دولة سورية من الاستقلال إلى حافظ الأسد ..حقائق سورية هامة
دولة سورية

دولة سورية دولة رئيسية في الوطن العربي، وإحدى دوله الفاعلة، ذات التأثير في الصراع العربي ـ الإسرائيلي. تتميز بموقع إستراتيجي مهم في المشرق العربي، جعل منها أحد المراكز الرئيسية لأحداث المنطقة.وقد انعكست الحضارات القديمة على، الشعب السوري، وأكسبته طبيعة خاصة، تميزه عن سائر شعوب المنطقة؛ وربما كان لذلك تأثيره في حاضر سورية المضرج بالانقلابات، عقب استقلالها.

خضعت سورية، منذ نحو ألفَي عام قبل الميلاد، لحكم الفينيقيين، ثم الأرمن، ثم الفراعنة، والآشوريين والكنعانيين، ثم الفرس. ثم غزاها الإسكندر الأكبر، عام 322ق.م. وأمست، عام 66 ق.م، مقاطعة رومانية. وسرعان ما فتحها الإسلام عام (633 – 636م)، ليؤسس فيها معاوية بن أبي سفيان، عام 660م، الحكم الأموي؛ ويتخذ دمشق عاصمة للدولة الإسلامية، حتى عام 750م، حينما استبدل بها العباسيون بغداد.

وفي عهد الفاطميين، خضعت أجزاء من دولة سورية للخليفة الفاطمي، في القاهرة (977 – 1098م). ثم احتل السلاجقة القسم الغربي من سورية، واستأثر البيزنطيون بالجزء الشرقي؛ وما لبث الطرفان أن اقتتلا، إثر إحراق الجامع الأموي عام1069، وأدى ذلك إلى نوع من الحرب الأهلية، مكّن الصليبيين من النفاذ إلى المشرق العربي، بدءاً من عام 1098، واحتلال بعض أجزائه، طيلة قرنَين، ولا سيما القدس، التي استرجعها صلاح الدين الأيوبي، عام 1187.

وفي عام 1300م، تعرضت دولة سوريةلهجمات المغول، وخاصة في عهد تيمورلنك. ثم خضعت لحكم المماليك، ولم يخلصها منهم إلا انتصارً السلطان سليم الأول عليهم، في موقعة مرج دابق، عام 1516م؛ فدانت للحكم العثماني، مدة أربعة قرون، حتى اشتعال الحرب العالمية الأولى. وخلال حكم العثمانيين، تعرضت لحملة نابليون بونابرت، عام 1799. واحتلها محمد علي باشا، والي مصر؛ بل استقل بها، من عام 1833 حتى عام 1840.

ظلت سورية، حتى مطلع القرن العشرين، جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، التي لم يكن بين أجزائها، في المشرق العربي، حدود فاصلة. وما إن لاحت هزيمة إستانبول، في الحرب العالمية الأولى، حتى سارعت بريطانيا وفرنسا إلى عقد اتفاقية سايكس- بيكو، في القاهرة، وقَعتاها في 16 مايو 1916. قسمت الاتفاقية منطقة الشام ثلاثة أقسام: سورية ولبنان وفلسطين؛ واقتطعت منها إقليم “الإسكندرونة، الذي ظل تحت الانتداب الفرنسي[1]، حتى نشوب الحرب العالمية الثانية.

بعد وضع الحرب العالمية الأولى أوزارها، واستسلام العثمانيين للحلفاء، أثار الأمير فيصل حفيظة باريس، إذ تمكن، في أكتوبر 1918، من السيطرة على سورية، بدعم من الإنجليز والشريف حسين؛ ودخلت جيوشه إلى دمشق. وفي الوقت نفسه، اندلعت ثورة في لبنان على الفرنسيين، استمرت عامَين.

في عام 1919، جرت أول انتخابات برلمانية في سورية، حملت إلى السلطة من قرر إعلان الاستقلال السوري، في نطاق سورية الكبرى، التي تشمل ولايات: سورية والأردن وفلسطين ولبنان؛ ما يعني سيطرة بريطانيا على المنطقة برمّتها. ولذلك، عَجِلَت فرنسا إلى احتلال لبنان، ودخلت دمشق، عام 1920. وشددت قبضتها على مقدرات البلاد، وقسمت سورية أربع مقاطعات: دمشق وحلب ومنطقة العلويين وجبل الدروز؛ ما أثار احتجاجات واسعة، أجبرت المفوض الفرنسي على إنشاء اتحاد، يجمع تلك المقاطعات.

وفي مؤتمر لندن، الذي وقعت قراراته في 15 سبتمبر 1919، ونظير أن تتخلى فرنسا عن حقوقها، والتي منحتها إياها اتفاقية سايكس- بيكو في نفط الموصل، وافقت بريطانيا على:

1. التنكر لنصيرها، الأمير فيصل.

2. إطلاق يد فرنسا في معالجة قضايا سورية ولبنان.

وفي مؤتمر سان ريمو، الذي اختتم أعماله في أبريل 1920، وضعت سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين والعراق وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني.

اشتدت المقاومة السورية للفرنسيين. وعقد المؤتمر القومي السوري، الذي تزعمه يوسف العظمة، وزير الدفاع السوري، وقتئذٍ؛ من أجل تأكيد استقلال سورية، وتأييد فيصل، الذي نودي به ملكاً عليها. ولكن فرنسا قضت على الثوار، في 24 يوليه 1920، في معركة ميسلون، حيث استشهد يوسف العظمة؛ وسيطرت على البلاد. وغادر الملك فيصل سورية، في 28 من الشهر نفسه، إلى العراق.

في عام 1923، عمدت بريطانيا، منفردة، إلى رسم الحدود بين سورية وفلسطين؛ مراعية أن تضم الأخيرة المنابع الرئيسية لمصادر المياه، بما فيها بحيرة طبريا بالكامل في حدود فلسطين. عاودت السوريين، عام 1925، ثورتهم، وانطلقت شراراتها الأولى من جبل الدروز (جبل العرب)، بزعامة سلطان الأطرش؛ وما لبثت أن امتدت إلى دمشق، وعمت البلاد. وعلى الرغم من القسوة البالغة، التي واجه الفرنسيون بها الثورة، ودكّهم دمشق بالمدفعية والطائرات، إلا أنها لم تخمد إلا عام 1927، إثر مفاوضات، ووعود الفرنسيين بمنح دولة سورية استقلالها. وأعلنت، في 7 يونيه 1932، جمهورية سورية المستقلة (تحت الانتداب الفرنسي).

وفي أعقاب اشتعال الحرب العالمية الثانية؛ واجتياح الجيوش الألمانية فرنسا؛ وتكوين حكومة “فرنسا الحرة”، في الجزائر؛ ألقت الطائرات الفرنسية، في 8 يونيه 1941، منشورات في سماء دولة سورية ولبنان، تعلن إلغاء الانتداب الفرنسي على البلدَين. وضمن السفير البريطاني في مصر، باسم حكومته، هذا الإعلان؛ فكان اعترافا رسمياً من بريطانيا باستقلال الدولتَين. وأعلنت سورية، في 16 سبتمبر 1941، جمهورية مستقلة. ورحل آخر جندي فرنسي عن أراضيها في 17 أبريل 1946، وهو اليوم الذي اتخذته عيداً لاستقلالها.

وقد مرت دولة سورية، خلال عهد الاستقلال، وحتى وفاة الرئيس الأسد، بأربع مراحل رئيسية: مرحلة الانقلابات العسكرية، مرحلة التوجه الوحدوي، مرحلة وصول حزب البعث إلى الحكم، مرحلة التصحيح التي نفذها الرئيس حافظ الأسد.

دولة سورية والرئيس الاسبق
دولة سورية والرئيس الاسبق

دولة سورية من الاستقلال إلى عصر الانقلابات

حقائق سورية

الجمهورية العربية السورية جزء من سورية الطبيعية، أو ما يعرف ببلاد الشام[1]، التي قسمت، خلال مراحل تاريخية مختلفة، دولاً، يفصل بينها حدود سياسية، وضعها الاستعمار؛ هي: الأردن وفلسطين (وتسمى بسورية الجنوبية) ولبنان وسورية (وتعرف بسورية الشمالية). ولم يتبقَّ إلا دولة سورية الحالية، هي التي تحتفظ بهذا الاسم القديم لتلك المنطقة.

تُعَدُّ سورية من الدول، التي عرفت أعلى معدلات العنف، سبيلاً إلى تغيير السلطة السياسية بالقوة. وسيطر النمط الانقلابي على الحياة السياسية فيها، طوال فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وحتى وصول حافظ الأسد إلى السلطة، عام 1970؛ إذ شهدت منذ الاستقلال، تسعة انقلابات، ثمانية منها عسكرية؛ وانقلاب سياسي واحد، حمل الرئيس الأسد إلى الحكم؛ فضلاً عن نحو خمسين محاولة انقلابية فاشلة.

ودولة سورية هي إحدى دول التأثير، على مدى التاريخ العربي؛ يرتبط تاريخها بمراحل التطور، التي مرت بها الأمّة العربية، منذ القدم وحتى الآن؛ إذ يشكل موقعها ممراً رئيسياً من أوروبا وآسيا إلى الشرق الأوسط والمنطقة العربية. ولهذا، فإن الأمن القومي العربي، طالما كان رهيناً بأحداث سورية الرئيسية، عبر العصور المختلفة.

تقع دولة سورية في الجزء الشرقي من البحر المتوسط. يحدها شمالاً تركيا، وشرقاً العراق، وجنوباً الأردن وفلسطين، وغرباً لبنان والبحر الأبيض المتوسط. وتبلغ مساحتها الكلية 185180 كم2 منها مساحة مائية، تبلغ 1130 كم2 إلى جانب أن مساحة الجولان المحتل، تبلغ 1295 كم2 من مساحته الكلية البالغة 1860كم2.

يبلغ إجمالي حدودها البرية مع دول الجوار 2253 كم: منها 605 كم مع العراق، و76 كم مع إسرائيل، و375 كم مع لبنان، و822 كم مع تركيا). أمّا حدودها البحرية، فتبلغ 193كم.

أولاً: أهمية سورية الإستراتيجية

لموقع دولة سورية أهميته الكبرى، وخاصة في نطاق آسيا العربية؛ فجميع المواصلات: البرية والجوية، القادمة من شبه الجزيرة العربية، وبلدان الخليج العربي، والأردن والعراق، وكذلك من إيران وتركيا، تمر بسورية أو تنتهي إلى موانئها البحرية. وتستمد سورية أهميتها الإستراتيجية من:

1. إشرافها على شرقي البحر الأبيض المتوسط.

2. مركزها المتوسط للمواصلات الجوية، بين أوروبا والشرق الأقصى.

3. سيطرتها على طرق المواصلات: البرية والجوية، من جنوب شرقي أوروبا وروسيا إلى باكستان والهند شرقاً، والخليج جنوباً، ومصر غرباً.

4. تحَكُّمها في مرور أنابيب النفط بها، من المملكة العربية السعودية إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، في بانياس وطرابلس وصيدا؛ وكذلك خطوط النفط من الموصل وكركوك، في العراق.

5. سيطرتها، من خلال هضبة الجولان (المحتلة حالياً)، على الجزء الشمالي من إسرائيل (الجليل الأعلى).

6. احتضانها حزب البعث، الذي ينادي بالقومية العربية ووحدة أراضيها؛ ومن خلاله تكتسب سورية تأثيراً سياسياً في العديد من الدول العربية.

7. تأثير حضارتها القديمة في الحضارات الأخرى في المنطقة؛ ما دفع العديد من البلدان إلى التفاعل مع سورية.

وأتاح لسورية موقعها الإستراتيجي المهم في المشرق العربي، أن تتأثر المواقف: الإقليمية والدولية، بالتوجهات السورية، ونظام الحكم السوري، وطبيعة الشعب السوري.

ثانياً: تضاريسها

يتكون غربي سورية من سهل ساحلي متعرج. يليه منطقة جبلية، تعرف باسم جبال العلويين (أعلى قمة 1285م)، تنتهي إلى سهل الغاب، الذي يفصلها عن الداخل الصحراوي، حيث تنتشر منبسطات، تمثل 60% من مساحة البلاد، وتنخفض، تدريجاً، كلما اتجهت نحو الشمال (حتى نهر الفرات) والجنوب (حتى بادية الشام). وتتخلل تلك المنخفضات الصحراوية مناطق جبلية متفرقة.

الحدود السورية مع دول الجوار، تتميز، إذاً، بطبيعة خاصة؛ فهي جبلية مع تركيا، حيث جبال طوروس؛ وصحراوية مع العراق، حيث بادية الشام؛ وجبلية، يتخللها وادي البقاع، مع لبنان وإسرائيل؛ وجبلية صحراوية مع الأردن، حيث جبل الدروز وبادية الشام.

ثالثاً: تنوُّع سكانها وتوزُّعهم (انظر خريطة سورية)
يمثل العرب نحو 90.3% من سكان سورية، والأكراد والأرمن وسائر القوميات 9.7%. وبلغ إجمالي عددهم عام 2001، 16728808 أشخاص. وكان، عام 1990، 13338000؛ وعام 1984، 9310000؛ بنسبة نمو، تناهز 2.54 سنوياً. ويناهز سكان الجولان 18200 نسمة؛ منهم 16500 درزي، و1700 علوي، على جانب ألف مستوطن يهودي.

أسهمت طوائف سورية: القومية والدينية، في توجهات نظامها السياسي، وتنظيمها الحزبي، الذي ساعد على استقرار ذلك النظام. وفيما يلي تعريف ببعض تلك الطوائف.

1. السُّنة: هم الغالبية العظمى من المسلمين تبلغ نسبتهم 74% من سكان دولة سورية. وهم ذوو أصول عربية، دخلتها مع الفتح الإسلامي.

2. الدروز: يُعرف الدروز بالموحدين، لإيمانهم بوحدانية الله؛ وإن عَدُّوا الحاكم بأمر الله الفاطمي تجسيداً للذات الإلهية. وهم ينتسبون إلى محمد إسماعيل الدرزي. وفي عقائدهم أن أركان الإسلام سبعة بدلاً من خمسة؛ لذا، يراوح موقف المسلمين منهم بين القبول والرفض. وهم لا يَعُدُّون أنفسهم من جموع المسلمين، على الرغم من اعترافهم بأن لدينهم أصولاً إسلامية. وتصل نسبتهم إلى 3% من سكان سورية ، ويتركزون في جبل الدروز، ومنطقة الجولان.

3. الشيعة الإسماعيليون: ينتسبون إلى إسماعيل، الابن الأكبر للإمام جعفر الصادق. ورأوا أنه الأحق بالإمامة، السابع بعد أئمة الشيعة الستة الأُوَل؛ فهو سابعهم؛ ولذا، عرفوا “بالسبعية”. وهم يهتمون بالرقم 7، حتى إنهم جعلوا الرسل سبعة. يتصف الإسماعيليون بالتشدد. واستعدادهم كبير للتضحية من أجل العقيدة. ولا يتجاوز عددهم 1% من إجمالي السكان، ويتركزون في المنطقة الغربية من سورية.

4. العلويون: أو النصيريون: يتنسبون إلى محمد بن نصير النميري العابدي. ويتسم المذهب العلوي بتأثره بالمبادئ الإسماعيلية. ويناهز عددهم 11% من إجمالي السكان، يتركزون في محافظتَي دير الزور واللاذقية.

5. الأرمن: وهم جماعات نزحت إلى الوطن العربي من موطنها الأصلي في أرمينيا. يقدَّر عددهم بنحو 4% من إجمالي السكان. ويتحدثون اللغة الهندو – أوروبية. ويتمتعون بحقوقهم: الدينية والسياسية. وينتشرون في المدن السورية.

6. الأكراد: وهم امتداد للأكراد في كلّ من العراق وتركيا وإيران. يتركزون في المناطق الشمالية الشرقية من سورية، ويمثلون نحو 2% من سكانها. وليس لهم توجهات سياسية أو انفصالية، كالتي ينادي بها أكراد العراق وتركيا.

7. الشراكسة: وهم قبائل نازحه من جبال القوقاز. توافدوا إلى دولة سورية بين عامَي 1872 و1912، من الأناضول وأوروبا الشرقية. ويقدر عددهم بنحو سبعين ألف نسمة، يتركزون في منطقة الجولان، وشرق حماة وحمص، ومنطقة رأس العين.

8. الطورانيون: وهم فئات دخلت سورية في صحبة المغول، وبقيت فيها. وهم من أصول تركية أو تركمانية. ويصل عددهم إلى نحو سبعين ألفاً، يتركزون على الحدود السورية – التركية.

9. المسيحيون: تحتضن سورية خمس طوائف مسيحية، هي: الروم الأرثوذوكس، والأقباط الأرثوذوكس، أقباط الناصرة، والأقباط الكالثوليك، والبروتستانت. ويقدَّر عددهم بنحو ، وتصل نسبتهم إلى حوالي 10% من إجمالي السكان، تتوزعهم المدن السورية، زِدْ على ذلك قلة من اليهود في دمشق وحلب والقامشلي.

رابعاً: تأثير الطائفية في استقرارها

طالما لاذت الطوائف السورية بشبه عزلة، أفقدتها ثقة بعضها ببعض، واثارت شكوكها. وأذكى الاحتلال الفرنسي تلك المشاعر، وساعده على ذلك التركز الجغرافي لبعض تلك الطوائف، ولا سيما العلويين حول اللاذقية، وفي التلال المحيطة بها، على ساحل البحر الأبيض المتوسط؛ والدروز حول السويداء، في الجنوب.

كذلك سهلت الطائفية على النظام السوري استمالة بعض الطوائف، من أجل تحقيق أهدافه، وإشاعة البلبلة في الداخل. ولعل تزايد نفوذ العلويين، داخل حزب البعث السوري أولاً، ثم داخل النظام البعثي، الذي حكم سورية، منذ عام 1961 ـ كان تجسيداً لتلك السياسة؛ لا، بل حافز للطوائف الأخرى، وبخاصة جماعات الإخوان المسلمين، المنبثقة من السُّنة، إلى أدوار، انتهت إلى مصادمات دموية.

خامساً: نظامها السياسي

يُعَدُّ النظام السياسي، طبقاً للدستور السوري، “جمهورياً ديموقراطياً شعبياً”. وقد حدد الدستور ثلاث سلطات رئيسية، هي قاعدة للنظام الديموقراطي: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية. وصدر دستور سورية الحالي في13 مارس 1973 ، فأباح انتخاب رئيس الجمهورية مراراً متتالية ومتواصلة.

مدة الرئاسة 7 سنوات. وينتخِب الرئيس، أولاً، مجلس الشعب. ويرأس رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية للدولة، والمتمثلة في الحكومة. أمّا مجلس الشعب، الذي يمثل السلطة التشريعية، فيتكون من 250 عضواً. وتتمثل السلطة القضائية في القضاء السوري،

1. السلطة التشريعية: يمثلها مجلس الشعب. تتولى إصدار القوانين، وتنظيم العلاقات بين مؤسسات النظام السياسي. وينتخَب أعضاء مجلس الشعب السوري كلّ أربع سنوات، يضطلع بالآتي:

أ. إعلان المرشحين لرئاسة الجمهورية.

ب. إقرار القوانين.

ج. مناقشة سياسة الحكومة.

د. اعتماد ميزانية الدولة وخطط التنمية.

هـ. الموافقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية.

و. حجب الثقة عن الحكومة أو أحد أعضائها.

2. السلطة التنفيذية: تمثلها الحكومة. وهي السلطة المسؤولة عن تنفيذ القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، والأحكام الصادرة عن السلطة القضائية؛ ومسؤولة عن إقرار السياسة العامة للدولة وتنفيذها.

أ. رئيس الدولة: هو رئيس السلطة التنفيذية. يدير شؤون الدولة، من خلال مجلس الوزراء، والمجالس المحلية المنتخبة. وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة. وهو الذي يعلن حالة الحرب، وحالة التعبئة العامة، وحالة الطوارئ.

ب. مجلس الوزراء: هو الجهاز التنفيذي والإداري الأعلى للدولة. يشرف على تنفيذ القوانين. ويصدر القرارات الخاصة بالشؤون: الداخلية والخارجية. إثر تأليف الحكومة، تعلن لمجلس الشعب بياناً بسياساتها؛ وتعرض عليه، كلّ عام، مشروع ميزانية الدولة والخطة التنفيذية للتنمية.

3. السلطة القضائية: هي سلطة مستقلة تماماً عن السلطتَين: التشريعية والتنفيذية، وفاقاً لمبدأ: “القضاة لا يتبعون إلا القوانين وشرف المهنة والضمير”، طبقاً لما ينص عليه الدستور. وتتبعها المحاكم، بمختلف أنواعها ودرجاتها، بما فيها المحكمة الدستورية العليا، التي تتكون من خمسة قضاة، يعينهم رئيس الجمهورية، ومهمتها الرئيسية مراجعة القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، وتأكيد عدم معارضتها الدستور.

سادساً: الأحزاب السورية

تكاثرت الأحزاب السورية، منذ ثلاثينيات القرن العشرين؛ ولكن المتغيرات: الإقليمية والدولية، والتوجه السياسي السوري، قضيا على بعضها، وأجبرا بعضها الآخر على تعديل نُظُمه، لتوافق نظام الدولة العام، أو الانضمام إلى تحالفات، تقيه الاستضعاف. والأحزاب التقليدية، التي تعتمد على الولاء لشخصيات معينة، هي الأحزاب النافذة، ولا سيما العقائدية منها، التي تستند إلى خلايا ومنظمات شبه عسكرية؛ لا، بل إن الأحزاب العقائدية، مثل حزب البعث، ظلت على قوّتها، على الرغم من قرار حل الأحزاب، عام 1958. أمّا أهم الأحزاب السورية، فهي:

1. الحزب القومي السوري

أنشأه أنطون سعادة، عام 1932؛ مستهدفاً توحيد سورية الطبيعية، التي تشمل دولة سورية ولبنان والأردن وفلسطين، علاوة على قبرص والعراق، فيما بعد. نادى الحزب بالقومية السورية، إذ حتم بأن السوريين “أمة كاملة”؛ ولذلك ناهضه المنادون بالقومية العربية، والمنادون بالقومية اللبنانية، على حدٍّ سواء. وكان مؤيداً لأديب الشيشكلي؛ ما حرمه أيّ تأييد شعبي. واتُّهم بتدبير اغتيال قائد الجيش السوري، عدنان المالكي، عام 1955؛ فحظر نشاطه في دولة سورية.

2. حزب الشعب

أُسِّس في نهاية الثلاثينيات. تمتع أعضاؤه بالشفافية، وحب الجماهير، في حمص وحلب خاصة. أولى اهتمامه مواجهة المشاكل: السياسية والاجتماعية بأسلوب سياسي، بعيداً عن الصراعات العسكرية. فانبرى يصارع أديب الشيشكلي؛ ما أدى إلى انقسامه، عام 1954، وهو العام الذي حظي فيه بأعلى نسبة في الانتخابات البرلمانية، التي أجريت في سبتمبر من العام نفسه، حين فاز بثلاثة وأربعين مقعداً في المجلس النيابي، إلى جانب 20 مقعداً أخرى لمستقلين يوالونه.

وأهم زعماء الحزب: رشدي الكخيا، وناظم القدسي، ومعروف الدواليبي، وأحمد قنبر، وهاني السباعي، وعدنان الأتاسي، ونسيب البكري. وكان للحزب ثلاث صحف، هي: “السوري الجديد”، تصدر في حمص؛ و”الشعب”، تصدر في دمشق؛ و”النذير”، تصدر في حلب.

3. الحزب الوطني

أُسِّس فـي نهاية الثلاثينيات وترأسه شكـري القوتلي؛ لمناهضة الانتداب الفرنسي. ، شل نشاطه، منذ عام 1947، بعيد استيلاء حسني الزعيم على الحكم. ونفيه قيادات الحزب، إلى الخارج. وكان أهم إنجازات الحزب، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مقاومة التوسع الهاشمي، والدفاع عن استقلال سورية دون محاولات إحياء الهلال الخصيب.

تركزت سياسة الحزب في وحدة دولة سورية واستقلالها، وتذكير المواطنين بماضيهم الوطني. وفي عام 1955، انتهج الحزب سياسة اشتراكية. ومن أهم زعمائه: صبري العسلي، أمينه العام؛ والدكتور عبدالرحمن الكيالي، أمينه في حلب؛ ولطفي الحفار، أمينه في دمشق.

4. الحزب الشيوعي العربي

أُسِّس عام 1946 وترأسه خالد بكداش. نشط بين عامَي 1948 و1952، حينما كانت موسكو تشجع التوجهات الشيوعية في المنطقة، وراء ستار التصدي للاستعمار. بيد أن تأثيره ظل ضعيفاً؛ بل إن أعضاءه القلة، كان انضواؤهم إليه إعجاباً بشخصية بكداش، أكثر منه رغبة في الشيوعية.

5. حركة التحرر العربي

حركة تابعة لأديب الشيشكلي، وقد حُلت بعد سقوطه. كانت تميل إلى تنفيذ أهداف الغرب في سورية. وأهم أعضائها: مأمون الكزبري، وعبدالحميد خليل.

6. حزب البعث العربي الاشتراكي

حزب عربي عقائدي يهدف إلى تحرير التراب العربي كله وتوحيده في ظل نظام تقدمي- اشتراكي، وهو يرى أن نضال الجماهير على امتداد الوطن العربي من أجل تحقيق هذا الهدف شرط لانبعاث الأمة العربية وإسهامها في صنع مستقبل الإنسانية. أسسه في دمشق عام 1943، كل من ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، باسم حزب البعث العربي، واندمج فيه عام 1953 الحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني، فأصبح يطلق عليه حزب البعث العربي الاشتراكي، وفي الخمسينيات، انتشرت مبادئه في العديد من الدول العربية. وتولى الحكم في العراق، في 8 فبراير1963؛ وفي سورية، في 8 مارس 1963.

والعديد من الأحزاب، التي تكونت في حقبة الخمسينيات والستينيات، ومعظمها يحمل شعارات الاشتراكية والشيوعية ـ لم تتمكن من العمل، منفردة؛ فحالفت أحزاباً، وائتلفت أخرى في جبهات، هي:

أ. الجبهة الوطنية التقدمية

تتولى الحكم منذ أوائل السبعينيات (1972). ويقودها حزب البعث العربي.

ـ الاشتراكي، برئاسة الرئيس حافظ الأسد، ثم الرئيس بشار الأسد منذ 20 يونيه 2000, وتشمل إلى جانب البعث:

ـ الحزب الاشتراكي العربي، برئاسة عبدالغني كانوت.

ـ الحزب الوحدوي الديموقراطي الاشتراكي، برئاسة أحمد الأسد.

ـ الحركة الاشتراكية الوحدوية العربية، برئاسة سامي صوفان.

ـ الحزب السوري العربي الاشتراكي، برئاسة صفوان قدسي.

ـ الحزب الشيوعي السوري، برئاسة خالد بكداش، ثم يوسف فيصل.

ب. المعارضة السورية

بعض الأحزاب، لم تنضم إلى التحالف الحاكم، وآثرت معارضة السلطة؛ فحُظِرت، ولُوْحِق قادتها وأعضاؤها، منذ سبعينيات القرن العشرين، واعتقل كثير منهم، وفر بعضهم إلى خارج سورية.

وتنضوي الأحزاب المعارضة إلى تجمعَين، هما الجبهة الوطنية لإنقاذ سورية، التي أعلن تكوينها في باريس، في 23 فبراير 1990؛ والتجمع الوطني الديموقراطي، الذي أعلن تكوينه في سورية، في مارس 1980. وتكاد هاتان الجبهتان تكونان عديمَ التأثير في القرار السوري.

ج. الجبهة الوطنية لإنقاذ سورية

ينضوي إليها:

ـ الإخوان المسلمون برئاسة عبدالفتاح أبو عزة، ومحمد ضاوي.

ـ الحزب الوطني الديموقراطي، برئاسة أحمد سليمان.

ـ الاتحاد الاشتراكي العربي، برئاسة أحمد الجراح.

ـ حزب البعث (المنشق)، برئاسة شبلي العيثمي، ومحمد عمر برهان.

ـ جماعة المستقلين (مسؤولون سابقون في الحكم السوري)، ومنهم: الرئيس السابق، أمين الحافظ؛ ومصطفى حمدون وأحمد أبو صالح، وزيران سابقان؛ ومحمد الهواش، عميد سابق في الجيش السوري.

د. التجمع الوطني الديموقراطي

يضم الأحزاب التالية:

(1) الحزب الشيوعي السوري، (المكتب السياسي)، ويرأسه رياض الترك المعتقل منذ أكتوبر 1980).

(2) الاتحاد الاشتراكي العربي، ويرأسه جمال الأتاسي، الذي تخلى عن الجبهة الوطنية الحاكمة، بعد أشهر من تكوينها عام 1972.

(3) حزب البعث الديموقراطي العربي، الذي تُعَدّ عضويته، حالياً، شبه مُعَلَّقة.

(4) حزب العمال الثوري، الذي أنشأه المرحوم ياسين الحافظ.

(5) حزب الاشتراكيين العرب.

سابعاً: إجمالي الناتج القومي
بلغ إجمالي الناتج القومي عام 2000، 50.9 بليون دولار؛ بمعدل نمو 3.5%. وبلغ متوسط دخل الفرد 3100 دولار. ويعتمد الاقتصاد السوري على الزراعة (29%)، والصناعة (22%)، والخدمات (49%).

استقلال سورية وعدم استقرار الحكم

ساعدت دولة سورية ظروفها الخاصة، إبّان الحرب العالمية الثانية، على التخلص من الاحتلال الأجنبي، قبل غيرها من دول الشرق العربي. فقد جلت عنها، في 17 أبريل 1946، القوات الإنجليزية- الفرنسية المشتركة؛ في حين كانت بريطانيا لا تزال تساوم كلاًّ من مصر والعراق في منحها امتيازات عسكرية مقابل الجلاء. وبينما كانت قضية الجلاء، تشغل الرأي العام في كلّ من مصر والعراق؛ كانت سورية، أحزاباً وقوى سياسية، منشغلة بموضوع الاتحاد العربي وكيفية تكوينه.

اختارت دولة سورية قبل الجلاء، نظام الجمهورية البرلمانية. وأسفرت الانتخابات البرلمانية، عام 1943، عن فوز حزب الكتلة الوطنية، ما ساعد على اختيار زعيمه، شكري القوتلي، رئيساً للجمهورية.

مهدت الحرب العالمية الثانية لنشوء طبقة بورجوازية جديدة، قوامها كبار التجار، الذين ازدادت مكاسبهم، أثناءها. وسرعان ما سعت إلى تسخير الأحزاب التقليدية، ونظام الجمهورية البرلمانية، لوصولها إلى السلطة. وقد تمكنت تلك الأحزاب، أحياناً، من الجمع بين البورجوازية الناشئة والزعماء التقليديين، الذين يعتمدون على الملكية الزراعية أو الطائفة الدينية، وهم غالبية في المجلس النيابي؛ على الرغم من أنهم غير منتمين إلى أحزاب. وتمخض ذلك بظهور أحزاب، أهمها: فهي الحزب الوطني وحزب الشعب.

وفي 29 نوفمبر 1948، أيْ في الذكرى الأولى لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الرقم 181، الذي يوصي بتقسيم فلسطين، اندلعت تظاهرات عنيفة في المدن السورية، صادمت رجال الشرطة، فسقط عدد من الضحايا؛ ما اضطر الحكومة، في 3 ديسمبر، إلى الاستنجاد بالجيش، فكان ذلك إيذاناً بتدخل القادة العسكريين في الشؤون السياسية.

وقد استهله حسني الزعيم، رئيس الأركان العامة للجيش السوري؛ تسانده جماعة من الضباط القوميين، والسياسيين الراديكاليين، فاستولى، ليلة 29/30 مارس 1949، على السلطة، وأطاح الحكم القائم. ولاقى هذا العمل رضي عامة الشعب. هكذا أقحم الجيش في السياسة، والبلاد في الفوضى والمتاعب.

أولاً: الاستقلال

كان لهزيمة فرنسا، في الحرب العالمية الثانية، أبعد الأثر في تطور سورية؛ إذ كانت هي ولبنان، هما أسبق البلاد العربية المجاورة إلى الاستقلال، من دون التقيد بواحدة من المعاهدات غير المتكافئة.

اتخذ الرأي العام السوري موقفاً سلبياً من الصراع الدولي، وعلقت أحزابه نشاطها؛ لأن سورية كانت بعيدة عن مسرح القتال. بيد أن فئات قليلة، شذت، مثل: الحزب القومي السوري، نصير النازية، وشبيهها في عقائده السياسية وتشكيلات الشباب، التي ألفها في الثلاثينيات.

أمّا الحزب الشيوعي السوري، الفريد في نوعه، في الشرق العربي حينذاك، فكان فرعاً من الحزب الشيوعي الفرنسي؛ لذلك بقي قائماً حتى حل الحزب الرئيسي، لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية الفرنسية.

لقد عارض الشيوعيون الكتلة الوطنية، إلا أنهم وافقوها على مشروع معاهدة 1936؛ لأن اليسار الفرنسي كان المسؤول عنها. ولم يلبثوا أن عانوا انقسامات، ناجمة عن اختلاف أعراقهم؛ فمنهم الأرمن والأكراد، فضلاً عن العرب.

أثار توقيع فرنسا للهدنة بلبلة شديدة لدى السلطات الفرنسية في الشرق؛ إذ إن دولة سورية بعيدة عن منال المحور، وفي استطاعة تلك السلطات أن تستمر في التعاون مع بريطانيا، ولا سيما أن الجنرال شارل ديجول، انتقل إلى لندن، حيث وجَّه نداءه التاريخي، في 18 يونيه 1940، داعياً الفرنسيين إلى نبذ الهدنة، واستمرار القتال إلى جانب بريطانيا.

وقد أبدى الجنرال متلهاوزر، القائد الفرنسي الجديد في الشرق، ميله إلى استمرار التحالف مع بريطانيا؛ ما شجع الجنرال البريطاني، أرشيبالد ويفل، على زيارة خاطفة إلى دمشق، في نهاية شهر يونيه. إلا أن القائد الفرنسي/ ما لبثت أن تنكر لميله، بأيد\ حكومة فيشي، التي أعلنت أن من أهدافها المحافظة على الإمبراطورية؛ حاذياً بذلك حذو المقيم الفرنسي العام في كلّ من تونس ومراكش، اللذَين أعلنا ولاءهما لها.

وفي أوائل يوليه 1940، تأزمت العلاقات بين بريطانيا وحكومة فيشي، إثر تعرض الأسطول الفرنسي، في وهران، لغارة بريطانية بحرية؛ فانقطعت العلاقات الدبلوماسية بين الطرفَين. وبادرت بريطانيا إلى تحديد موقفها من سلطات فيشي، في سورية ولبنان؛ لأهمية موقع القطرَين وتأثيره تأثيراً مباشراً في النشاط البريطاني الحربي في الشرق الأوسط؛ إذ لو أمكن القوات الألمانية الوصول إليهما، لأمست مصر وقناة السويس بين فكَّي كماشة محورية.

فأصدرت الحكومة البريطانية، في 2 يوليه، التصريح التالي:” تسجل الحكومة البريطانية إعلان الجنرال متلهاوزر، القائد الفرنسي العام في المشرق، بأن الحرب قد انتهت في دولة سورية . وهي ترى أن ذلك لا يعني، إنْ فكرت كلّ من إيطاليا أو ألمانيا في احتلال سورية أو لبنان، وحاولت ذلك، على الرغم من اعتراض القوات البريطانية البحرية، أن تقف القوات الفرنسية ساكنة، من دون محاولة مقاومتها”.

ومن ثَم، أعلنت الحكومة البريطانية، أنها لن تسمح لأيّ دولة معادية باحتلال دولة سورية ولبنان، أو اتخاذهما قاعدة للهجوم على أقطار الشرق الأوسط، التي تقع على بريطانيا مسؤولية الدفاع عنها، أو تحويلهما إلى بؤرة للاضطرابات. وهددت بأنها حرة في اتخاذ أيّ إجراءات لمواجهة هذه الحالة، دفاعاً عن مصالحها. وأوضحت أن أيّاً من إجراءاتها، لن يكون له تأثير، في المستقبل، في الوضع السياسي للأقاليم الواقعة تحت الانتداب الفرنسي.

وسرعان ما ازدادت العلاقات سوءاً، بين بريطانيا وسلطات حكومة فيشي. وأغلقت الحدود بين دولة سورية ولبنان، من جهة؛ والأقطار الخاضعة للنفوذ البريطاني، والمحيطة بهما، من جهة أخرى؛ ما أضر بالاقتصاد السوري. وعمدت السلطات الفرنسية إلى إبعاد ذوي الميول البريطانية؛ لا، بل طاول انتقامها أولئك الذين كانت قد تغاضت عنهم، أثناء تحالفها مع بريطانيا، مثل عبدالرحمن شاهبندر؛ لأنهم كانوا ينادون بملكية دستورية، سيضمها، لا محالة، اتحاد مع العراق أو الأردن؛ فهُم، إذا، أصدقاء للإنجليز ولذلك، اشتدت الريبة في صِلة حكومة فيشي باغتيال شاهبندر، في صيف 1940.

في أوائل عام 1941، وفد على دمشق ألفون أوتوهنتج، وزيراً ألمانياً مفوضاً في العاصمة السورية؛ وهو المعروف بنشاطه في الشرق الأوسط، إبّان الحرب العالمية الأولى، حتى لقب باللورنس الألماني. وشرع يستميل زعماء دولة سورية . وتألَّف شعبها بإثارة موضوع الوطن القومي لليهود في فلسطين؛ لا، بل روج فكرة عقد مؤتمر إسلامي في دمشق، لبحث هذه القضية. فامتعضت منه السلطات الفرنسية وطلبت إبعاده عن البلاد. واستجابت لها ألمانيا، ولَمّا يمضِ على تعيينه شهران.

لم تقتصر محاصرة دولة سورية على حرمانها التجارة مع الأقطار المحيطة بها؛ بل تسببت كذلك بانخفاض سعر الفرنك الفرنسي، عام 1940، انخفاضاً كبيراً؛ وذلك لأن بريطانيا كانت قد حددت له، في بداية الحرب، سعراً مجزياً مقابل الجنيه الإسترليني، ولما انقطعت التجارة مـع الأقطار الآنفة؛ والتي ترتبط بمنطقة الإسترليني، حدث ذلك الانخفاض. وفقد التجار ثقتهم بالعملة الورقية، التي يصدرها بنك سورية، المؤسَّس برؤوس أموال فرنسية.

وفضَّل كبار الملاك اختزان القمح على بيعه بالسعر المنخفض؛ فنشطت السود السوداء، واستشرت الأزمة الاقتصادية، مهددة سورية بالمجاعة.

رأى القوتلي أن إنقاذ البلاد مما تعانيه، إنما يكمن في إلغاء نظام المديرين، وإعادة العمل بالدستور، وإجراء انتخابات حرة؛ وتأليف حكومة تعبّر عن الإرادة الشعبية، وتتسلم السلطة من الانتداب. وقد استجاب الجنرال دنتز، المندوب الفرنسي السامي بعض هذه المطالب في أضيق نطاق، في أوائل أبريل 1941 لبعض تلك الرؤى؛ إذ أبى إجراء الانتخابات النيابية، ورفع الرقابة عن الجرائد والحريات العامة، متعللاً بظروف الحرب؛ ولكنه عهد إلى خالد العظم بتأليف مجلس وزراء، وأبدى استعداداً لتعيين مجلس دولة، يتولى السلطة التشريعية.

1. تدخّل الحلفاء (1941)

هاودت بريطاني حكومة فيشي، عسى ألاّ تحالف الألمان؛ فلم تعكّر عليها المستعمرات الفرنسية في الشرق. بيد أنها ساعدت ديجول على الاحتفاظ بالمستعمرات، التي اختارت الانضمام إليه، في أفريقيا الاستوائية؛ ولكنها سرعان ما تخلت عن مساعدته. وفي الوقت عينه، كانت تخطط، منذ 25 أبريل 1941، للتدخل في دولة سورية ، منفردة أو بالتعاون مع تركيا، إذا ما تسللت قوات المحور إلى الشام. إلا أن كثرة أعباء القيادة البريطانية في الشرق الأوسط وتعدُّد جبهاتها، حملا الجنرال ويفل على التهديد بالاستقالة، إذا فتحت جبهة أخرى في سورية.

وعزز ريبة بريطانيا توقيع حكومة فيشي اتفاقاً مع الألمان في 21 مايو 1941، يسمح لها بتعزيز قواتها في سورية ولبنان؛ ويخولهم استخدام المطارات الفرنسية فيهما، من أجل نقل المساعدات إلى العراق. وفي أوائل يونيه 1941، أصبحت الحملة الإنجليزية على دولة سورية ، بالتعاون مع حكومة فرنسا الحرة، أمراً ممكناً؛ إذ تخلّى الجيش البريطاني عن كريت، وقضى على ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق؛ فأمست القوات البريطانية، تُحدِق بالشام من الجنوب والشرق.

حرصت بريطانيا، قُبَيل الحملة، على الفوز بتأييد السوريين، فأغرتهم بأن الحلفاء سيعلنون، عند بدئها، إنهاء الانتداب. ويذكر مذكرات ونستون تشرشل، أن الحكومة البريطانية، أرغمت حكومة فرنسا الحرة على ذلك الإعلان. ويشير إلى أنه أرسل خطاباً، في 6 يونيه 1941، إلى ديجول، يسجل على الأخير وعده “باستقلال سورية ولبنان”.

وأنه من الضروري إعطاء هذا الوعد جميع الضمانات التي يستحقها. ويجب ألاّ تكون المسألة السورية سبباً لاضطراب الأمن في الشرق الأوسط. وباستثناء هذا التحفظ الخاص بالأمن، يجب أن نبذل ما في وسعنا لإرضاء أماني العرب واحترام مشاعرهم”.

وعشية بدء الحملة في 8 يونيه 1941، وجّه الجنرال كاترو[1]، الذي عينته حكومة فرنسا الحرة مندوباً لها في القاهرة، التصريح التالي إلى الشعبَين: السوري واللبناني:” لقد أتيت لوضع حدّ لنظام الانتداب، ولأعلن لكم أنكم أحرار ومستقلون. وعلى هذا، ستصبحون، منذ هذه اللحظة، شعبَين مستقلَّين، ذَوّى سيادة. وسيكون لكم الخيار في أن تؤسسوا لأنفسكم دولَتين مستقلتَين، أو أن تنتظموا في دولة واحدة”. وفي اليوم نفسه، نشر مايلز لامبسون، المندوب البريطاني السامي في مصر، تصريحاً مشابهاً.

لم تصادف قوات الحلفاء، في بداية الأمر، مقاومة تذكر. وما إن اقتربت من جنوب العاصمة السورية، حتى جُبهت بهجوم هجوم مضادّ، شنه نحو 35 ألف جندي. وفي 16 يونيه، استردت القنيطرة، واضطرت بريطانيا إلى إرسال تعزيزات جديدة، لم تكن متوقعة. وحُرٍم دنتز أيّ دعم من فرنسا، فطلب، في 21 يونيه، تعرُّف شروط الحلفاء لعقد الهدنة، فأجيب بأنه سيسمح بترحيل الجيش الفرنسي، مع جميع مظاهر الشرف العسكري.

وفي أثناء المحادثات، سقطت دمشق، في 24 يونيه. وسارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحقيق الهدنة، فكانت في 12 يوليه 1941. ونظمت شروطها جلاء قوات حكومة فيشي عن المشرق.

2. النزاع البريطاني ـ الفرنسي (1941 – 1943)

لم يَحُل تحالف بريطانيا وفرنسان الحرة دون اختلافهما. وكانت أولى بوادره قد ظهرت قبل احتلالهما لسورية، حينما احتج ديجول على إصرار بريطانيا على تصريح، يضمن استقلال ذلك البلد؛ ما عُدَّ انتقاصاً من سلطة فرنسا الحرة في تصريف شؤونه السياسية.

ولذلك عُين كاترو “مفوضاً عاماً”، يوم احتلال قوات الحلفاء لدمشق. كما أكد الإنجليز، بعد الهدنة، أنهم لا يرغبون في الحلول محل فرنسا، في أيّ جزء من إمبراطوريتها؛ بل اعترفوا بدورها التاريخي في المشرق، وبامتيازاتها في الشؤون: الثقافية والاقتصادية. ووقع اتفاق بين الجنرال ديجول وأوليفر ليتلتون، وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، عرف باسم اتفاق ديجول – ليتلتون، أقر بمركز ممتاز لفرنسا على الدول الأوروبية، شريطة تنفيذ التعهد الخاص باستقلال سورية. ولكن سرعان ما اتهم الجنرال كاترو الإنجليز، ولَمّا يمضِ على اتفاقهما سوى بضعة أيام، بأنهم يؤامرون الدروز في الانفصال عن سورية، والانضمام إلى شرق الأردن.

سعت السياسة الفرنسية، في الأشهر الأولى من الاحتلال الثنائي، إلى الاحتفاظ بجميع امتيازات الدولة المنتدَبة، حتى نهاية الحرب؛ فما تصريح كاترو، إذاً، بالاستقلال سوى تغيير في الشكل.

أمّا بريطانيا، فكانت ترى أن إبقاء الوضع على ما هو عليه، قد يثير القلاقل في دولة سورية ، فيعرقل النشاط الحربي. لذلك، لا بدّ من تغيير فعلي، مع احتفاظ فرنسا ببعض الامتيازات، مثل تلك التي تتمتع بها بريطانيا في مصر أو العراق. وهكذا أصدر تشرشل تصريحاً، في مجلس العموم، في 9 سبتمبر 1941، جاء فيه: ” إن سياستنا التي أعلناها، واشترك فيها حلفاؤنا، رجال فرنسا الحرة، هي أن ترجع سورية إلى الذين يجب أن يتمتعوا، في أقرب فرصة، بحقوقهم في الاستقلال والسيادة. ولا نري أن يؤجل ذلك إلى نهاية الحرب”.

وفي 28 سبتمبر 1941، أعلن كاترو قيام دولة سورية. وقد اختُلِف في تفسير الخطوة الفرنسية، فرأى فيها بعضهم خضوعاً لتصريح تشرشل في مجلس العموم. وتأوّلها آخرون بأنها إحباط لفكرة الهلال الخصيب، التي راج الحديث بها؛ إذ إن الإعلان الفرنسي، أكد الصفة الجمهورية للدولة السورية الجديدة.

رفضت الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف بالدولتَين الجديدتَين: سورية ولبنان؛ لأن حكومتَيهما لا تمثلان إرادة الشعبيَن: السوري واللبناني. ولكن بريطانيا بادرت إلى الاعتراف بسورية، وعينت فيها وزيراً مفوضاً، هو إدوارد سبيرز. وفي دمشق راود كاترو هاشم الأتاسي على رئاسة الجمهورية، في مقابل الاتفاق السري على وضع معاهدة 1936 موضع التنفيذ. فقبل العمل بالمعاهدة، خلال فترة الحرب؛ ولكن رفض أن يشارك الفرنسيين في مؤامرة على الحركة الوطنية.

لطالما ارتاب الوطنيون السوريون في نيات بريطانيا. وكانت فرنسا الحرة أشد ريبة، أثناء تأليف حكومة سورية في صيف 1942؛ ما زعزع علاقاتها بلندن، حتى إن ديجول هدد بالتخلي عن محالفة الإنجليز، مكتفياً بالانزواء في أفريقيا الاستوائية.

ولكن تغير الموقف العسكري، في شمالي أفريقيا، في أوائل عام 1943، أدى إلى تأييد تشرشل لتولي ديجول زعامة الفرنسيين هناك. وابتعدت ميادين القتال عن الشرق الأوسط، فزالت الحجة، التي طالما تذرع بها الفرنسيون لتأجيل الانتخابات في سورية. وهكذا أصدرت حكومة فرنسا الحرة قراراً، في 24 يناير 1943، يسمح بإجراء الانتخابات، لتكوين جمعية وطنية في البلاد.

3. التصادم

أسفرت الانتخابات النيابية في سورية، صيف 1943، عن فوز الكتلة الوطنية؛ وتولِّي جيل جديد لقيادتها، فتزعمها شكري القوتلي بدلاً من هاشم الأتاسي، وصار المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية.

أصر المفوض الفرنسي، خلال المفاوضات بين الحكومة السورية والسلطات الفرنسية، على أن الانتداب لا يمكن إلغاؤه إلا بمعاهدة، كتلك المبرمة بين بريطانيا وبعض الدول العربية؛ فضلاً عن أنه لا يُلغَى إلا إذا استبدل بعصبة الأمم، التي أقرته، منظمة دولية أخرى. وفنّد السوريون الحجج الفرنسية، وذكروا أن الانتداب غير صحيح، منذ البداية؛ لأن أهل البلاد، لم يستشاروا فيه.

لم يَلِن موقف فرنسا على بعد الضربة التي تلقتها، في نوفمبر 1943، وأضعفت قدرتها على المساومة؛ فاضطرت إلى التخلي عن كثير من امتيازاتها، إذ أعادت إلى حكومة دمشق إدارة المناطق، التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي، مثل: جبل الدروز وبلاد العلويين. ولكنها عادة إلى تشددها، عام 1944، إثر تحرير الأراضي الفرنسية من الاحتلال الألماني، واعتراف الدول بحكومة ديجول المؤقتة. ويلمِح إلى ذلك قول ديجول نفسه، في 25 يناير 1945: “كانت فرنسا أول دولة اعترفت باستقلال دولة سورية ولبنان، اللتَين لها فيهما مركز ممتاز، يجب عليها أن تحافظ عليه. وهي مصممة على أن تمنح أصدقاءها: السوريين واللبنانيين، استقلالاً حقيقياً؛ ولكن التدخل الأجنبي، هو الذي يزيد من تعقيد هذه المسألة”.

غاب عن فرنسا، أن سورية حظيت كذلك باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي باستقلالها؛ كما تأكد استقلالها الاقتصادي باستمرارها في الارتباط بالإسترليني، خوفاً على النقد السوري من التقلبات الشديدة، التي تعتري الفرنك الفرنسي.

كان من المقرر أن تبدأ المفاوضات، بين فرنسا دولة سورية ، في 19 مايو 1945. غير أن الحكومة الفرنسية آثرت، قبل بدئها، أن تلوّح بالقوة، فشرعت، منذ 15 مايو، ترسل تعزيزات عسكرية إلى سورية؛ ما أثار احتجاج دمشق وأدى قطع المفاوضات. بدا ضيق السوريين بالخطوة الفرنسية في إضراب عام، سرعان ما تحوّل إلى اشتباك حول محطة حماة، واصطدامات في حلب، وانتهى إلى ضرب دمشق، جوا،ً في 29 مايو 1945. وقدر ضحايا تلك الأحداث بنحو 500 قتيل و1400 جريح.

عجِلت بريطانيا إلى إنذار فرنسا. فأرسل تشرشل، في 31 مايو1945، إلى ديجول، يقول: “إزاء الموقف الخطير بين قواتكم ودولتَي المشرق، ونشوب القتال العنيف معهما، آسف كلّ الأسف، أن أبلغكم أننا قد أمرنا القائد العام في الشرق الأوسط بأن يتدخل، ليحُول دون الاستمرار في إراقة الدماء؛ محافظة على الأمن في منطقة الشرق الأوسط كلّها.

وتجنباً لاصطدام القوات: البريطانية والفرنسية، نطلب منكم أن تأمروا، في الحال، القوات الفرنسية بأن تكفّ عن إطلاق النار، وأن تتراجع إلى ثكناتها. وما إن يقف وقف إطلاق النار، ويرجع النظام إلى نصابه، نكون مستعدين لأن نبدأ محادثات ثلاثية، في لندن”.

اضطر الإنذار البريطاني الفرنسيين إلى التخلي عن استئثارهم بقضية سورية ولبنان، ورفضهم تدويلها. فعرض جورج بيدو، وزير خارجية فرنسا، أن يطرح موضوع علاقات الدول العربية المختلفة بكلّ من بريطانيا وفرنسا، على الدول الخمس الكبرى، أو الأمم المتحدة. غير أن الولايات المتحدة الأمريكية، رفضت الفكرة، بحجة أن هذا الموضوع معقد، لا تقوى عليه المنظمة الدولية الناشئة.

أيقنت فرنسا أن لا مفر من مفاوضة الحكومة السورية؛ علّها تستطيع أن تظفر ببعض الامتيازات. فأعلنت، في 8 يوليه 1945، أنها ستفوض إليها، خلال 45 يوماً، إمرة القوى التابعة للاحتلال، والتي اختص بها سورية.

صارت الفرصة سانحة للمطالبة بالجلاء، دونما حاجة إلى معاهدة، لا يتكافأ طرفاها؛ كما حدث في بعض الدول العربية. ولكن، عاق اغتنامها اشتراط بريطانيا للموافقة على الجلاء، أن تُنْشَأ هيئة دفاع مشترك للشرق الأوسط، والتي من شأنها أن تؤكد النفوذ البريطاني في الشرق العربي،.

وقد وضحت بريطانيا سياستها الجديدة في تصريح 13 ديسمبر 1945:”سينفذ برنامج الجلاء على نحو، يضمن أن تبقى في المشرق قوات كافية للمحافظة على الأمن، ريثما تقرر هيئة الأمم تنظيم أمن جماعي خاص لهذه المنطقة”.

أَوَّلت فرنسا ذلك التصريح بأن بريطانيا، ستجلو عن سورية ولبنان، وتبقى في هذا الأخير القوات الفرنسية. وبدد الإنجليز هذا اللَّبْس بالإعلان أنهم لا ينوون الجلاء وحدهم، في أيّ حال من الأحوال. وما لبثت القضية أن عرضت، في فبراير 1946، على مجلس الأمن، حيث تبين أن لندن غير متمسكة بالاحتلال، فأُحرجت باريس، واضطرت إلى الخضوع لقرار أغلبية المجلس، الذي حض الأطراف المتنازعة على التفاوض، للوصول إلى اتفاق على مبدأ الجلاء؛ وهو القرار الذي لم يبطله نقض الاتحاد السوفيتي، إذ عَدَّه غير كافٍ، وأراد أن ينص على الجلاء، صراحة. وأضحت مصائب المحتلين فوائد لسورية؛ إذ أعلنت بريطانيا وفرنسا، في 4 مارس 1946، أنهما اتفقتا على الجلاء عنها. وكان جلاؤهما في 17 أبريل 1946.

ثانياً: عدم استقرار الحكم

تداول رئاسة الحكومة السورية، بين عامَي 1943 و1947، ثلاثة من أعيان الكتلة الوطنية: سعدالله الجابري وجميل مردم وفارس الخوري. وقد عانت حكوماتهم تشبُّث فرنسا بما تبقى لها من السلطة، وإصرارها على معاهدة مع السوريين تصون مصالحها؛ فضلاً عن معاناة تلك الحكومات شحوب صورتها، وافتقارها ثقة الشعب. وطاولت المعاناة الكتلة نفسها، بل قضت عليها بعد موت سعدالله الجابري، في 20 يونيه 1947؛ وهو أشد رجالها شجاعة واستقامة، وربما أوْحدهم سمعة ونفوذاً. وقد أنعش ذلك مكانة رئيس الجمهورية، القوتلي؛ وسمح بظهور القوى المناوئة للكتلة المحتضرة.

1. الحزب الوطني

في ربيع 1947، وقبل بضعة أشهر من الانتخابات العامة ببضعة شهور، سعى جناح الكتلة الحاكم إلى توحيد شتيته في الحزب الوطني؛ وكان مركزه في دمشق، حيث يتوافر أتباع رجاله، أمثال: القوتلي وفارس الخوري ولطفي الحفار وصبري العسلي. وقَصَرَ الحزب سياسته على العاصمة السورية، فلم يطرح أيّ منهاج مفصل، ولم يُخضع محازبيه لأيّ نظام؛ بل لم يستطع الادعـاء بأن له قيادة ذات بنية تنظيمية واضحـة.

ولم تعتمد قوّته الانتخابية على الخصائص الذاتية لقادته اعتمادها على سجلهم الوطني. ولذلك، فَقَدَ مرشحوه تأييد الناس، وبخاصة عام1950؛ إذ خرجوا من أحيائهم القديمة، وقطنوا في المناطق السكنية الحديثة؛ فضلاً عن افتقاده ما حظيت به الأحزاب العصرية الأيديولوجية، من محازبين شباب، ونوادٍ سياسية، اضطلعت بدور انطلاقي وتعليمي.

2. حزب الشعب

اتسم رجال الكتلة الوطنية بضيق الآفق، وانحصار طموحهم في صيانة وجودهم السياسي، والمحافظة المحدودة على استقلال الدولة؛ نايهك بتخلُّفهم عن الرأي العام السوري، ولا سيما رأي الشباب، الذين أمسوا عرضة للأفكار: البعثية والشيوعية، فانبروا يطالبون بالاستقلال التام، سبيلاً لإصلاح الحياة الوطنية، وجعْل بلدهم معقلاً، تندفع منه حركة تحرير الدول العربية الأخرى وتوحيدها. فأضحت الكتلة نَخِرة، كثُر معارضوها، وبخاصة أولئك الذين يناوئون القوتلي، مثل: الكتلة البرلمانية الدستورية والكتلة البرلمانية الشعبية.

وما لبث المعارضون أن انشقوا عن الكتلة الوطنية، ليأتلفوا في حزب الشعب، الذي كان يمثل المصالح التجارية في حلب والمنطقة الشمالية، حيث اكتسب تأييد عائلة الأتاسي الإقطاعية، ذات الأملاك الشاسعة، في حمص.

لم يكن حزب الشعب حزباً هاشمياً، ولا ملكياً؛ فقد كان يرتبط بالمؤسسات الجمهورية. وإنما كان حزباً حلبياً، في المقام الأول، ذا بُعْد قومي. ولذلك، جهد في إزالة الحدود بين سورية والعراق، وتحطيم الحواجز التجارية بين البلدين. ورفع، في 23 أكتوبر 1948، إلى الرئيس القوتلي مذكرة، تدعو إلى اتحاد عربي، لمواجهة التهديد الإسرائيلي.

3. انتخابات عام 1947

في انتخابات يوليه 1947، شكل حزبا البعث والشعب جبهة مشتركة، لشن حملة إصلاح انتخابي. ونجحت حملة المعارضة من أجل انتخابات مباشرة، في مرحلة واحدة. وفازت بثلاثة وثلاثين مقعداً جديداً، فارتفع تمثيلها في المجلس إلى 53 نائباً؛ مقابل 24 نائباً للحزب الوطني، يضاف إليهمما يزيد على الخمسين، من المستقلين، الذين لا ينتسبون إلى أيّ حزب. حقق هؤلاء المستقلون التوازن بين الكتلَتين المتنافستَين؛ غير أنهم استمروا أرضاً صالحة للانتهازيين السياسيين، حتى اختفاء البرلمان السوري، عام 1958. وتمثلوا في ملاك أراضٍ ورجال أعمال وزعماء قبائل، وأقليات، ورؤساء عائلات كبرى؛ ومن ثَم، فهُم يضعفون التنظيمات الحزبية.

ففي حلب، فاز جميع زعماء المعارضة، وهم: رشدي الكيخيا، وناظم القدسي، ومصطفى برمدا، ووهبي الحريري، وأحمد الرفاعي. وفي دمشق، أخفق، في الدورة الأولى، معظم كبار الحزب الوطني في الحصول على 40% من الأصوات المشترَطة للنجاح؛ ولكنهم في الدورة الثانية، حين أصبحت الأغلبية القليلة كافية، فازوا بأغلبية ساحقة، مريبة، اتُّهمَت وزارة الداخلية بالمواطأة عليها. وقد انتخب المجلس الجديد، في جلسته الأولى، في 27 أغسطس 1947، فارس الخوري رئيساً له. وفي اليوم التالي، استقالت حكومة جميل مردم، ليكلَّف رئيسها نفسه تأليف الحكومة الجديدة.

بادر القوتلي الحكومة، في أكتوبر 1947، بحملها على تقديم مشروع قانون،يعدِّل المادة 68 من الدستور، فيمكّنه من تجديد انتخابه، في 18 أبريل 1948، خمس سنوات أخرى. أبهج التجديد المستنفعين، ولا سيما أقارب الرئيس القوتلي نفسه؛ ولكنه أساء إلى الشعب السوري، إذ أحدقت به الفوضى وسوء الإدارة، وارتفاع الأسعار وشح المحاصيل. وكلُّ ذلك عاق حركة الإصلاح، وأسهم في انهيار النظام البرلماني السوري.

4. وزارة خالد العظم

أسخطت السوريين نتائج حرب فلسطين عام 1948؛ فعّمت الإضرابات مدنهم الكبرى، امتعاضاً من ضعف الجيش السوري في تلك الحرب، وتبرماً بحالة الطوارئ المعلنة في البلاد؛ فاستقال جميل مردم، في الأول من ديسمبر 1948. وتهيَّب الكيخيا والقدسي، زعيما حزب الشعب الاشتراكي؛ وهاشم الأتاسي، تهيبوا تأليف حكومة جديدة؛ ما اضطر القوتلي إلى استدعاء الخبير المالي، خالد العظم، من باريس، وعهد إليه بتأليفها. فجاءت الوزارة، في 16 ديسمبر 1948، من خارج المجلس النيابي.

واستهلت نشاطها، بعد عشرة أيام، بمواجهة مشكلَتين: أولاهما، الحاجة إلى عقد اتفاق نقدي مع فرنسا؛ الأمر الذي استنكرته المعارضة، وعَدَّته مقدمة لإحياء النفوذ الفرنسي في سورية. وثانيتهما، قضية منح شركة الأنابيب الأمريكية (التابلاين) تسهيلات عبور من المملكة العربية السعودية إلى ميناء الزهراني، جنوب صيدا، على الساحل اللبناني من البحر الأبيض المتوسط؛ وهو ما أوحى معارضو الحكومة بأنه طليعة الاستعمار الأمريكي.

قادة معارضة الحكومة، في داخل المجلس النيابي، حزب الشعب والإخوان المسلمون؛ وفي خارجه، حزب البعث والطلاب. غير أن المعارضة، لم تثنِ خالد العظم عن توقيع اتفاقية سورية – فرنسية، في دمشق، في 7 فبراير 1949، ذللت جميع المتاعب المالية المعلقة. تلاها، في 16 من الشهر عينه، توقيع اتفاقية التابلاين. وقبل إقرار المجلس النيابي للاتفاقيتَين، قاد حسني الزعيم انقلاباً عسكرياً على شكري القوتلي، ليلة 29/30 مارس 1949. ولم يُجْدَ المجلس تردده في إقرار اتفاقية التابلاين؛ إذ وقعها سواه، ليشاع أن الولايات المتحدة الأمريكية، تزكِّي انقلاب حسني الزعيم.

دولة سوريا ..عصر الانقلابات والعودة إلى البرلمانية

كان معظم الضباط القدامى في الجيش السوري، يتحدرون من عائلات كبيرة، حرص الفرنسيون على ولائها، فضموا أبناءها أولئك إلى القوات الخاصة. وإثر رحيل الفرنسيين، في أبريل عام 1946، تمخض ذلك الجيش بجيل من الشباب الوطنيين المنتمين إلى الطبقة الوسطي، التي تربت في مدارس حركات الشباب، التي عرفتها فترة الأربعينيات. وكان لخريجي عام 1946-1947، الذين شاركوا في حرب فلسطين، عام 1948، دور مهم في الجيش، وفي الحياة السياسية في سورية.

أكرم الحوراني والجيش

تنبَّه لأهمية الضباط الواعين سياسياً زعيم من حماة، هو أكرم الحوراني، قاد، منذ عام 1939، حركة الشباب في المدينة. ولم يَكْفِه نشاطها في التذمر على الانتداب والنظام السوري، فسعى على تقويتها، فألحقها، سراً، بتنظيم شبه عسكري، الحزب السوري القومي، أشد القوى عداء للانتداب.

ولم يتردد الحوراني نفسه في الانضمام إلى الضباط الشباب ومشاركتهم في الغارات الفدائية على الحاميات الفرنسية في منطقة حماة؛ لا، بل اقتحم، في ربيع 1945، هو والضابطان الأخَوان: أديب وصلاح الشيشكلي، وبعض رجال الحزب السوري القومي، قلعة حماة، وطردوا حاميها الفرنسية.

كان الحوراني قد حالف، في انتخابات عام 1943، الكتلة الوطنية، فانتخب ممثلاً للجيل الجديد في حماة. واجتمع في دمشق، مع اثنَين من أركان حزب البعث العربي: ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار. وسرعان ما بدا له رحابة القومية العربية، وشمولية الاشتراكية، فاستبدلهما بتقوقع القومية السورية، وأسَّس، في مايو 1945، حزبه العربي الاشتراكي، ليمسي، في نهاية الحرب العالمية الثانية، أعظم الزعماء الشعبيين في شمالي سورية. واجتهد، بعد الحرب، في توسعة نفوذه في الجيش، من خلال اتصالاته بطلاب الكلية العسكرية في حمص. ولم يتوانَ، هو وأديب الشيشكلي، أوائل عام 1948، في قيادة المناضلين، عبْر الحدود الفلسطينية.

مناقشة مجلس النواب لميزانية الدفاع

كانت مناقشة المجلس النيابي السوري لميزانية الدفاع، هي الإيذان بالانقلاب الأول؛ إذ طلب نواب، يتزعمهم نائب، ينتمي إلى حزب يميني ناشئ، الاشتراكي العربي، ويدعى فيصل العسلين طالبوا تخفيض نفقات الدفاع، لا زيادتها، لجيش، قصَّر عن معركة فلسطين. اشتد عَصْف الكارثة الفلسطينية بدولة سورية، حتى إن قادتها: العسكريين والمدنيين، تنافروا، وتراموا بالمسؤولية عن تلك الكارثة؛ ما كان تمهيداً لأول انقلاب عسكري.

أولاً: الانقلاب العسكري الأول، بقيادة حسني الزعيم(ليلة 29/30 مارس 1949)

لم يخطط أكرم الحوراني للانقلاب، على نفوذه ولكن اثنَين من أشد مسانديه العسكريين حماسة: بهيج الكلاس وأديب الشيشكلي، آزرا حسني الزعيم على انقلابه، ليلة 19/30 مارس 1949؛ فكان أولهما نائبه في القيادة، وقاد الثاني وحدات المشاة والمدرعات، التي نفذت الانقلاب، بالزحف إلى دمشق من قطنة، التي تبعد عنها عشرين ميلاً.

نجح الانقلاب، من دون إراقة قطرة دم، وقُبض على رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، وعدد من الوزراء والنواب، أولئك الذين لم يكونوا بالخونة، كما وصمهم الانقلابيون؛ وإنما ساسة لا جذور عميقة لهم بين الشعب، حرمتهم سياسة الانتداب التمرس بالشؤون الحكومية، فلم يتقنوا فن “بناء الدولة”، وتقاسموا السلطة بعد الاستقلال، بأسلوب تقليدي، لا ينم باستيعاب معنى حكومة نيابية شعبية الأُسُس.

واجه حسني الزعيم صعوبات جمة دون شرعية نظامه، سواء في الداخل أو في الخارج؛ إذ كان انقلابه بدعاً في حياة المشرق العربي السياسية، لا سابقة له في منطقة الشرق الأوسط. ففي الداخل، دُعي مجلس النواب السوري لإقرار الوضع الجديد، فتمسك غالبية أعضائه بقسم الولاء للدستور؛ وانحصرت إمكاناتهم في ثلاثة خيارات:

1. تنصيب رئيس المجلس النيابي، وفق العادة، رئيساً للجمهورية، في حالة غياب الرئيس الأصيل أو وفاته. ولكن هذا الخيار طُّرِح؛ لأن رئيس المجلس، فارس الخوري، لم يكن راضياً عن الانقلاب العسكري، وليس لكونه مسيحياً، ولا لخطوته بتأييد شعبي واسع.

2. تعديل الدستور بما ينص على شغور رئاسة الجمهورية، وكيفية مواجهة تلك الحالة.

3. حل مجلس النواب، وإجراء انتخابات جديدة.

لم يتفق النواب على أيّ من تلك الخيارات. وانفضوا من دون اتخاذ أيّ قرار. ورفض معظمهم التعامل مع الحكومة الجديدة، فلم يكن بدّ من حل المجلس.

وفي الخارج، تتردد كثير من الحكومات في الاعتراف بنظام حسني الزعيم. وآثر بعض الدول الترقب، ريثما ينجلي الموقف إذ إن القائد الجديد متهَم بمواطأة عدة دول أجنبية. فقد استُبدِل على اليد الأمريكية في الانقلاب بموافقة الزعيم على مشروع التابلاين؛ واستعداده لتنسيق الخطط مع نوري السعيد، لمكافحة الشيوعية؛ وقبوله مشروعاً دفاعياً للشرق الأوسط، يكون مكملاً لحلف شمال الأطلسي؛ وتوقيعه الهدنة مع إسرائيل، وتحفُّزه لمصالحتها، لولا أنه قُتِل، قُبَيْل مفاوضته في ذلك موشي شاريت، وزير خارجيتها.

وأثار الشك في علاقة بريطانيا بحسني الزعيم مَيْله، في أيامه الأولى، إلى مشروع الهلال الخصيب. وبعث الريبة بالتدخل الفرنسي في الانقلاب وصول أسلحة فرنسية، قُبَيْله إلى الانقلابيين، والصلات الوثيقة التي توطدت، بعد ذلك، بين الزعيم وفرنسا.

وطالما تجاذب اتحاد دولة سورية والبلاد المجاورة مشروعان: الأول، عُرف باسم مشروع سورية الكبرى، ويقضي باتحاد سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن، تحت عرش الملك عبدالله بن الحسين. وعُرف الثاني باسم الهلال الخصيب، ويستهدف إيجاد اتحاد فيدرالي بين سورية والعراق، في ظل العرش الهاشمي في بغداد؛ ما أثار ردود فعل عنيفة في المشرق العربي، وزاد انقساماته حدة؛ ومن ثَم، اتفقت مصر والمملكة العربية السعودية على مناهضة الهاشميين وتطلعاتهم إلى الزعامة.

لم يكن في وسع الملك عبدالله أن يتطلع إلى ضم سورية، وبلاده ما زالت تحت الانتداب البريطاني. وإثر استقلالها استقلالاً شكلياً، عام 1946، طفق يُحيي الفكرة؛ ما دفع مجلس الجامعة العربية إلى عقد جلسة خاصة لوزراء الخارجية، انتهت إلى تصريح مشترك، أوضح أنه ليس لدى أيّ دولة نية العدوان على سيادة دولة أخرى، أو تغيير نظام الحكم فيها. ولكن الأردن تحفَّظ من التصريح العربي، وأعلن أن دولة سورية الكبرى من أهدافه الوطنية.

ولم يفارق العراق طموحه إلى مشروع الهلال الخصيب، مستنداً إلى بعض الاقطاعيين السوريين، مثل: حسن الحكيم ومنير العجلاني، والذين كانوا يخشون تقلبات النظام الجمهوري. وما إن وقع الانقلاب السوري، حتى بادرت الحكومة العراقية في 3 أبريل 1949، على إرسال جمال بابان في مهمة استطلاعية إلى دمشق فتلقفت العاصمة السورية مباحثته في اتحاد عسكري أولاً، وسياسي، يعينها على أيّ هجوم مفاجئ، قد تلجأ إليه إسرائيل في هذه الظروف؛ وينقذ حسني الزعيم من حَرَج مركزه في الداخل، في أيام الانقلاب الأولى.

استلهم نوري السعيد، رئيس الحكومة العراقية آنذاك، السياسة البريطانية فلم يتحمس للاتحاد العسكري، ولا السياسي. لا، بل أوحت إليه يشترط إعادة الوضع الدستوري إلى سورية، قبل النظر في الاتحاد الفيدرالي، أيْ لا بدّ من أن يقر الاتحاد مجلس نيابي سوري.

بيد أن نوري السعيد، لم يتوانَ في حمْل سورية على انتهاج سياسته الخارجية؛ نكاية في مصر وقصراً لنفوذها. وسارع، في 16 أبريل 1949، إلى زيارة دمشق، إثر وقوفه على سعي حكامها إلى الاتصال بجميع الأطراف المتنافسة في المشرق العربي، ووصول مبعوثي حسني الزعيم إلى المملكة العربية السعودية.

أَلَحَّ حسني الزعيم على ضيفه بتحالف عسكري مع العراق. وأبدى استعداداً لمعاونة أنقرة وبغداد على مكافحة الشيوعية الدولية. غير أن نوري السعيد واجهه بمشروع اتفاق، تُوحّد بمقتضاه الجمارك والمواصلات، تمهيداً لاتحاد عسكري وسياسي.

ما إن ودّع حسني الزعيم ضيفه العراقي، حتى استقبل، في اليوم التالي، عبدالرحمن عزام، أمين عام الجامعة العربية، الذي مهد له زيارة القاهرة, في 27 أبريل، وعلى أثرها، اعترفت مصر بالنظام السوري الجديد. ولم يلبث قائد الانقلاب السوري الأول، أن مال إلى التعاون مع مصر والمملكة العربية السعودية، على أساس المحافظة على كيان دولة سورية ونظامها؛ مُؤْثِراً إياها على الاتحاد مع العراق.

1. مواقف فرنسا وبريطانيا من الزعيم

أ. موقف فرنسا

نشطت فرنسا في الحؤول دون أيّ صلات بين الحاكم الجديد والهاشميين؛ إمعاناً في عدائها للوحدة العربية بعامة، ووحدة سورية والعراق أو الأردن بخاصة؛ إذ إنها ستخرج دمشق من منطقة النفوذ الفرنسي، لتلحقها بمنطقة النفوذ البريطاني.

ب. الموقف بريطانيا

استمرت بريطانيا تعترف بسيادة فرنسا ورغباتها في دولة سورية، فلم تشجع المطامع الوحدوية لكلّ من الملك عبدالله أو الوصي على عرش العراق؛ بل قاومت، صراحة، جميع الخطط الوحدوية. بيد أن موقفها ذاك، لا هو بدد الريبة الفرنسية في الدوافع البريطانية؛ ولا هو أرضى الوطنيين العرب؛ بل زاد سخطهم على لندن. وأيقن السوريون، أن مشروعَي الهلال الخصيب وسورية الكبرى، ليسا سوى ستار للإمبريالية البريطانية؛ ولذلك، فقد رفضتهما بريطانيا.

واتهمها أولئك الزعماء، الذين فهموا التوازن، الذي تتوخاه، بأنها تستجيب المطامع الفرنسية، وتحيي روح الانتداب. واضطرت الحكومة البريطانية، غير مرة، إلى نفي موافقتها على مشروع دولة سورية الكبرى، والإعلان أن موقفها هو الحياد التام.

2. حكم حسني الزعيم

استنّ حسني الزعيم بسُنة مصطفى كمال العلمانية في تركيا. فطهَّر الجهاز الحكومي، وخيَّر رجاله، خلال عشرة أيام، بين الخدمة العامة والأعمال والمصالح الخاصة. وعيَّن محافظين جدداً، يتمتعون بالسلطتَين: المدنية والعسكرية. وجهر برغبته في تحديد الثروات الطائلة، وإجراء إصلاح زراعي. وخطط مشروعات عامة عديدة. وعقد اتفاقيات، تجهيز مرور أنابيب النفط بالأراضي السورية. ومنع استخدام ألقاب، كالباشا والبك.

وندد حسني الزعيم بالشيوعية؛ لمعارضته مبادئها مبادئ القومية العربية، التي ينتمي إليها الشعب السوري. وزعزع الزعيم المجتمع الدمشقي، المتشبث بالتقاليد الدينية بإلغاء الأوقاف الإسلامية؛ واستبدال قوانين: مدنية وجنائية وتجارية، عصرية، مقتبسة من قوانين مصر خاصة، استبدالها بقوانين الشريعة الإسلامية. ومنح المرأة، للمرة الأولى، حق الانتخاب. وأعلن سخطه على اللباس العربي التقليدي، فامتلأت الشوارع بالقبعات الأوروبية، وتفلتت النساء من بعض قيودهن.

وسرعان ما فاجأ حسني الزعيم مجلس الوزراء، في يونيه 1949، بقرار ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، من خلال الاستفتاء الشعبي. جرى الاستفتاء في 24 يونيه 1949، وأسفر عن فوزه بأغلبية الأصوات فبادر إلى التخلي عن رئاسة الوزراء، ليتولاها كردي آخر، هو محسن البرازي. وهو محام، تعلم في فرنسا؛ كان قبل الانقلاب مديراً لمكتب شكري القوتلي؛ وهو من صاغ البطاقة الانتخابية في الاستفتاء.

سعى حسني الزعيم، بعد انتخابه، إلى تدعيم الفردية المطلقة. فتنكر لرفاق الأمس، أولئك الضباط، الذين شاركوه في الانقلاب. وقرّب الأقليات: العِرقية والدينية، فعهِد بالمراكز المهمة في الجيش إلى أكراد وعلويين. ومنح نفسه رتبة مارشال.

وأخضع الصحافة للرقابة. وعطل نشاط الأحزاب، من دون أن يستعيض عنها هيئة سياسية تصله بالشعب. فتنكرت له؛ بما فيها تلك التي كانت قد رحبت بالانقلاب به؛ إذ شرع حزب الشعب يعارضه، حين اتضح عداؤه للعراق، فاستقال فيضي الأتاسي، من الحكومة بعد ثلاثة أيام من تأليفها.

وكذلك حزب البعث، الذي لفته إلى خطر الرقابة على الصحافة، وتزايد دور الاستخبارات؛ بل كان قد حذره، في 24 مايو 1949، من ارتكاب أخطاء نُظُم الحكم السابقة، بالتزام هذا الجانب أو ذاك، في الخلافات ما بين الدول العربية.

إذاً، لم يكن حسني الزعيم سياسياً بارعاً، قدر ما كان ضابطاً عطشاً إلى السلطة. ما إن انتخب رئيساً للجمهورية، حتى سارع إلى المجاهرة بانحيازاته الدولية، فأعلن لأحد المراسلين: إذا لم يكن ممكناً تقوية الجامعة العربية، لمواجهة إسرائيل؛ فإنني سأحالف مصر والمملكة العربية السعودية ولبنان. وأكد معارضته لنشوء دولة سورية الكبرى. وتنبأ بتوثُّق العلاقة بالدولة الصديقة، فرنسا، وتمام التفاهم بين باريس ودمشق. كما تقرَّب من تركيا، فأثار حفيظة السوريين، الناقمين من استيلائها على لواء الإسكندرونة.

لقد قصَّر نهج حسني الزعيم الآنف في عمر عهده، الذي لم يتجاوز أربعة أشهر ونصف الشهر. ولعل القاضية، كمنت في علاقته بفرنسا، المناهضة لمشروع الهلال الخصيب؛ وتسليمه ضيفه، أنطون سعادة، الساعي إلى هذا المشروع، إلى الحكومة اللبنانية، التي أعدمته. فاستشاط على الزعيم ضباط في الجيش السوري، موالون لسعادة وحزبه، القومي السوري؛ منهم فضل الله أبو منصور، الذي حاصر، في انقلاب سامي الحناوي، قصر الرئاسة السوري، حيث قبض على حسني الزعيم، ومعه محسن البرازي وأعدمهما.

ثانياً: الانقلاب الثاني بقيادة سامي الحناوي (أغسطس 1949)

كان سامي الحناوي قائداً لفِرقة مدرعة. برر انقلابه بإنقاذ الأهداف، التي تنكر لها حسني الزعيم. غير أن التدخل الأجنبي في حركته، كان مبيناً؛ إذ دعمه العراق بالمال. ورحبت الجرائد البريطانية بخطوته، التي رأت فيها تلك الفرنسية مؤامرة، اشتركت فيها بريطانيا وحكومة نوري السعيد.

موّه الحناوي استجابته للرغبة البريطانية ـ العراقية في تحقيق الهلال الخصيب، بإعلانه إشراك السياسييين، من مختلف الأحزاب، في حكومة مؤقتة، ريثما تجري الانتخابات لجمعية تأسيسية، يناط بها تقرير مستقبل البلاد؛ وإبعاد الجيش عن السياسة، وقصر مهمته على المراقبة، تحت إشراف مجلس عسكري، تكون من أحد عشر ضابطاً، برئاسة الحناوي.

وعهِد إلى المناضل المحنك، هاشم الأتاسي، رمز المقاومة للانتداب الفرنسي، بتأليف تلك الحكومة. وإذا بحزب الشعب، يستأثر بخيرة الحقائب الوزارية. واللافت إشراك حزبَي البعث والعربي الإشتراكي، اليسارييَن فيها، على يمينيتها، ممثلَين في ميشيل عفلق وأكرم الحوراني، أنهما استقالا، حينما أوشكت أن تنفذ مشروع الهلال الخصيب.

أُجريت انتخابات الجمعية التأسيسية، في نوفمبر1949، وأسفرت عن ازدياد نفوذ حزب الشعب، وتقدُّم الأحزاب الجديدة، ذات النزعة اليسارية، على الحزب الوطني؛ ولكن بدلاً من أن تحل محله، ازداد عدد النواب المستقلين، المؤيدين للهلال الخصيب، مثل: زكي الخطيب ومنير العجلاني.

انبرى الحناوي يصلح ما أفسده حسني الزعيم بعداوته للأردن والعراق، وصداقته لمصر والمملكة العربية والسعودية وفرنسا. فتدارك ما عطله من اتفاقيات دولية. واستحث دعاة الوحدة في بغداد على عمل سريع، ومحدد؛ محذراً من النتائج الوخيمة، التي ستنجم عن التأجيل.

وحض على مناقشة العلاقات بالعراق؛ وهو ما وصفته الجرائد المصرية بأنه بيع لاستقلال سورية؛ وهو نفسه ما سيؤكده الشيشكلي فيما بعد. لا، بل حاولت القاهرة أن تصرف عن دمشق عُقبى الهلال الخصيب، فاقترحت، في أكتوبر 1949، فكرة الدفاع العربي المشترك، أو مشروع الضمان الجماعي.

حال انقسام الحكومة على نفسها، وتعرُّضها لضغوط خارجية متصارعة، دون تحقيق هوى الحناوي. وأكد رئيسها أنها حكومة انتقالية، لا يمكنها أن تلزم الدولة بسياسة طويلة الأمد، قد يكون لها تأثير حاسم في مستقبلها. حزب الشعب، ممثلاً في وزير الشؤون الخارجية، ناظم القدسي، عارض التضحية بالنظام الجمهوري، أو إخضاع دولة سورية للمعاهدة البريطانية ـ العراقية.

وارتأى أن يقتصر الاتحاد مع العراق على اتحاد جمركي، وبرلمان فيدرالي، يمثل البلدَين. ونفى بشدة أن يكون حزبه نصيراً للهاشميين. ولعل كثيراً من الساسة السوريين، بمن فيهم أعضاء في حزب الشعب، كانوا يقبلون اتحاداً مع العراق، بشروط أهمها إبعاد نوري السعيد، الذي يَعُدُّونه صنيعة بريطانيا. ناهيك من أنصار حزبَي البعث والعربي الاشتراكي، الذين كانوا يرتابون في نيات حزب الشعب، وفي كثير من النواب المستقلين، الذين فازوا في انتخابات نوفمبر 1949.

ثالثاً: الانقلاب الثالث، بقيادة أديب الشيشكلي (ديسمبر 1949)

لم ينتم العقيد أديب الشيشكلي إلى أيّ من حزبَي العربي الاشتراكي والقومي السوري، وإنما كان على صلة ودية بهما. فزعيم الأول، أكرم الحوراني، هو نسيبه، وصديق طفولته، في حماة، وشبابه كذلك. وللشيشكلي علاقة قديمة بأعضاء الحزب الثاني، ولا سيما أبي منصور.

ولكن القربى، لم تكن الآصرة الوحيدة بين الحوراني والشيشكلي، وإنما كان العداء للعراق، هو عروتهما الوثقى؛ بل هي التي دفعتهما إلى انقلابهما، حينما وجَّه الشيشكلي دباباته نحو دمشق، في 19 ديسمبر 1949، ليدافع عن نظام الحكم الجمهوري في سورية، وينقذها من النفوذ البريطاني والوحدة مع العراق ونظامه الملكي.

بدا الشيشكلي وكأنه بطل استقلال دولة سورية ؛ على الرغم من ميشيل عفلق، الذي كَبُر عليه هذا اللقب. فالرجل أتقن حياكة الدسائس، وأجاد تنظيم الرجال. توارى عن السلطة، عامَي 1950 و1951، ريثما يتمرس بها. فأملى للسياسيين، خلالهما، في اصطراعهم: يكتبون مسودات دساتير، ويصدرون بيانات، ويحيكون الدسائس مع قوى أجنبية.

برر الشيشكلي حركته بالحفاظ على النظام الجمهوري، أيْ منع مشروع الهلال الخصيب. ووعد بعدم تدخّل الجيش في السياسة، إلا أنه لم يبر بوعده. إذ سرعان ما جعل من الأركان العامة سلطة منافسة للجمعية التأسيسية. وضعضع حزب الشعب، فأجبر رئيس الحكومة، ناظم القدسي، على الاستقالة، ليعهد برئاستها إلى خالد العظم، وهو من المستقلين؛ على أن يشرك فيها أربعة وزراء من ذلك الحزب، كُلِّفوا وزارات ثانوية؛ بينما عُهِد إلى أكرم الحوراني، صديق الشيشكلي، بوزارة الدفاع؛ وتولّى الداخلية أحد المستقلين.

لم يَطُل الجفاء بين حزب الشعب وأديب الشيشكلي. وربما أسهم في انحساره استحسان نظام القدسي، بعد تنكُّر، لاقتراح مصر ضماناً اجتماعياً، في إطار سيادة كلّ دولة من الدول الأعضاء في الجامعة العربية. ولذلك، لم يَعُق الشيشكلي الجمعية التأسيسية عن وضع الدستور؛ وتحوُّلها، بعد ذلك، إلى مجلس نيابي، مدته أربع سنوات.

وقد أدى ذلك إلى استقالة الحوراني؛ وتكليف ناظم القدسي، في يونيه، تأليف حكومة جديدة. وأنجزت الجمعية، في سبتمبر 1950 وضع دستور، نص على أن الجمهورية السورية جمهورية عربية، شعبها جزء من الأمة العربية. وحسم الجدل في دينها، باشتراطه إسلام رئيس الدولة فقط. ناهيك بتدعيمه النظام البرلماني، وتخويله مجلس النواب انتخاب رئيس الجمهورية، ومنح الثقة بالسلطة التنفيذية وحجْبها عنها.

لم يستطع النظام الدستوري الجديد السيطرة على تنازع الجيش والحكومة، ولا على تصارع القوى السياسية. فاستمر الخلاف، مثلاً، بين حزب الشعب الحاكم وحزب البعث، الذي أوعز إلى الطلبة بالاحتجاج على تحوُّل الجمعية التأسيسية إلى مجلس نيابي. وزاد الخلافات الداخلية تفاقماً، أن ناظم القدسي كان متردداً غير حازم، ولا حاسم.

وزاده ضعفاً، أن حزبه لم يسمح له باتخاذ موقف واضح إلى جانب الغرب. فاستقال في 9 مارس 1951؛ وكانت استقالته دليلاً على فشل سياسة الحرب: الداخلية والخارجية. واستشرت تلك الخلافات، إثر رفض حزب الشعب الانضمام إلى حكومة وحدة وطنية، نِيط بخالد العظم تأليفها؛ وبقيت دولة سورية من دون حكومة ثمانية عشر يوماً، حتى ألّف العظم وزارة، في 27 مارس 1951، غالبيتها من المستقلين؛ باركها كلّ من الحوراني والجيش، وناوأها بشدة حزب الشعب.

مهد ابتعاد حزب الشعب عن الحكم لاستعادة الحزب الوطني نشاطه. ولكنه لم يعاون الشيشكلي، بل زعم أنصاره أنهم أقدر من الجيش على مناهضه مشروع الهلال الخصيب. ولذلك، طفق صبري العسلي يناشد شكري القوتلي وجميل مردم، اللاجئَين إلى مصر، العودة إلى دولة سورية . واستأنفت مصر والمملكة العربية السعودية تأييدهما للحزب الوطني؛ لأنهما كانتا أميل إليه منهما إلى النظام العسكري. ومن ثَم، لم تكن علاقة الشيشكلي بمصر الملكية أو بالمملكة العربية السعودية، بأفضل منها بالعراق.

واضطرت سورية، في أبريل 1951، إثر مخالفة إسرائيل شروط الهدنة، بردمها بحيرة الحولة، تمهيداً لإقامة مستعمرات متاخمة للحدود السورية، اضطرت إلى استنجاد العراق ومصر معاً. فبادر العراق، بتقديم المساعدات العسكرية في 17 مايو 1951، إلى دفع قواته إلى أراضيها. ولم تتحرج حكومتها من ذلك؛ لأن حزب الشعب، كان قد دلل على انصرافه عن فكرة الهلال الخصيب، إذ رفع ناظم القدسي، إبّان رئاسته الحكومة السورية، مشروعاً إلى الجامعة العربية، بإنشاء اتحاد شامل، على أساس تطوير نظام الجامعة؛ ونبذ فكرة الاتحادات الجزئية، ومنها الهلال الخصيب، وسورية الكبرى.

على المستوى الداخلي، حاول العظم حل مجلس النواب، لرفضه الموافقة على اعتمادات إضافية للدفاع، أو السماح بزيادة رواتب الموظفين. ولكن الرئيس الأتاسي، عارض حاولته؛ فلم يستطع رئيس الحكومة السيطرة على إضرابات الموظفين المطالبين برفع أجورهم، فاستقال.

واختير أحد المستقلين، حسن الحكيم، المؤيد للهاشميين والغرب لرئاسة الوزارة الجديدة. غير أنه استقال، إثر تقديم بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وتركيا، في نوفمبر 1951، مذكرة رباعية إلى مصر، تطلب انضمامها إلى منظمة دفاعية لحوض شرق البحر الأبيض المتوسط؛ واكتفاء الدول الأربع بإبلاغ دولة سورية بما تضمنته تلك المذكرة، من دون مطالبتها، أسوة بمصر، بالانضمام إلى المنظمة الآنفة.

رابعاً: انقلاب الشيشكلي الثاني والحكم المباشر “1951 – 1954”:

خلف معروف الدواليبي حسن حكيم في رئاسة الوزارة. و اختار هو نفسه وزير الدفاع؛ ناقضاً ما كان الشيشكلي اشترطه لنفسه على رؤساء الحكومات. وكانت تلك القشة، التي قصمت ظهر البعير؛ إذ أضيفت إلى الأزمات المتوالية بين قيادة الجيش وهاشم الأتاسي، رئيس الجمهورية، المستاء من تدخّل العسكر. فعَجِل الشيشكلي، ليلة 28/29 نوفمبر 1951، إلى انقلاب جديد.

واعتقل الوزراء، بعد يوم واحد من توَّزُّرهم؛ ما اضطر هاشم الأتاسي إلى الاستقالة، فعينت قيادة الجيش فوزي سلو رئيساً للدولة.

يُنْتَقَد على الشيشكلي مصادمته جميع القوى: السياسية والاجتماعية؛ وتحريمه نشاط الأحزاب؛ لا، بل قضاؤه عليها، بإنشائه، عام 1952، حركة التحرير العربي، لتكون حزب سورية الأوحد. بيد أنه لا يُنْكَر عليه إصلاحاته المهمة، خلال سنتَين من حكمه لسورية.

فقد تشدد في مراقبة الأموال الخارجة من البلاد. وأمّم بعض الشركات الأجنبية، وألزم تلك التي لها فروع في البلاد، أن يكون ممثلوها في سورية سوريين. ورفع الضريبة على الدخول إلى 36%، أيْ أنه حاول أن يحطم قواعد الاقتصاد الحر.

وأصدر قانوناً، في يناير 1952، يحدد الملكية الزراعية، في المستقبل؛ ويجعل محصول الأراضي المستأجرة مناصفة بين فلاحيها ومالكيها، بعد أن كان نصيب الآخِرين منه 75%. وآمن الشيشكلي بالوحدة العربية الشاملة، وليست تلك الجزئية. فزار مصر، عام 1952، إثر انقلاب جيشها، وضاف، في أوائل عام 1953، الأردن ولبنان والمملكة العربية السعودية. غير أن علاقته بالعراق ساءت، منذ توليه السلطة،.

عند عودة الشيشكلي من مصر، فوجئ بجماعة من صغار الضباط، يتقدمهم عدنان المالكي، يتلقونه، في المطار، بمطالبتهم بإعادة الحرية الكاملة للأحزاب السياسية؛ وإيقاف التبرعات، شبه الإجبارية، التي تجمع باسم الجيش، وتصرف على حزبه،. فتقبل مطالبهم بقبول حسن، ريثما يصل إلى مقر القيادة، حيث أمكنه اعتقالهم جميعاً.

وطلع الشيشكلي على سورية، في21 يونيه 1953، بدستور جديد، ينص على الجمهورية الرئاسية وكادت الموافقة عليه تكون إجماعية. ورشح نفسه للرئاسة، في استفتاء، في 10 يوليه 1953، ففاز بها. وألّف وزارة، بعد خمسة أيام، استبعد منها وجه الحياة السورية العامة.

ما ألَّف بين القوى المتنافرة، والمختلفة البواعث، إلا معارضتها لحكم الشيشكلي؛ ففي جبل الدروز، الإقطاعيون ناقمون عليه؛ وفي حمص، موطن أسْرة الأتاسي، صدرت جريدة معارضة، تسمي سورية الجديدة؛ وفي حلب، الأقليات: العرقية والدينية، المنتشرة في المحافظة غاضبة عليه. أما الأحزاب، على اختلاف نزعاتها (الشعب والوطني والبعث والشيوعي) فقد عقدت، اجتماعاً سرياً، في 4 أغسطس 1953، انتهى إلى ميثاق وطني، يتيح لكلّ منها أن يعمل في نطاقه الإقليمي لتحرير نفسه، ريثما تنطلق الشرارة الأولى من جبل الدروز.

حظيت المعارضة بتأييد بعض الدول العربية، وخاصة العراق. وفضحت المحاكمات، التي أجراها عبدالكريم قاسم لبعض الساسة العراقيين، أن شخصيات سورية، مثل صبري العسلي تلقوا أموالاً عراقية. لا، بل شهد غازي الداغستاني، أثناء محاكمته أمام محكمة الشعب العراقية، عام 1958، أن الجيش العراقي وضع خطة لغزو سورية، أثناء الفوضى التي عمت البلاد، في الأيام الأخيرة من حكم الشيشكلي. وأمست المعارضة، منذ ديسمبر 1953 إلى أواخر فبراير 1954، معارضة علنية، تمثلت في تظاهرات الطلبة.

واجه الشيشكلي معارضيه بإغلاق الحدود مع لبنان, وإعلان الأحكام العرفية، وتسليم السلطة لرؤساء الحاميات العسكرية في المحافظات، واعتقال أكثر من مائة من الحزبيين، بمن فيهم هاشم الأتاسي. غير أن كلَّ ذلك، لم يعصمه من الجيش، الساخط عليه، لابتعاده عنه، وإيثاره عليه حركته السياسية الجديدة. فانقض عليه، إذ استولى فيصل الأتاسي، قائد حامية حلب، على المدينة.

وتأسى به أمين أبو عساف، قائد الفرقة الثالثة، المرابط على دير الزور. واقتدى بهما قائد حامية حماة. وتوالى انضمام الحاميات الأخرى، عدا حامية دمشق، التي استمرت موالية للشيشكلي؛ غير أنه آثر الاستسلام والاستجابة لإنذار بمغادرة البلاد؛ كي يجنِّب سورية حرباً أهلية، وينقذ أمواله، التي استغلها، بعد ذلك، في مشروعاته في البرازيل. وفي ذلك يقول:

“رغبة مني في تجنُّب سفك دماء الشعب الذي أحبه، والجيش الذي ضحيت بكلّ غال من أجله، والأمة العربية التي حاولت خدمتها بإخلاص صادق، أتقدم باستقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري المحبوب، الذي انتخبني، والذي أولاني ثقته، أملاً أن تخدم مبادرتي هذه قضية وطني. وأبتهل إلى الله أن يحفظه من كلّ سوء، وأن يوحده، ويزيده منعة، وأن يسير به إلى قمة المجد”.

تَعَجَّل الشيشكلي مغادرة سورية، في 25 فبراير 1954، فعمتها الفوضى؛ إذ لَمّا يصل الثائرون بعد إلى دمشق، حيث تسلم السلطة العليا رئيس الأركان العامة، الزعيم شوكت شقير، الذي أذاع نداء، طالب فيه بالهدوء، وأطلق المعتقلين السياسيين في سجن المزة. واقتحمت على النواب مجلسهم، صبيحة 26 فبراير، تظاهرة طلابية شاركت فيها جماعات من الدروز والشيوعيين والإخوان المسلمين؛ ولم ينفضوا إلا بعد أن أكد لهم سعيد إسحاق، أن المجلس النيابي، قد وافق على حل نفسه.

أعلن الزعيم شقير حل مجلس النواب، وتخويل رئيسه، مأمون الكزبري صلاحيات: تنفيذية وتشريعية، مؤقتة؛ بل لم يرضِ الثائرين، الذين طلبوا من الكزبري الاستقالة، فوراً؛ لأن الشعب والجيش، لم يعترفا بالنظام، الذي كان يحاول تثبيته. فبادر الزعيم شقير إلى اجتماع مع القادة السياسيين والرؤساء الثائرين، أسفر عن اتفاق على إعادة السلطة إلى أصحابها الدستوريين. واستقال الدكتور الكزبري، صبيحة اليوم التالي. وفي الأول من مارس 1954، دخل هاشم الأتاسي دمشق، في موكب، يتألف من 400 سيارة؛ عائداً إلى القصر الجمهوري.

خامساً: العودة إلى الجمهورية البرلمانية (1954 – 1958)

سيطرت الأحزاب التقليدية، في عهد الجمهورية البرلمانية الأولى، على حياة البلاد السياسية. ولكن الانقلابات العسكرية المتوالية، أضعفت تلك الأحزاب، وأتاحت رواج أخرى عقائدية، وخاصة البعث والشيوعي.

1. وزارة صبري العسلي الائتلافية

ألَّف صبري العسلي، في الأول من مارس 1954، حكومة ائتلافية، من الحزب الوطني وحزب الشعب؛ مدعمة ببعض المستقلين البارزين، مثل: الزعيم الدرزي، حسن الأطرش؛ والإقطاعي الحموي، عبدالرحمن العظم. وخلت من الحوراني والبعثيين، معارضي الشيشكلي الأشد، والناشطين في إسقاطه. وقد شاع أن الحوراني، طلب وزارة الداخلية، فرفض طلبه؛ لذا، عارض، هو وعفلق، الحكومة الائتلافية.

أبقى صبري العسلي على صِلاته قوية بمصر والمملكة العربية السعودية؛ استجابة لسياسة حزبه، الحزب الوطني. غير أنه بقي كذلك على ميله إلى العراق؛ لا، بل أمعن فيه، فعقد مع ميخائيل البان، وهو سياسي موال للعراق؛ وبحضور الزعيم العراقي، محمد فاضل الجمالي، اجتماعاً سرياً، في منتجع برمانا اللبناني؛ للتدبَّر في تنفيذ وحدة الهلال الخصيب؛ حسبما نمَّت به محاكمات بغداد، بعد انقلاب 1958.

تضافرت على حكومة العسلي عوامل شتّى، حملتها، في 8 يونيه 1954، على الاستقالة؛ وكمّا تنجز ما انتدبت له، إجراء الانتخابات. ولعل أهم تلك العوامل، أنها افتقدت مهارة الانتقال من الدكتاتورية العسكرية إلى النظام البرلماني؛ وفاوضت الولايات المتحدة الأمريكية في اتفاقية معونات عسكرية، كتلك التي عقدتها واشنطن مع بغداد؛ فضلاً عن الخلاف بين الجيش ووزير الدفاع، معروف الدواليبي.

2. حكومة سعيد الغزي

الغزي محامٍ دمشقي. ألَّف، في 9 يونيه 1954، حكومة غير حزبية، عهِد فيها بوزارة الدفاع إلى اللواء شوكت شقير؛ استرضاءً للجيش. وأعلن حياده التام في القضايا الداخلية؛ وعزمه على الاحتفاظ بالصلات الأخوية مع الدول العربية جمعيها، ضمن إطار الجامعة العربية. ولم يلزم سورية أيّ ارتباطات دولية. وأكد أن المهمة الأولى الوحيدة لحكومته، هي الإشراف على انتخابات حرة، نزيهة، وفق قانون انتخابات جديد، يعاون على وضعه المجلس النيابي؛ ما أكسبه ثقة الجيش والشعب معاً.

نص قانون الانتخابات الجديد على أن يكون عدد النواب142 نائباً، يمثل كلّ منهم 30 ألفاً من المواطنين. وأُجِّل موعدها إلى 24 سبتمبر 1954، بدلاً من 20 أغسطس، استجابة لبعض الأحزاب. وجُعِلَت مرحلتَين: الأولى، يومَي 24 و25 سبتمبر، وملأت 99 مقعداً؛ والثانية، 4 و5 أكتوبر. واتسمت بما لم يسبق له مثيل، من الحرية والنظام.

وتمخضت بفوز مبين للمستقلين (64%)، ولا سيما خالد العظم وكتلته، في دمشق؛ وحظوة بين بينة البعث (22%)؛ وانتخاب أول نائب شيوعي في العالم العربي، خالد بكداش.

وأسفرت كذلك عن تراجع حزب الشعب، واضمحلال وحدة الهلال الخصيب. ولعل أهم ما نمَّت به نتائج الانتخابات، انتصار الحياد في الرأي العربي.

كُلِّف فارس الخوري، الطيب السمعة، تأليف الحكومة الجديدة. فكوَّن حكومة المستقلين وحزب الشعب، سرعان ما واجهت إصرار الحكومة العراقية على تكوين حلف بغداد، فتريثت، فتعرضت لسخط الأحزاب الشابة، قوية التأثير. وانقسم، مثلاً، الحزب الوطني كتلتَين: الأولى، بزعامة لطفي الحفار، تؤيد سياسة الحكومة العراقية؛ والثانية، بزعامة صبري العسلي، تؤيد سياسة الحياد، التي بدت ملامحها، آنئذ.

ولاح تكتل جديد، يتجافى عن الأحلاف، ويضم الفريق الثاني من الحزب الوطني ويساريِّي البعث، والمستقلين اليساريين وعلى رأسهم خالد العظم. ولكن التنافس في رئاسة الجمهورية، كشف أن انضمام الحزب الوطني إلى اليسار، ما هو إلا مداورة؛ إذ واطأ حزب الشعب على التراجع عن ترشيح ممثله، الكيخيا، قبيل لحظات من الانتخابات؛ كي لا تتبعثر أصوات القوى التقليدية، فتقترع كلّها مرشح الحزب الوطني، شكري القوتلي، فتفوت الرئاسة مرشح الجبهة اليسارية، خالد العظم.

نال القوتلي 91 صوتاً مقابل، 41 للعظم، فأصبح مديناً لحزب الشعب والمستقلين أكثر من لحزبه؛ ولذلك، أشركهم في وزارة سعيد الغزي الثانية. أمّا الساخطون، اليسار وأنصاره في الجيش، فقد ارتقبوا التطورات: الدولية والعربية والداخلية، المتشابكة، عسى أن تتيح لهم توجيه السياسة السورية. وسرعان ما تأتيَّى لهم ذلك، حينما قتل نائب القائد العام، الضابط البعثي، عدنان المالكي. فقد كان مقتله إيذاناً بسعي الفئات المتنافسة في الجيش إلى السيطرة على القيادة. وتمثلت تلك الفئات في اثنَي عشر ضابطاً.

بينهم اثنان فقط بعثيان: مصطفى حمدون، الخاضع لتأثير الحوراني؛ وعبدالغني قنوط. وفيهم كذلك عبدالحميد سراج، مدير المكتب الثاني، أيْ الاستخبارات السورية. وأمسى هؤلاء هم أصحاب النفوذ الفعلي في الجيش؛ حتى إنه لولا موافقتهم، لما كان لشوكت شقير وخلفه توفيق نظام الدين أن يتوليا القيادة العامة.

هكذا، غرق الجيش السوري في السياسة، وافتقد قوام الجيوش، طاعة النظام. وانبرى معظم الضباط الاثني عشر يعملون، كلّ لحسابه الخاص، وهو يحسب أنه يحمي المصالح الوطنية أو التقدمية. ولعلّ تنافس تلك الفئات المختلفة، هو ما اضطرها إلى قبول اللواء شوكت شقير قائداً عاماً، على الرغم من أنه شغل هذا المنصب في عهد الشيشكلي. وهو نفسه ما حملها على ارتضاء عفيف البزري، عام 1957، للقيادة العامة؛ وليس، كما أشيع، لأنه شيوعي.

3. وزارة صبري العسلي الثانية (1955)

وسط الانقسامات الداخلية، ولا سيما الناجمة عن الموقف من الأحلاف، ألَّف صبري العسلي وزارته الثانية. واقترن تأليفها بحادثَين مهمَّين، لفتا إلى قيمة التعاون السوري – المصري. أولهما، حشد القوات التركية على حدود سورية؛ تحذيراً لمجلس النواب من عرضه الحكومة الحيادية الجديدة للثقة. وثانيهما، اعتداء إسرائيل على غزة، في 28 فبراير 1955 اعتداءً واسعاً.

وعلى أثر ذلك، بادر شوكت شقير وخالد العظم، وزير الخارجية، إلى عقد اتفاق مبدئي على إنشاء قيادة عسكرية موحدة مع مصر. وجاء في مقدمته أن الهدف الأول هو معارضة ميثاق بغداد، الذي أدى إلى تفتت دول الجامعة العربية. وقد أثَّر توقيعه في المشاركة الإيجابية لسورية في مناهضة مصر للأحلاف. وطوَّف صلاح سالم وخالد العظم بعدة عواصم عربية، لإغرائها بالاتفاق العسكري الجديد؛ ولم يوفَّقا، لا في بيروتن ولا في عمّان.

ونجم عن ذلك تقارب سوري – سوفيتي، وتلقي دولة سورية للأسلحة من الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا. وكان للتحول المطَّرد في سياسة سورية الخارجية، وازدياد قوة اليسار في الداخل، أثره في موقف حلف بغداد والدول الغربية التي تؤازره.

الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية (فبراير 1958)

تَهَدَّد سورية، في سبتمبر وأكتوبر 1957، خطران: عدوان إسرائيلي وتدخُّل تركي عسكري؛ فتعجلت اتحاداً فيدرالياً، يجمعها مع مصر، ثم يحتضن أيّ دولة عربية، تريد أن تنضم إليه. غير أن ميشيل عفلق، زعيم حزب البعث ذي النفوذ القوي في سورية، رأى أن ذلك الاتحاد، يمكِن أن يتيح، بطريقة غير مباشرة، لدول عربية، إذا انضمت إليه، المحافظة على نُظُمها الرجعية؛ فارتأى استبدال الوحدة التامة بالاتحاد الفيدرالي.

تحفَّظ جمال عبدالناصر من وحدة سابقة لأوانها. ولكنه اطرَّح تحفُّظه، بعد أن أَنِس إلى تأييد 34 دولة، ضمها مؤتمر أفرو ـ آسيوي، عقد في القاهرة، في أواخر عام 1957.

أعلنت الوحدة، في فبراير 1958. وانتخب جمال عبدالناصر رئيساً للدولة الجديدة، الجمهورية العربية المتحدة، بجناحَيْها: الشمالي والجنوبي. ولم يغفل الاستعمار عن خطرها، المتمثل في تهديدها لمصالحه في الشرق الأوسط، وتطويقها لإسرائيل من الشمال والجنوب، فجهد في القضاء عليها، وقد نجح 28 سبتمبر 1961.

اندماج مصر ودولة سورية

أمعنت دولة سورية في المطالبة بالوحدة بينها وبين مصر، منذ التصدي لحلف بغداد، وبعد معركة السويس. ولم يتوانَ رئيس الوزراء السوري، صبري العسلي، عن اقتراحها، في فبراير 1957، أثناء اجتماع مع جمال عبدالناصر، لمناقشة مشروع أيزنهاور. كذلك اتخذ مجلس النواب السوري قراراً، في 5 يوليه 1957، يطالب بإنشائها. وأعلن تصميمه عليها، في 17 نوفمبر 1957، في اجتماع، حضره وفد مصري برلماني، يرأسه أنور السادات. وأعقب ذلك حضور وفد سوري برلماني اجتماعاً لمجلس الأمة المصري، في القاهرة، قرر فيه الاستجابة للرغبة السورية.

واضطلع بسياسة دولة سورية ، في هذه المرحلة الحاسمة، خمس رجال: خالد العظم وخالد بكداش وصبري العسلي وأكرم الحوراني وصلاح الدين بيطار؛ والأخيران ينتميان إلى حزب البعث، الذي استدرك زعيمه، ميشيل عفلق، ميله إلى الوحدة الشاملة، بإيثاره عليها النظام الفيدرالي؛ إذ “إن لكلٍّ من القطرَين تقاليده وتاريخه الخاص. ولا بدّ عند قيام الاتحاد من تقوية نظام الحكم المحلي، والبرلمانات الإقليمية، أولً.ا وهذا النظام أدعى إلى اجتذاب الدول العربية الأخرى نحو الوحدة الشاملة”.

وما ذلك إلا لأن الوحدة الاندماجية، تشترط حل جميع الأحزاب، والمنظمات السياسية، التي طالما جاهد حزبا البعث والشيوعي في سبيل إنشائها. وهو الأمر نفسه، الذي دفع الحزبَين إلى التحاور، وتنظيم صفوفهما.

أولاً: الجيش السوري فيصل الوحدة

لم يقرر مصير دولة سورية سياسيوها وأحزابها؛ وإنما جيشها، الذي أشعره تخبُّط قياداته، والبلاد عرضة للأخطار، بالحاجة الملِحة إلى الوحدة. وأُلِّف، في 17 أغسطس 1957، مجلس قيادة عسكري إثر إقالة اللواء نظام الدين، رئيس الأركان؛ وإبعاد الضباط الرجعيين. فأمست قوى الجيش المستقلة، التقدمية، الأكثر ميلاً إلى مصر، تفوق نظيرتها البعثية والشيوعية في صفوفه.

فبادرت إلى المطالبة بتحقيق الوحدة، من الفور؛ وتنزيهها عن المتاجرة السياسية فيها. واجتمع المجلس، في ديسمبر1957، وبحث موضوع الوحدة مع مصر، ودرس ما ينبغي له عمله في شأنها. وخلص إلى استيضاح الحكومة السورية ما تنويه بالوحدة؛ وإبلاغها رغبة الجيش في التعجيل بها. وأجمع المجلس على قراره. غير أن موافقة الأعضاء الحزبيين عليه، لم تكن إلا مداهنة؛ لاعتقادهم أن دون الوحدة مشاق ومحاذير، تعسّر ولادتها؛ فلا داعي لمعارضتها؛ فضلاً عن أن تأييدهم إياها، سيعززهم بين القوى الأخرى.

أوفد عبدالناصر، في النصف الثاني من ديسمبر1957، إلى دولة سورية ، حافظ إسماعيل، مدير مكتب اللواء أركان الحرب عبدالحكيم عامر؛ كي يجتمع بمجلس القيادة السوري، ويعرض عليه الصعوبات التي تواجه الوحدة، وتلك التي ستنجم عنها. وقد وَفَّى رسالته، وجاهر بمعوقات الوحدة؛ وأبرزها:

1. الجيش السوري، قياساً بنظيره المصري، هو قليل العدد؛ وقد يسفر اندماجهما عن نعرات جمة؛ فضلاً عن أن أولهما لا يزال مُسَوَّساً، وترك الثاني السياسة لأهلها. ولذلك، لا بدّ من إعادة تنظيمهما، وتنسيق انضباطهما العسكري.

2. الوحدة الاقتصادية هي أشد جوانب الوحدة صعوبة؛ إذ إن اقتصادَي مصر دولة سورية غير متجانسَين.

3. “إن النظام السياسي في مصر ثورة، تحاول أن تثبت دعائمها… قد تصدت لها قوى متعددة، داخلياً وخارجياً. كما أن الثورة المصرية مطالبة، دائماً، في ظل الوحدة أو في ظل عدم قيامها، بيقظة مستمرة، للمحافظة على كيانها؛ فضلاً عن أن قيام الوحدة بين مصر وسورية، سيزيد من ضرورة استمرار قوة الثورة وقدْرتها على حماية الوحدة من الأخطار، التي لا بدّ أن تهددها؛ ذلك أن قيام الوحدة، لن يقابل، دولياً، بالارتياح، وبخاصة في الغرب”. وكان قول حافظ إسماعيل هذا إيحاء للمجلس بأن هناك ثورة في مصر، وستستمر؛ وليس لسورية، إذا ما رغبت في الوحدة، سوى معايشة ظروف النظام المصري.

لم يفلِح النصح المصري لمجلس القيادة السوري العسكري بتدبُّر محبطات الوحدة؛ إذ حبَّذ أعضاؤه المستقلون إنشاءها، من الفور، ومن دون أيّ تأخير؛ لأنها ستكون أقدر على مواجهة عراقيلها. أمّا أعضاؤه الحزبيون داورا عليها، وقالوا بمناقشة عوائقها، والسعي إلى تذليلها؛ مع الاستمرار في السير قدماً نحوها. ولم يوضحوا أَيُّما أَوْلى تحقيق الوحدة أمْ إزالة ما يعترضها. وقد أصد المجلس قراراً، نص على “السير قدماً في طريق تنفيذ الوحدة مع مصر، وفي أقصر وقت ممكن؛ ومنع وضع الوحدة موضع مزايدات أو كسب حزبي؛ وتنزيهها عن هذه المناورات”. ونُقل القرار إلى السفير المصري، محمود رياض؛ والعميد عبدالمحسن أبو النور؛ كي يبلغاه عبدالناصر.

عقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة السورية، في 11 يناير 1958، جلسة طارئة، انتهت إلى مذكرة، توضح للرئيس عبدالناصر موقف الجيش من الوحدة؛ جاء فيها: “ولما كانت الظروف الحالية، التي نشأت من جراء انتصار شعبنا العربي، في مصر وسورية، قد ربطت بين قضيتنا العربية وبين السلم العالمي إلى حدّ بعيد، وأفسحت المجال لنا، لكي نخطو خطوات إيجابية سريعة، تتناسب وأهمية انتصاراتنا؛ ونظراً لاحتمال تغير هذه الظروف والمناسبات، وخاصة إذا تمكن الاستعمار من إنهاء استعداداته للمجازفة بخوض حرب شاملة أو محلية، بسبب تعرض مصالحه

التي يعتمد عليها في حياته الأساسية، في وطننا العربي، إلى الزوال؛ فإننا ندعو إلى ضرورة الإسراع بإقرار البناء الأساسي للوحدة الشاملة مع مصر، والمباشرة بتنفيذه فوراً، وتخطي جميع العقبات المصطنعة، من دستورية أو سياسية أو اقتصادية. ونحن نعتبر أن كلّ استمرار للأوضاع المحلية، أصبح أمراً غير طبيعي، لا يعتمد في بقائه إلا على المبررات الاستعمارية الموروثة، والامتيازات الرجعية والانتهازية، التي لا يمكن الاعتراف بها، بعد أن أقر الشعب بأجمعه الوحدة الكاملة”.

دولة سورية
دولة سورية

كما تضمنت المذكرة النقاط التالية:

1. دستور واحد، يعلن إنشاء الجمهورية العربية الجديدة، ويرسم نظام الحكم فيها؛ ويفسح المجال لانضمام بقية الشعوب العربية التي ستتحرر.

2. رئيس دولة واحد.

3. سلطة تشريعية واحدة.

4. سلطة تنفيذية واحدة.

5. سلطة قضائية واحدة.

6. علم واحد، وعاصمة واحدة للدولة العربية.

7. الاستناد إلى الدستور الواحد في سن القوانين المنظمة لحقوق مواطني الدولة الجديدة وواجباتهم.

لقد خلت المذكرة من أيّ شروط أو تحفظات من الوحدة. وأثبتت أن السوريين قد انقادوا لعواطفهم، وضحوا بكيانهم المستقل.

ثانياً: جمال عبدالناصر يلتقي الضباط السوريين

في الساعات الأولى من صباح 12 يناير1958، طار عدد من كبار الضباط السوريين، يرأسهم عفيف البزري، إلى القاهرة؛ لمقابلة الرئيس جمال عبدالناصر، وتسليمه نسخة من المذكرة. وبقي عبدالحميد السراج في دمشق؛ ليخبر بها مجلس الوزراء إخباراً، أوشك أن يكون إنذاراً.

وخلال اجتماعات الوفد الأولى مع الرئيس، بدت بوادر العقبات، فلحق بالوفد الأول ضباط آخرون من المجلس، للإسهام في سرعة الوصول إلى الصيغة النهائية للوحدة. وفي 15يناير1958، استقبل الرئيس عبدالناصر الوفد السوري، لعلن له: “إني مستعد لقبول مبدأ الوحدة. ولكنْ لي شروط ثلاثة، هي:

1. إجراء استفتاء شعبي على الوحدة، ليقول الشعب في سورية، وليقول الشعب في مصر، رأيه الحر في التجربة، ويعبّر عن إرادته.

2. أن يتوقف النشاط الحزبي في سورية توقفاً كاملاً، وأن تقوم الأحزاب السورية بحل نفسها.

3. أن يتوقف تدخّل الجيش في السياسة توقفاً تاماً، وأن ينصرف ضباطه إلى أعمالهم العسكرية، ليصبح الجيش أداة دفاع وقتال، وليس أداة سلطة في الداخل وسيطرة”.

واستطرد جمال عبدالناصر، قائلاً: “إنني أعلم أنكم جميعاً، سوف توافقون على شروط الاستفتاء الشعبي؛ ولكن باقي الشروط لها أهميتها، في تقديري. إن صلاح البيطار هنا، وصلاح البيطار ممثل لحزب البعث، وهو من أكبر الأحزاب السورية؛ فهل حزب البعث على استعداد لأن يحل نفسه، ويوقف نشاطه الحزبي؟ ثم من ناحية أخرى، أنتم هنا جميعاً 22 ضابطاً، تمثلون كتلًا مختلفة في الجيش، أقرب إلى الأحزاب السياسية منها إلى الوحدات العسكرية؛ فهل تقبلون الابتعاد عن الأحزاب السياسية؟ إن هذا الذي أقوله لكم، فعلته في مصر، حتى مع الذين خرجوا معي، ليلة 23 يوليه، ليقوموا بالثورة”.

ثالثاً: ولادة الجمهورية العربية المتحدة

لم تقتصر زيارة القاهرة على العسكريين السوريين؛ بل تردد إليها، مراراً، في النصف الثاني من يناير 1958، وزير خارجية سورية، صلاح الدين البيطار؛ ممثلاً لحكومة سورية وضباطها. وانتهت مساعيه إلى بيان اتفاق على الوحدة، عُرض على الوزارة والضباط، فطلب خالد العظم تأجيل إقراره، ريثما تتدارسه الحكومة والأحزاب. وأوضح العظم، خلال مطالعة البيان، نقاط الخلاف فيه، ومخالفته للدستور. واحتدم النقاش.

وندد صبري العسلي بالأحزاب، ورآها هدامة هدد العظم بالاستقالة؛ ولكنه وقّع البيان، وسجل تحفظه من مضمونه؛ اتقاء الريح العاتية للوحدة العربية، التي كان هو نفسه من أوائل دعاتها. وحار صلاح الدين البيطار في ما يقوله للقاهرة. ولم ينتشله من حيرته اجتماعه بالضباط، وشكري القوتلي، وصبري العسلي، وخالد العظم، الذين ما زادوه إلا غموضاً؛ وإنما بددتها مبادرته هو وشكري القوتلي وصبري العسلي، إلى وضع أُسُس لمشروع وحدة اتحادية حمله إلى القاهرة.

وعُزِيَت موافقة السوريين، ساسة وضباطاً، على الوحدة، وبشروط عبدالناصر، إلى أسباب متباينة؛ منها أن الفريق عفيف البزري، جمع الوزارة وخاطب أعضاءها بما معناه: أمامكم طريقان: إلى المزة أو إلى القاهرة.

ويرجعها محمد حسنين هيكل إلى أن “إرادة الجماهير السورية، هي العامل الضاغط، حيث قبل السياسيون الوحدة؛ كي يفلتوا من الضغط الشعبي، الذي حاصرهم؛ وليجدوا لهم مكاناً في الأوضاع الجديدة، بعد الوحدة”. وثمة من يردّها إلى “أن الوفد السوري، لم يتوقع أن يسير الرئيس جمال عبدالناصر على تلك الطريق الديكتاتورية”.

أمّا ساسة البعث، فيعللون إذعانهم لشروط عبدالناصر، بأن “التفاعل الشعبي الثوري، بين إقليمَي الجمهورية الجديدة؛ والتفاعل الشعبي، بين دولة الوحدة وحركات النضال العربي ـ سيكونان الضمان ضد أيّ انحراف”.

قدِم القاهرة، في 31 يناير 1958، الرئيس السوري، شكري القوتلي؛ ورئيس مجلس الوزراء، صبري العسلي؛ والفريق عفيف البرزي. وباحثوا جمال عبدالناصر في أُسُس الجمهورية الجديدة. وخلص المتباحثون إلى أن عوامل الوحدة، بين الجمهوريتَين: دولة سورية والمصرية، وأسباب نجاحها، قد توافرت، بعد أن جمع بينهما، في الحقبة الأخيرة، كفاح مشترك، زاد معنى القومية وضوحاً.

وأعلنوا اتفاقهم على توحيدهما في دولة واحدة، هي الجمهورية العربية المتحدة، وإيمانهم الكامل بهذه الوحدة؛ على أن يكون نظام الحكم فيها ديموقراطيا،ً رئاسياً. يتولى فيه السلطة التنفيذية رئيس الدولة، يعاونه وزراء، وهو يعيّنهم، ويسألهم عما يفعلون. ويتولى السلطة التشريعية مجلس تشريعي واحد. ويكون لهذه الجمهورية علم واحد وجيش واحد. ويتساوى أبناؤها في الحقوق والواجبات.

أبرم مجلس الأمة المصري، في 5 فبراير 1958، بالإجماع، اتفاق الوحدة. وكاد يُجمِع عليه المجلس النيابي السوري، لولا معارضة أحد أعضائه، خالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعي السوري. وفي اليوم نفسه، دعا جمال عبدالناصر، في مجلس الأمة، إلى استفتاء الشعب العربي، في مصر وسورية، في أُسُس الوحدة، وشخص رئيس الجمهورية؛ ليضفي القوة والشرعية على الدولة الجديدة. فاستُتْتِيَ في 21 فبراير 1958. ووافق الشعب المصري على قيام الوحدة بأغلبية 99.99%.

أمّا في سورية، فكانت النسبة 99.98%. وافق الشعبان، في مصر وسورية، على اختيار الرئيس جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية الجديدة”؛ ما يعني الموافقة على حل الأحزاب السورية. وأعلن إحسان الجابري، رئيس اللجنة الخارجية في المجلس النيابي السوري، حل المجلس، في 23 فبراير 1958. أمّا وزارة الائتلاف السورية، فبقيت تدير الأمور، ريثما يعيِّن جمال عبدالناصر وزراءه الجدد.

وصل جمال عبدالناصر إلى دمشق، أول مرة في حياته، يوم 24 فبراير1958، رئيساً منتخباً؛ فاستُقبل استقبالاً لا يُنسى. وأعلن، في 5 مارس 1958، وهو في العاصمة السورية، دستوراً مؤقتاً للجمهورية العربية المتحدة، يتألف من 73 مادة.

وسرعان ما خَلَتِ الوحدة للعرب؛ إذ وقِّع، في دمشق، في 8 مارس 1958، ميثاق إنشاء اتحاد، يسمى: الدول العربية المتحدة، يتكون من الجمهورية العربية المتحدة والمملكة اليمنية المتوكلية، والدول العربية الراغبة فيه. وقد نص على أن تحتفظ كلّ دولة من الدول الأعضاء بشخصيتها الدولية، ونظامها الخاص؛ على أن تتبع كلّها سياسة خارجية موحدة، يضعها الاتحاد. كما يتولى تمثيله السياسي القنصلي، في الخارج، هيئة واحدة، في الأحوال التي يقرر فيها الاتحاد ذلك. ويكون للاتحاد قوات مسلحة موحدة. وينشأ بين دوله اتحاد جمركي.

رابعاً: المواقف: المحلية والإقليمية، من الجمهورية المستجدة

1. دولة سورية

أبهجت الوحدة ضباط الجيش، ومنّتهم بعطف الرئيس الضابط، جمال عبدالناصر على القوات المسلحة، وتفهّمه لقضايا الجيش السوري. وأنست إلى الوحدة طبقات الشعب المؤمنة بالقومية العربية، أحزبية كانت أم في صفوف الجيش، وتماهت بها؛ علّها تكون إرهاصاً للوحدة العربية الشاملة. لا، بل إن حزب البعث، عَدّ نشوءها نصراً له؛ وقد زادته شعبية، ولو إلى حين، في سورية ودول عربية أخرى؛ إلاَّ في مصر.

واستثارت الوحدة رضا الطبقة المتوسطة وقلقها، في آن واحد؛ إذ أملت أن تقيها الخطر الشيوعي، المتواري بالاتفاقية الاقتصادية بين سورية والاتحاد السوفيتي؛ وخشيت الغموض في سياسة جمال عبدالناصر الاقتصادية.

أمّا كبار ملاك الأراضي، فلم يرحبوا بالوحدة؛ لتهيُّبهم أن يطبق عليهم الإصلاح الزراعي المعمول به في مصر. وهو ما يسحبونه تشفياً وانتقاماً منهم؛ فضلاً عن أنه يدنيهم من اليسار؛ وهم اليمنيون، المنتمن إلى حزب الشعب.

وتوجَّس الإخوان المسلمون خطر عبدالناصر، الذي أعدم عدداً منهم، قبل أعوام، غير عابئ بالشفاعة لهم من رجالات وحكومات عربية. ولكنهم لم يرفضوا الوحدة إذ آنسوا فيها خطوة أولى في سبيل تحقيق هدفهم الأشمل.

ولم يَضق بالوحدة إلا الحزب الشيوعي. وينمّ بذلك قول خالد بكداش قُبَيْلها: “لم تكن الوحدة مفاجأة لأمريكا والدول الغربية، وإنما هي بموافقتها؛ لأنها الوسيلة، التي يمكن بواسطتها القضاء على الحركة التقدمية في سورية، وإخماد صوتها الحر في الأوساط الدولية، بعد أن عجز الاستعمار عن الوصول إلى ذلك عن طريق المؤامرات والضغط والعدوان غير المباشر”. أمّا الحزب القومي السوري، فقد اضمحل إثر اغتياله العقيد عدنان المالكي، في 22 أبريل 1955.

2. مصر

يصعب تحديد موقف المصريين من الوحدة؛ لأن أحزابهم السياسية، حرّمها انقلاب عام1952. وأقوال جمال عبدالناصر، توحي، بل تؤكد أن هبة الشعب المصري، في احتفالات الوحدة، لم تضارع نظيرتها السورية، لا فطرة، ولا صدقاً؛ وإنما وعّزت بها الصحافة والإذاعة وأجهزة الإعلام الأخرى توعيزاً، مسخ الوحدة نصراً لرائد القومية العربية.

3. العراق والأردن، وإنشاء الاتحاد العربي

لاذ الملك حسين إلى ابن عمه فيصل، ملك العراق؛ فراراً من عدوّه,[1] جمال عبدالناصر، رئيس دولة الوحدة، الطامح إلى انحياز سياسة الأردن: الخارجية والعربية، إلى مصر. فراوده على إحياء التراث الهاشمي؛ مرتضياً ما اشترطه لذلك نوري السعيد؛ وغير مبالٍ بإنذار الملك سعود، أن الاتجاه نحو العراق، سيحرم الأردن دعم المملكة العربية السعودية المالي.

أنشئ اتحاد فيدرالي بين الأردن والعراق، رأسه الملك فيصل بن غازي، ملك العراق. وعابه عبدالناصر بأنه وحدة زائفة، بنيت على أساس حلف بغداد، ولم تراعِ رغبات الشعبَين: العراقي والأردني، التي تعارض أيّ محالفة للغرب؛ وأن ذلك الاتحاد الجديد، سيعوق سياسة الحياد، التي يدعو لها الرئيس العربي. بيد أنه لم يتصدَّ له؛ بل أوشك أن ينتفع به انتفاعاً غير مباشرة.

4. سائر الدول العربية

أبهجت الوحدة كثيراً من الشعوب العربية. أمّا حكوماتها، فقد حرصت على مصالحها في الدول، التي تنكرت للجمهورية الجديدة؛ فاقتصرت مواقفها على “تمنيات أخوية صادقة، ومشجعة للوحدة العربية” لم تبلغ نية الانضمام إليها.

5. إسرائيلي

رابت إسرائيل، فعمدت إلى زيادة نشاطها العسكري على حدود دولة سورية ، حيث بادرت إلى إنشاء التحصينات وتجهيزها؛ بل اعتدت، في 13 ديسمبر 1958، على قرية الدرباشية، في القطاع الأوسط من الجبهة السورية؛ وكذلك على قرية التوافيق، في الأول من فبراير1960. واستذرعت إسرائيل بالوحدة، فاستنصرت عليها بالغرب؛ ليمدها بأسلحة، تدفع بها عن كيانها تهديداً ذا شعبتَين أو اتجاهَين، تومض به الجمهورية العربية المتحدة[2].

خامساً: المواقف العالمية

1. الكتلة الشرقية

آثرت سورية آصرتها القومية على صداقتها للمعسكر الشرقي. وكذلك اطَّرح الرئيس جمال عبدالناصر نصح الرئيس السوفيتي، نيكيتا خروتشوف، بالتخلي عن الوحدة، والذي جاهر به سيد الكرملين وفداً سورياً عسكرياً، برئاسة اللواء نامق كمال، زار موسكو، في 13 سبتمبر 1962. فاضطر العالم الاشتراكي إلى الاعتراف، على مضض، بالجمهورية الجديدة؛ ولو لم يفعل، لاجتثت جذور مصالحه ومظاهر الميل إليه، في سورية وسائر البلاد العربية.

2. الكتلة الغربية

ما ضار الغرب، أن ترفض دولة سورية الانضمام إلى حلف بغداد؛ وإنما نقْضها رؤية الدول العربية، التي انضوت إليه، أن الخطر الأول المحدق بالعرب، هو الخطر الشيوعي. فقد استشفت دمشق، الخطر الجاسم، هو إسرائيل وأولئك الذين يدعمونها. فنكدت رغبة الغرب، ولا سيما وزير الخارجية الأمريكي، جون دالاس؛ إذ إن حرباً بين سورية وإسرائيل، ستحمل الدول العربية الأخرى على مؤازرة دمشق؛ على الرغم من عضوية بعضها في حلف غربي، والتزامها بألا تحارب إسرائيل.

ناهيك بمكانة سورية في نفوس الشعب العربي، وبخاصة العراقي، الذي سيسحق كلّ حكم لا يؤيدها على إسرائيل. ولا شك أن موقف الدول العربية، وبعض فئات من شعوب دول إسلامية مجاورة، سيوهن حلف بغداد.

سادساً: تقييم الوحدة الاندماجية

لم تتأتَّ للوحدة الاندماجية أركانها: السياسية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية؛ وهو ما أفصح به جمال عبدالناصر، ليلة 15 يناير 1958، لقادة الجيش السوري حين جاروه طالبينها: “إن الوحدة تحتاج إلى خمس سنوات، على الأقل، من التمهيد: الاقتصادي والاجتماعي؛ لا، بل إنها بدت مرتجلة، لا تكاد تستند إلى سوى زعامة شخصية، زعامة عبدالناصر. وأوشكت أن تخلو من المضامين، فاقتصرت على هيكل خارجي، تمثل في وحدانية رئيسها وعَلمها ونشيدها.

لئن أمكن تخطِّي الفاصل الجغرافي، بين جناحَي الجمهورية العربية المتحدة؛ فإنه تعذر جسر فوارقهما؛ وأبرزها:

1. انهماك الشعب العربي في مصر في ثورة اجتماعية، وانشغاله بمناهضة الأحلاف، واحتكار السلاح، والتبعية الدولية؛ وتصديه للطبقة الرأسمالية، التي انكشفت معاونتها للاستعمار. ناهيك بأن كثيراً من المصريين، جاهروا بتساؤلهم: “هل ستصبح مصر، بكلّ مجدها! الإقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة؟ وهل يمكن أن تتخلى عن العلم الأخضر، والهلال والنجوم الثلاث في وسطه! وقد خاضت تحت هذا العلم كلّ معاركها من أجل الاستقلال؟ “.

2. إمعان دولة سورية في المناكدات الحزبية، والانقلابات العسكرية؛ وابتعادها عن أيّ تعبئة ثورية. ومعاونة رأسمالييها للاستعمار، من خلال قصور ملكية، في بغداد وعمّان. فضلاً عن أن معظم الساسة السوريين؛ يريدون أن تبقى مصر في مصر، وأن تبقى سورية في سورية؛ إذ إن الوحدة، ستنجم عن قوى جديدة، سوف تضعفهم، وتقاسمهم مكاسبهم.

فالاندماج الكامل في المجال الدبلوماسي، اقتضى إلغاء بعض الوظائف؛ ما أسخط بعض موظفي الخارجية، حتى أمسوا من أشد الفئات ذات النزعة الإقليمية. وفرض منظمة سياسية واحدة، هي الاتحاد القومي؛ وحل الأحزاب السورية العقائدية، وبخاصة الحزب الشيوعي ـ أجبر المعارضة على العمل في الخفاء، أو اللجوء إلى الخارج. أمّا حزب البعث، فقد تقبّل الوحدة الاندماجية، على مضض؛ إثر اختيار عبدالناصر أحد أعضائه، أكرم الحوراني، ليكون أحد نوابه؛ فضلاً عن تعيينه خمسة بعثيين في أول مجلس تنفيذي.

3. غموض الوضع السوري الداخلي وخفاؤه، ليس على القاهرة فحسب؛ وإنما على دمشق نفسها؛ ما لبس على القوة الجديدة، التي جاءت بها الوحدة إلى سورية، مهمتها.

اختُرمت الوحدة، ولما تبلغ ثلاث سنوات (22 فبراير 1958ـ 28سبتمبر 1961)؛ ما يؤكد أن العرب هم أنزع إلى إقليميتهم منهم إلى وحدتهم؛ بل إن جمهوريتهم العربية المتحدة، لم تكن دولة كونفدرالية؛ إذ احتفظ كلٌّ من جناحَيها بكينونته.

سورية من الانفصال إلى حُكم الرئيس الأسد

بثت إذاعة دمشق، في 28 سبتمبر 1961، البلاغ الأول لقادة الانقلاب على الوحدة السورية – المصرية؛ وجاء فيه: “إن الجيش السوري، قام بانتفاضة وطنية، لا صلة لها بشخص أو بفئة معينة؛ وإنما هي حركة، هدفها تصحيح الأوضاع غير الشرعية”.

ثم توالت البيانات إلى أن أذيع البيان الرقم 9، فأشار إلى عدم تمسك “القيادة العربية الثورية للقوات المسلحة بالحكم”؛ وهي الجبهة التي خططت الانقلاب واضطلعت بتنفيذه.

ويتزعمها المقدم حيدر الكزبري، قائد حرس البادية، الذي آمر الأمريكيين من قبل على سورية. وشاركه في الانقلاب، المقدم عبدالكريم النحلاوي، مدير مكتب المشير عامر في دمشق؛ والعميد عبدالغني دهمان؛ وموفق عصاصه، وغيرهم.

شق الانقلاب الشعب السوري، فأيدته دمشق؛ لأن قادته دمشقيون. وعارضته حلب، وناشدت الرئيس عبدالناصر القضاء عليه. بل إن بعض قادة الانقلاب أنفسهم، فاوضوا المشير عبدالحكيم عامر، الذي كان في دمشق، وتوصلوا معه إلى حل وسط ، صدر في شأنه البيان الرقم 9، الذي اشتمل على:

1. أن تكون قيادة الجيش الأول (في سورية) من الضباط السوريين. ويرحل الضباط المصريون. ويستدعى الضباط السوريون من القاهرة.

2. أن يذيع قادة الانقلاب بلاغاً، يعلن نهاية العصيان؛ ويتبعه بيان من المشير عامر بالموافقة على ذلك.

3. أن تفك قوات الانقلاب تطويقها لمبنى القيادة. وتشترك وحدات الجيش كافة، في اليوم التالي، في عرض عسكري؛ للتدليل على عودة الأمور إلى طبيعتها.

رفض الرئيس جمال عبدالناصر الاتفاق؛ لأنه يرفض المساس بالمبادئ؛ فضلاً عن رفضه تدخّل الجيش في السياسة. ورفضه كذلك قائد الانقلاب وجماعة من الضباط، خشية عواقب مؤامرتهم لقوى خارجية. وبادر حيدر الكزبري إلى التهديد بهدم مبنى القيادة على من فيه، إنْ لم يُلغَ البيان الرقم 9.

كان الأردن والاتحاد السوفيتي طليعة مؤيدي الانقلاب. واغتبط الرئيس شكري القوتلي بوثبة الجيش المظفرة. كما أصدر بعض السياسيين القدامى، ومن بينهم أكرم الحوراني، وصلاح البيطار، وهما من قيادات حزب البعث، بيان تأييد، يحمل توقيعاتهم.

ترأس حيدر الكزبري حكومة سورية جديدة، أعلنت عزمها على إلغاء القرارات الاشتراكية، وفصل مئات من المسؤولين وكبار الموظفين، الذين شاركوا في رسم سياسات عهد الوحدة وتنفيذها؛ وفي أقل من شهر واحد، فاق عدد المعتقلين الخمسة آلاف. وعُيِّن اللواء عبدالكريم زهرالدين قائداً عاماً للقوات المسلحة. ولاحت في أفق سورية انقلاباتها السابقة.

محاولة استعادة وحدة دولة سورية 

أطيحت وزارة الكزبري، ولَمّا يمضِ شهران. وما عجل بزوالها إلا افتضاح أسرار الانقلاب، ولا سيما ارتشاء بعض مدبّريه وعدد من الوزراء بأموال من الخارج؛ فضلاً عن تفاقم الخلافات بين رئيس الحكومة وأعضائها؛ وكثرة الاعتقالات والمحاكمات السرية. ناهيك باحتدام تنازعهم في القوانين الاشتراكية؛ فالسياسيون يريدون إلغاءها، والعسكريون يطالبون بتحكيم الشعب فيها.

خلفت وزارة الكزبري أخرى، ترأسها، عزت النص. حاولت الإصلاح، فأعلنت إجراء انتخابات نيابية، في الأول من ديسمبر 1961. ولكن الشعب استجاب لمقاطعتها، فعمدت الحكومة إلى تزويرها.

وفي 13ديسمبر، أعلن إعفاء ثلاثة وسبعين ضابطاً من الخدمة في الجيش السوري. وفي 14 ديسمبر، أعلن انتخاب السيد ناظم القدسي رئيساً للجمهورية، وهو من الساسة السوريين القدامى.

وأُلِّفت وزارة جديدة، هي الثالثة في غضون ثلاثة أشهر؛ وترأسها معروف الدواليبي. بيد أنها لم تكن أوفر حظاً من سابقتَيها، إذ بادر ضباط القيادة في الجيش السوري إلى مقابلة رئيس الجمهورية، وقدموا إليه عدة مطالب ، أهمها إقالة الحكومة، ورفع الحصانة عن النواب المتهمين بالرشوة والتعامل مع الدول: العربية والأجنبية، واختزال مدة المجلس النيابي الجديد، وإجراء انتخابات جديدة.

أولاً: الوحدة تراود قادة الجيش

ذكر اللواء عبدالكريم زهر الدين، القائد العام للجيش السوري، في مذكراته، أن القيادة طالما أبدت أسفها لفقدان الوحدة مع مصر؛ بل تفتش عن وسيلة، تمكنها من العودة إليها؛ إنما ولكن بشروط تحُول دون انحرافات التجربة السابقة، وتحقق استمراريتها وتوسّعها.و لذلك، وبعد الدراسات المتتالية، والاجتماعات مع بعض الوحدويين، تقرر اتخاذ الخطوة الأولى، وإرسال وفد من الضباط، لمقابلة الرئيس عبدالناصر، والتداول في المواضيع العامة، والمتعلقة بالأخطاء، التي ارتكبت زمن الوحدة. وطُلب من الوفد معالجة الأمور التالية:

1. وقف المهاترات الإذاعية، فوراً.

2. الاعتراف بالوضع الحاضر في دولة سورية، من أجل الانتقال إلى معالجة عودة الوحدة، على أُسُس جديدة.

3. عقد اتفاق عسكري مشترك، بين مصر وسورية، لتطبيق الخطط العسكرية الموضوعة أثناء الوحدة.

4. حسم الأمور الإدارية المعلقة بين مصر ودولة سورية(أسلحة وسواها).

وقد تكون الوفد من ضباط، أسهموا في انقلاب 28 سبتمبر؛ وذلك للدلالة على سلامة النية وصدق الطوية. وأُطلع على ذلك الدكتور ناظم القدسي، رئيس الجمهورية، فوافق؛ مشترطاً أن يجتمع بالموفَدين، قبل السفر، لتلقينهم ما سيطرحونه على الرئيس عبدالناصر.

إلا أن الوفد سافر، فجأة، بإيعاز من عبدالكريم النحلاوي، من دون علم القائد العام أو رئيس الجمهورية. وتكوَّن من العميد زهير عقيل، والعقيد محمد منصور، والرائد فايز الرفاعي. أمّا الوسيط، الذي دبر لقاءهم مع الرئيس عبدالناصر، فهو الفريق جمال فيصل، القائد السابق للجيش السوري، والذي بقي في القاهرة، بعد الانفصال.

كان ملخص أطروحة الوفد:

1. ما حدث لم يكن في حسبان الضباط السوريين. وإنهم يشعرون بأن الأمة العربية، تتهمهم بالانفصال والرجعية.

2. سورية في خطر، ومستهدفة. “والذين دبروا الانقلاب في لبنان، كانوا يقصدون دمشق؛ تمهيداً لإحياء مشروع الهلال الخصيب، بإيعاز من الاستعمار”.

3. إسرائيل تنتهز فرصة الانفصال، وتسارع في تحويل نهر الأردن.

4. الحل الوحيد هو عودة الوحدة بصورة جديدة.

وكان رد الرئيس عبدالناصر، أن التجربة زادت إيمانه بالوحدة، ولم تضعفه؛ إلا وأنه في حاجة إلى دراسة ما حدث وتفهّم معانيه. ولا بدّ من شكل جديد للتجربة؛ إذ لا يمكن نشوء وحدة بين مصر وسورية، تكون القاهرة فيها اشتراكية، ودمشق رأسمالية! وجاهر بمعارضته الكلية لتدخّل الجيش في شؤون الدولة.

ثانياً: انقلاب 28 مارس 1962

اشتعل الحماس، بعد الزيارة، في قيادة الجيش السوري. وبدأ عقد الاجتماعات المطولة، لبحث موضوع التقارب مع القاهرة، وإعادة الوحدة، ولو أدى ذلك إلى انقلاب جديد. وتزعم اللواء عبدالكريم زهر الدين هذا التوجه، فعقد اجتماعاً في منزله، ضم اللواء نامق كمال، والمقدم عبدالكريم النحلاوى، والمقدم مهيب الهندي، والمقدم هشام عبدربه، والرائد فايز الرفاعي، وكلّهم مخططي الانفصال والمشاركين في انقلابه. كما ضم الأستاذ نهاد قاسم والدكتور فريد زين الدين، وهما من السياسيين الوحدويين. وتدارس المجتمعون عودة الوحدة. وانحصر اجتهادهم في فكرتَين:

الأولى: طرحها العسكريون، يؤيدهم الدكتور فريد زين الدين. وقضت بإزاحة المجلس النيابي، وإقالة الحكومة الحالية وتأليف وزارة جديدة، يرأسها الدكتور ناظم القدسي، (إن رغب في ذلك)؛ وإلا فيرأسها وحدوي معتدل. ثم تؤلف وفداً من أعضائها، يزور القاهرة، وتعود الوحدة بشكل جديد.

والثانية: اقترحها نهاد قاسم. وقضت بأن يرأس هو نفسه وفداً وحدوياً، من عسكريين ومدنيين؛ يتوجه إلى القاهرة، قبل تأليف أي حكومة جديدة في دولة سورية؛ لمفاوضة الرئيس عبدالناصر، والوقوف على رأيه في شؤون الوحدة.

وقد أيد المجتمعون الخيار الأول،. واستعرضوا المرشحين للانضمام إلى الوزارة الجديدة عند قيام الانقلاب؛ فانتقوا بعثيين، وقوميين عرب، ووحدويين اشتراكيين. كما كلف الدكتور فريد زين الدين صياغة الرؤية السورية لشكل الوحدة الجديدة مع القاهرة.

وتعددت الاجتماعات في هذا الخصوص، وكانت تعقد في شعبة الاستخبارات العسكرية؛ لإنجاز الدراسة المطلوبة. وعقد اجتماعان في مدرسة المدرعات. حضر الأول ضباط الانقلاب وكثير من قادة القطاعات، الذين انقسموا قسمَين: أحدهما، نادي بإعادة الوحدة فوراً؛ والآخر، رفض الفكرة من أساسها. أمّا الاجتماع الثاني، فرَأَسه اللواء عبدالكريم زهر الدين، حضره الكثير من القيادات المسؤولة في الجيش؛ وانتهى إلى توصية بالتروي في شأن الوحدة، لحؤول دون انتكاسها ثانية.

ثالثاً: مؤتمر شتوره والإساءة لمصر

عمد انقلابيو 28 مارس 1962 إلى لفت شعب دولة سوريةوجيشها عن نظامهم، وإلهاء الرأي العام بقضايا خارجية مؤثرة. وأتتهم الرياح، في يوليه 1962، حينا خطب الرئيس جمال عبدالناصر، فتلقفوا قوله:

” إنك، أيها الشعب العظيم، تزيدنا إيماناً بالقومية العربية والوحدة العربية. وإن النكسة، التي حدثت في العام الماضي، لم تؤثر، أيها الإخوة، بأيّ حال من الأحوال… في مشاعرنا. إننا، اليوم، أيها الإخوة المواطنون، ونحن نحتفل بعيدنا العاشر للثورة، نتجه إلى إخواننا في الإقليم الشمالي… في سورية؛ ونقول لهم: أيها الإخوة، نحن معكم، على طول الخط… أيها الأخوة، إننا لم نكفر بكم أبداً؛ ولكنا، كلّ يوم، نزداد إيماناً بكم، ونزداد تقديراً لكم، ونزداد شعوراً بأخوتكم، ونزداد شعوراً بوحدتنا معكم”.

استشفت الحكومة السورية خطر ذلك الموقف،؛ إذ أوحى بأن الرئيس عبدالناصر، لا يزال يَعُدّ سورية تابعة لسلطته؛ فهو يسميها بالإقليم الشمالي. إنه، إذاً، يحرض شعبها وجيشها على الانقلاب أو الاقتتال وخلق البلبلة والفوضى وسفك الدماء؛ ما يمثل اعتداءاً صريحاً على سيادتها. وسارعت الحكومة السورية, في السابع والعشرين من الشهر عينه، إلى تنبيه الأمين العام للجامعة العربية على الموقف المصري؛ لا، بل طلبت أن يجتمع مجلس الجامعة العربية في أيّ بلد عربي، عدا مصر، لبحث شكواها.

وحدد الأمين العام للجامعة يوم 22 أغسطس موعداً لعقد مجلسها، في شتوره، اللبنانية، لبحث الشكوى السورية. وسرعان ما غدا مؤتمر شتوره سوقاً للتشهير بمصر. وسدر المؤتمرون في غايتهم فأغووا المقدم زغلول عبدالرحمن الملحق المصري العسكري في بيروت، ليحضر المؤتمر، يشهد، زوراً، بعمليات التخريب المصري في سورية وغيرها من البلاد العربية.

رابعاً: خاتَم الانقلابات

تواترت الانقلابات في سورية، ووافق أحدثها في يوم وقوعه، في 28 سبتمبر 1962، انقلاب الانفصال؛ بل كان امتداداً له؛ حتى إنه سلسل بلاغه الأول ببلاغ الانفصاليين الأخير، فجعل رقمه ستاً وعشرين. وجاء فيه: “إن القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، تحقيقاً لرغبات الشعب، وحفاظاً على مكاسبه وأمنه واستقراره، وحريته التي حققها له جيش الثورة فـي 28 سبتمبر، تعلن بأن الجيش، استمراراً لهـذه الثورة، قد استلم زمام الأمور في البلاد، اعتباراً من صباح هذا اليوم. وهي إذ تطلب من المواطنين الخلود إلى الهدوء والسكينة، والانصراف إلى أعمالهم، تحذر بأن كلّ محاولة للإخلال بالأمن وإثارة الشغب، ستقمع بمنتهى الشدة والحزم”.

ثم تلته بلاغات، تعلن حل المجلسَين: التأسيسي والنيابي، واستقالة رئيس الجمهورية، واستقالة الوزارة السورية؛ وتولي خالد العظم رئاسة الحكومة، واستمرار الدكتور ناظم القدسي رئيساً للجمهورية، واللواء عبدالكريم زهر الدين قائداً للجيش.

أثار الانقلاب ريبة السوريين، شعباً وجيشاً؛ إذ أطاح الضباط الوحدويين، فتنكر لرغبة سورية في الوحدة. وهو ما دفع قواها: البعثية والقومية والناصرية إلى التعاون على تنفيذ انقلاب 8 مارس 1963، الذي آذن بسطوع حزب البعث، ليس في دولة سورية فقط؛ إنما في العراق كذلك، حيث لم يتردد، قبل شهر واحد، عبدالسلام عارف، وهو القومي العربي، في مخالفة البعثيين على إطاحة عبدالكريم قاسم، المندفع نحو الشيوعية.

وأعلن البيان الأول للانقلاب في السابعة والنصف صباحاً. وجاء فيه: ” منذ فجر التاريخ العربي، وسورية تلعب دوراً إيجابياً مناضلاً في حمل راية العروبة والوحدة. وكانت دولة سورية العربية وشعبها، لا يعترفون بحدود قطرهم. وإنما يعيشون دائماً وأبداً في حدود الوطن العربي الكبير…

ثم أتت وحدة مصر وسورية، في الجمهورية العربية المتحدة، نموذجاً لآمال شعبنا وتحقيق وحدته الكبرى… ولكن الرجعية العميلة والاستعمار والانتهازية، أبت إلا أن تكشف عن نفسها، مستغلة الأخطاء في تلك الحقبة؛ فذهبت بالتآمر على تلك الجمهورية إلى أقصى ما تستطيع، فكانت نكبة الانفصال… إن حركة الجيش غايتها إعادة الجيش إلى منحاه العربي الصحيح. إن الجيش والشعب، يؤمنان إيمانا،ً لا يتزعزع، بالوحدة العربية على أُسُس سليمة… وسورية العربية، تمد يدها إلى بغداد والقاهرة وصنعاء والجزائر، وإلى كلّ الأحرار، في كلّ مكان”.

استهل الانقلابيون نشاطهم باعتقال اللواء عبدالكريم زهر الدين، قائد الجيش السوري، طوال فترة الانفصال؛ وعزل رئيس الوزراء، خالد العظم، الذي لجأ مع أسرته إلى السفارة التركية في دمشق؛ وخلع رئيس الجمهورية، ناظم القدسي. وأعادوا إلى الخدمة عشرات الضباط، ممن كانوا قد سرحوا، في أعقاب الانفصال، ومعظمهم من البعثيين والوحدويين. ثم أعلنوا عن أسماء قادة الانقلاب، وهم: العقيد لؤي الأتاسى، الذي مُنح رتبة فريق، وعُيِّن قائداً عاماً للجيش وللمجلس الوطني لقيادة الثورة؛ والعميد راشد قطيني، الذي رُقِّي إلى رتبة لواء، وعُيِّن نائباً للقائد العام؛ والعقيد محمد زياد الحريري، الذي رُقِّي إلى رتبة لواء، وعُيِّن رئيساً لهيئة أركان الجيش والقوات المسلحة

وحرصت القيادة السورية الجديدة، بعد نجاح الانقلاب مباشرة ، على إرسال البرقية التالية إلى الرئيس عبدالناصر: “الرئيس جمال عبدالناصر.. القاهرة – لقد تأثرنا من الانفصال، وغسلنا العار”.

خامساً: أسباب نجاح الانقلاب

توافرت للانقلاب أسباب نجاح شتّى، أهمها:

1. المد الوحدوي، وتأثير الانفصال في الشعب السوري والشعوب العربية، التي اطمأنت بالوحدة.

2. رغبة الشعب والجيش في الاشتراكية العادلة، التي قضى عليها الانفصال.

3. تكالب الانفاصليين على المنافع الذاتية، وافتقارهم إلى أُسُس الشرعية.

4. الانفصال مؤامرة خارجية، نفذها سوريون، بلغ عددهم أربعة وسبعين مدنياً وعسكرياً، توزعتهم ست فئات:

أ. ضباط تلقوا أموالاً من الخارج؛ من طريق غير مباشر، من أجل تدبير مؤامرة الانفصال، مثل: العقيد فيصل الحسيني، والعقيد حيدر الكزبري وأخيه خلوصي الكزبري.

ب. الضباط منفذو المؤامرة، وبينهم عبدالكريم النحلاوي، وموفق عصاصه، وعبدالغني دهمان.

ج. رؤساء جمهورية الانفصال وحكوماته، ومن بينهم ناظم القدسي، خالد العظم، مأمون الكزبرى، معروف الدواليبي.

د. صحفيون وكتاب، عادَوا الوحدة، وآمروا عليها الرجعية؛ وارتشوا، لترسيخ الانفصال.

هـ. كبار الرأسماليين، الذين حاولوا السيطرة على الدولة ونهب مواردها.

و. كلّ المشاركين في مؤتمر شتوره، المشنِّعين على الجمهورية العربية المتحدة.

5. تأثير الجناح العسـكري لحـزب البعث في التخطيط للانقلاب وتنظيمه؛ ما أسهم في:

أ. عودة العديد من رجال الحزب، ممن استبعدهم نظام الانفصال، وفي طليعتهم: صلاح جديد، ومحمد عمران ، وحافظ الأسد؛ وجميعهم ذوو رتبة مقدم.

ب. سيطر البعث على المجلس الوطني لقيادة الثورة في سورية، إذ عيِّن صلاح البيطار، أحد مؤسسي الحزب، رئيساً للوزراء.

6. مساهمة البعث في نجاح الانقلاب في العراق، زادت نشاط جناحه السوري؛ فأمسى أكثر إيجابية، وأكثر تنظيماً، لتولي المسؤولية.

سادساً: التوجه إلى الوحدة

بادر السوريون والعراقيون، إثر نجاح انقلابَيهما، إلى طلب الوحدة. وسارع على عرضها على الرئيس عبدالناصر، في 11 مارس، طالب شبيب، وزير الخارجية العراقي، بعد مباحثات، أجراها في دمشق. وكان ملخص ما قاله: “إن الإخوان: العراقيين والسوريين، الذين اجتمعوا في دمشق، يقترحون وحدة ثلاثية، تضم مصر وسورية والعراق. وإن هذه الوحدة، في رأيهم، هي الأمل الحقيقي والمرتجى للأمة العربية؛ فضلاً عن أنه أمل، أصبح، الآن، ممكناً، بفعل ما جرى في بغداد، وما لحقه في دمشق”.

وصل، في 14 مارس، وفْدان: عراقي وسوري، إلى القاهرة، حيث بدأت الاجتماعات مع الرئيس جمال عبدالناصر؛ واستمرت، متقطعة، نحو شهر. وكان أبرز ما تناولته:

1. انقلاب سورية وطني وحدوي تقدمي اشتراكي.

2. نشوء الوحدة الثلاثية، يجب أن يراعي الواقع؛ لتكون قاعدة لباقي الدول المتحررة.

3. ترحيب مصر بالوحدة، وتصميمها على بحثها بحثاً وافياً وصريحاً، يحول دون جريمة انفصال ثانية؛ وإلحاحها في استيضاح كُنْهها: أهي وحدة مع حزب البعث أم مع سورية والعراق.

4. اقتراح الوفد العراقي، أن تعلن الدول الثلاث، من الفور، أنها في سبيلها إلى وحدة؛ وقد بدأت بتدارسها، سيان طالت الدراسة أو قصرت. فاعترض السوريون، منوِّهين برغبة الشعب السوري في وحدة فورية، وترديده: ” لا درس، ولا تدريس، إلا بعد عودة الرئيس، ناصر ، ناصر ، ناصر”.

5. توافر العوامل لوحدة جديدة، إثر الانقلابات في اليمن والعراق وسورية، وتحرر الجزائر؛ وهو ما لم يتأتَّ للتجربة الأمّ، عام 1958.

6. عزم الجيش السوري، في ظل الوحدة، على الابتعاد عن الحكم.

7. استنتاج المصريين، أن المزمع عليه هو “وحدة بعث” عراقية – سورية مع الجمهورية العربية المتحدة.

وُقع اتفاق الوحدة الثلاثية، في 17 أبريل 1963؛ إلا أن مصر نقضته، في 13 مايو 1963، ورهنت انضمامها إليه بحكم، يمثل مختلف طبقات الشعب، في العراق ودولة سورية. وسرعان ما صح حدسها، إذ اصطرع قادة الانقلاب في سورية. فنُفِيَ زياد الحريري إلى أوروبا. وأزيح لؤي الأتاسي… وشرعت الحكومة البعثية تطهِّر الجيش ومرافق السلطة والإدارة من المؤيدين للسياسة الناصرية. وعُنفت بانقلاب ضباط ناصريين، قادهم جاسم علوان، في 18 يوليه1963؛ وشاركهم فيه ضباط من دمشق، وآخرون متقاعدون.

سابعاً: المواقف من إعلانها

زعزع إعلان الوحدة دول منطقتها. وتفاوتت المواقف منها، على المستويَين: الرسمي والشعبي، وفقاً لتفاوت النظُم السياسية للدول الخارجية وعلاقاتها الإستراتيجية بدول الوحدة الثلاث.

1. الأردن

طرب شعب الأردن للوحدة. ودفعته سورة الابتهاج بها إلى مصادمة أجهزته الأمنية، حيث سقط العديد من القتلى والجرحى. واستقالت وزارة وصفي التل. وعهد إلى سمير الرفاعي بتأليف وزارة جديدة، عليها أن تواجه موقفاً مشحوناً بالتوتر.

2. إسرائيل

خير معبِّر عن لقلق إسرائيل خطاب، أرسله، ديفيد بن جوريون، في 26 أبريل إلى الرئيس الأمريكي جون كيندي، يحطيه علماً بخطر الموقف؛ ويبدي استعداده لزيارة واشنطن، سراً، ومباحثتها فيه. ولفت الخطاب إلى:

أ. إنشاء اتحاد عسكري بين الدول العربية الثلاث (مصر – سورية – العراق)، يتضمن وعداً بالعمل على تحرير فلسطين. وهذا التحالف العسكري في حد ذاته، سيؤثر، سلباً، في أمن إسرائيل استقرارها.

ب. اعتقاد إسرائيل أن في استطاعتها هزيمة الدول الثلاث، إذا حدث اختبار للقوة؛ وإن كانت لا ترغب في ذلك.

ج. الحل الفعال الوحيد، لدرء خطر مخططات الجمهورية العربية المتحدة، يكمن في إعلان أمريكي – سوفيتي مشترك، يضمن السلام الإقليمي، والأمن لدول الشرق الأوسط. ويترتب عليه قطع كلّ أنواع المساعدات: الاقتصادية والعسكرية، لأيّ طرف، يرفض الاعتراف بجيرانه.

3. الولايات المتحدة الأمريكية:

أثار النفوذ الصهيوني عاصفة في الكونجرس، للمطالبة بتزويد إسرائيل بما تحتاج إليه من الأسلحة؛ وحرمان الجمهورية العربية المتحدة المساعدات. غير أن الرئيس كيندي، اتخذ موقفاً معتدلاً ومسؤولاً، فأرسل مبعوثاً مقرباً إليه، للاجتماع بالرئيس عبدالناصر، وتعرُّف حقيقة الموقف، وحث الأطراف على تهدئته.

4. الاتحاد السوفيتي

تحفظ الاتحاد السوفيتي من الوحدة؛ إذ لا مكان للشيوعيين فيها، فهُم مقموعون. العراق يحرم عليهم أيّ نشاط؛ بل أعدم وسجن الكثيرين منهم. وفي سورية، كانوا أكثر الفئات اضطهاداً واعتقالاً، فهربوا منها.

واستمرت المطالبة بالوحدة تعلو وتخبو، إلى أن اضمحلت؛ لتدخل سورية في عصر جديد، يسيطر عليه حزب البعث القومي الاشتراكي، ولاسيما جناحه العلوي.

سورية في عهد الرئيس الأسد

عصفة هزيمة يونيه 1967 بالنظام السوري، ذي التوجهات الاشتراكية الملامسة للماركسية؛ فزعزعته الصراعات المريرة بين المدنيين والماركسيين والعسكريين ذوي الميول القومية المعتدلة. وتزعم الأولين رئيس الدولة، نور الدين الأتاسي، المعروف بتهوره السياسي واندفاعه نحو التشدد، على المستوى الداخلي، وتنكره للدول المجاورة، بما فيها مصر. وترأس الآخرون وزير الدفاع، العماد حافظ الأسد، الذي تمكّن من تدعيم نفوذه في الجيش وحزب البعث الحاكم، مستخدماً في ذلك أساليب: سياسية وعسكرية، مختلفة.

لم يفتح بين الطرفَين إلا التصادم الأردني – الفلسطيني، عام 1970، فيما عُرف باسم: “أيلول الأسود”. إذ عزم صلاح جديد ونور الدين الأتاسي على تدّخل قوات سورية إلى جانب الفلسطينيين في الأردن. وعارضهما الأسد؛ لا، بل منع سلاح الطيران من حماية تلك القوات؛ ما سهّل على الطيران الأردني السطو بها. أغرى ذلك العماد حافظ الأسد بحركة تصحيحية، في نوفمبر، رفعته إلى رئاسة سورية؛ فاستأثر بالسلطة المطلقة على النظام، وأحاط نفسه، من البداية، بأتباع مخلصين من طائفته العلوية، سيطروا على الجيش والحزب، وأجهزة الأمن؛ إضافة إلى أنصاره من السُّنيين، وبخاصة مصطفى طلاس.

حافظ الأسد

1. ولد في 6 أكتوبر1930، في قرية “القرداحة”، في محافظة اللاذقية، لعائلة تعمل في الزراعة.

2. انتسب، عام 1946، إلى حزب البعث.

3. التحق بالأكاديمية العسكرية، عام 1952؛ ثم كلية الطيران السوري، حيث تخرّج، عام 1955، طياراً مقاتلاً. وحصل على دورة تدريبية في الاتحاد السوفيتي.

4. خدم في القاهرة، خلال فترة الوحدة مع مصر. وكان عضواً في اللجنة العسكرية لحزب البعث، التي ضمت 13 ضابطاً. وأُبعد عن الجيش، عقب الانفصال. ثم أُعيد إلى الخدمة، عقب انقلاب مارس 1963.

5. عُين قائداً للقوات الجوية، في أعقاب الأحداث، التي كادت تعصف بأمين الحافظ. وانضم، عام 1965، إلى القيادة العليا لحزب البعث.

6. عُين وزيراً للدفاع، إثر انقلاب 23 فبراير 1966. وكان هذا المنصب فرصة لتقوية نفوذه: السياسي والعسكري. وشارك خلال توليه المنصب في حرب يونيه 1967.

7. اضطلع بحركة تصحيح، في 13 نوفمبر 1970، واستولى على السلطة. وتولى، في 16 من الشهر نفسه، قيادة دولة سورية. ثم تولى الرئاسة، رسمياً، في سورية، في 14 مارس 1971، بعد ترشيح مجلس الشعب، والاستفتاء في الرئيس.

8. ينتمي إلى الطائفة العلوية، التي تمثل 11% من الشعب السوري.

9. توفي في 10 يونيه 2000، عن عمر، يناهز 69 عاماً.

_______________________________________________