محتويات هذا المقال ☟
- 1 تاريخ الكويت (النشأة التاريخية للكويت ..الكيان والتسمية)
- 1.1 كيان الكويت المتميز واستقلالها عن الدولة العثمانية(تاريخ الكويت)
- 1.2 علاقات الكويت بالقبائل العربية المجاورة (تاريخ الكويت)
- 1.3 العلاقات الكويتية ـ العثمانية الفترة من 1756 إلى 1899(تاريخ الكويت)
- 1.4 تطور العلاقات الكويتية ـ البريطانية في تاريخ الكويت
- 1.5 الحماية البريطانية على الكويت(تاريخ الكويت)
- 1.6 الصراع العثماني ـ البريطاني حول الكويت
- 1.7 الاتفاق البريطاني ـ العثماني، عام 1913
- 1.8 الاتفاق البريطاني ـ العثماني، عام 1913(تاريخ الكويت)
في مقالتنا اليوم سوف نعرض لكم تاريخ الكويت ،حيث بدأت علاقات الدولة العثمانية بالخليج العربي وسواحل شرقي شبه الجزيرة العربية، منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي. وكان ذلك على إثر نجاح العثمانيين في فتح بغداد، عام 1534، والسيطرة على البصرة، عام 1546، واتخاذهم إياها قاعدة برية، إلى جانب قاعدة السويس، لمواجهة النفوذ البرتغالي، المتمركز في قواعده الرئيسية، في مسقط، وهرمز، والبحرين، وذلك منذ السنوات الأولى من ذلك القرن.
ومما لا شك فيه، أن العثمانيين وجدوا تجاوباً كبيراً من عرب الخليج، للاحتماء بزعامتهم الإسلامية، ضد البرتغاليين. وعلى الرغم من الصراع العنيف، بين العثمانيين والبرتغاليين، فقد عجز العثمانيون عن الاستمرار في المواجَهة، إذ لم تكن لهم الكفاءة البحرية نفسها، التي كانت للبرتغاليين، فضلاً عن أن الدولة العثمانية، لم تلبث أن انشغلت في صراعاتها ضد الدولة الصفوية.
وعلى الرغم من انهيار نفوذ البرتغاليين في الخليج، بعد سقوط قلاعهم الحصينة، في هرمز، على يد الفرس والإنجليز، عام 1622، وفي مسقط على يَدِ اليعاربة
عام 1650، ثم شرع يتتبع البرتغاليين، في الهند وفي شرقي أفريقيا ، عام 1650، فإن الدولة العثمانية، لم يراودها، في ذلك الحين، فكرة تدعيم سيطرتها. ومن ثَم، أصبح المجال مفتوحاً أمام القوى العربية، لكي ترث ما كان للبرتغاليين من نفوذ. ويبدو أن الدولة العثمانية، قد اعترفت بخروج مناطق الخليج وشرقي شبه الجزيرة العربية من سيطرتها الفعلية. ويؤكد ذلك، أن الوثائق العثمانية، كانت تطلق على تلك المناطق “أرض القبائل.
وفضلاً عن ذلك، فقد أكد تلك الحقيقة كثير من الخرائط الأوروبية، التي ترجع إلى القرنين، السابع عشر والثامن عشر، إذ أشارت إلى خروج تلك الأراضي، ومن بينها الأراضي التي تقوم عليها إمارة الكويت، عن حدود العراق العثماني. ولم يتعدَّ نفوذ العثمانيين، في جنوبي العراق، أسوار مدينة البصرة.
وفي تلك الظروف المواتية، التي تميزت بالانهيار الواضح في النفوذ العثماني، تمكنت أسرة بَني خالد من إطاحة ما تبقّى للعثمانيين من نفوذ، في الأحساء والقطيف. وساعدها على ذلك عجز الدولة العثمانية عن مساندة ولاتها، في الأحساء، أو إمدادهم بحاميات عسكرية كافية. ومن ثَم، فقد أُتيحت الفرصة لأحد شيوخ بَني خالد، وهو براك بن عريعر آل حميد، فطرد الباشا العثماني، وأعلن نفسه حاكماً على الأحساء، والقطيف، عام 1670. ولم يلبث أن امتد نفوذ بَني خالد من قطَر، جنوباً، إلى مشارف البصرة، شمالاً.
أُسرة اليعاربة، في مسقط، تدين بالمذهب الإباضي. وقد كتبت تلك الأُسرة، التي اختير منها الأئمة، صفحة ناصعة في تاريخ العرب الحديث. وفي عهدها تحولت عُمان إلى أكبر قوة بحرية وطنية، لا في الخليج العربي فحسب، بل في منطقة المحيط الهندي بأسْرها. واستطاع اليعاربة أن يستغلوا العامل الديني، لتحقيق الوحدة، والنضال من أجْل تحرير عُمان من الحاميات البرتغالية، المنتشرة على ساحلها، من صور في الجنوب، حتى جلفار، المقابلة لرأس الخيمة، على الساحل المهادن (ساحل الخليج العربي). وارتبطت أُسرة اليعاربة بإحياء نظام الإمامة
كما نسبت إلى ناصر بني مرشد، مؤسِّس الدولة الجديدة، أمور خارقة، كانت تحفز الناس إلى الالتفاف حوله. واستطاع سلطان بني سيف، بعد تولّي منصب الإمامة، أن يفتتح حكمه بنصر حاسم على البرتغال، إذ استولى على حصن مسقط
بنو خالد: قبيلة عربية معروفة. ينسبها بعض المؤرخين إلى بني عقيل بن عامر بن ربيعة من عبدالقيس من عدنان. ومنهم يرى أنها تجمع لبطون من قبائل مختلفة. وأفخاذ بني خالد: العماير، الصبيح، بنو فهد، المقدام، المهاشير، الجبور، والحُميد، ومنهم آل عريعر. والرئاسة في آل عريعر. وقد تحضرت هذه القبيلة، وسكنت مدن الأحساء وقراها. ومنازلها، بصفة عامة، على ساحل الخليج العربي، ما بين وادي المقطع، في الشمال، ومقاطعة البياض، في الجنوب، وتتوغل حتى الصمان في نجد غربا.
تاريخ الكويت (النشأة التاريخية للكويت ..الكيان والتسمية)
1. أصل تسمية الكويت
يثور الجدل، وتتعدد الاتجاهات، في شأن تسمية الكويت، اشتقاقاً وأصلاً. فهناك مَن يرى أن الكويت هي تصغير “الكوت”، بمعنى القلعة الصغيرة أو الحصن. وقد سميت كذلك بسبب نشأتها حول “الكوت” (الحصن)، الذي أسسه أحد أمراء بَني خالد، وَوَهَبَه للعتوب. وتدُل صيغة التصغير على تواضع مكانة الكويت، خلال المرحلة الأولى لنشأتها. بل اللافت أن سكان هذه المنطقة، كانوا يميلون إلى التصغير ميلاً ملحوظاً، مهما صعب اشتقاقه اللغوي. ولا يزال هناك عدة مناطق في الكويت، تحمل صيغة التصغير، منها: الشُّعَيبة، والشُّوَيخ، والفُحَيحل، والمُعَيدنيات. وثمة مَن يقول إن “الكوت”، الذي بناه بَنو خالد، قد تحطم بعض أركانه، وأُعيد بناؤه على نحو أصغر. ولذا، سُمي “كويت”. ومن هنا، جاءت التسمية.
ويشير بعض المصادر إلى أن كلمة “الكوت”، تستخدم في جنوبي العراق، وبعض البلدان العربية المجاورة له، وفي بعض أجزاء من بلاد فارس، بمعنى البيت، المبني على شاكلة القلعة أو الحصن، حتى يسهل الدفاع عنه، وتحيط به، عادة، بيوت أخرى. ولا يطلق اسم “الكوت” على ذلك البيت، إلاّ إذا كان مَوقعه بالقرب من الماء. ثم أصبحت اللفظة تطلق على القرية، إذا بنيت في مثل هذا المَوقع. وترى هذه المصادر، أن اللفظة قديمة الاستعمال في هذه المناطق، وهي من بقايا لغات، الكلدانيين، والبابليين، والأشوريين، وقد توارثها العراقيون عنهم. وهناك مَن يعترض على ذلك، محتجاً بأنه لم يُنقل عن الكلدانيين، والبابليين، والأشوريين، آثار لغوية.
وفي إطار عرض تاريخ الكويت تعددت الآراء في شأن أصل الكلمة، فثمة مَن يؤكد أن كلمة “كوت” برتغالية الأصل، وهي تعني القلعة، أو الحصن. وقد خلّفها البرتغاليون في المنطقة، بحكم وجودهم فيها لفترة طويلة، وهناك مَن يؤكد أن الكلمة هندية، وقد سُميت مدن كثيرة في الهند بهذا الاسم، أو باسم “قوت”، ومنها “قال قوت” بمعنى “قلعة قال”، وهي البلدة المعروفة، الآن، في الهند، باسم “كلكاتا Calcutta”.
ويرى آخرون، أن لفظة “كوت”، هي عربية، محرفة عن “القوت”. فليس من المستبعد، أن يُسمى مخزن الأقوات بـ “الكوت”، مجازاً. وليس من المستبعد، كذلك، إبدال القاف كافاً. فالعرب أنفسهم يبدلونها في بعض اللهجات، وفي خصوص بعض الكلمات، مثل (الفسق ـ الفسك). أو أن أصلها “الكوتي”، بمعنى القصير. ولا غرابة في حذف الياء التي تشبه “ياء” النسب، ففي اللغة العربية، يُقال، على سبيل المثال: مشرك، ومشركي.
وقد ظهر اسم الكويت، منذ القرن السابع عشر الميلادي، في الخرائط الأوروبية، تحت اسم القرين ( Grane) ، وهو تصغير “قرن”، أي قمة الجبل الصغير، أو الأكمة في لغة العرب. وربما قصد به المرتفع، الذي نمت حوله مدينة الكويت. وهناك مقولة أخرى مفادها أن “القرين” نسبة إلى الساحل الشمالي للخليج (خليج الكويت)، الذي ينحني في اتجاه دائري، مكوناً ما يشبه قرن الحيوان. وقد اشتهرت بذلك الاسم، كما جاء في كتابات البحارة الرواد، من برتغاليين وهولنديين وإنجليز. وما زال اسم “القرن”، يطلق على بعض المَواقع في أطراف الكويت، حتى الآن.
وقد أمكن العثور على اسم “القرين” في إحدى وثائق “شركة الهند الشرقية الهولندية”، المحفوظة في دار المحفوظات الهولندية، في لاهاي، التي يعود تاريخها إلى منتصف القرن السابع الميلادي.
ولعل الرحالة الألماني، كارستن نيبور،(Carsten Niebuhr) هو أول من استخدم اسم الكويت، في ما دَوّنَ عن رحلاته في شبه الجزيرة العربية، بين عامَي 1763 و1765. وفي خريطته، الواردة في كتابه عن تلك الرحلات، ذكر اسم الكويت مقروناً بالقرين، وأشار إلى أن مدينة القرين، يطلق عليها أهلها اسم الكويت.
2. النشأة التاريخية (تاريخ الكويت)
يصعب تحديد العام، الذي تأسست فيه الكويت، على نحو حاسم ودقيق. ذلك لأن المصادر التاريخية، تختلف اختلافاً بيِّناً في هذا الشأن. فهناك مصادر ترجّح أن تكون الكويت قد أُسست خلال القرن السابع عشر وتختلف هذه المصادر في تحديد عام التأسيس، وشخصية الزعيم المؤسس. فالمؤرخ الكويتي، يوسف بن عيسى القناعي، مثلاً، يرجّح، في كتابه “صفحات من تاريخ الكويت”، أن تكون الكويت قد أُسست عام 1688. وأن المؤسس هو براك بن عريعر آل حميد، أمير بَني خالد. أمّا الشيخ النبهاني، فيرجّح أن يكون ذلك عام 1611. وثمة مَن يقول إن مؤسسها، هو الأمير عقيل بن عريعر، وذلك عام 1615. بل يرى آخرون، أن اسم الكويت لم يُعرف، إلاّ في أواسط القرن السابع عشر، وأن مؤسسها، هو محمد بن عريعر، أمير بَني خالد.
وثمة مصادر أخرى، ترجّح أن تكون الكويت قد أُسست في مطلع القرن الثامن عشر. وهي تختلف، كذلك، في تحديد عام التأسيس. ومن التواريخ، التي تذكرها هذه المصادر، الأعوام التالية: 1701، 1702، 1710، 1712، 1713، 1716. ويرجّح بعضها أن يكون المؤسس، هو سعدون بن عريعر، أمير بَني خالد، في مطلع القرن الثامن عشر. وبغض النظر عن الاختلافات في شأن تاريخ الكويت التأسيسي، وشخصية المؤسس، فإن ثمة اتفاقاً على أن تاريخ الكويت نما وترعرع، منذ أن استقر بها العتوب، وأسسوا ركائز لإمارتهم، التي تطورت تطوراً سريعاً، خلال القرن الثامن عشر، ومنها انطلق جزء من العتوب إلى تأسيس إمارات أخرى، على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، متمثلة في “الزبارة” في قطَر، والبحرين، وذلك خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
ومهما يكن من أمر، فإن بدايات تأسيس إمارة الكويت، تعود إلى أواخر القرن السابع عشر، وأوائل القرن الثامن عشر، حيث استقر بها العتوب، وعملوا على تطويرها، عمرانياً واقتصادياً. إذ إن عملية إنشاء المدن والمجتمعات وتأسيسها، ليست بالمسألة البسيطة، التي تقتضي فترة زمنية قصيرة، وإنما عملية تطورية، ومعقدة، وغالباً ما تستغرق فترة زمنية طويلة.
3. وضعية المناطق التي أُنشئت عليها إمارة الكويت، قبل استقرار العتوب بها(تاريخ الكويت)
كانت المناطق، التي أُنشئت عليها إمارة الكويت، تمثل جزءاً من أراضي قبيلة بَني خالد، وبالتحديد، جزءاً من منطقة الأحساء، التي كانت تحت سلطانهم، منذ أن نجحوا في إنهاء الوجود العثماني فيها، خلال عامَي 1669 و1670. وينُسب إلى شيخها، وهو، في أغلب الروايات، براك ابن عريعر آل حميد، أنه أمر ببناء حصن صغير، “كوت”، في المنطقة التي أُقيمت عليها إمارة الكويت، فيما بعد، ليكون مستودعاً للمؤن والذخيرة، ومأوى لرعاة قبيلته، إذا ما قصدوا المراعي القريبة من منطقة الحصن، أو إذا ما أراد أمير بَني خالد، أن يذهب إلى هذه المناطق، للصيد أو للراحة، أو إذا ما رغب في غزو القبائل العراقية، في الشمال.
وقد تجمّع حول هذا الحصن ـ الذي كانت تحيط به أراض فقيرة ـ مجموعات صغيرة من البدو، من أتباع بَني خالد، وصائدي الأسماك، في أكواخ بسيطة، وشكّلوا ما يشبه قرية صغيرة، خاصة أنه كان هناك بعض عيون الماء، المنتشرة حول هذا الحصن. وعلى هذه المنطقة وفدت جماعات العتوب، واستقرت بها، في نهاية القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر، بعد أن وافق بنو خالد على ذلك، بل إنهم منحوا العتوب تلك المنطقة، كمكافأة لهم، مقابل مساندتهم بَني خالد على صراعهم ضد العثمانيين. وقد كان لبَني خالد دور مهم في توفير مظلة الحماية، تمكن العتوب، في إطارها، من إرساء دعائم إمارتهم، وتحقيق تقدمها وازدهارها، من دون خوف من تهديدات أي من القوى الخارجية.
4.. هجرة العتوب واستقرارهم بالكويت (تاريخ الكويت)
تستخدم المصادر، العربية والأجنبية، عدة تسميات للعتوب، منها: “بَنو عتبة” و”العتوبيون” و”عتبة”. وجميعها ترجع إلى الأصل (ع ـ ت ـ ب)، وهو فعل معناه كثرة التنقل والترحال من مكان إلى آخر[4]. وفي خصوص هذه التسميـة، ذكـر المقـدم هـارولد ريتشارد باتريك ديكسون (Harold Richard Patrick Dickson)، الذي عاش في الكويت منذ عام 1929، حيث عمل وكيلاً للحكومة البريطانية حتى عام 1936 وتوفي فيها عام 1960، أن الشيخ عبدالله السالم الصباح، أخبره بأن أجداده، سُموا بهذا الاسم، بعد أن ارتحلوا من الجنوب إلى الشمال، أي بعد أن “عتبوا” إلى الشمال، حتى استقروا بالكويت.
والعتوب تجمّع اتحاد قَبَلي، يضم عدة أُسَر عربية، أشهرها ثلاث: آلُ الصباح، حكام الكويت، وآل خليفة، حكام البحرين، والجلاهمة. وتؤكد روايات العتوب أنهم ينتمون إلى “جُميلة”، أحد أفخاذ قبيلة “عنزة”. وهي قبيلة عدنانية كبيرة، ومشهورة، ينتمي إليها، كذلك، آل سعود، حكام المملكة العربية السعودية. وكان العتوب، قبْل هجرتهم، يقطنون في الهدَّار، في منطقة الأفلاج، جنوبي نجد.
وكما اختلفت المصادر في تحديد بداية تأسيس دولة الكويت، كذلك، اختلفت في تحديد تاريخ هجرة العتوب إليها واستقرارهم بها، إلاّ أن وثائق بومباي، تُرجع ذلك الاستقرار إلى السنوات الأولى من القرن الثامن عشر، وعلى وجْه التحديد، إلى عام 1716 .وكذلك، تتعدد الروايات في شأن كيفية هجرتهم، والطرق التي سلكوها، والأماكن التي نزلوا بها، قبل أن يستقروا بالكويت.
ويذكر أن سبب هجرتهم من بلادهم في الأفلاج، حدوث نزاع بينهم وبين أبناء عمومتهم من “جميلة”، من قبيلة عنزة. وقد انتصر عليهم هؤلاء بمساعدة الدواسر. واضطروا إلى النزوح إلى الزبارة ومنها إلى الكويت، التي كانت تحت حكم بني خالد، ومنحهم إياّها زعيم تلك القبيلة. واتفق العتـوب على أن يتولى سليمان بن أحمد، كبير آل صباح، الرئاسة، ويتولى خليفة بن محمد، كبيـر آل خليفة، التجارة، ويتولى جابر العتبي، كبير الجلاهمة، العمل في البحر، على أن يقتسموا الأرباح بالتساوي. وبعد خمسين عاماً، انفصل محمد بن خليفة، وغادر الكويت إلى الزبارة.
وقد تعددت دوافع تلك الهجرة. فهناك من يرجّح أن تكون هجرتهم بسبب الصراعات القبَلية، في داخل شبه الجزيرة العربية، بين أُسرتَي الصباح وخليفة، من ناحية، وأبناء عمومتهم، آل سعود، من ناحية أخرى. وقد آثرت أُسْرتا الصباح وخليفة الهجرة، تجنّباً لمشاكل الأخذ بالثأر، أو فراراً من موجات القحط، التي اجتاحت شبه الجزيرة العربية، في بعض الفترات، خلال القرن السابع عشر.
وربما كانت هجرتهم نتيجة للفراغ السياسي، المترتب على انهيار النفوذ البرتغالي في الخليج، عقب طردهم من مسقط، على أيدي اليعاربة، عام 1650، مما شجع العرب على العودة إلى سواحل الخليج، بعد أن انحسرت موجات هجرتهم، خلال فترة الوجود العسكري البرتغالي، التي استمرت نحو مائة وتسعين عاماً.
ومن ثَم، فإن انهيار النفوذ البرتغالي في الخليج، كان دافعاً لكي تستأنف الهجرات القبلية نشاطها. وقد أسهمت تلك الهجرات في تأسيس الكيانات السياسية في الخليج العربي، منذ السنوات الأولى من القرن الثامن عشر. وأسهم العتوب في تأسيس وحدتَين سياسيتَين، حين استقرت أُسرة الصباح بحكم الكويت، عام 1756، وآل خليفة بحكم البحرين، عام 1783.
وإذا كان من الراجح أن العتوب قد استقروا بالكويت، في أواخر القرن السابع عشر، وأوائل القرن الثامن عشر. فالمؤكد أنهم لم يتجهوا إلى الكويت، بعد هجرتهم من نجد مباشرة، بل قضوا فترة طويلة، قدّرها بعض المصادر بحوالي خمسين سنة، متنقلين بين مناطق الخليج العربي وموانئه. ولذلك، فمن المرجح أن تكون هجرتهم من شبه الجزيرة العربية، خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر. وفي طريق هجرتهم، استقر العتوب، في البداية، بقطَر، التي كانت واقعة ضمن نفوذ بَني خالد، ويحكمها “آل مسلم”. ولم تستمر إقامتهم بها، إذ تركوها، على أثر خلافات نشبت بين الجانبَين. ويرجّح بعض المصادر، أن يكون العتوب، قد قضوا في قطَر مدة طويلة، نسبياً، تعلموا، خلالها، العمل في البحر، وبناء السفن. وهو ما يفسر الرواية المحلية، القائلة بسفر العتوب إلى الكويت، بحراً. وبعد تركهم قطَر، تفرّق العتوب في مناطق وموانئ متعددة في الخليج.
وتختلف المصادر في تحديد أي من هذه الموانئ، كان منطلقهم. وهي تفترض أن هناك ثلاثة أماكن، من المحتمل أن يكون العتوب، قد توجهوا منها، أو من أحدها إلى الكويت. وهذه الأماكن هي:
أ. المنطقة المعروفة باسم “أم قصر”، بالقرب من شط العرب. ويُقال إن العتوب، الذين استقروا بهذه المنطقة، اضطروا إلى مغادرتها، بعد أن هددتهم الدولة العثمانية باستخدام القوة ضدهم، نظراً إلى ممارستهم بعض أعمال السلب والقرصنة، الشائعة في ذلك الوقت.
ب. وثاني هذه الأماكن هو “خور الصبية”، جنوب البصرة. وقد اضطر العتوب إلى تركه، كذلك، بناءً على أوامر والي البصرة، بعد أن اعتدوا على بعض القوافل القادمة إلى المدينة. فغادروها إلى جزيرة فيلكا، حيث استقروا لبعض الوقت، قبْل أن يرحلوا إلى الكويت.
ج. أمّا المكان الثالث، فيتمثل في بعض المناطق، على الشاطئ الشرقي للخليج في بلاد فارس. وقد طُرد العتوب من هذه المناطق، بوساطة بعض القبائل العربية، القاطنة فيها.
وإضافة إلى ما سبق، يقدّر بعض المصادر الأخرى، أن العتوب، ومعهم بعض العرب والعجم، قد هاجروا من قطَر إلى الكويت، مباشرة، بعد أن اختلفوا مع حكامها “آل مسلم”. وقد حاول يوسف القناعي، التوفيق بين مختلف الآراء والروايات السابقة، فذكر أن العتوب بعد أن تركوا قطَر، تفرقوا في مناطق عديدة من الخليج، ثم عادوا ليستقروا بالكويت، بعد موافقة بَني خالد، وكان ذلك على مراحل. ومنذ ذلك التاريخ، بدأ تطوير مشيخة الكويت وتعميرها ليصبح تاريخ الكويت مزدهرا.
ومن العوامل المساعدة على استقرار الحكم في الكويت لأُسرة الصباح، هجرة آل خليفة منها، خلال الفترة من 1762ـ 1766، أي في عهد عبدالله الأول بن صباح الأول، وتأسيسهم إمارة “الزبارة” في قطَر، ثم فتحهم البحرين (1782 ـ 1783)، التي كان يحكمها آل مذكور، من عرب “بوشهر” في إطار التبعية للفرس، وذلك بمساعدة أُسرة الصباح، وتحويلها إلى إمارة عربية، تحت حكم آل خليفة. وكانت البحرين، في ذلك الوقت، تمثل مصدراً مهماً للثراء، إذ يوجد فيها أشهر مصايد اللؤلؤ في الخليج العربي.
وقد رحل، كذلك، عن الكويت “الجلاهمة”، بعد رحيل آل خليفة عنها بفترة قصيرة. وبذلك انفرط عقد تجمّع الأُسَر العتوبية الأساسية (أُسرة الصباح، وآل خليفة، والجلاهمة)، التي أسست إمارة الكويت. وانفردت أُسرة الصباح بحكمها، عام 1756.
وتورد المصادر العديد من الأسباب لهجرة آل خليفة من الكويت، منها: اختلافهم مع أُسرة الصباح في كيفية التعامل مع عرب بَني كعب. الذين شنوا العديد من الغارات على الكويت. لذلك، رحل آل خليفة عن الكويت، تجنّباً لهذه الأخطار، خاصة أن شيخهم، لم يقبل إهانات بَني كعب.
فضلاً عن تطلع آل خليفة إلى الاستقلال، من ناحية، وتوسيع تجارتهم، من ناحية أخرى. وهناك مَن يفسر هجرة آل خليفة من الكويت، باختلافهم مع أُسرة الصباح في رئاسة الإمارة، فمحمد آل خليفة، كان يرى أنه أحق برئاسة الإمارة، بعد وفاة صباح الأول بن جابر. ولكن مع تولي عبدالله الأول بن صباح الأول الإمارة، خلفاً لوالده، انحصرت الرئاسة في أُسرة الصباح، وهاجر آل خليفة، لعدم قبولهم بالمركز الثاني في الإمارة.
ومن الثابت، أن أُسرة الصباح، وجماعتهم من العتوب، حينما قدِموا إلى الكويت، وجدوا فراغاً سياسياً لا سلطة لأحد عليها، إلاّ حكام بَني خالد. ولا توضح الروايات إنْ كان العتوب، قد استولوا على الكويت عنوة، أو أن بَني خالد قد منحوهم إياها، طواعية، من أجْل استقرارهم بها وتعميرها، أو مكافأة لهم على مساعدتهم لبَني خالد، خلال صراعهم ضد العثمانيين، حتى تمكنوا من التخلص من النفوذ العثماني، في الأحساء والقطيف وعلى الرغم من أن العتوب قد استقروا بكنف بَني خالد، إلاّ أن هؤلاء تركوا لهم تصريف شؤونهم بأنفسهم.
ومن ثَم، بادر العتوب، حين انتعشت الكويت، وتزايد عدد سكانها، إلى تقليد الحكم أحد زعمائهم، وهو الشيخ صباح بن جابر. ويُرجّح حدوث ذلك في منتصف القرن الثامن عشر، وعلى وجه التحديد عام 1756، وقد استقر بالحكم حتى وفاته، عام 1762، على الأرجح.
وقد استطاع العتوب، بزعامة آل الصباح، أن يحققوا انتعاشاً كبيراً للكويت. ويعزى ذلك إلى أن القرى المجاورة لهم، كانت تعاني الكثير من عوامل الفوضى والاضطراب. فالحروب لم تهدأ بين فارس والدولة العثمانية، كما كانت نجْد، قبل تأسيس الإمارة السعودية الأولى، منقسمة على نفسها إلى إمارات متناثرة ومتصارعة. وكان من الطبيعي في ظل تلك الظروف المضطربة أن تلجأ الشركات الأوروبية التجارية إلى ميناء الكويت، أو القرين، للاستفادة من موقعها الجغرافي على الخليج، ومن مدخله إلى الطريق الصحراوي المهم، الواصل بين الكويت وحلب (طريق البريد بين الكويت وحلب).
فضلاً عن أن نزعة شيوخه إلى الاستقلال، كانت تغري الوكالات التجارية، التابعة لتلك الشركات، بالتعامل معهم مباشرة، كما اجتذبها الموقع وحالة الأمن. كذلك، أغرى الكويتيين ما جنوه من هذه الشركات، باستثمار موقع بلادهم، والعمل على استقلالها الاقتصادي.
وذكر الرحالة الألماني، كارستن نيبور، في رحلاته إلى الخليج، وشبه الجزيرة العربية، بين عامَي 1763 و1765، حينما كان عضواً في البعثة العلمية، التي أوفدها ملك الدانمارك فريدريك الخامس Frederick V عام 1760، إلى شبه الجزيرة العربية، الازدهار، الذي حققته الكويت، في الفترة، التي تلت استقرار العتوب. فأشار إلى أنهم يمتلكون أكثر من ثمانمائة سفينة، ويستوردون الأخشاب اللازمة لبنائها من الهند. إلاّ أن أهم ما جاء في المعلومات، التي ذكرها الرحالة الألماني، أن أبناء الكويت، تطوروا إلى مجتمع حضري، يشتغل بالتجارة، والغوص، وبناء السفن وبناء تاريخ الكويت العظيم.
وأهمية مثل هذه المعلومات أنه يشير إلى الطبيعة المتفردة، التي نجح الكويتيون في إضفائها على بلادهم، منذ ذلك الوقت المبكر. وليس من شك في أن ازدهار الكويت وثراءها التجاري، كانا مثاراً للاحتكاك بينها وبين شيوخ بَني خالد، الذين أرادوا استعادة تبعية الكويت لهم. وهناك حقيقة مهمة، لا بدّ من الإشارة إليها، وهي، أن العتوب تمسكوا باستقلالهم، حتى إنه كلما كان شيوخ بَني خالد، يوجهون قواتهم لإخضاع الكويت، كان أهلها ينتقلون، مؤقتاً، إلى جزيرة فيلكا الصغيرة، حاملين معهم أمتعتهم، تمهيداً لعودتهم. وتشير هذه الحقيقة إلى أمرين.
طبيعة المجتمع التجاري المتحرك، الذي أنشأه الكويتيون، وهو غير المجتمع الزراعي الثابت، أو الرعوي، المدافع عن مناطق الكلأ. فكل ما يهم أبناء هذا المجتمع هو أمتعتهم، أو بتعبير حديث رأسمالهم، وهو بطبيعته ملكية منقولة.
الكويت من دون تجار، وقتئذٍ، لا قيمة لها. ولما كان الكويتيون يشكلون مجتمع التجارة، والصيد، والغوص، كما شهد به الرحالة نيبور، فإن ترْك الكويت لبَني خالد، الذين كانوا يشكلون، بالأساس، قوة اجتماعية، ذات طبيعة بدوية، كان لا يعني شيئاً بالنسبة إلى بَني خالد، الذين كانوا سيتركونها، إن عاجلاً أو آجلاً، وهو ما كان يعلمه الكويتيون.
كيان الكويت المتميز واستقلالها عن الدولة العثمانية(تاريخ الكويت)
1. الكيان المتميز لتاريخ الكويت
يمكن الاستدلال على أن الكويت، استطاعت أن تحقق لنفسها كياناً ذاتياً مستقلاً، ومتميزاً، من خلال تحليل بعض الأحداث والوقائع التاريخية التي تؤكد صحة ذلك. ولعل أول ما يلفت النظر، اعتماد الكويتيين على أنفسهم، في حماية بلادهم وأموالهم وأرواحهم من الهجمات الكثيرة، التي كانوا يتعرضون لها، خاصة من قبائل بَني كعب، والمنتفق، وغيرها من القبائل، التي كانت كثيراً ما تغِير على الكويت، من دون أن يتلقوا عوناً أو مساعدة من السلطات العثمانية، في البصرة، أو في بغداد، لصد تلك الإغارات. بل إن أهالي الكويت شيدوا، عام 1760، في عهد الشيخ صباح الأول بن جابر، سوراً من الطين حول مدينتهم، يعصمهم من مهاجميهم، بلغ طوله 750 متراً، وجعلوا له ست بوابات، أو دروازات، وكان كافياً، آنذاك، لحماية تاريخ الكويت.
وعلى الرغم من الفترة المبكرة، التي ظهرت فيها الكويت، فإن حكامها بدأوا يقيمون علاقات بينهم وبين القوى الأوروبية، الموجودة في تلك المنطقة، مثل الهولنديين والبريطانيين.
وقد بدأت العلاقات الخارجية المبكرة للكويت، منذ قيام المستعمرة الهولندية في جزيرة “خرج”، عام 1752، إذ ارتبط حاكم تلك المنطقة، البارون كيفهاوزن (Kuiphausen) ، بعلاقات وثيقة مع شيخ الكويت. كما أخذت السفن الهولندية تتردد على مينائها. وطلب كيفهاوزن، عام 1756، من رؤسائه، في شركة الهند الشرقية الهولندية، إقامة علاقات مباشرة بشيخ الكويت، صباح الأول بن جابر، الذي أثنى عليه وعلى حُسن معاملته السفن المارّة بمدينته. واللافت في تقرير كيفهاوزن ما أشار فيه إلى توسّطه، لدى شيخ الكويت، لتدبير سفر مجموعة من الإنجليز إلى حلب، عبر طريق الكويت الصحراوي. مما يوضح أن شيخ الكويت، كان في وضع يجعله يتعامل معاملة مستقلة مع حاكم المستعمرة الهولندية، وأنه كان قادراً على فرض شروطه.
وفي الحقيقة، أن الوكالات التجارية الأوروبية، العاملة في البصرة، كانت تنظر، دائماً، إلى الكويت على أنها خارج نطاق التبعية العثمانية، وأنها كانت تحتفظ، دوماً، بكيانها المستقل عن الدولة العثمانية. ومما يؤكد ذلك، الانتقال المتكرر للوكالة البريطانية، التابعة لشركة الهند الشرقية البريطانية، من البصرة إلى الكويت.
فقد كانت المرة الأولى، التي انتقلت فيها الوكالة إلى الكويت، في أبريل 1793، واستمرت فيها حتى أغسطس 1795. وكان ذلك إثر خلاف بين مانيستي، مدير شركة الهند الشرقية، ومساعديه هارفورد جونز، وجون رينو، وبين السلطات العثمانية، مما جعلهم يتخذون قرارهم بنقل الوكالة من البصرة إلى الكويت، كإجراء تأديبي لتلك السلطات.
وتكرر نقل الوكالة في مناسبات أخرى، بين عامَي 1821 و1822. ويرجع سبب الانتقال الأخير، إلى أن الجو السياسي في بغداد والبصرة، كان مهيأً لعداء سافر بين الوالي المملوكي، داود باشا (1817 ـ 1831)، والإنجليز. إذ تعمد الوالي إهمال نصوص “الفرمانات” العثمانية، المتعلقة بالامتيازات الأجنبية، وحين احتدم الخلاف بينه وبين كلوديس جيمس ريتش(Claudius James Rich) ، الممثل السياسي في المعتمدية البريطانية، في بغداد، حاصر داود باشا المعتمدية، في مارس 1821.
وعلى أثر ذلك، أصدر ريتش، أوامره إلى النقيب تيلور (Tylor)، المسؤول عن الوكالة التجارية البريطانية، في البصرة، بإغلاقها، والانتقال بها إلى الكويت في تاريخ الكويت انذاك
وطبقاً لما جاء في تقارير شركة الهند الشرقية البريطانية، فإن النقيب تيلور، انتقل بالوكالة إلى جزيرة في الكويت، لم تحدد تحديداً قاطعاً، وأغلب الظن أنها جزيرة فيلكا. ولم يرجع إلى البصرة، إلاّ بعد أن أذعن داود باشا لمطالب الإنجليز. ولعل أبسط ما يستنتج من ذلك، أن تبعية الكويت للعثمانيين، كانت واهية، إذ لم تكن خاضعة لنفوذ أي من والي بغداد، أو والي البصرة، وإلاّ كان في مقدور أي منهما تضييق الخناق على الوكالة البريطانية، حتى بعد انتقالها إلى الكويت.
2. استقلال الكويت، في تقارير الرحالين الأوروبيين(تاريخ الكويت)
في تاريخ الكويت سجل العديد من الرحالين الأوروبيين معلومات مهمة عن وضع الكويت، المستقلة عن الدولة العثمانية، خلال فترة حكم الشيخ جابر، وابنه صباح. ويبرز من بينهم الرحالة بكنجهام(Buckingham) ، عام 1816، الذي لفت نظره احتفاظ الكويت، دوماً، باستقلالها، في حين خضع كثير من مناطق الخليج الأخرى للحكم الأجنبي، مشيراً إلى البرتغاليين، والأتراك العثمانيين. وأكد أن سكان الكويت معروفون بأنهم أكثر أهل الخليج حباً للحرية والإقدام.
أمّا الرحالة ستوكلر(Stocqueler) ، الذي كان قد نزل بالكويت، وقضى فيها بعض الوقت، في فبراير 1831، فسجّل أن زعامة الكويت كانت لشيخها، الذي لم يكن في حاجة إلى الاحتفاظ بجيش دائم، لعدله وسماحته وشيوع الأمن في بلده.
وفي عام 1865، وصف الرحالة وليم بالجريف(William G. Palgrave) ، إمارة الكويت بأنها تتمتع بسمعة جيدة، في الداخل والخارج، وذلك بسبب إدارتها السياسية الحكيمة، فالضرائب على الاستيراد منخفضة، والسكان محبون للصداقة، ومرساها جيد، مما جلب إليها مئات السفن، وفُضّلت على غيرها من موانئ الخليج. ولعل من أهم ما أورده بالجريف، في خريطة شبه الجزيرة العربية، التي جاءت في صدر كتابه، رسمه حدود الكويت رسماً واضحاً، مشابهاً، إلى حدٍّ كبير، لحدودها الحالية.
أمّا المعلومات التي سجلها المقدم لويس بيلي(Lewis Pelly) ، فلها أهميتها الخاصة، لأنه لم يسجل عن الكويت ما هو متعارف عليه لدى الرحالين، فقد كان يشغل منصباً سياسياً مرموقاً، وهو إدارته للمقيمية البريطانية في الخليج (في الفترة من 1862 إلى 1872)، ومن ثَم، تكتسب تقاريره عن الكويت، خلال زيارته إياها، في بداية الستينيات من القرن التاسع عشر، أهميتها الخاصة.
ولعل التقرير، الذي وضعه حول تاريخ الكويت، عام 1863، يُعد من أهم تلك التقارير على الإطلاق. إذ تحدث بيلي، في صدر تقريره، عن الحكومات في منطقة الخليج، وأيها تتبع شاه الفرس، وأيها تتبع السلطان العثماني. وذكر إمارات أخرى، تخضع لشيوخها العرب المستقلين، من دون خضوع لشاه أو سلطان. وكان من بين تلك الإمارات، إمارة الكويت، التي أفاض في الحديث عنها، وذكر أن سياسة حكّامها هي الحفاظ على الأمن والسلامة، في داخل المدينة وخارجها، وتنبّأ لها بمستقبل زاهر، كمرسى للبواخر، ومحطة للبرق.
وإضافة إلى الشهادات والتقارير، نجد أن الخرائط الجغرافية تبرز كيان تاريخ الكويت المتميز، ويتمثل ذلك في خمس خرائط، من القرنين، الثامن عشر والتاسع عشر
أ. خريطة هولندية، رسمها الأخوان أوتنز(R.& J. Ottens) ، للدولة العثمانية وفارس. يعود تاريخها إلى أوائل القرن الثامن عشر. وتبدو فيها الحدود، بين منطقة الكويت والدولة العثمانية، واضحة تماماً. وظهر فيها اسم كاظمة الكويت، للدلالة على منطقة الكويت.
ب. خريطة آسيا التركية. وهي خريطة فرنسية، تنتمي إلى جيل من الخرائط المتشابهة، ظهرت في منتصف القرن الثامن عشر. وقد رسمها هيراولي(Herauli) ، وطبعت في باريس.
ج. خريطة كارل ريتر(Carl Ritter) ، وهو عالم ألماني، يُعَدّ أحد مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة. وقد جاءت صورة الكويت، ضمن خريطة شبه جزيرة العرب، نقلاً عن كتابه “علم الأرض”(Earth Science) ، الذي نشر في 19 مجلداً، بدءاً من عام 1817 إلى عام 1859. وتظهر الكويت على الخريطة تحت اسم الكويت أو القرين (Kueit or Korein) ، في دائرة تحيط بموقعها الحالي، وتضم جزيرتَي وربة وبوبيان، وأجزاء من جنوبي العراق.
وهذه الخرائط مطبوعة في برليـن، ومحفوظـة في مكتبة جامعة “كمبريدجCambridge” ، تحت الرقم (Maps C. 336. 58. 1).
د. خريطـة شبـه الجزيـرة العربيـة، الـواردة في كتـاب الرحالـة وليـم بالجريف عن رحلاته في شبه جزيرة العرب، عامَي 1862 و1863. ومُيِّزت فيها الكويت بلون مستقل تماماً عن الوحدات السياسية الأخرى في المنطقة، والمتمثلة في الدولة العثمانية شمالاً، ونجْد جنوباً. ويلاحظ أن حدود الكويت الشمالية، تشتمل على جزيرتَي وربة وبوبيان، والجانب الغربي من الجزء الجنوبي من شط العرب، ويضم، كذلك، أم قصر ومعظم الفاو. (أُنظر خريطة تاريخ الكويت عام 1863).
هـ.. خريطة فريدة، وردت في ( Harmsworth’s New Atlas). وهي غير مؤرخة. ويعتقد أنها تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر. ويلاحظ فيها امتداد الكويت إلى داخل العمق العراقي. (أُنظر خريطة تاريخ الكويت في أواخر القرن التاسع عشر).
وتوضح هذه الخرائط الخمس، أن الكويت كانت قائمة، من وجهة النظر التاريخية، بكيانها الإداري، وحدودها السياسية، التي كانت واضحة المعالم، قبْل ظهور العراق الحديث.
3. التوازن في علاقات الكويت بالدولة العثمانية، والنفوذ البريطاني
شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشرفي تاريخ الكويت، كثيراً من المتغيرات السياسية، التي أثرت في علاقات الكويت بالقوى المجاورة لها. لعل أبرزها استعادة الدولة العثمانية لسلطتها القوية في العراق، بعد أن نجح العثمانيون، الوافدون من الآستانة، في القضاء على النظام المملوكي فيه.
فخلصهم من داود باشا، أخر أولئك المماليك، وأكثرهم نفوذاً. فضلاً عن تزايد النفوذ البريطاني، الزاحف من مسقط إلى الساحل الجنوبي للخليج، ونجاح البريطانيين في توقيع معاهدة الصلح البحري “معاهدة الصلح العامة. (أُنظر وثيقة ملخص لمواد معاهدة الصلح البحري البريطانية بين الجنرال وليم جرانت كير، وشيوخ الإمارات العربية، المطلة على ساحل الخليج، في شأن تنظيم قواعد الملاحة، وحركة السفن في الخليج في 21 يناير 1820)
و(وثيقة أصل مواد معاهدة الصلح البحري البريطانية بين الجنرال وليم جرانت كير، وشيوخ الإمارات العربية، المطلة على ساحل الخليج، في شأن تنظيم قواعد الملاحة، وحركة السفن في الخليج في 21 يناير 1820) في 21 يناير 1820، مع شيوخ الإمارات العربية المطلة على ساحل الخليج، في شأن تنظيم قواعد الملاحة وحركة السفن في الخليج، وما تبعها من فرض معاهدات الصلح البحري.
وقد جعلت تلك المتغيرات السياسية الكويت أمام خيارات صعبة، وهو ما دعا حكامها إلى التقدم خطوة في الطريق العثماني، وهو تقدم محسوب، على أساس أنه الطريق الأقل خطراً. فهو على الأقل لن يؤثر في “الوضع الخاص” للبلاد، ككيان متميز، والأهم من ذلك، أنه لن يؤثر في مصالح طبقة التجار، التي أصبحت تشكل العمود الفقري للحياة الاجتماعية في الكويت.
وفي ظل تلك المتغيرات، كان على حكام الكويت، أن يوازنوا علاقاتهم بتلك القوى، لا سيما العثمانيين والإنجليز. وقدِّر للشيخ جابر الصباح، أن يواجه تلك التحديات الجديدة. فأثبت أنه على قدر كبير من الكفاءة وبُعد النظر، في التعامل مع هذه المتغيرات السياسية، بما يحفظ ل تاريخ الكويت كيانها. فحين أحس أن هناك ضغطاً من قِبل الإنجليز، يرمي إلى بسط نفوذهم على الكويت، كدفعها إلى الارتباط بمعاهدة الصلح البحري، ورفع رايتها، بادر، عام 1829، إلى رفع الراية العثمانية، للاحتماء بزعامة الدولة العثمانية الإسلامية، فضلاً عن تحقيق ضمان للسفن الكويتية، أثناء إبحارها، لعدم وجود اعتراف بالرايات المحلية، بالنسبة إلى القوى العربية، التي لم تنضم إلى معاهدات الصلح البحري
وعلى الرغم مما أشار إليه لوريمر (J. G. Lorimer) مؤرخ حكومة الهند البريطانية، في دليل الخليج، من أن ما يرسله شيخ الكويت إلى الآستانة من مواد عينية كان اعترافاً من جانبه بالنفوذ العثماني، فإن تلك المواد كانت هدايا، ورمزاً إلى الصداقة والولاء الديني لخليفة المسلمين. بل إن كميات التمور، التي أشار إليها لوريمر، كانت تؤكد خضوع مناطق في جنوب البصرة لسلطة شيخ الكويت.
ناهيك أنه ليس هناك ما يثبت أن الكويت، كانت تدفع ذلك “الخراج”، بانتظام، إذ إن حاجة الدولة العثمانية إلى مساعدة سفن الكويت، للدفاع عن شط العرب، كانت تدفعها إلى التجاوز عن تلك المدفوعات، بل إلى دفع مبالغ سنوية، غير منتظمة، إلى شيوخ الكويت، مقابل حمايتهم لشط العرب، وجنوب البصرة من الاعتداءات القبَلية، التي كانت تتعرض لها.
علاقات الكويت بالقبائل العربية المجاورة (تاريخ الكويت)
أ. العلاقة بين الكويت والأحساء (بَني خالد)
في تاريخ الكويت يشير بعض المصادر إلى أن علاقة العتوب، منذ استقرارهم بالكويت، ببَني خالد، قد حددتها اتفاقية صداقة وحُسن جوار بين الجانبَين. عقدها الشيخ عبدالله الأول بن صباح الأول، نيابة عن والده، مع شيوخ بَني خالد.
وجسدت نوعاً من الولاء، تمثّل في تعهّد العتوب معاداة أعداء بَني خالد ومصادقة أصدقائهم. وبغض النظر عن الجدل، الذي يمكن أن يُثار حول هذه المعاهدة، فالمؤكد أن عتوب الكويت، استمروا على ولائهم لبَني خالد، حتى العقد السادس من القرن الثامن عشر.
فعندما بدأ الضعف يدب في بَني خالد، منذ بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر، نتيجة بروز الصراعات الداخلية حول الرئاسة والحكم، وتنامي الأخطار الخارجية، اتجهت القبائل والجماعات، التي كانت تدين لهم بالزعامة والولاء، إلى ممارسة نوع من الاستقلال الذاتي.
وقد تحقق هذا الوضع، بالنسبة إلى الكويت، خلال العقد السادس من القرن الثامن عشر. في إطار رصد وتحليل العلاقة بين عتوب الكويت وبَني خالد، فمن المهم الوقوف على أبعاد موقف العتوب من الصراع بين بَني خالد والسعوديين، والذي انتهى بسقوط بَني خالد وتلاشي نفوذهم في الأحساء عام 1795. فقد كان بَنو خالد حاجزاً، حمى الكويت من السعوديين. ولذلك، فإنه لدى سقوط بني خالد، أصبح إخضاع السعوديين للكويت أمراً محتملاً.
ويمكن القول إن الصراع بين بني خالد والسعوديين، منذ عام 1793، كانت له أبعاده الدينية والاقتصادية والسياسية، فقبْل بروز دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وتحالفه مع محمد بن سعود، أمير الدرعية، عام 1745، كان أهالي نجْد يَعُدّون بَني خالد أقوى جيرانهم، ويسعون إلى رضاء شيوخهم بالطرق كافة.
وحينما كان زعماء القبائل العربية، في نجْد، يمتنعون عن تقديم الهدايا وفروض الطاعة، كان شيوخ بَني خالد يغزونهم، ويعودون محملين بالغنائم.
وقد رفض بَنو خالد الدعوة الإصلاحية، منذ البداية. فَتَحْتَ ضغط زعيمهم، سليمان بن محمد آل حميد، اضطر عثمان بن حمد بن معمر، أمير العيينة، إلى طرد الشيخ محمد بن عبدالوهاب، صاحب الدعوة الإصلاحية في نجد.
مما دفع الداعية إلى حمل دعوته، والذهاب بها إلى الدرعية. وبعد تحالفه مع محمد بن سعود، أمير الدرعية، وتحوّل الدعوة الدينية إلى دعوة سياسية، وجّه بَنو خالد العديد من الحملات ضد الدرعية، خلال الفترة من 1745 حتى 1765، إذ كان في مقدورهم نقْل الصراع إلى أرض نجْد، ولذلك وقف السعوديون منهم، خلال هذه الفترة، موقف الدفاع، لا الهجوم.
وابتداءً من عام 1765، بدا بَنو خالد أكثر ضعفاً، نتيجة لتفاقم الصراعات بين شيوخهم، من جهة، وتنامي قوة السعوديين، من جهة أخرى، الذين نجحوا في تركيز سلطانهم وقوّتهم في نجْد. ولذلك، بدأ السعوديون يهاجمون الأحساء، منذ عام 1783، وكثفوا هجماتهم، خلال الفترة من 1785 حتى 1795، فتمكنوا من القضاء، نهائياً، على نفوذ بَني خالد، بعد حكمٍ دام مائة وثلاثين عاماً. وفي عام 1795، عَيَّن الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، سليمان بن محمد بن ماجد، أول حاكم سعودي للأحساء، لا ينتمي إلى قبيلة بَني خالد.
إزاء تزايد هجمات السعوديين على بَني خالد، لم يهبّ عتوب الكويت إلى نجدتهم، إذ إن شيخهم، كان متردداً بين أمرَين. أولهما، أن يقدّم الدعم والمساندة إلى بَني خالد، ومعنى ذلك أن يستمر ولاء الكويت لهم، إذا ما خرجوا منتصرين. وثانيهما، أن يساعد السعوديين على القضاء على بَني خالد، وبذلك، تتخلص الكويت من تبعيتها لهم. ولذلك، فضّل شيخ الكويت البقاء على الحياد، على الرغم من أنه كان أكثر تعاطفاً مع بَني خالد، وآوى زعماءهم الذين فرّوا من وجه آل سعود، ولم يفصح عن عدائه للسعوديين، لإدراكه حقيقة الخطر السعودي، وتخوّفه منه. فإمارة الكويت، كانت تتمتع بالاستقلال، بمعنى عدم التبعية الفعلية، سواء للعثمانيين أو لبَني خالد، وليس هناك ما يضمن احتفاظها بهذا الاستقلال، في ظل سيطرة السعوديين
ب. علاقات الكويت بنجْد آل سعود(تاريخ الكويت)
أدرك السعوديون أهمية الكويت، كميناء تموين لنجد، ومركز مزدهر للتجارة. وخلال الفترة من 1793 حتى 1797، أي فترة وجود الوكالة التجارية لشركة الهند الشرقية البريطانية، في الكويت (1793 ـ 1795)، شن السعوديون العديد من الحملات، والغارات المسلحة على الكويت، لمعاقبة القبائل المعادية لهم، التي لجأت إلى الكويت. وإن كانت المصادر قد أبرزت حملتَين.
الأولى، وقعت في عام 1793، وقادها إبراهيم بن سليمان بن عفيصان. والثانية، كانت في عام 1797، وقادها مناع أبو رجلين. وفي الحملتَين، كان النصر حليفاً للسعوديين على الكويتيين، ولكنهما لم تحققا هدف السعوديين في السيطرة على الكويت.
ويُذكر أن أهل الكويت جهزوا، عام 1797، حملة للأخذ بالثأر، كما تعاون أهل الكويت مع حملة ثويني بن عبدالله، زعيم المنتفق، التي وجهها ضد السعوديين، عام 1797. وإزاء التهديد السعودي، أقام أهل الكويت السور الثاني حول مدينة الكويت إمعاناً في حمايتها.
وفي عام 1803في تاريخ الكويت، استجاب شيخ الكويت، مُكرَهاً، لطلب أمير السعوديين الخاص بمشاركة السفن الكويتية سفن عتوب البحرين والقواسم، في تظاهرة بحْرية إلى مسقط، لإرهاب حاكمها. وفي عام 1804، غزا سعود بن عبدالعزيز الكويت، وعسكر بجيشه في قرية الجهراء، ولكنه انسحب منها، من دون أن يشتبك مع أهلها في قتال.
وبعد عام 1811، بدأ تهديد السعوديين للكويت يتراجع، نتيجة لتقلص وجودهم العسكري في شرقي شبه الجزيرة العربية، على أثر هجوم قوات والي مصر، محمد علي باشا، عليها، ناحية الغرب، وهو ما اضطرهم إلى سحب قواتهم من الساحل الشرقي، لمواجهة الخطر القادم من الغرب. واللافت أن شيخ الكويت، رحّب بالتقدم، الذي أحرزته القوات المصرية الزاحفة إلى نجْد، بل ساعدها، أثناء حصارها الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، التي سقطت عام 1818.
وبعد سقوط الدرعية، هاجم تركي بن عبدالله آل سعود، عام 1830، أخلاطاً من قبائل سبيع وبني حسين وغيرهم، وهم نازلون بين حفر الباطن، والوقبا. ثم سار حتى نزل الصبيحية، قرب الكويت. ودخل بعض جنوده لقضاء حوائجهم منها، وقدم الهدايا إلى شيخه الكويت، جابر بن عبدالله بن صباح.
ومهما يكن من أمر، فإن السعوديين، لم يتمكنوا من إخضاع الكويت، على الرغم من الحملات العسكرية المتعددة، التي شنوها ضدها، فظلت محتفظة باستقلاها. وثمة عدة عوامل، ساعدت الكويت على الاحتفاظ باستقلالها، وعدم خضوعها للسيطرة السعودية.
(1) اضطرار السعوديين، ابتداءً من عام 1796، إلى المحاربة في غير جبهة. فقد استهدفتهم هجمات أشراف مكة، من جهة، وحملة والي بغداد العثماني، التي كان يقودها الشيخ ثويني بن عبدالله، شيخ المنتفق، من جهة ثانية، فضلاً عن زحف القوات المصرية إلى نجْد والأحساء، بعد عام 1811، من جهة ثالثة.
(2) قوة الكويت بصفة عامة، وقوة أسطولها البحري، وارتفاع مستوى تسليحها بصفة خاصة. في حين لم يكن للسعوديين قوة بحرية، سوى قوة حلفائهم القواسم، التي كانت أضعف من أن تواجه أسطول الكويت. ولذلك، كانت حملات السعوديين على الكويت، حملاتٍ بريةً، بالأساس.
(3) وجود الوكالة التجارية لشركة الهند الشرقية البريطانية في الكويت، خلال الفترة من أبريل 1793 حتى أغسطس 1795، أسهم في حفظ استقلال الكويت، وعدم خضوعها للسيطرة السعودية. وهناك العديد من الشواهد، التي تؤكد مساهمة الوكالة التجارية في الدفاع عن الكويت، تجاه التهديد السعودي، تحقيقاً لمصالح بريطانية محض، في المقام الأول.
فقد حرصت الشركة على عدم سيطرة أي قوة على الكويت، نظراً إلى أهميتها الإستراتيجية، بالنسبة إلى الوجود البريطاني في الخليج. وإمعاناً في هذا الحرص، نقل البريطانيون مقر الوكالة التجارية لشركة الهند الشرقية البريطانية، من البصرة إلى الكويت، خلال الفترة من 1793 حتى 1795.
وبعد عام 1840، خفّت حدّة الاحتكاك بين الكويت والسعوديين. إلاّ أن ذلك لم يتحول إلى خط ثابت في العلاقة بينهما. إذ ارتبط بطبيعة الصراعات والتوازنات والتحالفات، بين القوَّتَين الأساسيتَين والمتنافستَين في نجْد، وهما: آل سعود وآل رشيد. ففي عام 1841، لجأ إلى الكويت خالد بن سعود بن عبدالعزيز، بعد أن استرد الحكم منه عبدالله بن ثنيان بن إبراهيم بن ثنيان بن سعود.
وفي عام 1860 في تاريخ الكويت، غزا عبدالله بن فيصل بن تركي جموع قبيلة العجمان ومن حالفها من عشائر المنتفق، بسبب غاراتهم على حدود الدولة السعودية. وكانوا قد اتخذوا من الجهراء مركزاً لنشاطهم ضد السعوديين. فانتصر عليهم وشتت جموعهم. وفي العام التالي، 1861، غزاهم أيضاً، وهربوا إلى داخل الكويت، فطاردهم حتى ساحل البحر، حيث مات من العجمان وحلفائهم عدد كبير، غرقاً. ولكن هذا الأمر لم يترك أي عواقب سلبية بين السعوديين وآل صباح، فلم يعد عبدالله بن فيصل من الكويت، إلاّ بعد أن تبادل رسائل الصداقة والمودّة، مع حاكم الكويت.
وفي عام 1863، نشأت علاقة ودّية، بين شيخ الكويت، صباح الثاني، وحاكم نجْد، فيصل بن تركي. وفي عام 1866، قدم الأمير السعودي عبدالله بن فيصل بن تركي، عوناً لشيخ الكويت على نزاع بينه وبين العثمانيين. وقد عادت العلاقات العدائية بين الكويت والسعوديين، مرة أخرى، عام 1872، حين غزا الأمير سعود بن فيصل بن تركي، أمير السعوديين، مدينة الكويت، لكن شيخها استطاع أن يتغلب عليه، ويجبر قواته على الفرار. وفي عام 1884، تقريباً، بدا أن شيخ الكويت كان يساند محمد بن عبدالله بن علي بن رشيد (1871 ـ 1897)، أمير حائل ونجْد، الذي بدأ يهاجم السعوديين.
وفي عهد مبارك بن صباح الثاني (1896 ـ 1915)، تشابكت علاقات الكويت بنجْد تشابكاً معقداً جداً، وبخاصة في ضوء تصاعد الصراع بين آل سعود وآل رشيد. فقد وقف شيخ الكويت إلى جانب آل سعود، ضد عدوّه اللدود، وحليف الأتراك، عبدالعزيز بن متعب بن عبدالله آل رشيد (1897 ـ 1906).(أُنظر شكل نسب آل رشيد) وتبادل الجانبان العديد من الهجمات. وبعد أن قوّض ابن رشيد عرش آل سعود، في الرياض، لجأ الأمير عبدالرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود، وابنه عبدالعزيز، إلى الكويت
حيث استضافهما شيخها، معمقاً العداوة بينه وبين ابن رشيد. وفي موقعة الصريف، عام 1901، هزمت قوات ابن رشيد القوات الكويتية هزيمة شديدة. وانتقم شيخ الكويت، بعد ذلك، لهذه الهزيمة، فساعد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود على احتلال الرياض، والقضاء على خصمه، عبدالعزيز بن متعب آل رشيد قضاءً نهائياً.
ج. علاقات الكويت بالبحرين آل خليفة(تاريخ الكويت)
“آل خليفة”، هم من العتوب، الذين أسهموا مع أقاربهم آل صباح، في تأسيس إمارة الكويت، في نهاية القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر. وقد دفعتهم أسباب عدة إلى مغادرة الكويت، وتأسيس إمارة خاصة بهم، في الزبارة، في قطَر، خلال الفترة من 1762 حتى 1766.
ويؤكد أغلب المصادر، أن العلاقة بين عتوب الكويت (أُسرة الصباح)، وعتوب الزبارة (آل خليفة)، كانت تقوم على أساس الصداقة والتعاون، وبخاصة في المجالات العسكرية والتجارة. ففي عام 1708، اشترك عتوب الزبارة مع عتوب الكويت في الحرب ضد عرب بَني كعب. ومن القضايا المهمة، التي شكلت محوراً للعلاقة بين أسرتَي الصباح وخليفة، قضية فتح العتوب للبحرين، ما بين عامَي 1782 ـ1783، التي كانت تحت حكم الشيخ نصر آل مذكور، وهو من عرب بوشهر، في ظل السيادة الفارسية عليها.
وبإيجاز، فإن علاقة الكويت بالبحرين في تاريخ الكويت كله، تحت حكم آل خليفة، كانت تقوم على الصداقة والتعاون. ويمكن تفسير ذلك بعدة عوامل منها: الخلفيات العرقية والتاريخية المشتركة، بين أسرتَي الصباح وخليفة، ووجود بعض الأخطار والتحديات المشتركة، التي مثلت تهديداً لدويلات العتوب، في الكويت، والزبارة، والبحرين، وبخاصة من قِبل القبائل العربية، القاطنة في الشاطئ الفارسي للخليج، وهي عرب بندريق وعرب بوشهر، وعرب بَني كعب.
العلاقات الكويتية ـ العثمانية الفترة من 1756 إلى 1899(تاريخ الكويت)
اقتصرت علاقة الكويت بالدولة العثمانية في تاريخ الكويت الموثق على الجانب الديني. ولم يسمح حكام الكويت لأي من ممثلي العثمانيين، خاصة في ولايتي بغداد والبصرة، أن يتداخل نفوذ الدولة الديني وسلطتها السياسية. وساعدهم على ذلك ضعف النفوذ العثماني في العراق، الذي تجلى في استقلال بغداد عن الباب العالي، تحت حكم مجموعة من المماليك، وقد استمر في الفترة من 1747 حتى 1831، وأسفرت عن تبعية العراق للدولة العثمانية تبعية اسمية.
وقد استغل ولاة بغداد، الاعتراف الشكلي بالتبعية العثمانية، من أجل محاولة فرض نفوذهم على الكويت. وحيال عجزهم عن فرض مطالبهم بالقوة، فقد كان شيوخ الكويت لا يبالون بهذه المطالب، أحياناً، ويرفضونها، كلية، في أحيان أخرى.
وفي جميع الأحوال، لم يثبت أن الكويت كانت داخلة في نطاق التبعية العثمانية، خلال المرحلة الممتدة من القرن الثامن عشر حتى العقد السابع من القرن التاسع عشر، إذ لم يرابط في الكويت حاميات عثمانية، كما لم يتدخل الباب العالي، أو السلطات العثمانية في البصرة أو بغداد، في تقليد الحكم لأي حاكم من حكام أُسرة الصباح بل لم يكن للسلطة العثمانية مندوب في الكويت.
ولا ممثلون، يعوقون حكامها عن استقبال ممثلي الشركات الأجنبية، وعقد الصفقات التجارية معهم. واستطراداً، لم تشهد الكويت موظفين عثمانيين لإدارة شؤونها، كما لم تطبق القوانين أو الأنظمة العثمانية، داخل أراضيها.
وقد مرت العلاقات في تاريخ الكويت بين إمارة الكويت، منذ تأسيسها، والدولة العثمانية، بمرحلتَين أساسيتَين. لكل منهما سماتها وملامحها.
فالمرحلة الأولى: تمثلت في غلبة الطابع الاسمي (الشكلي) على تبعية الكويت للدولة العثمانية.
أمّا المرحلة الثانية: فقد اتسمت بعدة محاولات للسلطة العثمانية لتحويل التبعية الاسمية إلى تبعية فعلية.
1. المرحلة الأولى (1756ـ 1869)تاريخ الكويت
سعى المستوطنون الأولون، من العتوب، في الكويت، إلى تأمين مركزهم في إمارتهم الناشئة، وذلك بالاعتراف بشيء من الولاء للدولة العثمانية. فأوفدوا زعيمهم الأول، صباح بن جابر، إلى الوالي العثماني في بغداد، ليطلب منه تأييد الدولة العثمانية لهم، وإقرارها لاستقرارهم وأمنهم، فضلاً عن إظهار رغبتهم في العيش في سلام، وتعهدهم بحفظ الأمن والاستقرار في المنطقة.
وقد نجح زعيم أُسرة الصباح في مسعاه. وبذلك، اعترفت الكويت بنوع من التبعية الدينية للدولة العثمانية، من دون تدخل إستانبول في شؤونها الداخلية. فتجنّبت الأخطار، التي كان يمكن أن تأتيها من جانب الدولة العثمانية، بل استغل شيوخها، في بعض الفترات، علاقتهم بالدولة العثمانية، لتحقيق مصالح كويتية خاصة.
ولقد كانت الرابطة الروحية ـ الدينية، هي أساس تبعية الكويت الاسمية للدولة العثمانية، خلال هذه الفترة، لكونها دولة الخلافة الإسلامية؛ إذ كانت الرابطة الدينية، هي المصدر الأساسي لاكتساب الشرعية. ولا شك في أن نمط تبعية الكويت للدولة العثمانية، خلال هذه الفترة، اختلف عن أنماط التبعية لسائر ولايات الدولة العثمانية، فقد كان هناك: نمط التبعية الفعلية، ونمط السيادة القانونية، والنمط الأقرب إلى علاقة التحالف.
وقد حمل الكويت على الإقرار بالتبعية الاسمية للدولة العثمانية عوامل عدة، أبرزها:
أ. سعي أهل الكويت إلى تحقيق نوع من التوازن في علاقاتهم بين الدولة العثمانية وبَني خالد، الذين كانوا يسيطرون على الأحساء والقطيف، تفادياً للوقوع تحت سيطرة أي من القوّتين.
ب. حرص حكام الكويت على تدعيم شرعية كيانهم السياسي، بالارتباط بالمصدر الديني، الذي تجسده دولة الخلافة.
ج. اطمئنان شيوخ الكويت، خلال هذه الفترة، إلى أن التبعية الاسمية للدولة العثمانية لن تتحول إلى تبعية فعلية، نتيجة حالة الفوضى والاضطراب، التي كان يمر بها العراق العثماني، نتيجة لظروف سياسية.
والجدير بالذكر، أن محاصرة الفرس للبصرة، واحتلالهم إياها، خلال الفترة من 1775 حتى 1779، أسهم في إضعاف السلطات العثمانية في العراق، في الوقت الذي ازدهر فيه الكويت، سياسياً واقتصادياً، نتيجة لتحول حركة التجارة من البصرة إلى الكويت. وبذلك، تدعم مركز الكويت الخارجي، وأصبح لها علاقات تجارية مع العديد من بلدان العالم بصفة عامة، وبالهند وشرقي آسيا بصفة خاصة.
وتكشف محاصرة الفرس البصرة واحتلالهم إياها (1775 ـ 1779)، عن جانب من علاقة الكويت بالدولة العثمانية. ومع التسليم بصعوبة تحديد موقف عتوب الكويت تحديداً جلياً من هذه الواقعة، إلاّ أن بعض المصادر يشير إلى أنهم سعوا إلى إرضاء الطرفَين، مع إبداء قدر من التعاطف مع السلطات العثمانية في العراق، من دون الكشف عن ذلك، صراحة. وقد تمثل ذلك في اتجاه بعض السفن العثمانية إلى ميناء الكويت، لإجراء عمليات الصيانة والإصلاح، وإرسال شيخ الكويت حوالي 200 كويتي لمساعدة والي البصرة.
وربما كان المسلك الكويتي، رداً على مساندة عرب بَني كعب، وعرب المحمرة اُللفرس على احتلال البصرة، وكلاهما معادٍ للكويت. ومن ثَم، وجد أهالي الكويت أنفسهم في تصادم مع قوَّتَين، كانتا على وفاق مع الفرس.
ومنذ تولّي الشيخ عبدالله الأول بن صباح الأول، الحاكم الثاني للكويت (1762ـ 1812)، بدأت تتبلور أنماط العلاقة بين الكويت والدولة العثمانية. إذ سعت الكويت إلى تأكيد استقلالها الفعلي عن الدولة العثمانية، وتوظيف علاقتها بها لتحقيق مصالح كويتية خالصة.
كما قدمت الكويت الدعم العسكري للدولة العثمانية، في صراعاتها مع فارس، وبعض القوى والمشيخات العربية في الخليج وشبه الجزيرة العربية، مثل السعوديين، والقبائل العربية على الشاطئ الفارسي للخليج، مثل عرب بَني كعب.
وكان بعض الحملات، التي شنتها الدولة العثمانية ضد بعض هذه القوى، تخدم مصالح الكويت، بشكل غير مباشر. بيد أن العلاقات بين الجانبَين كانت تتعرض لبعض المشكلات والصعوبات، من جراء بعض ممارسات شيوخ الكويت، الرامية إلى تأكيد الاستقلال، وبعض ممارسات السلطات العثمانية في العراق، الساعية، بعد عام 1869، إلى فرض السيطرة العثمانية الفعلية على الكويت.
كما شهد عهده، كذلك، بعض الوقائع، التي أكدت استقلال الكويت عن الدول العثمانية، أي عدم تبعيتها الفعلية لها. ومنها اعتماد أهالي الكويت على أنفسهم، في الدفاع عن مشيختهم، ضد هجمات قبائل بَني كعب والمنتفق، من دون تلقّي دعم أو مساعدة من السلطات العثمانية، في العراق. إضافة إلى أن الكويت، كانت ملجأ للمتمردين على السلطات العثمانية في بغداد والبصرة.
ومن ذلك، “مصطفى آغا، متسلم البصرة، والشيخ ثويني، شيخ قبيلة المنتفق، وهي من أقوى القبائل العربية في نواحي البصرة، اللذان لجآ، مع بعض أتباعهما، إلى شيخ الكويت عبدالله بن صباح الأول، عام 1787، وطلبا الحماية منه، على أثر فشل محاولتهما الاستقلال بالبصرة عن سلطة والي بغداد المملوكي، الذي وجّه حملة كبيرة إلى المدينة، قضت على تمردهما. وقد طلب والي بغداد من شيخ الكويت تسليمه المتمردّين، فرفض، تماشياً مع التقاليد العربية، التي تؤكد حماية المستجير، وعدم تسليمه لأعدائه.
وإزاء ذلك، بدأ والي بغداد يعِد حملة لغزو الكويت، وطلب من المسؤول عن الوكالة التجارية البريطانية في البصرة، الاشتراك في هذه الحملة. لكن المسؤول البريطاني، رفض هذا الطلب، وأرسل إلى شيخ الكويت، بحكم العلاقة الطيّبة، التي تربطه به، يبلغه بأخبار هذه الحملة. وقد انتهت هذه المشكلة، بأن أوعز شيخ الكويت إلى مصطفى آغا وأتباعه بالسفر إلى نجْد، مع إحدى القوافل.
ومنذ نهاية القرن الثامن عشر في تاريخ الكويت، وبداية القرن التاسع عشر، حدثت مجموعة من التطورات، في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية، تركت تأثيراتها في العلاقات بين الكويت والدولة العثمانية، وتتمثل فيما يلي:
أ. نجاح السعوديين في إحكام قبْضتهم على الأحساء، بعد القضاء على نفوذ بَني خالد فيها، وامتداد النفوذ السعودي إلى الكويت. وهكذا، وجدت الكويت نفسها تقف في صف القوى، التي تناصب السعوديين العداء
ب. ازدياد النفوذ البريطاني في منطقة الخليج، وبخاصة بعد توقيع معاهدة الصلح البحري، في 21 يناير 1820، وما تلاها، من فرض لمعاهدات “الصلح البحري” (الصلح العامة)، على شيوخ الإمارات العربية في الخليج. ومن ثم، سعت الكويت إلى الحفاظ على استقلالها، وذلك من خلال العلاقات المتوازنة بين بريطانيا والدولة العثمانية.
ج. تنامي النفوذ العثماني في العراق، بعد القضاء على داود باشا، آخر حكام المماليك في بغداد، عام 1831، على يد علي باشا رضا.
وقد أسهمت تلك التطورات السابقة في تاريخ الكويت، إلى درجات متفاوتة، وبأشكال مختلفة، في تدعيم العلاقات بين الكويت والدولة العثمانية، خلال فترة حكم الشيخ جابر الأول بن عبدالله الأول، الحاكم الثالث للكويت، (1812 ـ 1859). ففي عام 1820، طلبت بريطانيا من شيخ الكويت، جابر الأول، أن ينضم إلى معاهدات الصلح البحري، التي بدأت تبرمها مع إمارات الخليج، إلاّ أن الشيخ رفض هذا الطلب على الرغم من الضغوط، التي مُورست عليه.
ولتجنّب احتمالات الوقوع تحت السيطرة البريطانية، اتجه إلى تدعيم علاقته بالدولة العثمانية، إذ اعتبر أن التقدم خطوات على طريق العلاقة مع الدولة العثمانية، هو أقلّ خطراً من توقيع معاهدة مع بريطانيا. فالخيار الأول لن يغيّر كثيراً من الوضع الخاص لإمارة الكويت، في علاقتها بالدولة العثمانية، كما أنه لن يؤثر في مصالح فئة التجار، التي أصبحت تؤدي دوراً مهماً في حياة المجتمع الكويتي.
ولذلك، فقد اتخذ شيخ الكويت، عام 1829، قراراً بالاعتراف بالسيادة العثمانية، فرفع العلم العثماني على مقره، مع إضافة كلمة “كويت”، على أحد جوانبه، وذلك لتجنّب محاولات بريطانيا الرامية إلى مد نفوذها إلى الإمارة.
ورفع العلم العثماني، كذلك، على السفن الكويتية، لضمان أمنها في عرض البحر، إذ إن الدول الكبرى، لم تكن تعترف بالأعلام المحلية، سواء بالنسبة إلى الكويت أو إلى غيرها من الإمارات.
وفي هذا الإطار، ألزمت السلطات العثمانية في العراق، شيخ الكويت بدفع جزية سنوية، تمثلت في كميات من الأرز والتمر، يقدمها إلى والي بغداد. وكان يتلقّى من السلطات العثمانية خلعة سنوية، تكريماً له.
إلاّ أن طبيعة العلاقات بين الجانبَين، سرعان ما تغيرت. إذ أصبحت إستانبول في حاجة إلى دعم أسطول الكويت ومساندته على صراعاتها مع القوى الأخرى.
ولذلك، ألغت الجزية السنوية التي كان يدفعها شيخ الكويت، وأمست الدولة العثمانية، هي التي تدفع رواتب سنوية إلى شيخ الكويت من خزينة البصرة، مقابل الخدمات والمساعدات العسكرية، التي كان الكويتيون يقدمونها إلى الدولة العثمانية.
وخلال فترة حكم الشيخ جابرالأول، كذلك، تذكر المصادر العديد من الوقائع والمناسبات، التي قدم فيها شيخ الكويت الدعم العسكري إلى الدولة العثمانية. ففي عام 1831، قدّم شيخ الكويت المساعدة إلى والي البصرة، عندما أغارت قبائل بَني كعب على المدينة وحاصرتها، مما أجبر واليها على الفرار إلى الكويت، والاستنجاد بشيخها. فساعده بمجموعة من السفن، المحملة بالأسلحة والذخيرة والمقاتلين، وهو ما مكنه من استعادة سيطرته على البصرة.
وفي عام 1836، قدّم شيخ الكويت مساعدته العسكرية إلى السلطات العثمانية في البصرة، للقضاء على تمرد سكان الزبير. وتمثلت هذه المساعدة في حصار المدينة من ناحية البحر. وإضافة إلى ذلك، فإن أسطول الكويت، أسهم في مواجَهة بَني كعب، عندما تغلبوا على الحامية العثمانية في المحمرة، عام 1838. وبفضل هذه المساهمة، تمكنت السلطات العثمانية من استعادة السيطرة عليها.
وفي عام 1854، طلبت السلطات العثمانية من شيخ الكويت، أن يتولى حماية ميناء البصرة، مقابل راتب سنوي، يدفع من خزانة الولاية، فضلاً عن إصدار فرماناً بإهدائه علماً أخضر (وشاحاً أخضر). واستمر شيوخ الكويت يحصلون على هذا الراتب، ولم ينقطع، إلاّ لفترة قصيرة، عندما تولى مبارك الحكم، عام 1896.
وعلى الرغم من اعتراف شيخ الكويت بالسيادة العثمانية، ورفع العلم العثماني فوق مقره، وعلى السفن الكويتية، إلاّ أن هذا التطور لم يكن تسليماً بالسيادة العثمانية الفعلية على الكويت، لكنه إجراء شكلي اقتضته المصالح الكويتية، في إطار الحفاظ على تبعية الكويت الاسمية للدولة العثمانية.
وفي تاريخ الكويت لم يحُل التعاون بين الكويت والدولة العثمانية، دون تعرض علاقاتهما، أحياناً، لبعض المشكلات، التي كان مردّها إلى سعي حكام الكويت إلى تأكيد استقلالهم عن الدولة العثمانية. وهو ما يؤكده موقف الكويت من الصراع المصري ـ العثماني، الذي تفجر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
ففي عام 1838في تاريخ الكويت وصلت القوات المصرية، بقيادة خورشيد باشا، من أواسط شبه الجزيرة العربية إلى سواحل الأحساء. فرحب الشيخ جابر الأول، حاكم الكويت، بتقدمها، كما رحّب بالمبعوث المصري، الذي أرسله خورشيد باشا للإقامة بالكويت.
وقد قيل، في ذلك الوقت، إن مهمته هي توفير الإمدادات للقوات المصرية. ولقد كان وجود المبعوث المصري في الكويت، غير مؤاتٍ للسياسات والمصالح، البريطانية والعثمانية على السواء؛ إذ كانت بريطانيا تسعى إلى مد خط حديدي، يمر عبر شبه الجزيرة العربية إلى الكويت، وقد أدرك شيخ الكويت أن البريطانيين يخططون لاستخدام الكويت، كقاعدة بحْرية لهم، بدلاً من قاعدة الخرج، التي اضطروا إلى الانسحاب منها، عام 1839. فعمد إلى التقرب من القوات المصرية، للضغط على بريطانيا، التي ساءها الموقف الكويتي.
وقد تمثلت المهمة الأساسية لمبعوث خورشيد باشا، في جمع المعلومات، حول إمكانية نجاح خطة مصرية، ترمي إلى تطويق العراق العثماني، من الجنوب بقوات من الأحساء، وبمساعدة كويتية، بينما يطوقه من الشمال القوات المصرية، الموجودة في الشام. ويُقال إن شيخ الكويت، منح مبعوث خورشيد باشا مكانة خاصة في مجلسه، فضلاً عن أنه جعل السفن الكويتية في خدمة القوات المصرية.
ويذكر لوريمر، مؤرخ حكومة الهند البريطانية، أن الشحنة الوحيدة من الذخيرة والعتاد، التي وصلت إلى القوات المصرية، طوال فترة احتلالها الأحساء، هي تلك التي حملتها سفينة كويتية من ميناء الحديدة، على البحر الأحمر، إلى القطيف، في نوفمبر 1839.
وهكذا، عكست سياسة شيخ الكويت، إزاء هذا الصراع، حقيقة فهْمه لطبيعة العلاقة بالدولة العثمانية. فليس في سياسته ما ينمّ على تبعية الكويت، فعلياً، للدولة العثمانية. بل هو تصرف باستقلالية، وانطلاقاً مما تمليه المصالح الكويتية.
وفي عهد الشيخ صباح الثاني بن جابر الأول، الحاكم الرابع، (1859ـ 1866)، تحسنت علاقات الكويت بالدولة العثمانية، ضمن إطار تبعيتها الاسمية، فلم يكن هناك أي مظاهر لتبعية فعلية: فلا جزية، ولا رسوم، تدفعها الكويت إلى الدولة العثمانية. ولا وجود لموظفين عثمانيين، ولا حاميات ومراكز عسكرية عثمانية على أرض الكويت. فضلاً عن تصرف الكويت، باستقلالية، في شؤونها وعلاقاتها الخارجية. وفي هذا الإطار، نشأت علاقات وثيقة بين الجانبَين.
ولكن بعد جلاء القوات المصرية عن شرقي شبه الجزيرة العربية، عادت العلاقات بين الكويت والدولة العثمانية إلى سابق عهدها، واستمرت كذلك حتى عام 1866، عندما تولى نامق باشا ولاية بغداد، وسعى إلى تغيير طبيعة العلاقة بين الكويت والدولة العثمانية، أي تحويلها من تبعية اسمية إلى تبعية فعلية.
ويمكن القول، إنه في خلال تلك المرحلة، كان تبادل المصالح بين الجانبَين، هو أحد المبادئ المهمة التي حكمت العلاقات بينهما. فحكام الكويت في حاجة إلى الشرعية الدينية، وسفنهم في حاجة إلى رفع العلم العثماني، بينما الدولة العثمانية في حاجة إلى المساعدات، التي يقدمها أسطول الكويت، في عملياتها، التي كانت تستهدف، في بعض الأحيان، قوى معادية للكويت.
وإذا كانت تلك هي طبيعة العلاقات بين الكويت والدولة العثمانية حتى عام 1869، إلاّ أن هناك بعض المستجدات التي طرأت على هذه العلاقة ما بعد عام 1869في تاريخ الكويت.
2. المرحلة الثانية (1869 ـ 1899)
تُعَد حركة الإصلاح، التي شهدتها الدولة العثمانية، خلال القرن التاسع عشر، من العوامل المهمة، المؤثرة في العلاقة بين الكويت والدولة العثمانية، في مرحلة ما بعد 1869. وجوهر هذه الحركة الإصلاحية هو إقامة حكومة مركزية قوية، على غرار الحكومات الأوروبية، لفرض هيبة الدولة في مختلف ولاياتها. وقد بدأت الدولة العثمانية في فرض المركزية على العراق، ثم على المناطق المتاخمة له، ابتداء من عام 1866، أي منذ تولي نامق باشا ولاية بغداد (1866 ـ 1869). وفي هذا الإطار، سعى الوالي إلى تغيير علاقة إستانبول بالكويت، وحاول تنفيذ خطة ذات شقين: الأول، قبول شيخ الكويت لقب قائمقام. والثاني، إنشاء مركز عثماني، لتحصيل الجمارك في الكويت. وقد رفض شيخ الكويت الخطة، وأصرّ على أن تبقى الكويت، كميناء مفتوح للتجارة. ويُقال إن نامق باشا قد طلب سفينتَين مجهزتَين، من الآستانة، لمهاجمة الكويت واحتلالها، خاصة أن الدولة العثمانية تنظر، بخشية، إلى ازدياد النفوذ البريطاني في الكويت. وعلى أثر ذلك، طلب شيخ الكويت من بريطانيا، ألاّ ترسو سفنها في ميناء الكويت، خوفاً من هجوم العثمانيين. وتقديراً من المقدم لويس بيلي، المقيم السياسي البريطاني في الخليج، لموقف الكويت، أوصى حكومته بقبول وقف رسو السفن البريطانية في الكويت إلى حين، خوفاً من تعرض الكويت واقتصادها لمتاعب من السلطات العثمانية. فأَخفَقَت محاولة نامق باشا.
ويذكر لوريمر، في هذا الصدد، أن المقدم لويس بيلي، المقيم السياسي البريطاني في الخليج، زار، عام 1863، الكويت، لتأسيس علاقات سياسية بشيخها صباح الثاني بن جابر الأول (1859 ـ 1866)، وحمله على الخروج على الدولة العثمانية، ولكنه فشل في مهمته. وخلال الزيارة، رصد بيلي إمكانات الكويت، كميناء تجاري مهم، فضلاً عن صلاحيتها لتكون قاعدة لمحطة تلغراف بريطانية، أو مستودعات للفحم، إذا دعت الظروف إلى ذلك.
والواقع، أن الفشل، الذي مُني به نامق باشا، في تغيير طبيعة العلاقة بين الكويت والدولة العثمانية، لم يثنِ خليفته، مدحت باشا، الذي تولى ولاية بغداد خلال الفترة من 1869 حتى 1872، عن عزمه تحقيق هذا الهدف، أي لتحويل تبعية الكويت الاسمية للدولة العثمانية إلى تبعية فعلية، خاصة أن الرجل، كان من أبرز رواد حركة الإصلاح في الدولة العثمانية. وقد استصدر مدحت باشا فرماناً عثمانياً، تضمن الأُسس الجديدة، التي تحكم علاقة الكويت بالدولة العثمانية. وتختلف المصادر في تحديد السنة، التي صدر فيها هذا الفرمان، على الرغم من اتفاقها في تحديد محتواه. فبعضها يرى أنه صدر عام 1870، وهو العام الذي أصدر فيه مدحت باشا تنظيماته الإدارية، وسعى إلى تنفيذها في العراق. ويؤكد بعضها الآخر، أن هذا الفرمان، أو الأمر الرسمي، قد صدر في نهاية عام 1871، أثناء زيارة مدحت باشا إلى الكويت، وهو في طريقه إلى تفقّد القطاعات العسكرية، في الأحساء، بعد الحملة العثمانية، التي شُنت من البصرة على الأحساء والقطيف، وقادها نافذ باشا، في وقت مبكر من عام 1871
وقد حدد الفرمان العثماني، الذي صدر في عهد مدحت باشا، علاقة الكويت بالدولة العثمانية، طبقاً للأسس التالية:
أ. الكويت قضاء عثماني تابع لولاية البصرة، يتوارث الحكم فيه شيوخ أُسرة الصباح، على أن يكون شيخ الكويت مستقلاً في شؤونه الداخلية.
ب. منح شيخ الكويت لقب قائمقام.
ج. أهالي الكويت، لا يلتزمون بدفع رسوم أو ضرائب إلى الباب العالي.
د. إلزام السفن الكويتية برفع العلم العثماني، في البر والبحر، وإسقاط أعلام الدولة الأخرى كافة، مع إعفاء السفن الكويتية من دفع أي رسوم أو ضرائب.
إن هذا الفرمان لم يفرض على الكويت تطبيق القضاء العثماني، وسمح لها بممارسة قضائها الخاص، طبقاً لظروفها. كما أنه لم يلزم أهالي الكويت باستخدام العملة العثمانية، وسمح لهم بحرية التعامل بمختلف العملات المتداولة، دون إلزامهم بعملة محددة.
وفي عهد الشيخ عبدالله الثاني بن صباح الثاني، الحاكم الخامس (1866 ـ 1892)، شاركت الكويت، بفاعلية، في الحملة العثمانية، التي انطلقت من البصرة إلى الأحساء والقطيف، عام 1871.
ولم تقتصر مشاركتها على استخدام السفن الكويتية في نقل الأسلحة والعتاد والذخائر والمقاتلين من البصرة، بل شاركت بقوات بحرية وبرية. وقد تولى الشيخ عبدالله الثاني، بنفسه قيادة القوات البحرية، ووكل قيادة القوات البرية، المؤلفة من أهالي الكويت وعشائرها، إلى أخيه مبارك بن صباح الثاني الذي تولَّي حكم الكويت، عام 1896.
وعلى أثر هذه الحملة الناجحة، تمكن مدحت باشا من الاستيلاء على مقاطعات الأحساء، وأطلق عليها اسم لواء نجْد، ونصّب الأمير عبدالله بن سعود قائمقاماً عليها، من قِبل الدولة العثمانية. وبعد أن تمكنت الحملة العثمانية من إحكام سيطرتها على مقاطعات الأحساء
خرجت قوة عثمانية، احتلت قطَر، وكانت تتألف من عشائر بدوية كويتية، بقيادة عبدالله الصباح، واتخذت من الدوحة مركزاً لها. وتعلّل مدحت باشا في غزوه بأن القبائل البدوية، تعرض سلامة الإمارة للخطر. وفي أواخر عام 1871في تاريخ الكويت، زار والي بغداد الكويت، أثناء رحلته لتفقد القطاعات العسكرية في الأحساء
ومنح شيخ الكويت لقب قائمقام، وأنعم عليه بلقب باشا، كما منحه مساحات واسعة من مزارع النخيل، في الفاو والبصرة، وأعفاه من ضرائبها. وهو ما أدى إلى ظهور مشكلات كثيرة، فيما بعد، بين شيوخ الكويت وولاة البصرة، ثم العراق، بعد ذلك. كما قرر مدحت باشا استمرار صرف الرواتب السنوية لحكام الكويت، من خزانة البصرة.
وقد استغل مدحت باشا هذه التطورات، فأقام مركزاً جمركياً في الكويت. إلاّ أن هذا المركز، لم يستمر طويلاً، إذ اكتشف العثمانيون عدم جدواه. ولم يعترض الكويتيون على فكرة إنشاء مركز جمركي في الكويت، على الرغم من تعارضها مع السياسة الكويتية الثابتة، القائمة على رفض أي وجود عثماني فعلي في الكويت
وذلك حتى يجعلوا العثمانيين يتأكدون بأنفسهم، من عدم جدوى وجود مركز جمركي، تابع لهم، في الكويت، وحتى يثبتوا الامتيازات التي أُقِرّت لهم في فرمان مدحت باشا.
وقد ظل شيوخ الكويت يتقاضون رواتب سنوية من الدولة العثمانية، ويتبعون والي البصرة، بصفة اسمية، من دون وجود قوات عثمانية أو موظفين عثمانيين في الكويت، ومن دون دفع أهالي الكويت رسوماً أو ضرائب، حتى تولى مبارك الحكم، عام 1896، فظهرت متغيرات جديدة أعادت تشكيل علاقة الكويت بالدولة العثمانية.
وبدأ يتقلص دور الدولة العثمانية، في الخليج وشبه الجزيرة العربية، في مرحلة ما بعد مدحت باشا (1869 ـ 1872)، إذ انشغلت الدولة العثمانية بحروبها مع روسيا، وبمشكلاتها في البلقان، مما حال دون تدعيم وجودها في الخليج.
كما أن الوجود العسكري العثماني في الأحساء، تعرض للتدهور والانهيار، نظراً إلى كثرة تمرد القبائل، وانتشار الأمراض والأوبئة، مما دفع بالسلطات العثمانية إلى سحب قواتها، المتمركزة في الأحساء، إلى البصرة.
وبعد تولي الشيخ مبارك بن صباح الثاني، الحاكم السابع (1896 ـ 1915) في تاريخ الكويت، بعد أن قتل أخويه، سعت السلطات العثمانية إلى أن يكون لها وجود فعلي في الكويت. فأنشأ فيها باشا البصرة مركزاً للحجر الصحي، وأرسل موظفين عثمانيين للعمل فيه. ولم يكن مبارك مستعداً لقبول مبدأ وجود موظفين عثمانيين في الكويت.
لذلك، بدأ يتطلع إلى دعم خارجي، خاصة أنه كان مهدداً من قِبل عبدالعزيز آل رشيد، حليف العثمانيين، ويوسف بن عبدالله، الذي كان يتطلع إلى حكم الإمارة.
وفي الشهر نفسه، الذي وصل، خلاله، موظفون عثمانيون إلى الكويت، للعمل في مركز الحجر الصحي، طلب الشيخ مبارك مقابلة المقيم السياسي البريطاني في الخليج، وأبلغه رغبته في وضع الكويت تحت الحماية البريطانية، حتى لا تقع تحت السيطرة العثمانية.
إلاّ أن بريطانيا، لم تستجب له، من الفور، إذ كان لا بدّ أن يُعلن استقلال الكويت عن الدولة العثمانية، حتى يتسنى لها إبرام معاهدة معها. ولذلك، تراجعت بريطانيا عن اعترافها، الصادر عام 1878، والمتعلق بإقرارها بالسيادة العثمانية في الساحل الشمالي للخليج.
وعاد مبارك وكرر طلب الحماية من بريطانيا، في نوفمبر 1897، وقبِلت الحكومة البريطانية طلبه، هذه المرة، ووقع الجانبان اتفاقية سرية، في 23 يناير 1899.
تطور العلاقات الكويتية ـ البريطانية في تاريخ الكويت
1. العلاقات الكويتية ـ البريطانية، خلال الفترة من 1820 إلى 1896
مع تزايد نفوذ بريطانيا في الخليج، في مطلع القرن التاسع عشر، والذي برز بشكل واضح، من خلال مدّ نفوذها من مسقط إلى الساحل الجنوبي للخليج، بعد توقيع معاهدة الصلح البحري (معاهدة الصلح العامة)، في 21 يناير 1820، وما تلاها من فرض معاهدات الصلح البحري على شيوخ الإمارات العربية، على ذلك الساحل
بدأت بريطانيا السعي نحو مدّ نفوذها إلى الكويت، فمارس البريطانيون ضغوطاً على الشيخ جابر الأول بن عبدالله الأول، الحاكم الثالث (1812 ـ 1859)، وطلبوا منه الانضمام إلى المعاهدة البحرية، أو الانضمام إلى اتفاقات الهند البحرية. إلاّ أن شيخ الكويت لم يستجب لهم. وطلبوا منه، عام 1829، أن يرفع العلم البريطاني على قصره، وأن يسمح لهم ببناء بعض القواعد، العسكرية والمدنية، في الكويت
إلاّ أنه رفض طلبهم، كذلك. ولتجنّب احتمالات الوقوع تحت السيطرة البريطانية، أصدر الشيخ جابر الأول، في العام نفسه، قراره برفع العلم العثماني على قصره، وعلى السفن الكويتية، مع وضع كلمة “كويت”، على أحد جوانبه.
وعلى الرغم من أن بريطانيا، قد أهملت الكويت، بعد ذلك، لفترة طويلة، إلاّ أن محاولاتها مدّ نفوذها إلى الكويت، عادت من جديد، ابتداءً من عام 1839. حينما أرسلت مبعوثاً ليتباحث مع الشيخ جابر الأول، في خصوص إنشاء خط بريدي، عبْر الصحراء، يمتد من الكويت إلى البحر الأبيض المتوسط. إلاّ أن هذه المباحثات لم تسفر عن شي.
وفي مايو عام 1841في تاريخ الكويت، وقع الشيخ جابر الأول، نيابة عن والده، تعهداً بالاشتراك في معاهدة الصلح البحري، التي فرضتها بريطانيا على شيوخ الإمارات العربية، على الساحل العربي من الخليج (أُنظر وثيقة أصل معاهدة الصلح البحري بين الحكومة البريطانية وشيخ الكويت في الأول من ربيع الأول 1257 هـ).
وحتى ما قبل هذه الفترة، أي منذ عام 1775، يمكن القول إن أهم العوامل، التي حكمت العلاقات الكويتية ـ البريطانية، تمثلت في الآتي:
أ. الأهمية الإستراتيجية لمنطقة الخليج بصفة عامة، والكويت بصفة خاصة، بالنسبة إلى المصالح البريطانية، في ضوء اتساع الإمبراطورية البريطانية في الهند، من ناحية، وازدياد التنافس الأوروبي في الخليج، من ناحية أخرى.
ب. مبدأ تبادل المنفعة. فإذا كانت بريطانيا قد حققت العديد من المكاسب، التجارية والسياسية، من جراء علاقتها بالكويت، فإن شيوخ الكويت، استطاعوا أن يحققوا، كذلك، بعض المكاسب، من جراء علاقتهم ببريطانيا، وبخاصة في مجال النقل التجاري، فضلاً عن توظيف علاقتهم ببريطانيا، في بعض الأحيان، لموازنة علاقتهم ببعض الأطراف مثل الدولة العثمانية، وفرنسا، وألمانيا.
ج. حرص شيوخ الكويت على الحفاظ على استقلال إمارتهم. ولذلك، رفضوا، حتى عام 1896، محاولات بريطانيا إخضاع الكويت لنفوذها، من خلال سعيها إلى ربطها بمعاهدات الصلح البحري، عام 1820، أو الضغط على شيخ الكويت لرفع العلم البريطاني، والاعتراف بالسيادة البريطانية، عام 1829.
وباستثناء بعض التطورات البسيطة في تاريخ الكويت، فإن العلاقات بين بريطانيا والكويت، كانت في حدودها الدنيا، خلال الفترة من 1859 حتى 1896، وهي الفترة التي تعاقب فيها على حكم الكويت، كلٌّ من صباح الثاني، وعبدالله الثاني، ومحمد بن صباح الثاني. ولكن مع تولي الشيخ مبارك الحكم، عام 1896، دخلت تلك العلاقات طوراً جديداً .
2. ا لعلاقات الكويتية ـ البريطانية، خلال الفترة من 1896 إلى 1915
منذ عام 1869 في تاريخ الكويت ، بدأت مياه الخليج الكويتية تجذب إليها أنظار وزارة الخارجية البريطانية. ومع تولّي الشيخ مبارك إمارة الكويت، عام 1896، وطلبه عقد اتفاقية حماية مع بريطانيا، التي باتت تفكر، جدياً، في فتح صفحة جديدة من العلاقات الودية به. ومنذ ذلك الوقت، دخلت العلاقات بين الكويت وبريطانيا منحى جديداً، انتهى إلى توقيع معاهدة 23 يناير 1899، بين الجانبَين.
والواقع، أن الظروف السياسية الدولية، هي التي أملت على بريطانيا، أن توقع اتفاقية 23 يناير 1899، مع الشيخ مبارك، وما تلاها من اتفاقات. ففي العقد الأخير من القرن التاسع عشر، حصل تقارب كبير بين روسيا وفرنسا، من ناحية، وبين قيصر روسيا نيكولاي رومانوف Nicholas II (Nikolay Aleksandrovich) ، والسلطان عبدالحميد، من ناحية أخرى، إضافة إلى ألمانيا التي كانت تطمع في إنشاء خط سكة حديدية، يصل بين برلين وبغداد.
وبدا واضحاً أن بريطانيا، لكي تحتفظ بسيطرتها على الخليج العربي، لا بدّ أن تغلق موانيه في وجْه أساطيل الدول الغربية الثلاث (روسيا، فرنسا، ألمانيا). ولن يتحقق ذلك، إلاّ بعقد الاتفاقات مع بلدان الخليج العربي، حرصاً على مصلحة الإمبراطورية البريطانية، أولاً وقبل كل شيء.
وكانت بريطانيا قد عقدت عدة معاهدات مع كل من مسقط، والساحل المهادن، والبحرين، في وقت مبكر من القرن التاسع عشر. وكان هدفها، كما زعمت، إقامة سلام بحري في مياه الخليج، التي كان القراصنة يجوبونها، متعرضين ليس للسفن البريطانية فحسب، بل للسفن الهولندية، التي كانت ترفع العلم البريطاني نفسه. ولما كانت الكويت بعيدة عن احتراف القرصنة، فإنها لم توقع معاهدة 1820، وما تلاها من معاهدات، عقدتها بريطانيا مع الدويلات المذكورة آنفاً.
والواقع، أن السياسة البريطانية، كانت تهدف، من وراء عقد هذه الاتفاقات، إلى إنشاء قواعد لأسطولها، كي تستخدمها من أجل المحافظة على بقاء الطريق مفتوحاً إلى الهند. وكان لا بدّ من مبرر جديد، لتعقد بريطانيا اتفاقية مع شيخ الكويت.
وجاء ذلك المبرر في نهاية القرن التاسع عشر، حينما اتضح لبريطانيا، أن الدولة العثمانية تميل إلى بناء خط سكة حديدية جديد، ينفذه الألمان، وأنها أعطت الكونت كابنيستKapnist Count ، الروسي، في عام 1898، امتيازاً لإنشاء خط سكة حديدية.
واللافت للنظر أن كلاًّ من مشروع كابنيست، ثم المشروع الألماني، فيما بعد، قد أصرّ على ضرورة أن تكون الكويت، أو ميناء كاظمة في الكويت، نقطة نهاية الخط الحديدي، الذي كان سيربط إستانبول بالخليج العربي.
أملى الوضع السياسي العام، في المنطقة وأوروبا، خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرينمن تاريخ الكويت، على الشيخ مبارك سياسته. إذ إن الدولة العثمانية بدأت تلفظ أنفاسها في أواخر القرن التاسع عشر، ولولا اختلاف الدول الأوروبية، على التركة، لما بقيت الدولة العثمانية قائمة حتى ذلك الوقت.
ومن الدول الأوروبية المعنية بأوضاع الخليج وممتلكات الدولة العثمانية فيه، تبرز بريطانيا صاحبة الإمبراطورية في الهند، المرتبطة في سلسلة من المعاهدات، بالإمارات المتعددة، على الساحل الغربي من الخليج، والتي كانت، من دون ريب، مسيطرة على مياهه.
ثم كان هناك ألمانيا، الإمبراطورية الحديثة في أوروبا، ذلك أنها لم تتحد، إلاّ في 18 يناير 1871. وكان رجل ألمانيا الحديدي، بسماركOtto Von Bismarck ، يطمع في مستعمرات خاصة، في آسيا وأفريقيا، أو تأسيس احتكارات ألمانية في الدولة العثمانية.
وكانت روسيا، بدورها، ناشطة في محاولة الوصول إلى مياه الخليج الدافئة. أمّا فرنسا، فكانت حريصة على أن توقف بريطانيا عند حدّها، يوم تقسيم تركة الرجل المريض، التي يشتد فيها تنافس هذه الدول.
وكان أهم ما يهم البريطانيين، أن يبقى طريق الخليج مفتوحاً إلى الهند، وذلك من أجْل التجارة بين المنطقتين. وبعد افتتاح قناة السويس للملاحة البحرية، في 17 نوفمبر 1869، وفي ضوء المنافسة الفرنسية ـ البريطانية في المنطقة، عيَّن البرلمان البريطاني، عام 1871، لجنة للنظر في ربط البحر الأبيض المتوسط بالخليج العربي، وربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط.
وقد أوصت هذه اللجنة ببناء خط حديدي، يربط ميناء الإسكندرونةIskenderun ، على البحر الأبيض المتوسط، بالكويت، على الخليج العربي، مؤكدة الأهمية، التجارية والسياسية، لذلك المشروع، إذ يساعد الطريق الجديد على نقْل الجنود، بسرعة، إلى الخليج، إذا لزم الأمر، لمواجهة أي تحركات روسية، قد تأتي عبر إيران. إلاّ أن فوائد هذا المشروع الاقتصادية، لم تكن لتفي بنفقاته. ولذلك، لم يكتب له التنفيذ.
وإنما كتب التنفيذ لمشروع روسي، من طريق الكونت كابنيست، الذي منحته الحكومة العثمانية امتياز إنشاء خط للسكة الحديدية، يربط طرابلس الشام، على البحر الأبيض المتوسط، بالكويت، عبْر حمص وبغداد، مما يعني، في نظر البريطانيين، تحويل الشام وأقسام العراق وشرقي شبه الجزيرة العربية، إلى منطقة نفوذ روسية. وكذلك، مشروع ألماني لخط السكة الحديدية، بين برلين بغداد.
3. مشروع كابنيست الروسي
منذ عام 1880، أبدت روسيا اهتمامها بالخليج. ولذا، فتحت قنصلية لها في بغداد، عام 1881. وزاد من تفاقم الأمور أن مباركاً كان يستقبل القناصل الروس والفرنسيين، وأن الروس كانوا يعرضون عليه مزايا صداقتهم له، وكانوا يطلبون تصريحاً بإقامة مستودع للفحم في الكويت، مما يفصح عن مخططات روسية بحرية في الخليج.
وكان “لوخ”، القنصل البريطاني في بغداد، قد أشار، في تقريره إلى حكومة الهند في 2 ديسمبر 1897، إلى شائعات مفادها أن الروس يرسلون عملائهم إلى المنطقة وأنهم يسعون لإنشاء محطة للتزود بالفحم، وازدادت الشائعات مع أوائل عام 1898، كما أشيع أن هناك بعثة روسية وصلت بغداد، وأبرق المقيم السياسي مؤيداً نوعاً من التدخل البريطاني، ثم طلبت حكومة الهند من وزارة الخارجية إعادة النظر في سياسة عدم التدخل، لكن الخارجية لم ترد حينذاك.
وفي 30 ديسمبر 1898، عندما منحت الحكومة العثمانية الكونت كابنيست، امتياز إنشاء خط للسكة الحديدية، يربط طرابلس الشام مع الكويت. رأى اللورد روبرت سيسل Lord Robert Cecil، (ماركيز سالسبوري Marquess Of Salisbury)، رئيس وزراء ووزير خارجية بريطانيا، أن المشروع الروسي، لو قدر له أن ينفذ، فسيعني تحويل بلاد الشام، والعراق، وشبه الجزيرة العربية، إلى منطقة نفوذ روسية، مما يهدد بضياع سيادة بريطانيا البحرية في البحر الأبيض المتوسط.
وعلى ذلك، قرر اللورد روبرت سيسل أن يربط الكويت ببريطانيا، في معاهدة، على شاكلة معاهدة 1891، المعقودة مع مسقط. ولذلك، طلب من المقيم السياسي البريطاني في الخليج، المقدم مالكولم جون ميد Malcolm John Meade ما بين (1897- 1900)، أن يتوجه إلى الكويت، ليوقع مع شيخها اتفاقية 1899
4. مشروع خط سكة حديد برلين ـ بغداد(تاريخ الكويت)
كانت محاولات التدخل الألماني في المنطقة، هي الأشد خطراً والأكثر أهمية، في نظر بريطانيا، فحفلت تقارير ساستها بالتحذير منها. وكان لهذه المحاولات أثرها، وتُعد من أهم أسباب إقدام بريطانيا على توقيع اتفاقية 1899، مع الشيخ مبارك، لأن الألمان سيعاودون محاولات التدخل، فيما بعد، من خلال العثمانيين، في السنوات الأولى من القرن العشرين.
ويلاحظ أن التدخل الألماني جاء في عباءة الدولة العثمانية، وبذلك، فهو يُعَدّ جزءاً من الصراع البريطاني ـ العثماني حول الكويت، بغض النظر عن السياسة الألمانية، المستقلة المتعلقة باختراق الشرق. ويلاحظ كذلك، أن هذه المحاولات الألمانية، يمكن رصدها، من خلال تزايد النفوذ الألماني في عاصمة السلطان، واستعانة الدولة العثمانية ببعثة ألمانية لتدريب الجيش العثماني، وكان القيصر الألماني، وليم الثاني William II Friedrich Wilhelm Viktor Albert
قد دشن هذا التقارب، بزيارته السلطان العثماني عبدالحميد، مرتين، عامَي 1889 و1898 ـ وقيل أيضاً إنه زار دمشق والقدس ـ وقد أسفرت زيارته الثانية عن مشروع سكة حديد برلين ـ بغداد، الذي خُطط له أن يبدأ من خليج البوسفور Bosporus ، وينتهي عند ساحل الكويت، في خليج كاظمة (خليج الكويت)، بعد أن تم ربط برلين بإستانبول بخط مماثل.
وكانت بريطانيا تدرك تماماً أن وراء هذا التقارب الألماني ـ العثماني، تخطيطاً ألمانياً، يستهدف الحصول على احتكارات تجارية في الأراضي التابعة للدولة العثمانية، في آسيا الصغرى وسورية والعراق، واستطراداً، فتح أسواقها جميعاً أمام التجارة الألمانية.
ومن المُسلّم به، أن بريطانيا أدركت خطة الألمان، قبْل إرسالهم بعثة، من الخبراء والمسَّـاحين، إلى شيخ الكويت، وبإذن من السلطان. وكانت بريطانيا تدرك، كذلك، أن مصالحها تعترض النشاط الألماني، لأنها تسيطر على كل الطرق المؤدية إلى الشـرق، عدا الطريق الذي يمر بآسيا الصغـرى، عبْر البلدان العربية في الخليج، وأن الكويت، غير المرتبطة ببريطانيا، ستتيح نقطة اختراق للنفوذ الألماني في المنطقة.
وهكذا، أضيف عامل جديد، ومهم، إلى العوامل، التي دفعت بريطانيا إلى حسم تردّدها في شأن الاتفاق مع شيخ الكويت، وفرض نوع من الحماية على بلاده. واللافت أن كلا المشروعَين، الروسي والألماني، لمد خطوط السكك الحديدية إلى المنطقة، كان يتخذ من الكويت نهاية له.
وكان لدى بريطانيا نفسها مشروع مماثل، يقضي بإنشاء خط سكة حديدية، من بورسعيد إلى الكويت، عبْر صحراء نجْد، لم تكن قد اكتملت أبعاد دراسته بعد. وبات واضحاً أن السكوت على المشروعَين الروسي والألماني، لا يحبط التفكير فقط في المشروع البريطاني، وإنما يهدد، كذلك ما تدعيه لندن، من محاربة القرصنة والتصدي لتجارة الرقيق، في الخليج، وهو ما كان يتيح لحكومة الهند أن تتدخل في شؤون المنطقة، دوماً.
وكان لا بدّ من التفكير في اتخاذ ترتيبات جديدة مع شيخ الكويت، وتجاهل السيادة العثمانية الاسمية، والتركيز في فكرة أن الكويت مستقلة عن الدولة العثمانية، ومن ثَم، فلا بأس من الاتفاق مع شيخها.
وعلى ذلك، كان على الشيخ مبارك، أن يستفيد من تنازع تلك الدول في تركة الدولة العثمانية، من جهة، وأن يتصرف وفق مقتضيات العصر السياسية، من جهة أخرى، فيتجنب الاندفاع وراء الخاسر من المتنافسين، ويستفيد من ذلك الصراع الأوروبي حول ممتلكات الدولة العثمانية، فيبقي على استقلال الكويت، الذي ورثه عمّن سبقه من حكام الكويت من أُسرة الصباح خلال تاريخ الكويت
الحماية البريطانية على الكويت(تاريخ الكويت)
1. طلب الحماية البريطانية
بعد تولِّي الشيخ مبارك السلطة في الكويت، عام 1896، اتجه، من الفور، إلى الاتصال بالبريطانيين، من أجْل دعم قدراته في مواجَهة الأخطار الخارجية، التي يمكن أن تتعرض لها الكويت من الدولة العثمانية، سواء من إستانبول، أو من ولاتها، في البصرة وبغداد، أو مواجهة أطماع الدول الأوروبية.
وحملت الظروف بريطانيا على القبول بما كانت تتردد فيه من قبْل، نتيجة لأطماع الدول الغربية. وهناك، أسباب، كذلك، تتعلق بالشيخ مبارك وعلاقته بالدولة العثمانية.
فمن الأسباب، التي جعلت الشيخ مباركاً يتجه إلى عقد مثل هذه الاتفاقية، محاولات يوسف بن عبدالله آل إبراهيم، وأبناء أخوَي مبارك، الذين كانوا مصدر خوف وإزعاج له. وابن رشيد حاكم حائل، الذي صار قوة مهددة له في الجنوب، خاصة بعد أن أصبح أداة عثمانية قوية، على أثر تخلصه من السعوديين، عام 1889.
فضلاً عن التهديد، الذي يواجه إمارته، من الشمال، بنزاع دائم بينه وبين شيوخ المنطقة، وأتراك البصرة، إضافة إلى ضغوط الدولة العثمانية عليه. وفي عام 1896، عندما وصل موظفون عثمانيون إلى الكويت، للعمل في مركز الحجر الصحي، طلب مبارك مقابلة المقيم السياسي البريطاني في الخليج، وأبلغه برغبته في وضع الكويت تحت الحماية البريطانية، حتى لا تقع تحت السيطرة العثمانية.
إلاّ أن بريطانيا لم تبادر إلى تلبية طلبه، من الفور، إذ كان لا بدّ أن يُعلن استقلال الكويت عن الدولة العثمانية، حتى يتسنى لها إبرام معاهدة معها. وحين وصلت أنباء عن تعيين لجنة عثمانية، لبحث الشكاوى المقدمة ضد مبارك، وانتشرت شائعات بإرسال قوات عثمانية إلى الكويت، عاد مبارك وكرر طلب الحماية من بريطانيا، في نوفمبر 1897من تاريخ الكويت.
وعندها، كتب لوخ، القنصل البريطاني العام في بغداد، إلى حكومة الهند، في 22 ديسمبر 1897، موضحاً أن لديه معلومات عن حشود عثمانية في بغداد، يشاع أنها ستتوجه إلى الكويت، وأن احتلال العثمانيين للكويت وتثبيت نفوذهم فيها، سيصيبان المصالح البريطانية في شبه الجزيرة العربية، بأبلغ الضرر. فضلاً عن ذلك، فإن العثمانيين سيسيطرون سيطرة كاملة على مدخل شط العرب. ولذلك، قبِلت الحكومة البريطانية طلبه، هذه المرة.
كما أنه كان هناك أسباب أخرى، تتعلق ببريطانيا، وتتمثل في الأطماع والتنافس الدولي حول الكويت، من جانب روسيا وفرنسا وألمانيا، والتي لم يسبق لها مثيل، جعلت بريطانيا تقَبل توقيع اتفاقية 1899، بعد أن ترددت من قبْل، كما جعلت السلطات البريطانية في حالة استنفار كامل منذ أواخر 1897، الأمر الذي أدى إلى إصدار قرارها بتعيين اللورد جورج ناثانيل كيرزون George Nathaniel Curzon حاكماً للهند، ونائباً فيها عن الملكة عام 1898.
وكيرزون هذا مشهود له، منذ كان سفيراً لبلاده في طهران، بخبرته بالمنطقة، وبتشدده. وكان أول عمل إداري للورد كيرزون، عندما تولى منصبه الجديد، هو إصداره التعليمات إلى المقدم ميد، المقيم السياسي البريطاني في الخليج، لكي يعقد الاتفاقية مع الشيخ مبارك.
ويمكن إيجاز أسباب قبول بريطانيا توقيع هذه الاتفاقية مع الكويت، فيما يلي:
أ. المعلومات التي وصلت إلى بريطانيا في شأن تجميع قوات عثمانية في البصرة، وتجهيزها لغزو الكويت، وإقصاء مبارك عن السلطة. وقد توجست بريطانيا من وقوع الكويت تحت السيادة العثمانية، لأن ذلك يمكن أن يدفعها إلى التصرف فيها أو في أجزاء منها، في بعض الدول الأوروبية المنافسة، وهو أمر يضر بالمصالح البريطانية.
ب. تحريض السفارة الروسية في إستانبول ضد البريطانيين، فضلاً عن سعي روسيا إلى الحصول على موافقة الباب العالي لإنشاء خط حديدي، يمتد إلى الكويت، وتقدمها بطلب إلى السلطات العثمانية، لإنشاء محطة للفحم في الكويت. وهو ما يمكن أن يضر بالمصالح الإستراتيجية البريطانية في الإمارة، لأنه سوف يقرر لروسيا امتيازات فيها، بعد تنفيذه.
ج. سعي ألمانيا، التي تغلغلت في أملاك الدولة العثمانية، تغلغلاً سلمياً، إلى إنشاء خط حديدي، يربط بين برلين وبغداد. وكان من المفترض أن ينتهي هذا الخط عند خليج كاظمة (خليج الكويت)، الواقعة ضمن أملاك الكويت. وقد منحت السلطات العثمانية ألمانيا امتياز إنشاء هذا الخط. مما أقلق البريطانيين، في وقت بدأت تبرز فيه أهمية الكويت بالنسبة إلى مصالحهم الاقتصادية والإستراتيجية، في المنطقة.
2. اتفاقية 23 يناير 1899 (تاريخ الكويت)
أ. الترتيبات لعقد الاتفاقية
بالنسبة للترتيبات التي عقدت بها الاتفاقية، فتعطينا الوثائق تفصيلاً لها، ويمكن أن نستدل على مغزاها من تطور الأحداث. فقد انتهى تردد وزارة الخارجية البريطانية، وعندما استفسرت من سفيرها في إستانبول، نيكولاس رودريك أوكونور O’conor، عن رأيه في اتخاذ هذه الخطوة، كتب إليها، في 2 ديسمبر 1898، مؤكداً أن حكومة الهند، ينبغي أن تبرر فرض الحماية، بانتشار عمليات القرصنة وتجارة الرقيق.
ومن خلال ذلك، يمكن عقد اتفاق مباشر مع الشيخ مبارك، على أن يظل سرّاً. وبعد فترة من الزمن، يستبدل به اتفاق آخر، أكثر فاعلية وتأثيراً، يشمل المسائل كافة.
وبناءً على ذلك، أرسلت وزارة الخارجية البريطانية، إلى حكومة الهند، في 5 ديسمبر 1898، رسالة، تقول فيها: “إن حكومة الهند، إذا كانت ترى أن تتحمل تبعات إعلان الحماية على الكويت، من دون مشقة، ومن دون تبعات جديدة، على الحكومة البريطانية، فإن اللورد روبرت سيسل، رئيس الوزراء ووزير الخارجية، يوافق على اتخاذ هذه الخطوة، بل يؤيدها، إذا ما أثار الباب العالي موقفاً مضاداً.
وسارع هاملتون Hamilton ، وزير الهند في حكومة لندن، إلى حكومته، في 24 ديسمبر 1898، إلى إبداء موافقته على عقد الاتفاقية، وأن تتولى حكومة الهند مسؤولية ذلك، ومتابعة الإشراف على الشيخ، مع إفادتنا بحقيقة الأوضاع الراهنة في الكويت، وبما تقترحه لجعل الاتفاقية فاعلة. مع ملاحظة أنه لن يترتب على إعلان الحماية صعوبات، تتعلق بحكومة لندن، أو أي زيادة في عمليات الحراسة في الخليج.
وفي 4 يناير 1899، أبرقت وزارة الخارجية البريطانية إلى حكومة الهند، لكي تتخذ إجراءاتها، بأن تطلب من الشيخ مبارك تعهداً بألاّ يتنازل أو يؤجر أو يرهن أو يبيع أي جزء، من المناطق التي يحكمها، إلى أي دولة، أو أحد رعاياها، من دون أخذ موافقة الحكومة البريطانية مسبقاً.
وعلى ذلك، أبرق كيرزون، حاكم الهند، في 8 يناير، إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج، الكولونيل ميد، لكي يعقد الاتفاق المذكور مع مبارك. وأخيراً، في يناير، أبرقت حكومة لندن إلى حكومة الهند، تعلمها بأن يكون اتفاق الكويت على الأُسس عينها، التي عقد عليها اتفاق مسقط.
ولم يكن كيرزون يؤمن بحماية لا تقوم على أُسس قوية، خاصة أن الدولة العثمانية، يمكنها أن تتجاهل هذا الاتفاق وتتجاوزه، ومن ثَم طلب حاكم الهند أن يقوم الاتفاق على إعلان الحماية الرسمية.
وهكذا، اختارت السلطات البريطانية حلاً، ليس هو بالحماية الصريحة والعلنية، التي قد تسبب لها أزمة، إذا ما أعلنتها، فجاء في شكل اتفاق سري، يتعهد فيه شيخ الكويت بما سبق أن تعهد به شيوخ الخليج، الذين ارتبطوا باتفاقات مع بريطانيا، في الاتفاقات المانعة الشهيرة، وهو أقرب إلى التعهد (بالامتناع عن)، منه إلى الاتفاق الذي يعقد بين طرفَين، يحدد كلُّ منهما التزاماته تجاه الآخر، بموجب النصوص الموقعة.
ومن الملاحظ أن مباركاً، قبْل توقيعه الاتفاق، الذي حمله إليه الكولونيل ميد، كان مدركاً أنه سيسبب له متاعب مع الدولة العثمانية، لأنه يقطع الخيط الواهي، الذي يربطه بها.
ومن ثَم، طلب من ميد، أن تعطيه بريطانيا إعلاناً مكتوباً حول نياتها (وعداً محدداً بالحماية)، وتقديم المساعدة، خاصة فيما يتعلق بممتلكات أُسرته في العراق، وأن يكون ذلك منصوصاً عليه في الاتفاقية.
لكن المقيم جاء ومعه نص محدد، كان على الشيخ مبارك أن يوقعه، وعلق المقيم بأن الاتفاق شبيه بالاتفاقات المبرمة مع الشيوخ الآخرين. ثم قدَّم المقيم إلى شيخ الكويت خطاباً عاماً، يعّبر عن حُسن نيات الحكومة البريطانية تجاهه، وتجاه ورثتِه وخلفائه، واشترطت مراعاتهم شروط الاتفاق.
ب. نص الاتفاقية
تنص الاتفاقية على تعهّد شيخ الكويت بأمرين:
· أولهما، ألاّ يستقبل وكيلاً، أو ممثلاً لأي دولة، أو حكومة، في الكويت، أو أي مكان من أراضيه، من دون موافقة مسبقة من الحكومة البريطانية.
· وثانيهما، ألاّ يتنازل أو يبيع أو يؤجر أو يرهن أو يعطي، للتملك، أو لأي غرض آخر، أي جزء من أراضيه إلى حكومة، أو رعايا أي دولة أخرى، من دون موافقة مسبقة من الحكومة البريطانية. ويلتزم بذلك ورثته وخلفاؤه.
وقّع الجانبان الاتفاقية، في 23 يناير 1899 من تاريخ الكويت. وحصل مبارك على خطاب من المقيم السياسي البريطاني في الخليج، الكولونيل ميد، يتعلق بحُسن نيات دولته تجاه الكويت. كما تعهد فيه بمنح الشيخ 15 ألف روبية، من المصروفات السرية لخزانة “بوشهر”. كما نصّ على أن تظل الاتفاقية سرية تماماً، ما لم تغّير بريطانيا رأيها.
عزمت الحكومة البريطانية على فرض الحماية على الكويت، وصدّ أي هجوم عثماني عليها. وكان أول ما واجهته، هو وجود السفينة العثمانية، “زحاف” أمام سواحل الكويت، حينما وصلتها السفينة البريطانية، التي تحمل المقيم السياسي البريطاني في الخليج، الكولونيل ميد ومرافقيه، مما منع مباركاً من التوجه للقائه، تحاشياً لزيارة السفينة العثمانية.
فكان أمراً طبيعياً، أن ترتاب السلطات العثمانية في مسلك مبارك تجاه البريطانيين، إذ أدركت أن ثمة شيئاً يدبر بينهما. وتحسباً لأي ردّ فعل عثماني، أرسل كيرزون إلى لندن يطلب السماح له بمنع أي عمل عسكري، قد يعمد إليه العثمانيون، ضد الكويت، فسمح له، وخُوِّل حق استخدام قِطع الأسطول البريطاني في مياه الخليج، للتصدي لأي هجوم عثماني، وبُلِّغَتْ البحرية البريطانية ذلك، كما أُعلِمت بنص الاتفاق مع مبارك.
وفي ضوء ما سبق، فمن الطبيعي ألاّ توصف هذه الاتفاقية بأنها “معاهدة حماية”، من الناحية القانونية، التي تتضمن امتيازات وشروطاً متبادلة. فهي لا تتضمن نصاً صريحاً، أو غير صريح، بالحماية، وإنما هي قيد، صِيغ، بذكاء، في شكل تعهد، ارتضاه الشيخ مبارك، ووقعه، وألزم نفسه، بمقتضاه، من جانب واحد، بمطالب بريطانيا، التي نجحت في تقييد سيادته على أرضه، ومنعه من استقبال الأجانب أو التعاقد معهم، في الحال وفي المستقبل، في مقابل خطاب بحُسن النيات وبضعة آلاف من الجنيهات.
هكذا، فرضت بريطانيا على الشيخ نوعاً من الحماية، وإن كان بغير نص صريح وواضح، صوناً لمصالحها. ولم تصرح بها، خشية المتاعب، التي قد تنجم عنها مع الدولة العثمانية، أو غيرها من القوى المتنافسة. فمنحت نفسها، عملياً وقانونياً، ما كان لإستانبول، من الناحية الاسمية والنظرية، في الكويت. وتغير المركز، الفعلي والقانوني، للكويت، من حالة تبعية شكلية لدولة الخلافة، إلى تبعية فعلية وعملية لبريطانيا.
لذلك، فقد كان طبيعياً، أن تشهد المرحلة التالية للاتفاقية علوّ مركز بريطانيا في الكويت، وانفرادها بها، وزوال السيادة العثمانية تماماً، على الرغم من أن السنوات القليلة، التي أعقبت الاتفاقية، قد شهدت، كرد فعل لانكشاف الاتفاقية صراعاً أخيراً بين بريطانيا والدولة العثمانية خلال تاريخ الكويت الموثق.
الصراع العثماني ـ البريطاني حول الكويت
خلال تاريخ الكويت الموثق والملئ بالاحداث أدركت الدولة العثمانية، أن ثمة علاقة جديدة، بين قائمقامها في الكويت وبريطانيا؛ وفي هذا ما فيه من تجاهل لعلاقته بالباب العالي. لذلك، شهدت السنوات التالية، التي أعقبت توقيع الاتفاقية، وبالتحديد منذ عام 1899 وحتى عام 1903، صراعاً جديداً، حادّاً بين مبارك، مؤيَّداً من بريطانيا، من جهة، والدولة العثمانية، من جهة أخرى.
وقد استعانت الدولة العثمانية، خلال هذا الصراع، بقوَّتين، إحداهما أوروبية، وهي ألمانيا، من خلال مشروع سكة حديد برلين ـ بغداد، والأخرى إقليمية، وهي قوة آل رشيد، في حائل وشبه الجزيرة العربية. كما شهدت الفترة عينها رضوخ الدولة العثمانية، في النهاية، لمقتضيات الوضع الجديد
بعد أن حاولت تقطيع حدود الشيخ ودولته واختصارها، بما يعني استبعاد ما تبقى من الكويت خارج حدود سيادتها، لتفجر بذلك مشكلة حدود، بين الكويت وولاية البصرة، امتدت آثارها حتى اليوم. وتميزت الفترة من 1903 حتى 1913، بتزايد النفوذ البريطاني وانفراده بالكويت، بعد انتهاء المشكلة السابقة أو سكونها. لذلك، لا بدّ من تقسيم الفترة، التي أعقبت الاتفاقية إلى مرحلتين، لكل منهما طبيعة مختلفة.
1. المرحلة الأولى: الصراع العثماني ـ البريطاني على الكويت (1899 ـ 1902) تاريخ الكويت
كان أهم خصائص هذه المرحلة، هو وضع الاتفاقية الكويتية ـ البريطانية موضع التنفيذ والتطبيق، بعد انكشاف أمرها، ثم رد الفعل العثماني تجاهها. وقد بدأت الدولة العثمانية تستعد للأوضاع الجديدة، بتعيين حمدي باشا والياً على البصرة؛ وهو معروف بعدائه للشيخ مبارك، واحتضانه لقضية أبناء أخوَي الشيخ.
وكان ذلك مؤشراً على بداية الصراع، عسكرياً. وكان مبارك، اعتماداً على وضعه الجديد، الذي وفرته له الاتفاقية مع بريطانيا، قد أنشأ، في مايو 1899، نظاماً جمركياً في بلاده. وبدأ موظفوه بموجبه، يحصلون ضريبة، قدرها 5% على جميع الواردات، بما فيها القادمة من موانئ الدولة العثمانية.
وعندما علمت الدولة العثمانية بذلك، حسبت أن مباركاً يعمل ذلك لحسابها، لكونه قائمقاماً عثمانياً. فأرسلت إليه، في 2 سبتمبر، مندوباً جمركياً، في صحبة خمسة جنود، ليتسلم حصيلة الضرائب، ثم يتولى المهمة بدلاً من موظفي مبارك.
فرفض الشيخ استقبال المندوب ومرافقيه، مما اضطرهم إلى العودة للبصرة. وعندما عرفت الحكومة البريطانية بذلك، أصدرت تعليمات إلى سفيرها في إستانبول، لكي يحتج، لدى الباب العالي، ويعلمه بما سيؤدي إليه هذا الأمر من توتر، إذا أصرّت الدولة العثمانية على إقامة دائرة جمركية في الكويت، من دون اتفاق مسبق مع الحكومة البريطانية. فتراجعت الدولة العثمانية عن المسألة. وكأن شيئاً لم يحدث.
شعرت الدولة العثمانية، في يونيه 1899، أن بريطانيا تتغاضى عن تزايد نشاط الكويت في تجارة الأسلحة، واستمرار تدفق الأسلحة إلى الكويت. بل أحست السلطات العثمانية أن البريطانيين يسهلون هذه التجارة، وقد يوزعون الأسلحة على رجال القبائل، مما يعني استخدامها ضد الدولة العثمانية.
لذلك، أعرب والي البصرة حمدي باشا عن قلقه، للقنصل البريطاني، راتسلو Wratislaw، واقترح أن يبادر السفير البريطاني في إستانبول إلى إيضاح هذه الأمور للسلطان، ولم يمضِ وقت طويل، حتى بعث السلطان العثماني برسالة إلى السفير البريطاني في الآستانة، جاء فيها: “إن بلاده تقدر أهمية الخليج، بالنسبة إلى المصالح البريطانية، وكذلك حِرص بريطانيا على إبعاد أي نفوذ أوروبي عن هذه المنطقة الحساسة، لما لها من أهمية، لتجارة الهند. وأن الحكومة العثمانية، لن تمنح أي دولة، غير بريطانيا، امتيازات تجارية في الخليج. وفي الوقت عينه، لن تتنازل عن سيادتها على البصرة أو الكويت أو البحرين أو القطيف.
وهكذا، تدعم موقف مبارك، في أول أزمة، جرت بينه وبين الدولة العثمانية، في أعقاب الاتفاقية، فضلاً عن تسلحه، واستفادته من تجارة السلاح. وزاد موقفه قوة، نجاحه، بالتعاون مع نقيب أشراف البصرة، في بغداد، في إبعاد واليها، حمدي باشا، إذ استبدلت به الدولة محسن باشا، في خريف 1899من تاريخ الكويت م، الذي حاول معالجة أزمات علاقة الدولة العثمانية بمبارك. ولم يكتفِ مبارك بما أحرزه من تقدُّم في موضوع الجمارك، وتراجع الدولة العثمانية، فراح يستعد، في ديسمبر 1899، مطمئناً إلى تسليح جيشه، بفعل الدعم البريطاني، ليهاجم نجْداً.
أمّا الدولة العثمانية، حين رأت تشدُّد بريطانيا، دفاعاً عن مصالح الشيخ، ومصالحها، فقررت أن تستعين بألمانيا، على مقاومة المصالح البريطانية، من خلال دفعها مشروع سكة حديد برلين ـ بغداد، لكي يصل، ومعه الألمان، إلى سواحل الكويت. ففي يناير1900، وصلت بعثة ألمانية إلى الكويت، يترأسها استمرخ Stemrich، للتفاوض مع الشيخ مبارك في شأن الخط الحديدي. وفي الحال، أبرقت حكومة الهند إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج، لكي يتصل بمبارك، ويمنعه من عقد أي اتفاق مع البعثة الألمانية، أياً كان نوعه، وفاءً بالاتفاقية.
وتعهد مبارك تنفيذ الرغبة البريطانية، على الرغم من أن البعثة الألمانية أطلعته على حصولها على موافقة من السلطان، في شأن امتياز إنشاء الخط، وضمان تنفيذه في أراضيه. بل إنها أغرته، عند موافقته، على جعل خليج كاظمة (خليج الكويت) نهاية للخط الحديدي، بدعم ألمانيا له ولخلفائه من بعده، براً وبحراً، وسترسل بارجة حربية ألمانية، لحماية الكويت وتاريخ الكويت
معنى هذا، أن ثمة تنسيقاً ألمانياً مع السلطان العثماني، عرضت، بموجبه، حماية ألمانية على شيخ الكويت، الأمر الذي وضع بريطانيا في مأزق، لن تخرج منه إلا بإشهار اتفاقيتها السرية مع الشيخ.
وبالفعل، أرسل، اللورد روبرت سيسل، رئيس الوزراء ووزير الخارجية البريطاني، في 20 مارس 1900 برسالة إلى أوكونور، سفير بلاده في إستانبول، يوجهه فيها إلى لفت نظر السلطات العثمانية، وكذلك السفير الألماني في العاصمة العثمانية، إلى أن لبريطانيا ارتباطات خاصة مع شيخ الكويت، وهي لا تريد إخلالاً بـ “الوضع الراهن”، في أي حال من الأحوال، وأنها لن تسكت على منح أي قوة أجنبية حقوقاً في أرض تابعة لشيخ الكويت، إذ إن لها اتفاقات معينة معه، تمنعه من التنازل عن أي منطقة من أراضيه، لأي دولة أجنبية أخرى، إلاّ بموافقة بريطانيا.
وهكذا، كشفت بريطانيا عن الاتفاقية، ولم يكن قد مضى عليها أكثر من 14 شهراً. واحتجت الدولة العثمانية على تجاوز الشيخ صلاحياته، لأنه لا يزال، في نظرها، قائمقاماً عثمانياً، لا يحق له الدخول في مفاوضات أو عقد اتفاقات دولية. ومن ثَم، ارتأت الدولة العثمانية تأديبه، ووضع خطة لعزله، وإبعاده عن الكويت.
ذلك على الرغم من أن بريطانيا قد أوضحت للدولة العثمانية أن ارتباطها بشيخ الكويت، ليس أكثر من ارتباط ودي، وأنها لا تنوي احتلال الكويت، وأنها لن تقف مكتوفة اليدين تجاه أي محاولة للتدخل في الشؤون الكويتية.
وقد ترتب على كشف السلطات البريطانية حقيقة الاتفاقية، التي تربطها بالشيخ، أن مباركاً، لم يرَ بدّاً من التصرف علناً. وفى ضوئها، وإزاء اطمئنانه إلى أن بريطانيا، ستبذل مساعيها، السياسية والعسكرية، للدفاع عنه، فرض ضرائب باهظة على الواردات العثمانية إلى الكويت، وحظر تموين السفن العثمانية في ميناء الكويت، بل وأخضعها للتفتيش، كالسفن الأجنبية، خشية تهريب أسلحة إلى الكويت، كما رفض استقبال أي موظفين عثمانيين.
وكانت التقارير البريطانية، منذ أواخر ديسمبر 1900، قد تناقلت أنباء استعدادات لمهاجمة ابن رشيد في حائل ونجْد. وكان ثمة أطماع متبادلة، بين الجارَين العربيَّين القويَّين، فرأت السلطات البريطانية، أن اتفاقيتها مع مبارك، لا بدّ أن تكبح جماحه، حتى لا يأتي الصراع في الجزيرة بالعثمانيين إلى المنطقة.
وذلك يشير إلى أن بريطانيا، لم تستخدم الاتفاقية لحماية الكويت من التدخل الأجنبي فيها فقط، وإنما استخدمتها لإقرار وضع الشيخ، وكبح أطماعه، في آن واحد. فإذا ما اندلع الصراع، فإن ذلك سيجلب بالدولة العثمانية إلى المنطقة، وستكون الحكومة البريطانية في وضع حرج، إما أن تتصدى للعثمانيين، أو تضحي بالمركز المتميز، الذي حصلت عليه باتفاقية 23 يناير 1899 ضمن تاريخ الكويت.
وفيما يتعلق بخلفية الصراع بين مبارك وعبدالعزيز آل رشيد، فقد جاء نتيجة للصراع الأصلي، الدائر في شبه الجزيرة العربية بين آل رشيد، في جبل شمر، أمراء نجْد الجدد، وآل سعود، الذين سقطت دولتهم، ولجأ قادتُهم إلى الكويت، ولا سيما نزول عبدالرحمن بن فيصل، ومعه ابنه، عبدالعزيز، ضيفَين على مبارك.
وفي المقابل، استضاف عبدالعزيز آل رشيد، يوسف بن عبدالله آل إبراهيم، وأبناء محمد وجراح، أعداء مبارك، وتبنّى قضيتهم. وكان بعض المراقبين يعتقدون، أن مباركاً كان يهدف، من محاربته آل رشيد، إلى تنصيب نفسه أميراً على شبه الجزيرة العربية، أو بناء دولة كبرى فيها، نظراً إلى طموحه ومقدرته العسكرية.
معنى هذا أن مباركاً، كانت له سياسة مستقلة، تتجه نحو تصفية الحساب، وتحقيق بعض التوسع إن أمكن، بعد أن ساعدته الاتفاقية، على التسلّح جيداً، فرأى الفرصة سانحة لطموحه.
واللافت للنظر أن الدولة العثمانية، راحت تستفيد من هذا التصادم الوشيك، وتحرض عبدالعزيز آل رشيد، وتعاونه بالمال والسلاح، وتدرب جيشه، آملة أن تتخلص من القائمقام المنشق، خاصة بعد فشل مشروعاتها السابقة للتدخل المباشر في شؤون الكويت
من خلال فرض الموظفين العثمانيين، أو بإتاحة الفرصة للألمان لاختراق الكويت، من خلال مشروع سكة حديد برلين ـ بغداد، فرأت معاونة آل رشيد، وإغراء أميرهم عبدالعزيز بن متعب بحكم الكويت، إذا ما تخلص من مبارك. وهو اتجاه عثماني، أملاه الصراع مع بريطانيا حول الكويت، خصوصاً بعد انكشاف الاتفاقية.
واقتصر موقف بريطانيا من هذه القضية، في البداية، على نصح الشيخ مبارك ألاّ يعطي فرصة للعثمانيين للتدخل. كما أنذرت عبدالعزيز آل رشيد أنها لن تسكت على هجومه على الكويت. ثم عزمت على إرسال المقدم تشارلز أرنولد كمبُل Charles Arnold Kemball، المقيم السياسي البريطاني في الخليج ( 1900 ـ 1904)، إلى الشيخ مبارك لتحذيره من مغبة التورط في الحرب مع آل رشيد. إلاّ أن مباركاً كان مصرّاً على هجومه، غير عابئ بالنصائح البريطانية.
وقد بدأ الصراع الكويتي ـ النجدي، في أغسطس 1900 من تاريخ الكويت، بالمناوشات الحدودية، وتحريض القبائل، وانتهى بهزيمة جيش مبارك هزيمة قاسية، بمساعدة عسكرية عثمانية، بقيادة فيظي باشا، عند منطقة الصريف، شمالي شرقي بريدة، في القصيم، في 17 مارس 1901، بعد أن نجح في غزو نجْد والاندفاع نحو فتح منطقة جبل شمر.
وواصل عبدالعزيز آل رشيد، بعد موقعة الصريف، سيره، لمحاصرة الكويت. لكن سلطات المقيم السياسي البريطاني، هرعت إلى إرسال طراد حربي، ظل يرابط في مياه الكويت، بل أنزل كميات من المدافع إلى البر، وأخذ القائد البريطاني يطلق أسهماً نارية في الفضاء، ذُعر لرؤيتها قوات ابن رشيد، فتراجعت. بينما أجرت الحكومة البريطانية اتصالاً، مع الباب العالي، لإبلاغه أنها غير راغبة في استئناف الحرب بين الطرفين.
فاستجاب السلطان، ومن ثَم انسحب عبدالعزيز آل رشيد محروماً من جني ثمار انتصاره، مما جعله يتجه نحو بريطانيا، فيما بعد، يأساً من العثمانيين، ويطلب حمايتها، آملاً أن تتركه يبتلع الكويت، وليكون رجُلها الأول في المنطقة. لكن البريطانيين، لم يضحوا بصداقة مبارك.
ورأت حكومة الهند البريطانية، ووافقتها وزارة الخارجية، أنه لا داعي لتحمل المتاعب والإحراج، اللذين سينجمان عن إعلان أراضي شيوخ الكويت ونجْد، كمحميات بريطانية. واكتفى البريطانيون بضمان عدم تعدي مبارك على إمارة نجْد، ثانية.
أمّا الدولة العثمانية، فكان لها مع شيخ الكويت شأن آخر، فلم تتوانَ عن محاولة الاستفادة من الوضع الناشئ عن هزيمته. فأرسلت، في أبريل 1901، القائد العام للقوات العثمانية في العراق، إلى البصرة، على رأس قوة عثمانية.
وكان متوقَّعاً أن تتجه القوة إلى الكويت للتخلّص من مبارك. وفي الوقت نفسه، وصلت بارجة حربية عثمانية إلى سواحل الكويت.
فطلبت الخارجية البريطانية من سفيرها في إستانبول، لفت نظر الحكومة العثمانية إلى خطر هذا المسلك، وإلى احتمال تدخّل بريطانيا لمساعدة مبارك، تنفيذاً لتعاهدهما. وتدخل الأسطول البريطاني، وعمل على منع إنزال الجنود العثمانيين إلى البر.
فبادر محسن باشا، والي البصرة، في مايو 1901 إلى إقناع مبارك بالامتثال لأوامر الباب العالي، لكون الكويت سنجقية عثمانية، وإبقاء حامية عسكرية فيها، وقبول بعض الموظفين العثمانيين، على رأسهم موظف قضائي، وإقامة دار للعوائد الجمركية، ومكتب للبرق.
ولكن فشلت مهمة محسن باشا في إقناع مبارك بذلك كله، وإن كان قد نجح في إقناعه بمرافقته إلى الفاو، حيث لم يرَ بأساً من أن يبرق إلى السلطان، مجدداً ولاءه له.
أمّا بريطانيا، فقد خوّلت سفيرها في إستانبول، في 10 أغسطس 1901، بأن يصرح، عندما تسمح الفرصة، بأنه في حالة تهديد الكويت، فإن الحكومة البريطانية، سوف تستخدم القوة لمنع أي هجوم عليها. وعلى الرغم من استبعاد الحكومة العثمانية فكرة استخدام القوة
فإن وزير خارجيتها، بادر إلى إبلاغ السفير البريطاني، أن الكويت جزء لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية، وأن إنذار قائد السفينة البريطانية، وتحذيره قائد السفينة العثمانية من إنزال أي قوات، قد سبب للحكومة العثمانية استفزازاً كبيراً، وأنها تحتج على ذلك، رسمياً.
وإزاء الضغوط البريطانية، قبِلت السلطات العثمانية تسوية المسألة، على أساس الأمر الواقع، وأنها لن تُقدم على إرسال قوات إلى الكويت، وأنها سوف تحافظ على “الوضع الراهن (Status Quo) هناك، شريطة عدم احتلال بريطانيا الكويت، أو فرض الحماية عليها.
لم يكن ما حدث في صيف وخريف 1901في تاريخ الكويت، سوى تسوية مؤقتة، أو هو إقرار بـ “الوضع الراهن” في الكويت. ولم تلبث الأزمة أن تفجرت من جديد، في أول ديسمبر 1901، عندما أبرقت إستانبول إلى رجب باشا، نقيب أشراف البصرة، بزيارة الكويت، وفي صحبته الأميرالاي نجيب بك، شقيق والي البصرة، على متن السفينة العثمانية، زحاف.
وطلب المندوبان من مبارك، أن يبتعد عن البريطانيين، وأن يوافق على إبقاء حامية عسكرية تركية صغيرة، كرمز للوجود العثماني، على أن تأتمر بأوامره، ولا تتدخل في شؤون الكويت، وذلك لكسب مرضاة السلطان، الذي سيصدر فرماناً، بأن يظل مبارك في حكم الكويت، من دون أن يتعرض لأي خطر، أو بمعنى آخر قبول الحماية العثمانية، وخُيِّر بين قبول ذلك أو مغادرة الكويت إلى إستانبول، ليُعيَّن عضواً في مجلس شورى الدولة، أو يقيم بأحد الأقطار العثمانية، ويصرف له راتب شهري مُجْزٍ، وإن لم يقبَل هذا أو ذاك، فإن الدولة سوف تخرجه، بالقوة، من الكويت.
وقد رد مبارك على هذه البعثة رداً سلبياً، مهذباً. وفي اللحظة عينها، كان يستنجد تشارلز أرنولد كمبُل، المقيم السياسي البريطاني في الخليج، ويطلب منه أن تسارع بريطانيا إلى إعلان حمايتها. فرد كمبُل، في اليوم التالي باستعداد حكومته لتأييده، وعدم السماح للعثمانيين بشن هجوم على الكويت.
وكانت التعليمات البريطانية، قد صدرت بالفعل، إلى قائدَي السفينة، بومن Pomone، والطراد، ردبريست Redbreast، بأن يمنعا السفينة العثمانية، زحاف، بالقوة، من إنزال أي جنود، أو أفراد مسلحين، كحرس شرف. وفُرضت رقابة، وحراسة ليلية، على زحاف، للتأكد من عدم إنزالها جنوداً. ورد الشيخ على المبعوثين العثمانيين، بأن السلطات البريطانية، تمنعه، بالقوة، من إبداء رأيه.
احتجت بريطانيا، لدى السلطان، وعَدّت ما حدث خرقاً للإبقاء على “الوضع الراهن”، المتفق عليه بين الحكومتَين في شأن الكويت. وأعلنت أنها ستؤيد الشيخ، ولن تسمح بأي هجوم من جانب القوات أو السفن العثمانية على بلاده.
وأن على الشيخ عدم مغادرة الكويت، والاستمرار في الوفاء باتفاقاته مع بريطانيا، وطلبت إلى الباب العالي، أن يوجِّه تعليماته إلى نقيب أشراف البصرة، بالامتناع عن ممارسة أي ضغوط على مبارك. وقد ردت الحكومة العثمانية بإنكار أي علم لها ببعثة النقيب. وأعلن وزير الخارجية العثماني أن حكومته ليس لديها أي نية لنشوء مشاكل في الكويت.
وهكذا بلغ الضعف والتراجع بالدولة العثمانية حدّاً مهيناً، لتؤكد أن صِلتها بالكويت ليست أكثر من صلة شكلية، لا جدوى منها، ولا فاعلية لها على الإطلاق. وفي المقابل، تزايدت هيمنة بريطانيا على الكويت، من الناحية العملية، من خلال ممارستها الفعلية للحماية.
لجأت الدولة العثمانية، بعد ذلك، إلى أسلوب التضييق والتحريض، ضد مبارك، مرة أخرى، بعد فشل محاولة التدخل، العسكري والسياسي، المباشر، بفضل التشدّد البريطاني. فعمدت، إلى تحريض ابن رشيد على مهاجمة الكويت، وأجرت اتصالات معه في أواخر ديسمبر 1901، من طريق والي البصرة ـ كان عبدالعزيز آل رشيد مقيماً، مع جزء من قواته، بالبصرة ـ بهدف شن هجوم مشترك.
وزودت ألمانيا ابن رشيد السلاح والمال، وحظرت تصدير أي إمدادات إلى الكويت من البصرة. وصدرت الأوامر إلى البحرية البريطانية، من الفور، بأن توجِّه سفنها، للدفاع عن الكويت، بالقوة، إذا لزم الأمر، وأن تتعاون مع المدينة على الدفاع عن نفسها، وتزودها المؤن، وعلى الرغم من قلة عدد قوات الإنزال البريطانية، إلاّ أنها أجبرت ابن رشيد على أن يرجع إلى بلاده.
ورأت السلطات البريطانية، أن حظر والي البصرة تزويد الكويت المؤن، يُعَد خرقاً للتعهد بالمحافظة على “الوضع الراهن”، من قِبل الدولة العثمانية، لذا، وجهت إليها إنذاراً. فأعلنت الحكومة العثمانية، أن والي البصرة، تصرف من تلقاء نفسه، من دون تعليمات، وأن الباب العالي، قد أمره بإلغاء قراره.
وأرادت سلطات البصرة الاقتصاص من مبارك، فأمرت الجنود المقيمين باستحكامات الفاو، بتحطيم سدود المياه، التي تروي ممتلكات الشيخ هناك.
كما حرضت أبناء أخوَي الشيخ مبارك، في العراق، على رفع قضايا أمام المحاكم العثمانية، تتعلق بأملاك الأُسرة. ونجح هؤلاء في انتزاع أجزاء من أراضي الشيخ، سبب له شيئاً من العجز المادي. كما تكررت حوادث الإغارة على مواشي الرعايا الكويتيين على الحدود، قرب صفوان.
بل ألقت السلطات العثمانية، في 18 مايو 1902من تاريخ الكويت، القبض على وكيل أملاك الشيخ مبارك في البصرة، وفتشت بيته، وأخذت منه ما يلقي الضوء على علاقة مبارك بالبريطانيين، كما استولت على حجج ممتلكاته في العراق العثماني، الموجودة في البصرة، والمنتشرة في: “كرديلان”، وجزيرة “العجيراوية”، و”كوت الزين”، و”الصوفية”، و”الدواسر”، و”الفاو”. وإن كانت وساطة الدبلوماسية البريطانية، قد نجحت في إعادتها له.
ولم تنتهِ محاولات ابن رشيد، التي كان آخرها في ديسمبر 1902، لكي يستولي، بتحريض من الدولة العثمانية، على الكويت. إلاّ أنها كانت كلها محاولات يائسة، عاجزة؛ إذ كانت سفينة بريطانية واحدة، أو حتى بضعة مدافع، قادرة على إحباطها.
2. المرحلة الثانية: تزايد النفوذ البريطاني في الكويت، وردود فعل الدولة العثمانية (1902 ـ 1913)
كان اللورد كيرزون يعتقد، عام 1901، أن زيارة واحدة لنائب الملك في الهند، في بزته العسكرية، ترافقه حماية بحرية قوية، هي أمر من شأنه أن يُظهر انطباعاً بالمصالح والنفوذ البريطانيين، وخطة تفوق في عظمتها أي خطة مقترحة أخرى، قاصداً بذلك تأكيد الهيبة والنفوذ، وإثبات القوة.
ولكن حكومة لندن لم توافق على ذلك، فتأجلت فكرة الزيارة. وعندما تحدث اللورد لانسدون (Lansdowne)، وزير الخارجية البريطاني، في مجلس العموم البريطاني، في 5 مايو 1903، ذكر أن بريطانيا، لن تسمح بإنشاء أي قاعدة بحرية لأي قوة أجنبية في الخليج. فانتهز كيرزون هذه الفرصة، وطلب فرض الحماية على الكويت، علناً، لكن مجلس الوزراء البريطاني، لم يقر ذلك، بسبب مشاكل بريطانيا في أفريقيا، من جهة، ولأن سفيرها في إستانبول.
أرسل يقول إن إعلان الحماية على الكويت، سيستعدي الباب العالي، من دون شك، وقد يدفع ألمانيا لتسهم في الخلاف. فاختنقت فكرة الحماية، بادئ أمرها.
سخر كيرزون من موقف الحكومة البريطانية، ورأى أنها فرضت الحماية على الكويت سلفاً، وأنها طبقت أُسس هذه الحماية، فعلاً، من الناحية العملية. وإلاّ، فماذا تبقى لفرض الحماية بعد أن يرسل الأتراك قواتهم، وترد هذه القوات على أعقابها!
كما هاجمت الصحف البريطانية موقف الحكومة من المسألة الكويتية، فاضطر وزير الخارجية البريطاني، لانسدون، أن يعلن، في مجلس العموم، أن شيخ الكويت في كنف الحماية البريطانية، ترتبط معه بريطانيا بمعاهدات واتفاقات خاصة. وُيعَدّ هذا التصريح أول تصريح رسمي بريطاني، في شأن الحماية على الكويت. وهكذا، صُرِّح بإعلان الحماية
كما أراد كيرزون. وتقررت زيارته إلى الخليج بالشكل الذي اقترحه، عام 1901. وكانت تلك الزيارة التاريخية، وما سبقها من التصريح بالحماية، بداية عهد جديد للعلاقة الكويتية ـ البريطانية، تميز بفرض الحماية التامة، وبتقييد الكويت باتفاقات أخرى، تُحكِم السيطرة البريطانية عليها.
وجاءت زيارة كيرزون إلى الكويت في نوفمبر 1903ضمن تاريخ الكويت المعروض لكم، والحفاوة التي قوبل بها من جانب الشيخ ورجاله، لتدعم النفوذ البريطاني في الكويت، أو لتدشنه على نحو غير مسبوق. وخلال الزيارة منح كيرزون مباركاً لقب “سير”، وقلده وشاح نجمة الهند.
فتوشح به الشيخ، من الفور، مفصحاً عن سعادته بأنه أصبح “ضابطاً في الإمبراطورية البريطانية”، وأعلن مبارك، خلال لقائه كيرزون، أنه قطع كل اتصال له مع العثمانيين. وذكر اللورد أن الشيخ صادق في ما يقول، لأنه مدين للمساندة البريطانية، التي لولاها لما احتفظ بمشيخته. وحذره من مغبة المغامرات في وسط شبه الجزيرة العربية
لأن ذلك يخرج عن حدود الحماية، التي وعدت بها الحكومة البريطانية. وبعد الزيارة، قررت الحكومة البريطانية الاستفادة من الفرصة المتاحة، كي تعمل على تحسين الاتصالات البريدية مع الكويت، ومدِّ الخدمة الطبية إليها، ورفع درجة التمثيل البريطاني فيها.
فقد كانت بريطانيا تعتمد في تمثيلها السياسي، داخل الكويت، حتى عام 1904، على صحفي من أهل البلاد، حسب رواية لوريمر، فضلاً عن أنها كانت تكتفي، منذ اتفاقية 1899، بأن يأتي المقيم، أو أحد مساعديه، إلى الكويت، من وقت إلى آخر لتفقّد شؤونها، ولقاء شيخها، خاصة وقت الأزمات.
وغالباً ما كان يرافق المقيم، أو المساعد، بعض قادة البحرية البريطانية، لما لهذا الأمر من مغزى. ولكن الوضع تغير، بعد عام 1903، وأصبح على بريطانيا، نتيجة عوامل كثيرة، أن تعيد النظر في مسألة تمثيلها السياسي في الكويت ضمن تاريخ الكويت
وكان كيرزون، وحكومة الهند، يلحان في تعيين ضابط سياسي بريطاني في الكويت، للمحافظة على ما تتمتع به بريطانيا من امتيازات فيها، فضلاً عن أن التمثيل السياسي، سوف يعطيها وسائل للحصول، تدريجياً، على معلومات أكثر دقة، في خصوص الأوضاع الحقيقية للشؤون الداخلية لشبه الجزيرة العربية، من جهة، ومراقبة التحركات العثمانية قرب الكويت، من جهة ثانية، وتقوية حقها في الإشراف على الامتداد الأخير لسكة حديد بغداد، من جهة ثالثة.
وعلى الرغم من هذه المبررات، التي ساقتها حكومة الهند، فقد كانت الخارجية البريطانية، تدرس الموضوع بتردد، مبعثه أن هذا الإجراء، لا ينسجم مع التأكيدات، التي أُعطيت للسلطات العثمانية، في شأن احترام “الوضع الراهن” في الكويت. ذلك الوضع الغامض، الذي اُنتُهك غير مرة من الجانبَين، كان آخرها تصريح لانسدون نفسه، في مجلس العموم، بأن الكويت تقع تحت الحماية البريطانية.
ثم اتخذت الحكومة البريطانية قرارها، مستعدة لما يترتب عليه من نتائج، بإرسال النقيب ستيوارت جورج نوكس Stuart George Knox ما بين (1904 ـ 1909)، ليكون أول وكيل سياسي بريطاني في الكويت، في 6 أغسطس 1904(أُنظر جدول الوكلاء السياسيين البريطانيين في الكويت في الفترة من 1904 إلى 1961)، على أن يحاول ألاّ يسترعي وجوده انتباه السلطات العثمانية.
وقد احتجت الحكومة العثمانية على هذا الإجراء، وطلبت، هي الأخرى، تعيين وكيل سياسي لها في الكويت. غير أن مباركاً تجاهل هذا الطلب، فَعَدّت الحكومة العثمانية ذلك خرقاً لاتفاق احترام “الوضع الراهن”، في شأن الكويت. فاضطرت الحكومة البريطانية إلى سحب النقيب نوكس، مؤقتاً، وبكيفية لا تنمّ على أي معنى من معاني التنازل أو الخضوع لإرادة إستانبول، وعلى أساس أنه سيعود، بعد فترة.
ويبدو أن الحكومة البريطانية، كانت تستهدف من هذا التراجع المؤقت، الوصول إلى نتائج مفيدة مع الدولة العثمانية، إذ صادف في ذلك الوقت إجراء مفاوضات بين الدولتَين، تتعلق بتخطيط الحدود بين اليمن وعدن. وواضح أن نوكس حينما عاد لمنصبه، مرة أخرى، لم تكترث الدولة العثمانية لهذا الأمر.
وإمعاناً في إحكام بريطانيا سيطرتها، وبسط نفوذها على الكويت، لم تكتفِ بتكبيل شيخ الكويت بالاتفاقات المعقودة من قبْل (اتفاقية 1899)، بل عقدت معه اتفاقات أخرى.
ففي 15 أكتوبر 1907، أباحت بريطانيا لنفسها ما حرمته على الشيخ، وهو تأجير قطعة من أرض الكويت، (أُنظر الوثيقة عقد تأجير بندر الشويخ بين الشيخ مبارك الصباح والحكومة البريطانية في 15 أكتوبر 1907)، و(الوثيقة قبول الحكومة البريطانية تأجير بندر الشويخ من الشيخ مبارك الصباح في 15 أكتوبر 1907)في تاريخ الكويت، في اتفاق سري، لتنشئ عليها محطة لتزويد أسطولها الفحم، مع إنشاء ما يقتضيه الحال من مبانٍ ومنشآت.
وتقع هذه المنطقة في رقعة مهمة، غرب بندر الشويخ. وكان الهدف السياسي من ذلك، هو إيجاد مرسى لسفن الأسطول الحربي البريطاني، يمكّن مدفعيته أن تقصف منه منطقة كاظمة، إذا ما هوجمت من قِبل الدولة العثمانية. وكان مبارك متردداً، في البداية، ولكن الرائد برسي زخاريه كوكس Percy Zachariah Cox، المقيم السياسي البريطاني في الخليج.
استطاع إقناعه بأن لندن ستضمن الكويت وحدودها للشيخ، ولورثته من بعده، وبأنها ستدفع إليه إيجاراً سنوياً سخياً (60 ألف روبية). وبالفعل، نص الاتفاق على ذلك. وفيه أقرّ مبارك بأنه لا هو، ولا أبناؤه، ولا ورثته، سيبيعون أو يؤجرون أرضاً من بلادهم لدولة أجنبية، ولو للدولة العثمانية، إلاّ بترخيص مسبق من بريطانيا. وفي هذا النص تأكيد وتجديد للنص عينه، الذي تضمن ذلك المعنى، في اتفاقية 23 يناير 1899.
وفي أغسطس 1910في تاريخ الكويت، وافق الشيخ مبارك كذلك، على اتفاقية بألاّ يُسمح للأجانب بالغوص في مياه الكويت، لصيد الإسفنج واللؤلؤ، قبْل استشارة الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، وموافقة حكومة الهند. وفي شهر يوليه 1912، وافق الشيخ مبارك على إنشاء خط للتلغراف اللاسلكي، في الكويت، في رسائل تبادلها مع المقدم برسي كوكس، المقيم السياسي البريطاني في الخليج.
وفي 29 يوليه 1913، وُقّعت الاتفاقية البريطانية ـ العثمانية، على أن يتبادل التصديق عليها في لندن، في غضون ثلاثة أشهر من توقيعها، على أقصى تقدير.
ولكنها لم تصدق في الفترة المحددة، فأعيدت المفاوضات، ووُقّعت اتفاقات إضافية أخرى، منها اتفاقية، منح الشيخ مبارك الإنجليز، بموجبها، امتياز التنقيب عن النفط واستخراجه في الكويت، في 27 أكتوبر 1913. ومن الواضح أن الهدف من كل هذه الاتفاقات، هو إقصاء أي دولة أجنبية عن التعامل المباشر مع شيخ الكويت.
والواقع، أنه لم يكن هناك ردود فعل حقيقية من قِبل الدولة العثمانية، تجاه تطور العلاقات البريطانية ـ الكويتية. ويمكن تفسير ذلك بما شهدته الدولة نفسها من اضطرابات داخلية، أسفرت عن ثورة “تركيا الفتاة”، عام 1908، ثم خلع السلطان عبدالحميد، بعد ذلك، وتولِّي جماعة “تركيا الفتاة” السلطة.
إضافة إلى أن مباركاً نفسه، ظل على ولاء ظاهري للدولة العثمانية، إذ لم يترك أي فرصة إلاّ وكان ينتهزها، لتأكيد هذا الولاء، بدءاً بتوسطه لحل النزاع بينها وبين ابن سعود، عامَي 1904، 1905، ومروراً بمساهمته المالية في بناء ثكنات عثمانية جديدة في البصرة، وإيوائه الجنود والضباط الأتراك الهاربين من نجْد، وتسهيل وصولهم إلى البصرة، من دون السماح بتجمعهم في الكويت، ثم تبرعه لبناء سكة حديد الحجاز، عام 1906في تاريخ الكويت، حتى إن السلطان منحه، لذلك، وساماً، وانتهاء بتبرعه لمواجهة آثار حريق ضخم، شب في إستانبول، عام 1911، وتبرعه للدولة العثمانية، كذلك، أثناء اشتراكها في حرب طرابلس الغرب (1911 ـ 1912) والحروب البلقانية (1912 ـ 1913).
حمل مباركاً على التبرع والمعونة تعاطفه مع دولة الخلافة الإسلامية، وليس من منطلق التبعية الحقيقية. وكانت الدولة، في المقابل، تمنحه الأوسمة والنياشين. أما هو فكان يصرّ على استخدام لقب “حاكم الكويت وشيخ قبائلها”، بدلاً من لقب “قائمقام”، الذي خاطبته به مكاتبات ولاة البصرة.
الاتفاق البريطاني ـ العثماني، عام 1913
خلال عرضنا لكم تاريخ الكويت الجدير بالزكر انه انتهى أمر الكويت إلى بريطانيا، وحدها. وفي المقابل، تقلصت علاقة الكويت الاسمية بالدولة العثمانية، برموزها التقليدية، إلى أدنى من المجاملة لدولة الخلافة. وكانت الأزمة الوحيدة، المتبقية، والمعلقة بين الكويت والدولة العثمانية، هي أزمة الحدود، التي احتلت فيها الدولة العثمانية “صفوان”، و”أم قصر”، و”بوبيان”، حيث احتفظت بقوة عسكرية رمزية. وحتى هذه، استطاعت بريطانيا حسمها، في ما يشبه الصفقة مع الدولة العثمانية.
ومنذ أواخر القرن التاسع عشرفي تاريخ الكويت، وحتى أوائل القرن العشرين، أدت عدة عوامل إلى ضعف الدولة العثمانية، التي انتهت قيادتها إلى جماعة “تركيا الفتاة”، وكان طبيعياً، أن يفكر رجال “تركيا الفتاة” تفكيراً علمياً، في تسوية مشاكل الدولة في الخليج، في مقابل بعض الفوائد الواقعية، فضلاً عن تأييد بريطانيا لها في مشاكلها.
وبالفعل، بدأ الأتراك، في فبراير 1911، يلوحون بالرغبة في المساومة، وبالاستعداد لعقد صفقة، عندما حاول السفير البريطاني في إستانبول، جيرارد لوثر (Lowther)، جسّ نبض الصدر الأعظم، حقي باشا، حينما أبان له أن حكومته، لديها استعداد لدراسة أي مقترحات، تتقدّم بها الحكومة العثمانية. فلمح حقي، بذكاء، إلى خط سكة حديد بغداد.
وذكر أن بلاده لا تستطيع التفاوض، الآن، ريثما تتفق مع الألمان على إلغاء حقها في امتياز الخط الحديدي، في الجزء الذي سيمتد إلى الخليج، وأن الألمان سيطلبون تعويضاً مالياً، وأن الكويت ستكون نهاية للخط. كذلك، قدم حقي باشا، إلى لوثر مقالة، نشرتها جريدة “طنين” العثمانية، تعّبر عن رأي لجنة “تركيا الفتاة” الحاكمة، في المسألة. وكانت المقالة تتضمن أن إستانبول، ستوافق على الاستقلال الذاتي للشيخ مبارك، أسوة بأي شيخ قبيلة في العراق.
وأنه لا بدّ من إرسال شرطة عثمانية، وإنشاء دار للعوائد، وإرسال حامية عسكرية، حتى تستعيد الدولة نفوذها في الكويت، المفقود منذ عام 1902. وأضاف الصدر الأعظم أن الشيخ مباركاً، يحمل رتبة الباشوية العثمانية.
وهكذا، مُهدت السبُل للتفاوض، بين الدولة العثمانية وبريطانيا، إيذاناً بالمفاوضات، التي استمرت أكثر من عامَين (فبراير 1911 ـ يوليه 1913) والتي تمخضت بالاتفاق الشهير في الخليج، بين الدولتَين، الذي تناول المصالح كافة، المتبادلة بينهما في المنطقة.
وقد تحددت مطالب بريطانيا، في رسالة من وزارة الهند إلى الخارجية البريطانية، في 3 مارس 1911من تاريخ الكويت، وتمثلت في الآتي:
1. تأمين سيطرة الحكومة البريطانية على الجزء المتعلق بسكة حديد بغداد ـ الكويت.
2. ضمان أن تكون الكويت هي المحطة الأخيرة لمشروع سكة حديد بغداد.
3. ضمان السيطرة التامة على مياه الكويت وسواحلها وموانئها.
4. عقد اتفاق مرضٍ، بين الشيخ والحكومة العثمانية، يتعلق بتنظيم إدارة الجمارك وتقسيمها، ورسوم المرور.
5. سحب القوات العثمانية، ورموز السلطة (من المنطقة الحدودية المتنازع فيها).
6. تأكيد استمرارية الاتفاقات البريطانية ـ الكويتية.
وفي مقابل ذلك، ستقنع الشيخ بقبول السيادة العثمانية على بلاده، على أساس الاستقلال الذاتي الكامل للكويت (Complete Autonomy)، بما يحفظ سلطته الداخلية، تحت السيادة العثمانية. على أن تتضمن التسوية، كذلك، حل النزاعات كافة، المتعلقة بالممتلكات، وتأكيد استمرارية الاتفاقات البريطانية.
وبدأ الجدل والمساومة، خلال المفاوضات بين الجانبَين. البريطانيون يدللون على عدم تبعية الكويت للدولة العثمانية، مستندين إلى تقارير مقيمهم في المنطقة، ومن ثَم، عدم اعترافهم بتلك التبعية. كما راحت مذكراتهم تتحدث عن إقرار العثمانيين “بالوضع الراهن” في الكويت عام 1901، وتعهدهم باحترامه.
وطلبت اعتراف الدولة العثمانية بفاعلية الاتفاقات التي عقدتها بريطانيا مع الشيخ مبارك، واعترافها بأن جزيرتَي “وربة” و”بوبيان”، تدخلان ضمن ممتلكاته، وتسحب حاميتها منهما، فوراً.
بينما احتج العثمانيون، من خلال مذكرة توفيق باشا، السفير العثماني في لندن، في 15 أبريل 1912، على عدم اعتراف البريطانيين بتبعية الكويت لهم، وأن الدولة العثمانية لا تعترف بذلك “الوضع الراهن”، الذي أوجدته الاتفاقية البريطانية السرية مع مبارك، عام 1899. وأصرت المذكرة على إثبات تبعية أُسرة الصباح للدولة العثمانية، وحملهم ألقابها، وخدمتهم في صفوف جيشها، ورفعهم علَمها، وطلبهم براءات عثمانية.
وأنه لا يمكن أن تُعَدّ الكويت سوى ولاية عثمانية، وأن إدارتها معهودة إلى مبارك، المعين بفرمان شاهاني، وأنه ليس ثمة حاجة إلى الاحتفاظ بقوات في الإمارة، نظراً إلى وجود معسكرات عثمانية، على بعد 150 ميلاً من الكويت.
وقد اقترح توفيق باشا، في مذكرته، في 15 أبريل 1912، أن تكون التسوية على الأسس التالية:
· يبقى النفوذ العثماني على بوبيان والجزر المجاورة لها، شمال الكويت.
· يستمر تمتّع بريطانيا بالميزات، الاقتصادية والسياسية، في الكويت (بما يعني تسليمها باتفاقيتها مع الشيخ).
· تعترف بريطانيا بتبعية الكويت للدولة العثمانية، وخضوعها لولاية البصرة وتطبيق القوانين العثمانية فيها.
وطال الجدل واستخدام الأدلة التاريخية. وتكررت مطالب البريطانيين في شأن انسحاب الأتراك من جزيرتَي “وربة” و”بوبيان” لكونهما داخلتَين في حدود الكويت. وتكرر رفض العثمانيون لهذه المطالب. ورأى البريطانيون امتناع العثمانيون عن التدخل في الشؤون، الداخلية والخارجية، للكويت.
بينما رأى العثمانيون ألاّ يتدخلوا في الشؤون الداخلية فقط، وأن من حقهم التصديق على ما يعقده الشيخ من اتفاقات.
والواقع، أن بريطانيا قد رضخت، جزئياً، لبعض المطالب العثمانية، في مقابل صفقة عامة، يكون موضوع الكويت طرفاً فيها. وبدأت تمهد لقبول الشيخ مبارك الترتيبات الجديدة. وبالفعل، التقى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، وليم هنري شكسبير، William Henry Shaksepear ما بين (1909 ـ 1914) ، في 28 مايو 1913من تاريخ الكويت، الشيخ مباركاً، لكي يقنعه بهذه الترتيبات. وخلال اللقاء، رفض الشيخ مسألة قبول وكيل عثماني، وطلب إلى “شكسبير” أن يبرق إلى حكومته برفضه هذا الأمر تماماً.
وأضاف أن وجود الوكيل، سيدمر ما وضعت من أجْله الاتفاقية، إذ سيتدخل في كل الأمور. كما أن وجوده سيضعف من سلطة الشيخ على رعاياه. وسيصبح دار الوكيل العثماني بؤرة للتآمر، في الداخل والخارج، مما سيورط بريطانيا.
وعلّق شكسبير على ذلك، في رسالة إلى حكومته، بأن الشيخ قد أدرك، أن بريطانيا ضحت بمصالحه في صفقتها مع العثمانيين، وأنه رفض الموافقة على قبول وكيل عثماني، لأن العثمانيين، الآن، ضعاف ومهزومون. وطلب إلى حكومته “أن تتجنب تقديم تنازلات، قدر الإمكان، لأن ذلك سيعكر صفو علاقتنا بالشيخ، خاصة أن هذه المفاوضات قد جرت، من دون إعطائه فكرة عنها. كما أن مشروع مسوّدتها، في الواقع، لا يعطي حاكم الكويت، أو شعبه، شيئاً، فضلاً عن أن أرضهم، لم يطأها وكيل عثماني مقيم، من قبْل، وهو ما سيتحقق بنص الاتفاق، حتى ليبدو الأمر وكأنه تسليم الكويت للعثمانيين، وبيد البريطانيين أنفسهم”. ويضيف شكسبير، أن بلاده تفاوضت في شأن الكويت، من دون رأي الشيخ، بل من دون إبلاغه سير المفاوضات وأسلوبها. ثم تقدَّم إليه نتيجتها، كأمر واقع. لذلك، “فإنني أتوقع إثارة الخيبة العميقة والاشمئزاز من عملنا هذا. فمهما كانت التبريرات، فإنها لن تزيل الانطباع بأننا استخدمنا الكويت كورقة رهان، أو قطعة شطرنج (As a pawn)، للحصول على امتيازات أخرى لأنفسنا.
ولكن مباركاً، حسب رواية شكسبير، خفّف، في اليوم التالي، 29 مايو 1913، من حدّة لهجته، وأعلن أنه لن يستمر في الرفض، إذا قبلت الحكومة البريطانية ذلك. ثم أشار إلى أن اتفاقية عام 1899، قد وضعت لمنع ما يحدث الآن. وأضاف أن اتفاقية تأجير “الشويخ”، عام 1907، قد نُص فيها على إبعاد العثمانيين، تحديداً، عن الكويت.
وفي يوم 6 يوليه 1913من تاريخ الكويت ، أرسل الشيخ مبارك إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج، برسي كوكس، يبدي موافقته وقبوله لحجج الحكومة البريطانية وتفسيراتها، ويعلن ثقته بها.
وقد رد كوكس على رسالة الشيخ مبارك، بأنه فيما يتعلق باستقباله وكيلاً عن أي دولة أجنبية، كما ورد في اتفاقية يناير 1899، فإن بلاده حين منعت الشيخ من ذلك، اشترطت عليه مراجعة الحكومة البريطانية وموافقتها. وها هي، الآن، توافق على أن يستقبل وكيلاً عثمانياً، إذ كان من الضروري قبول ذلك، مقابل اعتراف الحكومة العثمانية باستقلاله الإداري. ومن ثَم، رأى المقيم البريطاني، أن حكومته، لم تخالف نصوص اتفاقية 1899.
وبطبيعة الحال، فإن بريطانيا، على الرغم من احتجاجات الشيخ مبارك، تحركت وفقاً لما تمليه مصالحها وظروفها. وهكذا، وُقّع الاتفاق البريطاني ـ العثماني، في 29 يوليه 1913، على نحو، أجحف بحقوق الشيخ وادعاءاته، على حدّ سواء، بل منحت بريطانيا نفسَها الحق بأن تتفاوض في كل شؤون الكويت، وفي تجاهل تام للمصالح الكويتية (أُنظر الوثيقة نص القسم الأول من مسودة اتفاقية 29 يوليه 1913 بين الإمبراطورية العثمانية والحكومة البريطانية) و(خريطة الكويت في 29 يوليه 1913).
هكذا عَدّت الاتفاقية الكويت قضاءً عثمانياً مستقلاً استقلالاً ذاتياً، يمارس فيه الشيخ إدارة مستقلة، ولكن في ظل السيادة العثمانية. وتحددت علاقة الكويت بالدولة العثمانية تحديداً أوضح، حين نُص فيها على تعهد الدولة العثمانية بألاّ تجند رعايا الكويت النازلين في العراق، ولا تأخذ من صياديها رسوماً. كما لا ترسل إليها حاميات عسكرية، ولا تبادر إلى أي عمل عسكري، مهما كان نوعه، من دون تفاهم مسبق مع بريطانيا، كما لا تتدخل في تولّي السلطة في الكويت، وتكتفي بإصدار فرمان التولية بمن يخلف الشيخ، كما تمتنع عن احتلال أي جزء من الكويت.
أمّا ما حصلت عليه الدولة العثمانية، في المقابل، فضلاً عن سيادتها، والاعتراف بها، ورفع علمها، لو أراد الشيخ، وكون الكويت قضاء من أقضيتها، فقد تمثل في الاعتراف لها بحق إرسال وكيل عثماني، يقيم بالكويت “بقصد حماية ورعاية مصالح ورعايا مختلف مقاطعات الدولة”.
كما حصلت على “صفوان” و”أم قصر” اللتين خرجتا من حدود الكويت، وهي الحدود التي رُسمت داخل خط أحمر، في شكل شبه دائرة، تتوسطها مدينة الكويت، وتمتد إلى خور الزبير في أقصى الشمال، والقرين في أقصى الجنوب. وتضم جزر “وربة” و”بوبيان” و”فيلكا” و”قاروه” و”المقطع” و”أم المرادم” مع الجزر الأخرى، الواقعة داخل نطاق هذا الخط، والمياه التي تحتويها المنطقة بين حدَّيها الشمالي والجنوبي.
(أُنظر خريطة تاريخ الكويت في 29 يوليه 1913) (المنطقة A ، هي المنطقة، التي يمارس فيها شيخ الكويت الاستقلال الذاتي، وتتبعها جزر وربة وبوبيان، ومسكان، وفيلكا، وأم المرادم، وعوهه، وكُبر، وقاروه، مع بعض الجزر الأخرى، والمياه الإقليمية الملاصقة لها. والمنطقة B ، وتدخل فيها المناطق، التي تعيش فيها القبائل على اعتبارها تابعة لشيخ الكويت.
ولا تباشر حكومة الإمبراطورية العثمانية، في هذه المنطقة، أي عمل إداري، بدون علم شيخ الكويت. “صورة عن وزاررة الخارجية البريطانية”)، و(خريطة الكويت في 29 يوليه 1913 “إنجليزية”). (دائرة نفوذ الشيخ مبارك الفعلية طبقاً لما استقر عليه الوضع في الاتفاقية البريطانية ـ العثمانية يوليه 1913).
أمّا ما أقرّته الدولة العثمانية للشيخ مبارك، فهو أنها تركت له، ولأُسرته، شؤون الحكم ووراثته. كما تركت له شؤون الإدارة الداخلية جميعاً. واعترفت بغالبية الاتفاقات المعقودة بين الكويت وبريطانيا، في أعوام 1899، 1900، 1904من تاريخ الكويت
أمّا بريطانيا، فإلى جانب اعتراف الدولة العثمانية باتفاقياتها مع الشيخ، لم تمنعها نصوص الاتفاق الجديد من شيء، ولم تحرم عليها شيئاً، بل إنها تعهدت فقط بألاّ تغير علاقتها بالكويت.
وعلى هذا، فقد كانت الكويت، هي الجانب الخاسر في هذه الصفقة. بل أدرك الشيخ مبارك، أن استقلاله الذاتي، وحريته في إدارة شؤون بلده، سيكونان وهماً في ظل وجود وكيل عثماني دائم في الكويت، كما خرجت “أم قصر” و”صفوان” من تحت حكمه.
وجهات النظر المتباينة حول اتفاقية 1913.
1. وجهة النظر العراقية
يرى الجانب العراقي، أن الاتفاقية قد نصت على “بقاء الكويت قضاءً تابعاً لولاية البصرة”. كما أن بريطانيا استهدفت، من النص على حدود أراضي القضاء، في مشروع الاتفاق، تعريف منطقة نفوذها بصورة غير مباشرة، وما في ذلك من تحديد لمدى تدخّل السلطات العثمانية فيها.
2. وجهة النظر الكويتية
ويرى الجانب الكويتي، أن مظهر التبعية الوحيد في الاتفاقية، هو رفع العلَم. ومع ذلك، فقد تميز العلم الكويتي عن العلَم العثماني بوضع كلمة “كويت”. ويدللون على رأيهم أن الكويت لم تكن جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، حيث أن الحكومة العثمانية، لا تملك أي تصرف، إداري أو عسكري، أو نفوذ ما داخل الكويت.
3. وجهة النظر المحايدة
الواقع، أن أغلب بنود هذه الاتفاقية، ينبغي أن تقاس بالأوضاع التي كانت قائمة قبَيل إبرامها:
أ. راعت الاتفاقية أوضاعاً سابقة، كان قد ارتضاها الكويتيون. وهي الأوضاع الناجمة عن الاعتراف بالتبعية الدينية لدولة الخلافة، مع بعض التغييرات.
ب. نعتت المادة الأولى منها الكويت، بأنها قضاء مستقل، يمارس فيه الشيخ إدارة مستقلة، ولكن في ظل السيادة العثمانية، ولم تشر إلى تبعيتها لولاية البصرة. وتحددت علاقة الكويت بالدولة العثمانية تحديداً أوضح، إذ نصت على تعهد إستانبول بألاّ تجند رعايا الكويت النازلين في العراق، ولا تأخذ من صياديها رسوماً، كما لا ترسل إليها حاميات عسكرية، ولا تبادر إلى أي عمل عسكري، مهما كان نوعه، من دون تفاهم مسبق مع بريطانيا، كما لا تتدخل في تولِّي السلطة في الكويت، بل تكتفي بإصدار فرمان التولية.
ج. استمرت الكويت في رفع العلَم العثماني، وهو ما كانت تفعله من قبْل، ولكن بإضافة كلمة “كويت”. واللافت أن علَم “الهلال والنجوم”، استمر رمزاً إسلامياً، حتى بعد سقوط الدولة العثمانية، إذ إن دولة مستقلة، مثل مصر، استمرت ترفعه، بعد تغيير لونه.
د. خلا الفرمان، الذي صدر بتعيين شيخ الكويت من أي جديد، إلاّ من وجود وكيل عثماني في الكويت، وهو ما أغضب الشيخ مباركاً، على أساس أن وجود هذا الوكيل، سوف يفتح الباب للمؤامرات، غير أنه أمكن تحجيم هذا الوجود بأمرين. أولهما، إبعاد أي موظفين عثمانيين عن الكويت. وثانيهما، تحديد صلاحيات هذا الوكيل في صلب الاتفاق.
هـ. تضمنت المادة الثالثة من الاتفاقية، اعتراف الحكومة العثمانية “بشرعية الاتفاقات التي عقدها شيخ الكويت مع الحكومة البريطانية”. وهو، في الوقت عينه، اعتراف باستقلال الكويت، لأن منح الكويت حق الاتفاق مع دولة أخرى، ثم الاعتراف بشرعية ” Validity” هذا الاتفاق، لهما دلالة قانونية مهمة جداً.
ويجيء الاعتراف بخط حدود للكويت، في ما تضمنته المادة السابقة، على جانب كبير من الأهمية، المنبثقة من حقيقة أن خط الحدود، لا يوجد إلاّ بين كيانَين سياسيَّين مستقلَّين، وهي حقيقة لم تكن سلطات حكومة إستانبول جاهلة بها.
و. أقرت الاتفاقية، في مادتها التاسعة، بضمان سلامة الممتلكات الكويتية في البصرة. وهو مكسب كان الحكام الكويتيون يطمعون في تحقيقه، خاصة أنه حرم الجانب العثماني من ورقة طالما كان يضغط بها على الأُسرة الكويتية الحاكمة.
ز. استفاد الجانب الكويتي بحسابات المكسب والخسارة، من غير مادة من مواد هذه الاتفاقية. ولعل ذلك ما يدفع الجانب العراقي، في إصداراته الرسمية، إلى التمسك بنعت هذه الاتفاقية بأنها مجرد “مشروع اتفاقية”. ويمكن توضيح النقطة الأخيرة، من خلال الآتي:
(1) نصت الاتفاقية على أنه سيجري تبادل التصديق عليها، في لندن حالما يتسنى ذلك، في غضون ثلاثة أشهر من توقيعها، على أقصى تقدير.
(2) صرح حقي باشا، في اليوم عينه، الذي وقِّعت فيه المعاهدة بأن التصديق عليها مرهون بتنفيذ بعض التحفظات التي تتمسك بها بريطانيا، مثل موافقة الحكومة البريطانية على بعض الإصلاحات الضريبية، وعلى توقيع الدولة العثمانية اتفاقية سكة حديد بغداد.
وقد صيغت تلك التحفظات، في مذكرة السير إدوارد جري، وزير الخارجية البريطانية. وهذه التحفظات جعلت موافقة الحكومة البريطانية على هذه الاتفاقية معلقة على هذه الإصلاحات. ولم يحدث، فيما بعد، أن سُحب أي تحفظ من تلك التحفظات. كما لم يسحب تصريح حقي باشا.
وإذ لم يتصدَّق على الاتفاقية، في فترة الأشهر الثلاثة المحددة، فقد أعيدت المفاوضات، ووُقعت اتفاقات إضافية أخرى، مددت فترة التصديق، وحدد يوم 31 أكتوبر 1914، آخر موعد لها. غير أنه بحلول ذلك التاريخ، كانت الدولتان على مسافة قريبة جداً من الحرب، وأصبح عدم التصديق على تلك الاتفاقية حقيقة واقعة.
ح. أصبحت الدولة العثمانية، طبقاً لما تنص عليه المادة العاشرة من الاتفاقية، لا تستطيع ممارسة سلطتها في استعادة المجرمين، الذين يفرون إلى الكويت، من دون عقد اتفاقية في هذا الشأن، تنص عليه صراحة. ويعني ذلك أن الدولة العثمانية، فقدت سيادتها على الكويت.
الاتفاق البريطاني ـ العثماني، عام 1913(تاريخ الكويت)
انتهى أمر الكويت إلى بريطانيا، وحدها. وفي المقابل، تقلصت علاقة الكويت الاسمية بالدولة العثمانية، برموزها التقليدية، إلى أدنى من المجاملة لدولة الخلافة. وكانت الأزمة الوحيدة، المتبقية، والمعلقة بين الكويت والدولة العثمانية، هي أزمة الحدود، التي احتلت فيها الدولة العثمانية “صفوان”، و”أم قصر”، و”بوبيان”، حيث احتفظت بقوة عسكرية رمزية. وحتى هذه، استطاعت بريطانيا حسمها، في ما يشبه الصفقة مع الدولة العثمانية.
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، وحتى أوائل القرن العشرين، أدت عدة عوامل إلى ضعف الدولة العثمانية، التي انتهت قيادتها إلى جماعة “تركيا الفتاة”، وكان طبيعياً، أن يفكر رجال “تركيا الفتاة” تفكيراً علمياً، في تسوية مشاكل الدولة في الخليج، في مقابل بعض الفوائد الواقعية، فضلاً عن تأييد بريطانيا لها في مشاكلها.
وبالفعل، بدأ الأتراك، في فبراير 1911ضمن تاريخ الكويت، يلوحون بالرغبة في المساومة، وبالاستعداد لعقد صفقة، عندما حاول السفير البريطاني في إستانبول، جيرارد لوثر (Lowther)، جسّ نبض الصدر الأعظم، حقي باشا، حينما أبان له أن حكومته، لديها استعداد لدراسة أي مقترحات، تتقدّم بها الحكومة العثمانية. فلمح حقي، بذكاء، إلى خط سكة حديد بغداد.
وذكر أن بلاده لا تستطيع التفاوض، الآن، ريثما تتفق مع الألمان على إلغاء حقها في امتياز الخط الحديدي، في الجزء الذي سيمتد إلى الخليج، وأن الألمان سيطلبون تعويضاً مالياً، وأن الكويت ستكون نهاية للخط. كذلك، قدم حقي باشا، إلى لوثر مقالة، نشرتها جريدة “طنين” العثمانية، تعّبر عن رأي لجنة “تركيا الفتاة” الحاكمة، في المسألة.
وكانت المقالة تتضمن أن إستانبول، ستوافق على الاستقلال الذاتي للشيخ مبارك، أسوة بأي شيخ قبيلة في العراق. وأنه لا بدّ من إرسال شرطة عثمانية، وإنشاء دار للعوائد، وإرسال حامية عسكرية، حتى تستعيد الدولة نفوذها في الكويت، المفقود منذ عام 1902. وأضاف الصدر الأعظم أن الشيخ مباركاً، يحمل رتبة الباشوية العثمانية.
وهكذا، مُهدت السبُل للتفاوض، بين الدولة العثمانية وبريطانيا، إيذاناً بالمفاوضات، التي استمرت أكثر من عامَين (فبراير 1911 ـ يوليه 1913) والتي تمخضت بالاتفاق الشهير في الخليج، بين الدولتَين، الذي تناول المصالح كافة، المتبادلة بينهما في المنطقة.
وقد تحددت مطالب بريطانيا، في رسالة من وزارة الهند إلى الخارجية البريطانية، في 3 مارس 1911، وتمثلت في الآتي:
1. تأمين سيطرة الحكومة البريطانية على الجزء المتعلق بسكة حديد بغداد ـ الكويت.
2. ضمان أن تكون الكويت هي المحطة الأخيرة لمشروع سكة حديد بغداد.
3. ضمان السيطرة التامة على مياه الكويت وسواحلها وموانئها.
4. عقد اتفاق مرضٍ، بين الشيخ والحكومة العثمانية، يتعلق بتنظيم إدارة الجمارك وتقسيمها، ورسوم المرور.
5. سحب القوات العثمانية، ورموز السلطة (من المنطقة الحدودية المتنازع فيها).
6. تأكيد استمرارية الاتفاقات البريطانية ـ الكويتية.
وفي مقابل ذلك، ستقنع الشيخ بقبول السيادة العثمانية على بلاده، على أساس الاستقلال الذاتي الكامل للكويت (Complete Autonomy)، بما يحفظ سلطته الداخلية، تحت السيادة العثمانية. على أن تتضمن التسوية، كذلك، حل النزاعات كافة، المتعلقة بالممتلكات، وتأكيد استمرارية الاتفاقات البريطانية.
وبدأ الجدل والمساومة، خلال المفاوضات بين الجانبَين. البريطانيون يدللون على عدم تبعية الكويت للدولة العثمانية، مستندين إلى تقارير مقيمهم في المنطقة، ومن ثَم، عدم اعترافهم بتلك التبعية.
كما راحت مذكراتهم تتحدث عن إقرار العثمانيين “بالوضع الراهن” في الكويت عام 1901، وتعهدهم باحترامه. وطلبت اعتراف الدولة العثمانية بفاعلية الاتفاقات التي عقدتها بريطانيا مع الشيخ مبارك، واعترافها بأن جزيرتَي “وربة” و”بوبيان”، تدخلان ضمن ممتلكاته، وتسحب حاميتها منهما، فوراً.
بينما احتج العثمانيون، من خلال مذكرة توفيق باشا، السفير العثماني في لندن، في 15 أبريل 1912، على عدم اعتراف البريطانيين بتبعية الكويت لهم، وأن الدولة العثمانية لا تعترف بذلك “الوضع الراهن”، الذي أوجدته الاتفاقية البريطانية السرية مع مبارك، عام 1899.
وأصرت المذكرة على إثبات تبعية أُسرة الصباح للدولة العثمانية، وحملهم ألقابها، وخدمتهم في صفوف جيشها، ورفعهم علَمها، وطلبهم براءات عثمانية. وأنه لا يمكن أن تُعَدّ الكويت سوى ولاية عثمانية، وأن إدارتها معهودة إلى مبارك، المعين بفرمان شاهاني، وأنه ليس ثمة حاجة إلى الاحتفاظ بقوات في الإمارة، نظراً إلى وجود معسكرات عثمانية، على بعد 150 ميلاً من الكويت.
وقد اقترح توفيق باشا، في مذكرته، في 15 أبريل 1912، أن تكون التسوية على الأسس التالية:
· يبقى النفوذ العثماني على بوبيان والجزر المجاورة لها، شمال الكويت.
· يستمر تمتّع بريطانيا بالميزات، الاقتصادية والسياسية، في الكويت (بما يعني تسليمها باتفاقيتها مع الشيخ).
· تعترف بريطانيا بتبعية الكويت للدولة العثمانية، وخضوعها لولاية البصرة وتطبيق القوانين العثمانية فيها.
وطال الجدل واستخدام الأدلة التاريخية. وتكررت مطالب البريطانيين في شأن انسحاب الأتراك من جزيرتَي “وربة” و”بوبيان” لكونهما داخلتَين في حدود الكويت. وتكرر رفض العثمانيون لهذه المطالب. ورأى البريطانيون امتناع العثمانيون عن التدخل في الشؤون، الداخلية والخارجية، للكويت.
بينما رأى العثمانيون ألاّ يتدخلوا في الشؤون الداخلية فقط، وأن من حقهم التصديق على ما يعقده الشيخ من اتفاقات.
والواقع، أن بريطانيا قد رضخت، جزئياً، لبعض المطالب العثمانية، في مقابل صفقة عامة، يكون موضوع الكويت طرفاً فيها. وبدأت تمهد لقبول الشيخ مبارك الترتيبات الجديدة. وبالفعل، التقى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، وليم هنري شكسبير، William Henry Shaksepear ما بين (1909 ـ 1914)، في 28 مايو 1913 من تاريخ الكويت، الشيخ مباركاً، لكي يقنعه بهذه الترتيبات.
وخلال اللقاء، رفض الشيخ مسألة قبول وكيل عثماني، وطلب إلى “شكسبير” أن يبرق إلى حكومته برفضه هذا الأمر تماماً. وأضاف أن وجود الوكيل، سيدمر ما وضعت من أجْله الاتفاقية، إذ سيتدخل في كل الأمور. كما أن وجوده سيضعف من سلطة الشيخ على رعاياه. وسيصبح دار الوكيل العثماني بؤرة للتآمر، في الداخل والخارج، مما سيورط بريطانيا.
وعلّق شكسبير على ذلك، في رسالة إلى حكومته، بأن الشيخ قد أدرك، أن بريطانيا ضحت بمصالحه في صفقتها مع العثمانيين، وأنه رفض الموافقة على قبول وكيل عثماني، لأن العثمانيين، الآن، ضعاف ومهزومون. وطلب إلى حكومته “أن تتجنب تقديم تنازلات، قدر الإمكان، لأن ذلك سيعكر صفو علاقتنا بالشيخ، خاصة أن هذه المفاوضات قد جرت، من دون إعطائه فكرة عنها.
كما أن مشروع مسوّدتها، في الواقع، لا يعطي حاكم الكويت، أو شعبه، شيئاً، فضلاً عن أن أرضهم، لم يطأها وكيل عثماني مقيم، من قبْل، وهو ما سيتحقق بنص الاتفاق، حتى ليبدو الأمر وكأنه تسليم الكويت للعثمانيين، وبيد البريطانيين أنفسهم”.
ويضيف شكسبير، أن بلاده تفاوضت في شأن الكويت، من دون رأي الشيخ، بل من دون إبلاغه سير المفاوضات وأسلوبها. ثم تقدَّم إليه نتيجتها، كأمر واقع. لذلك، “فإنني أتوقع إثارة الخيبة العميقة والاشمئزاز من عملنا هذا. فمهما كانت التبريرات، فإنها لن تزيل الانطباع بأننا استخدمنا الكويت كورقة رهان، أو قطعة شطرنج (As a pawn)، للحصول على امتيازات أخرى لأنفسنا.
ولكن مباركاً، حسب رواية شكسبير، خفّف، في اليوم التالي، 29 مايو 1913، من حدّة لهجته، وأعلن أنه لن يستمر في الرفض، إذا قبلت الحكومة البريطانية ذلك. ثم أشار إلى أن اتفاقية عام 1899، قد وضعت لمنع ما يحدث الآن. وأضاف أن اتفاقية تأجير “الشويخ”، عام 1907في تاريخ الكويت، قد نُص فيها على إبعاد العثمانيين، تحديداً، عن الكويت.
وفي يوم 6 يوليه 1913، أرسل الشيخ مبارك إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج، برسي كوكس، يبدي موافقته وقبوله لحجج الحكومة البريطانية وتفسيراتها، ويعلن ثقته بها.
وقد رد كوكس على رسالة الشيخ مبارك، بأنه فيما يتعلق باستقباله وكيلاً عن أي دولة أجنبية، كما ورد في اتفاقية يناير 1899، فإن بلاده حين منعت الشيخ من ذلك، اشترطت عليه مراجعة الحكومة البريطانية وموافقتها. وها هي، الآن، توافق على أن يستقبل وكيلاً عثمانياً، إذ كان من الضروري قبول ذلك، مقابل اعتراف الحكومة العثمانية باستقلاله الإداري. ومن ثَم، رأى المقيم البريطاني، أن حكومته، لم تخالف نصوص اتفاقية 1899.
وبطبيعة الحال، فإن بريطانيا، على الرغم من احتجاجات الشيخ مبارك، تحركت وفقاً لما تمليه مصالحها وظروفها. وهكذا، وُقّع الاتفاق البريطاني ـ العثماني، في 29 يوليه 1913، على نحو، أجحف بحقوق الشيخ وادعاءاته، على حدّ سواء، بل منحت بريطانيا نفسَها الحق بأن تتفاوض في كل شؤون الكويت، وفي تجاهل تام للمصالح الكويتية (أُنظر الوثيقة نص القسم الأول من مسودة اتفاقية 29 يوليه 1913 بين الإمبراطورية العثمانية والحكومة البريطانية) و(خريطة تاريخ الكويت في 29 يوليه 1913).
هكذا عَدّت الاتفاقية الكويت قضاءً عثمانياً مستقلاً استقلالاً ذاتياً، يمارس فيه الشيخ إدارة مستقلة، ولكن في ظل السيادة العثمانية. وتحددت علاقة الكويت بالدولة العثمانية تحديداً أوضح، حين نُص فيها على تعهد الدولة العثمانية بألاّ تجند رعايا الكويت النازلين في العراق، ولا تأخذ من صياديها رسوماً.
كما لا ترسل إليها حاميات عسكرية، ولا تبادر إلى أي عمل عسكري، مهما كان نوعه، من دون تفاهم مسبق مع بريطانيا، كما لا تتدخل في تولّي السلطة في الكويت، وتكتفي بإصدار فرمان التولية بمن يخلف الشيخ، كما تمتنع عن احتلال أي جزء من الكويت.
أمّا ما حصلت عليه الدولة العثمانية، في المقابل، فضلاً عن سيادتها، والاعتراف بها، ورفع علمها، لو أراد الشيخ، وكون الكويت قضاء من أقضيتها، فقد تمثل في الاعتراف لها بحق إرسال وكيل عثماني، يقيم بالكويت “بقصد حماية ورعاية مصالح ورعايا مختلف مقاطعات الدولة”.
كما حصلت على “صفوان” و”أم قصر” اللتين خرجتا من حدود الكويت، وهي الحدود التي رُسمت داخل خط أحمر، في شكل شبه دائرة، تتوسطها مدينة الكويت، وتمتد إلى خور الزبير في أقصى الشمال، والقرين في أقصى الجنوب. وتضم جزر “وربة” و”بوبيان” و”فيلكا” و”قاروه” و”المقطع” و”أم المرادم” مع الجزر الأخرى، الواقعة داخل نطاق هذا الخط، والمياه التي تحتويها المنطقة بين حدَّيها الشمالي والجنوبي.
(أُنظر خريطة تاريخ الكويت في 29 يوليه 1913) (المنطقة A ، هي المنطقة، التي يمارس فيها شيخ الكويت الاستقلال الذاتي، وتتبعها جزر وربة وبوبيان، ومسكان، وفيلكا، وأم المرادم، وعوهه، وكُبر، وقاروه، مع بعض الجزر الأخرى، والمياه الإقليمية الملاصقة لها. والمنطقة B ، وتدخل فيها المناطق، التي تعيش فيها القبائل على اعتبارها تابعة لشيخ الكويت. ولا تباشر حكومة الإمبراطورية العثمانية، في هذه المنطقة، أي عمل إداري، بدون علم شيخ الكويت.
“صورة عن وزاررة الخارجية البريطانية”)، و(خريطة الكويت في 29 يوليه 1913 “إنجليزية”). (دائرة نفوذ الشيخ مبارك الفعلية طبقاً لما استقر عليه الوضع في الاتفاقية البريطانية ـ العثمانية يوليه 1913).
أمّا ما أقرّته الدولة العثمانية للشيخ مبارك، فهو أنها تركت له، ولأُسرته، شؤون الحكم ووراثته. كما تركت له شؤون الإدارة الداخلية جميعاً. واعترفت بغالبية الاتفاقات المعقودة بين الكويت وبريطانيا، في أعوام 1899، 1900، 1904 من تاريخ الكويت.
أمّا بريطانيا، فإلى جانب اعتراف الدولة العثمانية باتفاقياتها مع الشيخ، لم تمنعها نصوص الاتفاق الجديد من شيء، ولم تحرم عليها شيئاً، بل إنها تعهدت فقط بألاّ تغير علاقتها بالكويت.
وعلى هذا، فقد كانت الكويت، هي الجانب الخاسر في هذه الصفقة. بل أدرك الشيخ مبارك، أن استقلاله الذاتي، وحريته في إدارة شؤون بلده، سيكونان وهماً في ظل وجود وكيل عثماني دائم في الكويت، كما خرجت “أم قصر” و”صفوان” من تحت حكمه.
وجهات النظر المتباينة حول اتفاقية 1913.
1. وجهة النظر العراقية
يرى الجانب العراقي، أن الاتفاقية قد نصت على “بقاء الكويت قضاءً تابعاً لولاية البصرة”. كما أن بريطانيا استهدفت، من النص على حدود أراضي القضاء، في مشروع الاتفاق، تعريف منطقة نفوذها بصورة غير مباشرة، وما في ذلك من تحديد لمدى تدخّل السلطات العثمانية فيها.
2. وجهة النظر الكويتية
ويرى الجانب الكويتي، أن مظهر التبعية الوحيد في الاتفاقية، هو رفع العلَم. ومع ذلك، فقد تميز العلم الكويتي عن العلَم العثماني بوضع كلمة “كويت”. ويدللون على رأيهم أن الكويت لم تكن جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، حيث أن الحكومة العثمانية، لا تملك أي تصرف، إداري أو عسكري، أو نفوذ ما داخل الكويت.
3. وجهة النظر المحايدة
الواقع، أن أغلب بنود هذه الاتفاقية، ينبغي أن تقاس بالأوضاع التي كانت قائمة قبَيل إبرامها:
أ. راعت الاتفاقية أوضاعاً سابقة، كان قد ارتضاها الكويتيون. وهي الأوضاع الناجمة عن الاعتراف بالتبعية الدينية لدولة الخلافة، مع بعض التغييرات.
ب. نعتت المادة الأولى منها الكويت، بأنها قضاء مستقل، يمارس فيه الشيخ إدارة مستقلة، ولكن في ظل السيادة العثمانية، ولم تشر إلى تبعيتها لولاية البصرة. وتحددت علاقة الكويت بالدولة العثمانية تحديداً أوضح، إذ نصت على تعهد إستانبول بألاّ تجند رعايا الكويت النازلين في العراق، ولا تأخذ من صياديها رسوماً، كما لا ترسل إليها حاميات عسكرية، ولا تبادر إلى أي عمل عسكري، مهما كان نوعه، من دون تفاهم مسبق مع بريطانيا، كما لا تتدخل في تولِّي السلطة في الكويت، بل تكتفي بإصدار فرمان التولية.
ج. استمرت الكويت في رفع العلَم العثماني، وهو ما كانت تفعله من قبْل، ولكن بإضافة كلمة “كويت”. واللافت أن علَم “الهلال والنجوم”، استمر رمزاً إسلامياً، حتى بعد سقوط الدولة العثمانية، إذ إن دولة مستقلة، مثل مصر، استمرت ترفعه، بعد تغيير لونه.
د. خلا الفرمان، الذي صدر بتعيين شيخ الكويت من أي جديد، إلاّ من وجود وكيل عثماني في الكويت، وهو ما أغضب الشيخ مباركاً، على أساس أن وجود هذا الوكيل، سوف يفتح الباب للمؤامرات، غير أنه أمكن تحجيم هذا الوجود بأمرين. أولهما، إبعاد أي موظفين عثمانيين عن الكويت. وثانيهما، تحديد صلاحيات هذا الوكيل في صلب الاتفاق.
هـ. تضمنت المادة الثالثة من الاتفاقية، اعتراف الحكومة العثمانية “بشرعية الاتفاقات التي عقدها شيخ الكويت مع الحكومة البريطانية”.
وهو، في الوقت عينه، اعتراف باستقلال الكويت، لأن منح الكويت حق الاتفاق مع دولة أخرى، ثم الاعتراف بشرعية ” Validity” هذا الاتفاق، لهما دلالة قانونية مهمة جداً. ويجيء الاعتراف بخط حدود للكويت، في ما تضمنته المادة السابقة، على جانب كبير من الأهمية، المنبثقة من حقيقة أن خط الحدود، لا يوجد إلاّ بين كيانَين سياسيَّين مستقلَّين، وهي حقيقة لم تكن سلطات حكومة إستانبول جاهلة بها.
و. أقرت الاتفاقية، في مادتها التاسعة، بضمان سلامة الممتلكات الكويتية في البصرة. وهو مكسب كان الحكام الكويتيون يطمعون في تحقيقه، خاصة أنه حرم الجانب العثماني من ورقة طالما كان يضغط بها على الأُسرة الكويتية الحاكمة.
ز. استفاد الجانب الكويتي بحسابات المكسب والخسارة، من غير مادة من مواد هذه الاتفاقية. ولعل ذلك ما يدفع الجانب العراقي، في إصداراته الرسمية، إلى التمسك بنعت هذه الاتفاقية بأنها مجرد “مشروع اتفاقية”. ويمكن توضيح النقطة الأخيرة، من خلال الآتي:
(1) نصت الاتفاقية على أنه سيجري تبادل التصديق عليها، في لندن حالما يتسنى ذلك، في غضون ثلاثة أشهر من توقيعها، على أقصى تقدير.
(2) صرح حقي باشا، في اليوم عينه، الذي وقِّعت فيه المعاهدة بأن التصديق عليها مرهون بتنفيذ بعض التحفظات التي تتمسك بها بريطانيا، مثل موافقة الحكومة البريطانية على بعض الإصلاحات الضريبية، وعلى توقيع الدولة العثمانية اتفاقية سكة حديد بغداد. وقد صيغت تلك التحفظات، في مذكرة السير إدوارد جري، وزير الخارجية البريطانية. وهذه التحفظات جعلت موافقة الحكومة البريطانية على هذه الاتفاقية معلقة على هذه الإصلاحات. ولم يحدث، فيما بعد، أن سُحب أي تحفظ من تلك التحفظات.
كما لم يسحب تصريح حقي باشا. وإذ لم يتصدَّق على الاتفاقية، في فترة الأشهر الثلاثة المحددة، فقد أعيدت المفاوضات، ووُقعت اتفاقات إضافية أخرى، مددت فترة التصديق، وحدد يوم 31 أكتوبر 1914، آخر موعد لها. غير أنه بحلول ذلك التاريخ، كانت الدولتان على مسافة قريبة جداً من الحرب، وأصبح عدم التصديق على تلك الاتفاقية حقيقة واقعة.
ح. أصبحت الدولة العثمانية، طبقاً لما تنص عليه المادة العاشرة من الاتفاقية، لا تستطيع ممارسة سلطتها في استعادة المجرمين، الذين يفرون إلى الكويت، من دون عقد اتفاقية في هذا الشأن، تنص عليه صراحة. ويعني ذلك أن الدولة العثمانية، فقدت سيادتها على الكويت.