محتويات هذا المقال ☟
استمر الاتحاد السوفيتي رسمياً منذ عام 1917 وحتى عام 1991، وكان الإعلان الرسمي عن نهايته بصفته اتحاداً ودولة عظمى قد سبقها إرهاصات مباشرة وغير مباشرة، بدأت، بوادرها منذ وفاة الرئيس ليونيد بريجنيف عام 1982، وتصاعد الأحداث سريعاً بعد تولى الرئيس ميخائيل جورباتشوف حكم البلاد عام 1985.
كان الاتحاد السوفيتي، في معظم فتراته، حليفاً سياسياً للعالم العربي ومصدراً من المصادر الأساسية لتمويله بمختلف السلع الإستراتيجية خاصة الأسلحة، كذلك كانت المعادلة الدولية على قدر كبير من التوازن، حيث كان النظام الدولي يتميز بالثنائية القطبية، ومن ثم يمكن القول: إن العالم العربي قد خسر حليفاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً قوياً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ومن الواضح أن هذا الانهيار قد قضى على النظام الدولي القديم، الذي قام على التوازن بين قوتين عظميين تتزعمان معسكرين متضادين، حكمته قواعد الحرب الباردة وضوابطها. وقد قضى هذا الانهيار على الشكل السابق للقارة الأوروبية، وخرجت أوروبا الشرقية تنفض عن كاهلها غبار الانهيار، وتعيد صياغة مجتمعاتها واقتصادياتها، للحاق بأوروبا الغربية الأكثر تقدماً، بدلاً من الصراع والعداء معها، فضلاً عن إعادة توحيد ألمانيا وما تحمله من فرص واحتمالات عديدة، والتفكك السلمي لتشيكوسلوفاكيا، ثم انتقال عدوى التفكك تجاه الاتحاد اليوغسلافي وتصاعد الصراعات العسكرية نتيجة هذا التفكك.
غير أن أكثر مشاهد الانهيار إثارة وخطورة كان، انهيار الدولة السوفيتية ذاتها وتفككها، فقد فاق هذا الانهيار في حجمه وعمقه وسرعته، كافة توقعات الباحثين وتحليلات المحللين، بمن فيهم من كان أكثرهم رفضاً للاتحاد السوفيتي. ولا تكمن خطورة هذا الحدث في تفكك قوة عظمى إلى عدد من الدول المستقلة ذات السيادة فقط، وإنما تكمن في انهيار الإيديولوجية[1] اللاحمة لهذا البناء، أي الأيديولوجية الماركسية ـ اللينينية، وليس المقصود هنا هو انهيار الفكر الاشتراكي أو اختفائه عموماً أو الماركسي خصوصاً، فهذا الفكر جزء لا يتجزأ من تراث الإنسانية، كان ولا يزال له إسهامه المميز في دفع وترقيه الفكر الإنساني كله، وله جوانب ضعفه، وأيضاً جوانب قوته. ولكن ما انهار هو تلك الصيغة الأيديولوجية المحددة التي يصب فيها هذا الفكر، وانطوت على نقد المجتمع الرأسمالي، وتصور مثل أعلى بديل له وهو المجتمع الشيوعي، وآليات الانتقال إليه. وما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق، لم يعن أن تطبيقاً خاطئاً للأيديولوجية قد فشل، ولكنه يعني بالأساس أن العناصر الأساسية لتلك الأيديولوجية هي التي ثبت فشلها وخطؤها. ولذلك لم يكن غريباً أن يكون الانهيار الذي وقع في الاتحاد السوفيتي مركزاً لزلزال شديد هّز مواقع وأفكار كثيرة في كافة أنحاء العالم، واستلزم مراجعه شاملة لمنظومة كاملة من الأفكار والمفاهيم والتطبيقات.
والواقع أن سقوط الاتحاد السوفيتي وانهياره، بوصفه انهيار الإمبراطورية، ليس ظاهرة فريدة في التاريخ الحديث أو الوسيط أو القديم، فليس تهاوى الشيوعية السوفيتية جديداً في دورات التاريخ، فقد حكم التاريخ بالموت على النظم التي أضحت عائقاً أمام التقدم، وانهيار الشمولية السوفيتية قد سبقه تداعى الشمولية النازية والفاشية، والهزيمة في الحرب الباردة تبدو نتيجة منطقية بأن استخدام القوة غير العسكرية بمقدوره تحقيق أهداف الحرب بوسائل أخرى، إن هدم دعائم النظام القديم ـ وخاصة الجهاز الدولي الشمولي ـ في عهد ميخائيل جورباتشوف، قد عجّل بانهيار القوة العظمى السوفيتية.
إن سرعة انهيار الإمبراطورية والشيوعية والشمولية في الاتحاد السوفيتي، تم على نحو لم تتوقعه أكثر التنبؤات الأيديولوجية تفاؤلاً، كما أن تداعيات الانهيار لا سابق لها من حيث شمولها للجوانب الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية وغيرها، مما يبرز التأريخ به بداية لتشكيل نظام عالمي جديد.
الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة
بدت خريطة العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، مختلفة تمام الاختلاف عنها قبل الحـرب، فقد أخذت قيادة العالم الرأسمالي تنتقل شيئاً فشيئاً من يد فرنسا وبريطانيا إلى يد الولايات المتحدة الأمريكية. إذ فقدت فرنسا مركزها؛ نتيجة سقوطها أولاً تحت الاحتلال الألماني أثناء الحرب، وفشلها ثانياً في الاحتفاظ بإمبراطوريتها بعد الحرب، كما حدث في الهند الصينية، أما بريطانيا فقد تصدرت في أعقاب الحرب، الصراع ضد الاتحاد السوفيتي، ولكنها لم تلبث أن عجزت عن تحمل أعباء الصراع اقتصادياً
ثم أشهرت إفلاسها في فبراير 1947، حيث أعلنت عجزها عن تحمل نفقات التزاماتها في أوروبا. ومن ثم أعلن الرئيس الأمريكي هاري ترومان، في الشهر التالي، استعداد الولايات المتحدة الأمريكية لتحمل هذه الالتزامات جزءاً من سياسة المحافظة على استعداد شعوب العالم الحر ضد التهديد الشيوعي. ومنذ ذلك الحين انتقلت المبادرة في الشؤون الغربية إلى يد الولايات المتحدة الأمريكية بصفة مطلقة، وأعلن جورج مارشال وزير الخارجية الأمريكية مشروعه الذي هدف إلى إنقاذ الاقتصاد الأوروبي من الانهيار.
وقد ساعد على صعود الولايات المتحدة الأمريكية إلى هذا المركز في قيادة العالم الرأسمالي، امتلاكها القوة النووية وحدها دون آية دولة رأسمالية أخرى. فقد وضعها هذا السلاح في موضع الحامي للعالم الرأسمالي من الخطر الشيوعي. وكان الخوف من الاتحاد السوفيتي يجتاح الولايات المتحدة الأمريكية، التي بنت سياستها في ذلك الحين على ما عرف باسم سياسة الاحتواء، التي أسهم في إعدادها جورج كينان أكبر الخبراء الأمريكيين في الشؤون السوفيتية في ذلك الوقت.
أما الاتحاد السوفيتي فقد بدأ نجمه يتصاعد قوة ونفوذاً وبصورة مطردة في سماء النظام العالمي، منذ نهاية الحرب الثانية، حيث أخذ يتربع خلال فترة الستينيات على قمة النظام العالمي ليصبح إحدى القوتين العظميين المنفردتين بالهيمنة على المجتمع الدولي ومقدراته حرباً أو سلماً.
نجحت النظم الشيوعية، خلال سنوات قوتها، في أن تدخل في تنافس مع الغرب، خاصة من الناحية العسكرية، وناصرت حركات التحرر، كما حدث في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، كما أنها أقلقت الغرب وأدت إلى هزيمته في فيتنام، وأصبحت لها قوة نووية تقف لتنافس الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي من خلال تكتل عسكري يتمثل في حلف وارسو. والواقع أن الاتحاد السوفيتي، كان يمثل حجر الزاوية في الحفاظ على التوازن الإستراتيجي الدولي، من خلال وقوفه مع دول العالم الثالث ومساندة قضايا التحرر في العالم.
تابع الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة
شغلت الحرب الباردة رجال السياسة لعشرات السنين، وذلك لما لها من تأثير في العلاقات الدولية، علاوة على إمكان تحولها إلى حرب مدمرة تقضي على جزء كبير من العالم بالفناء، فضلاً عن هذا فالحرب الباردة بما يصحبها من سباق التسلح وإنتاج الأسلحة الفتاكة ووسائل الوقاية، قد كبدت ميزانيات الدول نفقات باهظة، على حساب رفاهية الشعوب، علاوة على إعاقة برامج النمو في بلدان العالم الثالث التي كانت في حاجة ماسة إلى معونة الدول الكبرى.
وقد انعكست هذه الحرب، في سباق التسلح النووي، وفى الأحلاف العسكرية، حلف شمال الأطلسي، وحلف وارسو، والحرب الأهلية بالصين، وانتصار الجبهة الشيوعية، وقيام الصين الشعبية، وفي الحرب الكورية، وتدخل قوات الأمم المتحدة بناء على تحمس الولايات المتحدة الأمريكية للفكرة وتضحياتها بالرجال والعتاد لهذه الغاية للوقوف في وجه الشيوعية، ورأيناها أيضا في أزمة برلين
وفى الصراع بالهند الصينية، والصراع في فيتنام، وبالاضطرابات التي حدثت في أفريقيا بالكونغو، ونيجيريا، وأنجولا، وموزمبيق، وبالتنافس بلا هوادة في الشرق الأوسط بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وغير ذلك من نزاعات انتشرت في أرجاء المعمورة بين الكتلتين الشرقية والغربية.
وخلال الحرب الباردة بدأ نجم الاتحاد السوفيتي يتصاعد بصورة مطردة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى أخذ يتربع مع بداية حقبة الستينيات على قمة النظام الدولي ليصبح إحدى القوتين العظميين المنفردين بالهيمنة على المجتمع الدولي ومقدراته حرباً أو سلاماً. ومن أجل تحرك العملاقين على طريق الوفاق
فقد مرت العلاقات بينهما بالعديد من التحولات في مختلف القطاعات الإستراتيجية والسياسية والعقائدية والاقتصادية والتكنولوجية، وهي التحولات التي امتد تأثيرها على نسيج العلاقات الدولية ـ في ذلك الوقت ـ سواء ما تعلق منها بمضمون هذه العلاقات، أو الهيكل التركيبي لها، والتي تضمنت فترات المجابهات الخطرة بين الكتلتين، ثم انتقالها بفعل التفاعلات الديناميكية إلى مرحلة الوفاق.
وقد مرت هذه الفترة بعدة مراحل كالآتي:
أولاً: سياسات الحرب الباردة، مرحلة التوتر الحاد عام 1946 ـ 1954:
تميز مناخ السياسة الدولية، في هذه المرحلة، بالتوتر والشكوك، وعدم الثقة المتبادلة بين القوى والتكتلات الدولية الكبرى، وصاحب ذلك انبثاق الحرب الباردة في أكثر صورها تطرفاً من حيث العنف والحرج، وذلك بعد أن انهار بناء التحالف الذي ضم هذه المجموعة الواسعة من الدول ذات الأيديولوجيات النقيضة في صراعها المشترك ضد قوى الفاشية العدوانية في أوروبا
وأخذت تبرز تناقضاتها بشكل لم يعد يجدي معه تقليص ضغوطها أبعد مما سمحت به نتائج الحرب، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية قوة ديناميكية هائلة بطاقاتها الاقتصادية الكبيرة، وأسلحتها الذرية التي استطاعت بواسطتها أن تضع نهاية حاسمة للحرب، وبما أصبح لها من ثقل إستراتيجي مؤثر في توازن القوي العالمية الجديدة.
أما الاتحاد السوفيتي فقد استطاع أن يحقق هدفه الإستراتيجي الأول من الحرب، والمتمثل في تصفيته لخطر التوسع النازي القائم على حدوده، وبامتداد سيطرته العسكرية والسياسية والعقائدية إلى دول منطقة شرقي أوروبا، ونجاحه في أن يكتلها في حزام أمن عريض يدافع به عن كيانه ونفوذه ومصالحه. وقد أدى كل ذلك إلى إيجاد مجالات جديدة للاحتكاك والصراع الذي كاد أن يصل في مواقف عديدة إلى نقطة الانفجار.
وقد أدت المتغيرات السابقة إلى توتر العلاقات بين الكتلتين، في مواقفهما وسياساتهما، ومضاعفة حدة التوترات الدولية، ويتضح ذلك من الآتي:
1. ضغط المتغيرات الإستراتيجية على سياسات الكتلتين.
أ. بالنسبة للإستراتيجية الأمريكية:
قامت على انتهاج إستراتيجية عنيفة عُرفت دولياً “بإستراتيجية الاحتواء” التي تدرجت فيما بعد، إلى اعتناق إستراتيجية الانتقام الشامل على ضوء تقويمها للآثار الدولية لتنفيذ إستراتيجية الاحتواء لفترة تزيد على الخمس سنوات، كان الهدف المعلن منها، إحباط نزعة التوسع السوفيتية، من خلال تطويق الاتحاد السوفيتي، ودول شرقي أوروبا، بجدار من الأحلاف والقواعد العسكرية التي تحول دون نفاذ السوفيت عبر خط التقسيم الفاصل بين الكتلتين
التي يسيطر عليها الغرب، مع محاولة الضغط على النظام السوفيتي من خلال العزل والاحتواء، حتى ينهار، وتنهار معه بالتالي منطقة نفوذه الواسعة في شرقي أوروبا، ولتنفيذ ذلك الهدف بشقيه أقيم حلف شمال الأطلسي، وحلف جنوب شرقي آسيا، وحلف بغداد، وحلف المعاهدة المركزية فيما بعد. أما إستراتيجية الانتقام الشامل التي تعدّ امتداداً لإستراتيجية الاحتواء في صورة معدلة،
فقد بنيت في جوهرها على إنذار السوفيت بطريقة محددة وقاطعة، بتصميم الولايات المتحدة الأمريكية على استخدام أسلحتها النووية بصورة فورية وشاملة في الحالات التي يقع فيها اعتداء ضد الغرب في أي شكل وتحت أي تعليل. ويقترن هذا المفهوم بسياسات حافة الهاوية التي حاول وزير خارجية أمريكا الأسبق جون فوستر دالاس أن يطبقها ضد السوفيت.
ب. بالنسبة للإستراتيجية السوفيتية:
تركزت في محاولة تثبيت النفوذ السوفيتي في دول منطقة شرقي أوروبا، من خلال عقد سلسلة من مواثيق الدفاع المشترك، أو الأمن المتبادل بين الاتحاد السوفيتي وبين كل من هذه الدول، وقد أعطت هذه المواثيق السوفيت حق الوجود، بل السيطرة العسكرية المباشرة على هذه الدول، يضاف إلى ذلك حرص الاتحاد السوفيتي على إيجاد أنظمة شيوعية فيها، تدين بأيديولوجيته،
تحمل الولاء المطلق له. ويفسر ذلك سلسلة إجراءات التطهير التي نفذها ضد بعض القيادات الحاكمة في شرقي أوروبا، لكي يضمن ولاءها، ولكي يكتلها بعيدا عن تحزبات المصالح الوطنية أو الولاءات القومية في محور واحد يواجه به النظام الرأسمالي العالمي بمركز ثقله المتمثل في قوة أمريكا .وقد رجع الاتحاد السوفيتي عن أسلوب المحالفات الثنائية فيما بعد، مستبدلا إياها بحلف جماعي كبير هو حلف وارسو الذي أصبح أداة المواجهة السوفيتية الرئيسية ضد حلف شمال الأطلسي.
ج. ومن الأمور الأخرى التي يمكن ملاحظتها بوضوح في هذه المرحلة، انهماك القوتين الأعظم في تدعيم ترسانتهما من الأسلحة النووية ومحاولتهما تنويع وسائل الردع فيها، في الوقت الذي استطاعت فيه الكتلة السوفيتية أن تنشئ أكبر قوة برية ضاربة في العالم. وإذا كان التفوق التكنولوجي الأمريكي في قطاع الأسلحة الذرية وقاذفات القنابل الإستراتيجية واضحاً في تلك الفترة
إلا أن ذلك لم يمنع السوفيت من بذل كل ما في استطاعتهم لكي يدعموا من إمكانات مواجهتهم ضد الغرب، وكان هذا السباق في قطاع التسلح الذري بكل مخاطره وتكاليفه، سببا جوهريا آخر من أسباب تفاقم الصراع بين الكتلتين . وقد تمثل الاعتقاد السائد في مفاهيمهما في ذلك الوقت، في أن القوة السياسية والدبلوماسية كانت انعكاساً للقوة النووية لهذه القوي الكبرى.
هذا وقد ارتكز التوازن الإستراتيجي بين القوتين العظميين على مبدأ القدرة على التدمير بالضربة الأولى، ومؤداه أنه إذا بادرت إحدى هاتين القوتين في مهاجمة الأخرى بالأسلحة الذرية والهيدروجينية، فإن هذا الهجوم كان لابد أن ينتهي بتدمير عصب قوتها العسكرية والاقتصادية، ويشل من مقدرتها الثأرية.
وهذه الحقيقة الإستراتيجية المهمة، كانت من أقوى الأسباب الكامنة، وراء تخوف الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، في الحالات التي كان يتاح فيها لأي منهما قدر من التفوق في التسلح، بما يغذي فيه الميل نحو المبادأة بالهجوم. وقد ضاعف ذلك من عدم الثقة بين الطرفين، والتي انعكست بوضوح في مفاوضات نزع السلاح، وشحن جو العلاقة بينهما بالكثير من أسباب التوتر والخلاف.
2. ضغط المتغيرات المتعلقة بعمليات الاستقطاب الدولي على سياسات الحرب الباردة:
شهدت هذه المرحلة بداية عملية الاستقطاب الدولي في أعنف صورها، وترتب على هـذا الاستقطاب أن أصبح المجتمع الدولي مقسماً، تقريباً، في نطاق كتلتين توفرت لكل منهما إمكانات هائلة من القوة، وتعتنق الدول المنضمة لكل منها أيديولوجية واحدة كانت تمثل الأساس الذي يرتفع فوقه تصورها لطبيعة دورها إزاء التحديات التي تتعرض لها من الكتلة التي تتصارع معها. كما انتهجت كلا الكتلتين إستراتيجية دولية تحدد مضمونها وهدفها، من واقع المصالح المشتركة للدول التي تشارك في مسؤولية تنفيذها.
وقد قام تركيب هاتين القوتين على وجود قوة متفوقة في مركز التحكم والسيطرة، تتبعهما مجموعة من القوى أو الدول الأقل، وتتمتع هذه القوة المسيطرة بسلطة شبه مطلقة في تقرير كافة الأوضاع المتعلقة بهذه الإستراتيجية وتحديد أهدافها، بل أن الكتلتين في هذه المرحلة لم تخرجا في واقع الأمر عن كونهما أدوات تستخدمها كل منهما في إدارة صراعها وفرض تفوقها في مواجهة الأخرى.
ويلاحظ في هذه الفترة، أن الاتجاهات الحيادية في السياسة الدولية لم تكن قد ظهرت بعد، ومن هنا فإن عملية الاستقطاب الدولي الثنائي استمرت على قدم وساق، ومن ثم كان تصنيف الدول على أساس انحيازها لهذه الكتلة أو تلك، أي بمعيار تبعيتها لأي من الطرفين. وقد أدي ذلك الوضع إلي زيادة التوتر نتيجة تسابق الكتلتين نحو ضم الدول الأخرى إليها، مستخدمة في ذلك أساليب التهديد والترغيب.
3. ضغط المتغير الأيديولوجي:
لعل من أقوى الأسباب التي غذّت صراع القوتين العظميين، ووضعتهما في حالة من التأهب والمواجهة، ووصلت بسباق التسلح بينهما إلى درجة عالية من الخطورة، هو تعاظم دور الأيديولوجية في تعميق مجريات هذا الصراع، حتى لجأ الكثيرون إلى تصوير الحرب الباردة، على أنها كانت صراعا عقائديا بحتاً، وأن كل ما كان يحدث في الساحة الدولية لم يكن أكثر من رد فعل أو نتاج تلقائي لهذا الصراع العقائدي . بل إن هناك من كان ينظر إلى صراع الأيديولوجيات في هذه الفترة على أنه كان حرباً صليبية متعصبة من نوع جديد.
وقد شهدت هذه الفترة صراعا بين الماركسية والرأسمالية، وامتدت جاذبيتها إلى الكثيرين من الشعوب والمجتمعات، بل وأصبحت في عالم ما بعد الحرب بمثابة إحدى القوي الرئيسية الحاكمة في سلوك الدول.
كما أن هذه الأيديولوجيات أصبحت أداة الإستراتيجية غير المباشرة التي تنتهجها بعض القوي العظمي في المجتمع الدولي، وبخاصة الكتلة الشيوعية، كما تحولت الأيديولوجيات إلى وسيلة فعالة من وسائل حرب الدعايات الموجهة، وعمليات التشهير السياسي، والتحريض ضد أنظمة الحكم والتخريب الداخلي، والتأثير في اتجاهات الرأي العام.
4. الدعاية السوفيتية:
ارتكزت دعاية الشيوعية الدولية، في نطاق التخطيط والتوجيه السياسي السوفيتي على تصوير الصراع الذي كان يدور على الصعيد العالمي، على أنه كان صراعا بين قوى السلم وقوي الحرب، وبين قوي الخير وقوي الشر، بين نظام اقتصادي واجتماعي أكثر اتفاقاً وتلاؤماً مع مقتضيات التطور الإنساني الهادف، وهو النظام الاشتراكي، وبين نظام آخر يتصادم ومنطق التطور التاريخي، وهو نظام تسيره الاحتكارات ويتغذى على الحروب، ويستمد قوته من استغلال الأقلية للأغلبية. ومن هنا أطلقت الدول الشيوعية على نفسها “جبهة القوي الدولية المحبة للسلام”.
وقد صور السوفيت الكتلة الغربية بأنها؛ على وشك الانهيار تحت ضغط التناقضات الحادة التي تصطدم وتتفاعل في كيانها، على حد إدعاء الشيوعيين، وبفعل الاستنزاف الاقتصادي والصراع السياسي والعقائدي الذي عانت منه هذه الدول نتيجة للحرب.
ومن هنا، فقد عَّول السوفيت على الانتظار حتى تتحقق مثل هذه النتيجة المتوقعة، وعندها يمكن لسياساتهم أن تتأقلم بحسب ما سيسفر عنه الواقع الدولي الجديد. كما أن الأمم المتحدة أصبحت الساحة الرئيسة للحملات والمناورات الدعائية، التي كان يظن بالطبع أنها تخدم مخططات كل من الكتلتين إزاء الصراع الشامل الممتد الذي دار بينهما.
5. تأثير المتغير التكنولوجي:
أدي ضعف تأثير المتغير التكنولوجي إلى أوضاع الحرب الباردة وسياساتها، وإلى زيادة التصلب في سلوك الكتلتين، وأسهم في تعميق الهوة التي تفصل بين مواقفهما وسياساتهما.
ثانياً: السياسة الدولية في مرحلة الانتقال أو بداية الانكسار من عام 1955-1962
هناك العديد من المتغيرات الأساسية في الصورة العامة للحرب الباردة التي تمثلت في الآتي:
1. بداية التصاعد في تأثير المتغير التكنولوجي، وانعكاسه على ظروف الإستراتيجية الدولية:
بدأ تأثير المتغير التكنولوجي في التنامي بشكل واضح خلال هذه المرحلة، وقد حدثت هذه الطفرة نتيجة لاختراع القنابل الهيدروجينية، وغيرها من الأسلحة النووية المتطورة، يضاف إلى ذلك عنصر الوفرة في الإنتاج مقترناً بالجهود التكنولوجية المكثفة التي بذلت لتنويع ترسانة الأسلحة النووية من إستراتيجية وتكتيكية، لتلائم الأنماط المختلفة من الصراعات والمجابهات الدولية،
ثم جاء اختراع الصواريخ عابرة القارات حاملات الرؤوس النووية، ليدعم قدرات الحرب النووية ووسائل إداراتها، وفضلا عن ذلك كله، فإن التسلح النووي في مختلف قطاعاته، كان قد وصل مع نهاية هذه الفترة إلى ما اصطلح على تسميته بين خبراء الإستراتيجية الدولية، “بالتعادل النووي التقريبي” بين القوتين الأمريكية والسوفيتية. هذا وقد تحددت أبعاد التأثير الناتج في ظروف المتغير التكنولوجي في الآتي:
أ. بالنسبة للإستراتيجية الأمريكية: فقد أخذت تتحول من اعتناقها لمبدأ الانتقام الشامل، إلى تبني نظرية الحرب المحدودة، التي يمكن أن تستخدم فيها الأسلحة النووية التكتيكية أو الصغيرة.
وذلك تضييقا لرقعة الحرب النووية، والحيلولة دون تصاعدها إلى حرب نووية إستراتيجية عامة. وهو الاحتمال الذي كان يحتم التوصل إلى ضوابط فعالة على استخدام الأسلحة النووية، من حيث القوة التدميرية والنطاق الجغرافي والأهداف السياسية لحروب المواجهة النووية بين القوتين العظميين، عندما تصبح مثل هذه المواجهات أمراً لا سبيل إلى تجنبه.
ثم أخذ الاتجاه يتحول نحو اعتناق نظرية الاستجابة المرنة أو “الرد المرن” . وهى الإستراتيجية التي حاولت أن تصمم أنواعا محددة من الردود العسكرية، سواء تمت بالأسلحة النووية أو بالأسلحة التقليدية أو بكليهما على مختلف التحديات التي تواجهها القوة الأمريكية.
ب. أما بالنسبة للإستراتيجية السوفيتية: فقد أخذت هي الأخرى في التحول عن مبدأ حتمية الصراع بين النظامين الشيوعي والرأسمالي، إلى المبدأ الذي روّج له نيكيتا خروشوف، ودعا فيه إلى الإقرار بإمكانية التعايش السلمي بين الدول ذات الأنظمة السياسية والاجتماعية المختلفة، بل ذهب إلى حد التسليم بمشروعية تعدد الطرق نحو الاشتراكية.
ولم يكن هذا التحول في مضمون الإستراتيجية السوفيتية منذ منتصف الخمسينيات بالأمر العفوي، وإنما جاء على سبيل الاستجابة الواعية لحقائق العصر النووي بكل ضغوطه وتوتراته ومحاذيره، إذ لم يكن من المتصور منطقيا أن يظل السوفيت معتنقين لمبدأ حتمية الصراع، وواثقين من إمكانية النصر النهائي على الرأسمالية العالمية، في الوقت الذي كان قد ثبت فيه، بما لا يدع مجالا للشك، أن الحرب النووية إذا وقعت فستكون حرب تدمير متبادل ونهاية لجميع أطرافها دون تمييز بين نظم شيوعية وأخرى رأسمالية، ومن ثم كان هذا التحول أقرب إلى مسايرة ضغوط القوة النووية المتصاعدة.
2. بداية التقلص في ضغوط القطبية الثنائية:
تعرض هيكل النظام الدولي خلال هذه المرحلة والمرتكز على الثنائي القطبية، إلى العديد من الشروخ والتصدعات نتيجة للآتي:
أ. تعاظم إمكانات بعض الدول الداخلة في نطاق هذه التكتلات مثل السوق الأوربية المشتركة التي أخذت تؤكد على استقلالها في مواجهة النزعات التسلطية للولايات المتحدة الأمريكية.
ب. تمّرد الصين على زعامة الاتحاد السوفيتي للحركة الشيوعية العالمية، بعد إدانة جوزيف ستالين وأساليبه التسلطية من قبل الزعامة السوفيتية الجديدة في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي عام 1956.
ج. الشكوك التي ثارت بين الكتلتين حول قيمة وفعالية ضمانات الحماية النووية التي تقدمها القوتان العظميان لحلفائهما، وكانت أكثر الدول التي تأثرت بهذه الشكوك هي فرنسا والصين ومن ثم عارضت هاتان الدولتان سياسة حظر الانتشار النووي واندفعتا على تنفيذ برامجهما الوطنية لإنتاج الأسلحة النووية لتكون بديلاً لضمانات الحماية المشكوك فيها.
د. شهدت هذه المرحلة بداية التحول في العلاقة القائمة بين الأقطاب والتوابع من النمط التسلطي إلى النمط القائم على المشاركة.
هـ. ظهور العالم الأفرو ـ آسيوي قوة غير منحازة في السياسة الدولية، واتساع رقعة الأرض المحايدة.
3. التغير في أشكال الأنماط الدعائية التقليدية للكتلتين ومضامينها:
بدأت أنماط الدعاية التي جاءت بالمرحلة الأولي في التغير شكلاً ومضموناً عما كانت عليه لتصبح أكثر مسايرة وتعبيراً عن حقائق الوضع الدولي الجديد. وقد عملت الدعايات السوفيتية والغربية إلى التركيز على حقائق الوضع الدولي بدلا من اعتمادها على الشعارات والمثاليات المجردة.
فلم يكن من المنطقي مثلاً أن ينتهج الاتحاد السوفيتي إستراتيجية دولية تبني في أساسها على الدعوة إلى تطبيق مبدأ التعايش السلمي في علاقات الكتلتين، في الوقت الذي تستمر فيه الدعايات السوفيتية في حربها الدعائية ضد الدول الغربية الرأسمالية، فذلك أن حدث كان يخلق تناقضاً مصطنعاً بين ما يدعيه الاتحاد السوفيتي كسياسة رسمية له وبين ما تروج له أجهزته الدعائية.
4.التدهور في أهمية المتغيرات الأيديولوجية:
اكتسب الخط الأيديولوجي أو العقائدي للكتلتين، درجة كبيرة من المرونة التي ساعدت على كسر حدة التقلب القديم في أوضاع المجابهة بينهما، ولم تعد الأيديولوجية قوة ضاغطة في اتجاه لا يخدم السلم والاستقرار في العالم.
ثالثاً: سياسات الحرب الباردة في مرحلة الانفراج عام 1963-1968.
في هذه المرحلة، بدأت الحرب الباردة تدخل طوراً جديداً ومهماً من أطوارها التاريخية، تميزت بحدوث انفراج سياسي ضخم نسبيا في العلاقات المتبادلة للقوتين العظميين من جهة، وفي علاقات شطري القارة الأوروبية بعضهما ببعض من جهة أخرى. وقد اقترن بهذا الانفراج بروز محاور جديدة للحركة في السياسة الدولية، وهي المحاور التي عاقت ظروف الحرب الباردة في السابق دون استخدامها بطريقة تستطيع أن تدعم من المصالح المشتركة للدول، وتضيق من فجوة عدم الثقة بينها وتساعدها على تنفيذ السياسات والتدابير الضرورية لصيانة السلم الدولي.
وفي الحقيقة إن الانفراج في العلاقات الدولية على هذا النحو، قد تحقق بعد التأثيرات الإيجابية المتزايدة لعدد من المتغيرات، وفيما يلي عرض للكيفية التي تم بها هذا التأثير:
1. التعاظم المستمر في ضغط المتغيرات التكنولوجية على الإستراتيجية الدولية.
أخذ الضغط المتولد عن التطور في ظروف المتغيرات التكنولوجية العسكرية يتضاعف بشكل خطير، ومن ذلك مثلاً؛ أن الخصائص التكنيكية للصواريخ النووية الهجومية كانت قد تحسنت بدرجة ضاعفت كثيراً من مقدرتها التدميرية، يضاف إلى ذلك دخول القوتين العظميين مرحلة إنتاج الصواريخ الهجومية ذات الرؤوس النووية المتعددة ـ ميرف Merv ـ وهو ما كان يحقق إضافة ضخمة جديدة إلى مقدرات الحرب النووية
وقد اقترن بذلك عمل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي على تنويع وسائل الردع المتاحة ونشرها بما يضمن تقليل احتمالات الدمار الذي يمكن أن تتعرضا له في حالة وقوع حرب نووية إستراتيجية، وهو بالتالي ما كان يزيد من فعالية هذا الردع ويرفع من درجة المخاطرة في حالة تفكير أحد الطرفين في القيام بحرب نووية هجومية ضد الطرف الآخر.
وقد شهدت هذه المرحلة كذلك، دخول الصين الشيوعية لحلبة التسليح النووي، وهو ما كان يهدد بحدوث خلل في أوضاع التوازن الإستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، كما شكل تحدياً خطيراً لأمنهما القومي ومصالحهما الإستراتيجية في فترة السبعينيات، وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية في التفكير جدياً في إنشاء شبكة الصواريخ الدفاعية التي أثارت جدلاً سياسياً وإستراتيجياً عنيفاً، بسبب تكاليف هذا المشروع المادية الخيالية
علاوة على أنه يخلق ردود أفعال عنيفة في سباق التسلح الإستراتيجي بين القوتين العظميين في المجالين الدفاعي والهجومي معا، مهدداً بذلك أوضاع الاستقرار الإستراتيجي التي سادت بينهما، وهذه النقطة بالذات، كانت من بين أهم دوافع التقارب الأمريكي ـ السوفيتي حول ضرورة التوصل إلى ضوابط محددة وفعالة على عمليات التسلح الإستراتيجي.
2. اطراد التفكك في نظام القطبية الثنائية:
تزايدت النزاعات الاستقلالية وتعددت مظاهر حرية الحركة داخل الكتلتين التي كان من بينها على سبيل المثال:
أ. انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية المشتركة لحلف شمال الأطلسي عام 1966.
ب. اتجاه رومانيا نحو الاستقلال في سياستها الخارجية عن السياسة السوفيتية، وتأكيدها على أن التكتلات والأحلاف العسكرية أصبحت فاقدة لروح العصر وأنها لم تعد تتفق واعتبارات السيادة القومية.
ج. تطبيق ألمانيا الغربية لسياسات الانفتاح على الشرق، من أجل إنهاء المواجهة بين شطري أوروبا وإيجاد مناطق أكبر للاتفاق مع الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، وقد استجابت الدبلوماسية السوفيتية بسرعة لسياسات ألمانيا الغربية في الانفتاح على الشرق.
رابعاً: السياسة الدولية في مرحلة الوفاق الدولي 1969-1979م
تميزت هذه المرحلة بحل المشكلات بين القطبين عن طريق التفاوض والحدّ من الأسلحة النووية، وبداية التعاون التكنولوجي والاقتصادي بين المعسكرين، والتوصل المشترك إلى أوضاع مصلحية توازنية في البؤر الساخنة من العالم، وفي المجال الإستراتيجي أصبح يحكم القطبين قواعد توازن الردع النووي بعد توازن الرعب النووي.
والواقع أن الوفاق، مثل في منهجه قمة الثورة على سياسات الحرب الباردة، حيث هيأ مجالات واسعة للتعاون السياسي والاقتصادي والفني والتكنولوجي والثقافي بين القوتين العظميين.
وترجع أسباب هذا الوفاق لعدة عوامل منها على سبيل المثال:
1. الإدراك الكامل أن الاستمرار في سباق التسلح بينهما لزيادة فاعلية الردع، أدّى إلى تفجّر صراعات دولية ساخنة في مناطق مختلفة من العالم.
2. وجود أوضاع من التخلخل والتفكك داخل كلا الكتلتين، مثل الصراع الصيني – السوفيتي في الكتلة الشيوعية والنزعات الانقسامية أو الاستقلالية حول السياسات والمصالح القومية في مجموعة دول شرقي أوروبا .
3. وجود حزام عريض من الدول غير المنحازة في السياسة الدولية، أو ما يطلق عليه “العالم الثالث” التي لا تدخل دوله في إطار السيطرة المباشرة لأي منهما، علاوة على الانقسامات في اتجاهات الأحزاب الشيوعية في العالم.
4. رغبة الاتحاد السوفيتي في توفير مناخ ملائم لعمليات التطور والتنمية الداخلية وبخاصة في النواحي الاقتصادية والإدارية.
المتغيرات التي أدّت إلى الوفاق الدّولي:
1. بدأ اقتناع القوتين العظميين، بأن نظم الأسلحة الإستراتيجية، لم تعد تضيف فرصاً جديدة للشعور بالأمن والحماية لأي منهما، وأخذت تتردد بعض الحجج بضرورة تقييد سباق التسلح لهذه الأنواع من الأسلحة وعلى سبيل المثال:
أ. أنه لا يمكن التخيل أن تشن أي قوة منهما هجوماً نووياً ضد الأخرى، دون أن يتوقع أن يكون رد الفعل ضده أعنف بكثير، وهذا كله ما يجعل من فكرة السباق في مجال الأسلحة الإستراتيجية أمراً غير مرغوب فيه.
ب. أن النفقات المالية الهائلة التي تتكبدها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي في إنتاج أسلحة إستراتيجية، لا تعطي أي قيمة عسكرية توازي هذا الإنفاق، إنما تستخدم لأغراض نفسية بالدرجة الأولى.
ج . أنه من الأفضل تقييد إنتاج هذه الأسلحة في ظروف التوازن الإستراتيجي بين القوتين، بدلاً من ترك سباق الأسلحة الإستراتيجية بينهما، يتصاعد أبعد مما وصل إليه.
وتأثراً بجانب كبير من وجهات النظر تلك، بدأت مباحثات الحد من الأسلحة الإستراتيجية بين البلدين في نوفمبر عام 1969، وانتهت المرحلة الأولى بتوقيع معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية بموسكو في مايو 1972.
2. في مارس 1969 أصدر زعماء دول حلف وارسو في اجتماعهم ببودابست، إعلاناً بعنوان:
“رسالة من دول حلف وارسو إلى كل الدولة الأوروبية”، واشتمل الإعلان على ثلاثة مقترحات لدعم أواصر التقارب الأوروبي هي:
أ. تقوية علاقات التعاون السياسي والاقتصادي بين الدول الأوروبية جميعاً وبلا استثناء.
ب. الاعتراف بالأمر الواقع في أوروبا، مع البحث عن سبل لحل المشكلة الألمانية.
ج. الدعوة إلى عقد مؤتمر عام للأمن الأوروبي.
ثم كان هناك الاجتماع الآخر الذي عقده رؤساء حكومات ووزراء خارجية دول حلف وارسو في أغسطس 1970، عقب التوقيع على المعاهد السوفيتية – الألمانية، وصدور بيان يعرب عن ارتياح دول الحلف البالغ لتوقيع هذه المعاهدة.
وقد وجدت دعوات حلف وارسو تجاوباً حقيقياً من الدول الغربية، وهو التجاوب الذي أدى فعلاً إلى انعقاد مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي عام 1972 بحضور أكثر من ثلاثين دولة أوروبية، وباشتراك الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.
خامساً: مرحلة التشدد الأمريكي “الحرب الباردة الثانية” 1979-1985:
امتدت هذه المرحلة من أواخر السبعينيات وحتى منتصف الثمانينات، وتميزت هذه المرحلة بمحاولة كل قطب التفوق في ميادين الأسلحة الإستراتيجية لإحداث خلل في توازن الردع النووي، وتعدى السباق مجال الصواريخ بأنواعها إلى مجال الفضاء.
والواقع أن الطفرة التي حققتها الولايات المتحدة الأمريكية في مجال تعزيز مكاسبها الإستراتيجية في الشرق الأوسط، تعرضت لانتكاسة هائلة بفعل حدثين جديدين، فقد نشبت الثورة في إيران وتحرك الاتحاد السوفيتي لاحتلال أفغانستان عام 1979، وتم هذا كله في بضعة شهور، وأصبح واضحاً أن الولايات المتحدة الأمريكية أخذت تفقد زمام السيطرة على حركة الأحداث في تلك المنطقة، ومن هنا بدأت تعيد حساباتها، وسط قناعة تامة في تغير ميزان القوة في العالم لصالح الاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى تزايد التدخل السوفيتي في بعض المناطق الإستراتيجية المهمة من العالم، مثلما حدث في جنوب غربي آسيا
ومن ثم كان التشدد الأمريكي تجاه علاقته مع الاتحاد السوفيتي، ومثال ذلك عدم التصديق على اتفاقية سولت-2 Salt-2للحد من الأسلحة الذرية، كما وضعت القيود في علاقاتهما الاقتصادية ومقاطعة الدورة الأولمبية في موسكو وتشكيل قوة للتدخل السريع، لسرعة تدخل القوات الأمريكية في مناطق الصراع من العالم في: آسيا – الشرق الأوسط – مناطق أخرى، وكذلك السعي نحو إيجاد قواعد عسكرية لها في مناطق عديدة من العالم، وتزايد اهتمامها بالتركيز على تطوير قوات حلف شمال الأطلسي.
وكان الرئيس الأمريكي رونالد ريجان ووزير خارجيته ألكسندر هيج ينظران إلى سياسة الوفاق على أنها سياسة الاتجاه الواحد في تقديم التنازلات للكتلة السوفيتية، وهي السياسة التي أدت إلى إصابة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في أوروبا الغربية بالشلل. وفي ضوء هذا التصور للموقف الدولي من زاوية العلاقة الإستراتيجية مع الاتحاد السوفيتي، كانت قناعة إدارة الرئيس رونالد ريجان بأن سياسة حرية الحركة التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنتهجها تجاه دول العالم الثالث، لم يعد ثمة معنى للإصرار عليها أو المضي فيها، وإنما كان عليها أن تختفي لتحل محلها سياسة جديدة هدفها ردع السوفيت من استغلال الخلافات الداخلية في هذه الدول، سواء في الشرق الأوسط أو في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وغيرها.
وتأسيساً على الاعتبارات السابقة، فقد أعلنت حكومة الرئيس ريجان عن تبنيها لمبدأ الإجماع الإستراتيجي، الذي يرتكز في تأسيسه على مجموعة متكاملة من السياسات التي تهدف إلى عقد اتفاق بين الدول المعتدلة الموالية للغرب في منطقتي الشرق الأوسط وجنوب غربي آسيا لتحييد تهديدات القوة السوفيتية، وفي الوقت نفسه إقامة حزام أمن إقليمي في وجه محاولات التوسع السوفيتي
كما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بنشر الأسلحة النووية في أوروبا، خاصة الصواريخ متوسطة المدى، إضافة إلى دعم قوات حلف شمال الأطلسي، وكذلك اتجاهها نحو اتباع سياسة التدخل في مناطق عديدة من دول العالم، مثل التدخل العسكري في جرينادا في أمريكا الوسطى، ومحاربة أي توسع شيوعي جديد.
سادساً: مرحلة انحسار المد السوفيتي مع تولى ميخائيل جورباتشوف 1985–1991:
عندما تولى الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف مقاليد السلطة في الاتحاد السوفيتي وانتهج سياسة البريسترويكا والجلاسنوست[3]، واتجاهه لإحداث تقارب بين الفكر السوفيتي من ناحية والفكر الغربي من ناحية أخرى، كان ذلك التوجه مبنياً على أساس أن هناك عالماً واحداً يواجه تحديات مشتركة، ومن لا يعي ذلك فمصيره الفناء.
واتضحت الممارسات السوفيتية الجديدة في عدة صور منها على سبيل المثال:
1. نزع جيل كامل من الصواريخ متوسطة المدى من أوروبا الشرقية.
2. ضرورة تسوية الصراعات الإقليمية، ومنها الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بصورة أو بأخرى، ولكنه لم يحدد كيفية تحقيق هذه التسوية، نتيجة لأن فكرة توازن المصالح التي تمت على أساسها التسوية في الفكر السوفيتي، كانت غامضة إلى حد كبير.
3. ضعف الدور السوفيتي نتيجة انغماسه في مشكلاته الداخلية ومشكلات دول حلف وارسو.
الإستراتيجية السوفيتية في مواجهة الإستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط .
كان حلف جنوب شرق آسيا وحلف بغداد أقل نجاحاً في تحجيم القوى الشيوعية، بل أدى إلى توجيه اهتمام الاتحاد السوفيتي تجاه منطقة الشرق الأوسط، فوجهت سياستها تجاه دول المنطقة من خلال حملة دعائية إلى الوجود البريطاني بالمنطقة، واستغل الدين في محاولة لجمع الجاليات الأرثوذكسية والأرمنية في جانبه.
غير أن هذه السياسة لم تنجح، فقد كانت من نتائجها دخول الولايات المتحدة الأمريكية إلى المنطقة بقوة، وإثارة عداء الحكومات العربية ومخاوف البورجوازية العربية ذات الاتجاه القومي، وتحويل أجهزة الأمن بكاملها ضد الأحزاب الشيوعية سواء في العراق أو إيران أو مصر.
وكان واضحاً أن التفكير السوفيتي في المنطقة بحاجة إلى تقويم عام، لكن تأخر ذلك إلى أوائل الخمسينيات، فقد تلاشى التقسيم القديم الذي قسمت الحرب الباردة العالم بموجبه إلى معسكرين متناقضين اشتراكي ورأسمالي، فقد خططت الهند ودول أسيوية عديدة سياستها نحو طريق ثالث بين المعسكرين المتحاربين، وبدأ الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه يخرجون من عزلتهم الدولية بجس نبض الدول التي لم تشترك في الحرب الباردة
من خلال تفحص دور البورجوازية الوطنية في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، وقد أدى هذا النهج من التفكير دوراً متزايداً خلال المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفيتي في يوليه 1952 حين أعلن جيورجي مالينكوف حق الشعوب في اختيار أيديولوجيتها الخاصة، ووجه نداء للتعاطف مع الحكومات التي تتبع سياسة سلمية مستقلة.
وعلى كل، توالت الحوادث لمصلحة الاتحاد السوفيتي، فالبلاد التي استقلت حديثاً في آسيا والشرق الأوسط كانت شديدة الثقة بنفسها، ولذلك اصطدمت بمستشاريها الغربيين السابقين، وكان من المهم لموسكو أن تتفق وتنسجم مع هذه العاطفة الجديدة الحيوية المعادية للاستعمار حتى لو كانت غير شيوعية.
ففي الشرق الأوسط، أخفق الغرب في أن يجعل من نفسه حليفاً للعرب، بسبب عدم ثقتهم في قوى الاستعمار القديم، ومن ثم عدم قبوله حليفاً لهم ضد التهديد العسكري السوفيتي. بل واتهم العرب الدول الغربية ببناء دولة معادية لهم في المنطقة، تجمع شتات يهود العالم، هي إسرائيل. إضافة إلى استمرار وجودها العسكري والسياسي في أجزاء عديدة من العالم العربي، وهكذا بدا للعديد من الدول العربية أن الغرب هو العقبة الرئيسة ضد استقلالهم ووحدتهم
ورأوا أن حلفاً دفاعياً ضد الاتحاد السوفيتي ـ طبقاً للرؤية الغربية ـ سوف يبعدهم عن معركتهم الأساسية ضد إسرائيل، ويعيد إليهم الاستعمار بشكل جديد ومُقنَّع، وتحت ضغط من الغرب بالانضمام للحلف، تراجعوا إلى فكرة الحياد.
ورأى قادة الاتحاد السوفيتي أن حياد العرب كان كافياً لإحباط الخطط الدفاعية الغربية، ولم يكن السوفيت بحاجة إلا إلى خطوة صغيرة من جانبهم كي يرفعوا قادة البورجوازية الوطنية العربية إلى مركز حلفاء مرموقين في معسكر النضال ضد الإمبريالية. وهكذا كان الطريق ممهداً لتقارب العرب مع الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، فمهدت لعلاقاتها بحملات إعلامية واسعة وإمدادات دفاعية ودعم سياسي ومساعدات اقتصادية.
وكانت مصر في طليعة الدول التي استفادت من السياسة الجديدة للاتحاد السوفيتي، من خلال صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955، ثم تلتها سورية بعد ذلك، حيث استرعت اهتمام السوفيت منذ سقوط الحكومة السورية برئاسة أديب الشيشكلي في أوائل عام 1954[5]، فوقف بجانبها في أزمة حلف بغداد في فبراير عام 1955، ثم تعاقد معها على العديد من الصفقات، حيث وصلت قيمة مشتريات سورية من الأسلحة السوفيتية خلال الفترة من عام1954 حتى 1957 إلى مائة مليون جنيه إسترليني.
وكان أكبر المكاسب التي حققها الاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط، هو الوقوف بجانب مصر في العدوان الثلاثي عام 1956، وإصدار الإنذار السوفيتي إلى إنجلترا وفرنسا، وقد كان لهذا الموقف السوفيتي أثره الكبير في تزايد التيار المؤيد له، وبدأت الأحزاب الشيوعية تنشط وتزدهر في البلدان العربية. وهكذا، بينما فشلت السياسة الأمريكية في ملء الفراغ بمنطقة الشرق الأوسط، حقق الاتحاد السوفيتي مكاسب كبرى بالمنطقة.
واتجه الاتحاد السوفيتي ناحية سورية، خاصة بعد ظهور الحزب الشيوعي بقيادة خالد بكداش بوصفه إحدى القوى المؤثرة في الساحة السورية، ولكن كانت الوحدة التي تمت بين مصر وسورية عام 1958 ضربه للمخطط السوفيتي في المنطقة حيث منعت سورية من الوقوع في الفلك الشيوعي، ومن ثم بدأ النزاع بين الرئيس جمال عبدالناصر والاتحاد السوفيتي، حتى حدوث الانفصال في عام 1961.
وفي أعقاب حرب يونيه 1967، حقق الاتحاد السوفيتي مكاسب كبيرة من خلال زيادة السيطرة على مصر وسورية وإدخالهما ضمن مناطق النفوذ السوفيتي، مستفيداً من روح العداء للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد الحرب، كما تمكن الاتحاد السوفيتي من السيطرة على جنوب اليمن.
تدهور قوة الاتحاد السوفيتي وأسباب الانهيار
خلال السبعينيات، تمكن الاتحاد السوفيتي من تحقيق التوازن العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية، وانتصرت حركات التحرر والاشتراكية التي ساندها الاتحاد السوفيتي ضد الولايات المتحدة الأمريكية في جنوب آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء وأحدث التدخل العسكري السوفيتي في أفغانستان تطوراً نوعياً جديداً للسلوك السوفيتي في الحرب الباردة، بيد أنه ما كاد ينتهي عقد السبعينيات
حتى قادت إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان تصعيداً غير مسبوق للحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي، استهدف وأد الاشتراكية ذاتها، وحشد القدرات الشاملة، الأمريكية والغربية، لتحقيق هذا الهدف، من خلال إجبار الاتحاد السوفيتي على دخول سباق جديد للتسلح، يقوده إلى الانهيار والاستسلام.
وفي بداية الثمانينيات قاد يوري أندروبوف، خط التشدد الأيديولوجي العسكري في مواجهة ما اسماه “نزعة الهيمنة الأمريكية على العالم، والتصعيد الأمريكي لسباق التسلح وتحول صراع الأفكار إلى صراع عسكري، في محاولة لتقويض التوازن العسكري الإستراتيجي القائم.
بيد أن وصول اندروبوف إلى زعامة الحزب والدولة في الاتحاد السوفيتي سجَّل في الوقت ذاته بداية ثورة الجلاسنوست التي أطلق لها العنان خليفته ميخائيل جورباتشوف. ولعل أخطر ما أتت به ثورة المصارحة أو المكاشفة، هو النقد الذاتي الذي كشف عن أسباب تردي قوة الدولة السوفيتية. وإذا كان يوري أندروبوف قد واصل خط التشدد في إدارة الصراع السوفيتي ـ الأمريكي، مستنداً إلى قبول تحدي سباق التسلح
فإن خط المهادنة الذي تبناه ميخائيل جورباتشوف انطلق من اليقين باستحالة مواصلة دور القوة العظمى في الحرب الباردة بالاستناد إلى القوة العسكرية وحدها، خاصة مع تدهور القدرة الاقتصادية السوفيتية. ومع إقدام ميخائيل جورباتشوف على تقديم التنازلات العسكرية والسياسية من جانب واحد، ويؤكد انهيار القوة العظمى السوفيتية. وإذا كان يوري اندروبوف قد طالب بالتروي في التغيير الذي أراده في إطار النظام ذاته، فإن جورباتشوف قد فجر الثورة التي قادت إلى تفكيك البناء الإمبراطوري وانهيار النظام الشيوعي، بإضعاف التلاحم الشمولي.
وطبقاً للأدبيات السوفيتية فإن مفهوم القوة الشاملة للدولة كان يعني أنها تشمل الجوانب التالية: القدرة الجيوبوليتيكية، والموارد الطبيعية، والقدرة الاقتصادية، وميزان التجارة والمدفوعات، والقوة العسكرية، والسكان، والعوامل المعنوية والسياسية، ونوعية الدبلوماسية، ونوعية إدارة البلاد، ومستوى التقدم العلمي والتكنولوجي، ومعدلات التجديد والتحديث.
مؤشرات ضعف الدولة الاتحادية:
رغم امتلاك الاتحاد السوفيتي السابق إحدى أعظم ترسانتين للأسلحة التقليدية، فضلاً عن الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، فإن احتفاظه بالتفوق في مجال القوة العسكرية بدا مستحيلاً، بالنظر إلى تكاليف ومخاطر هذا التوجه، والأهم هو تدهور القدرة الاقتصادية السوفيتية نتيجة عجز آليات اقتصاد الأوامر عن توفير الأساليب التكنولوجية والتنظيمية والإدارية الحديثة، التي تؤمن تسريع التنمية ورفع الإنتاجية.
وقد تفاقم مأزق الاقتصاد السوفيتي بسبب الحصار التكنولوجي، واستخدام سلاح الغذاء، وتصعيد سباق التسلح، من جانب الدول الغربية. هذا بالإضافة إلى تخصيص الاتحاد السوفيتي لموارده العلمية والتكنولوجية والمالية والبشرية وغيرها للأغراض العسكرية على حساب حاجات الاقتصاد، وهو ما أدى إلى تدهور القدرة الاقتصادية النسبية للاتحاد السوفيتي على الصعيد العالمي. وقد انعكس هذا في أن حصة الآلات والمعدات في إجمالي الصادرات إلى الدول الصناعية لم تتعد نحو 2%، وأن المواد الأولية ونصف المصنعة مثلت أكثر من 70% من صادراته إلى العالم في منتصف الثمانينيات.
وكما أوضح يوري أندروبوف، فإنه مع ثورة الاتصالات العالمية، أضحى الاتحاد السوفيتي، عاجزاً عن إخفاء حقيقة تدني مستويات الرفاهية ونوعية الحياة لسكانه مقارنة بالدول الصناعية الرأسمالية. ومع الجلاسنوست أدى البعث القومي إلى تفكك ما يسمى بالأمة السوفيتية، وتدهورت هيبة الدولة الشمولية، وتفكك الجهازان السياسي والأمني للدولة، أضف إلى هذا، تراجع النفوذ السوفيتي السيادي والأيديولوجي عالمياً
نتيجة تراجع مساندته لقضايا الجنوب وخاصة مع توجهه على إنهاء الحرب الباردة، ودفع في ذات الاتجاه، عدم قدرة الاتحاد السوفيتي على تحمل تكاليف مواصلة الثورة العلمية وتخليه عن أوهام هزيمة الإمبريالية وانتصار الشيوعية، وعجزه عن رفع مستويات الرفاهية الجماهيرية، وتورطه في حرب أفغانستان التي أدت إلى تقويض مصداقية الاتحاد السوفيتي لدى الرأي العام العالمي.
تحول الأيديولوجية من رسالة تحرير إلى رمز للكبت:
من الواضح أن الأيديولوجية التي قام عليها النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، قد تحولت إلى مؤسسات تنسب لنفسها صفة تجسيد الأيديولوجية، بينما أصبحت هذه المؤسسات في نظر الجماهير، مجرد بناء مؤسسي ينطوي على قدر كبير من الكبت، ولم تعد لها جاذبية، ومصدر ذلك الادعاء أن كثيراً مما تتطلع إليه الجماهير يعدّ انحرافاً عن المبدأ الأيديولوجي السليم
وتعبيراً عن تطلعات طبقية تتعارض مع الموقف البروليتاري الصحيح، ومع المسلك الذي يقضى في النهاية إلى المستقبل المنشود مستقبل الاشتراكية والشيوعية. وفي الوقت نفسه تفشي الفساد نتيجة هذا الكبت، ونشأت طبقة جديدة، هي طبقة المنتفعين بالمؤسسات الاشتراكية.
فقد كان واضحاً أن المؤسسات الوحيدة التي استمرت تحرص على وحدة كيان الاتحاد السوفيتي، هي الحزب والمخابرات والجيش فقط، وكلها مؤسسات منظور لها على أنها أدوات كبت، بينما تعددت صور التفكك لأسباب قومية ودينية. ومن ثم فإن مؤشر عنصر التماسك الذي كان من المفترض أن يستمد كيانه وحيويته من الأيديولوجية، لم يعد قائماً وأن هذا التمسك يتحقق أساساً في صور مؤسسات، بما تملكه من قدرات كبت، كما أن الجيش والمخابرات أصبحت تطرح على قدم المساواة مع الحزب وتباشر الوظائف نفسها أدوات قمع صريحة.
وقد ترتب على غياب الأيديولوجية القائمة على البعد الطبقي انتعاش لأيديولوجيات أخرى بديلة، مثل الأيديولوجية الدينية، والأيديولوجية القومية والأيديولوجية العرقية، وكل هذه عوامل تفكيك، بدلاً من أن تكون عوامل تماسك وبناء، إذ إن جميع الذين ينسبون أنفسهم إلى دين معين أو إلى قومية معينة على نطاق المجتمع بأسره إنما يشكلون مواجهة للذين ينتسبون إلى دين آخر أو قومية أخرى، وهذا معناه تقسيم المجتمع رأسياً.
وهكذا، فعندما نتحدث عن التقسيم الأساسي، أي التقسيم الأيديولوجي الطبقي، فإننا نعنى به كتلة رئيسية في المجتمع، يشكل كل المنتسبين إليها وحدة كتلة الطبقة العاملة ومعها مجموع الطبقات الكادحة في المجتمع.. أنها كتلة اجتماعية يُفترض فيها التجانس، بغض النظر عن اختلاف قومية المشكلين لها، واختلاف أصولهم الدينية والعرقية، وإن وجد لهم أعداء، فهم أعداء ينبثقون من صفوف هذه المجتمعات جميعاً، وهم قابلون للعزل.
ومع التحول الذي حدث في الاتحاد السوفيتي منذ عهد ميخائيل جورباتشوف، كان هناك احتمالان نظريّيان لما يمكن أن تؤدي إليه هذه التحولات، الاحتمال الأول: أن النظام الاشتراكي الذي أنجز في العقد الثاني من القرن العشرين، أصبح مآله السقوط والانهيار من الداخل، إن أجلاً أو عاجلاً، لأسباب موضوعية تتعلق بطريقة إقامته أصلاً، والاحتمال الآخر أن يبرز هناك وعي ذاتي بأن عملية السقوط واردة لا محالة، وأنه ينبغي بالتالي التصدي لهذه العملية قبل حدوثها، تجنباً لما هو أسوأ، وبمعنى آخر ترويض عملية السقوط ومحاولة السيطرة عليها، وعندما أطلق ميخائيل جورباتشوف عملية البريسترويكا، وعندما بدأ يمارس التغيير بدأ يدرك أن الخلل بدأ يتجاوز كل التكهنات، وأن القضية لم تعد قضية تصحيح، بقدر ما أصبحت قضية سيطرة على عملية أفلتت من كل سيطرة.
فشل عملية الإصلاح:
كان هناك السؤال الذي شغل الكثير من المشتغلين بالسياسة، وهو؛ لماذا فشلت إدارة ميخائيل جورباتشوف في الانتقال إلى طراز جديد متحرر من تشوهات المجتمع السوفيتي القديم وأمراضه؟. وسوف نوضح فيما يلي تحليلاً للدراسات الأكاديمية حول فشل الإدارة الجورباتشوفية للانتقال السلمي، وبالتالي حدوث الانهيار للاتحاد السوفيتي.
1. نظرية الإحباط الذاتي للإصلاح المتأخر:
ربما تكون أكثر النظريات شمولاً وعمومية هي أن تجربة ميخائيل جورباتشوف الإصلاحية جاءت متأخرة جداً، بحيث لم تعد مجدية في تحقيق مهمة إنقاذ النظام وإصلاحه من داخله وعلى نحو سلمي، وبإيجاز شديد، فإن النظام السوفيتي القديم، اتسم بالركود الممتد والعجز عن التكيف مع المتغيرات الداخلية والخارجية على نحو منهجي، مما أدي إلى تكدس ركام هائل من المشكلات والتناقضات المستفحلة في هياكل المجتمع والدولة لفترة طويلة جداً من الزمن، وبمجرد التزام جورباتشوف بعدم مزاولة العنف لقمع هذه التناقضات، ظهرت الفجوة الكبيرة بين حجم المشكلات المتراكمة والقدرة المحدودة للنظام القديم، حتى لو كان قد تم إصلاحه جزئياً وبسرعة، على مغالبة هذه المشكلات وحلها.
وبمجرد أن رُفع غطاء العنف الشمولي انفجرت التناقضات السياسية والاجتماعية بقوة أكبر من القدرة المتاحة على السيطرة عليها، ولم يتمكن جورباتشوف بالتالي من تحقيق إعادة البناء في ظل الجلاسنوست؛ لأنه لم تتوفر لديه الوسائل الضرورية للسيطرة على الخريطة الجديدة للقوى السياسية والاقتصادية.
2. نظرية عدم توازن مدرسة جورباتشوف في الإصلاح:
يبرز هنا تساؤل مهم وهو لماذا فشلت إستراتيجية جورباتشوف في نقل الموارد المادية والمعنوية من النطاق الدفاعي والخارجي إلى النطاق الإنمائي والداخلي بالرغم مما حدث بالفعل من تحرير لجانب كبير من الموارد التي أنفقت على الدفاع والالتزامات الخارجية للاتحاد السوفيتي بوصفه دولة عظمي.
وهناك نظريات حاولت الرد على هذا التساؤل وغيره. وواقع الأمر أن إستراتيجية جورباتشوف للانتقال قد اتسمت بعدم التوازن الداخلي، حيث ركزت على الإصلاح السياسي وأهملت الإصلاح الاقتصادي. كما أنها تورطت في نمط من الإصلاحات السياسية كان ضاراً بالإصلاحات الاقتصادية.
وقد ألحق هذا الإصلاح السياسي ضرراً شديداً بقدرات الدولة الوظيفية والاقتصادية قبل أن يتمكن جورباتشوف من إيجاد آليات جديدة للإدارة الاقتصادية الكفء والقائمة على قدرات المجتمعين المدني والاقتصادي المستقلين عن الدولة، أي آليات السوق، وبذلك قذف بالاقتصاد العملاق للاتحاد السوفيتي إلى فراغ إدارة جعل الفوضى تتمكن منه تماماً، الأمر الذي أسفر بدوره عن انهيار اقتصادي لا يتفق مع القدرات والإمكانات والموارد التي تتمتع بها البلاد، كما كان السبب الرئيس وراء التفكك والانحسار لإمكانية الرقابة على التطور السياسي العام للبلاد.
3. نظرية استحالة إصلاح نظام إمبراطوري شمولي:
هناك نظرية غربية، تقول باستحالة إصلاح دولة شمولية إمبراطورية من النمط السوفيتي القديم، والمآل الوحيد لمثل هذا النمط من الدولة هو حتمية انهياره وسقوطه أو هدمه من البداية، وبهذا المعنى فإن جورباتشوف كان يسعى عبثاً لإصلاح دولة شمولية من داخلها، لا بسبب أن إصلاحاته جاءت متأخرة عن موعدها مع الزمن فحسب، بل لاستحالتها منطقياً كذلك.
4.إطار نظري بديل لشرح إخفاق المدخل الإصلاحي لجورباتشوف:
في واقع الأمر إن الثورات والحركات الإصلاحية والتصحيحية داخل الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، تبدو نتاجاً متراكماً وهائلاً من السخط، جمع بين ثلاث نزعات كبرى غير متبلورة وهي: النزعة الديمقراطية، والنزعة القومية، والنزعة للتحول إلى الرأسمالية القائمة على الانهيار الثقافي والارتباط السياسي بالغرب.
ويتعلق المصير السياسي للتحولات في هياكل السلطة، بما في ذلك مصير حركة الإصلاح الجورباتشوفية وحركة الإصلاح ما بعد الجورباتشوفية بالتناقضات الظاهرة والمستثمرة بين هذه النزعات الثلاث وتضميناتها.
ويمكننا أن نوصف مدرسة جورباتشوف في الإصلاح بأنها مزيج خاص من هذه النزاعات الثلاث المتناقضة، وهو مزيج ظل يتحول على نحو غير واع وعبر عملية كيمائية خاصة، استجابة للمتغيرات السياسية في البيئة الداخلية والخارجية للاتحاد السوفيتي، وبتعبير آخر، فإن أول ما يلفت الانتباه في المدخل الجورباتشوفي للإصلاح
هو أنه انطلق من نقد شامل للنظام القديم دون أن يملك تصوراً مبدئياً بسيطاً عن النظام الجديد، أي أنه كان هناك وعي بعيوب ونواقص النظام الذي يجب الانتقال منه دون أن يتوافر قدر معقول من الوعي الواضح بالنظام الذي يجب الانتقال إليه، بل لم يكن هناك نموذج للمجتمع السياسي والاقتصادي الذي يريد أن ينقل إليه.
5. تغير النظرة السوفيتية الجديدة للصراع والتوازن في العالم المعاصر:
منذ وصول ميخائيل جورباتشوف للسلطة أعلن صراحة أن مخرجات التنافس التاريخي بين النظامين العالميين،الاشتراكي والرأسمالي، لا يمكن أن تحدد بالوسائل العسكرية، بل أن معدل التقدم العلمي والتكنولوجي والمنافسة الاقتصادية الدولية يقرران معا نتائج هذا الصراع التاريخي بدرجة حاسمة. ومن ثم يمكننا استخلاص أهم أركان النظرة السوفيتية الجديدة للصراع والتوازن العالميين في الآتي:
أ. أن الحرب النووية وبصفة عامة استخدام القوة العسكرية حتى التقليدية منها، لا يمكن أن تحقق الأهداف العليا للدولة أيا كانت.
ب. ضرورة تأسيس السياسات الدولية على المبادئ والقيم الإنسانية الاجتماعية.
ج. إن تكدس السلاح النووي وزيادة حجم نوعيته وتطورها، لم يؤد إلى توفير المناخ الأمني الدولي بين أطراف الصراع، ومن ثم برزت الحاجة إلى تخفيض هذا السلاح أو إزالته.
د. التنمية الاقتصادية الدولية العالمية، رهن بإيقاف سباق التسلح النووي والتقليدي، أي نزع السلاح من أجل التنمية المجتمعية العالمية.
هـ. ضرورة بناء السياسة الخارجية لأي دولة بعيداً عن الامتيازات الأيديولوجية الخلافية التصادمية عقائدياً.
و. حق كل دولة وكل أمة في اختيار طريقها الخاص للتنمية الاجتماعية الداخلية.
ز. الأسبقية المطلقة والأولوية الدائمة للحفاظ على الجنس البشري وعلى الكون بصرف النظر عن اعتبارات الثوابت الأيديولوجية للتحليل الماركسي، مما يقتضي الائتلاف العالمي الرأسمالي. الاشتراكي لتحقيق السلام الكوني.
ح. المراجعة العقيدية لمبدأ ماركسي أرثوذكسي أحيل عن السببية والتفاعلية ما بين ظاهرتي الحرب والثورة.
ط. اتباع الحوار الدبلوماسي المفتوح بين كل الاتجاهات والرؤى السياسية لدى الدول كافة بلا تعصب ذاتي أو تحيزات مسبقة.
الإصلاح الاقتصادي ونهاية الشيوعية:
في السنوات الأولى للبريسترويكا، أدى فضح النظام القديم إلى إضعاف نفوذه، وقاد إضعاف الجهاز الحزبي إلى تصفية سطوته، ولبداية تقويض الأسس الشمولية، وبدأ تتفكك الدولة الاتحادية. وفي أعقاب انقلاب أغسطس 1991، انهار النظام الشمولي نهائياً، وتفاقم ازدواج السلطة بين المركز السوفيتي والجمهوريات الأطراف، وتوالت قرارات الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي بدءاً من روسيا الاتحادية ذاتها، وتداعي كلية نظام التوزيع والتبادل بين الجمهوريات الخمس عشرة المكونة للاتحاد السوفيتي.
والواقع أن الدعوة إلى الإصلاح الاقتصادي، قد استمرت ضمن نطاق توحيد أسس الاشتراكية الستالينية ومبادئ الماركسية اللينينية قبل جورباتشوف، وجرت محاولات للإصلاح الاقتصادي، من عهد نيكيتا خروشوف إلى ليونيد بريجنيف وحتى يوري أندروبوف، ولكنها تمت في ظل النظام السياسي الشمولي وفي إطار الدولة المركزية السوفيتية، واستمرت محاولات الإصلاح الاقتصادي قبل ثورة البريسترويكا، لا تتجاوز نظام إدارة الاقتصاد بالأوامر، واحتكار الدولة لوسائل الإنتاج، وعدم الربط بين إنتاجية العمل ودخل المشتغل، بل اتجهت أحياناً في عهد يوري أندروبوف، نحو توطيد الأساسين الأولين مع التوجه نحو تعديل الأخير، فقد تمسك أندروبوف بمبدأ التوزيع العادل للكعكة.
وقبيل انقلاب أغسطس طرح برنامج الليبراليين للتحول إلى اقتصاد السوق خلال خمسمائة يوم، وفي مواجهته طرح برنامج ديمتري ريجكوف وزير الاقتصاد السوفيتي والمحافظين للتحول المتدرج إلى اشتراكية السوق، وللخروج من المأزق الذي دخلته عملية إعادة بناء النظام الاقتصادي الاشتراكي، وبهدف التوفيق بين القوى الداعية إلى التغيير المتدرج، وتلك المنطلقة إلى التغيير الثوري، طرح ميخائيل جورباتشوف في أكتوبر 1990، برنامجاً للتحول إلى اشتراكية السوق، ونجح في الحصول على موافقة مجلس السوفيت الأعلى عليه.
ومن أجل تجنب كارثة الانهيار الاقتصادي، قبلت الأطراف الرئيسة للصراع، بهذا الحل الوسط، وفي إطار هذه المساومة السياسية وافق ديمتري ريجكوف على البقاء في منصبه لتنفيذ البرنامج الذي ارتكز أساساً إلى خطة الأيام الخمسمائة رغم معارضته السابقة.
وعشية الانقلاب الفاشل في أغسطس 1991م، بدا واضحاً إفلات سيطرة الحزب الشيوعي السوفيتي في مجالات إدارة الاقتصاد والإصلاح الاقتصادي. وعقب الانقلاب لم يعد جورباتشوف قادراً على المطالبة بإعادة بناء الاشتراكية، مكتفياً بالتأكيد على المهام الاقتصادية الملحة لتجنب الكارثة الاقتصادية.
وخلال الدورة الأخيرة لمجلس السوفيت الأعلى في أكتوبر1991م وبتكوينه الجديد بعد الانقلاب، لخص جورباتشوف المهام الاقتصادية الملحة أمام الاتحاد السوفيتي السابق. ويجدر أن نشير هنا إلى أنه لم يأت في هذا الخطاب أي ذكر للبريسترويكا أو الاشتراكية. ويبدو أنه بدا من الواجب تجنب هاتين الكلمتين أو غيرهما حتى على لسان زعيم البريسترويكا في الدولة الاشتراكية الأولى.
وعشية إعلان نهاية الاتحاد السوفيتي رسمياً، وأمام المؤتمر الخامس غير العادي لنواب الشعب في جمهورية روسيا الاتحادية البرلمان الروسي، أعلن بوريس يلتسين انتهاء عهد التقدم بخطوات صغيرة، وأكد أنه لابد من قفزة كبيرة في مجال الإصلاح الاقتصادي، كما طرح برنامجه للإصلاح الاقتصادي، والذي تلخص في الآتي:
1. تحقيق الاستقرار الاقتصادي ودعم الروبل بتنفيذ سياسة مالية ونقدية وائتمانية انكماشية صارمة للغاية، مؤكداً على أنه بغير هذه الخطوة الصعبة، فإن الحديث عن الإصلاح والسوق لن يعدو أن يكون لغواً.
2. تنفيذ برنامج التخصصية وتقليص قطاع الدولة لإقامة اقتصاد مختلط يضم قطاعاً خاصاً قوياً، وتسريع برنامج الإصلاح الزراعي وتشجيع نشاط الأعمال الخاص.
3. تحرير الأسعار، وذلك استناداً إلى خبرة ما أسماء بوريس يلتسين “الحضارة العالمية”.
4. خفض الإنفاق الحكومي بتقليص مخصصات دعم الإنتاج غير الكفء، ونفقات الدفاع ومصروفات الجهاز الإداري، وأكد بوريس يلتسين على أن عجز الموازنة لا بد من تقليصه إلى الحد الأدنى.
5. إصلاح النظام الضريبي المشوه، الذي لا يتوافق مع اقتصاد السوق ولا يتسم بالانضباط.
6. إصلاح الجهاز المصرفي، وذلك باتخاذ إجراءات صارمة ضد الإصدار غير المقيد للنقود وضد تقديم القروض بغير ضوابط.
7. إقامة نظام للضمان الاجتماعي، مع رفع القيود على سقف الأجور لمواجهة ارتفاع الأسعار.
أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي:
انتهى الاتحاد السوفيتي مع نهاية عام 1991، إثر استقالة ميخائيل جورباتشوف، ولا تنتهي الشعوب مع زوال الدول التي تنشئها، ولكن الاتحاد السوفيتي كان تجربة فريدة من حيث إنه ربما يكون الدولة الوحيدة في العالم التي لم تنسب نفسها إلى هوية معينة، ولا إلى موقع جغرافي محدد. ذلك أن الاتحاد السوفيتي دولة أريد بها أن تصبح النواة لنظام اشتراكي شيوعي يتسع للكوكب كله، وقد تميز الاتحاد السوفيتي عن دول العالم جميعاً في أنه قصد به أن يكون ثورة قبل أن يكون دولة، وأن يكون فكرة شمولية خليقة بالانتشار لتصبح عقيدة عالم جديد، وقد حمل انتهاء الاتحاد السوفيتي على نحو ما، معنى إخفاق هذه الفكرة. وبطبيعة الحال أثيرت تساؤلات عديدة حول هذا الموضوع وفي مقدمتها..
هل انتهاء الاتحاد السوفيتي يؤذن بانتهاء فكرة الاشتراكية؟ وهل زوال الاتحاد السوفيتي من خريطة العالم السياسية يشهر إفلاس البناء الفكري الذي شيده كارل ماركس؟ أم أن الإخفاق قد نال من تجربة بعينها فقط؟ وأن هذا الإخفاق لا يعني انتصاراً نهائياً للذين ناصبوا الاتحاد السوفيتي العداء منذ مولده، ولا يعني كذلك انتصاراً للرأسمالية.
ومن الواضح أنه كان هناك العديد من الأسباب المهمة لنكسة الاشتراكية، منها على سبيل المثال، تلازم هذه الاشتراكية، مع الدكتاتورية البوليسية المطلقة التي خلصت دائرة السلطة في مجال ضيق تتناوله نخبة سياسية وعسكرية بيروقراطية، استطاعت أن تقدم الحرية والديمقراطية. ولذلك فعندما فتحت البريسترويكا إمكانية تغيير النسق السياسي السوفيتي بما يُحسِّن من شروط تداول السلطة، وبما يخلق فرصاً جديدة أمام التطور الديمقراطي للبلاد، عبَّر المجتمع عن تأييده لسياسة الإصلاحات وعن موقفه المعادي للنموذج الاشتراكي في الحكم.
وقد كان موقف الرفض شبه التام من الانقلاب الفاشل يمثل أكفأ الأدلة وأقواها من أجل البرهنة على قوة الفكرة الديمقراطية ورسوخها واصطدامها مع نقيضتها الاشتراكية، على أنها كانت الأساس في سقوط المثال الاشتراكي من وعي الناس، وهنا يمكن القول: إن الاشتراكية يمكن أن تكون ديمقراطية كذلك، وأنها قد لا تكون التوزيع العادل للثروة فقط، وإنما كذلك التوزيع العادل للسلطة.
تعرض الاتحاد السوفيتي لضغوط قوى داخلية، اقتصادية وسياسية وأخرى خارجية كانت من أسباب انهياره وتمثلت في الآتي:
1. الضغوط الداخلية:
أ. القوى المحافظة المناهضة لجورباتشوف: حيث أكد جورباتشوف على أن توقف عملية الإصلاح سيؤدي إلى كارثة محققة، وأن الإصلاحات ستجعل من الاتحاد السوفيتي أكثر دول العالم ديمقراطية.
ب. مشكلات القوميات: التي نجحت أجهزة الإعلام الغربية في استثارتها، مثل دول البلطيق أو مشكلة عودة التتار إلى القرم، أو مشكلات القومية الدينية في مولدافيا وغيرها.
ج. المشكلة اليهودية: التي ترتبط بقضية حقوق الإنسان، وقد اتخذ السوفيت موقفاً مرناً بالإفراج عن المنشقين وتخفيف قيود الهجرة أو الحصول على الجنسية المزدوجة.
د. دول أوروبا الشرقية: وتمثلت ضغوطها في الرغبة على الانفتاح تجاه الغرب، وهو ما أدى إلى صحوة التيار القومي، ودور الكنيسة بصفتها مركزاً للمقاومة الأيديولوجية والمبادئ التي قام عليها الموقف السوفيتي إزاء أوروبا، وكان إقرار استقلال الأحزاب الشيوعية الأوروبية وحقها السيادي ومسؤوليتها عن معالجة مشاكلها.
2. معاهدة جورباتشوف:
طرح جورباتشوف معاهدته التي أجرى عليها الاستفتاء في مارس 1991، والتي كانت بداية للتفكك وقد نصت على الآتي:
أ. إقامة فيدرالية ديمقراطية ذات سيادة تتكون نتيجة للاتحاد الطوعي الاختياري بين جمهوريات متساوية في الحقوق، وتمارس سلطة الدولة في حدود الصلاحيات التي منحتها إياها أطراف المعاهدة.
ب. يحق لكل جمهورية أن تحفظ لنفسها الحق في أن تحل بذاتها كافة مسائل تطويرها وضمان الحقوق السياسية وإمكانات التطور اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً لكافة الشعوب القاطنة في أراضيها.
ج. تتعهد الجمهوريات بإعطاء الأولوية لحقوق الإنسان وفقا لقواعد القانون الدولي المتعارف عليه كمبدأ هام للغاية.
د. حق لكل جمهورية أن تقيم علاقات قنصلية وتجارية مباشرة، وغيرها من الصلات، مع دول أجنبية وتتبادل معها التمثيل، وتعقد معها المعاهدات الدولية، وتشارك كذلك بصورة مباشرة في نشاطات المنظمات الدولية، شريطة ألا يستتبع ذلك انتهاك الالتزامات الدولية للجمهوريات السوفيتية.
هـ. عضوية الجمهورية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية هي عضوية تطوعية اختيارية والجمهوريات الأطراف في المعاهدة الاتحادية تتمتع بحقوق متساوية وتتحمل التزامات متكافئة.
و. من حق الجمهورية أو الجمهوريات الأطراف في المعاهدة الخروج بصورة حرة من الاتحاد وفقاً للأصول التي أقرها المشاركون في المعاهدة.
وتم إجراء استفتاء شعبي لأول مرة في مارس 1991، لتحديد مصير الاتحاد. وطرح الاستفتاء سؤالاً واحداً على المواطنين وهو: هل توافق على إقامة الاتحاد السوفيتي في نمط جديد للاتحاد من الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية ذات السيادة المتساوية في الحقوق التي يراعى فيها حقوق الإنسان وحرياته؟
واشتركت في الاستفتاء تسع جمهوريات فقط من بين الجمهوريات الخمس عشرة وقاطعت الاستفتاء ست جمهوريات هي جمهوريات البلطيق الثلاث، وجورجيا، ومولدافيا، وأرمينيا، واشترك في الاستفتاء أكثر من 80% من المقيدين في جميع أنحاء البلاد، وافق منهم 77% على الاحتفاظ بكيان الاتحاد السوفيتي الحالي.
3. الأسباب الاقتصادية والتي تمثلت في الآتي:
أ. غياب عناصر القدرة التنافسية للاقتصاد السوفيتي وفقدانها.
ب. تدهور القوة الاقتصادية نتيجة عجز آليات اقتصاد الأوامر عن توفير الأساليب التكنولوجية والتنظيمية والإدارية الأحدث التي تؤمن زيادة معدل التنمية.
ج. تأخر التحديث التكنولوجي للاقتصاد السوفيتي نتيجة الاعتماد على إمكانية الاستيراد من الغرب.
د. تراجع حجم صادراته من السلاح والبترول والغاز الطبيعي في مطلع التسعينيات، مع تراجع قدراته على تقديم العون الاقتصادي للبلدان النامية.
هـ. الانخراط في دائرة الإنفاق العسكري الضخم الذي استنزف الموارد المادية والمعنوية.
و. عدم الاهتمام بالانفاق على البحث العلمي، ومشاريع تطوير التكنولوجيا في القطاعات غير العسكرية، وعدم العناية بالصناعة المتوسطة والاستهلاكية؛ لتلبية رغبات وحاجات المواطنين.
ز. ثورة الجلاسنوست والبريسترويكا التي أحدثت انقلاباً داخلياً أدى إلى تصعيد الأحداث وانهيار الدولة.
ح. الإعلان رسمياً في 5 يناير 1991، بواسطة أعضاء مجلس المساعدة الاقتصادية التسع الكوميكون وهي: رومانيا، والمجر، وبولندا، وتشيكوسلوفاكيا، وبلغاريا، والاتحاد السوفيتي، وكوبا، وفيتنام، ومنغوليا، عن حل المجلس، مع تكوين منظمة جديدة لها مهام مختلفة عن الكيان القديم[2].
4. الأسباب السياسية وتتلخص في الآتي:
أ. تدهور قدرة الدولة وعجز النظام الشيوعي عن تحقيق التفوق، مع تآكل مكانة الاتحاد السوفيتي بصفته قوة عظمى، حيث تراجعت قدرته بشدة على ممارسة الدور الذي نهض به بعد الحرب العالمية الثانية.
ب. إن إلغاء النص الدستوري على الدور القيادي للحزب الشيوعي، كان يمثل إعلاناً ببدء تقويض مجمل جهاز الدولة القديم، والتمهيد للإطاحة بجورباتشوف نفسه. وإذا كان جورباتشوف لم يصل إلى حد تقنين التعددية الحزبية، إلا أنه سمح بالتعددية السياسية، بما في ذلك قبوله عملياً بقيام تكتلات داخل الحزب الشيوعي السوفيتي، بما أدى إلى تعميق انشقاق النخبة الحزبية.
ج. ارتبط التدهور بمسألة الضغوط والقيود التي فرضها التصعيد والتوتر الدائم الذي فرضه سباق التسلح الضاري في المجالات النووية وغير التقليدية مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية.
د. فرض الحصار على الاتحاد السوفيتي من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وظلت تمارس ضغطاً مباشراً ومستمراً عليه لإجباره على الدخول في سباق التسلح الذي استهدف استنزاف اقتصادياته وتقويض الشيوعية وتفكيك الدولة.
هـ. الانقلاب الفاشل في أغسطس 1991، الذي ساهم في الإجهاز على الاتحاد السوفيتي وانقسام المؤسسة العسكرية وحل الحزب الشيوعي، ومن ثم فقدت النخبة الحاكمة التمسك بالمحافظة على نظامها.
5. الأسباب الأيديولوجية:
أ. كانت الأيديولوجية الشيوعية، والمؤسسة التي التزمت بهذه الأيديولوجية وجسدتها ونسبت إلى نفسها صفة تمثيلها الحزب الشيوعي، كانت لها الهيمنة على الدولة وعلى أجهزتها القمعية لضمان تماسك الاتحاد السوفيتي والحيلولة دون تفككه، ولكن مع تصاعد الأحداث لم يعد للحزب الشيوعي وجود وغابت الأيديولوجية التي تقوم بعملية التوحيد، كما لم يستطع أبناء هذا النظام الدفاع عنه.
ب. تبني الاتحاد السوفيتي فلسفة جديدة تقوم على وحدة العالم وضرورة إنهاء الحرب الباردة، باعتبار أن تزايد حدة التنافس لم يحقق أهدافها السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، ومن ثم توقفت عن تحقيق مبدأ مهم وهو تحقيق التوازن أو التفوق العسكري على الغرب. ومن ثم تبنت القيادة السوفيتية أربعة مواقف هي:
(1) وقف سباق التسلح النووي وامتداد التخفيض إلى التسليح التقليدي والكيميائي.
(2) فض الاشتباك في العالم الثالث وتحقيق تسويات في مناطق النزاع، وفي مقدمتها أفغانستان، وأنجولا، ونيكاراجوا.
(3) تعزيز مركز الأمم المتحدة بصفتها المرشحة لشغل الفراغ خلال المرحلة الانتقالية القادمة.
(4) تعديل العقيدة الإستراتيجية، لتصبح العمليات الدفاعية هي الشكل الأفضل في الحرب، مع الدعوة إلى الحفاظ على قوات ذات كفاءة معقولة لا تغري بالهجوم، وتتناسب مع مستوى التهديد العسكري.
ج. إخفاق الاتحاد السوفيتي في إحداث التغيير الاجتماعي بالقوة خلال فترة زمنية محددة عبر منظور أيديولوجي محدد، وقد أكدت التجارب التاريخية ذلك.
6. أزمة شرعية السلطة المركزية:
فقدت السلطة المركزية قدرتها على القيام بدور الحكم في صراعات السيادة والخلافات بين شعوب الاتحاد السوفيتي، بل لم تستطع الإشراف على تشكيل مجتمع جديد من المصالح بين الجمهوريات السوفيتية، كما أن الدولة السوفيتية لم يعد لها مستقبل، وقد جرى الحديث طويلاً حول تدهور شعبية جورباتشوف لدى الجماهير السوفيتية، ففي سبتمبر 1990 لم يحظ جورباتشوف بتأييد الرأي العام في الاستفتاء الذي أجرى حول الموقف السياسي وأزمة القوميات. فقد حصل علي 28.5% في حين حصل بوريس يلتسين رئيس جمهورية روسيا الاتحادية على 61.5%، وهذه النتائج لا تترجم القوة السياسية لكل منهما فحسب، ولكنها تُعبر كذلك عن انتقال الثقة من أجهزة الدولة الاتحادية إلى أجهزة السلطة السياسية الإقليمية والمحلية، بل أن السلطة المركزية لم تستطع الحفاظ على سلامة الدولة الاتحادية وبقائها، كما لم تستطع سلطة جورباتشوف الشخصية أن تمنع تدهور شعبيته وشرعيته القانونية.
وتعويضاً عن عدم قدرة أجهزة الحكم المركزي على الاستمرار في دورها بوصفها أعلى جهاز للسلطة السياسية، كان يمكن لهذه الأجهزة تعليل وجودها عن طريق أداء دور الحكم في الخلافات التي ستثور حتماً بعد تفكيك الدولة السوفيتية، ولكن هذه الأجهزة فقدت مصداقيتها لدى الجميع بسبب تدخلاتها العنيفة التي زادت الصراعات تفاقماً بدلاً من تهدئتها
بالإضافة إلى أن السلطة المركزية أصبحت عاجزة عن التصدي لرغبة السلطات المحلية في القيام بمفردها بمهمة الدفاع عن أمنها وسيادتها، وإن رفض زعماء جورجيا وليتوانيا وأرمينيا تطبيق القرار الصادر في 25 يوليه 1990 الذي بموجبه يصبح من حق رئيس الدولة السوفيتية مصادرة الأسلحة التي حصلت عليها التشكيلات العسكرية بطريق غير قانوني، والتي زادت كميتها بشكل كبير، هذا الرفض يُعدّ رفضاً للاعتراف بحق السلطة المركزية في حفظ النظام ويعبر كذلك عن عجز هذه السلطة عن ممارسة حقوقها في هذا المجال.
7. أزمة الاتحاد وعدم الثقة في الانتماء للدولة:
يرى المحللون السياسيون، أن سياسة جورباتشوف هي التي فجرت الأزمة القومية، لأنها سمحت بالتعبير عن المطالب القومية، ولكن الحقيقة أن هناك الكثير من العوامل التي أدت إلى تطرف المطالب القومية. فالواقع أن هذا التطرف قد نتج عن تفاقم الأزمة الاقتصادية وتصاعد الإحساس بأن الانتماء للاتحاد السوفيتي لم يعد ميزة بل أصبح عائقاً، حتى عامل الأمن لم يعد له وجود، وقد كان الاعتقاد السائد في الماضي أنه كلما كبر حجم الدولة وتنوعت مواردها وعظم حجم جيشها، كان ذلك أدعى على الإحساس بالأمن، ولكن الحال بالاتحاد السوفيتي أصبح مختلفاً.
إن تفاقم المشاعر القومية وتطرفها قد انتشر بسرعة، ولكن في الوقت نفسه كانت هناك جمهوريات لم تطالب بالانفصال مثل جمهوريات آسيا الوسطى، ولكن قد تحدث تطورات تدفع بالرأي العام والسلطات إلى تبنى إستراتيجية الانفصال، حتى لو كانت شروط استقلالها الاقتصادي والسياسي غير مرضية؛ مثلما حدث في أرمينيا، فقد اشتهر الشعب الأرمني بطاعته التامة للسلطة المركزية
وكانت المطالبة بالاستقلال تأتي من جانب الأرمن المهاجرين وليس من داخل أرمينيا، إلى أن حدثت المواجهة مع أذربيجان، فبدت السلطة المركزية وقواتها المسلحة كما لو كانت متواطئة مع الخصوم، وأدى ذلك إلى إثارة الرأي العام الأرمني فجأة ضد السلطة المركزية ومن ثم أعلنت جمهورية أرمينيا استقلالها في 23 أغسطس 1990، على الرغم من أن زعمائها السياسيين لم يكونوا قد حددوا بعد شروط هذا الاستقلال وشكله.
8. الضغوط الخارجية:
أ. الولايات المتحدة الأمريكية:
هي الدولة التي تصدرت القوة الضاغطة على الاتحاد السوفيتي، ويدّعي الرئيس الأمريكي ريجان أن نزع السلاح قد تم نتيجة الضغط الدبلوماسي والعسكري وليس نتيجة تنازلات سياسية من جانب أمريكا أو وعود للتعاون الاقتصادي، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية عند نهاية الحرب العالمية الثانية كانت تملك ثلثي ذهب العالم وكل قوته النووية.
ومع استمرار التنافس مع الاتحاد السوفيتي حدث نوع من التعادل في التسليح النووي، علاوة على استنزاف الاقتصاد الأمريكي بوجود 600 ألف جندي خارج أراضيها، وهو ما أدى إلى زيادة الإنفاق السنوي إلى 150 بليون دولار للدفاع عن أوروبا وحدها. ومع ذلك استمرت الولايات المتحدة الأمريكية في التحرك من منطلق القوة وبنوع من الغطرسة، مع الاستعداد للتصعيد والتحدي للاتحاد السوفيتي في جميع مواقعه بالعالم الثالث.
وقد واكب ذلك، أن المتطلبات الاقتصادية والتكلفة، والعبء الاقتصادي للمساندة الأيديولوجية للاتحاد السوفيتي لحلفائه، أصبح أمراً لا يستطيع تحمله، وبالتالي أصبح أكثر مرونة فيما يخص مساندة حلفائه التقليديين، دون أن يفرط بالطبع في هذه المواقع الإستراتيجية، ومن ثم أصبح وصف الاتحاد السوفيتي بأنه قوة توازن لصالح دول العالم الثالث أمراً مشكوكاً فيه.
ب. أوروبا:
كانت أوروبا هدفاً سوفيتياً بغرض تحييدها في الصراع الدائر بين القوتين العظميين، ولكن أوروبا استطاعت في المرحلة الأخيرة قبيل التفكك، تصعيد النزعة الديمقراطية والقومية داخل دول أوروبا الشرقية وهو أمر عجَّل بسقوط الشيوعية فيها وسقوط حلف وارسو.
ج. الصين:
وتتحدد علاقاتها بالاتحاد السوفيتي وفقاً لسياسته الجديدة الهادفة إلى إيجاد جو من الوفاق بين الطرفين، فهناك من القضايا بينهما ما يمكن تسويته مثل المشكلات الإقليمية الأسيوية والقوات على الحدود بين الجانبين، علاوة على إمكانية قبول الصين أيديولوجيا، حيث مازال الهيكل الأساسي في الصين ماويا والحزب مصدر السلطة.
انهيار الاتحاد السوفيتي وانعكاساته على التنافس
انهار الاتحاد السوفيتي رسمياً في 21 ديسمبر 1991، ولم يعد لرئيسه ميخائيل جورباتشوف أي دور، ولم يعد لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية كيان، انهار رمز الاشتراكية وقلعته الأولى، انهار الاتحاد نهائياً في أعقاب اجتماع الماآتا عاصمة كازاخستان وإعلان ميخائيل جورباتشوف رسمياً عن إنهاء وجود الاتحاد السوفيتي الدولة الفيدرالية.
وحدّ كومنولث من جمهوريات مستقلة محل الدولة السوفيتية، ولم يعد أمام جورباتشوف غير أن يُعلن أن مهمته قد انتهت. حاول جورباتشوف التجديد داخل إطار الاشتراكية وقد هزم في المحاولة، ولكن هل معنى ذلك أن الرأسمالية انتصرت؟ وأنه لا مستقبل لقضية الاشتراكية؟ ومن الواضح أن هناك جديد في العالم قد حدث، فقد تعاظم وعي الشعوب على نحو لم يسبق له مثيل، وأصبحت هناك مشاركة للجماهير في صنع القرار السياسي، فهناك ثورة حدثت في الإعلام، ولذلك سقطت كل أشكال الانغلاق، وأصبحت شعوب العالم مشاركة في صنع القرار.
الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق
تنقسم الدول التي استقلت عن الاتحاد السابق إلى أربع مجموعات إقليمية فرعية من المنظور الجغرافي، وهي مجموعة بحر البلطيق: ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا، ومجموعة شرقي أوروبا: روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، ومجموعة ما وراء القوقاز: أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، ومجموعة آسيا الوسطى: كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقرقيزستان وتركمانستان، علاوة على مولدافيا.
كما يمكن تصنيف هذه الدول على أساس الرابطة الثقافية، حيث نجد المجموعة السلافية التي تشمل مجموعة شرق أوروبا عداً مولدافيا، والمجموعة الإسلامية التي تشمل مجموعة آسيا الوسطى إلى جانب أذربيجان، وتمتاز جمهورية روسيا الاتحادية بأنها تمتد إقليمياً من الشرق الأقصى إلى شرقي أوروبا.
ومن الناحية الثقافية فإنها تضم جمهوريات وأقاليم ومناطق حكم ذاتي سلافية وإسلامية، فضلاً عن الأقليات الألمانية واليهودية وغيرها.
وإلى جانب التوزع بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية هناك التوزع بين المذهبين السني والشيعي، كما تختلف الدول المستقلة من حيث التركيب القومي ونسب القومية الأصلية إلى سكان كل منها، وتختلف بوجه خاص من حيث نسب المتحدثين باللغة الروسية ونسبة الروس بالنسبة لإجمالي السكان.
ومن جهة أخرى، فإن الدول المستقلة والمجموعات الفرعية تختلف من حيث القدرات الاقتصادية ومستويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والقدرات العسكرية وخاصة النووية، والموارد الطبيعية التعدينية والنباتية وخاصة موارد الطاقة والأراضي المزروعة، كما تتباين من حيث الامتداد الجغرافي والقوة الجيوبوليتيكية، ومن حيث عدد السكان، وتطور التعليم، والبحث العلمي، والقدرة البشرية.
ويتسم بأهمية خاصة معرفة القدرات النسبية لجمهورية روسيا الاتحادية باعتبارها مركز الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي ورابطة الكومنولث، باعتبارها الوريث الشرعي والوحيد للاتحاد السوفيتي السابق، وكذلك الإلمام بالقدرات النسبية لمجموعة الدول الإسلامية الأسيوية ذات الصلات المباشرة والروابط المتنوعة مع دول الشرق الأوسط، ومن ثم تأثيرها على الأوضاع الإقليمية والعربية. وكذا القدرات النسبية لأوكرانيا بصفتها القوة الثانية بين دول الكومنولث التي حددت مصير الاتحاد السوفيتي.
كما تبرز أهمية تحليل أسباب الصراع وإمكانية تصاعده؛ نتيجة لأسباب قومية أو عرقية، فهناك الأخطار الناشئة عن المطالبة بإعادة ترسيم الحدود على أساس الانتماء القومي مثل؛ حالة ناجورنو كاراباخ، أو على أساس التراجع عن تنازلات إقليمية في إطار الاتحاد السوفيتي السابق مثل حالة روسيا مع أوكرانيا حول إقليم القرم
وكذلك أخطار الصراع حول تقسيم القوات المسلحة، وتقسيم أسطول البحر الأسود بين روسيا وأوكرانيا، وحول إقامة جيوش مستقلة للدول ذات السيادة والنزاع على مصير الترسانة النووية، وأوضاع القوات الإستراتيجية والقوات المشتركة المتواجدة في الدول المستقلة، وأخطار التركيب القومي المعقد لهذه القوميات. ثم هناك الصراع على توزيع أعباء التركة، مثل المديونية الخارجية للاتحاد السوفيتي السابق وغيرها من آثار انهيار الروابط الاقتصادية القديمة.
وخاصة تصدير أعباء الإصلاح الاقتصادي، وكذا الصراعات المتصلة باختلاف انتماءات النخب السياسية الحاكمة في الدول المستقلة وسياساتها وتوجهاتها، ومصير الصراع على السلطة داخل كل دولة، وبالأخص في روسيا الاتحادية، وانعكاسه على مصير الكومنولث، ومصير الحزب الشيوعي السوفيتي وقوى المعارضة الإسلامية وغيرها من قوى المعارضة اليسارية والديموقراطية والقومية والدينية، ودور ووزن جماعات الضغوط وبصفة خاصة نقابات العمال والاتجاهات الشيوعية القومية والفوضوية في صفوفها
كما تبرز مصالح المجمع الصناعي العسكري، والمؤسسة العسكرية الموروثة وأخطار الحروب الأهلية مع انتشار الأسلحة النووية، ودوافع استمرار قوات مشتركة بوصفها عوامل تدفع إلى وجود رابطة للتعاون والتنسيق من منظور أمني. وهناك مخاوف الغرب من إفلات السيطرة على الترسانة النووية، وتهديد الأمن الأوروبي والعالمي.
رابطة الكومنولث الجديد:
1. في 21 ديسمبر 1991 أعلن عن إلغاء الاتحاد السوفيتي، وتكوين رابطة الدول المستقلة، ووقع رؤساء إحدى عشرة جمهورية هي: روسيا، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا، وأرمينيا، وأذربيجان، وطاجكستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وقرقيزستان، وكازاخستان، ومولدافيا، على ثلاث اتفاقيات[1]:
أ. الاتفاقية الأولى: ألغي بموجبها منصب الاتحاد السوفيتي وأنشئت رابطة الدول المستقلة مع تكوين مجلس لرؤساء الدول يضم الأعضاء ويتولى التنسيق فيما بينهم، وتم الاعتراف بأن الجمهوريات المشاركة على قدم المساواة بحكم أنها أعضاء مؤسسة في الرابطة.
ب. الاتفاقية الثانية: وأطلق عليها إعلان الماآتا، حيث تم بموجبها الاعتراف باستقلال الجمهوريات المؤسسة في إطار حدودها الحالية.
ج. الاتفاقية الثالثة: وتم بموجبها إنشاء قيادة عسكرية مؤقتة للقوات المسلحة للدول الأعضاء حتى نهاية عام 1991، حتى يتم الاتفاق علي الوضع النهائي لتلك القوات، على أن تكون القوات التقليدية والنووية تحت إمرة تلك القيادة. (انظر خريطة رابطة الكومنولث الجديد)
2. في 25 ديسمبر 1991، استقال ميخائيل جورباتشوف معلناً بذلك زوال الاتحاد السوفيتي من الخريطة السياسية للعالم، مع ظهور 15 جمهورية مستقلة لها تطلعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجديدة.
3. في 31 ديسمبر 1991، اجتمع رؤساء رابطة الدول المستقلة في منسك، واتفقوا على السماح لكل دولة بتشكيل قواتها العسكرية المنفصلة، ولكنهم عجزوا عن الاتفاق على مبدأ وجود قيادة واحدة لتلك القوات، وفي اجتماع آخر عقد في منسك خلال شهر فبراير 1992، اتفقوا على إنشاء تلك القيادة مع رفض أوكرانيا وأذربيجان ومولدافيا الانضمام إليها.
4. ومن الواضح أن اتحاد هذه الرابطة جاء متسرعاً دون وضع أسسه وقواعده السليمة، فالاتحاد جاء محاولة للخروج من المأزق السياسي الذي أدى إليه اتفاق رؤساء الجمهوريات السلافية، والاتحاد يمثل قيمة حقيقية للجمهوريات السلافية، ولكنه لا يمثل ذلك لبقية الجمهوريات، وقد أشار رئيس جمهورية تركمانستان إلى ذلك بقـوله: لقد وجدنا أنفسنا خارج إطار الجمهوريات السلافية.
ومن ثم انضمت هذه الجمهوريات إلى الرابطة، حيث لم تجد أمامها بديلاً آخر، كما أسرعت بقية الجمهوريات بدخول الرابطة خشية ملاحقتهم بسبب تأييدهم للانقلاب، علاوة على ضعف البنية الاقتصادية لها، بما يمكن أن يحولها إلى بلدان نامية من الدرجة الثالثة.
5. كما جاء الاتحاد مبهماً ودون نصوص واضحة، توضح علاقة كل جمهورية بالأخرى، كما جاء خالياً من أي تحديد للمجالات الاقتصادية، وقد علق رئيس أوكرانيا على هشاشة الاتحاد بقوله: إننا نفهم أن الاتحاد الاقتصادي بين الجمهوريات على أنه مجال اقتصادي موحد وليس سوقاً موحدة، وأكد على أن توجهات أوكرانيا لن تنحصر ضمن إطار السوق الأوروبية المشتركة.
كما جاء الاتفاق الاقتصادي خالياً من شكل ومضمون النظام المصرفي في العلاقات الاقتصادية الخارجية، مع صعوبة الاتفاق على الحد الأدنى من التعاون الاقتصادي، خاصة إن روسيا الاتحادية أعلنت أنها ستبيع صادراتها وموارد الطاقة مقابل العملة الصعبة.
ملامح عن أوضاع الجمهوريات المستقلة:
1. جمهورية روسيا الاتحادية.
ظهرت جمهورية روسيا الاتحادية على أنقاض الاتحاد السوفيتي على أنها الاستمرار الشرعي له من الناحية القانونية، وتعد أكبر الجمهوريات المستقلة من حيث المساحة والسكان والناتج القومي، ولذلك لم يتردد قادة رابطة الدول المستقلة في الاتفاق على إعطائها مقعد الاتحاد السوفيتي في مجلس الأمن وعلى أن يتحكم رئيس روسيا في شفرة إطلاق السلاح النووي، على ألا تستعمل تلك الأسلحة إلا بموافقة باقي الدول النووية: كازخستان، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا، بعد التشاور مع باقي أعضاء الرابطة، وأن ترث روسيا معظم المؤسسات الاقتصادية والسياسية السوفيتية.
وتتكون روسيا الاتحادية من:
أ. 18 جمهورية اتحادية هي: بشكيرستان، وبوربانيا، وشيشان، وأنجوشيا، وجوفاشيا، وداجستان، وكاباردينيا، وبالكاريا، وكالميكيا، وكاربليا، وكومي، وماري، وموردوفيا، وأوسيتيا الشمالية، وتاتارستان، وتوفا، وأودمورتيا، وباكوتيا.
ب. أقاليم ذات حكم ذاتي: أدوجي، وبيروبيجان، وجورنوالتاي، وكرتشاي جيركاسيا، وخاكاسابا.
ج. مقاطعات ذات حكم ذاتي: انجينو، وبورناتيا، وتشانتي، ومانسيا، وتشكونيا، وكورباكيا، ونينيتيا، وتايمبريا، وجانو، وأوست، وأوردنيا، وبمالو، ونينيتيا، بفينكا.
2. الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز:
هناك ست جمهوريات إسلامية تقع خمس منها في آسيا الوسطى وهي: اوزبكستان، وكازاخستان، وقيرقيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وواحدة في القوقاز هي أذربيجان، ويشكل المسلمون ـ بالمعنى الثقافي القومي ـ أغلبية في تلك الجمهوريات عدا كازاخستان، التي يوجد بها نسبة كبيرة من الروس، ويبلغ عدد المسلمين في دول الرابطة قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي بنهاية عام 1991، نحو 57 مليون نسمة يعيش 80 % منهم في الجمهوريات الست. وتتاخم هذه الجمهوريات جغرافياً كل من إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان.
تُعد تلك الجمهوريات أقل دول الرابطة من حيث مستوى التطور الاقتصادي، فمتوسط دخل الفرد في كازاخستان مقارناً بالمتوسط العام للجمهوريات السوفيتية السابقة – طبقاً لإحصاءات عام 1990/1991 ـ تصل إلى نحو 75%، وفي أذربيجان نحو 65%، وفي تركمانستان نحو60% وفي قرقيزستان نحو 52%، وفي أوزبكستان نحو 48%، وطاجيكستان 45%.
وينتمي مسلمو الجمهوريات الست إلى ثلاث مجموعات عرقية هي:
أ. مجموعة الشعوب التركمانستانية: 85% من المسلمين، وتضم معظم سكان أوزبكستان وكازاخستان وأذربيجان وتركمانستان وقيرقيزستان، وهؤلاء يتحدثون لغات قريبة من اللغة التركية، وهم أقرب ثقافةً إلى تركيا.
ب. مجموعة الشعوب الإيرانية: “8.4% من المسلمين”، ويتمركزون في طاجيكستان أساساً وهؤلاء أقرب حضارة وثقافة إلى إيران، وإن لم يكونوا شيعة كما هو الحال في سكان أذربيجان.
ج. الشعوب الأيبروقوقازية: وهؤلاء يعيشون في مجموعات متفرقة في القوقاز وروسيا، الانجوش والشيشان وغيرهم.
ويشيع بين مسلمي الجمهوريات الست شعور عام بهويتهم القومية المتميزة، ويتمثل هذا الشعور في السعي نحو إحياء تاريخ آسيا الوسطى قبل الحكم الروسي، والتمسك باللغات القومية وبالقيم الثقافية الإسلامية، وإنّ تعدد الانتماءات اللغوية والمذهبية لدول آسيا الوسطى والقوقاز الإسلامية، وتدني مستوى تطورها الاقتصادي ومتاخمتها الجغرافية لدول إسلامية أخرى، يجعل من تلك الدول ساحة عريضة مفتوحة أمام كل من: “إيران، وتركيا، والدول العربية، وإسرائيل” وكذلك بعض الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
3. مولدافيا:
هي جمهورية أقرب إلى رومانيا، حيث إن ثلثي عدد السكان في بيارابيار، وأكبر أقاليمها، من أصل روماني، كما تطالب الجبهة الوطنية المنشقة عن الحزب الشيوعي في مولدافيا بالسيادة داخل اتحاد فيدرالي، ويزداد العنف داخل مولدافيا بين الأقليات التركية والقوقازية والروسية من جانب ضد الأغلبية الرومانية من جانب آخر.
4. أرمينيا:
تقع جمهورية أرمينيا في جبال القوقاز الصغرى، تحدها من الشرق جمهورية أذربيجان، ومن الغرب تركيا، ومن الشمال جورجيا، ومن الجنوب إيران، معظم السكان من الأرمن الذين تبلغ نسبتهم 93% من السكان، وبها أقليات من الأذربيجان والأكراد والروس، تنتشر المسيحية بين أبنائها، انضمت للاتحاد السوفيتي عام 1936، وهنالك أزمة تاريخية بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناجورنو كارباخ، حيث معظم سكانه من المسيحيين الأرمن الذين تربطهم صلات قوية ووحدة ثقافية ودينية وعرقية مع جمهورية أرمينيا، وقد قامت اضطرابات عرقية في فبراير عام 1990 بين الأذربيجانيين والأرمن بسبب مطالبة شعب ناجورنو كارباخ بالانضمام لأرمينيا، وقد استغلت القوات السوفيتية هذا الوضع لتحتل مدينة باكو عاصمة أذربيجان وتفرض الأحكام العرفية.
ومن المفارقات أن ما يسمى بالاتحاد السوفيتي سابقاً، كان يمثل الغطاء الذي يمنع التوترات والصراعات العرقية، أما الآن فقد انكشف الغطاء وزال الستار الحديدي، فخرج مارد الصراعات العرقية من قمقمه.
5. أوكرانيا:
دولة ذات تاريخ عريق، فهي مهد الشعوب السلافية الشرقية الثلاث، انضمت للاتحاد السوفيتي عام 1922، وحصلت على استقلالها بنهاية عام 1991، وتتمتع أوكرانيا باستقرار سياسي، ومن الجدير بالملاحظة أن أوكرانيا، أدت دوراً أساسياً في سياسة التصدير والاستيراد للاتحاد السوفيتي والشرق الأوسط، حيث تمتلك ثروات ضخمة مثل الحديد، والمنجنيز، والفحم، والغاز الطبيعي، وتُعدّ من الجمهوريات الصناعية بين دول الاتحاد السوفيتي السابق، كما كانت إحدى الجمهوريات السوفيتية الأربع التي تمتلك أسلحة نووية، كما تنتج الصواريخ الإستراتيجية، والخلاف الذي حدث بين روسيا وأوكرانيا هو حول تقسيم تركة الأسلحة السوفيتية خاصة في مجال البحرية.
6. روسيا البيضاء:
هي إحدى الجمهوريات السلافية الثلاث، ولها علاقات قوية ومصالح مشتركة مع روسيا وأوكرانيا، وتعدّ أقل منها من الناحية الاقتصادية، وهي من الدول النووية الأربع بالاتحاد السوفيتي السابق.
7. جورجيا:
إحدى جمهوريات جنوب القوقاز، لم تنضم إلى الكومنولث عند بدء تشكيله، ولكنها سرعان ما انضمت في العام التالي، وتعتقد جورجيا أن لروسيا علاقة فيما حدث بداخلها من قلاقل بسبب إقليم أفخازيا الذي اتجه نحو الانفصال عن جورجيا، ولجورجيا علاقات طيبة مع جيرانها، خاصة في مجال العلاقات الاقتصادية.
ثانياً: انعكاس الانهيار على التنافس الدولي والإقليمي:
منذ أن انهار الاتحاد السوفيتي وتفككت أجزاؤه، وتولد عن هذا التفكك شكل جديد، اتخذ صورته الدولية في إقامة رابطة جديدة هي: كومنولث الدول المستقلة، بدأت تبرز العديد من القضايا نذكر أهمها في الآتي:
1. القضية الأولي حول علاقة المركز بالأطراف:
حيث تبدو تلك العلاقة في شكل تلاشي قوة الجذب التي كانت تربط بين الجمهوريات المنتمية للاتحاد السوفيتي السابق، وبين السلطة المركزية في موسكو وفي الوقت نفسه، حلّت محل ذلك علاقة جديدة لا تعني انفراطاً كاملاً، ولا تعني كذلك التئاماً شاملاً، أو عودة للوضع السابق.
2. القضية الثانية:
تَدَخُل قوي دولية وإقليمية في محاولة لاكتساب مواقع نفوذ، وإعادة صياغة الأوضاع في هذه المنطقة بما يتمشى مع مصالح الأطراف الدولية والإقليمية المعنية.
روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفيتي:
تحتل روسيا الاتحادية داخل كومنولث الدول المستقلة وضعاً مركزياً، فقد ورثت الاتحاد السوفيتي من الناحية القانونية الدولية وكذلك من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية، كما ورثت كذلك التركة المثقلة بالأمراض الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي أفرزتها الحقبة الشيوعية التي دامت قرابة سبعين عاما. ولذلك فإن ما يحدث في روسيا الاتحادية ذو أثر بالغ في تطور الأوضاع في كومنولث الدول المستقلة، حيث لا تزال الدولة المحورية التي تدور من حولها جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، سواء بالسلب أو الإيجاب وذلك في مختلف العلاقات.
ولذلك، فإن المواقف الدولية والإقليمية، خاصة الموقف الغربي. تجاه روسيا الاتحادية، ترتبط أشد الارتباط بتطور الأوضاع في كومنولث الدول المستقلة، وعموماً يبدو الموقف الغربي متناقضا ومتردداً بين بديلين.
1. الأول: هدم روسيا الاتحادية استكمالا لعملية تفكيك الاتحاد السوفيتي، ويرتبط ذلك بتفكيك رابطة الكومنولث، ويدفع هذا الهدف الإدراك الغربي بأن روسيا الاتحادية، بكل ما تملكه من مقومات للقوة، تعدّ المهدد لأمن أوروبا والغرب عموماً، إلا أن هذا البديل تقف أمامه معضلة خطيرة تواجه الغرب، حيث تمثل عملية هدم روسيا الاتحادية مخاطرة غير مأمونة العواقب، نظرا لما سيتبعها من انشطارات وتفككات تحمل معها نذير فوضي عارمة قد تخرج عن نطاق السيطرة.
2. الثاني: يتمثل في استخدام روسيا الاتحادية دولة حارسة، في منطقتها الإقليمية، لمصالح الغرب، وذلك حتى لا يمتلئ الفراغ الذي خلفه انهيار الشيوعية ببديل مناقض لمصالح الغرب تستغله قوي إقليمية منافسة وفي مقدمتها إيران، إلا أن هذا البديل تقف أمامه كذلك معضلة تواجه الغرب، وهي المخاوف المنبعثة من أن يؤدي تدعيم هذا البديل إلى انبعاث الدولة الاتحادية بصفتها السابقة عدواً للغرب.
ومن ثم، فإن التوجه السائد يبدو أنه يدور حول توجيه سياسة القوي الكبرى إزاء كومنولث الدول المستقلة، بغية الإبقاء عليه في حالة من الضعف والتفكك، وفي الوقت نفسه محاولة استخدام بعض دول الكومنولث كقوى موازنة للاتجاه نحو تقوية المركز الروسي. وفي هذا الإطار يمكن تفهم دوافع التقارب الأمريكي ـ الأوكراني، والأمريكي الكازاخي، في محاولة من واشنطن للاستفادة من التناقضات التي تبرز بين موسكو وكييف، وموسكو والماآتا من جانب آخر.
روسيا والتنافس الدولي حول جمهوريات الكومنولث:
أكدت التطورات التي أعقبت قيام كومنولث الدول المستقلة في ديسمبر 1991، ان هذا التنظيم يفتقد إلى العديد من مقومات الدفع الذاتي، لذلك لجأت موسكو إلى توقيع العديد من الاتفاقيات الثنائية مع كل من أطراف الكومنولث، واضطرت أن تدخل مجال المنافسة مع قوى إقليمية كإيران وتركيا وباكستان، وكذلك مع حلف شمال الأطلسي في محاولته لاستقطاب دول أوروبا الشرقية، وقد لجأت روسيا في سبيل مواجهة هؤلاء المنافسين الجدد
وفي محاولة منها للتأكيد على أن بلدان الكومنولث والبلطيق تمثل مجالاً حيوياً للمصلحة الروسية، أن تستخدم السياسة المعروفة باسم “فِرّقْ تَسُدْ”، وهى تعني بذلك استخدام الاختلافات العرقية والنزعات الانفصالية القومية. والمتأمل في سياسة موسكو تجاه أقاليم كاراباخ وأفخازيا والقرم، يلحظ محاولة روسيا اللعب بورقة الانفصال القومي، الذي يؤكد إصرارها على منح رعايا الجمهوريات السوفيتية السابقة حق اكتساب الجنسية المزدوجة لاستخدام هؤلاء ورقة لزعزعة استقرار الجمهوريات التي تقطن بها أقليات روسية
والواقع أن التعدد العرقي داخل كومنولث الدول المستقلة يعد من أخطر المشكلات التي توجد أزمة حادة في الهوية، تنعكس على أزمة الشرعية وتؤخر، بالطبع، عملية الشعور بالانتماء إلى كيان موحد.
وهذا التنوع العرقي الواسع النطاق يضم العنصر السلافي في روسيا وأوكرانيا، إلى جانب العنصر التتري الآسيوي في جمهوريات آسيا الوسطي، والعنصر الآري في غرب الكومنولث، وينعكس ذلك بالطبع على الثقافة السائدة، وعلى الأنماط السلوكية والاجتماعية. ويزيد من تأثير هذه الاختلافات بعض العوامل الأخرى التي تساهم في خلق مشاعر التنافس وعدم الانسجام بين الجمهوريات بعضها ببعض، بل وفي داخلها كذلك، ويظهر ذلك في مناطق متعددة مثلما حدث في إقليم كاراباخ بالنسبة لأذربيجان، وإقليم أفخازيا بالنسبة لجورجيا.
روسيا والدول الغربية:
شهد مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في بودابست الذي بدأ أعماله في الخامس من ديسمبر عام 1994، أعنف مواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وذلك بسبب محاولة حلف شمال الأطلسي توسيع نطاقه بضم شرقي أوروبا له ووسطها، وقد حاول الرئيس الروسي يلتسين التأكيد على أن مثل هذه الخطط التي توضع من أجل مواجهة احتمال انهيار الديمقراطية في روسيا تُعد أمراً لا علة له، وانه بدلاً من ذلك اقترح احتفاظ روسيا بدورها حارساً للجانب الشرقي في أوروبا.
كانت الهواجس الروسية تدور حول الخشية من محاولة تهميش مكانة روسيا ودورها في التأثير في رابطة الكومنولث، أو محاولة تحجيم نفوذها في ممارسة أي رقابة أو وصاية على عدد من دول وسط وشرقي أوروبا. وحرص يلتسين على بلورة موقف روسيا في إستراتيجيتها تجاه جاراتها أو مع العالم الخارجي، في أنها تسعي إلى تأكيد أمن الدول المجاورة لها التي كانت سابقا ضمن الاتحاد السوفيتي السابق أو ضمن أوروبا الشرقية
وذلك في إطار الإستراتيجية الروسية المسماة بالحدود القريبة التي تعني التدخل بحسم باستخدام القوات المسلحة لحماية مصالح روسيا في جمهوريات الكومنولث والمناطق الأخرى التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق، وأعلنت روسيا أنها صاحبة حق في التدخل عسكرياً بالصراعات التي تنشب في أراضى الاتحاد السوفيتي السابق، وبصفة خاصة حينما تمس المصالح القومية الروسية.
ووفقاً لذلك فإن تواجد أي نوع أو مظهر من مظاهر القوة أو النفوذ لدول مثل؛ إيران أو تركيا في هذه المناطق يصبح غير مرغوب فيه، وغير مرحب به من روسيا بالطبع، وكذلك تنظر روسيا إلى محاولات حلف شمال الأطلسي لمد مجال النفوذ الغربي إلى وسط وشرقي أوروبا، بأنه تهديد لمصالحها ومحاولة من الدول الغربية لعزلها.
وبطبيعة الحال، فإن الفكر الروسي قد أدى إلى إثارة قلق الغرب، خاصة ما أعلنته روسيا عن إمكانية تدخلها في دول الجوار بما يخدم المصالح القومية الروسية، وهو ما عدّته محاولة من روسيا لإعادة بناء الاتحاد السوفيتي ويؤثر بالتالي في شرعية استقرار النظام العالمي الجديد.
وفشلت روسيا في محاولة الحصول على مرونة من الأمريكيين أو الشركاء الأوروبيين، وبصفة خاصة فرنسا وألمانيا اللتين تمثلان قوتين كبيرتين في القارة الأوروبية، من أجل التخلي عن التشدد، والنظر بعين الاعتبار إلى الاقتراح الروسي بتأجيل فتح باب حلف شمال الأطلسي أمام دول شرقي ووسط أوروبا.
حيث يعد ذلك تعريضاً الأمن الإستراتيجي الروسي للخطر خاصة في حالة وصول حلف شمال الأطلسي إلى سلالم البيت الروسي. كما إن الدبلوماسية الروسية مُنيت بإخفاق آخر في قمة بودابست، وذلك بصدور قرار دول أوروبا بإمكان إرسال قوات لإقليم كارباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، وهو دليل واضح على محاولة تقليص الدور الروسي، ووضع حجر الأساس لتدخل دول مؤتمر الأمن الأوروبي في نزاعات الكومنولث.
دول الكومنولث والتنافس الإقليمي من جانب “إيران، وتركيا، وإسرائيل”
في ضوء انهيار الاتحاد السوفيتي، أصبح من الواضح أن هذه الجمهوريات يمكن أن تشهد أعنف صراع لاحتوائها في نفوذ دولة أو أخري أو كتلة أوأكثر. فتركيا على سبيل المثال تعمد إلى تصدير النموذج التركي إلى هذه الجمهوريات، خاصة وأن النموذج الإيراني لا يحظى بتأييد الغرب وأمريكا.
فتركيا التي سلكت طريق كمال أتاتورك بعدم التوسع شرقاً وشمالاً بعد الثورة البلشفية، واتجهت نحو أوروبا، أصبحت تعلم الآن أن عصراً جديداً قد بدأ، وبدأ معه تبادل اقتصادي واسع النطاق بين شعوب الأوزبك والكازاك والقرقيز، مع إعلان تركي على ضرورة تحمل الكثير من أجل الحلم الكبير بكسب كتلة تركية تضاعف قوة الأتراك في المحافل الدولية.
وإيران التي منعها التحالف الغربي من أداء أي دور فعال في الخليج تريد التوجه شرقاً وشمالاً لتصدير مبادئ الثورة، وجهودها في هذا الصدد واضحة من خلال المنظمات الأفغانية الموالية لها، ومن خلال نفوذها الثقافي في طاجيكستان، وبمقتضى جوارها وقربها الشديد من أذربيجان. وهناك عدة قيود يمكن أن تؤثر في قدرة إيران على استثمار عوامل التقارب بينها وبين جمهوريات آسيا الوسطي ومنها على سبيل المثال:
1. تخوف هذه الجمهوريات من دور طهران بسبب طبيعة السياسة الإيرانية، وخاصة أن قوة إيران وقربها الجغرافي يغذيان مثل هذه المخاوف. والنموذج المفضل لهذه الجمهوريات هو الدولة القومية الديمقراطية المستقلة التي تنظم حياتها الاجتماعية من خلال الدين، ولهذا تبدو تركيا في هذا السياق أكثر جذباً بالنسبة لزعمائها عنه بالنسبة للنموذج الإيراني.
2. تخوف إيران من ظهور نزعة للوحدة الأذربيجانية التي تحمل من الناحية العملية إمكانية التطور في اتجاه تفجر مطالب إقليمية لجمهورية أذربيجان داخل إيران المتاخمة لها، التي تنتمي من الناحية العرقية للأذربيجان.
3. هناك عائق مذهبي على الدور الإيراني مبعثه سيادة المذهب السني في تلك الجمهوريات باستثناء جمهورية أذربيجان، حيث ينتمي غالبية سكانها إلى المذهب الشيعي.
4. المشكلات الاقتصادية التي تواجه إيران، وهذا يؤثر سلباً في عمليات تنفيذ المشروعات والاتفاقات المشتركة بين إيران وجمهوريات آسيا الوسطي، أضف إلى ذلك أن هذه الجمهوريات تحتاج إلى مصادر وإمكانات تكنولوجية وتقنية متقدمة لا تملكها إيران، وهنا تبرز تركيا بديلاً ملائماً للوفاء بهذه الحاجات بحكم تقاربها مع أوروبا وأمريكا.
5. عدم الرضا الغربي بشكل عام علي قيام إيران بأي دور إقليمي مؤثر في هذه الجمهوريات، خشية أن يؤدى ذلك إلى فرض هيمنتها السياسية على المنطقة؛ مما يهدد المصالح الغربية والأمريكية.
أما تركيا، فتسعي إلى استعادة مجدها في منطقة آسيا الوسطي، ويساعدها على ذلك وجود روابط عرقية وثقافية مشتركة حيث تتكلم خمس جمهوريات لغة قريبة من التركية، بجانب التقارب المذهبي، ولتركيا عدة أهداف تجاه هذه الجمهوريات تتمثل في:
1. وقف امتداد النفوذ الشيعي الراديكالي في هذه الجمهوريات، وقد شجعت الولايات المتحدة الأمريكية هذا التوجه التركي، وذلك لأن تركيا دولة علمانية ديمقراطية وعضو في حلف شمال الأطلسي.
2. تحقيق فائدة اقتصادية متمثلة في إمكانية الاستفادة من الإمكانات الزراعية والنفطية والمعدنية خاصة اليورانيوم بالإضافة إلى الخبرات النووية لبعض هذه الدول.
3. أن هذه الدول تمثل سوقا واسعا لتسويق المنتجات التركية.
4. وفي المقابل تري هذه الدول في التقارب مع تركيا، فرصة لمساعدتها في تحويل اقتصادها للسوق الحر بعد بقائها لعشرات السنين حبيسة الحكم السوفيتي.
الواقع أن تركيا تواجه بعض العوائق في دعم هذه العلاقات مع تلك الجمهوريات، بسبب محاولة روسيا للهيمنة عليها، أضف إلى ذلك أن هذه الجمهوريات أعضاء في كومنولث الدول المستقلة. ومن ناحية أخرى فإن تركيا وروسيا تتنازعان مستقبل نقل بترول آسيا الوسطي إلي الأسواق الغربية الذي من شأنه تشكيل نمط التحالفات الاقتصادية في المنطقة كلها.
ولا شك أن القضايا الخلافية بين تركيا وروسيا، التي تأتى في إطار التنافس لبسط الهيمنة على هذه الجمهوريات بدافع الميراث التاريخي،علاوة على التنافس حول نقل بترول آسيا الوسطي، وكذلك الخلافات حول بعض القضايا الخلافية مثل قضية النزاع حول إقليم ناجورنو كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا وموقف الدولتين منها، والقضية القبرصية والدعم الروسي لليونان، كلها موضوعات لا يمكن فصلها عن قضية التنافس بين تركيا وروسيا على طبيعة العلاقات مع هذه الجمهوريات.
أما إسرائيل: فمنذ اللحظة الأولي لاستقلال هذه الجمهوريات،بادرت بإرسال وفود متعددة لزيارتها، ووجهت الدعوة إلى زعمائها لزيارة إسرائيل، وأسرعت بإقامة علاقات دبلوماسية مع العديد منها، وفتحت مكاتب تجارية وقنصلية من أجل دعم التعاون التجاري معها.وبطبيعة الحال فإن الولايات المتحدة الأمريكية تدعم الدور الإسرائيلي وتباركه، بل وتقوم بتمويله من أجل زيادة التعاون الإسرائيلي مع جمهوريات الكومنولث لمنافسة الدول العربية وبعض القوي الإقليمية مثل إيران، ومن ضمان مصالح الغرب والولايات المتحدة الأمريكية في هذه المنطقة.
وتحاول إسرائيل في هذا المجال تحقيق مكاسب اقتصادية، حيث تعدّ ذلك هدفا رئيساً للتغلغل في هذه الدول من أجل الحصول على أهداف سياسية، علاوة على تأكيدها بأنها دولة عصرية ذات تقدم تكنولوجي وحضاري على مستوي عال من الأهمية، وتملك تجربة فريدة ورائدة يمكن أن تستفيد منها هذه الجمهوريات.
كما تهدف إسرائيل كذلك إلى تغيير سياسات هذه الجمهوريات تجاهها والتي تساعد بصفة أساسية على استمرار فتح باب الهجرات اليهودية إلى إسرائيل، وزيادة التقارب معها في كافة الاتجاهات السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والتكنولوجية.
النزاعات الإقليمية وتأثيرها في دول الكومنولث المستقلة:
تبرز خطورة المسألة القومية والنزاعات التي تثور بسبب التركيبة العرقية داخل الكومنولث، من المسائل التي تؤثر بشكل واضح في أمن هذه الدول وتبرز خطورة هذه الأوضاع بسبب النزاعات بين القوميات سواء داخل الكومنولث أو حوله، فمثلا نجد إن الأوضاع في إحدى دول الجوار القريب مثل أفغانستان التي تعاني عدم الاستقرار، تؤثر في الطاجيك والاوزبك الذين يعيشون في شمال أفغانستان ومن ثم تؤثر هذه الأوضاع في طاجيكستان واوزبكستان.
كما يُعد الخوف من نمو النفوذ الإيراني أحد الهواجس التي تقلق القوى الدولية والإقليمية المتنافسة في المنطقة، ولذلك نلاحظ القلق الذي ساور واشنطن من جراء التعاون النووي بين روسيا وإيران، الذي تمثل في تزويد موسكو لإيران بمفاعلات نووية، حيث تخشى واشنطن أن تستغل إيران هذه المفاعلات في تطوير أسلحة نووية، ولكن روسيا تصر على أن هذه المفاعلات للأغراض السلمية.
ومن ثم فإن نقط التماس أو التباعد التي تحدث في العلاقات بين القوى الدولية والإقليمية المتنافسة تمثل خطراً يؤخذ في الحسبان بالنظر إلى تطورات الأوضاع في الكومنولث. وهذا الأمر لا يهم روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية فقط، وإنما يهم كل القوي الدولية والإقليمية، وبصفة خاصة تركيا وإيران، وذلك بالنظر إلى مدى تأثيره على تفاقم الأوضاع في المناطق الساخنة من أراضي دول الكومنولث المستقلة، نتيجة لتورط قوى إقليمية معينة كأفغانستان وإيران وربما تركيا في النزاعات الجارية في أراضي الكومنولث، كذلك تعد الصراعات على الحدود من أخطر ما يواجه الكومنولث ويهدد بتفككه، ولذلك فإن الحاجة تكون ماسة لعمليات حفظ السلام.
دول الكومنولث والاتجاه نحو الانعزالية والانفصال القومي:
منذ لحظة ميلاد الكومنولث، فقد كانت الرغبة في التفكك تعلو الرغبة في الاندماج، وقد انعكس ذلك الوضع على كيان الكومنولث الذي ولد هشاً مفتقدا لرغبة أعضائه في تنفيذ ما يتوصلون إليه من اتفاقات، ولذلك عمدت روسيا صاحبة ميراث السبعين عاماً من الهيمنة المركزية على استخدام وسائل الضغط المختلفة من أجل تنفيذ ما ترغب فيه من اتفاقات.
ونستطيع أن نسوق لذلك أمثلة عديدة، كاستخدامها الضغوط الاقتصادية من أجل التوصل إلى معاهدات التخلص من الأسلحة النووية مع كل من أوكرانيا وكازاخستان، وكذلك استخدام ضغوط الديون والطاقة على كل من بلوروسيا وأوكرانيا، حيث تواجه أوكرانيا بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية خطر الانفصال القومي إلى قسمين: أحدهما روسي يلحق بروسيا،والآخر أوكراني غير قادر على الاستمرار اقتصادياً.
بذلك فإن من ضمن الأساليب التي عمدت روسيا إلى استخدامها كانت ورقة الانفصال القومي بإثارة القلاقل والنزعات العرقية، وتقديم الدعم والعون للتطلعات الانفصالية، وتعدّ روسيا تحركاتها في هذا المجال مجرد سعي من أجل تأمين مصالحها الحيوية، وهي ترى أن هذا السعي لا يُعدّ بديلاً لرغبتها في إقامة علاقة شراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها من القوى الأوروبية، بل العكس هو الصحيح، حيث يمثل سعيها في المجال الأول الفرصة الحقيقية لتدعيم مكانتها من المجال الثاني بصفتها شريكاً مكافئاً للغرب، ومن هنا تُعد سياسة روسيا تجاه الوحدات التي كانت تشكل معها من قبل الاتحاد السوفيتي من أهم ما يميز السياسة الروسية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
وتُعد دول الكومنولث الأكثر تأثراً بهذه السياسية، حيث تؤثر بصفة خاصة في عملية تفكك الكومنولث وانقسامه على نفسه، أو إعادة التكامل في أراضيه. وبصفة عامة ينظر للعملية الأولى على أنها في مصلحة قوى الغرب، بينما تعدّ العملية الثانية مناقضة لمصالحه.
وتعليل ذلك يكمن في أن إعادة التكامل بين وحدات الكومنولث ستؤدي إلى القضاء على الكيان المستقل للدول المكونة له، وذلك بالطبع سيكون في صالح تعظيم قوة قطب هذا التكامل سواء كان هذا القطب روسيا أو غيرها من القوى الإقليمية الساعية إلى ذلك وبصفة خاصة تركيا أو إيران وهذا بالطبع سيقف عقبة في وجه تصدير النموذج الديمقراطي الغربي، وسيادة قيم الثقافة الغربية في مرحلة التبشير بعالميتها في ظل الانتقال إلى النظام العالمي الجديد، وأغلب الظن أن ذلك سيصب في مصلحة روسيا بصفتها الطرف الأقوى داخل الكومنولث.
والواقع أن النزعة التي سادت جمهوريات الكومنولث الجديد، بعد التفكك، كانت في مضمونها نزعة نحو الانعزالية، ويؤكد أنصار الانعزالية في روسيا أنها ليست في حاجة إلى التكامل حالياً مع غيرها وأنها تملك القدرات التي تكفل لها الاعتماد على نفسها. كذلك يرى مؤيدو الانعزالية في دول الكومنولث الأخرى أن هناك مخاوفاً حقيقية من المركز الروسي تهدد استقلاليتهم، وتحبذ عزلتهم عنه، كما يسود بينها اعتقاد بأن زيادة التقارب مع روسيا بسبب مشكلات في علاقات دول الكومنولث بباقي القوى الإقليمية والدولية الأخرى.
وعلى الرغم من أن الحاجة ماسة أمام دول الكومنولث لكي تندفع نحو تشكيل مجال اقتصادي وكذلك دفاعي مشترك، إلا أن التعثر في هذين المجالين يُعد من أهم العوامل المؤثرة على حالة التفكك، ومع ذلك نجد أن هناك تبادل بين دول الكومنولث في هذه المجالات
الأخطار التي تهدد رابطة الكومنولث:
الأخطار التي تهدد رابطة الكومنولث المستقلة، جعلتها أشبه بالأخوة الأعداء، فهناك المشكلات الداخلية في العديد من تلك الجمهوريات، والتي تصل أحياناً إلى مرحلة الحرب الأهلية، وهناك كذلك الخلافات والنزاعات بين بعض الجمهوريات التي وصلت إلى مرحلة الصراع المسلح، يضاف إلى ذلك المشكلات الاقتصادية وآثار التحول الاقتصادي لاقتصاد السوق الحرة، وهناك كذلك مشكلة الأسلحة النووية التي كانت في وقتها من أخطر المشكلات التي واجهتها.
وإذا نظرنا إلى الوضع الداخلي في روسيا، نجده يدعو إلى التأمل، فقد انفجرت الصراعات حول الاستئثار بكراسي السلطة الجديدة المتنامية في الجمهورية الروسية، كما تصاعدت نغمات الانفصال عن بعض الأقاليم الداخلة في نطاق الجمهورية الروسية، وأبرز هذه النغمات تلك التي صدرت عن تترستان وعن الشيشان.
هذا وقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي وما أعقبه من انهيار للحزب الشيوعي والأخذ بنظام السوق الحرة، وظهور جماعات المافيا، وتفشي الجريمة المنظمة، وتراجع هيبة الدولة بوجه عام، وضياع سلطة الإدارة وسوء التنظيم الاقتصادي، إلى إصابة جماهير الشعب الروسي بصدمة عنيفة ومفاجئة، وقد انعكس ذلك على الصعيد الإقليمي بظهور مفاجئ للقوى التي تساعد على بزوغ النزعة القومية وظهور نزعة الروح الانفصالية، بحيث أصبحت الجمهوريات التابعة للاتحاد الروسي يستهويها هي الأخرى الاتجاه نحو طريق الحرية الاستقلالية الجارف، فنجد على سبيل المثال مدينة مثل بطرسبورج أرادت أن تتحول إلى الحكم الذاتي، في حين تتصرف ياقوتيا، حيث توجد أهم مناجم الماس، وكأنها جمهورية مستقلة، وهذا يعني أن روسيا أصبحت تواجه مصاعب جمة لمواصلة مسيرتها نحو التحول الديمقراطي.
أما في أرمينيا وأذربيجان، فلم تنجح رابطة الكومنولث في حل المشكلة التي تصاعدت نحو الصراع المسلح بينهما، حيث دارت المعارك حول إقليم ناجورنو كاراباخ، وقد استغلت أرمينيا الوضع المتردي في أذربيجان، الذي انتهى بعزل رئيسها، لتشن هجوماً مكثفاً على بعض مدن أذربيجان. بما أدى إلى نجاحها في انتزاع إقليم ناجورنو كاراباخ من أذربيجان بعد انتصارها في هذا الصراع.
أما جورجيا، فقد شهدت صراعاً آخر، بإعلان إقليم أفخازيا ـ الذي يتمتع بالحكم الذاتي ـ الاستقلال، ومن ثم تصاعد الصراع المسلح داخل جورجيا. وبالرغم من توقيع اتفاقيات لوقف إطلاق النار بوساطة روسية، فقد تزايدت حدة القتال وسقط مئات القتلى نتيجة لذلك، كما اهتمت روسيا باستمرار تصعيد هذا القتال حتى تُبقي على قواعدها داخل هذه الجمهوريات لحماية مصالحها الإستراتيجية.
وفي أوكرانيا، تصاعد الصراع الداخلي، بسبب النزاعات الداخلية التي هددت استقلالها، حيث إن جزءاً كبيراً من عمال المناجم كان يقف موقف المعارضة من الحكومة الأوكرانية، وهم من أصل روسي، بل وينادون بالاستقلال خاصة وأنهم يمثلون الجزء الشرقي من أوكرانيا، وهناك كذلك مشكلة الحدود بين روسيا وأوكرانيا، حيث تطالب روسيا بإعادة شبه جزيرة القرم المهداة إلى أوكرانيا في عام 1954، وقد رفضت أوكرانيا، هذا الطلب
كذلك برزت مشكلة تقسيم أسطول البحر الأسود بين روسيا وأوكرانيا، والذي يضم نحو 300 قطعة بحرية، ومن ثم هددت هذه المشكلة العلاقات الروسية ـ الأوكرانية، ثم تفجرت أزمة أخرى بينهما بسبب قرار البرلمان الروسي إعلان السيادة الروسية على مدينة سيفاسيتبول الساحلية مقر أسطول البحر الأسود، الأمر الذي وصفه الرئيس الأوكراني بأنه قرار غير قانوني ويشكل تهديداً للاستقرار.
وهناك مشكلة أخرى برزت في طاجيكستان، حيث حاولت قوى المعارضة الشيعية من الطاجيك بمعاونة فصائل من الأفغان من الاستيلاء على السلطة في البلاد، ولكن روسيا دفعت بقواتها لمساندة الحكومة الموالية لها، حيث هاجمت 35 ألفاً من الطاجيك المعارضين على حدود نهر جيحون ودمّرت تحصيناتهم وقتلت العديد منهم وهرب الباقي من قوى المعارضة داخل أفغانستان. ومع تزايد الصراع داخل طاجيكستان، ازداد معه الموقف الداخلي سوءاً، والخوف من تصاعد الموقف والوصول به إلى حرب جديدة مع أفغانستان.
تداعيات الانهيار والانفراد الأمريكي
أولاً: تداعيات الانهيار
بعد تكوين الكومنولث تكشف أن معدل التضخم يتزايد بنسبة 3% أسبوعياً. وأن 40% من الشعوب السوفيتية السابقة، يبلغ متوسط دخل الفرد الشهري فيها نحو مائة روبل فقط، أي ما يقل عن دولار واحد، وهو لا يغطي سعر كيلو جرام من اللحم.
ومع إعلان يلتسين شعار الانتقال الفوري وغير المشروط عن إطلاق حرية الأسعار والأجور دون ضوابط، إلا قواعد العرض والطلب، ورغم اعتراض جمهوريات الكومنولث على انفراد روسيا بهذا القرار، إلا أن هستيريا الرأسمالية، أصبحت هي طريق ثراء الوطن والمواطن، وأصبحت أمريكا تضغط على الجميع للسير في هذا الاتجاه.
وقد قرر المراقبون للأحداث الاقتصادية في جمهوريات الكومنولث، أنه إن آجلاً أو عاجلاً، فإن مسيرات الجوع الجماهيرية الغاضبة سوف تسيطر على الساحة السياسية في هذه الجمهوريات، وبذلك تتعرى ديمقراطيتهم الزائفة وقد يفقدون السيطرة والسلطة.
أبعاد التفكك الاقتصادي في كومنولث الدول المستقلة:
ظهرت أزمة التفكك الاقتصادي في كومنولث الدول المستقلة على مستويات ثلاث هي:
1. المستوى المحلي:
يعكس معضلات بناء نظام اقتصاد السوق الجديد ليحل محل نظام اقتصاد الأوامر في جميع الجمهوريات السوفيتية السابقة، بما في ذلك دول البلطيق الثلاث التي لم تنضم إلى الكومنولث.
2. المستوى الإقليمي:
يرتبط بتفكك الروابط الاقتصادية الهيكلية التي تكونت تاريخياً بين الجمهوريات التي استقلت بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
3. المستوى العالمي:
ويتجسد في التفكك الموروث بين اقتصاديات الجمهوريات المذكورة والاقتصاد العالمي.
ونلاحظ أولاً أن أزمة تفكك النظام الاقتصادي في كل من دول الكومنولث تمثل نتاجاً منطقياً لتقويض آليات اقتصاد السوق، فقد تفككت الروابط الاقتصادية بين القطاعات والفروع والمؤسسات والمشروعات الاقتصادية، ولكن بدرجات تتفاوت حسب مدى راديكالية إجراءات تقويض النظام الاقتصادي القديم في كل دولة من الدول الجديدة، وارتبط اتجاه أعضاء كومنولث الدول المستقلة نحو تنفيذ سياسات الاستقرار الاقتصادي والتصحيح الهيكلي وتحرير التجارة، بتدهور أشد لمؤشرات أدائها الاقتصادي نتيجة غياب التناسب الضروري بين هدم النظام الاقتصادي القديم وبناء النظام الاقتصادي الجديد.
ثانياً: أن أزمة التفكك الاقتصادي الإقليمي تُجسد انهيار آليات تخطيط وإدارة تدفقات السلع والخدمات وتسوية المدفوعات وأجهزة صنع السياسات الاقتصادية، وذلك بانهيار أجهزة الدولة المركزية التي جسدها الاتحاد السوفيتي السابق.
ثالثاً: إن ما نسميه أزمة فك الارتباط مع السوق العالمي تعكس تشكل اقتصاديات الجمهوريات السوفيتية سابقاً، أو اقتصاديات دول الكومنولث حالياً، في إطار إستراتيجية للتنمية استندت إلى فلسفة الاستقلال الاقتصادي عن السوق الرأسمالي العالمي، وقد ترتب على هذه الإستراتيجية ميراث ضعيف عن الاتحاد السوفيتي السابق في العلاقات الاقتصادية الدولية، أصبح يمثل قيداً رئيساً على إعادة بناء العلاقات الاقتصادية بين دول الكومنولث وبقية العالم.
1. تفكك النظام الاقتصادي في دول الكومنولث:
ألفت برامج الإصلاح الاقتصادي الليبرالي التي تتبناها دول الكومنولث، من سلسلة مترابطة من السياسات الاقتصادية التي هدفت إلى تحول اقتصاديات السوق. إذ طبقت هذه البلدان في إطار اتفاقات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي لتصحيح الإختلالات الداخلية مثل عجز الموازنة والدين العام الداخلي والتضخم الجامح.
والاختلالات الخارجية مثل عجز موازين التجارة والمدفوعات والمديونية الخارجية وسياسات استهدفت التصحيح الهيكلي مثل تحرير الأسعار، وإخضاعها لآليات السوق ترشيداً لاستخدام الموارد وتخصيصها، وتنفيذ برامج التخصيصية لتقليص هيمنة القطاع العام في الاقتصاد، وتوفير الحوافز للاستثمار الخاص والمبادرة الفردية، إلى جانب سياسات تدفع نحو تحرير القطاع الخارجي مثل تحرير الواردات والصرف الأجنبي وتشجيع الاستثمار الأجنبي.
الآتي يعد أهم مؤشرات الأداء الاقتصادي الداخلي والخارجي للدول أعضاء رابطة الكومنولث.
أ. تناقص الإنتاج السلعي:
طبقاً للإحصاءات الرسمية لدول الكومنولث المستقلة التي نشرتها اللجنة الإحصائية
لأسرة الدولة المستقلة، والتي قد تنزع إلى التهوين من شأن تدهور مؤشرات الأداء الاقتصادي، فإن هذا التدهور كان حاداً في جميع هذه الدول في عامي 1992 و1993 اللاحقين لانهيار الاتحاد السوفيتي مقارنة بعامي 1990 و1991 الأخيرين في عمر الدولة السوفيتية.
وهكذا، فإن الناتج المادي الصافي قد انخفض بشدة في جميع دول الكومنولث باستثناء تركمانستان التي زاد فيها بنحو 35.8% بفضل صادراتها البترولية أساساً.
واستمر تناقص الإنتاج والدخل في دول الكومنولث خلال عام 1993 لمجموع الدول المذكورة حوالي 69.8%، أي انخفض بنحو الثلث، مقارنة بعام 1991.
وأما التضخم، طبقاً للبيانات الرسمية، فقد تضاعف الرقم القياسي لأسعار التجزئة للسلع الاستهلاكية في عام 1993 بأكثر من 500 مرة مقارنة بعام 1991، كما قدر حجم البطالة بنحو 1.2 مليون مشتغل في الدول الإحدى عشرة المذكورة أعضاء الكومنولث، منهم حوالي 70% في روسيا، وذلك في نهاية عام 1993، وذلك في بلدان لم تعرف البطالة من قبل، وارتبطت البطالة في روسيا بعودة واسعة نسبياً للروس من الخارج، مع معدل سلبي للزيادة الطبيعية للسكان خلال عام 1992 و1993.
ورغم جهود كبح التضخم وما تولده من بطالة وما تدفع إليه من تدهور للإنتاج، فإن مشروع الموازنة المعدل عام 1994، الذي صدق عليه مجلس الدوما ـ للبرلمان الجديد المنتخب ـ يتضمن عجزاً يعادل 70 تريليون روبل أو نحو 10% من الناتج القومي الإجمالي.
ب. تدهور التجارة الخارجية:
انعكست أزمة التفكك الاقتصادي التي عاشتها دول الكومنولث المستقلة منذ التفكيك الرسمي للاتحاد السوفيتي السابق، وعجز السياسات الاقتصادية عن إدارة الانتقال الصعب من اقتصاد الأوامر إلى اقتصاد السوق، على أداء القطاع الاقتصادي الخارجي لهذه الدول. وهكذا، فقد تراجعت صادرات الإحدى عشرة دولة المذكورة من 59.7 مليار دولار في عام 1991 إلى 52.2 مليار دولار في عام 1992، ثم إلى 50.9 مليار دولار في عام 1992، وكان تدهور الواردات أشد، حيث انخفضت قيمتها من 59.7 مليار دولار إلى 44.4 مليار دولار ثم إلى 32.9 مليار دولار.
وفي المحصلة حققت كل من روسيا وكازاخستان وأوكرانيا وتركمانستان وأذربيجان فوائض متواضعة في موازينها التجارية لعام 1993، تراوحت بين 100 مليون و900 مليون دولار فقط للدول الأربع الأخيرة.
ورغم أن فائض الميزان التجاري لروسيا قد تجاوز 16 مليار دولار في عام 1993، فإن نمو صادراتها إلى 42.1 مليار دولار في هذا العام مقابل 42.4 مليار دولار في عام 1992، كان محدوداً للغاية بحيث بقيت الصادرات الروسية أدنى بكثير من قيمتها في عام 1991 حين بلغت 50.9 مليار دولار.
2. تفكك الروابط الاقتصادية بين ورثة الاتحاد السوفيتي:
إن تقويض آليات إدارة الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الجمهوريات الوريثة للاتحاد السوفيتي السابق، يمثل قيداً حاسماً على تطوير العلاقات الاقتصادية بين الكومنولث الروسي وبقية العالم، ويبدو هذا الاعتماد المتبادل غير متكافئ من زاوية تفاوت مستوياته المقارنة بين الورثة. وينعكس في صورة تفاوت القدرات على إعادة بناء العلاقات الاقتصادية الدولية بعد الاستقلال.
الروابط والمصالح والمخاوف المتبادلة بين دول الكومنولث وتأثيرها في إمكانات إعادة بناء وتوسيع العلاقات الاقتصادية بينها وبين دول العالم.
أ. عوامل الانضمام للكومنولث:
الواقع أن ميراث الاعتماد الاقتصادي المتبادل وتكامل الهياكل الإنتاجية يظهر بوضوح من تحليل نسب التدفقات السلعية للجمهوريات السوفيتية سابقا إلى الناتج المحلي الإجمالي لكل منهما ولكن باستبعاد معظم الخدمات وفق التعريف السوفيتي.
وهكذا، وفقاً للبيانات المتاحة فإن نسبة التدفقات السلعية للجمهوريات السوفيتية سابقاً إلى الناتج المادي الصافي قد بلغت 70% لروسيا البيضاء، وترواحت بين 61% و66% لكل من أستونيا وليتوانيا، وهو ما يفسر عمق الأزمة الاقتصادية في دول البلطيق، وبلغت نحو 64% لأرمينيا، ونحو 62% بالنسبة لمولدافيا، و59% بالنسبة لأذربيجان.
وينطبق ذات الأمر على جورجيا التي انفردت في نهاية الأمر، برفض المشاركة في تأسيس الكومنولث وعضويته تحت زعامة رئيس جورجيا السابق جامسا خورديا، وبعد تولي إدوارد شيفرنادزة انضمت إلى الكومنولث مخاطبة ود موسكو،خاصة بعد انتصار الانفصاليين في إقليم أفخازيا، علاوة على مصاعب الروابط الاقتصادية الموروثة والتي يعكسها بلوغ النسبة المذكورة حوالي 54%. أما طاجيكستان، فقد بلغت النسبة حوالي 42%.
وإذا كانت تركمانستان وقيرقيزستان لا تواجهان ضغوطاً ثقيلة تدفع للاندماج الأوثق في الكومنولث، فإن ضعفهما الاقتصادي النسبي وموقعهما الجيوبوليتكي الداخلي يفسر استقرار عضويتهما في الكومنولث الروسي، لكنه لا ينبغي تجاهل أن مؤشر اندماج اقتصاد كل منهما في التخصص الإنتاجي الموروث يزيد على 50%، ويمكن أن نخلص إلى ذات الاستنتاج بشأن أوزبكستان حيث تبلغ النسبة أكثر من 43%.
وتبقى أوكرانيا حالة خاصة، حيث، إن مؤشر اندماجها في التخصص الإنتاجي بين الدول المستقلة تزيد على 39%، وهكذا فإن أوكرانيا الأكثر اعتماداً على غيرها من أعضاء الكومنولث وخاصة روسيا من الناحية الاقتصادية، جابهت ضغوط العزلة الدولية، وغير ذلك من الضغوط والمخاوف التي تضعف نزعات الاستقلال القومي وتقوى اتجاهات الارتباط بروسيا والكومنولث الروسي.
ب. أبعاد الاعتماد المتبادل:
تكشف المؤشرات السابقة عمق الاعتماد الاقتصادي المتبادل، ومدى تكامل البني الإنتاجية بين اقتصاديات كومنولث الدول المستقلة، انعكاس هذا المعطى على إمكانات الارتقاء بالعلاقات الاقتصادية الدولية لهذه المجموعة من الدول مع العالم خارج حدود الاتحاد السوفيتي السابق، هو الترابط الاقتصادي المتبادل بين دول الكومنولث ووهن علاقاتها الاقتصادية الدولية مع العالم الخارجي، وهكذا، فإن نسب صادرات دول الكومنولث، فضلاً عن دول البلطيق غير الأعضاء في الكومنولث إلى الناتج المادي الصافي لكل منهما، تعدّ شديدة الانخفاض مقارنة بالنسبة المقابلة لصادراتها البيئية إلى ذات الناتج.
كما تبدو نسب الصادرات البينية إلى الناتج المادي الصافي لكل منهما أدنى بكثير من نسب إجمالي تجارتها الخارجية مع الجمهوريات السوفيتية السابقة وبقية دول العالم إلى الناتج المادي الإجمالي لكل منهما.
ج. الاعتماد على روسيا:
أن اعتماد كل من الجمهوريات السوفيتية سابقاً على روسيا أشد من اعتمادها على بقية الجمهوريات، وهو ما توضحه نسبة تجارة كل من هذه الجمهوريات مع روسيا إلى إجمالي تجارتها مع بقية الجمهوريات، ويلفت انتباهنا بقوة أن هذه النسبة هي الأعلى لأوكرانيا التي مثلت تجارتها مع روسيا حوالي 70.1%من تجارتها مع بقية الجمهوريات
وكانت النسبتان التاليتان لكازاخستان، حيث بلغت 62.1% وروسيا البيضاء حيث بلغت 61.1% وتراوحت النسبة المذكورة بين 54.4 و 59.5 لخمس جمهوريات هي: أستونيا وليتوانيا وجورجيا وأذربيجان وأرمينيا مرتبة أيضاً تنازلياً، حسب هذا المؤشر للاعتماد الاقتصادي، على روسيا أما فيما يتعلق بالجمهوريات الأربع وهي: لاتفيا وتركمانستان وقيرقيزستان وطاجيكستان، فقد تراوحت النسبة بين 43.4% و51.8% بذات الترتيب.
3. ميراث فك الارتباط بالسوق العالمي:
تشكلت اقتصاديات الجمهوريات السوفيتية سابقاً أو اقتصاديات دول الكومنولث حالياً في إطار إستراتيجية للتنمية استندت إلى فلسفة الاستقلال الاقتصادي ونزعت إلى فك الارتباط بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، كما عمقت الاعتماد الاقتصادي المتبادل في إطار السوق الداخلي الواسع في ضوء المحددات التالية:
أ. ضآلة الصادرات السوفيتية:
إن ضعف التجارة الخارجية للاتحاد السوفيتي السابق، أي القدرة التجارية الخارجية التي ورثها بالأساس أعضاء كومنولث الدول المستقلة، تكشف مؤشرات الحصة السوفيتية في الصادرات العالمية، والتركيب السلعي للتجارة السوفيتية، فضلاً عن التوزيع الجغرافي لهذه التجارة. وهكذا، طبقاً للمؤشرات الواردة في World Economic Outlook فإن حصة الاتحاد السوفيتي السابق في إجمالي الصادرات العالمية للسلع والخدمات لم تتجاوز 2.5% في عام 1990.
ب. تدهور شروط التجارة
باستبعاد تجارة الاتحاد السوفيتي السابق مع أعضاء منظمة الكوميكون التي ضمت دول الكتلة السوفيتية الاشتراكية سابقاً، من جانب وكل من الصين الشعبية وكوريا الشمالية ويوغسلافيا السابقة، من جانب آخر، فإن التجارة السوفيتية مع البلدان غير الاشتراكية متقدمة ونامية، تكشف الأسباب الهيكلية لتدهور شروط التجارة الناجم أساساً عن تدهور أسعار الصادرات السوفيتية وخاصة صادرات النفط والغاز التي مثلت أكثر من نصف إجمالي صادرات الاتحاد السوفيتي السابق مع بدء ثورة البيروسترويكا في منتصف الثمانينات.
وهكذا، فقد بلغ متوسط تدهور شروط التبادل التجاري للاتحاد السوفيتي السابق مع البلدان غير الاشتراكية حوالي6.4% سنوياً خلال الفترة بين عامي 1986 و1989. وقد عكس هذا التدهور هيمنة صادرات المواد الأولية والسلع الوسيطة التي تراجعت شروط التبادل التجاري الدولي لها مقارنة بتحسن شروط هذا التبادل للصادرات من الآلات والمعدات ذات المحتوى التكنولوجي الأرقى وهكذا، مع انهيار أسعار النفط في عام 1986، بلغ تدهور شروط تجارة الاتحاد السوفيتي السابق مع البلدان غير الاشتراكية حيث هيمنت صادرات النفط والغاز بنسبة 22.4% في عام 1986 حين انهارت أسعار النفط في السوق العالمي، ثم تدهورت شروط التجارة بنحو11.2% في عام 1988 للسبب نفسه من حيث الأساس.
ج. تأخر تحديث الاقتصاد:
يمثل التخلف البنيوي للصادرات السلعية يمثل السبب الجذري لضعف القدرة التجارية للاتحاد السوفيتي السابق، وعلى هذا الأساس فان تعظيم المشاركة السوفيتية في التجارة الدولية وتطويرها كانا مشروطين ببناء أسس اندماج أرقى في التخصص الدولي وتحديث جذري لآلية وبنية الاقتصاد، ومن الواضح أن ركود الصادرات السوفيتية إلى الدول النامية، قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالتأخر عن مواكبة إنجازات الثورة الصناعية التكنولوجية في موجتها الثالثة وهو ما ارتبط بدوره بجمود آليات اقتصاد الأوامر وقصور سياسات التنمية المشتعلة.
د. حصاد ثورة البريسترويكا:
تدهور مؤشرات التجارة الخارجية للاتحاد السوفيتي السابق في سنوات عمره الأخيرة، إلى أسباب هيكلية تتصل بإستراتيجية التنمية المستقلة ومأزق اقتصاد الأوامر وأعباء الحرب الباردة وجمود النظام الشمولي.. الخ، وغير ذلك مما يمتد بجذوره إلى مدي زمني أبعد من منتصف الثمانينيات حين بدأت تدريجيا ثورة البريسترويكا، بيد أن هذه الثورة التي دفعت في اتجاه هدم نظام اقتصاد الأوامر، بمعدلات أسرع بكثير من بناء نظام اقتصاد السوق
قادت إلى أزمة من نوع جديد انعكست في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية للاتحاد السوفيتي السابق على صورة تدهور أشد في مؤشرات التجارة الخارجية والميزان التجاري وميزان المدفوعات أخذ صورة تزايد العجز الخارجي وتضاعف المديونية الخارجية.
وهكذا علي سبيل المثال، فقد تراجعت قيمة الصادرات السوفيتية بالعملات الحرة من 82.6 مليار دولار في عام 1990 إلى 50.9 مليار دولار في عام 1991، أي تراجعت بنحو 38.4% بين العامين السابقين مباشرة لإعلان نهاية الاتحاد السوفيتي السابق.
والفترة ذاتها تدهورت الواردات السوفيتية بمعدل أشد حيث انخفضت من 82.9 مليار دولار إلى 44.5 مليار دولار أي بنحو 46.3%، وهو ما أدى إلى تفاقم القدرتين الاقتصادية والتصديرية لها، بمعنى تزايدت الاستدانة الخارجية وتضاعفت حجم المديونية وكذلك نسبة خدمة الدين الخارجي
وهكذا فإن السياسة الخارجية السوفيتية الجديدة التي افتقدت الحوافز الأيديولوجية لتوسيع النفوذ مع الأزمة الاقتصادية السوفيتية الموروثة والمتفاقمة التي زادت الحاجة إلى التمويل الخارجي، قد دفعت إلى تراجع مصلحة الاتحاد السوفيتي السابق وقدرته في مجال تقديم المساعدات الاقتصادية على أسس أيديولوجية، فضلا ًعن تدهور القدرة على تطوير التبادل التجاري على أسس اقتصادية، وقد مثلت هذه المعطيات نقاط انطلاق العلاقات الاقتصادية الدولية بين دول الكومنولث وغيرها من الدول.
ثانياً: التداعيات العسكرية
إعادة بناء قوات مسلحة مستقلة:
واجهت الدول المستقلة بعد الانهيار، العديد من الصعوبات من أجل إعادة بناء قوات مسلحة مستقلة لكل دولة للتعامل مع التهديدات التي تواجه أمنها القومي بعيداً عن القوات الروسية، ومن هذه الصعوبات عدم القدرة على بناء قوات مسلحة دون التعاون مع الجيش الروسي؛ وذلك بسبب مشكلة عنصر الكيف الديموجرافي، فبينما تمكنت بيلاروسيا، التي لا يزيد عدد سكانها عن 10.5 مليون نسمة، من تشكيل قوات مسلحة تضم 92 ألف جندي نظامي
فإن كازاخستان، التي وصل عدد سكانها 18.2 مليون نسمة، لم تتمكن إلا من تشكيل قوة عسكرية تضم 40 ألف جندي نظامي. يضاف إلى ذلك عامل القدرة الاقتصادية، فحجم الناتج القومي الإجمالي لمعظم دول الكومنولث لا يتيح لها سوى تخصيص ميزانية محدودة نسبياً للدفاع، وقد أدت هذه الأوضاع إلى عدم قدرة معظم دول آسيا الوسطى، ودول ما وراء القوقاز على تشكيل قوة مسلحة كافية للتعامل مع التهديدات التي تعرضت لها في مرحلة ما بعد الاستقلال، مما أدى إلى طلب تدخل القوات الروسية في أحوال مختلفة بما في ذلك دول ذات ميول استقلالية عالية مثل جورجيا وأذربيجان.
وكانت مشكلة الخبرة العملية لبناء القوة العسكرية لدى معظم دول آسيا الوسطى وما وراء القوقاز، سبباً في اعتماد دول مثل جورجيا وطاجيكستان على ميليشيات من محترفي الإجرام في التعامل مع المعارضة المسلحة مما اضطرها للتعاون مع روسيا في بناء قواتها المسلحة، وظهر نمط التعاون الكامل من خلال اتفاق أمني توكل فيه لروسيا مهمة بناء الجيش تبعاً لنموذج كازاخستان، أو خضوع العناصر المسلحة الوطنية لقيادة مشتركة، تبعاً لنموذج تركمانستان.
كما لم تتمكن معظم دول الكومنولث من تشكيل قوات قطاعين هامين هما؛ قوات الحدود وقوات الدفاع الجوي؛ مما أدى إلى استمرار القوات الروسية داخل هذه الدول، استناداً على معاهدات الدفاع المشترك، واتفاقيات أمنية موقعة بين روسيا وكل من أوزبكستان وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا وغيرها.
وكانت التوجهات الخاصة ببناء القوات المسلحة، تتجه إلى قيام كل دولة بمحاولة تشكيل قوات مسلحة منفصلة، فقد طرحت مسألة إنشاء جيوش خاصة خلال الأيام الأولى لتشكيل الرابطة، وتم إقرار مبدأ السماح بتشكيل قوات مسلحة مستقلة عن القوات المشتركة في الثلاثين من ديسمبر عام 1991 وكان هناك اتجاهان:
1. الاتجاه الأول: ويدفع باتجاه تشكيل قوات مسلحة مستقلة لكل دولة، وهو اتجاه أوكرانيا وأذربيجان ومولدافيا، لأسباب مختلفة ترتبط بالخلافات الحادة بين أوكرانيا وروسيا، أما أذربيجان فيأتي هذا الاتجاه بسبب صراعها الحدودي مع أرمينيا، وميولها الانفصالية الحادة في ذلك الوقت، أما مولدافيا فلها ميول تجاه رومانيا.
2. الاتجاه الآخر: دول لا تؤيد تشكيل قوات مستقلة وهي جمهوريات آسيا الوسطى، فبحكم تكوينها العرقي ووجود نسبة كبيرة من الروس داخلها، أيدت وحدة جيش الاتحاد السوفيتي السابق في إطار الكومنولث، وترتيبات الأمن الخاصة بوضع القوات المشتركة المتمركزة على أراضيها تحت القيادة المشتركة، إلا أنها سرعان ما بدأت تهتم بتشكيل قوات مسلحة نسبياً بفعل تطورات الوضع في طاجيكستان لحماية نظمها، إضافة إلى التطور الطبيعي للأمور.
أما روسيا فتعدّ حالة خاصة، فقواتها المسلحة تمثل قضية ذات أبعاد تتجاوز بكثير مسألة الجيوش المستقلة المتصلة بدول الكومنولث. (انظر جدول عناصر القوة العسكرية لدول رابطة الكومنولث “قوات دول منطقة شرقي وجدول عناصر القوة العسكرية لدول رابطة الكومنولث “قوات دول آسيا الوسطى” وجدول عناصر القوة العسكرية لدول رابطة الكومنولث “قوات دول ما وراء القوقاز)
المشكلات التي ارتبطت ببناء قوات مسلحة مستقلة:
1. مشكلة امتلاك القدرة على بناء قوات مسلحة:
بمتابعة عملية بناء قوات مسلحة مستقلة لدى عدد من دول الكومنولث خاصة دول آسيا الوسطى وما وراء القوقاز ـ توضح وجود حدود واسعة للقدرة على امتلاك قوات مسلحة حقيقية يمكنها أن تحقق المهام التي يفترض أن تطلع بـها القوات المسلحة، ومن ثم اضطرت للتعاون مع روسيا لبناء هذه القوات، فهناك مصاعب عديدة تواجه هذه الدول في عملية البناء مثل مشكلة السكان، عنصر الكيف الديموجرافي ـ وجود نسبة كبيرة من الروس في البعض منها ـ والتمويل. وقد أدي ذلك إلى طلب تدخل القوات الروسية في أحوال مختلفة.
كذلك برزت مشكلة أخرى واجهت عملية بناء قوات عسكرية متكاملة لكل دولة منها، الخبرة العملية وإمكانيات التصنيع الحربي والإمكانات التكنولوجية، ولذلك اضطرت بعض هذه الدول إلى توقيع معاهدات دفاع مشترك واتفاقيات أمنية مع روسيا مثل: أوزبكستان وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا وغيرها.
2. مشكلة تقسيم القوات المسلحة السوفيتية:
لم تثر عملية تقسيم القوات السوفيتية التقليدية مشكلات مهمة بين دول الكومنولث، فيما عدا ما ثار بين روسيا وأوكرانيا بشأن أسطول البحر الأسود الذي كان يتألف من 300 وحدة بحرية متوسطة وصغيرة و45 وحدة كبيرة و28 غواصة، إضافة إلى الطيران البحري.
وقد نشأ هذا الخلاف في فترة ما قبل الانهيار، إلا أنه احتدم بعده، حيث أصرت أوكرانيا على الاحتفاظ بنصف هذا الأسطول تحت سيطرتها على أساس أنه يقع على أراضيها، كما تعمل به قيادات بحرية أوكرانية، بالإضافة إلى تحملها جزء من ديون الاتحاد السوفيتي السابق، وإزاء هذا الخلاف وبعد مفاوضات، اتفقت الدولتان على وضع الأسطول تحت القيادة المشتركة لهما، إلا أن الخلاف سرعان ما نشب مرة أخرى بينهما حول الرموز السياسية مثل العلم والقسم الوطني ونوعية الولاء، واستمر التوتر والخلاف حتى تم الاتفاق على اقتسام الأسطول بنسبة 18-20% لأوكرانيا والباقي لروسيا بحيث يكون لكل منهما قواعد منفصلة.
أما عن الأسلحة النووية: فقد عقدت بشأنها عدة اتفاقيات، ففي 21 ديسمبر 1991، أبرمت في المآتا معاهدة بين الدول الأربع النووية “روسيا، أوكرانيا، كازاخستان، بيلاروسيا”، اتفق فيها على خضوع القرارات المتعلقة بالأسلحة النووية لمسؤولية رئيس روسيا، وبموافقة الرؤساء الأربعة وفي اجتماع “منسك” في 31 ديسمبر 1991، أعطيت كل من كازاخستان وبيلاروسيا وأوكرانيا حق الاعتراض “الفيتو” على استخدام الأسلحة النووية القائمة على أراضيها. (انظر جدول اتفاقيات دول الكومنولث المستقلة)
وفي 23 مايو 1992، وقّع على اتفاقية بمدريد زعماء كل من بيلاروسيا وأوكرانيا وكازاخستان بصفتهم هدف الاتفاقية، كما وقعت عليها كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وكانت الاتفاقية تهدف إلى تحويل الدول النووية الثلاث الأولى إلى دول غير نووية في أقصر وقت ممكن، وقد أصرت أوكرانيا في البداية على الاحتفاظ بالقوة النووية على أراضيها للحفاظ على أمنها واستقلالها، لكنها سرعان ما تراجعت ووافقت على تدمير أسلحتها النووية، وطلبت في المقابل بعض الضمانات والتعويضات منها؛ عدم استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، ونبذ كل أشكال الضغط الاقتصادي ضدها، وتقديم الدعم المادي والتكنولوجي للمساعدة في تدمير أسلحتها النووية.
وفي بداية عام 1994، ومن خلال اتفاقية وقعتها أوكرانيا مع كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، بعد ممارسة الضغوط المباشرة والحفز والإغراء، وافقت أوكرانيا على الخروج من النادي النووي والتعهد بتصفية ترسانتها النووية التي تشكل ثالث أكبر ترسانة عالمية من خلال نقل حوالي ألفي صاروخ عابر للقارات و1800 رأس نووي إلى روسيا لتفككها على مدى سبع أعوام تالية.
وهكذا فإن الصعوبات التي واجهتها عملية بناء قوات مسلحة مستقلة لدول الكومنولث عدا أوكرانيا، قد أدت إلى استمرار تمركز القوات الروسية التقليدية داخل عدد من دول الرابطة بأحجام تزيد أحياناً على حجم القوات الوطنية، والتي وصلت إلى 12 ألف جندي روسي في كازاخستان و120 ألف في جورجيا و5 آلاف في أرمينيا، وسيطرة عسكرية شبه كاملة في تركمانستان، وقوة جوية في روسيا البيضاء، ويرجع ذلك لعدم قدرة هذه الدول على التعامل مع التهديدات التي تتعرض لها داخلياً والتي ساعدت روسيا نفسها في تعميق بعضها أو تفجيره.
إن عدم قدرة دول الكومنولث على بناء قوة عسكرية مستقلة لكل منها، والتي تكفي لحماية حدودها وأجوائها قد أدى إلى إيجاد قوة رابطة عسكرية قوية بينها وبين الاتحاد الروسي، وافقت عليها بعض هذه الدول مضطرة مثل؛ أذربيجان وجورجيا.
انعكاسات الانهيار على الصراع العربي الإسرائيلي
بدأ الصراع العربي الإسرائيلي منذ قيام دولة إسرائيل في منتصف مايو عام 1948م والاعتراف بها، ومنذ ذلك الوقت، وفي خضم الحرب الباردة بين قوتين عظميين، الاتحاد السوفيتي على قمة حلف وارسو، والولايات المتحدة الأمريكية على قمة حلف شمال الأطلسي. وكان من الطبيعي أن يتأثر هذا الصراع من جراء هذه الحرب الدائرة بين القطبين.
وقد تأثر طرفا الصراع العرب وإسرائيل، وتطورت علاقاتهما المختلفة مع الاتحاد السوفيتي، وكانت هذه العلاقات تميل لصالح العرب، خاصة في الظروف الحرجة المتمثلة في الجولات للعربية الإسرائيلية فيما عدا الجولة الأولى عام 1948.
ومن الطبيعي أن يؤثر تفكك الاتحاد السوفيتي بوصفه إحدى القوتين العظميين على العالم، حيث أدى إلى ظهور أقطاب دولية أخرى مثل؛ الصين، واليابان، والاتحاد الأوروبي، مع انفراد الولايات المتحدة الأمريكية في قمة النظام الهرمي العالمي، ومن ثَمّ أدى هذا التفكك إلى التأثير على الدول العربية وإسرائيل في كافة المجالات السياسية والاقتصادية بصفة عامة، والمجال العسكري بصفة خاصة، في وقت اعتمدت فيه معظم الدول العربية على الإمداد العسكري السوفيتي، وقد أدى ذلك فعلياً إلى اختلال التوازن بين أطراف الصراع.
أدى هذا التفكك إلى تغيير الإستراتيجيات العالمية للأقطاب الدولية القديمة تجاه الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث ظهر جليا قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتأكيد سيطرتها وانفرادها بمقدرات التسوية السلمية للصراع في الشرق الأوسط، والذي ينحاز دائماً للمطالب والمصالح الإسرائيلية.
ورغم أن هناك تأثيرات سلبية على العالم العربي ناتجة عن تفكك الاتحاد السوفيتي، إلا أن هناك بعض الآراء التي ترى وجود آثار إيجابية ناتجة عن التعاون الأمريكي – الروسي من أجل تحقيق السلام العادل والشامل في منطقة الشرق الأوسط.
إن النظام العالمي ما بعد التفكك وما يفرزه من صعود لمكانة بعض الأقطاب الجديدة، يمكن الاستفادة منه على المستوى العربي، واستغلال القدرات والإمكانات العربية من أجل تحقيق تقارب أكبر مع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.
الاتحاد السوفيتي وعلاقته بأطراف الصراع
على مدى الأربعين عاماً التي سبقت انهيار الاتحاد السوفيتي، استطاع أن يحقق الكثير من الدعم الحقيقي والفعال للعرب، والذي سمح له بدور مهم في تطور هذا الصراع، إلا أنه خلال الفترة نفسها، كان هناك بعض المواقف المناوئة للجانب الإسرائيلي التي يتضح من خلالها أنها كانت لأسباب تتعلق بنواحي سياسية ليس الهدف منها، معارضة المواقف العربية. ومثال ذلك الموقف الذي اتخذه جوزيف ستالين في دعم الحركة الصهيونية في فلسطين ضد الوجود الاستعماري البريطاني.
وكان هناك وهم شائع ظل قائماً لعدة سنوات، وهو ما يتعلق بتصنيف إسرائيل دولة شيوعية أو دولة تابعة للشيوعية الدولية بقيادة الاتحاد السوفيتي، بينما كانت كل الحقائق التاريخية والسياسية والعلمية في ميادين القتال توضح، أن هوية إسرائيل كانت على العكس من ذلك تماماً، فمنذ صدور تصريح بلفور في عام 1917، كانت جزءاً من المخطط الإمبراطوري الاستعماري في الشرق الأوسط، ثم تحولت بعد تغير موازين القوى لكي تكون جزءاً من المخطط الأمريكي، الذي تمكن من ورث التركة من بريطانيا وفرنسا.
وفي 15 مايو 1948، وبمجرد إعلان الدولة الإسرائيلية، بدأ التأييد السوفيتي لها سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً، فكان أول دولة تعترف بإسرائيل رسمياً، بالإضافة إلى فتح باب الهجرة من دول شرقي أوروبا وإمدادها بالسلاح وتدريب الطيارين الإسرائيليين في تشيكوسلوفاكيا.
ومنذ منتصف الخمسينيات، ومع بداية حكم الرئيس السوفيتي الأسبق نيكيتا خروشوف، بدأ يعطي اهتماماً ملحوظاً بمعالجة قضايا الشرق الأوسط، خاصة بعد قرارات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في يوليه 1955، التي قررت فيها، أن العالم الثالث أصبح مستعداً لقبول الاشتراكية، وأن القوى التقدمية الصاعدة يمكنها إضعاف المعسكر الرأسمالي، وبعد شهرين من هذا الاجتماع كانت هناك موافقة بإمداد مصر بالأسلحة التشيكية.
وفي عام 1960، عُقد المؤتمر العام للأحزاب الشيوعية، وتم خلاله تحديد مواصفات دول العالم الثالث التي يمكن أن تتعامل معها
ورغم ضرب القوى الشيوعية بمصر في عهد الرئيس جمال عبدناصر، وفي الجزائر عقب الاستقلال، وفي العراق على أيدي عبدالكريم قاسم، إلا أن خروشوف لم يُغير من استمرار تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري للعرب، وذلك لأن الهدف النهائي ـ من وجهة نظره ـ كان هو قيام جبهة معادية للرأسمالية والإمبريالية.
وعند إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، لم يكن الموقف السوفيتي واضحاً إزاءها، حيث كان ينظر إلى أعضاء المنظمة في بدايتها مع غيرهم من قيادات التحرير على أنهم مجرد مغامرين يسعون إلي إثارة حرب أخرى مع إسرائيل، وسرعان ما تغير هذا الموقف بعد زيارة الرئيس جمال عبدناصر لموسكو بصحبة ياسر عرفات عام 1968 ولقاء الرئيس السوفيتي ليونيد بريجنيف، حيث بدأ دعم المنظمة عسكرياً، بالرغم من استمرار بعض نقاط الخلاف ):
والواقع أن التحول الحقيقي في السياسة السوفيتية من مرحلة تلمس الخطر في منطقة الشرق الأوسط، إلي مرحلة أخرى تتميز بخطوات أكثر جرأة، قد تم في عهد ليونيد بريجنيف، ومن أمثلة ذلك.
1. اتخاذه قراراً بعدم السماح بسقوط أنظمة تُعدّ موالية بصورة أو بأخرى للسياسات السوفيتية، ومن ثم اتخذ قراراً بإرسال ما يقرب من عشرة آلاف خبير ومستشار عسكري إلى مصر بعد نكسة يونيه عام 1967.
2. مساندة مصر عسكرياً خلال فترة حرب الاستنزاف وبناء شبكة من الدفاع الجوى في منتصف عام 1970.
3. دعم سورية بمعدات وأسلحة جديدة بعد حرب أكتوبر 1973 لتعويض خسائرها، علاوة على دعمها بمعدات دفاع جوي حديثة، بعد أن غزت إسرائيل الأراضي اللبنانية عام 1982 في عملية أطلقت عليها اسم “سلام الجليل”.
كما كانت هناك مواقف عديدة للاتحاد السوفيتي، لدعم الدول العربية المتعاونة معه، ففي عام 1968 ساند الاتحاد السوفيتي النظام السياسي باليمن الجنوبي بعد الاستقلال عن بريطانيا، كما بدأ في دعم التعاون الاقتصادي والعسكري مع الجزائر بعد استقلالها، وفي بداية السبعينيات وجه تحركه تجاه التعاون الاقتصادي والعسكري مع ليبيا.
وخلال حرب أكتوبر 1973، وقف الاتحاد السوفيتي موقفاً مؤيداً لصالح العرب، ففي أعقاب صدور قرار وقف إطلاق النار الأول يوم 22 أكتوبر 1973، ومع استمرار انتهاك إسرائيل للقرار، أرسل بريجنيف رسالة إلى واشنطن في23 أكتوبر 1973، وصف فيها السلوك الإسرائيلي: “بأنه أمر غير مقبول وأنه يشكل من جانب الإسرائيليين عملية خداع صارخة يصعب السكوت عليها، ولا بد أن يدينها مجلس الأمن، وأن يطالب بوقفها”، وفي اليوم التالي مع استمرار الانتهاكات الإسرائيلية، استمر التصعيد السوفيتي
فأصدرت موسكو بياناً وقع عليه بريجنيف، أكد فيه على أن استمرار العدوان الإسرائيلي سوف يسفر عن عواقب وخيمة، وأن الاتحاد السوفيتي سوف يقرر بنفسه الخطوات الضرورية والعاجلة لتأكيد احترام وقف إطلاق النار، ورافق ذلك رفع الاتحاد السوفيتي درجة استعداد عدد من فرقه المحمولة، علاوة على تحركات عسكرية سوفيتية أخرى. وواجهت الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي هذا الموقف بإجراءات مماثلة
وبدأت على الفور اتصالات هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي بالقيادة السوفيتية حتى لا يفلت الزمام. وكذلك كان هناك موقف آخر مهم للاتحاد السوفيتي من خلال الجسر الجوي السوفيتي لتعويض بعض خسائر مصر وسورية، ولموازنة الجسر الجوي الأمريكي الإسرائيلي.
وبعد حرب أكتوبر 1973، بدأت التحركات من أجل تحقيق السلام بمنطقة الشرق الأوسط، فكان اجتماع يوم 2 أكتوبر 1977، بين وزيري الخارجية الأمريكية والسوفيتية والاتفاق على عقد مؤتمر جنيف للسلام وفي إطار مبادئ أساسية من أجل سرعة التوصل إلي تسوية عادلة ودائمة للنزاع بالشرق الأوسط واتفق على عقد المؤتمر في ديسمبر 1977، إلا أن ذلك المؤتمر واجه العديد من العقبات وأصبح من العسير عقده.
وبدأت السياسية السوفيتية في إعادة ترتيب أوراقها منذ بداية عام 1978 ـ نتيجة لمبادرة مصر للسلام عام 1977 ـ فساندت قرارات قمة بغداد الذي عقد في 3 نوفمبر 1978، والذي أعلن فيه عن تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية. كما وقفت إعلامياً وسياسياً مع تشكيل جبهة الصمود والتصدي والتي تضم العراق، وسورية، وليبيا، والجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأعلنت رفضها لإطاري كامب ديفيد الموقع بين مصر وإسرائيل في 17 سبتمبر 1978، وكذلك معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية الموقعة في 26 مارس 1979.
إستراتيجية الاتحاد السوفيتي إزاء الصراع العربي الإسرائيلي في عهد جورباتشوف عام 1985–1991.
بعد أن ركزت سياسة خروشوف ومن بعده بريجنيف، على ضرب النفوذ الغربي في منطقة الشرق الأوسط، فإن جورباتشوف اتجه إلى إستراتيجية جديدة قوامها، إمكانية دعم المصالح السوفيتية من خلال التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وإزالة ما من شأنه استمرار السياسة الأمريكية المعادية له، وأصبح من المحتم إجراء تعديل جذري في معالجة الصراع العربي الإسرائيلي خاصة بعد جولات أعوام 1956، 1967، 1973، والتي كادت أن تؤدي إلى مواجهة بين القوتين العظميين،
وذلك في الوقت الذي لم يتحقق لسياسة تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية سوى نفوذ سياسي وعسكري محدود للاتحاد السوفيتي داخل المنطقة، لا يتناسب مع حجم الدعم الذي قدمه للدول العربية، إضافة إلى الضغوط الاقتصادية التي بدأ يواجهها والتي حتمت عليه توجيه موارده للتنمية.
ومن ثم اعتمدت السياسة السوفيتية الجديدة التي بدأت في عام 1985، على الوفاق بين القطبين والتعاون بينهما بدلاً من التنافس، من أجل التوصل إلى حلول سلمية وخفض التسلح النووي والتقليدي وإزالة الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى من المسرح الأوروبي، وكانت من نتيجة هذه السياسة: الانسحاب السوفيتي من أفغانستان، وتوقيع اتفاقيتي سولت – 1، سولت –2 بين القطبين الأمريكي والسوفيتي.
أما فيما يختص بالصراع العربي الإسرائيلي فقد اعتمدت السياسة السوفيتية الجديدة على المبادئ التالية:
1. رفض أي مواجهات عسكرية جديدة مع إسرائيل.
2. تأييد كل المبادرات السياسية التي تقوم على مبدأ التفاوض المباشر في إطار مؤتمر دولي.
3. التدرج في العلاقات مع إسرائيل سواء الدبلوماسية أو التجارية أو الثقافية، مع ربط عودة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بانسحابها غير المشروط من الأراضي العربية المحتلة.
4. فتح باب الهجرة اليهودية على مصراعيه، وهو ما يشكل أكبر تحد واجه القضية الفلسطينية.
5. التمسك بنظرية توازن المصالح أساساً لحل النزاع العربي الإسرائيلي، وقبول مبدأ الأرض مقابل السلام.
وقد أدت هذه المبادئ والمتغيرات السابقة، وفي ضؤ الوفاق بين القوتين العظميين، إلي تجميد القضية الفلسطينية، وإلى بداية اتساع استيطان اليهود السوفيت بالأراضي العربية المحتلة.
سياسة الاتحاد السوفيتي تجاه النزاع العربي الإسرائيلي قبيل التفكك ديسمبر1991:
كان الوجود السوفيتي بمؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991، أي قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي بأقل من شهرين، بوصفه أحد راعيي المؤتمر، أقرب ما يكون إلى الوجود البروتوكولي المراسمي الباهت في حفلات الافتتاح والاختتام.
وقد بدت واشنطن وليس موسكو،هي الصانعة الحقيقية لقضية الشرق الأوسط والمحرك الرئيس لها.
إن ما حدث من تغيرات في السياسة السوفيتية في عهد جورباتشوف، وتقديمه لنظرية جديدة قوامها دعم المصالح السوفيتية من خلال التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتوجيه الموارد الاقتصادية للبلاد تجاه التنمية وليس نحو تقديم المساعدات.. قد أثَّرت بشكل واضح على الموقف السوفيتي من قضية الشرق الأوسط. بل أدت هذه السياسة إلي حدوث تقارب سوفيتي إسرائيلي، وإلى السماح بالهجرات اليهودية إلى إسرائيل، الذي أضحى متغيراً حاداً في السياسة السوفيتية تجاه قضية الصراع العربي الإسرائيلي خلال الفترة قبيل الانهيار.
تطور العلاقات السوفيتية ـ الإسرائيلية:
أولاً: في المجال السياسي والدبلوماسي:
أدى الاتحاد السوفيتي دوراً فعالاً في نشأة إسرائيل، وكانت الأغلبية الساحقة من المهاجرين اليهود الذين جاءوا في أعقاب الحرب العالمية الأولى إلى فلسطين من اليهود الروس، هذا وتنقسم العلاقات السوفيتية – الإسرائيلية،ـ منذ بداية المسار حتى قيام دولة إسرائيل بفترات تتمايز كل منها عن الآخرين تمايزاً جوهرياً كالآتي :
1. الفترة من عام 1947 ـ 1953:
تميزت هذه الفترة بتوثيق العلاقات بين الدولتين، حيث كان الاتحاد السوفيتي من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل في 18 مايو 1948، رغم موقف الشيوعية من الحركات العنصرية، حيث أدرك السوفيت أن عدم الاعتراف بالدولة الجديدة التي أقامها الغرب، يعنى انفراد الغرب بحرية العمل في المنطقة.
وفي عام 1949 ساهم الاتحاد السوفيتي مع الولايات المتحدة الأمريكية في إبرام اتفاقيات الهدنة التي ساعدت على بلورة دولة إسرائيل، وفي العام نفسه قدما سوياً مشروع قرار إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بقبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة.
وفي عام 1950، وبعد توالى اعتراف الدول الشيوعية بإسرائيل، توقف الاتحاد السوفيتي عن تزويد إسرائيل بالأسلحة، حيث إن كميات الأسلحة التي سلمت لإسرائيل حققت، إلى حد بعيد، الأهداف السوفيتية في مساعدة إسرائيل ضد العرب، مع اعتقادهم بأن إيقاف إرسال الأسلحة لإسرائيل قد يبعث الأمل في نفوس العرب على طلب العون من موسكو.
2. الفترة من عام 1953 ـ 1958:
نتيجة ارتباط إسرائيل الكامل بالغرب، وظهور مصر قوة جديدة في المنطقة تقاوم النفوذ الغربي وسياسة الأحلاف العسكرية، حدث فتور في العلاقات السوفيتية ـ الإسرائيلية، التي أدت إلي إحراق المفوضية السوفيتية في تل أبيب في فبراير 1953، وقد أدى هذا الحادث إلى إعلان موسكو قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
وفي يوليه 1953 وبعد انقضاء خمسة أشهر فقط على قطع العلاقات، عادت العلاقات بين الدولتين إلى مجراها الطبيعي، إثر انطلاق الأصوات اليهودية للسماح لليهود السوفيت بالهجرة إلي إسرائيل وانطلاق دعوة الولايات المتحدة الأمريكية لإنشاء منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط.
وفي 17 أبريل 1956، أذاعت الحكومة السوفيتية تصريحاً سياسياً مهماً جاء فيه: يرى الاتحاد السوفيتي أنه من الضروري دعم السلام العالمي، وتأييد اليهود في محاولة الوصول إلي تسوية عادلة على أسس مقبولة لدى الطرفين، مع مراعاة المصالح القومية المشروعة للأطراف
المعنية.
وباشتراك إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر، وجه الاتحاد السوفيتي إنذاره في الخامس من نوفمبر 1956 إلى كل من بريطانيا وفرنسا، وأرسل نسخة منه إلي إسرائيل، كما بعث بولوجانين برسالة إلى بن جوريون قال فيها: إن إسرائيل أداة للقوى الإمبريالية وحذّر من أن عدوانها وضع وجودها في خطر، وأعلن رسمياً استدعاء الكرملين لسفيره في تل أبيب، ولكن في 16 أبريل 1957معادت العلاقات بينهما مرة أخرى بصورة طبيعية.
3. الفترة من عام 1958-1961:
نتيجة لفتور العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتي، بسبب إقدام مصر على تحجيم النشاط الشيوعي بها، بدأت إسرائيل في التحرك من أجل تحقيق قدر من التقارب مع الاتحاد السوفيتي وبذلت إسرائيل محاولات عديدة لتحسين علاقاتها مع الاتحاد السوفيتي، مثل تعزيز العلاقات الاقتصادية، وتوسيع مجال التبادل التجاري، وتوثيق الروابط الثقافية والزيارات المتبادلة.
4. الفترة من عام 1961-1967:
اتجهت السياسية السوفيتية إلى عدم التعاون مع إسرائيل، بسبب التقارب الذي حدث بين الاتحاد السوفيتي والعديد من دول المنطقة، وفشلت جميع الوفود التي زارت موسكو في تحقيق أهدافها ورفضت موسكو استيراد أي سلع إسرائيلية، أو توقيع اتفاق تجاري مع إسرائيل.
وبعد نشوب حرب يونيه 1967، قطعت الكتلة الشرقية علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل باستثناء رومانيا، ورغم ذلك استمر الاتحاد السوفيتي في إمداد إسرائيل بحاجاتها من البترول، ولكن كان للمبادرة اليوغسلافية التي أعلنها الرئيس جوزيف بروز تيتو أثرها الكبير في الضغط على السوفيت لقطع علاقاته مع إسرائيل، إرضاءً للدول العربية.
5. الفترة من عام 1967-1973:
رغم تأييد الاتحاد السوفيتي لمصر والدول العربية سياسياً وعسكرياً بعد حرب يونيه 1967، في نزاعها ضد إسرائيل، إلا أنه كان يسعى، بشكل غير رسمي، إلى تحسين العلاقات مع إسرائيل، وفي عام 1969، حدث تحسن في العلاقات بين البلدين دون إعادتها بشكل رسمي. ويرجع هذا التطور في الاتحاد السوفيتي، نتيجة لانضمام حزب “الماباي” اليساري إلى الائتلاف الوزاري الإسرائيلي، وهو حزب مؤيد للسوفيت، علاوة على مرونة سياسة ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي تجاه السوفيت، وتأكيده على ضرورة إشراكهم في التسويات الخاصة بالشرق الأوسط.
6. الفترة من عام 1973-1985:
اتسمت هذه الفترة باهتمام السوفيت ببحث مشكلة الشرق الأوسط، من أجل إيجاد موضع قدم في حل النزاعات العالمية في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم كان الاتحاد السوفيتي حريصاً على المشاركة في التسويات السلمية بعد حرب أكتوبر 1973.
وفي عام 1975، حدد أندريه جروميكو وزير الخارجية السوفيتي، المحددات الأساسية التي ينبغي انتهاجها من أجل التوصل إلى سلام عادل بالشرق الأوسط، وحدد ثلاث نقاط رئيسة هي:
أ. انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة.
ب. الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وبحقه في تحديد هيكل دولته.
ج. ضمان أن تتمتع كل دولة في المنطقة بحدود آمنة.
ورأت موسكو أن موافقة إسرائيل على هذه الشروط الثلاثة، يمكن أن يؤدي إلى إعادة علاقاتهما الدبلوماسية. وفي 16 سبتمبر 1977، رفض الاتحاد السوفيتي عرضاً أمريكياً باستئناف علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل من أجل دعم دور موسكو في مساعي إقرار السلام في الشرق الأوسط
وفي 10 فبراير 1981، عقد الحزب الشيوعي الإسرائيلي مؤتمراً حضره وفد سوفيتي برئاسة ديمتري برونسكي رئيس إدارة العلاقات الدولية باللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، والذي أكد على تأييد الاتحاد السوفيتي للوصول إلى حل شامل لمشكلة الشرق الأوسط، وفي 27 سبتمبر 1981 التقى أندريه جروميكو وإسحاق شامير في الأمم المتحدة، ولم يسفر لقاؤهما عن تغير في العلاقات بين البلدين وفي أكتوبر 1982، كشف ” إسحاق شامير ” عن وجود اتصالات سرية تستهدف استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
7. الفترة من عام 1985-1991:
اتسمت هذه الفترة بمحاولات واتصالات سرية عديدة لإعادة العلاقات الرسمية بين الدولتين. وفي أغسطس 1989 تم إيفاد بعثة قنصلية للقدس لرعاية المصالح السوفيتية بداية لاستئناف العلاقات وسمحت السلطات السوفيتية لليهود بزيارة إسرائيل بتأشيرات سياحية على خلاف ما جرت عليه العادة قبل عشر سنوات.
وفي السادس من يونيه 1987 اقترح جورباتشوف التخلي عن فكرة حل النزاع العربي الإسرائيلي عسكرياً، والعمل على عقد مؤتمر دولي بشأن الشرق الأوسط، واشترطت إسرائيل لذلك شرطين هما: استئناف العلاقات الدبلوماسية معها و فتح باب الهجرة أمام اليهود السوفيت.
وفي عام 1988، كان هناك تقدم ملموس في العلاقات بين الدولتين، بالإضافة إلى اللقاءات شبه الدائمة مع إدوارد شيفرنادزه وزير الخارجية السوفيتي، كذلك تمت لقاءات إسرائيلية مع رؤساء حكومات ووزراء خارجية دول الكتلة الشرقية وبشكل علني.
وفي 25 ديسمبر 1990، قدم القنصل العام للاتحاد السوفيتي أوراق اعتماده إلى وزير الخارجية الإسرائيلي ديفيد ليفي ليكون قنصلاً عاماً لبلاده لدي إسرائيل.
وفي 9 مايو 1991 قام وزير الخارجية السوفيتي ألكسندر بسمرتنيخ بزيارة رسمية لإسرائيل أثارت الاهتمام، وكانت أول زيارة لمبعوث سوفيتي رسمي منذ إنشاء دولة إسرائيل.
8. فترة ما بعد عودة العلاقات الدبلوماسية:
أعادت إسرائيل افتتاح سفارتها بموسكو في 24 أكتوبر 1991، ورشح أربين لفين ليكون سفيراً لإسرائيل في موسكو، ويرجع السبب في عودة العلاقات بين البلدين إلى:
أ. رغبة السوفيت وضع نهاية لاحتكار الولايات المتحدة الأمريكية لمسار السلام في الشرق الأوسط.
ب. التغلب على رفض إسرائيل لاشتراك الاتحاد السوفيتي في مؤتمر السلام.
ج. اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بانضمام السوفيت إلي مسيرة السلام بالشرق الأوسط رغبة منها في مساعدة جورباتشوف.
ثانياً: في المجال الاقتصادي عام 1948-1991:
بدأ التعاون الاقتصادي بين موسكو وتل أبيب في 18 مايو 1948، حين اعترف الاتحاد السوفيتي بقيام دولة إسرائيل متمثلاً في استيراد البترول السوفيتي مقابل تصدير الموالح الإسرائيلية، واستمر هذا الوضع حتى ساءت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر في خريف عام 1956.
وفي نهاية عام 1966 بدأ التبادل التجاري بين البلدين في الانخفاض من ثلاثة ملايين دولار عام 1966 إلى 30 ألف دولار عام 1968 ولم يمض وقت حتى ظهرت بوادر انفراج الأزمة بين البلدين وإعادة تطبيع العلاقات بينهما في يونيه عام 1969.
وفي أوائل الثمانينيات أخذت العلاقات التجارية في التزايد، حيث قررت موسكو، وبشكل رسمي، تصدير مختلف المعدات الحربية والمواد الأولية لإسرائيل، وفي عام 1989 تم بدأ تشغيل الخطوط الجوية المباشرة بين تل أبيب وموسكو، ووصل حجم الصادرات الإسرائيلية للاتحاد السوفيتي خلال هذا العام إلى 8.5 مليون دولار، ثم زادت في عام 1990 حيث بلغت في الأشهر الأولى من العام نحو مليوني دولار.
وفي 24 مايو 1990، قام أرييل شارون وزير السكان الإسرائيلي، في ذلك الوقت، بزيارة خاصة لموسكو للتفاوض حول إمكانية توريد منازل جاهزة الصنع لإيواء اليهود السوفيت، مع زيادة طاقة خط الطيران المباشر بين موسكو وتل أبيب لنقل المهاجرين اليهود السوفيت إلى إسرائيل.
في المجال العسكري:
منذ نشأة إسرائيل كان الاتحاد السوفيتي أحد الممولين الرئيسيين لإسرائيل بالعتاد الحربي، حيث أمدها خلال الفترة من مارس إلى مايو 1948 بنحو350 طناً من العتاد عن طريق تشيكوسلوفاكيا يتضمن 25 طائرة ميرشميدث، من خلال عملية سميت بلاك. وكان الهدف من هذا الدعم إضعاف نفوذ بريطانيا وحلفائها في المنطقة ودعم الدولة اليهودية التقدمية واحتوائها بصفتها حليفة له.
وقد تغير جوهر هذه السياسة بعد وفاة ستالين، وانعكس هذا التغيير بوجه خاص نتيجة تغير السياسة السوفيتية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وظلت العلاقات العسكرية بين البلدين تفتقر إلى التعاون والتطور على مدى العقود الأربعة التالية.
ونتيجة للمتغيرات التي حدثت في بداية عام 1991 وبعد أحداث حرب الخليج، فقد حرصت إسرائيل على توثيق علاقاتها العسكرية مع الاتحاد السوفيتي، بدأت بزيارة وزير العلوم والطاقة الإسرائيلية يوفال نئمان في التاسع من مايو 1991 للاتحاد السوفيتي، من أجل تطوير التعاون في مجال استخدام الطاقة النووية لتحلية مياه البحر، كما سعت إسرائيل لشراء معدات عسكرية سوفيتية، كما وقعت على أول اتفاق علمي أكاديمي في مدينة بئر السبع، حضره متخصصون في مجال الطاقة، كما تم الاتفاق على تبادل البعثات العلمية بين البلدين.
في مجال الهجرات اليهودية السوفيتية إلى إسرائيل:
بدأت الهجرة الأولى بشكل منظم خلال الفترة من عام 1884 حتى عام 1903، ومعظمها من روسيا القيصرية، بسبب اضطهاد اليهود نتيجة اشتراكهم في مؤامرة لاغتيال قيصر روسيا، وقدرت هذه الهجرات بنحو20-30 ألف مهاجر. أما الهجرة الثانية فقد تمت خلال الفترة من عام 1904 إلى 1914، ومعظمهم كذلك من روسيا وقدر عددهم بنحو 35–40 ألف مهاجر يهودي.
وفي الفترة ما بين عام 1914 إلى عام 1936 تزايد عدد اليهود بفلسطين إلى نحو 400% وقاموا بإنشاء 44 مستعمرة، وتركزت معظم الهجرات خلال الفترة من عام 1932 إلى عام 1936، حيث دخل فلسطين 174 ألف مهاجر يهودي من روسيا وشرقي أوروبا، بما رفع عدد السكان اليهود ـ طبقاً لتقدير لجنة بيل ـ إلى 370 ألف نسمة، أما الوكالة اليهودية فقدرتهم بنحو 384 ألف نسمة، تمثل 28% من عدد سكان فلسطين. وفي عام 1948م، وصل تعداد اليهود في فلسطين إلى650 ألف نسمة، تمثل 31% من تعداد فلسطين.
وفي قمة مالطة في ديسمبر 1989 التي عقدت بين الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف والرئيس الأمريكي جورج بوش، استغلت الولايات المتحدة الأمريكية الظروف الدولية وما يحدث في دول أوروبا الشرقية، وحاجة الاتحاد السوفيتي لتهدئة الصراعات وتخفيف الضائقة الاقتصادية التي يتعرض لها، من أجل الضغط على الاتحاد السوفيتي للسماح بالهجرات اليهودية إلى إسرائيل، التي سميت فيما بعد “هجرات القرن العشرين”
ثم بدأت الهجرات اليهودية من الاتحاد السوفيتي تزداد بشكل كبير منذ شهر أغسطس 1990، حتى وصلت في منتصف يناير 1991 إلى 300 ألف مهاجر، وخصصت عشرات الملايين من الدولارات لإقامة 22 ألف وحدة سكنية في بئر السبع وحدها.
كما التخطيط لتهويد مدينة القدس الشرقية، وتحويل مواطنيها إلى أقلية، من خلال توطين اليهود السوفيت فيها، ومصادرة العديد من الدونمات لإقامة حي جديد لهم.
تطور العلاقات السوفيتية ـ العربية
1. خلال فترة حرب عام 1948 – 1949 “الجولة الأولى من الصراع العربي – الإسرائيلي”:
وبوفاة ستالين حدث تغيير في السياسة السوفيتية تجاه منطقة الشرق الأوسط وتجاه الصراع العربي الإسرائيلي، تجسد في تصاعد إمدادات السلاح السوفيتي إلى الدول العربية المتحررة، وشهد النصف الثاني من الخمسينيات بداية برامج المساعدات العسكرية والاقتصادية التي قدمها الاتحاد السوفيتي لأول مرة لدولة غير شيوعية في العالم الثالث، وكان ذلك من خلال صفقة الأسلحة التشيكية لمصر عام 1955 التي بلغت قيمتها 250 مليون دولار.
وتبعت هذه الصفقة صفقات مماثلة لكل من سورية عام 1956 والعراق عام 1958، ثم الجزائر عام 1960. وقدرت المعونات العسكرية السوفيتية خلال الفترة من عام 1955 إلى عام 1960 بحوالي 500 مليون دولار، وخلال الفترة من عام 1961 إلي عام 1964، بأكثر من 700 مليون دولار.
وعندما أُثير موضوع تمويل مشروع السد العالي في الكونجرس الأمريكي، أرسلت لجنة الاعتمادات بالمجلس مذكرة بتاريخ 16 يوليه 1956 برفض تخصيص أموال لمشروع السد العالي، وكان الهدف هو الثأر من مصر بسبب صفقة الأسلحة التشيكية، واعترافها بالصين الشيوعية، ومواجهتها لسياسة الأحلاف العسكرية.
وفي 19 يوليه 1956 قررت الولايات المتحدة الأمريكية سحبها لعرض المساهمة في مشروع السد العالي. وبصدور هذا القرار اتجهت مصر نحو الاتحاد السوفيتي لمساندتها في بناء السد العالي، وبالفعل قام بإرسال الفنيين وسفن الإرشاد بعد سحب المرشدين من قناة السويس نتيجة لقرار مصر بتأميم قناة السويس.
وصدر البيان الثلاثي الأمريكي ـ الفرنسي ـ البريطاني بلندن في الثاني من أغسطس 1956، الذي ندد بعدم شرعية قرار مصر في التأميم، فتحرك الاتحاد السوفيتي لدعم مصر، وسارع بشحن الأسلحة إليها، وزاد من عدد خبرائه ودبلوماسييه الذين أوفدهم إلى مصر.
2. خلال فترة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م:
مع بداية أزمة السويس عام 1956م، وقف الاتحاد السوفيتي بجانب مصر في مجلس الأمن، حتى صدر قرار مجلس الأمن بنقاطه الست في 13 أكتوبر 1956. وفي 5 نوفمبر 1956، وجه الاتحاد السوفيتي رسائل إلى الحكومات الفرنسية والبريطانية والإسرائيلية مطالباً بالوقف الفوري للعدوان، ومحذراً لهم بأن الحملة على بورسعيد قد تتحول إلى حرب عالمية ثالثة
كما أعلنت الحكومة السوفيتية استعدادها لبذل جهودها لردع المعتدين وإرسال قواتها لهذا الغرض، وتضمنت الرسائل تلميحاً إلى أن بريطانيا وفرنسا في متناول يد الاتحاد السوفيتي إذا ما استخدمت الأسلحة الصاروخية الموجهة، وهو ما عرف بدبلوماسية الصواريخ.
3. خلال الفترة من عام 1967-1972:
في الخامس من يونيه 1967، اتخذ الاتحاد السوفيتي موقفاً واضحاً من العدوان الإسرائيلي وهو الدعم الكامل للعرب وإجبار إسرائيل على وقف العمليات العسكرية فوراً، حيث جاء في بيان صادر عن الكرملين: أن الاتحاد السوفيتي الذي يدين العدوان الإسرائيلي، يحذر الحكومة الإسرائيلية، ويدعوها إلى وقف العمليات العسكرية فوراً ضد الجمهورية العربية المتحدة وسورية والأردن والبلدان العربية الأخرى، وسحب قواتها إلى مواقع ما وراء الهدنة.
ورغم أنه للوهلة الأولى يبدو أن حرب يونيه، قد أدت إلى انهيار المكانة السوفيتية في العلاقات السوفيتية ـ العربية، إلا أن البعض يرى أن تلك الحرب، قد أدت إلى مكاسب سوفيتية عديدة بالمنطقة ” فعلى المستوى العسكري، استطاع الاتحاد السوفيتي أن يدعم وجوده العسكري في كل من البحر المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي
كما استطاع أن يوسع دائرة نفوذه في اليمن الجنوبي وتحويله إلى دولة اشتراكية، كما حصل على تسهيلات عسكرية كبيرة في كل من مصر وسورية، وزاد من حجم مستشاريه ونفوذهما. وفي مجال دعم الركائز الإيديولوجية، فقد زادت قدرات الاتحاد السوفيتي ومكانته ونفوذه بالمنطقة، فانتشرت المراكز الثقافية السوفيتية وزاد دعمها للأحزاب الشيوعية، كما تعاظم تدفق السلاح السوفيتي إلى دول المنطقة، وحصلت مصر عام 1970م على قدرات ضخمة من أجل بناء شبكة متطورة من الدفاع الجوي في مواجهة الطيران الإسرائيلي.
وفي 25 مايو 1971 وقعت مصر على معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيتي، في محاولة من الاتحاد السوفيتي لحسم الموقف لصالحه وقطع الطريق على التعاون المصري ـ الأمريكي، ولكن سرعان ما تغير الموقف بسبب عدم وصول مطالب التسليح المصرية، وهي في مرحلة استعداد لحرب تحرير، فاتهمت مصر الاتحاد السوفيتي بالقصور في إمداداتهم من السلاح الفعال والأحدث تكنولوجيا
وكانت دعوة بريجنيف إلى الاسترخاء العسكري في الشرق الأوسط في سياق دعوة الوفاق العالمي، وبالنظر إلى المطالب السوفيتية بتسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي، مؤثراً مهماً للقيود على تدفق السلاح السوفيتي إلى البلدان العربية، وهو أمر أدي إلى إنهاء مهمة الخبراء والمستشارين السوفيت بمصر في يوليه عام 1972، والذي وافق في الفترة نفسها توقيع اتفاق سولت –1، بين القوتين العظميين بعد انتهاء الحرب الباردة وتوطيد سياسة الوفاق
4. خلال جولة أكتوبر 1973 وما بعدها:
شارك الاتحاد السوفيتي بكل ثقله لدعم موقف كل من مصر وسورية، وأصدر بياناً رسمياً بتاريخ 8 أكتوبر 1973 أعلن فيه: أن النزاع في الشرق الأوسط يعود إلى السياسة التوسعية التي تنتهجها إسرائيل، وأنه يدين سياسة الغزو الإسرائيلي، ويؤيد المطالب المشروعة للدول العربية في تحرير كل الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. كما استمرت إمداداته العسكرية إلى دول المنطقة خاصة لسورية.
وفي ضوء تطورات عملية التسوية السلمية في الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر 1973، تأرجحت العلاقات السوفيتية العربية بين الارتفاع والانخفاض، كما حاول إجهاض أي محاولات لتحقيق تقدم في عملية السلام تحت رعاية أمريكية. ومثال ذلك ما حدث في مؤتمر مينا هاوس بالقاهرة عام 1977، كما بدأت العلاقات السوفيتية – المصرية في التدهور حيث انعكست آثارها على تجميد مصر لمعاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتي عام 1976.
ومن الواضح أن المتغيرات التي حدثت بالاتحاد السوفيتي خلال عقد الثمانينات، أدت إلي انتهاجه سياسة جديدة من أجل خفض الإنفاق على التسلح، فقد أدى ذلك بشكل واضح إلى وقف الدعم العسكري عن الدول التي كان يساندها سابقاً، وهذا بالتالي أدى إلى حدوث خلل إستراتيجي كبير في ميزان القوى بين العرب وإسرائيل، بل أدّى إلى وضع المزيد من العراقيل أمام عملية التسوية، ومن الملاحظ أن السوفيت، وحتى قبل انهياره، كان مؤيدا لكل المبادرات السياسية التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، من أجل التوصل إلى اتفاقيات سلام بين العرب وإسرائيل.