حيث مكث أبوهم يعقوب المسّمى إسرائيل عشرين سنة. ففي كل ذلك دلائل وافية على أن وطن بني اسرائيل الأصلي لم يكن فلسطين بل منطقة حران الآرامية حيث كانت تقطن العشائر الآرامية، وأن جميع الأخوة الإثني عشر الذين ورد ذكرهم في التوراة ولدوا ونشأوا خارج فلسطين. ونحن حين نؤكد ذلك نستند إلى مرجع التوراة ذاتها التي تعترف بصراحة تامة بذلك. هذا إذا صح أن اليهود يرتبط أصلهم بإبراهيم واسحق ويعقوب كما يدعون.
ولم يكتف الصهاينة بالادعاء أن فلسطين وطنهم منحها لهم ربهم يهوه وادعاء أن العراق وطنهم الثاني، بل راحوا يدعون أن شبه جزيرة العرب وطن اليهود أيضا ومنها ذهبوا إلى فلسطين ففتحوها (كذا). فيقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه «تاريخ اللغات السامية» وهو يهودي صهيوني: «ان الهجرة الإسرائيلية صدرت من الجزيرة العربية وفتحت بلاد فلسطين وإن هذا الفتح كان سبباً لتقلبات اجتماعية ودينية كبيرة الأثر في التاريخ العام». وهذا نموذج آخر من نماذج تلاعب الصهاينة بالتاريخ والافتراءعليه لإشباع رغباتهم وشهواتهم العنصرية. ونحن لا ندري كيف يوفق ولفنسون بين نزوح اليهود من مصر في عهد النبي موسى كما جاء في التوراة، وبين القول بهجرتهم من جزيرة العرب؟ أيهما الصحيح؟ والسؤال الذي يفرض نفسه هنا أيضاً. كيف وصل اليهود إلى جزيرة العرب؟
فالثابت تاريخيا أن يهود جزيرة العرب كانوا عرباً تهودوا بطريق التبشير وهم في ديارهم وبقوا محافظين على قوميتهم ولغتهم العربية من غير أن تكون لهم أية صلة مع يهود فلسطين. ويكفي أن ننوه هنا بأن ولفنسون هذا أصبح بعد قيام دولة إسرائيل مشرفاً على البعوث الإسرائيلية إلى أفريقيا، واختيار ولفنسون لهذا المنصب بالذات هو اختيار له مغزاه من جانب إسرائيل. والغريب أن كتاب ولفنسون هذا يعد اليوم مرجعا عند الباحثين وحتى الكتاب العرب يعتمدون عليه ويرددون ما جاء فيه من مثل هذه الأقوال التي لا تستند إلى أي واقع تاريخي. وقد أخذ الباحثون بهذا الخلط واعتبروه من واقع التاريخ حتى صارت أهم كتب المدارس والكليات تردد هذا الادعاء الباطل فكتاب برنز «حضارات الغرب» الذي يدرس في جميع الكليات والمدارس في أوروبا وفي أمريكا وحتى في الجامعات في البلاد العربية (وقد تجاوز عدد طبعاته العشر طبعات) جاء فيه ما يؤيد كلام ولفنسون، فيقول ما نصه: «إن أكثر الباحثين يجمعون على أن الجزيرة العربية هي وطن اليهود الأصلي»، وبذلك تجاهل هو الآخر ما ورد في التوراة عن نزوح اليهود من مصر. وتستند هذه الادعاءات إلى أن التوراة والتلمود اللذين دوّنهما الأحبار اليهود في الأسر وما بعد الأسر في بابل، وهما يؤكدان صلة القربى بين العرب واليهود وأن العرب واليهود ينحدرون من أصل واحد وأن الرب قطع مع أبرام (إبراهيم الخليل) باعتباره جد العرب واليهود على حد قولهم ميثاقا يقول: «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات». فيشاهد المرء اليوم نقشاً على مبنى البرلمان الإسرائيلي في تل أبيب يحمل هذه العبارة «من الفرات إلى النيل… هذه بلادكم يا أبناء اسرائيل»، وأعلن بن غوريون في أحد الاحتفالات بتخرج طلبة الكلية الحربية في إسرائيل قائلاً: «لقد جاء الشعب اليهودي ليبقى في أرض أجداده التي تمتد من النيل إلى الفرات».
مقدّمة «ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق»، 1978
اليهودي فضّاح اليهودي فضّاح الرواية الصهيونية
لعلّ المفارقة الكبرى في حياة وأعمال العلامة العراقي الكبير أحمد نسيم سوسة (1900 ـ 1982)، أنه كان بين أمهر الباحثين الذين تعمقوا في تعرية الروايات الصهيونية عن تاريخ اليهود، في العراق وفلسطين بصفة خاصة؛ ولكنه كان، في الأصل، وليد أسرة يهودية عراقية من مدينة الحلة، واختار اعتناق الإسلام بعدئذ. كتابه «في طريقي إلى الإسلام» لا يفسّر اهتداءه ذاك على أيّ نحو تقليدي، ولا ينزلق إلى أية مفاضلة مقارنة بين الأديان التوحيدية، بل يسوق سلسلة أسباب فلسفية وفكرية وتاريخية، قبل الاعتبارات الروحية، كانت وراء انشداده إلى الإسلام؛ منذ دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت، مروراً باستكمال دراساته العليا في أمريكا، في جامعتَيْ كولورادو وجون هوبكنز.
جدير بالتنويه، أيضاً، أنّ سوسة كان مهندساً مدنياً، بل هو أحد أقدم مهندسي العراق، وكان عضواً بارزاً في مؤسسة «فاي بيتا كابا» العلمية الأمريكية العريقة، وله مؤلفات لا غنى عنها حول الريّ في العراق («وادي الفرات» في جزئين، «تطور الري في العراق»، «دليل ري العراق»، «سدة الهندية»، «ري سامراء في عهد الخلافة العباسية»، «فيضانات بغداد في التاريخ»…)، صدرت منذ أربعينيات وحتى ستينيات القرن الماضي، بالعربية وبالإنكليزية. كذلك كتب في مواضيع تاريخية لافتة، مثل نظام الامتيازات في الدولة العثمانية (وصدر باللغة الإنكليزية، سنة 1933).
لكنّ عمله حول تاريخ اليهود كان إنجازه الأكبر في الواقع، وخاصة كتابه الموسوعي الضخم «العرب واليهود في التاريخ: حقائق تاريخية تظهرها المكتشفات الأثرية». ولقد تناول معلومات تاريخية ليست معروفة حول تاريخ فلسطين القديم قبل ظهور بني إسرائيل، الذي أوضح سوسة أنه لم يكن إلا حدثاً متأخراً بالنسبة إلى تاريخ الأقوام السامية العربية التي سبقتهم في استيطان فلسطين وبلاد الشام وكوّنت فيها حضارة البلد التاريخية، وكان بنو إسرائيل دخلاء عليها وعاشوا في كنفها فاقتبسوا منها مقومات ثقافتهم. فصول هذا العمل الفريد تتناول الهجرات الرئيسية إلى الهلال الخصيب (فلسطين وسوريا والعراق ومصر)، وجزيرة العرب بوصفها مهد الحضارات السامية، والتوراة والديانة اليهودية، والتوراة في ضوء المكتشفات الآثارية، وعصر إبراهيم واسحاق ويعقوب، وعصر النبي موسى والتوحيد، ويهود العالم وصلتهم بفلسطين، ثمّ دور الصهيونية والاستعمار في خلق إسرائيل.
وفي مقدّمة الكتاب يقول سوسة: «البحث الذي أقدّمه هو حصيلة تحقيق واجتهاد عمر كامل قضيت الشطر الأكبر منه في ملاحقة الحقيقة أينما وكيفما كانت…». وهذه، ببساطة، حقيقة أولى كبرى حول هذا الكتاب أولاً، وحول منهجية سوسة في كلّ أعماله.
عن القدس العربي
الدكتور احمد سوسة
ان التاريخ القديم ليهود العراق يكون صورة مظلمة من تاريخ الحضارة البشرية جمعاء، أفلح اليهود بطمس حقيقتها أكثر من ألفين وخمسمائة عام، إذ دونوا في الأسر في بابل تاريخا زائفا لأصل اليهود ونسبهم وصلتهم بالأقوام الأخرى وبالعالم القديم وفق أهوائهم ورغباتهم الدنيوية ونزعاتهم الدينية. وقد قبل العالم هذا الزيف وظل الباحثون والكتاب يرددونه وكأنه حقائق تاريخية، حتى ظهرت الاكتشافات التاريخية الحديثة فكشفت لنا زيف الادعاءات اليهودية كحقهم في أرض العرب وما إلى ذلك من الادعاءات الوهمية. وهذه المدونات المكتشفة تشكل أحداثا بلغات الأقوام القديمة، وقد عاصرت تلك الأحداث ذاتها كالسومريين والآكاديين والكنعانيين الفينيقين والمصريين والحثيين والبابليين والآشوريين والكلدانيين، وذلك قبل تدوين التوراة بعدة قرون. وتزودنا هذه المراجع والبينات التي كانت تعوز من سبقنا من الباحثين للتوصل إلى بعض الحقائق التاريخية عن العصور القديمة ومن ضمنها التاريخ القديم ليهود العراق، والخروج بها من دائرة الحدس والظن إلى صلب الحقيقة الواقعة.
ولا توجد حسب علمي أية دراسة علمية لتاريخ يهود العراق القديم، فالمصدر الوحيد الذي يعول عليه الباحثون من عرب وأجانب هو ما يلقنه الصهاينة عن تاريخ اليهود القديم، وهو ادعاؤهم خلافا للواقع التاريخي بأن العراق وطن اليهود الأصلي لأنهم هاجروا مع إبراهيم الخليل من العراق إلى فلسطين قبل أربعة آلاف سنة قبل الميلاد وكان عددهم أربعة آلاف نسمة. وهكذا ربطوا نسبهم وأصلهم بإبراهيم الخليل وبالعراق على اعتبار أن العراق كان وطنهم الأصلي الذي هاجروا منه. في حين أن المعلومات التي تركها لنا الأقدمون تدل على أن اليهود ظهروا في العراق لأول مرة في عهد الآشوريين بصفة أسرى في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن السابع قبل الميلاد، أي بعد عصر إبراهيم الخليل بألف ومائتي سنة لأن إبراهيم الخليل ظهر في القرن التاسع عشر قبل الميلاد حسب رأي الخبراء المحدثين.
هذا في حين أن التوراة ذاتها تؤكد بكل صراحة أن إبراهيم الخليل هاجر من العراق بمفرده فذهب ومعه ساراي امرأته ولوط ابن أخيه، ولم يكن لليهود وجود في العراق في عصره. لذلك ليس لليهود أي تعاصر مشترك مع إبراهيم الخليل.
ويدعي الصهاينة فيما يكتبون وينشرون في وسائل إعلامهم وبخاصة ما يلقنونه لطلاب المدارس أن أرض فلسطين ملك لليهود عبر التاريخ منحها لهم الرب في الكتاب المقدس. هذا في حين أن أرض فلسطين باعتراف التوراة ذاتها كانت أرض غربة بالنسبة الى آل إبراهيم وآل اسحق وآل يعقوب، إذ كانوا مغتربين في أرض فلسطين بين الكنعانيين سكانها الأصليين، والتوراة تتحدث عنهم بصفتهم غرباء وافدين طارئين على أرض فلسطين. ثم أن أبناء يعقوب الإثني عشر ولدوا كلهم باعتراف التوراة في فدان آرام (منطقة حران) حيث مكث أبوهم يعقوب المسّمى إسرائيل عشرين سنة. ففي كل ذلك دلائل وافية على أن وطن بني اسرائيل الأصلي لم يكن فلسطين بل منطقة حران الآرامية حيث كانت تقطن العشائر الآرامية، وأن جميع الأخوة الإثني عشر الذين ورد ذكرهم في التوراة ولدوا ونشأوا خارج فلسطين. ونحن حين نؤكد ذلك نستند إلى مرجع التوراة ذاتها التي تعترف بصراحة تامة بذلك. هذا إذا صح أن اليهود يرتبط أصلهم بإبراهيم واسحق ويعقوب كما يدعون.
ولم يكتف الصهاينة بالادعاء أن فلسطين وطنهم منحها لهم ربهم يهوه وادعاء أن العراق وطنهم الثاني، بل راحوا يدعون أن شبه جزيرة العرب وطن اليهود أيضا ومنها ذهبوا إلى فلسطين ففتحوها (كذا). فيقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه «تاريخ اللغات السامية» وهو يهودي صهيوني: «ان الهجرة الإسرائيلية صدرت من الجزيرة العربية وفتحت بلاد فلسطين وإن هذا الفتح كان سبباً لتقلبات اجتماعية ودينية كبيرة الأثر في التاريخ العام». وهذا نموذج آخر من نماذج تلاعب الصهاينة بالتاريخ والافتراءعليه لإشباع رغباتهم وشهواتهم العنصرية. ونحن لا ندري كيف يوفق ولفنسون بين نزوح اليهود من مصر في عهد النبي موسى كما جاء في التوراة، وبين القول بهجرتهم من جزيرة العرب؟ أيهما الصحيح؟ والسؤال الذي يفرض نفسه هنا أيضاً. كيف وصل اليهود إلى جزيرة العرب؟
فالثابت تاريخيا أن يهود جزيرة العرب كانوا عرباً تهودوا بطريق التبشير وهم في ديارهم وبقوا محافظين على قوميتهم ولغتهم العربية من غير أن تكون لهم أية صلة مع يهود فلسطين. ويكفي أن ننوه هنا بأن ولفنسون هذا أصبح بعد قيام دولة إسرائيل مشرفاً على البعوث الإسرائيلية إلى أفريقيا، واختيار ولفنسون لهذا المنصب بالذات هو اختيار له مغزاه من جانب إسرائيل. والغريب أن كتاب ولفنسون هذا يعد اليوم مرجعا عند الباحثين وحتى الكتاب العرب يعتمدون عليه ويرددون ما جاء فيه من مثل هذه الأقوال التي لا تستند إلى أي واقع تاريخي. وقد أخذ الباحثون بهذا الخلط واعتبروه من واقع التاريخ حتى صارت أهم كتب المدارس والكليات تردد هذا الادعاء الباطل فكتاب برنز «حضارات الغرب» الذي يدرس في جميع الكليات والمدارس في أوروبا وفي أمريكا وحتى في الجامعات في البلاد العربية (وقد تجاوز عدد طبعاته العشر طبعات) جاء فيه ما يؤيد كلام ولفنسون، فيقول ما نصه: «إن أكثر الباحثين يجمعون على أن الجزيرة العربية هي وطن اليهود الأصلي»، وبذلك تجاهل هو الآخر ما ورد في التوراة عن نزوح اليهود من مصر. وتستند هذه الادعاءات إلى أن التوراة والتلمود اللذين دوّنهما الأحبار اليهود في الأسر وما بعد الأسر في بابل، وهما يؤكدان صلة القربى بين العرب واليهود وأن العرب واليهود ينحدرون من أصل واحد وأن الرب قطع مع أبرام (إبراهيم الخليل) باعتباره جد العرب واليهود على حد قولهم ميثاقا يقول: «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات». فيشاهد المرء اليوم نقشاً على مبنى البرلمان الإسرائيلي في تل أبيب يحمل هذه العبارة «من الفرات إلى النيل… هذه بلادكم يا أبناء اسرائيل»، وأعلن بن غوريون في أحد الاحتفالات بتخرج طلبة الكلية الحربية في إسرائيل قائلاً: «لقد جاء الشعب اليهودي ليبقى في أرض أجداده التي تمتد من النيل إلى الفرات».
مقدّمة «ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق»، 1978
اليهودي فضّاح اليهودي فضّاح الرواية الصهيونية
لعلّ المفارقة الكبرى في حياة وأعمال العلامة العراقي الكبير أحمد نسيم سوسة (1900 ـ 1982)، أنه كان بين أمهر الباحثين الذين تعمقوا في تعرية الروايات الصهيونية عن تاريخ اليهود، في العراق وفلسطين بصفة خاصة؛ ولكنه كان، في الأصل، وليد أسرة يهودية عراقية من مدينة الحلة، واختار اعتناق الإسلام بعدئذ. كتابه «في طريقي إلى الإسلام» لا يفسّر اهتداءه ذاك على أيّ نحو تقليدي، ولا ينزلق إلى أية مفاضلة مقارنة بين الأديان التوحيدية، بل يسوق سلسلة أسباب فلسفية وفكرية وتاريخية، قبل الاعتبارات الروحية، كانت وراء انشداده إلى الإسلام؛ منذ دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت، مروراً باستكمال دراساته العليا في أمريكا، في جامعتَيْ كولورادو وجون هوبكنز.
جدير بالتنويه، أيضاً، أنّ سوسة كان مهندساً مدنياً، بل هو أحد أقدم مهندسي العراق، وكان عضواً بارزاً في مؤسسة «فاي بيتا كابا» العلمية الأمريكية العريقة، وله مؤلفات لا غنى عنها حول الريّ في العراق («وادي الفرات» في جزئين، «تطور الري في العراق»، «دليل ري العراق»، «سدة الهندية»، «ري سامراء في عهد الخلافة العباسية»، «فيضانات بغداد في التاريخ»…)، صدرت منذ أربعينيات وحتى ستينيات القرن الماضي، بالعربية وبالإنكليزية. كذلك كتب في مواضيع تاريخية لافتة، مثل نظام الامتيازات في الدولة العثمانية (وصدر باللغة الإنكليزية، سنة 1933).
لكنّ عمله حول تاريخ اليهود كان إنجازه الأكبر في الواقع، وخاصة كتابه الموسوعي الضخم «العرب واليهود في التاريخ: حقائق تاريخية تظهرها المكتشفات الأثرية». ولقد تناول معلومات تاريخية ليست معروفة حول تاريخ فلسطين القديم قبل ظهور بني إسرائيل، الذي أوضح سوسة أنه لم يكن إلا حدثاً متأخراً بالنسبة إلى تاريخ الأقوام السامية العربية التي سبقتهم في استيطان فلسطين وبلاد الشام وكوّنت فيها حضارة البلد التاريخية، وكان بنو إسرائيل دخلاء عليها وعاشوا في كنفها فاقتبسوا منها مقومات ثقافتهم. فصول هذا العمل الفريد تتناول الهجرات الرئيسية إلى الهلال الخصيب (فلسطين وسوريا والعراق ومصر)، وجزيرة العرب بوصفها مهد الحضارات السامية، والتوراة والديانة اليهودية، والتوراة في ضوء المكتشفات الآثارية، وعصر إبراهيم واسحاق ويعقوب، وعصر النبي موسى والتوحيد، ويهود العالم وصلتهم بفلسطين، ثمّ دور الصهيونية والاستعمار في خلق إسرائيل.
وفي مقدّمة الكتاب يقول سوسة: «البحث الذي أقدّمه هو حصيلة تحقيق واجتهاد عمر كامل قضيت الشطر الأكبر منه في ملاحقة الحقيقة أينما وكيفما كانت…». وهذه، ببساطة، حقيقة أولى كبرى حول هذا الكتاب أولاً، وحول منهجية سوسة في كلّ أعماله.
عن القدس العربي