من منظور استراتيجي سعودي بحت، تمثل اتفاقية الدفاع المشترك مع باكستان خطوة حاسمة ومحورية، تتجاوز كونها مجرد رد فعل على أحداث آنية لتصبح ركيزة أساسية في بنية الأمن القومي السعودي الجديدة. يمكن تلخيص قيمتها الاستراتيجية في ثلاثة أبعاد رئيسية متكاملة:
1. تحقيق الردع الاستراتيجي الكامل (Strategic Deterrence)
تمنح الاتفاقية المملكة العربية السعودية ما لم تستطع التحالفات السابقة أو الترسانة العسكرية التقليدية توفيره بمفردها: ردعاً ذا مصداقية على كافة المستويات، بما في ذلك المستوى النووي.
• معادلة "توازن الرعب": في مواجهة خصمين إقليميين يمتلكان قدرات استراتيجية متقدمة — إيران ببرنامجها النووي والصاروخي المتقدم [1, 2]، وإسرائيل بقوتها النووية غير المعلنة [3] — كانت المملكة في وضع استراتيجي غير متكافئ. الاتفاقية تنهي هذا الوضع عبر وضع المملكة فعلياً تحت "مظلة نووية" باكستانية.[4, 3, 5] هذا لا يعني امتلاك السلاح النووي، بل امتلاك القدرة على الرد النووي عبر حليف ملتزم، وهو ما يرفع تكلفة أي هجوم واسع النطاق على الأراضي السعودية إلى مستوى غير مقبول لأي خصم.
• الغموض المحسوب: تتبنى الرياض من خلال هذه الاتفاقية استراتيجية "الغموض النووي" التي تمنحها فوائد الردع دون تحمل التبعات القانونية والسياسية لانتهاك معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT) التي وقعت عليها.[5, 6, 7] التصريحات الرسمية التي تصف الاتفاقية بأنها "تشمل جميع الوسائل العسكرية" هي رسالة مقصودة ومحسوبة لتحقيق هذا الهدف.[8, 4]
• العمق البشري والعسكري: إلى جانب الردع النووي، توفر باكستان عمقاً استراتيجياً بشرياً وعسكرياً لا يقدر بثمن. فالجيش الباكستاني، بخبرته القتالية الواسعة وحجمه الكبير، يمثل قوة احتياطية هائلة يمكن الاعتماد عليها في أوقات الأزمات، وهو ما يكمل القدرات التكنولوجية والمالية الفائقة للجيش السعودي.[9, 10]
2. ضمان الاستقلالية الاستراتيجية (Strategic Autonomy)
تُعد الاتفاقية حجر الزاوية في سعي المملكة لتحقيق استقلالية استراتيجية، وتقليل الاعتماد على الضمانات الأمنية الغربية التي ثبت أنها غير موثوقة في اللحظات الحاسمة.[11, 12]
• بديل للمظلة الأمريكية المتآكلة: شهدت السنوات الأخيرة تراجعاً في الثقة بالالتزامات الأمنية الأمريكية، مما خلق فراغاً أمنياً شعرت الرياض بضرورة ملئه بنفسها.[12, 13, 14] التحالف مع باكستان هو تحوط استراتيجي ضد هذا التراجع، ويوفر شريكاً أمنياً موثوقاً لا يخضع للاعتبارات السياسية الداخلية والقيود التي غالباً ما تكبل صناعة القرار في واشنطن.
• رافعة دبلوماسية: وجود اتفاقية دفاعية ملزمة مع قوة نووية كبرى مثل باكستان يمنح المملكة وزناً سياسياً ونفوذاً أكبر على الساحة الدولية. لم تعد الرياض مجرد شريك أمني للغرب، بل أصبحت مركزاً لمحور أمني مستقل، مما يعزز من قدرتها على التفاوض والمناورة في علاقاتها مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا.[15]
• تمكين رؤية 2030: لا يمكن تحقيق التحول الاقتصادي والاجتماعي الهائل الذي تهدف إليه رؤية 2030 دون بيئة أمنية مستقرة ومضمونة. الاتفاقية توفر هذا الغطاء الأمني اللازم لحماية المشاريع العملاقة والاستثمارات الضخمة التي تشكل أساس الرؤية، وتدعم بشكل مباشر هدف توطين 50% من الإنفاق العسكري عبر فتح آفاق للتعاون في التصنيع العسكري ونقل التكنولوجيا مع باكستان.[16, 17, 18]
3. تعزيز المكانة القيادية الإقليمية (Regional Leadership)
الاتفاقية تعيد رسم خريطة التحالفات الإقليمية وتكرس دور المملكة كقوة محورية قادرة على تشكيل بنية أمنية جديدة.
• إعادة تشكيل توازن القوى: المحور السعودي-الباكستاني يغير بشكل جذري توازن القوى في الشرق الأوسط وجنوب آسيا. فهو يجبر الخصوم على إعادة حساباتهم، ويوفر مظلة أمنية يمكن أن تمتد لتشمل حلفاء آخرين في الخليج، مما يعزز من دور الرياض كقائد طبيعي للمنظومة الأمنية الإقليمية.
• أداة لإدارة الصراع: من خلال امتلاكها لردع قوي، تستطيع المملكة إدارة صراعاتها الإقليمية من موقع قوة. هذا قد يجعل الخيارات الدبلوماسية أكثر جدوى، حيث يصبح الحوار مع خصوم مثل إيران مدعوماً بقوة عسكرية رادعة.
• الموازنة بين المصالح: تمنح الاتفاقية الرياض القدرة على إدارة علاقاتها المعقدة في جنوب آسيا بفعالية أكبر. فبينما تؤمن التزاماتها الأمنية تجاه حليفها التاريخي باكستان، فإن قوتها المتزايدة تمنحها نفوذاً أكبر للحفاظ على شراكتها الاقتصادية الحيوية مع الهند وتنميتها، وربما لعب دور الوسيط في المستقبل.[8, 4, 19]
باختصار، من المنظور السعودي، هذه الاتفاقية هي استثمار استراتيجي طويل الأمد في الأمن والاستقرار والسيادة. إنها تحول جذري من سياسة الاعتماد على الآخرين إلى سياسة الاعتماد على الذات وعلى تحالفات موثوقة ومستقلة، مما يضمن أمن المملكة ومصالحها في عالم متغير ومضطرب.