ابرز الأحاديث الصحفية التي أدلى بها الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز
الامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز

الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود قد أدلى بالعديد من الحوارات والمقابلات الصحفية على مر السنوات. خلال هذه الاحاديث الصحفية، تناول الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز مجموعة متنوعة من المواضيع المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والشؤون العسكرية والثقافة والتطورات الإقليمية والعالمية.قد تحدث الأمير خالد بن سلطان عن السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية والدور الذي تلعبه في الشؤون الإقليمية، بما في ذلك القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط والعلاقات الدولية. كما أعرب عن آرائه حول قضايا مثل الإرهاب والأمن الإقليمي والتطورات في منطقة الخليج العربي.تابع مقالنا لمعرفة الكثير حول ابرز الاحاديث الصحفية الخاصة بالامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز.

ابرز الأحاديث الصحفية التي أدلى بها الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز

الى مجلة كلية الملك عبدالعزيز الحربية

الرياض، المملكة العربية السعودية

العدد 28، 1408هـ ـ 1988م

 

أجرى الحوار:

النقيب شيبان أحمد الراشدي، والطالب سلطان بن سعود آل سعود.

 

س: سمعت في إحدى المحاضرات، أن هناك تناسباً طردياً بين قلق إسرائيل تجاه أي دولة من دول العالم العربي، وبين تطور القوات المسلحة في هذه الدولة. فما هو تعليق سموّكم على ذلك؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : من وجهة نظري، فإن أسباب قلق إسرائيل تجاه التقدم العسكري لأي دولة عربية، تتلخص في الآتي:

1. فلسفة القوة في تأسيس إسرائيل، لأنها تأسست على استخدام القوة والعنف. واستمر منهج القوة يحكم سلوكها، منذ نشأتها حتى الآن. وأنتجت هذه الفلسفة مفاهيم عديدة، مثل نظرية أمن إسرائيل، وأساليب الأحزمة الأمنية، ومفهوم التفوق العسكري على الدول المجاورة. كما تؤمِن أن القوة هي أساس استمرارية بقائها، وانطلاقاً من هذه الرؤية تسعى إلى إجهاض أي محاولة لدولة عربية لتطوير قواتها المسلحة وتقويتها، إيماناً منها بأن الهجوم خير وسيلة للدفاع.

2. تعتمد إسرائيل على القوة لإرهاب الدول العربية، وإقناع الدول الغربية بأنها رجل الشرطة القوي في المنطقة، لِمَا لها من ذراع طويلة وتفوق نوعي، وأنها يمكِنها حماية المصالح الغربية، على الرغم من أن حرب العاشر من رمضان قد أنهت الكثير من هذه الادعاءات.

3. عند حساب التوازن العسكري في المنطقة، كما تدّعيه بعض الدول الغربية وإسرائيل، تُدخِل القوات المسلحة لجميع الدول العربية في الحساب عند مقارنتها بالقوات الإسرائيلية، وحجتهم في ذلك أنه يمكِن لهذه الدول، في لحظة ما، الاتحاد واستخدام جميع قواتها ضد إسرائيل. وعلى الرغم من عِلمهم أن هذا الافتراض، عملياً وعسكرياً وسياسياً، خطأ فادح، إلاّ أن إسرائيل تغذيه وتنميه لمصلحتها.

4. تعلم إسرائيل أن العالم قد يعطف على الضعيف، ولكنه يحترم القوي، ويؤمن بفرض الأمر الواقع. لذلك، تحاول بكل الإمكانات أن تكون هي الأقوى، وهي الأكثر احتراماً، بصرف النظر عن الإدانات والاستنكارات والشجب والشعور بالقلق والمشاعر الإنسانية الأخرى.

5. تنزعج إسرائيل ليس فقط من تطور القوات المسلحة لأي دولة عربية فحسب، بل تنزعج أيضاً من التطور في كل مجال يخدم هذه الدول، وأشدّ ما يزعجها هو شعورها بالتماسك الديني والعقدي لأي دولة عربية، ومن هنا تجيء كافة محاولاتها لهدم شباب هذه الدول، داخلياً، وترويجها لكافة المحرّمات.

 

س: حرب الخليج، من وجهة النظر الشمولية لسموّكم، هل ترون أنها تتخذ الصفة الإقليمية أو الدولية، كما تردّد في بعض وسائل الإعلام العالمية؟

الإجابـــة

1. قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : في الحقيقة، لا بدّ أن أوضح نقطة مهمة، وهي أن أي صراع، حتى لو كان محلياً، فله أبعاده الإقليمية والدولية. لذلك، فإنني أرى أن حرب الخليج، على الرغم من أن دائرة الصراع المسلح فيها، لم تتعدَّ حتى الآن منطقة الخليج نفسها، إلاّ أن لها أبعادها الثلاثية: المحلية والإقليمية والدولية.

فإذا تطرّقنا إلى البُعد المحلي في هذه الحرب، نجد أن الطرف الإيراني في إدارته للصراع، يأخذ الشكل العقدي، واضعاً في اعتباره الهدف السياسي العسكري التالي: “هزيمة النظام الحاكم في العراق، عسكرياً، تمهيداً لقيام نظام موالٍ لإيران”، مستغلاً التفوق البشري الإيراني، ومحاولاً حرمان العراق من استغلال تفوقه في المعدات. بينما يُظهر الجانب العراقي في إدارته للصراع الشكل القومي، واضعاً في اعتباره الهدف السياسي العسكري التالي: “الدفاع عن أراضي الدولة، وهزيمة القوات المهاجمة، وحرمان إيران من مصادر الثروة النفطية، لإجبارها على قبول التسوية السلمية”، مستغلاً التفوق العراقي في المعدات، ومعتمداً على المواقع الدفاعية الحصينة لتقليل الخسائر.

2. إذا نظرنا إلى البعد الإقليمي في الصراع، نجد أن أطرافه هي دول منطقة الشرق الأوسط. ونجد أن هذه الدول، انقسمت ما بين دول مؤيدة للعراق، وأخرى مؤيدة لإيران، كما أنه علينا ألاّ نغفل تأثيرات هذا الصراع في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الذي، للأسف، تراجعت أولوياته، وكذا زيادة النفوذ الإيراني في لبنان، ومحاولات أخرى لجذب العديد من الدول للدخول في دائرة الصراع.

3. أما بالنسبة إلى البُعد الدولي، فلا يخفى علينا ما تمثله منطقة الخليج من أهمية إستراتيجية شمولية لكثير من دول العالم ومحاولتهم التأثير على مُجريات الأمور لمصلحتهم الاقتصادية، في المقام الأول، ثم مصالحهم السياسية، ولكل دولة أهدافها الخاصة في استمرار هذا الصراع أو توقفه.

 

س: ما رأي سموّكم في إنشاء معهد الدراسات والبحوث الإستراتيجية، طبقاً لِمَا هو معمول به في معظم البلدان المتقدمة؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : إنني، كرجل عسكري، أُومن بأهمية البحوث والدراسات عموماً في أي مجال، لأنها البداية العلمية الصحيحة لأي عمل أو مشروع أو فكر، ولا يُمكن اتخاذ القرار السليم من دون بحث ودراسة، وأن أساس تقدم الدول العظمى هو بمقدار ما أنفقته وتنفقه في مجال البحث العلمي والدراسات.

ويُمكن القول: إن البحوث والدراسات تزداد أهمية كلما ارتفع المستوى الذي يطلبها. ونظراً إلى التطور العلمي والتقدم التقني تظهر الأهمية القصوى للبحوث والدراسات، في المستوى العسكري، وفي المستوى الإستراتيجي، أيضاً.

لذلك، فمن الضروري وجود مراكز بحوث ودراسات إستراتيجية، على مستوى الجامعات، وعلى مستوى كافة التنظيمات العُليا، مع ضرورة وجود معهد خاص لهذه الدراسات والبحوث، على مستوى المملكة، يكون أحد أهدافه إعداد صانعي القرار، إستراتيجياً، بشرط التنسيق والترابط الكامليْن بين كافة المراكز والهيئات والإدارات والأقسام التي تعمل في هذا المجال.

والحمد لله، لدينا إدارات وأقسام بحوث في كل فرع من الأفرع الرئيسية، وعلى مستوى القوات المسلحة، أيضاً.

 

س: ما هو رأي سموّكم في ما تنشره مراكز الدراسات الإستراتيجية الدولية، من تفاصيل مذهلة عن التسليح والتشكيلات العسكرية ومستوى التدريب، وعلاقتها بالجوانب السرّيّة الإستراتيجية لكل دولة؟

ج:قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : نظراً إلى التطور الهائل في معدات ووسائل وأساليب الحصول على المعلومات، ونظراً إلى التقدم الملحوظ في وسائل نقل المعلومة من مكان إلى آخر، في أسرع وقت، وبأعلى درجة من الدقة، فما عادت معرفة عدد الأسلحة والمعدات، أو تعداد القوات المسلحة لأي دولة، موضوعاً سرّيّاً يؤثر في كفاءتها في أي حرب مقبلة. كما أصبح تحقيق المفاجأة، من طريق إخفاء أعداد الأسلحة والمعدات والأفراد، صعباً للغاية.

أما السرّيّة الحقيقية، من وجهة نظري، والتي يجب أن توليها جميع الأجهزة العسكرية عنايتها الفائقة، فهي في مستوى تدريب الوحدات والتشكيلات، وفي أسلوب استخدام هذه الأسلحة والمعدات، وفي خطط العمليات المستقبلية، وفي مستوى الكفاءة القتالية للقوات المسلحة. وأهم من ذلك كله الروح المعنوية لمنسوبيها.

 

س: في يوم 28/5/1987م، هبطت طائرة ألمانية خاصة صغيرة في الميدان الأحمر بالاتحاد السوفيتي مخترقة شبكة إنذار الدفاع الجوي دون أن تُكتشف. وجّهت وسائل الإعلام الروسية، عقب ذلك، انتقادات عنيفة إلى أوجُه القصور في القوات المسلحة، ونُشرت أيضاً التعديلات التي حدثت في القيادات. ما رأي سموّكم في ما نشرته وسائل الإعلام هذه وهل يتفق ذلك مع مهمتها الإعلامية؟ وما هي المهام التي يجب أن تؤديها وسائل إعلام الدولة، تجاه المجال العسكري؟

ج:قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : إن التقدم الرهيب في وسائل الاستطلاع ووسائل التجسس ووسائل الاتصالات بأنواعها المختلفة، جعل إخفاء الأحداث المحلية أمراً صعباً للغاية. ولذلك، نجد أنه عند حدوث أي حدث، تبدأ وسائل الإعلام العالمية في نشر التفاصيل، كلٌّ حسب إمكانياته، وطبقاً لصدق مصادر معلوماته.

فإذا امتنعت وسائل الإعلام المحلية عن نشر حقائق هذا الحدث، كان ذلك مجالاً خصباً للشائعات والقصص المختلفة. ومن وجهة نظري، فإنني أرى ضرورة نشر الحقائق، بشرط عدم المساس بأمن الدولة. وأعتقد أن ممارسة النقد الذاتي، هي أفضل أنواع النقد. ولا يدل النقد على الضعف، إنما يدل على القوة، لأنه يقود إلى معالجة الأخطاء وتصحيح الأوضاع بما يتفق ومصلحة الدولة. كما أنني أرى أن نشر أي تعديلات في القيادات نتيجة قصور ملحوظ، يعني أن المسؤولين يطبقون مبدأ الثواب والعقاب، وأنهم ساهرون على مصالح الدولة، وإقصاء مَن لم يثبت جدارته في خدمة الوطن. كما أنني ضد التهويل في النشر، سواء في الاتجاه السلبي، الذي قد يؤدي إلى فقدان الثقة، أو في الاتجاه الإيجابي، الذي يؤدي إلى الزيادة المفرطة في الثقة بالنفس؛ وكلاهما ضار.

وأرى أن تكون مهامّ وسائل الإعلام المدنية، تجاه المجال العسكري، كما يلي:

1. إعلام المواطنين بواجبات القوات المسلحة ومسؤولياتها وقدراتها.

2. كسب تجاوب المواطنين وتقديرهم وثقتهم بالقوات المسلحة.

3. التصدي للشائعات المغرضة، والهدّامة، التي تهدف إلى إحباط معنويات الأفراد.

4. استخدام وسائل النشر المختلفة لتثقيف منسوبي القوات المسلحة وتوعيتهم.

5. ترغيب الشباب في الانتظام في المجال العسكري.

6. تعبئة الرأي العام وتوحيده في الأزمات والطوارئ.

وهنا تظهر أهمية التنسيق بين أجهزة الإعلام المدنية وأجهزة الإعلام والجهات الأمنية والإدارية في القوات المسلحة.

س: يتقدم إلى المعاهد ومراكز التدريب والكليات العسكرية أعداد كبيرة من الطلاب. فما هو رأي سموّكم في الأسلوب الأمثل للاستفادة من هذه الطاقات البشرية في قواتنا المسلحة؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : تعتبر الثروتان، المادية والبشرية، هما زينة الحياة وعمادها، كما يقول الحق تبارك وتعالى: “المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا” (سورة الكهف، الآية 46). لذلك، يجب استغلال هذه الثروة البشرية أحسن استغلال، لأنها نعمة من نعم الله، حتى تتحقق الأهداف المشروعة لكل فرد، ومن ثمّ يشعر بالرضا والسعادة والانتماء، وهنا يسهل تحقيق أهداف الدولة المختلفة: السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية. لذلك، تُعد العناية بالثروة البشرية وتوجيهها وُجهة تتفق مع إمكانات الأفراد، حتى يُوضع كل فرد في العمل الذي يصلح له، إحدى الأهداف الأساسية للدولة.

إن الأسلوب العلمي للاستفادة من هذه الطاقات البشرية في قواتنا المسلحة، يمكن أن يتحقق طبقاً للخطوات المنطقية التالية:

1. تحديد أهداف القوات المسلحة.

2. تحديد حجم الوحدات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، ومن ثم تحديد حجم القوة البشرية المطلوبة.

3. بمعرفة الحجم المتيسّـر من القوة البشرية، يمكِن تحديد الاحتياجات المطلوبة، كماً ونوعاً، والفترة الزمنية اللازمة لذلك.

4. حتى يُمكن تحديد النوعية المطلوبة من القوة البشرية، يلزم تحليل الوظائف التي سيشغلها الأفراد، وتعني كلمة الأفراد هنا جميع منسوبي القوات المسلحة (ضباطاً وضباط صف وأفراداً و مدنيين).

5. من تحليل الوظائف، يمكن الخروج بالتوصيف الوظيفي، الذي يعني في أبسط صورة له: تحديد مُسمى الوظيفة، وواجباتها ومسؤولياتها، ثم تحديد مواصفات شاغل الوظيفة.

6. من تحديد مواصفات شاغل الوظيفة، يمكِن الخروج بنقطتين هامتين:

أ. تحديد الحدّ الأدنى من المتطلبات الواجب توافرها في المتقدمين.

ب. تحديد مهمّة المعهد أو المركز أو الكلية لتنمية هذه المتطلبات للمتقدمين، وتزويدهم بالمعرفة، وإكسابهم المهارات المطلوبة لتتفق مع مواصفات شاغل الوظيفة، أي لتجعلهم مؤهلين لشغل الوظائف المناسبة لهم.

س: دعاية الالتحاق بالخدمة العسكرية تتضمن، غالباً، أحد المضمونين التاليين:

أ. (من أراد أن يؤمن مستقبله ومستقبل أبنائه وأسرته في الحياة الكريمة والسكن المُريح والعلاج المجاني)، فليلتحق بالقوات المسلحة.

ب. (من أراد أن يحيا حياة الكرام أو يموت ميتة الشهداء)، فليلتحق بالقوات المسلحة.

أيهما، في نظر سموّكم، أكثر وقعاً في نفس الشباب الملتحق؟ وذلك في ضوء الرفاهية التي يعيشها الشعب السعودي، ولله الحمد.

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : إن عماد نجاح القوات المسلحة لأي دولة إسلامية، يكمن في القوة البشرية الواعية، التي تتمثل غالبيتها في الشباب المتمسك بعقيدته.

وإن الهدف من تقدُّم أي فرد لشغل وظيفة ما، هو تلبية احتياجات الفرد ومَن يعولهم. وقد تطرّق إلى حاجات الفرد، العالم (ابراهام ماسلو)، في نظريته الخاصة بالتدرج الهرمي للاحتياجات الإنسانية، وحدد خمس احتياجات هي: الاحتياجات الطبيعية (الجسمانية والفسيولوجية)، واحتياجات الأمن، والاحتياجات الاجتماعية، واحتياجات احترام الذات والحصول على تقدير الآخرين واحترامهم، واحتياجات الرضا النفسي والاعتداد بها.

ويزداد رضا الفرد عن عمله، إذا شعر أنه متفق مع عقيدته الدينية، وأنه مثاب عليه في الآخرة. ولا ننسَ قول المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام: “عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ” (سنن الترمذي، باب فضائل الجهاد).

إن الاهتمام بالناحية المادية لا يُقلل من اهتمامنا بالناحية الدينية. ولقد أُثِرَ عن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”.

فإذا اخترنا الشق الأول من هذا القول، وجدناه يعني تحقيق كافة احتياجات الأفراد، وتحسين المستوى، وعمارة الأرض، وتحسين وتطوير كل ما من شأنه تقوية الدولة، ولا مانع أن يكون أحد الأهداف عند الالتحاق بالخدمة العسكرية. ولا يخفى علينا أن تأمين حاجات الفرد ومن يعولهم سيكون حافزاً له على الجهاد في سبيل الله لاطمئنانه على مستقبل أسرته، وهنا يتفرغ تماماً للعمل، الذي تشرف بالانتساب إليه.

وإذا اخترنا الشق الثاني من هذا القول، وجدناه يعني أن نفكر في الآخرة، وأن نعمل لها. وبالتأكيد، لا يوجد ميدانٌ أشرَف من ميدان القتال دفاعاً عن المال والعرض والنفس والدين والوطن، لدخول الجنة. وهنا يجب أن نتذكر قول الحق تبارك وتعالى: “إِنَّ اللهَ اشتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ والقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاستَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ” (سورة التوبة، الآية 111).

س: (خدمة العَلَم) أو (التجنيد الإجباري) كما يُسمى في بعض الدول، عبارة سمعناها كثيراً، ونُريد أن نعرف من سموّكم وجهة نظركم حيال هذا التعبير الوطني. وإلى أي مدى يُمكِن تحقيقه في المملكة العربية السعودية؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : تعتمد القوات المسلحة لأي دولة على أحد النظامين التاليين، لإمدادها بالعناصر البشرية:

إمّا نظام التطوع الكامل أو نظاما التطوع وخدمة العلم، أو ما يُسمى بالتجنيد الإجباري. والغرض من كلا النظامين هو:

(ضمان إمداد القوات المسلحة بالعناصر المطلوبة لتحقيق الكفاءة القتالية وأعلى درجات الاستعداد للدفاع عن أراضي الدولة وتحقيق أهدافها، ولضمان وجود نظام للاحتياط أيضاً، يكون جاهزاً للإمداد أثناء العمليات الحربية، سواء للاستعاضة أو لإنشاء وحدات جديدة يتطلبها الموقف العسكري).

إن الاعتماد المطلق على نظام التطوع الكامل فقط، وإن كان به عدة ميزات، أهمها اقتناع الفرد بسموّ الهدف، إلاّ أنه يعيبه ضعف نظام الاحتياط، لأن إعداد الفرد المقاتل يتطلب وقتاً طويلاً نسبياً لإكسابه المهارة المطلوبة في استخدام المعدات المتقدمة، المعقدة فنياً وتقنياً. هنا، يلجأ بعض الدول إلى نظام التجنيد الإجباري لتكملة أي عناصر أخرى مطلوبة، لم تحصل عليها بواسطة نظام التطوع، علاوة على إنشاء قاعدة عريضة من الشباب يجرى إعدادهم عسكرياً، ويتمّ ضمهم إلى نظام الاحتياط، عقب انتهاء فترة تجنيدهم. ولضمان نجاح مثل هذا النظام، فلا بدّ أن يُستدعى مَن انتهت فترة تجنيده، سنوياً، لإعادة تدريبه للمحافظة على كفاءته القتالية، وبالطبع، يلزم مع هذا وجود نظام تعبئة كفء.

إن اتّباع أيٍّ من النظامين يتوقف على ظروف الدولة، السياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية، وطبيعة التهديدات ضد الدولة.

بالنسبة إلى المملكة، فإننا نطبق النظام التطوعي أساساً. وفي حالة التفكير في تعديل هذا النظام أو تطويره، سيكون هناك ضوابط ومعايير واضحة، بما يُحقق الاستفادة القصوى من طاقات شبابنا الواعي، وإنشاء نظام احتياط كفء وفعال، لتحقيق أهداف قواتنا المسلحة ومن ثَم أهداف المملكة.

س: هل يرى سموّكم إدخال مادة (التوجيه المعنوي) ضمن المقررات المنهجية في الكليات العسكرية، أو أن ذلك من مهمّة القادة والمعلمين ضمناً؟

الإجابـــة

قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : أولاً: يجب أن نحدد مشتملات التوجيه المعنوي، كما هو متعارف عليه في بعض الجيوش، التي تدخل هذه المادة في مناهجها بهذا الاسم، وهي: الروح المعنوية ومقوماتها والعوامل المؤثرة فيها، دور القائد لرفع الروح المعنوية، قياس الروح المعنوية، دور الشؤون العامة في رفع الروح المعنوية، سلماً وحرباً، فن القيادة، مقاومة دعايات العدو وشائعاته، تنمية روح العمل الجماعي في الوحدة، دراسة السلوك الإنساني في المجتمع العسكري.

ثانياً: مكونات منهج الكلية، كما اطلعت عليه، يحتوي على معظم هذه الموضوعات، ولكن ضمن مواد مختلفة. فمثلاً، نجد أن فنّ القيادة يدخل ضمن الإدارة، ودراسة السلوك الإنساني والحرب النفسية تدخل ضمن عِلم النفس العسكري.

ثالثاً: يجب أن يكون معلوماً لدينا أهمية عملية التوجيه المعنوي، في أنها تهدف إلى تغذية الصفات العقدية والمعنوية وتقويتها لدى رجال القوات المسلحة، حتى يصبحوا قادرين على إحراز النصر، وتحقيق المهام المكلفين بها.

رابعاً: إن غرْس العقيدة الصحيحة ومتابعتها وتغذيتها ورعايتها، هي عملية مستمرة منذ دخول الطالب إلى الكلية وحتى تقاعده. ولذلك، فإن المسؤولية تُلقَى على عاتق الكلية، في المقام الأول، ثم متابعة هذه المسؤولية بواسطة القادة، على جميع المستويات.

خامساً: أؤيد وجود مثل هذه المادة ضمن مقررات الكلية، مع تجميع الموضوعات الخاصة بها، والاهتمام بإظهار دَور التوجيه المعنوي في جميع مراحل التدريب، خاصة التمارين الميدانية، وجميع مراحل العمليات، وفي صور المعركة المختلفة.

سادساً: كما يجب الاهتمام الكامل بالدَّور الفعال، الذي تؤديه العقيدة الدينية في رفع الصفات المعنوية والقتالية للأفراد وتقويتها.

وقد كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يرفع معنويات المسلمين قبْل كل غزوة من الغزوات، وذلك امتثالاً لقول الحق ـ تبارك وتعالى: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يِكُن منكُم عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإِن يَكُن منكُم مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ” (سورة الأنفال، الآية 65).

 

س: هل هناك نية لإنشاء كلية عسكرية خاصة بقوات الدفاع الجوي؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : من المنطق أن تكون لقوات الدفاع الجوي كلية خاصة بها، كقوة رابعة، أسوة بالقوات البرية والقوات الجوية والقوات البحرية.

ولكن نظراً إلى ترشيد الإنفاق والاستفادة من إمكانات كلية الملك عبدالعزيز الحربية، فإن هذه الفكرة مؤجلة حالياً.

وعندما يتطلب الموقف، ويـزداد عـدد الخريجين لمصلحـة قوات الدفاع الجوي، فسيتم ـ بمشيئة الله ـ إنشاء مثل هذه الكلية، وجار إعداد الدراسات الخاصة بذلك.

 

س: ما هي أهم النقاط البارزة التي لمستموها، أثناء دراستكم في كلية “ساندهيرست”؟

ج:قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : من أهم النقاط البارزة التي لمستها، أثناء دراستي في كلية “ساندهيرست” ما يلي:

1. كثافة التمارين العملية في الميدان، على مختلف أنواع الأراضي، وفي ظروف جوية مختلفة.

2. كثافة تمارين الرماية بالذخيرة الحية بالأسلحة الصغيرة (مسدس، رشاش، بندقية)، والهاونات.

3. التشديد على الانضباط العسكري بشكل أساسي والتقيد بالتقاليد العسكرية.

4. الاهتمام الشديد بالثقافة العامة للطلاب، خصوصاً عن البلاد التي تهمهم.

5. التركيز على أهمية قوة التحمل البدني للطالب والاعتماد على النفس، أثناء التمارين الشاقة.

6. التركيز على قراءة الخرائط والملاحة عملياً، ليلاً ونهاراً، في الميدان.

7. التركيز على اللياقة البدنية والنشاطات الرياضية والاجتماعية.

8. الاهتمام بالقياس الموضوعي لكل شيء، وتحليل النتائج (رماية، تدريب، لياقة بدنية ونتائج امتحانات).

9. لا يُعطى سيف الشرف، عند تحديد الطالب الأول في القسم النهائي، للمتفوق في الدراسة فقط، إنما يُعطى للمتفوق في جميع النواحي (القيادية والتعليمية والاجتماعية وقوة الشخصية). وبمعنى مختصر، يُعطي سيف الشرف لمن تتوفر فيه الخصائص الكاملة للضابط المثالي.

10. الاهتمام بدراسة العلوم الإنسانية إلى جانب العلوم العسكرية، لِمَا لها من أهمية خاصة في تكوين شخصية الضابط، ومعاونته على الفهْم والتأثير في سلوك مرؤوسيه، وتُعدّ من ضمن المواد المنهجية.

 

س: عَلِمَتْ المجلة أن سموّكم عقدتم اجتماعاً سنوياً للقيادة، بعد عام كامل من تولّيكم قيادة قوات الدفاع الجوي، وأعلنتم سياسات واضحة وأهدافاً محددة. وقد كان اجتماعاً ناجحاً من جميع الوجوه، فهل يتكرم سموّكم بإيضاح مقومات نجاح هذا الاجتماع؟ وهل يُمكن إطلاعنا على موضوعات جدول الاجتماع؟

الإجابـــة

*قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : إن مقومات نجاح أي اجتماع هي:

التحضير الجيد للاجتماع، والإدارة السليمة له، والمناقشات البنّاءة للأعضاء، وتسجيل وقائعه وتوثيق المحضر، ثم متابعة تنفيذ قراراته وتوصياته.

يشمل التحضير الجيد للاجتماع ما يلي: إعداد الموضوعات المطلوب بحثها إعداداً كاملاً، وإعداد جدول الأعمال، وتوزيعه قبْل الاجتماع بوقت كافٍ، وتهيئة رئيس وأعضاء وسكرتير الاجتماع أنفسهم، واختيار مكان الاجتماع وتهيئته، واختيار التوقيت المناسب للاجتماع، وتنظيم وتقسيم الوقت على فقرات جدول الأعمال، وإعداد التعليمات المستديمة لكيفية إدارة المناقشات، طبقاً لنوع الاجتماع.

تأتي، بعد ذلك، مرحلة الإدارة السليمة للاجتماع، والخروج بالقرارات والتوصيات، طبقاً للمناقشات التي تُدار. يتمّ تسجيل وقائع الاجتماع خلال انعقاده، ومن ثَم تُعاد صياغتها وتُدقق، وتُدوّن في محضر، وتُنسخ بعد اطلاع رئيس الاجتماع وموافقته عليها.

تأتي، بعد ذلك، أهم مرحلة، وهي وضع خطة عمل لتنفيذ كافة القرارات والتوصيات ومتابعتها، ثم تقديم تقرير دَوريّ للقائد، في خصوص حل المشكلات التي تمّت مناقشتها والقرارات المتخذة في شأنها.

* لقد نجح الاجتماع السنوي لقادة وحدات وتشكيلات قوات الدفاع الجوي، بفضل الله أولاً، ثم بفضل إصرارنا على اتّباع جميع المقومات السالفة الذكر.

* أمّا عن موضوعات جدول الأعمال، فكانت تشتمل على الموضوعات الرئيسية الآتية:

1. السياسات العامة.

2. الأهداف المطلوب تحقيقها في العام القادم وما بعده.

3. الملاحظات الرئيسية التي حدثت خلال العام الماضي.

4. سرد للإنجازات التي تحققت في قوات الدفاع الجوي، خلال العام الماضي.

 

س: استكمالاً للسؤال السابق، هل تسمح لنا بمعرفة السياسات والأهداف، التي تمّ إعلانها في هذا الاجتماع؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : قبْل أن أستعرض السياسات والأهداف التي تمّ تحديدها، أودّ أن أوضح مفهوم هاتين الكلمتين والفرق بينهما:

فالسياسات هي مسلك، أو توجيه، أو فهْم عام، يقود ويرشد تفكير المرؤوسين عند اتخاذ القرار. ويُمكِن أيضاً تعريفها بأنها مجموعة من الخطوط العريضة أو الضوابط والحدود، التي يضعها المستوى الأعلى، بقصد توجيه مجهودات المرؤوسين لتحقيق أهداف محددة.

أمّا الأهداف، فهي النتائج التي يُراد تحقيقها، وهي الغايات التي تتّجه إليها كافة الأنشطة، وهي تمثل نقطة النهاية المطلوب الوصول إليها. ويجب أن توضع هذه النتائج في صورة كمية ونوعية، مع تحديد الوقت الذي يجب أن يتمّ خلاله تحقيقها.

ولزيادة توضيح الفرق بين السياسات والأهداف، فإنه يمكِن اعتبار أن الأهداف هي محطات الوصول المراد بلوغها، والسياسات هي القضبان التي نسير عليها للوصول إلى هذه المحطات.

تتلخص السياسات، التي أعلنتها، في الآتي:

1. الانضباط العسكري هو أساس كافة الأعمال.

2. التدريب هو الاهتمام الرئيسي لجميع القادة، وعلى كافة المستويات.

3. تطبيق مبدأي الثواب والعقاب.

4. تحقيق العدل.

5. اتّباع الأسلوب العلمي لحل المشكلات واتّخاذ القرارات.

6. التركيز والاهتمام في العمل بالنوع، وليس بالكم.

وبالطبع، هذه رؤوس موضوعات فقط، والتفصيلات، شُرِحت للقادة. أمّا الأهداف، فلها ـ كما تعلمون ـ صفة السرّيّة، وليس من المناسب ذكرها.

 

س: نسمع كثيراً عن تعريفات مختلفة للقيادة، وتطالعنا كتب الإدارة، كل يوم، بنظريات ونماذج (أنماط) قيادية مختلفة. فهل يسمح سموّكم، بعد ممارستكم القيادة فترة طويلة، بتوضيح أيٍّ من هذه النظريات أو النماذج تفضلون في قيادتكم؟

ج: أجمعتْ أكثر التعريفات للقيادة على أنها: فنّ التأثير في الأشخاص، وتوجيههم بطريقة معيّنة يتسنى معها كسْب طاعتهم واحترامهم وولائهم وتعاونهم، في سبيل تحقيق هدف معين.

لذلك، أحِب أن أوضح أن القيادة هي صفة، وليست منصباً. بمعنى أنه عند تعيين أحد الضباط قائداً لوحدة أو تشكيل، فلا يعني هذا أن صفات القيادة قد أصبحت متوافرة فيه، لأن القيادة طبقاً للتعريف النظري، هي فن التأثير. فالقائد بالاسم فقط، يستمد سلطته من قوة المنصب، الذي يحتله، ومن القوانين واللوائح، التي تُحدد له حجم هذه السلطة، أمّا القائد بالصفة، فيستمد سلطته من قدْرته على التأثير في الآخرين، وفي بعض الأحيان، قد لا تكون له أي سلطة قانونية أو رسمية على الأفراد. ولذلك، فإننا نسمع كثيراً عن القيادة الرسمية وغير الرسمية.

أمّا عن النظريات، فلقد ظهرت نظريات كثيرة، مثل: نظرية الوراثة، ونظرية الصفات الجسمانية، ونظرية التدريب، ونظرية السمات القيادية، ونظرية الظروف (الموقف)، ونظرية الطوارئ. وكل نظرية لها مقوماتها، ولم يتفق الباحثون على نظرية واحدة؛ فلكلٍّ وجهة نظره ومبرراته، وإن كان أحدثها هي نظرية الطوارئ، التي تجمع بين نظرية السمـات القيادية ونظرية الموقف.

أمّا عن النماذج (الأنماط) القيادية؟، فهي كثيرة ومتعددة، فنجد مثلاً: القيادة الأوتوقراطية (التحكمية)، والقيادة الديموقراطية (المشاركة)، والقيادة على أساس الحرية (الفوضوية)، ولكل نمط أساسه الفلسفي الذي يقوم عليه. كما قدم الباحثان “تاننبوم” و”شميد” نموذج القيادة القائمة على سلوك القائد ومرؤوسيه مقسمين هذا النموذج إلى سبعة أقسام متدرجة من (اتخاذ القائد للقرار بمفرده وأمر المرؤوسين بتنفيذه إلى (اتخاذ القائد ومرؤوسيه القرار معاً بعد مناقشته)، كما قرأنا عن نموذج “ليكرت” في القيادة، الذي يقسم أنماط القيادة إلى أربعة أنماط، هي: القيادة التحكمية المستقلة، والقيادة التحكمية المعتدلة، والقيادة الاستشارية، والقيادة المشتركة. أما أحدثها، فهو نموذج الإحداثيات الإدارية، الذي يوضح أن هناك نوعين من السلوك القيادي: الأول، اهتمام القائد بتنفيذ المهمة فقط، بغض النظر عن الأفراد. والثاني، اهتمام القائد بالأفراد أساساً، بغض النظر عن تنفيذ المهمة، ثم قسم باقي الأنماط القيادية، طبقاً لوضعهم على إحداثيات محورَي المهمة والاهتمام بالأفراد.

وممّا أعجبني أن هناك استبياناً من 35 سؤالاً، يمكِن عند الإجابة عنها تحديد موضع الضابط على هذه الإحداثيات، ومن ثَم فهي تساعد على اقتراح المناصب التي يصلح لها والتأهيل المطلوب له.

أمّا عن النمط الذي أفضّله في القيادة، فهو مستمد من نموذج الإحداثيات الإدارية، الذي يُركّز على الاهتمام الكامل بتنفيذ المهمّة المُكلف بها القائد، وتحقيق الأهداف المطلوبة منه، مع الاهتمام الكامل أيضاً بالمرؤوسين، لأنهم عماد الوحدة ومحركها.

وعلى القائد دائماً أن يتذكّر قول الحق ـ تبارك وتعالى: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واستَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ”(5).

 

س: من وجهة نظر سموّكم، ما هي سمات القائد العسكري؟ وما هي مبادئ القيادة التي ترونها مناسبة للقيادة العسكرية؟ وما هي المؤشرات التي تحكم على مدى نجاح أو فشل القائد العسكري؟

الإجابـــة

قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : 1. سمات القائد العسكري:

أُجري بحث على مجموعة من القادة العسكريين الناجحين في قيادتهم، فتبيّن أن هناك 14 صفة مشتركة بينهم. ولكن أودّ أن أبيّن أن توفر هذه الصفات لا يعني نجاح المتمتع بها كقائد، ولكنها صفات مرغوبة في جميع القادة، من دون استثناء. وعلى الرغم من هذه الصفات المرغوبة في أي قائد، إلاّ أن طبيعة المهمة، وصفات المرؤوسين ونوعيتهم، وطبيعة الموقف العسكري، سيكون لها تأثير مباشر في أي من هذه الصفات التي سيطبقها القائد. وهذه السمات، عموماً، هي:

القدرة على التحمل، الشجاعة، الحزم، الثقة بالنفس، الثبات (في الأزمات)، الحماسة، المبادأة، الاستقامة والأمانة، قدرة التمييز (الحكم)، العدالة، المعرفة (الفنية والتكتيكية والمعلومات العامة)، الولاء، اللباقة، الذوق، عدم الأنانية.

2. أمّا مبادئ القيادة فأفضَل ما قرأت عنها، كان في كتاب عن القيادة العسكرية، صادر عن قيادة القوات البرّية للجيش الأمريكي، وهي:

* اعرف نفسك أولاً، ثم حاول تحسينها وتطويرها.

* كُنْ قائداً فنياً وتكتيكياً محترفاً.

* ابحث عن المسؤولية، وتحمّل مسؤولية ما تفعل.

* اِتخذ القرارات المناسبة، في التوقيتات المناسبة.

* كُنْ قدوة حسنة لرجالك.

* اعرف رجالك، واهتم بهم، وأعمل على راحتهم.

* اجعل رجالك على دراية وعلم بما يدور حولهم، وزوّدهم بالمعلومات الضرورية.

* اخلق فيهم روح المسؤولية.

* تأكد أن المهمة المُكلّف بها مفهومة من المرؤوسين، وأسلوب الرقابة على تنفيذها واضح ومحدد.

* درّب رجالك على العمل الجماعي.

* استخدم وحدتك طبقاً لقدراتها.

3. أمّا في خصوص المؤشرات، التي تحكم على مدى نجاح القائد العسكري أو فشله، فهي، من وجهة نظري، أربعة مؤشرات:

أ. الروح المعنوية لمنسوبي الوحدة.

ب. الانضباط العسكري.

ج. روح الفريق (روح العمل الجماعي).

د. القدرة الفنية والتكتيكية للأفراد وللوحدة على تنفيذ المهمّة (وهو ما يُسمى بالاحتراف).

 

س: من وجهة نظر سموّكم، ما هي الصفات التي يجب أن يتحلى بها الضابط المثالي في القوات المسلحة السعودية، لتكون منهاجاً لخريجي كلية الملك عبدالعزيز الحربية؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : إن كلمة (ضابط) تعني، من وجهة نظري، أنه (قائد) بصرف النظر عن رتبته وموقعه. فالمطلوب من كل ضابط أن يؤثر في مرؤوسيه ويقودهم، لتحقيق المهمة المُكلّف بها.

ولقد أوضحت في الإجابة عن السؤال السابق، السمات القيادية ومبادئ القيادة العسكرية. وإنني أتمنى أن يُطبّق كل ضابط في القوات المسلحة السعودية هذه المبادئ، ويتحلى بمثل هذه الصفات. وأُضيف وأُركّز على السمات التالية، علاوة على ما سبق ذكره:

1. الإيمان بالله ورسوله، وأن نضع الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمام أعيننا في كل قرار نتخذه.

2. المحافظة على السرّية والأمن، في جميع الأوقات، وفي جميع المواقع.

3. الانضباط العسكري الذاتي.

4. العمل على رفع المستوى العلمي والثقافي، له ولمنسوبي وحدته.

5. الصدق في القول، وفي العمل.

6. القدوة الحسنة في مجال العمل، وفي محيط أسْرته وعشيرته ومجتمعه، وحال ابتعاثه للخارج، أيضاً.

 

س: يواجه القادة، على مختلف المستويات، العديد من الأعمال والواجبات والمهام المطلوب منهم تنفيذها. هل يمكن لسموّكم تحديد أبرز ثلاثة أعمال يجب أن يوليها القائد اهتمامه؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : إن القائد مسؤول عن كل ما يدور في وحدته، ومسؤول عن كافة الأعمال التي تصدر عن مرؤوسيه، وأهم من ذلك أنه مسؤول عن تحقيق المهمة المكلّف بها. لذلك، كان لِزاماً عليه أن يولِي كافة الأعمال والواجبات اهتمامه من: تخطيط، وتنظيم، وتوجيه، ورقابة، وتنسيق، ووضع المرؤوس في الوظيفة المناسبة له، مع مراعاة كافة الجوانب النفسية والسلوكية لمنسوبي وحدته، ومطبقاً مبادئ القيادة العسكرية.

ولكن من وجهة نظري، أرى أن يُركّز القائد اهتماماً أكبر على الموضوعات الثلاثة التالية:

أولاً: التخطيط

حيث يُعتبر الوظيفة الأولى لتنفيذ أي نشاط من الأنشطة، ويتطلب ذلك تحليل البيانات عن الماضي، واتّخاذ قرار في الحاضر، وتقويم المستقبل. وللعلم، فإن الخطة توصف بأنها بيان بالأهداف المراد تنفيذها في المستقبل، وإطار للخطوات الضرورية لتحقيقها. ومن دون التخطيط المسبق، لن ينجح أي عمل من الأعمال العسكرية أو المدنية، وإذا نجح فسيكون نجاحه مصادفةً واستثناءً.

ثانياً: اتخاذ القرارات المناسبة في التوقيتات المناسبة

إن عملية صناعة القرار تتكون من مراحل عدة يحدد فيها متخذ القرار أهدافه، ثم يتمّ تحديد البدائل المُمكنـة لتحقيق هذه الأهداف وتقويمها، ويلِيها اختيار البديل الأمثل ـ طبقاً للموقف والظروف المحيطة ـ من بين هذه البدائل، ثم تنفيذه.

من هذا التعريف يتضح أهمية صناعة القرار بالأسلوب العلمي، وضرورة صدوره في الوقت المناسب. وإذا نظرنا إلى حياة الفرد اليومية، من لحظة استيقاظه حتى نومه، لوجدناها سلسلة متصلة من اتّخاذ قرارات مختلفة.

ثالثاً: الرقابة

والرقابة بمفهومها البسيط، هي التأكد أن جميع الأنشطة تمّت وتتمّ وفقاً للخطط الموضوعة، والتعليمات الصادرة، والمبادئ السارية. وهي تهدف إلى الوقوف على الأخطاء ونواحي الضعف، ومن ثمّ العمل على علاجها ومنع تكرارها.

كما يجب على الرقابة بأنواعها الثلاثة المعروفة، ألاّ تتجاهل تحديد نواحي القوة والتقدم في الأعمال وفي الأفراد، والعمل على تعزيزها وتشجيعها وتدعيمها.

تنبع أهمية الرقابة من أنه في حال غيابها، يحدث، في أغلب الحالات، انحراف عن النتائج والأهداف المخططة سابقاً، وهذا يؤدّي إلى الغموض والارتباك وضعف الأداء.

لذلك، أعتبر أن هذه الأعمال الثلاثة، هي من أهم الأعمال، التي يجب أن يوليها القائد اهتمامه وعنايته.

ــــــــــــــــــــــــ

 

إلى جريدة “الجمهورية”

القاهرة، الثلاثاء، 25 ديسمبر 1990
ــــــــــــــــ

الأمير خالد بن سلطان لـ “الجمهورية”:

موقف مصر بداية للتضامن العربي الحقيقي.

لا حرب بطريق الخطأ … ومستعدون لكل الاحتمالات.

الصناعة الحربية العربية أصبحت ضرورة.
(رسالة السعودية: جمال كمال)

الفريق الركن الأمير خالد بن سلطان، قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات، في الأراضـي السـعودية، هو نجل الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وزير الدفاع والطيران السعودي، تخرج في أكبر الهيئات العسكرية البريطانية والأمريكية. وشغل، لمدة سنوات منصب قائد قوات الدفاع الجوي السعودي. وبعد الغزو العراقي للكويت، واستعانة السعودية بقوات من دول صديقة وشقيقة، لردع صدام عن مهاجمة السعودية ودول الخليج، تولّى مسؤولية قيادة القوات المشتركة بمسرح العمليات السعودي. المهمة صعبة للغاية، فالأطراف الداخلة في النزاع متعددة وكثيرة، واحتمالات الخطأ، عن حسن نية أو عن عمد، واردة. فالقوات يزيد عددها على نصف مليون جندي من 25 دولة عربية وأفريقية وغربية، حتى إن الرئيس العراقي صدام حسين حَمّلَ الفريق ركن خالد مسؤولية أي هجوم يتعرض له العراق أو الكويت. وقبْل 30 يوماً من مهلة مجلس الأمن للعراق للانسحاب من الكويت، كان هذا الحوار مع الأمير خالد بن سلطان.

 

ـ عن تأثير العدوان العراقي في الأمن القومي الخليجي والعربي، وماذا تعني مشاركة مصر في القوة الدولية للدفاع عن السعودية ودول الخليج.

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز: “إن العدوان العراقي على الكويت قد أحدث شرخاً في الأمن القومي الخليجي والعربي. ولكن على الوجه المقابل، فإن إسراع مصر بإرسال قوات إلى الأراضي السعودية، كان ترجمة حقيقية لدَورها في الأمن الخليجي والعربي، فهذا ليس بالأمر البسيط. كان العدوان العراقي بمثابة حادث مفزع ومروع للأمة العربية، وخاصة أن الكويت أعطت الكثير للعراق في حربها ضد إيران، ثم كان استمرار احتلال العراق للكويت بمثابة مأساة للأمة العربية.

والحقيقة أن الموقف المصري كان بداية التضامن العربي الحقيقي في ظل هذه المأساة، ومصر ظهرت ـ كعادتها ـ بقيادة الرئيس حسني مبارك، بمصداقيتها ونهضتها العربية ومركزها في العالم الإسلامي ولم تتأخر عن مساندة المملكة، مدعمة الأقوال بالأفعال. ولهذا فإن موقف الرئيس مبارك وشعب مصر، لا يمكِن أي عربي، أو سعودي على وجه الخصوص، أن ينساه. وفي تصوري، أن الموقف المصري سيتبلور عن إدراك عربي بضرورة توحيد الأمة العربية. ولا شك أن الواقع المؤلم الذي نعيش فيه، أفرز دروساً لا بد أن تَعِيَها البلدان العربية”.

 

مصر والسعودية
ـ ورداً على سؤال عن الدَّور الذي يمكن أن تلعبه مصر والسعودية في المنطقة، بعد انتهاء الأزمة، حتى لا يتكرر ما حدث مرة ثانية.

ـ قال الفريق الركن خالد بن سلطان: “إن للمملكة ومصر دَوراً قيادياً كبيراً في هذا الشأن. ويجب ألاّ نغفل دَور الدول الأخرى الشقيقة، فالوحدة في الرأي والمصارحة لتجنّب الأخطاء، والاستفادة من التجارب، تجعلني متفائلاً. والشق العسكري مهمّ للغاية، ولا يمكن التصور أن تكون لدى البلدان العربية سياسة فاعلة من دون دعم عسكري.

ولذلك، فقد بدأنا التخطيط للحاضر، من خلال التدريبات المشتركة، وتبادل الوفود العسكرية، ويدخل التصنيع الحربي المشترك في هذا المجال. ونحن، كعسكريين، نرى أن الوضع الحالي لا بد أن يتبلور عن تقارب عسكري بين الدول العربية، والتصنيع الحربي المشترك من أولى خطوات هذا التقارب”.

 

مصر لا تتأخـر
ـ وحول سؤال عمّا إذا كان هناك رغبة سعودية في قوات مصرية إضافية؟

ـ قال قائد القوات المشتركة: “إن حكومة مصر، لا يمكِن أن تدّخر جهداً في تدعيم مسرح العمليات بكل ما يحتاج إليه. ووصول الفرقة الرابعة المصرية إلى الأراضي السعودية، هو فخر للعرب، ووجودها كافٍ، حتى الآن. وأنا متأكد أن مصر لن تتأخر عن إرسال أي قوات إضافية قد تحتاج إليها المملكة”.

ـ وعمّا إذا كانت السعودية تحتاج إلى قوات دولية إضافية، أم أن مسرح العمليات تشبع وجاهز لأي مواجهة؟

ـ قال الأمير خالد بن سلطان: “إن أي قائد عسكري لا يُمانع أبداً في زيادة قواته في مسرح عملياته، ويتقبل ذلك بصدر رحب. ولكن في وضعنا الحالي، أستطيع أن أؤكد، بكل ثقة، أننا في وضع ممتاز، ونستطيع أن نؤدّي المهمّة التي نُكَلّف بها من القيادة العليا”.

 

مهمّتي تنفيذ الأوامر
ـ وحول سؤال هل أصبح الخيار العسكري هو الحل، بعد رفض صدام مبادرات الحل السلمي السياسي؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : : “أنا قائد عسكري، ومهمتي تنفيذ الأوامر، خاصة ما يصدر من قائدي، ومع ذلك فأنا متفائل، سواء بالحل السلمي أو العسكري أو الاثنين معاً”.

 

لا مجال للخطأ
ـ وعن احتمال نشوب الحرب بطريق الخطأ، وخاصة أن هناك أطرافاً متعددة، وموجودة في مسرح العمليات، وأطرافاً من مصلحتها أن تنشب الحرب.

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “إننا نمتلك كل أدوات القيادة والسيطرة. وإن هناك تعاوناً قائماً ومستمراً بين قيادات الدول العربية الشقيقة والصديقة في مسرح العمليات. ولا أعتقد أن هناك مجالاً لنشوب الحرب بالخطأ. وإننا نضع تصورات خاصة بنا، لكل ما يخطر على البال، من سيناريوهات للحرب، حتى لو حدث إحداها من طريق الخطأ”.

ـ وعمّا إذا كانت زيارة تشيني، وزير الدفاع الأمريكي ورئيس أركانه، للسعودية ولقواته، تعني أنه التفتيش الأخير قبل الحرب والمواجهة؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز: “أيّ وزير دفاع أو مسؤول، في أيّ دولة، له الحق في تفقُّد وحداته، وهذا يرجع لشخصه ورغبته. ونحن في المملكة، نرحب دائماً بزيارة أيّ مسؤول لقواته، في أي وقت”.

 

ـ وحول ما يُقال عن الضربة الجوية السريعة، كبديل للحرب الشاملة.

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “إننا، كعسكريين، نترك للمحلّلين أن يقولوا ما يرون. ونحن، من جهتنا، نضع التخطيط المستقبلي بناء على الظروف المحتملة، وتطور الأحداث”.

 

التدريبات المشتركة مستمرة
ـ وعن تعليقه على ما يتردد من أن البيان التكتيكي، الذي أجرته القوات المصرية والسعودية والأمريكية، الأسبوع الماضي، هو مجرد بروفة للمواجهة العسكرية.

ـ قال الفريق الركن خالد بن سلطان بن عبدالعزيز: “إن هذا ليس أول مشروع أو تدريب يجري بين القوات المشتركة، ولكنه أول تدريب يُعلن عنه. ومع ذلك، فالتدريبات مستمرة، ليلاً ونهاراً، وهناك تنسيق كامل بين مختلف القوات في مسرح العمليات، سواءً في المواصلات أو المناورات. وإننا وصلنا إلى مرحلة نفخر فيها بالعمل المشترك بين القوات المصرية والسعودية والقوات الأخرى الصديقة والشقيقة”.

وأكّد أن هناك كثيراً من دول العالم، أشادت، بكل صراحة، بالمستوى العظيم للقوات المصرية، التي استطاعت تغيير خطط القتال وأساليبه في العالم. وإن الكلمات لا تعبّر عن شعورنا وفخرنا واعتزازنا بمستوى القوات المصرية. وإن التعاون بين القيادتين العسكريتين، المصرية والسعودية، قائم عبْر التاريخ، وسيشهد دفعة قوية في المستقبل”.

ـ وحول سؤال عمّا يُقال أن هناك نية لإقامة جيش خليجي قوي، مدعم من دول أخرى، للدفاع عن دول الخليج ضد أيّ اعتداءات.

ـ قال الفريق الامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “إن تدعيم قوة أي دولة، هو مطلب رئيسي، وهو ما نخطط له دائماً. ولكن الحقيقة أنه لم يكُن هناك أحد على الإطلاق يتصور أن يقوم شقيق بغزو شقيق له. ولهذا، سنعمل على زيادة قوة دول مجلس التعاون الخليجي وتدعيمها. فعلى سبيل المثال، هناك تصور وإدراك كامليْن أنه لا بد من تقوية القوات المسلحة لدول المجلس، قوة درع الجزيرة، مع الاعتماد اعتماداً كبيراً على من هم مثلنا، وهم أشقاؤنا من الدول العربية، وبالطبع، في مقدمتهم مصر”.

ـــــــــــــــــــ

الامير القائد خالد بن سلطان
الامير القائد خالد بن سلطان

إلـى مجلة “أكتــوبر”

القاهرة، العدد747، الأحد، 17 فبراير 1991
ـــــــــــــــــ

رسالة الجبهـة: مريم روبين

العناويــــن

أول حديث مع قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات الامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز:

* الوقت في مصلحتنا، والمعركة البرّية ستكون حاسمة وسريعة.

* معركة الخفجي، انتهت، عسكرياً، بعد 8 ساعات.

* “التورنيدو” لم تفشل، رغم ارتفاع خسائرها، نسبياً.

* ليس مستبعداً مِن الذي استخدم الأسلحة الكيماوية ضدّ شعبه، أن يستخدمها ضدّ القوات المتحالفة.

 

هل ستطول معركة تحرير الكويت؟ وما هي الخطوات التي تمّت حتى الآن، في سبيل تحريرها؟ وهل المعركة البرّية ضرورة لتحريرها؟ وما هي نتائج زيارة تشيني، وزير الدفاع الأمريكي، للمملكة؟ وما حقيقة الطلبات التي تقدم بها بعض القادة من القيادة العسكرية المشتركة؟ وهل تمّ إجراء تعديلات على الخطة العسكرية؟ ولماذا بكى الضابط العراقي عندما التقى قائد القوات المشتركة؟ أسئلة عديدة ومتنوعة، يجيب عنها الفريق ركن الأمير خالد بن سلطان، قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات، في أول حديث صحفي خاص إلى مجلة “أكتوبر”.

 

والأمير خالد، لم يسبق أن أَدلَى، منذ تولّي مسؤولياته، بأي حديث. فهذا أول حديث صحفي له، وقد بدأه بقوله: “لقد اخترت مجلة “أكتوبر” لأتحدث إليها، قاصداً”. عندما دخلت مكتبه في الموعد المحدد، في رفقة العقيد شاكر إدريس، مدير الشؤون العامة للقوات المشتركة ومسرح العمليات، كان الإجهاد واضحاً عليه، إثر الساعات الطويلة التي أمضاها مع الجنرال شوارتزكوف في غرفة العمليات. لكنه بابتسامة بشوش، قال لي: “لقد أردت أن أخص مجلة “أكتوبر” بهذا الحديث، لمصداقيتها وللاحترام الكبير الذي تتمتع به لدى القارئ العربي”.

 

قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز مضيفاً:، بعد هذه المجاملة الرقيقة: “أنتِ الصحفية المصرية الوحيدة، من بين كل ممثلي الصحافة العربية كلّها، التي استقبلتها في مكتبي في وزارة الدفاع، منذ بدء عملية “عاصفة الصحراء”. ثم بدأ الحوار …

 

ـ قلت: هناك من يقول إن بعض قادة القوات المشتركة، الذين التقوا وزير الدفاع الأمريكي، تشيني، في زيارته الأخيرة للمملكة، قد طالبوا بتأخير موعد الهجوم البرّي لتحرير الكويت، وأن يستمر القصف الجوي أسبوعين آخرين بل شهراً.

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : : “لقد التقى وزير الدفاع الأمريكي خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، الملك فهد، كما تمّت لقاءات مع سمو النائب الثاني الأمير سلطان، وزير الدفاع والطيران والمفتش العام.

وقد شاركت شخصياً فيها، كما شارك أيضاً الجنرال شوارتزكوف، قائد القوات الأمريكية. ويمكِن القول إننا نسير، منذ البداية، تبعاً لخطة متفق عليها. والحمد لله، فإننا عندما استعرضناها مؤخراً، وجدنا أنها لا تحتاج إلى تعديلات كثيرة. على العكس

فإننا عندما قمْنا بتقييم خسائرنا وما حققناه، وجدنا أننا حققنا من النجاح أكثر مما نتوقع، بل يمكِن القول إننا لم نكُن نتصور أن نحقق هذا النجاح. ويكفي أن أذكُر أن طيران القوات المتحالفة، الذي قام بأكثر من 60 ألف طلعة، حتى الآن، لم يخسر خلالها غير 25 طائرة فقط، مما يُعد إنجازاً جيداً، ويعني أيضاً أن دفاعات العراق الجوية، ليست على المستوى الذي كنا نتوقعه”.

ـ ماذا يمكِن أن يُقال عن نتائج اجتماعاتكم بوزير الدفاع الأمريكي؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “بصراحة قمْنا باستعراض لما أنجزناه من قبْل وتبادلنا وجهات النظر في ما سوف يتم مستقبلاً. وبالنسبة إلى اتّخاذ القرار، فيتم بالتنسيق والاتفاق مع الجانبين”.

ـ من متابعة سير العمليات العسكرية، تمّ تطهير مدينة الخفجي بعد حوالى 36 ـ 40 ساعة. فكم من الوقت تتصورونه لتطهير الكويت؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “بداية، يجب ألاّ يتورط القائد بدفع قواته النظامية إلى القتال في المدن، لأن المُدافع يتمتع بميزات عديدة، تُعرّض المهاجمين لخسائر ضخمة. ولا يحتاج المُدافع إلى وقت للاستعداد والتجهيز، لأن المباني والمنشآت ستوفر له الكثير من الوقاية. وفي حالة وجود مدنيين أو عسكريين، مطلوب المحافظة على حياتهم في المدينة، فإن الوضع بالنسبة إلى المهاجم يكون أصعب. ولعلّكِ تعرفين أن الجيش السادس الألماني، بقيادة “الجنرال فون بارلوس”، عندما هاجم مدينة ستالينجراد السوفيتية، خسر في هذا الهجوم نحو 600 ألف فرد ما بين قتيل وأسير، وكانت هذه علامة على طريق تغيير مجرى الحرب في الجبهة السوفيتية.

أمّا الخفجي، فكان لها وضع خاص. فهي أولاً، خالية من السكان، لأن قرار إخلائها تمّ قبْل بداية العمليات العسكرية، لأنها تقع داخل مدى مدفعية المعتدي وصواريخه، وثانياً، أنها هدف يُغري أي مهاجم باللجوء إليها والاحتماء بها، والتخندق في مبانيها غير واضع في الاعتبار أنها يمكِن أن تتحول إلى مصيدة له.

وعندما دخلت القوات العراقية الخفجي، كان أمامنا بديلان. الأول، تدمير المدينة بالكامل وبكل ما في داخلها من قوات. والثاني، حصار المدينة ومنْع وصول أي تعزيزات إلى القوات الموجودة داخلها، حتى يتمّ إجبارها على الاستسلام.

والحقيقة أنني اخترت البديل الثاني لإمكان إخلاء طاقمي استطلاع من قوات مشاة البحرية، كانا موجودين داخل المدينة، ولأنني كنت، في الوقت نفسه، حريصاً على حياة الجنود العراقيين، على الرغم من أعمالهم العدوانية، من منطلق تأكُّدي من أن الغالبية العظمى منهم يدخلون هذه الحرب مرغمين. ولذلك، أقول إن مرور 36 ساعة أو 40 ساعة، لا يُعدّ مدة طويلة، وليس دليلاً على ضعف القوات المكلّفة بتحرير الخفجي.

إن الذي أريد أن أقوله أنه من وجهة النظر العسكرية، فإن هذه المعركة اعتُبرت محسومة، بعد مرور 8 ساعات فقط من بدايتها. تمّ خلالها محاصرة المدينة حصاراً كاملاً، والسيطرة على كل الطرق المؤدّية إليها، وعزْل القوات المعتدية الموجودة داخلها، وتخصيص المهامّ للقوات المكلّفة بالهجوم المضاد واستعادة المدينة. أمّا بالنسبة إلى الكويت التي يوجد فيها المدنيون إلى جانب قوات المعتدي، التي أحكمت استحكاماتها، وأنشأت العديد من الموانع والألغام، فلا شك أن خطة تحريرها ستكون مختلفة تماماً … وسيكون لها وقع المفاجأة على المعتدي، زمناً وأسلوباً”.

ـ كان من بين ما عثرت عليه القوات المشتركة في الدبابات العراقية، بعد معركة الخفجي، العديد من الأقنعة الواقية للغازات … فهل يمثل هذا دلالة خاصة … وهل ثبت، من خلال استجواب الأسرى، أن النية كانت لديهم لاستخدام الأسلحة الكيماوية في هذه المعركة؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “كل مُعدَّة تحتوي على وسائل التأمين لطاقمها من الغازات الحربية، وليس هذا دليلاً على نية استخدام الأسلحة الكيماوية. ومع ذلك، فنحن نفترض دائماً الاحتمالات الأسوأ، والتي نتصور أن المعتدي سيلجأ إليها، إذا وصل إلى حالة من اليأس وفقدان السيطرة على الأعصاب، والذي أستطيع أن أقوله أننا مستعدون ـ بإذن الله ـ لكل هذه الاحتمالات”.

ـ وماذا عن تصريحات صدام، التي أعلن خلالها أكثر من مرة أنه أعطى أوامره باستخدام الأسلحة الكيماوية. في الوقت المناسب، هل سيكون الرد عليه نووياً؟

ـ “لكل موقف قتالي إجراء يتناسب مع خطورة الإجراءات المعادية، حيث يكون رادعاً للمعتدي. وإذا كان صدّام حسين، لم يُراعِ حرمة شعبه، واستخدم ضدّه الغازات الكيماوية في “حلبجة”، فلا يُستبعد منه أن يستخدمها ضدّ القوات المشتركة”.

ـ بعد هذه الغارات المكثفة، التي استمرت طوال الأسابيع الماضية، ما هي الخطوات التالية، التي ستقوم بها قيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “يخطئ من يعتقد أن القوات الجوية قادرة، مهْما بلغت سيادتها على ميدان المعركة، أن تفرض الإرادة على الخصم. إنها توفر الظروف المناسبة لأعمال قتال برّية ناجحة وسريعة، إلاّ إذا حدث تغيير حاد في موقف الخصم، كأن يُعلن انسحابه من دولة الكويت الشقيقة، أو يحدث تغيير داخلي يؤثّر في القرار العراقي، وبالتالي يؤثّر في الموقف القتالي العراقي”.

المعركة البرّية … قادمة

ـ أعلن الرئيس الأمريكي بوش “أن الحرب البرّية ممكِنة، إذا كانت ضرورية”. فهل تعتقدون أنها قد لا تكون ضرورية؟

ـ “نعم .. قد لا تكون ضرورية في حالة تغيير موقف القيادة العراقية، وتنفيذها لقرارات مجلس الأمن وإرادة المجتمع الدولي. عدا هذا، فأعتقد أن تطور أعمال القتال هو الذي سيفرض الخطوة التالية، ومن وجهة نظري العسكرية، فإن المعركة البرّية قادمة”.

ـ يتردد أن بعض الغارات، التي تمّت في الأسابيع الماضية، لم تحقق أهدافها والدليل على ذلك تأخر المعركة البرّية التي لم تبدأ حتى الآن.

ـ “في العمليات العسكرية، يجب أن نتوقع حدوث متغيرات كثيرة عمّا تم تخطيطه، لأن المعلومات الاستخبارية، مهْما كانت دقيقة، فإن نسبة صحتها لا تتجاوز 70 ـ 80%، فقد يلجأ الطرف الآخر إلى استخدام أساليب الخداع، التي تستنزف نيران الخصم، وتحمي مُعدّاته القتالية، وهذه أمور واردة في الحرب منذ قديم الأزل. لذلك، يجب أن تتصف الخطط القتالية بالمرونة والديناميكية.

أمّا تأخر المعركة البرّية، فله عدة أسباب، منها على سبيل المثال: التأكد من إنهاك المعتدي، وعدم قدرته على إحداث خسائر جسيمة في صفوف القوات المشتركة والصديقة، وإضعاف قواته المحتلة داخل دولة الكويت الشقيقة، والمتحصنة خلف عدد من الموانع المختلفة.

إن بعض القادة السابقين والمعلقين العسكريين، يعتقدون أن فترة التمهيد النيراني، أو ما يُسمى بتحضيرات ميدان المعركة، في العقيدة الغربية، يجب أن تكون قصيرة. وهذا صحيح بالنسبة إلى الظروف القتالية للمعارك التي خاضوها وإلى القدرات الاقتصادية للدول، التي اشتركت في القتال، بحيث تجعلهم على استعداد لقبول نسبة خسائر عالية في الأفراد، لإنهاء المعركة في أقصر وقت ممكن.

ولكن الموقف الحالي يختلف تماماُ والقدرات المتيسرة مختلفة أيضاً، والعنصر البشري له قيمته، فلماذا نتعجل الانتهاء من مرحلة تحضيرات ميدان المعركة؟ بإذن الله، إذا خضنا معركة برّية، فستكون قصيرة، حاسمة، سريعة، قليلة الخسائر. وأدعو الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يُنير بصر وبصيرة القيادة العراقية، التي دفعت شعبها وجيشها إلى معركة، تستند فيها على الباطل”.

ـ تمّ إسقاط عدد من الطائرات العراقية، كما فرّ أكثر من 100 طائرة عراقية إلى إيران … فهل تعتقدون أن القوات الجوية العراقية، الباقية في العراق، قادرة على تأمين الحماية الجوية لقواتها البرّية؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “يمكن القول، بالأسلوب العسكري، إن القوات الجوية، قبل فرار العدد الكبير من طياريها إلى إيران، قد تمّ تحييدها تماماً، وأصبح للقوات الجوية، التابعة للقوات المشتركة والصديقة، السيادة الكاملة على أجواء المعركة، مع الوضع في الاعتبار أنه تمّ تدمير كافة الوسائل الأرضية، الضرورية لخدمة الطائرات في الجو.

فهل يمكِن، بعد كل هذا، أن تكون قوات المعتدي الجوية قادرة على تنفيذ أيّ مهامّ حاسمة؟ إن هذا المعتدي يدفع قواته المسلحة إلى معركة غير متكافئة، معتمداً على قواته البرّية، وخاصة الصفوة منها، وهي قوات الحرس الجمهوري، التي أغدق عليها صدام حسين بغير حساب، لضمان ولائها وجعلها طبقة متميزة عن باقي القوات.

فهل يُنتظر خير من قوات مسلحة، تتصف بالتفرقة والخوف والرهبة؟ إن مَن يستمع إلى اعترافات الأسرى العراقيين، لا يصدق أننا نعيش في القرن العشرين، فإن السُخرة والرهبة والخوف من النظام الصدّامي، وصلت إلى حدّ لا يمكِن تصوره. ولكن الظلم لا يدوم، والحق لا بد أن ينتصر، والظالم، مهْما تطاول، فلا بد أن يلقى جزاءه”.

الضابط العراقي … بكى أمامي

ـ وماذا عن الأسرى العراقيين؟ ماذا تقول التقارير عن أحوالهم؟ وماذا يقولون عن زملائهم في الجبهة؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “هم إخوة غُرِّر بهم، قبْل أن يكونوا أسرى. ونحن نعاملهم على أساس أنهم إخوة وأصدقاء الغد، وليس على أساس أنهم أعداء اليوم. نعاملهم من هذا المنطق، طبقاً لتوجيهات خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، القائد الأعلى للقوات المسلحة، ووليّ عهده الأمين، وصاحب السمو الملكي وزير الدفاع والطيران والمفتش العام.

أمّا عن زملائهم، فإنهم يقولون إن الروح المعنوية لديهم منهارة تماماً، والروح القتالية ضعيفة، لعدم اقتناعهم بعدالة القضية التي أقحمهم فيها فرد تجرّد من مشاعر الإنسانية، ولا يفكّر إلا في نفسه فقط. ولكن ماذا يفعلون وكتائب الإعدام الصدّامية خلفهم وأوامر صدّام بعدم إرسال الجثث إلى ذويها، وعلاج الجرحى في مستشفيات بعيدة، وعدم السماح بزيارتهم أو الاتصال بهم؟ إن بعض الأُسر العراقية، التي استطاعت الهرب من ظلم الطاغية، تطلب من أبنائها في القوات المسلحة الاستسلام أو الهرب، لأن حالة الإرهاب التي فرضها هذا النظام، لا يصدقها عقل”.

ـ وهل التقيت هؤلاء الأسْرى؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “قابلت بعضهم، وتأثرت بلقاء أحدهم عندما بكى أمامي مُعرباً، بصدق، عن عدم قناعته بما يقوم به صدام، طالباً الأمان من أْجل أطفاله.

وقد وعدته بأنه سيعود إلى عائلته سالماً، متى انكشفت الغُمة وتمّ النصر، بإذن الله. وبالمناسبة، فقد طلبت تأمين أقنعة وقائية لهم جميعاً، كما قرّر خادم الحرمَيْن الشريفَيْن رفْع معاشاتهم الشهرية أضعافاً مضاعفة لِمَا يقرّره الصليب الأحمر الدولي، انطلاقاً من عقيدتنا الإسلامية السمحة، وباعتبار أنهم إخوان لنا مغلوبون على أمرهم. وهم يقيمون في معسكرات، أُقيمت في أماكن متفرقة من المملكة”.

ـ الملاحظة التي لفتت أنظار الكثيرين، هي سقوط عدد كبير، نسبياً، من طائرات “التورنيدو” ربما أكثر من أيّ طائرات أخرى سقطت من طائرات القوات المشتركة. فهل يعني هذا، أن التجربة الفعلية أثبتت فشَل “التورنيدو”؟

ـ “بداية لا يمكِن الحكم على نجاح أو فشل أيّ معَّدة قتالية، إلاّ بعد انتهاء العمليات العسكرية تماماً، وجمْع الإحصائيات وتحليل النتائج.

ولكني أودّ أن أوضح أن “التورنيدو” لم تفشل، بدليل أنها ما زالت تقوم بدَورها بكفاءة تامة. ولكن أيّ طائرة تُكلَّف بقصف أهداف من ارتفاعات منخفضة، تكُون أكثر عُرضة لنيران المدافع والرشاشات المضادة للطائرات من غيرها، التي تطير على ارتفاعات عالية.

إن هذه المدافع والرشاشات يمكِنها أن تُطلِق نيرانها دون الاعتماد على أجهزة إلكترونية، وهي على عكس الصواريخ المضادة للطائرات، التي يمكن شلّها تماماً، إذا دُمّرت الأجهزة الفنية التي تخدمها، مثل الرادارات، لذلك كانت خسائر “التورنيدو” مرتفعة، نسبياً”.

ـ لماذا تمّ نقْل قائد القوات البرّية الفرنسية في المملكة إلى فرنسا، وتمّ تعيين آخر بدلاً منه؟ هل بسبب مرضه؟ أم هناك خلاف بينه وبين قواته؟ أم لصلته الوثيقة بوزير الدفاع الفرنسي السابق؟

ـ “ولماذا نُقِلَ قائد القوات المصرية من قبْل؟ كلها “تغييرات قيادة” تُهم المسؤولين في كل دولة، ولا تأثير لها في مجريات الأعمال القتالية، في مسرح العمليات. إن تعاملنا، أساساً، مع الدول، وليس مع الأشخاص”.

كشف حساب

ـ دخلتْ معركة التحرير أسبوعها الرابع. فماذا حققت من خطوات نحو تحرير الكويت؟ وما هي حصيلة العمليات العسكرية، حتى الآن؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : * “تمّ شلّ قدرة القوات الجوية العراقية والدفاع الجوي.

* تمّ تدمير وسائل القيادة والسيطرة.

* تمّ شلّ قدرة التصنيع للغازات الحربية.

* تمّ إضعاف قدرة القوات الصاروخية العراقية.

* تمّ قطْع أهم طرق المواصلات والإمداد والمناورة.

* تمّ شلّ قدرات المعتدي البحرية.

* ويجري، الآن، عزْل التشكيلات والوحدات وشلّ قدرتها، وتكبيدها أكبر خسائر ممكِنة في المُعَدَّات والأفراد، مع إضعاف روحها المعنوية وتماسكها القتالي، استعداداً للمرحلة النهائية، بإذن الله”.

ـ كم ستطول الحرب لتحرير الكويت … خاصة أن صدّاماً ما زال رافضاً الانسحاب؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “إن الوقت في مصلحتنا وليس من الحكمة الإفصاح عن أيّ معلومات عسكرية، قد تفيد المعتدي. ندعو الله أن ينصرنا وينصر الحق، ويرفع الظلم والعدوان عن شعب الكويت الشقيق، وينتقم من كل متكبر، لا يؤمن بيوم الحساب. ويجب ألا ننسى أن صداماً، كان يمتلك قدرات عسكرية، امتصّ في بنائها دماء الشعب العراقي، وورّطه في حروب لسنوات طويلة، ولم يُشعره بالاستقرار خلال فترة حكمه. وللأسف الشديد، لقد ساهمنا نحن أيضاً في بناء هذه القدرات، على أمل أن توجَّه إلى أعداء الأمة العربية والإسلامية، ففوجئنا بأنها توجَّه إلى صدورنا”.

ويصمت الامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : لحظات، ليستأنف حديثه قائلاً:

“إن ما يُحيرني، هو حقيقة أولئك الذين يؤيدون صدّاماً في احتلاله للكويت، في حين أراضيهم محتلة، ويطالبون العالم باستردادها! إن موقف هؤلاء ما زال لغزاً، لم أتمكن من حلّه”.

ـ ما هي المعاني التي يمكِن أن تعبّر بها سموّكم عن التلاحم المصري ـ السعودي في هذه المعركة … معركة الحق والسلام؟

ـ “إنه تلاحم القِيم والمُثُل والعقائد الثابتة، التي لا تهتز ولا تتأثر بمواقف. إن هذه خُلق قادة الشعبَيْن، فماذا تنتظرين من هذيْن الشعبَيْن أمام ظلم وعدوان على جار شقيق، مِنْ مَن لا يُراعي حرمة ولا يحفظ جميلاً. إن هذا التلاحم ليس جديداً، وإنما يضرب بجذوره في أعماق التاريخ البعيد، والأيام والأحداث تثبت زيادته وأصالته”.

التلاحم المصري ـ السعودي ليس جديداً

ـ وماذا عن التعاون العسكري المصري ـ السعودي مستقبلاً؟ وماذا يمكن في هذه المناسبة أن نقوله لشعب مصر ولقواته المسلحة وللرئيس حسني مبارك، رئيسنا والقائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية، من خلال مجلة “أكتوبر”؟

ـ “إن التعاون العسكري المصري ـ السعودي، وفي جميع المجالات، لم ينقطع في الماضي أو الحاضر، وسيستمر، بإذن الله، في المستقبل. وأقول لشعب مصر: عاشت القِيم والمُثل والمبادئ، وعاش أهلها، ودمتم وقائدكم سنداً للعرب وحصناً للعروبة والإسلام، في كل زمان ومكان”.

ـ سؤال شخصي، بعيداً عن العسكرية، ما هي آمالك وأحلامك؟

ـ “أن يسود السلام الدول العربية والإسلامية، حتى نتفرغ جميعاً للبناء بدلاً من التدمير”.

ـ وما هي أمنيتك الشخصية؟

ـ “أدعو الله، كل صباح، أن يمكّنني من أداء الأمانة التي أئتمنتُ عليها، وأن يرزقني إحدى الحسنيَيْن: النصر أو الشهادة”.

وانتهى الحوار .. وافترقنا على وعد أن تكون “أكتوبر” مع طليعة القوات الظافرة في أرض الكويت المحررة ـ بإذن الله.

ـــــــــــــــــــ

الى جريدة “الحياة”
الجمعـة، 22 فبراير 1991
ــــــــــــــ

(العناوين)
قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات يؤكد أن القوات جاهزة، وتنتظر القرار السياسي.
ويعتبر نتيجة المعركة محسومة سلفاً.
الأمير خالد لـ “الحياة”: مستعدون للحرب البرية، منذ أسابيع.

أجرى رئيس تحرير “الحياة”، جهاد الخازن، في الرياض، أمس، مقابلة مع الفريق الركن خالد بن سلطان، قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات، في مكتبه، في وزارة الدفاع؛ وهي أول مقابلة طويلة في نوعها، يجريها مع صحيفة عربية.

وهنا، نص الحديث مع الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز:

س: هل يمكن أن تعطونا تقويماً عاماً لسير الحرب حتى الآن؟ هل كان كما قدرتم في البداية أو إنه أفضل أو أسوأ؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : نحن، الآن، حيث قدرنا أننا سنكون، لدى بدء العمليات العسكرية. والوضع ممتاز بالنسبة إلى تحرير الكويت. والحقيقة أننا، في البداية، لم نتصور أن تتطور الأمور إلى هذه الدرجة.

 

لذلك، تميزت الأسابيع الأولى بالاستغراب والتعجب، ولكن مع التحضير لأسوأ الاحتمالات. وبحكم الوضع، تطورت القوات السعودية، في الأشهر الخمسة الأخيرة، بما يعادل سنوات في السابق، إضافة إلى انضمام القوات، العربية والإسلامية والصديقة، إليها في المعركة.

س: ما هو، في تقديركم، أهم ما أنجز في الحرب حتى الآن؟ هل حصل تأخير أو تقصير؟ وبكلام آخر، هل وضعتم أهدافاً، في بداية الحرب، لم تحققوها حتى الآن؟ هل من مفاجآت؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : هدف الحرب الوحيد، هو تحرير الكويت؛ وهو في سبيله إلى التحقق الآن. والهدف الملازم له، هو تحقيق التحرير، بأقل قدر ممكن من الخسائر في القوات الحليفة. وأعتقد أننا نجحنا نجاحاً كبيراً، حتى الآن. أما بالنسبة إلى أهم إنجاز، فلا بدّ من أن يكون عزل مسرح العمليات الكويتي عزلاً شبه كامل عن العراق، تمهيداً للتحرير، وربما تحرير الجيش العراقي نفسه الموجود في الكويت، والمغلوب على أمره، من الحكم المستبد.

س: هل تستطيعون القول، اليوم، إن تقديركم حجم القوات العراقية، كان صحيحاً أو قريباً من الصحيح؟ أو إنكم أخطأتم تقدير حجمها وقوّتها؟ الوزير تشيني قال إنه دهش من ضخامة الآلة العسكرية العراقية، هل دهشتم أيضاً؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : لم نفاجأ، كسعوديين، بحجم القوات العراقية أو قدرتها. لا تنس أن المملكة العربية السعودية، والكويت نفسها، أسهمتا في بناء القوة العسكرية العراقية؛ وكنا على اتصال مباشر ومستمر مع العراقيين، إلى أن وقعت كارثة احتلال الكويت.

لذلك، نحن لم نفاجأ بحجم القوات العراقية؛ وإنما صدمنا وآلمنا، أن قوة عربية، أردناها درعاً لنا جميعاً دون أعدائنا، يستخدمها صدام ضد العرب، ويعض اليد التي أطعمته.

أمّا بالنسبة إلى المفاجآت، فربما كان بينها استمرار نوع من الاتصالات والقيادة والسيطرة، مدة أطول مما توقعنا. كذلك، كان بعض المعدات والمخابئ أكثر مما قدرنا.

س: ماذا سيكون رد القوات الحليفة، إذا استخدم صدام حسين أسلحة غير تقليدية؟

ج: لن أقول إلاّ لكل حدث حديث.

س: نعرف أن هدفكم تحرير الكويت. ولكن، هل يمكن تحقيق هذا الهدف، من دون دخول العراق؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : هدفنا هو تحرير الكويت، وسنتعامل مع القوات العراقية، لتحقيقه. ولا أستطيع أن أخوض في أسرار عسكرية؛ وإنما أقول إن نهاية الهدف، هي وجودنا في الكويت، وإخراج القوات العراقية منها، وليس العراق نفسه.

س: هل وضع أي من دول التحالف، ولا سيما منها البلدان العربية والإسلامية، قيوداً أو حدوداً لمدى مساهمتها في القتال؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : لا. وعلى الرغم من أن بعض هذه القوات جاء إلينا، في البداية، للدفاع عن المملكة، في وجه عدوان وشيك، إلا أنها جميعاً موجودة، الآن، لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، المتمثلة في قرارات مجلس الأمن. ونحن مرتاحون جداً إلى التعامل مع الدول، العربية والإسلامية الصديقة. وقواتها ستنهض بدورها في تحرير الكويت، كلٌّ بحسب إمكاناتها. ونحن واثقون من النتيجة؛ والنصر من عند الله.

مستعدون

س: نعرف أنكم لن تعطونا موعد الحرب البرية؛ إذا وقعت. ولكن، هل يمكن أن تقولوا إنه إذا صدر الأمر السياسي بالهجوم، يمكنكم تنفيذه فوراً؟

ج: نعم. نحن مستعدون، منذ أسابيع، وننتظر الأمر من قادتنا. ولا أستطيع تحديد الموعد، لأسباب واضحة. وهو قد يكون قبْل نشر هذا الحديث أو بعده بأسابيع أو أشهر.

س: هل أثر حديث المبادرة السوفيتية في سير العمليات العسكرية، بأي شكل من الأشكال؟

ج: نحن، كعسكريين، نسير بحسب الخطة الموضوعة؛ ولا تغيير في سير العمليات العسكرية. ولكن، بالنسبة إلى القرار السياسي، نتلقى التعليمات من القادة.

س: هل تتوقعون نجاح خطتكم العسكرية؟

ج: ربما كان من حسن حظي أن أكون قائداً في حرب مضمون نجاحها قبل أن تبدأ؛ وكل شيء بعون الله تعالى.

س: كيف تقومون قوات صدام حسين البرية، اليوم، مقارنة بما كانت عليه في 17 يناير؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : صدام حسين فقدَ نحو 40% من قواته البرية، وفقدَ القيادة والسيطرة والاتصالات. والعامل النفسي، والروح المعنوية، أمران أساسيان، يجعلان قواته غير قادرة على التعامل مع قواتنا. ولا أقول هذا للحط من قدر الجندي العراقي، بل على العكس، نحن نشهد له بالقدرة والتجارب؛ لكنه غير مقتنع بما فرض عليه أن يقاتل من أجله. لذلك، فاعتقادي أنه لا يقاتل القتال المطلوب.

س: نعرف أنكم ترفضون التزام موعد للحرب البرية. لذلك، فالسؤال هو هل تريدون إنهاء الحرب، قبل بدء شهر الصوم المبارك؟ وهل يؤثر الشهر الفضيل في خططكم؟

ج: نأمل أن تنتهي الحرب قبل بدء شهر الصوم المبارك، بل نتمنى أن تنتهي غداً. إلا أن شهر الصوم، لن يؤثر في سير القتال بأي شكل من الأشكال؛ والجهاد، مثل الصوم، من أعمدة الدين، وقد خاض المسلمون بعض أعظم معاركهم في شهر رمضان المبارك.

س: من دون إفشاء أي سر عسكري، هل يمكن أن تصفوا لنا القوات السعودية على الجبهة، والقوات العربية الأخرى؟

ج: لا أستطيع أن أقول إلا إن هذه القوات موجودة في وضع انتشار تكتيكي، ولكلٍّ قطاعها، بحسب الخطة الموضوعة؟

س: هل تتوقعون فرض التجنيد الإجباري في المملكة، بعد انتهاء الحرب؟ وهل تؤيدون هذا الاتجاه؟

ج: بعد الذي حدث، طفق المواطنون يتطوعون، من دون حاجة إلى التجنيد. ولكن، ربما جرى التفكير، بجدية، في المستقبل، في وضع احتياطي للقوات المسلحة، كأي احتياطي عسكري في دول العالم. ونحن نؤيد هذا الاتجاه. وينبغي أن يسأل الشباب السعودي ماذا يقدم إلى بلده، لا ماذا يقدم هذا البلد إليه. ولا نريد للجيل الجديد، الذي تربى في الرخاء، أن يصبح جيل دعة، بل نردد القول الكريم: “اخشوشنوا، فإن النعم لا تدوم”.

تجنّب المدنيين

س: كثر الحديث، أخيراً، عن ارتفاع الاصابات بين المدنيين العراقيين. ماذا فعلتم للحدّ من هذه الإصابات؟ وهل عدلتم خطتكم العسكرية، لتفاديها؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : لم نعدل أي خطة؛ لأن خططنا تراعي، أصلاً، تجنّب الإصابات بين المدنيين؛ حتى لو كانت على حساب طلعاتنا الجوية؛ بل إننا نجد مدفعية مضادة للطائرات فوق عمائر مدنية، ولا نضربها، على الرغم من خطرها على طائراتنا، خوفاً على أرواح المدنيين. وبالنسبة إلى حادث الملجأ بالذات، فمن المؤكد أنه كان هدفاً عسكرياً؛ وإنما المجرم مَن وضع مدنيين في مركز قيادة وسيطرة.

س: هل يمكن أن تصفوا لنا يوماً نموذجياً في حياة قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات؟ متى يبدأ؟ ومتى ينتهي؟ وماذا يتخلله؟

ج: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : يفترض أن القائد يرتب نفسه، غير أن الظروف تتولى ذلك نيابة عنا. والعمل يبدأ، في الصباح، باجتماع مع أركاني، لمعرفة ما تم خلال الليل. ثم يتبعه اجتماع مع القوات المشتركة ومسرح العمليات. وهناك اجتماع يومي مع الجنرال شوارتزكوف، في الرابعة بعد الظهر، للتنسيق والتخطيط؛ ثم اجتماع عمليات، في الليل. وإلى جانب هذه الاجتماعات المقررة، تطرأ اجتماعات أخرى؛ فقد أجتمع مع الجنرال شوارتزكوف مرتين أو ثلاثاً، في اليوم. وبين كل هذا، هناك الأعمال الورقية، وهي كثيرة، خصوصاً أن المملكة العربية السعودية مسؤولة عن تموين جميع القوات الموجودة، بما فيها الأمريكية. أما النوم، فأختلسه اختلاساً؛ وقد تعودت، من أيام الكلية الحربية، أن أستغل أي وقت فراغ لأخذ قسط من الراحة، ولو عشر دقائق. وفي هذا الظرف، أصبح النوم، على قِصره، متعة حقيقية، وربما المتعة الوحيدة المتاحة.

ـــــــــــــــــــ

إلــى مجلة “الحوادث” اللبنانية

العدد 1791، الجمعة، الأول من مارس 1991
ــــــــــــــــــ

(أجرى الحديث: ملحم كرم، رئيس تحرير مجلة “الحوادث”)

(في 23 فبراير، ونُشِـر في الأول من مارس 1991)

العناوين

“تلاحم عربي يُبنى على المنطق السياسي، لا على الغوغائية”

ــــــــــــــــــــــــــ

في أول حديث بعد معركة تحرير الكويت:

الفريق الركن الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز لـ “الحوادث”:

عِبرة الحرب: تلقينا الدرس ووعيناه جيداً.
ولن نسمح بتكرار ما حصل.

الملك فهد حرص على مواكبة الحرب لحظة فلحظة.

توجيهات القائد الأعلى

أخبرني الأمير خالد أن خادم الحرمَيْن الشريفَيْن الملك فهد بن عبدالعزيز، القائد الأعلى للقوات المسلحة، يواكب الحرب بدقائقها، وأنه يوم المواجهة، في الخفجي، اتصل به وقال: عاملوا الأسرى العراقيين بأخوة، فأطعموهم، واسهروا على راحتهم، وأحسنوا وفادتهم كأشقاء، ووفروا لهم ما يحتاجون إليه، من راحة وعناية.

 

سبق ضد الساعة

قال لي الأمير خالد مداعباً: إن حديثك سيصدر متأخراً، وربما سبقته الأحداث، لأن الحسم سيكون سريعاً جداً، وسيجيء سبقاً ضد الساعة

 

العمل الصحفي الميداني والساخن مع قائد العمليات الحربية في الخليج، وقد فرض نفسه على أنه الحدث. لذلك حققت “الحوادث” لقاء مع قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات، الفريق الركن خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، في مكتبه بالرياض. والأمير خالد يهرب من الأضواء، والأضواء تلاحقه.

فقد شاء قدره وكفاياته العالية، أن يكون من أهل الواجهة والصدارة، وقد كلّفه ذلك المشقة والأرق والمواظبة، فهو عسكري على أعلى المستويات العصرية المتفوقة. وقد ارتضى واقعه بما فيه من ربح وخسارة، من مجد وخطر.

مؤمن، مثقف، شاب يفهم المسؤولية، خلقاً ورؤية مستقبلية، يجب أن يستشفها أهل البصيرة النيرة بثاقب حدسهم. يطالعك منه حضور ذهن وسرعة استيعاب وقرار سريع، ولكن غير مرتجل، وتصرف حصيف، يؤكد لك أنه ابن زمنه، ورجل المهمات الصعبة.

 

وفي مكتبه، خلال لحظات الهدأة، وهي نادرة، سجلت “الحوادث” هذا الحديث:

“الحـوادث”: ما هو تصوُّركم لِمَا بعد الحرب مع العراق، باعتبار أن كسب هذه الحرب، كما تشير كل الدلائل، مضمون سلفاً لكم.

الأمير خالد: “لقد كشفت هذه الحرب الكثير من خفايا نفوس بعض قادة الدول العربية، ولكن نحمد الله أن أغلبهم وقف مع الحق وإلى جانب العدل. وقد برزت، نتيجة لذلك، دروس كثيرة، تجعل من الضروري تقييم الأمور، مستقبلاً، تقييماً صحيحاً.

وفي تصوري أنه يجب أن يكون هناك تلاحم عربي، يُبنى على أساس المنطق السياسي والواقع الاقتصادي، وعدم تدخل أي دولة في شؤون الأخرى، ولا يُبنى على الغوغائية ودقّ الدفوف، فكفانا ما عانيناه أكثر من خمسين عاماً، فالشعوب لا تنسى ولا تغفر، وستحاسب قادتها، مهْما طال الزمن أو قصر”.

 

“الحـوادث”: بعد وقوع المواجهة، وسقوط مساعي التسوية، هل من المقدّر لحرب تحرير الكويت أن تكون طويلة؟

قال الامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “بإذن الله، ستكون المعركة البرّية لتحرير الكويت، كما خططنا لها، قصيرة، حاسمة، سريعة، بأقل الخسائر. فقد بنينا الخطط علـى حسابـات تُلزم المهاجم، طبقاً لخبرة الحروب السابقة، أن يحقق تفوقاً على المُدافع بنسبة 3 : 1 على الأقل. وبعد الدراسة، وجدنا أن هذه النسبة إمّا أن نحققها بزيادة أعداد القوات، أو بتقليل قدرات المعتدي. وكان البديل الثاني هو الأفضل.

ولذلك بُني استخدام القوات الجوية والقوات البحرية في المراحل الأولى للخطة لتحقيق هذه النسبة تقريباً، والتي بفضلها يمكِن استخدام القوات البرية، من دون خوف من الخسائر التي كان يمكِن أن تحدث، إذا أسرعنا في زجّ قواتنا البرّية في العمليات، من دون تنفيذ التحضيرات الكافية لميدان المعركة”.

 

“الحـوادث”: معركة الخفجي لم يتناولها الإعلام بما يكفي لاطلاع الرأي العام على حقيقتها، فأيّ انتصار حققت؟ وماذا كان مدلولها على صعيد إرساء القدرة القتالية للجندي السعودي؟

قال الامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “إن أول انتصار حققته معركة الخفجي هو انتصار العسكرية السعودية، التي أكدت أنها تسير في الطريق السليم، تسليحاً وتدريباً وعقيدة، وأعطت الجندي الثقة بقدرته القتالية وبسلاحه وبالتزامه بتنفيذ أوامر قادته.

وأكدت له كم وفرّ العرق في التدريب، الدم في الميدان، وأكدت له أيضاً قدرة أفرع القوات المسلحة السعودية، من برّية وجوية وبحرية وقوات الدفاع الجوي، على التعاون فيما بينها، وتعاونها مع قوات الحرس الوطني، في الذود عن تراب الوطن. وأعتقد أنها بداية جادة لتطوير تسليح وتدريب قواتنا، فيما بعد، في ضوء النتيجة المشرّفة، التي تحققت في أكبر معركة عسكرية تخوضها وحداتنا حتى الآن.

كما أكدت هذه المعركة أن الأموال التي أُنفقت على هذه القوات، والجهد والوقت، لم يذهب هباءً، ولو كنّا وجّهنا ما ساعدنا به طاغية العراق إلى زيادة تسليحنا، لكان لنا وله، الآن، شأن آخر”.

 

“الحـوادث”: علاقتكم بالقوات الشقيقة والحليفة كانت موضع ثناء الجيوش المتعاونة معكم ومواطني دولها، فكيف تمارسون هذه المهمة الصعبة؟

قال الامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “شرف عظيم لي أن أكون قائداً لهذا الحشد الضخم من القوات المشتركة. وزاد من شرف القيادة، أن أيّدها أصحاب الجلالة الملوك وأصحاب الفخامة الرؤساء. ولذلك، ألزمني الواجب أن أكفل راحة هذه القوات واستعدادها وكفاءتها”.

إن تولِّي قيادة قوات من جنسيات عدة، ليس بالمهمة السهلة، أتحمّل مسؤولياتها أمام الشعوب والتاريخ. وأشكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي أيّدني ووفقني، حتى الآن، في تنفيذ المهمة على أكمل وجه، تدعمني قدرات المملكة ورعاية مولاي خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، الملك فهد بن عبدالعزيز، القائد الأعلى للقوات المسلحة، ومن خلفي مساندة الشعب السعودي الأصيل”.

 

“الحـوادث”: كيف هيأتم مسرح العمليات لاستقبال هذه الألوف المؤلفة من الجيوش؟

قال الامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “هذا السؤال من الأسئلة التي طُرحت كثيراً بشيء من الإعجاب والاندهاش لقدرات المملكة العربية السعودية، التي استقبلت موانيها ومطاراتها أكبر حشد عسكري، يحدث منذ الحرب العالمية الثانية. واستطاعت وسائل النقل وطرق المواصلات أن تحرك هذه الحشود، من مواني الوصول إلى مناطق الحشد، بكفاءة منقطعة النظير أذهلت الجميع.

والفضل في هذا يرجع، بعد الله، إلى كفاءة القيادة السعودية، وعلى رأسها خادم الحرمَيْن الشريفَيْن ورجال حكومته، الذين كانوا بعيدي النظر في تخطيط البنية الأساسية للمملكة وتنفيذها وبنائها، واضعين في الاعتبار ترامي مساحتها، واحتياجاتها إلى شرايين للحركة من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، براً وبحراً وجواً، فكان هذا الإعجاز الذي يتحدث عنه العالم الآن”.

 

“الحـوادث”: برز الطيار السعودي في هذه المعارك الدائرة، خصوصاً إسقاطه طائرتين عراقيتين في طلعة واحدة، وغيرها من الممارسات الناجحة، كيف ترون الطيارين السعوديين وكفاءتهم القتالية؟

الأمير خالد: “إن الطيار السعودي، مثله مثل باقي ضباط وأفراد أفرع القوات المسلحة الأخرى، نوفّر له أحدث ما في ترسانـة العصـر مـن سلاح، بدءاً من الإنذار، ممثلاً في طائرات “الأواكس” والقتال، ممثلاً في طائـرات ف ـ 15 و”التورنيدو” وغيرهما من أنواع الطائرات ذات الكفاءة العالية. كما نوفّر له التدريب الشاق المستمر، علاوة علـى تمسّـكه بدِينه وعقيدته. والحمد لله، جاء دوره فأكد تفوقه، وأثبت جدارته، وشهد له أكفأ طياري العالم، وخير دليل على ذلك تهاوي طائرات المعتدي، ونجاح المهام التي يُكلف بها، وهذا من فضل الله علينا”.

 

“الحـوادث”: قِيل الكثير عن تفوق عالي المستوى للعسكريين العراقيين، وصل إلى مدى الأسطورة، هل أثبتت المواجهات أن هذا القول صحيح؟

الأمير خالد: “المقاتل العراقي مثله مثل أي مقاتل عربي، كفاءة ومقدرة. فقد صقلته الحرب لمدة ثماني سنوات، ولكنها أصابته، أيضاً، بالكآبة والألم، فعلى الرغم مما قدّم في الحرب الإيرانية ـ العراقية من ضحايا، إلا أنه أُصيب بخيبة أمل عندما لم يجد لهذا الوقت، الذي أنفقه من عمره، بين اللهيب وفوق الرمال، والذي سقط فيه ضحايا، خلفوا أرامل وأيتاماً، كل هذا بلا عائد أو نتيجة. ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد، ولكن زجّ به في أتون حرب أخرى، يدمر فيها بلداً عربياً شقيقاً، ويُلاقي ما لا طاقة له به، فليس كل الحروب مثل حرب إيران، وليس كل الأسلحة مثل أسلحتهم. فدخل المعركة وهو مهزوم نفسياً، مدمَّر فكرياً، يائسٌ من المستقبل، فكيف يكون مثل هذا المقاتل أسطورة؟ إنني أُشفق عليهم مما مرّ بهم من أحداث، ولهذا أعلنت مراراً أننا نرحب بمَن يلجأ إلينا، وأوصَيت بحُسن معاملتهم وإكرام وفادتهم”.

 

“”الحـوادث”: ماذا خلّفت الحرب عندكم، حتى الآن؟ وهل تكون معبَراً إلى تعاظم الآلة العسكرية السعودية، بشراً وعتاداً؟

الأمير خالد: “لا أستطيع أن أقول تعاظم الآلة العسكرية السعودية، ولكن أقول إن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين. لذلك، فإن حجم القوات السعودية وتسليحها، بعد هذه الحرب، سيكون لهما شأن آخر، بما يحقق أمن المملكة وشعبها وسلامتهما. فمَن كان يعتقد أن مشاركتنا في بناء القوة العراقية، التي اعتقدنا يوماً أنها ستكون سنداً لنا ودرعاً للأمة العربية، ستنقلب علينا وتصبح هي مصدر العدوان ومنبع الخطر. لقد تلقينا الدرس ووعيناه جيداً، ولن نسمح بتكراره”.

 

“الحـوادث”: شارك المقاتل الكويتي معكم في العمليات، كيف ترَون أداء هذا المقاتل الذي ظُلم ذات ليلة؟

الأمير خالد: “ماذا تنتظر من عربي سُلِبَ وطنه، وامتُهِنَتْ كرامته، وشُرِّدَ من داره، ودُمِّرَ مستقبله، وعُصِفَ بما بناه، ونُهِبَ ماله، واعتُدِي على عرضه وشرفه؟ فماذا يبقى له بعد ذلك، إلاّ أن يقاتل ويقاتل؟ فليس له في الحياة إلاّ أمل واحد، أن ينتصر الحق”.

 

“الحـوادث”: وماذا عن المقاتل العربي والخليجي؟

الأمير خالد: “المقاتل العربي ذو خبرة عالية وكفاءة ممتازة، ومن الصعب جداً انكساره، إذا تساوت ظروفه مع ظروف خصمه. وأعتقد أن حرب أكتوبر 1973، أثبتت صـحة هذا الكلام. ولكن ماذا نفعـل، ونحن دول تشـتري السـلاح، ولا تصنعه، وأمامها تنمية، إن لم تسرع فيها ترَكها قطار العصر بغير لحاق؟ فالتطور مذهل، والتقدم سريع الإيقاع”.

 

“الحـوادث”: ما هو مفهوم النصر لديكم؟

الأمير خالد: “مفهوم النصر لدينا هو فرض مطالبنا واستعادة الحقوق من الطرف الآخر. ولذلك، تلجأ الدولة إلى استخدام قواتها المسلحة، كإحدى أوراق إدارة الصراع، عندما تفشل في إقناع الخصم باللّين وبالسياسة، ومن خلال الأصدقاء والحلفاء، وقرارات المنظمات الدولية، والمبادرات السلمية، تجنباً لاستخدام القوة. ولكن، إذا رفض الطرف الآخر صوت العقل، وقرّرت الدولة استخدام قواتها المسلحة، فلا تراجُع، ولا إيقاف للعمليات، إلاّ إذا حققت مطالبها كاملة غير منقوصة، وهذا ما يحدث في صراع الخليج الآن”.

 

“الحـوادث”: أثبت الشعب السعودي شجاعة نادرة، فلم تضعف معنوياته، بل تصدى ببطولة للصواريخ التي قُصف بها. ماذا فعلتم لتعبئته وتهيئته لهذه المواجهة؟

الأمير خالد: “الحمد لله، لقد أثبت، فعلاً، الشعب السعودي صلابة وشجاعة نادرتين، أكّدتا على تماسكه ووحدة صفّه، خلْف قيادته الحكيمة الرشيدة، التي لم يتبدل موقفها أو ينحرف قرارها عن جادة الحق والصواب. وكان التعامل مع الأحداث بلا توتر أو انفعال، فساد الهدوء الشارع السعودي. وعندما انطلقت عليه الصواريخ، وتأكد أن قيادته قد أعَدَّت لكل شيء عُدته، خرج لمشاهدة قتال الصواريخ، التي أصبحت جزءاً من سهراته، فتلاحم مع رجال القوات المسلحة، بعد أن شعر بما بذلته من أجْل أمنه وأمانه، فازداد اقتراباً منها، وتماسكاً خلْفها”.

 

“الحـوادث”: لو لجأ الجندي العراقي، اتقاءً لهجماتكم إلى داخل المدينة الكويتية، هل أعدَدتم لخوض معارك مدن بأقلّ قدر من الخسائر؟

الأمير خالد: “هناك ما يُسمى بفنّ القتال، فيه مؤلفات كثيرة ودراسات مستفيضة، ما زالت حتى الآن تُقلب في أوراق المعارك القديمة، وتستنبط منها الكثير. فلكلّ ميدان طبيعته الخاصة وأسلوب قتاله المتميز، فهناك الميدان الزراعي … الصحراوي … قتال الغابات … القتال الجبلي … ومنها ميدان القتال في المدن، يتمّ تدريب المقاتل خلاله على كيفية التعامل مع المناطق المبنية، وكيفية اقتحامها والاستتار من نيران المعتدي. والحمد لله، أننا منذ توقعنا احتمالات الحرب، وصدرت إلينا توجيهات صاحب السمو الملكي النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام، بالاستعداد، وضعنا خطط التدريب والاستعداد القتالي للحرب، بما يتماشى مع طبيعة المعركة. فلن يكون القتال في المدن الكويتية شيئاً عسيراً علينا، لقد أعدَدنا له عُدته، على الرغم من مشاكله واحتمالات خسائره”.

 

“الحـوادث”: إن تعاون القيادة المشتركة والقيادة الأمريكية، في غرفة العمليات وساحات القتال، كان له الصدى العالمي. كيف مارستم هذا التعاون؟

الأمير خالد: “عندما تكون الرؤية السياسية واضحة للقادة، والهدف العسكري واحداً ومشتركاً، والمستوى يسهل التفاهم والتعاون معه، تصبح الأعمال المشتركة سهلة وميسرة. والحمد لله، أن القوات الأمريكية لديها الإمكانات والقدرة على العمل المشترك مع قوات متعدد الجنسيات. ونحن بتدريباتنا ودراساتنا، على علم بأساليب التعاون المختلفة، ومستوى رجالنا العلمي والعملي على درجة عالية من الكفاءة، سواء في التخطيط أو التنفيذ. وقد ازداد صقلاً خلال التدريبات المشتركة. والعلاقات القيادية بين القيادة المشتركة والقيادة الأمريكية، هي علاقة تعاون كامل، وتنسيق مستمر، وتخطيط مشترك، مما أدّى إلى كفاءة التنفيذ وفاعليته”.

 

“الحـوادث”: بأيّ انطباع تخرجون من هذه الحروب عن قدرة العرب القتالية، فيما لو هاجمهم عدو مشترك؟

الأمير خالد: “مرات نادرة، استطاع العرب فيها توحيد قواهم، أو على الأقل استطاعت مجموعة منهم أن توحد قواها في مواجهة الأخطار. ومن هذه المرات، كانت حرب أكتوبر 1973. وللأسف، شعَر الآخرون بخطورة هذا التجمع، الذي قيل عنه، في وقته، إنه سيكون القوة السادسة في العالم. وللأسف، لم يشعر العرب بذلك. فسرعان ما دبّ الخلاف والشقاق بينهم، وتحولت فوّهات المدافع، تصبّ حممها على بعضنا البعض، وأصبحنا نفقِد في صراعاتنا الكثير، ونحدِث بأنفسنا ما لم يستطع العدو أن يحدِثه فينا من خسائر. وما يحدث الآن صورة من هذه الصور. أسأل الله أن تكون الصورة الأخيرة”.

ـــــــــــــــــــ

إلــى مجلـــة “الدوليـــة”

نشرته جريدة “صوت المعركة (النصر)”

العدد45، الإثنين، 3 مارس 1991

ـــــــــــــ
(العناويــن)
نص حديث صاحب السموّ الملكي الفريق الركن خالد بن سلطان إلى مجلة “الدولية:

* إسقاط الحرس الجمهوري، يُسقط صدّام حسين.

* بقاء القوات العربية والصديقة في الكويت، سوف يستمر لتأمين المنطقة.

* ما زلت جندياً في خدمة تراب الوطن، وسأظل.

 

أجرت مجلة “الدولية” الأسبوعية حديثاً مع صاحب السموّ الملكي، الفريق الركن خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات، حول الموقف العسكري في منطقة الخليج، والذي تنشره “النصر”، بعد الاتفاق مع “الدولية”. وفيما يلي نص حديث سموّه:

 

بعد السلام، والتقاط مجموعة من الصور، هَمَمْت بأن أسأل الفريق الركن عن دخول تركيا في المعركة البرّية. ولكن جاء من ينقذني، في الوقت المناسب، من سؤالي الذي تبيّن لي، فيما بعد، أنه فَقَدَ كل مبرراته؛ إذ اعتذر الأمير خالد، وخرج لحظات، ما لبث أن عاد بعدها بابتسامة أعرض من ابتسامته المعهودة وفي وجهه خبر، من السابق لأوانه أن يُفصح عنه. سرّ عسكري، إنه من دون أدنى شك على صلة بتصريحات صدّام حسين، يومها، بأنه قرّر الانسحاب من الكويت.

ـ الدولية: هل انسحب طواعية، نزولاً عند الرغبة الدولية؟ أم أن “أخاك” مكرَه، لا بطل؟

ـ خالد بن سلطان: “لو كان عند صدّام حسين واحد بالألف فقط من الأمل بتحقيق جزء بسيط من طموحاته الشخصية، لما همّته التضحية بآلاف مؤلّفة من العراقيين. حتى تصريحاته بالانسحاب، التي سمعناها اليوم، لا تعني الانسحاب بقدر ما تعني إيهام الناس بأنه لم يخسر الحرب. إنه يتغافل عن الحقيقة، في خطابه، وكأن قواته منتصرة، أو أنها ستعود وتنتصر على ثلاثين دولة، كما قال، والحقيقة أنها ثلاث وثلاثين دولة، وأكثر. من هذا المنطلق، لا أعتبر الانسحاب، الذي أعلن عنه انسحاباً، إنه انسحاب عاجز، لأنه يعرف أن قواته الآن ليست محاطة فقط، بل هي منهارة تماماً. ولا بد أن نتوقف عند كلمة الانهيار، لقد قلْت في السابق، وأقولها الآن، وسأقولها في المستقبل، إن الجندي العراقي يفتخر بقتاله، ويفتخر بتدريباته، ويفتخر بإنجازاته، ولكن مع الأسف، حطّم صدام سمْعتهم، لأنهم لم يؤمنوا بقضية يحاربون من أجلها. ولهذا، تجد الأسْرى بأعداد كثيرة، ولم يبدوا المقاومة الشرسة، المعروفة عن المقاتل العربي الصحيح. وفي الحقيقة، لِمَ تريدهم أن يقاتلوا؟ هل يقاتلون في سبيل ابتلاع دولة أخرى؟ لقد فاق عدد الأسْرى ثلاثين ألفاً، في اليوم الثالث من الحرب البرّية، وكلهم يقولون، على نمط واحد: “الحمد لله أننا استسلمنا، لأننا لسنا مؤمنين بهذه القضية”. ولمّا أقول كلهم، أقصد النسبة الكبيرة منهم، ما عدا فئة قليلة جداً، أعماها الله بتمسكها بمثل هذا المجنون، أو لأنها مستفيدة شخصياً من بقائه”.

ـ “الدولية”: ألا يمكِن أن نتصور أن ينكفئ صدّام حسين إلى العراق، وأن يواصل معركة استنزاف؟

ـ خالد بن سلطان: “في المنطق العسكري، لن تكون هناك حرب استنزاف في المستقبل، بعد إنجاز المهام العسكرية، والمُهلة التي حُددت له أصبحت تُعد بالساعات الآن، وليس بالأيام. وسنستعيد الكويت ـ بإذن الله ـ وستدخل جميع القوات الكويت لحمايتها، ولا أعتقد أنه سيكون باستطاعته أن يقوم بأي عمل استنزاف لأنه سيكون مشلولاً، عسكرياً”.

ـ “الدولية”: هل تحتفظ القوات المتحالفة بحق تعقّبه، وملاحقته داخل العراق؟

ـ خالد بن سلطان: “في الأساس، يجب تحرير الكويت. ولكن هل هو من الغباء حتى يعتقد أننا سنهاجم بالمواجهة فقط لنصطدم بالقوات الرئيسية، من دون عمليات التفاف، سواء داخل الكويت أو خارجها؟ فالكويت بلد صغير، ولا بد من عمليات تطويق وعمليات مناورة والتفاف، حتى يتحقق الهدف الشامل بتدمير القوات المعتدية، من الأمام أو من الخلف أو حتى في الوسط. أمّا قواتنا، فسوف تعود إلى الكويت بعد إنجاز مهامّها. وأؤكد أننا لن نبقى، ولو مئات الأمتار، خارج حدود الكويت”.

ـ “الدولية”: اسمح لي، حضرة الفريق الركن، أن أسأل السؤال الذي هو على كل شفة ولسان: هل يمكِن أن تنتهي الأزمة من دون إنهاء صدّام حسين؟

ـ خالد بن سلطان: “مهمّتي أنا شخصياً هي تحرير الكويت، وإنهاء قوات صدام المعتدية الموجودة في الكويت، مع عمل المستحيل لتجنب إراقة الدماء، وأخْذ ما أمكن من الأسْرى وإعادتهم إلى بلادهم، إن شاء الله. ولكن بالنسبة إلى صدّام، فأعتقد أن السؤال يجب أن يوجّه، في ما بعد، إلى شعب العراق”.

ـ “الدولية”: يعني هذا أنك تعتقد أن الشعب العراقي، لا يمكِن أن يحتفظ بصدّام حسين، بعد كل ما جرى؟

ـ خالد بن سلطان: “إذا أنهيت قوة الحرس الجمهوري المعتدي، وأنهيت القسوة الممارسة على الشعب العراقي، وأصبح العراق للعراقيين، وأصبحت لهم الكلمة العليا في التعبير عمّا يريدون، فلا أعتقد أن صدّام يبقى ثانية واحدة”.

ـ “الدولية”: كم تقدرون الفترة، التي يجب أن تبقى خلالها القوات المشتركة في الكويت، لتطهيرها من الألغام وبعض الجيوب وبعض العناصر الدخيلة، تأهيلاً لعودة الشرعية إلى الكويت؟

ـ خالد بن سلطان: ” لا بد من استمرار بقاء القوات العربية والصديقة في الكويت، حتى تأمين كل شيء، سواء النقاط التي يوجد فيها بعض العراقيين أو تأمين الحدود. وبعد انتهاء هذه المهمّة، تبدأ القيادة السياسية تقدير الوقت، الذي يتحتم فيه بقاؤنا في الكويت، وهذا راجع إلى الإرادة السياسية لدى حكومة الكويت ذاتها. أمّا بالنسبة إلى التطهير من الألغام، فهذا جانب آخر مُعقد، فالألغام التي زُرِعَتْ خلال الحرب العالمية الثانية، كما في العلمين، لم تنزع كلها حتى الآن، كما تعرف. فهذا الأمر لا يتمّ إلاّ على مراحل، وبتخطيط مسبق. ولذلك، فإن الحكومة الكويتية، والقوات المسلحة الكويتية هي التي تأخذ على عاتقها في ما بعد، هذه المهمّة، وأي قوات أخرى تطلبها للمساهمة في أعمال التطهير، لن تطرح أي إشكال، لأننا نحن والكويت بلدٌ واحد، وشعبٌ واحد، ولأن الدول الأخرى مستعدة للمساهمة في التطهير من الألغام”.

ـ “الدولية”: ما هي الأسباب التي جعلت العراقيين، في رأيكم، يستسلمون بعشرات الآلاف، ومن دون مقاومة كبيرة؟ هل هي قوة التحالف، أو ضعف إيمان الجندي العراقي بالقضية، أو الاثنان معاً؟

ـ خالد بن سلطان: “إنني أقول إنهما الاثنان معاً. ولكن أرجح عدم إيمانهم بالقضية التي حاربوا من أجْلها”.

ـ “الدولية”: لا شك أن معركة الخفجي كانت اختباراً لك ولصدّام حسين، لأنها كانت مواجهة عسكرية في “الظل” بينكما. ما هو الانطباع الذي خرجت به؟ وهل أثّر في نظرتك إلى الحرب البرّية، في ما بعد؟

ـ خالد بن سلطان: “بالنسبة إليّ شخصياً، فإنني أُسمي معركة الخفجي تطعيماً للمعركة ، لي كقائد، وللقوات المشتركة. أمّا بالنسبة إلى المواجهة الخفية، فإنني أقول، من منطلق عسكري، إنه لا أحد يتمنّى الحرب. ولكن مستقبلاً، إذا فوجئت بمعركة مماثلة، أتمنى أن تكون عقلية القائد العسكري المقابل مشابهة لعقلية صدّام حسين العسكرية” (ضحك).

ـ “الدولية”: قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات، لا بد أن تكون له فكرة عن الإستراتيجية، والسياسية العسكرية. هل نتوقع، مثلا،ً أن تركيا قد تشارك في الحرب البرّية؟

ـ خالد بن سلطان: “أعتقد أن الحرب البرّية انتهت الآن، أو أنها في مراحل الانتهاء، ولا حاجة إلى دخول تركيا الحرب. على كل حال، ليس الأساس اجتياح العراق، بل الأساس هو تحرير الكويت، فبحكم الطبيعة الجغرافية التركية، ليس هناك داعٍ لدخول تركيا في المعركة”.

ـ “الدولية”: أول جندي دخل الكويت، كان سعودياً يرافقه الجندي الكويتي …

ـ خالد بن سلطان (مقاطعاً): كقائد القوات المشتركة، أعتبر، من جانبي، أن كل القوات التي تحت قيادتي، والتي تشرفت بقيادتها، متساوية: الجندي السعودي والكويتي والخليجي والمصري والسوري، أعتبر أنهم كلهم دخلوا المعركة بقلب واحد من أجْل هدف واحد، هو تحرير دولة الكويت الشقيقة”.

ـ “الدولية”: وعلى سبيل التخصيص، ما رأيكم بالقوات البرّية الفرنسية؟

ـ خالد بن سلطان: “جيدة جداً!”.

ـ “الدولية”: في ندائك إلى القوات السعودية والقوات المشتركة، أوصيت بالحسم في القتال، والرأفة بالجرحى والأسْرى. كيف التوفيق بين الحسم والرأفة عند الجندي؟

ـ خالد بن سلطان: “الحسم أثناء التعامل بالسلاح. والرأفة بعد إلقاء العدو سلاحه”.

ـ “الدولية”: لديكم الأسْرى بعشرات الآلاف. كيف ستتعاملون مع هذه المسألة، وهي مسألة إنسانية، ومسألة نقل واستضافة، إذا صح التعبير؟

ـ خالد بن سلطان: “عندما شَرُفت بقيادة القوات المشتركة، بدأت، بمساعدة زملائي، في التخطيط، والتخطيط لأسوأ الاحتمالات، لكافة الأنشطة والمجالات. وقد توقعت، من خلال تقدير الموقف لقواتنا وقوات العراق، ومن المعلومات الأخرى عن الحالة المعنوية للجنود العراقيين، ومن خلال استجواب اللاجئين، أنه إذا تمت المعركة البرّية حسب ما خُطط لها، والتي نُفذت، بدقة، حتى الآن في القصف الجوي، فإن الأسْرى، سيكونون بأعداد كبيرة. لذا، أصدرت الأوامر، في تلك اللحظة، بتجهيز معسكرات لاستيعاب أكثر من مائة ألف أسير. ولكن أصدرت، منذ قليل، الأوامر بالتجهيز لاستقبال الأشقاء العراقيين، وليس الأسرى العراقيين، الذين أرادهم قائدهم صدّام حسين حطباً لناره. بهذه الصفة نستقبلهم، ونصرُّ على ذلك، ونقول عنهم إنهم أشقاء. ولا أخفي سراً، أن لديَّ توجيهات صريحة، وحاسمة، من قائدنا الأعلى، خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، بالاهتمام، جلّ الاهتمام، بالأسير، سواء بالنسبة إلى العلاج أو الأكل. ولقد أصدرت الأمر، بناءً على توجيهاته، بإعطاء الأسير نفس الإعاشة ونفس طبلة الأكل (وجبة الأكل)، التي تُعطى للجندي السعودي. كما فتحنا مستوصفات ومستشفيات خاصة لعلاج الأشقاء العراقيين. وأذكُر في هذا الصدد، أن مولاي خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، أمرني: لا ترهقوهم بالأسئلة عند وصولهم، أطعموهم وعالجوهم أولاً، ثم اسألوهم، بعد ذلك”.

ـ “الدولية”: ما دمنا بصدد الأسئلة والحصول على معلومات، كيف يتمّ نقْل هذه المعلومات والأخبار الميدانية؟ هل تنقلونها إلى وزير الدفاع، سمو الأمير سلطان، ومنه إلى خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، أو كيف؟

ـ خالد بن سلطان: “إن الارتباط القيادي معروف. وأنا، كعسكري، التزم بالتسلسل القيادي، فمِن خلال صاحب السمو الملكي الأمير سلطان، ورئاسة هيئة الأركان العامة، يتمّ نقْل المعلومات مباشرة إلى مولاي القائد الأعلى للقوات المسلحة. وفي بعض الحالات، ولسرعة التبليغ أو الاستفسار، ولحرص القائد الأعلى على الوقوف على دقائق الأمور، يتمّ الاتصال مباشرة”.

ـ “الدولية”: جميع الذين عرفوا سموّك عن كثب، أو من خلال شاشة التلفزة، اكتشفوا فيك حماسة الشباب، وبهجة واضحة بمزاولة العمل العسكري. ولكن، الذين خاضوا المعارك الكبرى كما هو معروف، تحولوا بعدها من الخدمة العسكرية إلى الخدمة المدنية. هل ذلك وارد بالنسبة إليك بعد زوال آثار الحرب؟

ـ خالد بن سلطان: “الله ـ سبحانه وتعالى ـ قدّر لي التوجه إلى العمل العسكري. أمّا في ما بعد، فأتمنى بعد أن أُنجز مهامّي المكلف بها، أن أكون جاهزاً لأيّ عمل عسكري أو غيره يوجهنا إليه قادتنا. وهذا لا يعني أنني أدّيت واجب الوطن ومليكه، فما زلت جندياً في خدمة هذا التراب، وسأظل. ولكنْ لكل قائد عسكري زمن، وبعده يُحـال، باللغـة العسكرية، إلـى ما يُسمى بقانون التقاعد”.

ـ “الدولية”: ولكنّك ما زلت بعيداً جداً عن التقاعد، وإن كانت سن التقاعد قريبة في الجندية.

ـ خالد بن سلطان: “أنا أنصح كل قائد عسكري، أن يجهز لنفسه مزرعة، وهذا أفضل ما أجِده لأيّ قائد عسكري” (هل قالها قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات مداعباً، أو أنه يفكر في شخص معين؟).

ـ “الدولية”: بعضهم كان يعتبر أن المملكة أنفقت كثيراً على تسليح نفسها، وقد خطّأتهم الأيام. كيف تتصور مستقبل القوات السعودية عَدداً وعتاداً؟

ـ خالد بن سلطان: “تكلّم الكثيرون على القوات السعودية، وبالغوا في كيفية صرْف المبالغ. نسبة كبيرة من المبالغ التي صُرفت، إنما صُرفت على المنشآت والمرافق، وقد ساهم ذلك في تنمية الاقتصاد وفي تنمية المملكة، على المستوى المدني. كثيرون انتقدوا القوات المسلحة السعودية، والآن أثبتت الأفعال عكس الأقوال. إلاّ أن هذا لا يعني أنه ليس هناك أخطاء، فالأخطاء موجودة في أي قوات مسلحة في العالم. والكثير من الأخطاء لا يُكتشف إلاّ من خلال الحروب أو التجارب العملية، واكتشاف الأخطاء، هو البداية الصحيحة لتصحيح الأوضاع. إنني أتصور أن القوات المسلحة السعودية تصحح الآن نقاط الضعف التي اكتشفناها، وفي الوقت نفسه، تعزز القدرات البحرية والبرّية والجوية والدفاع الجوي لحماية أمن المنطقة. وأنا كعسكري، وليس كسياسي، أقول: يجب أن يكون تخطيطنا قائماً على احتمال أن عدو اليوم قد يصبح صديق الغد، وصديق اليوم قد يصبح عدو الغد”.

ـ “الدولية”: هل هذه إحدى العِبر التي استمديتموها من حرب الخليج؟

ـ خالد بن سلطان: “هي تجربتي الآن، وخلال حياتي العسكرية. وطبعاً تجربة حرب الكويت فاقت كل تجاربي السابقة، فهل كنّا نتخيل أن صدّاما سيصبح معتدياً، وقواته تبتلع دولة، وتهدد أخرى!”.

ـ “الدولية”: بين القادة العسكريين والصحافيين خلاف قديم، فالصحافيون يريدون معرفة الكثير من المعلومات، والعسكريون يحتفظون بالمعلومات على أنها من الأسرار العسكرية. لم يحدث مثل هذا الخلاف بين سموكم وبين الصحافيين، من سعوديين وعرب وأجانب. ما هو تفسيركم؟

ـ خالد بن سلطان: “بيّنت التجارب أنه لا بد أن يُحسب حساب الصحافة والإعلام، عند التخطيط لأي عمليات عسكرية. وعلى المسؤول العسكري أن يُخصِّص أكثر من خمسين بالمائة من وقته للإعلام. فقد أصبح الإعلام، في وقتنا الحاضر، في أهمية العمليات العسكرية نفسها، لما له من تأثير في الرأي العام. وأعتقد أننا، في القوات المشتركة، وفِّقنا، والحمد لله، في هذا المجال، خلال هذه الحرب. فللمرة الأولى في تاريخ الحروب العربية، يكون هناك ناطق عسكري يُعطي، يومياً، تفاصيل الأحداث، من دون مبالغة ومن دون تقليل، خلافاً لما كان يحدث في الحروب العربية السابقة. لقد كان المتحدث العسكري يقدم المعلومات بكل موضوعية عن كل ما كان يتمّ، ولكن لم يكن في استطاعتنا أن نقول ما سوف يتمّ”.

ـ “الدولية”: … وبالتالي هل مهمتكم مستمرة في الكويت إلى ما بعد الحرب؟

ـ خالد بن سلطان: “ما دمت مشرَّفاً بقيادة القوات المشتركة، فلن أخلد إلى الراحة، إلاّ بعد أن أطمئن على أصغر طفل وأكبر رجل في الكويت، إن شاء الله”.

 

إلــى جريدة “صوت الكويت الدولي”

لندن، الثلاثاء، 14 جمادى الأولى 1412، الموافق 19 نوفمبر 1991
ــــــــــــــــــــ

(العناوين)

* خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، الملك فهد، اتّخذ أعظم القرارات وأكثرها جرأة، بدعوة القوات الشقيقة والصديقة.

* خالد بن سلطان: الفريق الأول لا يتقاعد. ولكنها “استراحة محارب”.

* كنت في الخفجي. كانت أكبر معركة واجهت المملكة. وحوّلتها إلى منطقة قتْل.

* تسألني عن الكويت؟ إنها قطعة من قلبي وتاريخي.

* للمرة الأولى في الحروب، يحاول قائد عسكري تخفيف الخسائر البشرية في صفوف العدو.

* سأحاضر في الغرب، وأبيّن ما قدمته المملكة لوجستياً. وأكتب مذكراتي.

* أعمل على بناء مؤسسة عسكرية خيرية لرعاية ضحايا الحرب، وتشمل العراقيين، ولكن بعد زوال صدّام.

* العلاقة بـ “شوارتزكوف”.

* سأبقى حتى الممات مخلصاً لربي، ووطني، وفي خدمة الملك فهد.

 

قال أحد زملائه في وداعه، بعد قبول استقالته كقائد للقوات المشتركة ومسرح العمليات “الأمير خالد لا يتقاعد، سوف يظل عسكرياً، ولو في زيٍّ مدني”. ويقول الأمير خالد: “الفريق الأول لا يتقاعد، بالمعنى المعروف. حتى لو تقاعدت، فما زلت أحمل شرف تكريم خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، الملك فهد، لي بترقيتي إلى رتبة الفريق الأول، ومن يصل إلى هذه الرتبة، لا يتم الاستغناء عن خدماته، بل يستفاد من خبراته في مجالات عسكرية أو أي مجالات أخرى، ويظل دائماً في خدمة مليكهً” ويقول الأمير، الذي قلّدته الملكة إليزابيث الثانية أرفع وسام بريطاني، من رتبة فارس شرف: “ربما تقاعدت، كقائد، ولكنني حتى الممات، سأظل مخلصاً لربي، ووطني، وفي خدمة جلالة الملك فهد، وسوف أكون موجوداً، دوماً، لإعطاء أي استشارات تُطلب مني”. ويقول الأمير الفارس: “أحياناً، ربما يحتاج المرء إلى استراحة محارب”.

هي استراحة المحارب إذاً. وفي خلال هذه الاستراحة، فإن الفريق الأول الركن، قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات، وبطـل تحرير الكويت، يتذكّر، يستعيد ملحمة الخفجي التاريخية “إنها أكبر معركة واجهتْ المملكة العربية السعودية. كنت في الخفجي، حوّلتها إلى مصيدة ومنطقة قتْل. وفيها اكتشفت مدى الجهل العسكري لصدّام حسين”.

والفريق الأول الركن، الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، الذي أمضى عمره كله، تقريباً، في المؤسسة العسكرية، والذي كان يطل على المشاهدين في شبكة “سي.إن.إن C.N.N.”، أثناء الحرب، حازماً، حاسماً، وعسكرياً محترفاً، يكشف عن وجْه آخر، في أثناء الحوار معه، في قصره في ريجينت بارك: وداعة خفيّة تطلّ من عينيه، وفي ضحكته المجلجلة تظهر شخصية الأب ورب العائلة، الذي احتجزته مسؤوليات القيادة بعيداً عن عائلته طيلة فترة الحرب، باستثناء مرة واحدة، جاء فيها أبناؤه وبناته (ثلاثة أولاد و ثلاث بنات)، يزورونه في غرفة العمليات. وتتكامل هذه الصورة، عندما يقول، بحزن واضح: “لم تكُن مهمّتي تقليل الخسائر إلى أقصى حدّ بين رجالي فقط، كانت أمنيّتي أن أقلّل الخسائر أيضاً في أرواح العراقيين”. وهو يحترم الجندي العراقي. إنه جندي محارب، ولكن المشكلة هي مع صدّام حسين.

والأمير خالد يتحدث عن صدّام حسين بضمير الغائب، لم يذكُره بالاسم، إلا مرة واحدة. لقد انتهى عسكرياً، وما تبقى من المهمّة يكمله الشعب العراقي. أكثر من ذلك، إن “الحرب قاسية، ولا يعرف معنى السلام إلا قائد خاض الحرب”. ومن هنا فإن مشروع هذا “الداعية المحارب”، هو إقامة مؤسسة خيرية، يكون أعضاؤها من القيادات العسكرية، التي شاركت في حرب تحرير الكويت، تتولى رعاية جميع الجرحى والمعوقين وأهالي الشهداء، الذين سقطوا في حرب تحرير الكويت، جميعهم ومن دون استثناء، بمن فيهم “العراقيون الجرحى والمعوقون وأهـالي القتلى … ولكن بعد زوال صدّام”. وفي انتظار قيام هذه المؤسسة، التي تقوم على أمانتها قيادات عسكرية، فإن الأمير الفارس سوف يكرّس وقته “بعد أن كتب الله ـ سبحانه وتعالى ـ لي شرف كسب ثقة الملك فهد” لإلقاء المحاضرات في العالم الغربي، “لأن إعلامنا العربي، للأسف، لا يعادل 5 بالمائة من الإعلام الغربي”. ذلك، لأبين الدَّور العظيم الذي اضطلعت به القوات المشتركة، والقوات العربية وقياداتها، وما فعلت المملكة من الناحية اللوجستية، وهو أمرٌ لا تستطيع دول مثل بريطانيا وفرنسا، أن تقوم به، كما فعلت المملكة في فترة ثلاثة أشهر فقط، “وسـوف أكتب مذكراتي”. ماذا ستحتوي هذه المذكرات؟

 

الكثير، ولعل أهم ما فيها “ما أسميه دائماً أعظم قرار تاريخي، وأجرأ قرار تاريخي للملك فهد. ولو تردّد يوماً واحداً، لانعكست الصورة تماماً”. وينتهي الحوار مع جملة يطلقها الأمير الفارس: “تسألني عن الكويت؟ إنها قطعة من قلبي وتاريخي”.

 

القصف السريع
بدأ الحوار مع الأمير خالد بن سلطان، كالتالي:

ـ سمو الأمير، أنت قائد طموح، ونحن صحيفة طموح، ونريد أن نحصل على أكثر ما يمكن من وقتك. أعطيت الكويت كثيراً، والآن نطمح في أن تعطي “صوت الكويت”.

ـ وضحك الأمير خالد، وقال: إن شاء الله، اطمئن، فالرجل العسكري أجوبته فورية، وسريعة، ومباشرة.

 

ـ يعني مثل القصف السريع؟

ـ وضحك سموّه مطولاً، قبل أن يبدأ الفريق الأول الركن، بالقصف السريع.

 

يوم الأربعاء، الأول من أغسطس (آب)، كان يوماً عادياً في حياة قائد قوات الدفاع الجوي في المملكة العربية السعودية، الأمير خالد بن سلطان. في ذلك اليوم، غادر الأمير مقر القيادة في الرياض إلى مزرعته. ولكنه في الرابعة صباحاً، عاد إلى مقر القيادة، وبلباس الميدان.

 

ـ لم تكُن تتوقع أن يقوم صدّام حسين باجتياح الكويت؟

ـ “لا، بالطبع كانت هناك خلافات ووساطات وتوقعات من الجميع، وكنّا نعتبر المحادثات العراقية ـ الكويتية، في جدة، فألَ خير. وكانت التوقعات، في أسوأ الحالات، أن يحاول (صدّام) احتلال الرميلة وبوبيان. كان هذا أسوأ الاحتمالات، ولكن ما فعَله تجاوز أشد الكوابيس سواداً. ولم يخطر ببالي شخصياً، أن يغامر، بشكل جنوني، ويجتاح الكويت كلها”.

ـ هناك سيناريو طرحته، الأسبوع الماضي، مجلة “بابل”، التي يُصدرها عدي بن صدّام حسين، وهو يقول: إن القوات العراقية كانت مهيأة لمتابعة الاجتياح داخل المملكة العربية السعودية، ولو فعلت ذلك، ربما تغيرتْ نتائج الحرب. هل خطر لكم أن العدوان لن يتوقف عند حدود الكويت؟

ـ “كل الاحتمـالات، بعـد اجتياح الكويت، باتت واردة. وما أعرفه، هو أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ كتب لي شرف كسْب ثقة خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، القائد الأعلى للقوات المسلحة، الملك فهد، بتعييني قائداً للقوات المشتركة ومسرح العمليات، والقادة في ذلك الوقت، ما شاء الله، كانوا كثيرين، وكل واحد فيه الخير والبركة. ولم أكُن أتصور أن يحدث مثل هذا العدوان. لقد اتّخذ خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، ما أسميه دائماً، أعظم قرار تاريخي، وأجرأ قرار تاريخي، بدعوة الدول الشقيقة والصديقة. ولولا هذه الدعوة لكانت الصورة قد انعكست تماماً، ولو تردّد جلالته يوماً واحداً، لتغيّر الموقف نهائياً. وبعد هذا القرار، صار واضحاً أنه لا بد من اختيار قائد للمهمة المقبلة. وطبعاً، لكل قائد عسكري طموحات، ومن حق كل قائد أن يكون طموحاً، شريطة أن يحترم وطنه ويتفانى في سبيله. ولا أكذب عليك، كنتُ طموحاً إلى ما هو أكثر (يضحك). ولكن منذ أن نِلتُ شرف تعييني، بدت الخيارات المقبلة كلها مفتوحة ومحتملة الحدوث. فقد يقرر صدّام الانسحاب فجأة، بعد تغيير الحكومة كلها، أو بعد أن يجري تعديلات في تشكيلها، فيغيّر ما قد يسميه العناصر الفاسدة. أو أن ينسحب من الكويت جزئياً. أو يحاول مواصلة الاجتياح إلى رأس مشعاب أو الجبيل. وكان لكل احتمال خطة جاهزة لمواجهته”.

 

ـ قلت في إحدى خطبك “استقبلنا حشوداً، لم يشهد العالم لها مثيلاً، منذ الحرب العالمية الثانية”. كما أنك اضطّلعت بمهمّة لم يكلَّف بها أحد من قبل. وهذا صحيح. ولكن حتى في الحرب العالمية الثانية، لم يجتمع فوق رقعة محدودة من الأرض ما يقترب من مليوني جندي، كيف تعاملت مع هذا الواقع؟

ـ “ما قصدته في الحقيقة، عندما تحدثت عن الحرب العالمية الثانية، هو حجم القوات، وليس تعداد الدول. إن وحدات من قوات مسلحة لسبع وثلاثين دولة كانت في “عاصفة الصحراء”، تعمل في مسرح عمليات واحد. أمّا من حيث حجم القوات، أو الفترة الزمنية، فإن هذا لم يحدث له مثيل، منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت نفسه، فقد كان لهذه الحرب تعقيداتها وخصوصياتها، بالنسبة إليّ شخصياً. لأن القيادة، كما تعرف، لم تكن تعتمد على أيزنهاور واحد، بل اثنين، ولا على ماك آرثر واحد، ولكن على اثنين، شوارتزكوف وأنا، هذه الناحية فريدة في الحروب ونادرة. طبعاً، كان الأصعب عليَّ شخصياً، أنا كقائد للقوات المشتركة، أن أحارب دولة عربية. كنت أدرك، تماماً، أن ما حدث لم يكُن من إرادة الشعب، ولكنها إرادة فرد واحد وجماعة معه، مصدره طموحات ومطامع شخصية. ولكن في الوقت نفسه، فإن اجتياح دولة شقيقة وجارة وقريبة إلى قلبي، لم يكُن يحتمل قولَين، فقضية تحرير الكويت كانت محسومة. وما كنت أفكر فيه هو كيفية دفْع طاغية، مثل صدّام وأعوانه، إلى الانسحاب من الكويت، وإلى احترام حقوق الجوار والأخوّة العربية في المستقبل، القريب أو البعيد. وهذه نتركها، اليوم، للزمن وللقادة السياسيين، الهدف الأهم كان تحرير الكويت. ومع هذا الهدف، كان لدي هموم أخرى، كيف يمكِن تقليل الخسائر؟ وللمرة الأولى، في تاريخ أي قائد عسكري، يفكر بينه وبين نفسه، في تقليص الخسائر، طبعاً كانت الأولوية هي لتحديد خسائر القوات التي أقودها، ولكن هاجسي كان في استمرار أن أخفّف من الخسائر البشرية في أرواح العسكريين العراقيين والشعب العراقي نفسه”.

ـ وصفتَ، في إحدى محاضراتك، “عاصفة الصحراء” بأنها نموذج من حروب نهاية القرن العشرين وحرب المستقبل. هل تعتقد أن حرباً من هذا النوع يمكِن أن تتكرر؟

ـ “لا. وأتمنى ألاّ يعود هناك حروب، وألاّ تتكرر “عاصفة الصحراء”؛ فالحرب قاسية، ولا يعرف معنى السلام إلاّ قائد خاض الحرب. ومن وجهة نظر عسكرية بحتة، فإن الحرب التي نشبت، اعتمدت على محاولة استغلال نقاط الضعف لدى الخصم استغلالاً تاماً. ونحن نعرف تلك النقاط منذ البداية. وكانت نقاط القوة عندنا تكمن في القوات الجوية وفي الحصار البحري، وقد استفدنا من هذا التفوق استفادة كاملة. أمّا هو (صدّام حسين)، فكان يعتمد في نجاحه على العمليات البرّية. والحمد لله، أنه لم يكُن يملك أكثر من هذا الخيال العسكري المحدود. والعمليات البرّية الهجومية، كما تُدرس تكتيكاتها في كل بقاع العالم، تبدأ بتمهيد جوي ومدفعي، يستمران فترة من الزمن، تطول أو تقصر تبعاً لعوامل عديدة، بعدها يبدأ الهجوم على الخطوط الدفاعية. ولتحقيق النجاح، كان لا بد أن يكون نسبة عدد المهاجمين إلى المدافعين، ثلاثة إلى واحد على الأقل. وكانت قواته تصل إلى حوالى المليون، ما بين القوات العاملة وقوات الاحتياط. بينما قواتنا حوالي 750 ألفاً فقط. أي كان علينا أن نزيد عدَدَنا أربعة أضعاف، ولكننا لم نفعل. استفدنا من نقاط التفوق، وتلافينا نقاط الضعف. وكنّا على استعداد لأن نستمر في القصف الجوي أكثر من شهر ونصف الشهر، بل شهرين وثلاثة، حتى نحقق التفوق المطلوب. وفي الواقع، كان لدينا من الذخيرة والوقود والإمكانات، ما يتيح للحرب الجوية أن تستمر أكثر من شهرين، قبْل أن تبدأ العمليات البرّية. وقد بدأناها، ونحن ندرك أن معظم الجنود العراقيين يريدون الاستسلام من دون قتال. لذا، فقد استغرب عدد من ضباط هيئة أركاني عندما أصدرت، في يناير (كانون الثاني)، وبعد مرور أسبوع فقط على بداية القصف الجوي، أمراً بإنشاء معسكرات لأسْرى الحرب، تستوعب 100 ألف أسير، على الأقل. كان الضباط يعتقدون أنني متفائل، ولكنني في الواقع، كنت قد قرّرت ألاّ أبدأ الهجوم قبْل أن أتأكد من أن معنويات القوات العراقية منهارة، ومعداتها مدمرة، وإمداداتها وتموينها، مشلولة تماماً، واتصالاتها مقطوعة”.

ـ كشفتَ، في كلمة ألقيتها بعد تحرير الكويت، أن التحرير تمّ قبْل 24 ساعة من الموعد الذي حدّدته الخطة العسكرية. هل كانت الخطة تحدّد 3 أيام لنهاية الحرب البرّية وهزيمة الجيش العراقي؟

ـ “في البداية، كنت أتوقع ألاّ تزيد فترة الحرب البرّية على أسبوع إلى عشرة أيام، على الأكثر. وحقيقة، لم أتصور أن تستمر أربعة. في اليوم الثالث، أُخلِيتْ مدينة الكويت من القوات العراقية. وفي اليوم الرابع، أعلنت تحرير الكويت. وكنتُ في مدينة الكويت، في اليوم الخامس. ويمكِننا أن نقول إن المعركة انتهت عندما بدأت القوات العراقية انسحابها، أمام هجوم القوات المتحالفة. ولكن كان هناك مسائل تكتيكية، وهناك قوات مخصص لها مهام في القطاعات المختلفة، تحت سيطرتي، وقطاعات أخرى تحت سيطرة شوارتزكوف. وعندما تحدثتُ عن الـ 24 ساعة، كنتُ أقصد أنني قدّمت موعد هجوم قواتي، في المنطقة الشمالية، مدة 24 ساعة”. فالقوات الأولى (قوات المنطقة الشرقية)، التي دفعتها إلى ميدان القتال، حققت أهدافها قبل الموعد المحدد لها، وكان معدل تقدمها أسرع من المُخطط. ومن أجْل حماية الجانب الغربي لهذه القوات، أمرتُ بتقديم موعد بدء هجوم القوات السعودية والمصرية والكويتية والسورية، في المنطقة الشمالية، مدة 24 ساعة”.

ـ دخلتْ قوات التحرير من الجنوب ومن الغرب. هل كانت هذه القوات تحت قيادتك المباشرة؟

ـ “كل القوات الموجودة في القطاعَيْن، الشرقي والشمالي، كانت تحت إمرتي”.

 

ـ نعود إلى عبارتـك عن وجود اثنين أيزنهـاور، وليس أيزنهـاور واحـد، وقائـد واحد. هل كانت العلاقة بـ “شوارتزكوف” سهلة؟

ـ (يُطلق الأمير ضحكة مجلجلة) “صعبة … صعبة. وكانت تتميز بخطر كبير. ولكن مهمّتنا لم تكُن بسيطة، ومن ثم فقد كنّا نجلس ونتناقش، ونصل دائماً إلى حل سريع، وبالطريقة العسكرية. لأن أي خلاف بين قائدَيْن، يملكان الصلاحيات نفسها، ولا يصدر أي أمر عمليات إلاّ بتوقيعَيهما معاً، يؤدّي إلى كارثة، كارثة للمملكة، وللكويت، وللولايات المتحدة نفسها، ولسبع وثلاثين دولة تشارك في عملية “عاصفة الصحراء””.

 

ـ هل الأوامر الميدانية، حتى في ساحة العمليات، لم تكن تصدُر إلاّ بتوقيعين: توقيعك وتوقيع شوارتزكوف؟

ـ “لا تصدر إلا بتوقيعين، وقد وضعنا خطة “عاصفة الصحراء” وملاحقها، وعدّلنا فيها الكثير، جلسنا معاً، أنا أبدّل وأغيّر، وشوارتزكوف يبدّل ويغيّر … وانتهينا إلى اتفاق، وكان نحو الأفضل”.

 

ـ هل ساهمت دوراتك العسكرية ودراساتك في الولايات المتحدة، في التقريب بين المدرستين، مدرستك ومدرسة شوارتزكوف؟

ـ “لا شك أن لتلك الدورات والدراسات تأثيرها العميق في الفهم المشترك بيننا. ولكن الأهم منها، الخدمة في الميدان والخبرات الميدانية المكتسبة. فخدمتي الميدانية في المملكة، وما حصلت عليه من دورات في الولايات المتحدة وفي إنجلترا، والاطلاع المستمر وتوسيع المعلومات بمبادرات شخصية، ساعدتني كثيراً، في الأمور العسكرية كلها”.

 

ـ تردِّد في معظم خطبك وتصريحاتك، أن معركة الخفجي كانت تاريخية. ما هي أبعاد هذه المعركة؟

ـ “الخفجي من المحطات المهمة جداً في تاريخ حرب التحرير. ومهْما استرسلت في الحديث عنها، فلن أكُون قادراً على التعبير عن مدى أهميتها وخطرها؛ فهي أكبر معركة واجهتْ المملكة العربية السعودية، وكانت البداية الحقيقية للمعارك البرّية لقواتنا جميعهاً، كما كانت اختباراً لقدرة القيادة والسيطرة والاتصالات لقوات الدول المشاركة، واستُخدمتْ في هذه المعركة أسلحة ووحدات من القوات الجوية والبحرية والبرية. وتُعد هي حرب معنويات، أراد صدّام حسين أن يستخدمها في حرب نفسية ضد قوات التحالف، لأنه لا يمكِن الاستفادة منها، من الوجهة العسكرية. فهي، كمدينة، كان قد سبق إخلاؤها تماماً، بأوامر أصدرتها، في 16 أغسطس 1990، لأنها كانت في مرمى نيران مدفعية وصواريخ المعتدي، وكانت الأوامر حتى لوحدات الاستطلاع ألاّ تبقى في المدينة، بل عليها أن تجمع المعلومات وتعود بعد تنفيذ مهمتها. وكان أحد الاحتمالات التي وضعتُها في حسابي، أن يهاجم صدّام الخفجي. وكنت أدرك، أيضاً، أنه إذا استطاع البقاء فيها فترة أطول، ربما أدّى هذا إلى تحطيم معنويات القوات المشتركة، وإلى زرْع الشكوك بين هذه القوات في قدرتنا على إدارة حرب تحرير الكويت. وحوّل صدّام بنفسه المنطقة، ما بين الكويت والخفجي، إلى منطقة “قتْل” لقواته. واعتقد، في اليوم الأول، أنه سيطر على المدينة، وبدأ يدفع بقواته، بعد أن أخرجها من خنادقها الحصينة ومواقعها المحمية، في اتجاه الخفجي، فصارت مكشوفة، مما أعطاني الفرصة لأن أستخدم القوات الجوية ضدها، وحدّدت الأهداف، منذ البداية، ودمّرت القوات المتحالفة، على الأقلّ، ثلاث فِرق من فرق المعتدي. ولم تكشف معركة الخفجي فقط عن أن معلومات استخبارات صدّام عن الخفجي، هي شبه معدومة، بل كشفتْ عن مدى جهله بالمبادئ العسكرية الأساسية، لأنني لو خططتُ أن أحوّل الخفجي إلى مصيدة، لَمَا نجحتُ قدر ما نجحتْ الفرصة، التي وفّرها لنا صدام بتصرفه؛ إذ إن أيّ عسكري محترف، لا يمكِن أن يرتكب مثل هذه الخطيئة، وأن يدفع قواته إلى مصيدة هيأها لها بنفسه”.

 

ـ أكثر من مرة، أشدتَ بدَور الحرس الوطني في معركة الخفجي. ما هي أبعاد هذا الدَّور؟

ـ “القطاع الذي شهد معركة الخفجي، كان قطاعاً مشتركاً بين وحدات من الحرس الوطني، والقوات المسلحة السعودية، والقوات القطَرية. وقد استخدمتُ في تحرير المدينة كتيبتين من الحرس الوطني مدعمتين بسريتين وفصيل صواريخ مضادة للدبابات قطرية، وكتيبتين من القوات البرية السعودية. وكانت هذه القوات تحت قيادة قائد مركز القيادة المتقدم لقيادة القوات المشتركة في المنطقة الشرقية. وجميعهم، قيادة ووحدات، أبلَوا خلال المعركة أحسن البلاء. وقد كنت أتوقع هذا؛ فالمعنويات كانت مرتفعة، والكفاءة القتالية جيدة، والتنسيق تاماً”.

 

ـ قال أحد زملائك، في وداعك، بعد الإعلان عن تقاعدك: الأمير خالد لا يتقاعد، سوف يبقى عسكرياً، ولو في زِيٍّ مدني. ما هي مشاريعك للمستقبل، وأنت فريق أول ركن متقاعد؟ (يضحك الأمير مطولاً لدى سماع كلمة متقاعد) وأُضيف: لقد أمضيت حياتك كلها تقريباً في الخدمة العسكرية، وبلغت مركزاً لم يعرفه قائد عسكري عربي من قبْل. فهل يمكن أن تخطط لأيّ مشاريع أخرى، بعيداً عن المؤسسة العسكرية؟

ـ “أولاً، وبالنسبة إليّ شخصياً، ربما تقاعدت كقائد، ولكنني سأبقى حتى الممات مخلصاً ووفياً لربّي ووطني، وفي خدمة خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، الملك فهد. وسوف أكون موجوداً في استمرار لإعطاء أي استشارات تُطلب مني. حتى لو تقاعدت، فما زلت أحمل شرف تكريم الملك لي، في ترقيتي إلى رتبة الفريق الأول؛ ومن يصل إلى هذه الرتبة، لا يتم الاستغناء عن خدماته، بل يُستفاد من خبراته في مجالات عسكرية أو أي مجالات أخرى، ويظل دائماً في خدمة مليكه، وإذا تقاعد يظل جندياً. أمّا عن خططي للمستقبل، فأعتقد أنني أحتاج إلى “استراحة محارب”، ومع ذلك تبقى أمامي مسؤوليات ومهام لا بد أن أقوم بها. وبداية، أقول، وهذا ليس في معرض النقد، بل الحقيقة والواقع، إن الإعلام العربي ليس في قوة الإعلام الخارجي، وربما لا يصل إلى نسبة أكبر من خمسة بالمائة من قوة الإعلام الغربي. لذا، فمن الأمانة أن أستمر في إلقاء المحاضرات في المعاهد المختلفة في العالم الغربي، وأن أكتب عن كل ما من شأنه أن يبين ما فعلتْه القوات المشتركة، وتلاحم دولها في مسيرة الهدف الواحد، وهو تحرير الكويت، والجهد الجبار الذي بذلته القوات العربية المشاركة وقياداتها. والأهم من كل هذا، أن أُبين ماذا فعلتْ المملكة العربية السعودية على الصعيد اللوجستي، وماذا قدّمتْ للقوات المشتركة والقوات المتحالفة عموماً، والأمريكية من بينها؛ إذ إنه للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الأجنبية، تدخل الحرب، فتقوم الدول المضيفة بتأمين العمليات اللوجستية كاملة: ماء، طعام، مأوى، قطع غيار أحياناً، وسائل مواصلات، شراء سيارات. وكلها أشياء لو طُلبت من أي دولة، ربما باستثناء أمريكا، أن تؤمنها، بما فيها بريطانيا وفرنسـا، وفي فترة لا تزيد على ثلاثة أشهر، لعجزتْ، “وإذا كان يسوّوها بسنة، بيعملوا زين”. هذه الجهود لا بد من إظهارها وإعلانها والحديث عنها. وفي الحقيقة، قد أكُون دخيلاً على الكتابة، إلاّ أنني سأسعى إلى كتابة مذكراتي عن “عاصفة الصحراء”، التي قد تستغرق سنة أو أقلّ أو أكثر، لا أدري”.

 

يتوقف الأمير خالد بن سلطان لحظات، تلمع عيناه بوداعة ظاهرة، قبل أن يتابع: “ولكن ما أفكر في تحقيقه، وهو أمر مهمّ جداً، أن أقوم بإنشاء مؤسسة خيرية، تضم جميع القادة العسكريين، الذين شاركوا في حرب تحرير الكويت، كأمناء فيه.، وتكُون مهمّتها العناية والرعاية، وصرْف المساعدات لكل أهالي الشهداء والقتلى، الذين سقطوا في حرب “عاصفة الصحراء”، وأن تُعنى وتساعد الجرحى والمعوقين، سواء كانوا من المملكة أو الكويت أو الولايات المتحدة أو نيجيريا أو السنغال. وربما للمرة الأولى في تاريخ المؤسسات الإنسانية والعسكرية، سوف ينضم إلى هؤلاء، المعاقون والجرحى وأهالي القتلى من العراقيين أيضاً، ولكن بعد انتهاء صدّام حسين، وليس قبله. وهذا ما أركّز عليه في الوقت الراهن، ويستهلك معظم وقتي”.

 

ـ ولكن ماذا عن قيام جيش خليجي موحَّد؟ ألا ترى أن ما تحقق، ميدانياً وعلى الأرض، في أثناء الحرب، يمكِن أن يُستكمل، عبْر إنشاء هذا الجيش الدائم والموحد؟

ـ “أترك رأيي، في هذا المجال، إذا طُلب مِني لقادتي؛ فليس الإعلام هو مجال الحديث عنه. وما أستطيع قوله هو أن كل شيء ممكِن، والحمد لله يتوافر حالياً قادة يملكون من الحكمة، وبُعد النظر، ما يكفي لقيام قوة دفاعية تفي بالغرض”.

 

ـ سؤال أخير عن الكويت …

ـ ويقاطع الأمير خالد السؤال: “الكويت … “ترى هي قريبة من القلب””.

 

ـ هل عرفت الكويت قبْل الاجتياح؟

ـ “أعرفها بقلبي. والحقيقة أخجل أن أقولها، ولكنها إرادة الله: أنا لم أزر الكويت في حياتي، ولكنني عرفتُ كثيراً من الكويتيين، وهم نِعم الرجال، ودخلتها، للمرة الأولى، يوم تحريرها، ثم زرتُها واجتمعتُ إلى قيادتها الحكيمة. الكويت قريبة من قلوبنا كلّنا في المملكة. ولكن الآن، وبعد تشريفي التاريخي بقيادة قوات التحرير، تحوّلتْ الكويت إلى قطعة كبيرة من قلبي وتاريخي”.

ـــــــــــــــــــ

الركن خالد بن سلطان
الركن خالد بن سلطان

 

إلى جريدة “الشرق الأوسط”
العدد 4741، الخميس

15 جمادى الأولى 1412، الموافق 21 نوفمبر 1991

ـــــــــــــــــــــــــ

الحرب .. ما قبلها، أثناءها، وما بعدها

في حديث لـ الشرق الأوسط مع الأمير خالد بن سلطان

تقاعدت قائداً كي أبقى جندياً

كتبت الحوار: هدى الحسيني
وصل الأمير خالد بن سلطان إلى لندن، من أجل أن يتقلد وساماً من رتبة فارس، من ملكة بريطانيا، قبل أن يتوجه، في الخامس من الشهر المقبل، إلى باريس، ليتسلم وساماً فرنسياً، وبعد ذلك، يستعد للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لإلقاء عدة محاضرات في جامعاتها. كان يتمنى ألاّ يتأخر عن تلبية دعوة كلية الأركان السعودية، التي طلبت منه إلقاء محاضرة فيها.

وفي المناسبة، تجدر الإشارة إلى أن المملكة العربية السعودية، هي الدولة العربية الوحيدة، التي وجهت إلى قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات، الأمير خالد بن سلطان، الدعوة لإلقاء محاضرة، بينما يستعد للتنقل في أوروبا وأمريكا، من أجل إلقاء ما يقارب خمس عشرة محاضرة.

في لندن، خطرت له فكرة إنشاء مؤسسة إنسانية، يكون مقرها في الرياض، ويتألف مجلس أمنائها من القادة العسكريين، الذين شاركوا في حرب الخليج. وتكون مهمتها الاهتمام، المعنوي والمادي، بعائلات الشهداء، والمعوقين، الذين أصيبوا في معركة تحرير الكويت. وقد تبرع، لتأسيسها بمبلغ مليوني دولار. وسيبدأ الاتصالات من أجل الانطلاق في هذه المؤسسة وإنجاحها. ويأمل أن تنفذ الشروط، التي تسمح بإلغاء المقاطعة للعراق، كي تهتم المؤسسة بعائلات الشهداء العراقيين أيضاً.

وكان اسم الجنرال الأمير، قد برز، قبل حرب تحرير الكويت وأثناءها، إلى جانب أسماء كبار الجنرالات الأجانب.

وفي لندن، عتب الأمير الجنرال على الإعلام العربي، الذي أصرّ، أثناء الاستعدادات لتحرير الكويت وإباء تحريرها، على ذكر اسمه، دون مهامه، “وكأنكم لم تصدقوا أن عربياً مسلماً، يستطيع أن يقوم بهذه المهام”.

وسام الشرف برتبة فارس، الذي قلدته الملكة أليزابيث الثانية للأمير خالد، يعد الوسام الأرفع، بالنسبة إلى الأجانب، ونادراً ما يمنح. ومن الحاصلين عليه الجنرال الأمريكي نورمان شوارتزكوف، والرئيس الأمريكي رونالد ريجان.

عن الحرب، نبدأ الحديث مع الجنرال خالد بن سلطان، من لحظة تسلمه مهام التنسيق العسكري بين مئات الألوف من الجنود (950 ألفاً)، الذين كانوا ينتمون إلى عدة دول. فيقول إن مجرد التفكير في هذا العدد الضخم، ووجوده في بلد، لم يتعامل حتى في تدريب كتيبة واحدة، ليست تابعة له، يجعل الإنسان يتهيب الموقف. إذاً، كيف يكون الأمر عندما تتطلب المهمة أكثر من تجميع القوات في مسرح العمليات، بل تتطلب، كذلك، ألاّ تتعارض تصرفات هذه القوات مع العادات والتقاليد، خاصة أن هذه القوات، أتت إلى بلد هو قِبلة المسلمين، ويضم مقدساتهم؟ “لم يراودني رفض هذه المهمة ولو للحظة واحدة. فقد أقسمت على القرآن الكريم، أن أؤدي الأمانة، حتى لو استشهدت. وقد كنت مستعداً لذلك. لكن المفاجأة كانت في أن المواجهة هي مع العراق، إذ لم يكن الأمر وارداً، كما قال الملك فهد بن عبد العزيز، أن يكون العدو هو العراق؛ فالمملكة والكويت ربتا الجيش العراقي، حتى اشتد عوده، فإذا به يحتل الكويت، ويهدد المملكة. وأمام هذا الفرق الهائل، بين عدد القوات والعدد المواجه، كان أول قرار اتخذ، أنه في حال قيام العراقيين بهجوم، تنقل القيادة من الرياض إلى رأس مشعاب فوراً، وتلتزم القوات كلها بعدم الانسحاب من رأس مشعاب، حتى آخر جندي”.

 

ولكن، هل كانت الحرب ستقوم، لو أن صدام حسين أمر قواته بالدخول إلى منطقة النفط في المملكة؟ وزير الدفاع الأمريكي، ريتشارد تشيني، كان قد قال إنه لو حصل هذا الأمر، لتغير الوضع، ولربما طالت المفاوضات، وتأخـر نشـوب الحرب، أو لأخذت مساراً آخر.

 

خالد بن سلطان، يستبعد هذا الأمر، لأن الحرب كانت ستقوم، كما يقول، وستنتهي بالانتصـار، إنمـا بخسـائر أكثر: “احتلال موقع حساس، لا يعني حسم الأمور لمصلحة المحتل، لأن أمامه كيفية المحافظة عليه”. كمـا حصـل في مدينة الخفجي؟ يجيب: كلا. ويضيف الأمير خالد، ،ن من حسن الحظ في معركة الخفجي، أن صدام حسين خطط لها، فبرز “جهله برسم الخطط العسكرية. لقد كانت الخفجي منطقة خالية، ولا أهمية عسكرية لها، كنا نتوقع أن يشن هجوماً عليها، ولهذا، أخليناها من سكانها، من طريق البر ومن طريق إرسال السفن لنقلهم. لكن احتلال أرض سعودية، ليس بالبساطة التي تصورها صدام. وقد نفذنا الخطة، وأدركت أنه وقع في مصيدة. لم يكن في استطاعة أحد الخروج أو الدخول. كان المهم، في نظري، توقيت دخول قواتنا، مع أقل الخسائر. لو أطلنا الانتظار، لكانت الخسائر أقلْ. لكن من أجل أن تظل الحالة النفسية عند جنودنا مرتفعة، وبسبب “البروباجندا”، التي طبّل لها صدام حسين، قررت الدخول. انتظرنا، عن قصد، يوماً قبل صد الهجوم. وقد استفدنا كثيراً من هذا اليوم، إذ إنه حرك قواته المحصنة من الكويت في باتجاه الخفجي. وأثناء تحركها، حطمنا ثلاث فرق. ولم نتأكد من عدد الخسائر، لأنها سقطت داخل الكويت، وأمام حفر الباطن، إذ إنه حرك فرقتين من أمام حفر الباطن، وفرقتين من جنوب مدينة الكويت.

 

بعد انتهاء المعركة، أعطينا الأعداد الحقيقية للخسائر، منذ البداية، وكان القرار، أن لا نذكر أي عدد من الخسائر، إذا لم نكن متأكدين تماماً من الرقم. وهذا لم يحصل أبداً في حرب الشرق الأوسط”.

 

ورداً على السؤال التالي: إنه في حرب المائة ساعة، كان من المفروض، أن تبدأ الهجوم القوات الخليجية والعربية، لكن حصل تغيير فوري، للحظة، ولم تكونوا أنتم البادئين! يقول الأمير خالد بن سلطان: “هذا ليس صحيحاً، الخطة كانت بالدخول في آن واحد، إنما مع اختلاف في الساعات، بسبب طوبوغرافية الأرض. فأخرنا قوات عن قوات، لكن خططنا الدخول واحتواء الكويت لكل من الخفجي إلى رفحة. ومن المستحيل تغيير خطة عسكرية في آخر لحظة، وهناك 750 ألف جندي”.

وفي الكتاب، الذي يعدّه الأمير خالد بن سلطان حول حرب تحرير الكويت، يذكر عدد الخطط العسكرية، التي أعدت، ثم تم تغييرها. لكنه يقول، في حديثه إلى “الشرق الأوسط”، إن كل خطة تبدأ بعشرات التصورات، ترسم على الورق وتمزق: “الخطط والخرائط العسكرية، كانت بيتي وكانت عائلتي”. وأتوقف عند ذكر العائلة، فيؤكد الأمير، أنه كان يتصل هاتفياً بعائلته، كل يوم، ليطمئن إليها، وكان يمر، في الأسبوع، ساعة واحدة لرؤية أولاده، فهو مع اهتمامه بتفاصيل الحرب، وتوزيع القوات، كان يسمح لنفسه أن يشتاق إلى الذين يحبونه، وهم أفراد عائلته.

وتنتهي الحرب، ويذهب الجنرال خالد بن سلطان، والجنرال نورمان شوارتزكوف إلى لقاء قادة عسكريين عراقيين، في خيمة صفوان، فوق الأراضي العراقية. عندما دخل الجميع، أغلقت الخيمة، وسط حراسة مشددة. وظل السؤال عن الذي حصل في داخلها. يجيبني: “التفاصيل وضعتها في كتابي”… ويضيف أنه لا يستطيع أن يزيد على الذي قيل أثناءها: “لم نذهب للمناقشة، توجهنا لنكرر ما قلناه، ولنسمع نعم التنفيذ من قبل الطرف العراقي. ذهبنا لتحديد عدة نقاط، وتنظيم وجود القوات العراقية في المنطقة، التي كنا قد احتويناها، في البصرة وما يحيط بها، ومن أجل تثبيت وقف إطلاق النار، وكي نطّلع من الطرف العراقي على الأشراك الخداعية والألغام المزروعة وخرائطها. وأخذنا كل ما طلبناه. كما أبلغناهم عد الأسرى وكيفية تبادلهم، وما زالت عملية التبادل مستمرة حتى الآن.

 

كلا، عندما دخلنا الخيمة، أنا لم أصافح الوفد العراقي، لم يتبادل أفراد الطرفين المصافحة، إنما في النهاية، وقبل عودتهم إلى العراق، أدوا التحية العسكرية، فرددت بتحية عسكرية”.

 

وهل كان أمر وضع شروط وقف إطلاق النار مع دولة عربية، سهلاً؟ يقول الأمير السعودي: “نقطة الضعف الوحيدة، التي آلمتني، منذ بداية الحرب حتى نهايتها، أن الذي اعتدى عليّ، هو عربي شقيق ساعدته على محنته، أعرف علاقة صدام حسين بالملك فهد. وأعرف علاقة الملك فهد بشعب العراق ومحبته لهم. أعرف محبتي أنا لشعب العراق”.

 

وماذا عن صدام حسين؟ هل استمرار بقائه، تم على أساس أن “الشر، الذي تعرفه، أفضل من الخير الذي تتعرف عليه” ويشير الأمير خالد إلى أن الإجابة عن هذا السؤال، ليست من اختصاصه، بل من اختصاص السياسيين. ويذكر بأن مهمة العسكريين، جاءت تنفيذاً لقرار من مجلس الأمن، وكانت تحرير الكويت، وليس إسقاط صدام. ومن ناحية أخرى، إن المبدأ الذي تسير عليه المملكة باستمرار، هو عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى. وصدام هو رئيس عراقي، إذا أراده الشعب العراقي، فإننا نحترم خيار الشعب. وإذا رفضه، فإن الأمر من مسؤوليته، أمر إسقاطه. “وأنا مع أن يرفضه الشعب العراقي. ويبقى أن أؤكد أنني أتكلم بصفتي الشخصية”.

 

وماذا عن محاولة اغتيال صدام حسين، أثناء الحرب، كما قال العسكريون الأمريكيون؟ يقول الأمير خالد بن سلطان: “تم قصف قافلة من السيارات (كارافان)، في إحدى المرات، ويقال أن صداماً كان في إحداها، ونجا. أنا أظن أن احتمال وجوده في السيارة قليل جداً، لأنه من النوع الجبان، إذ ظل بين المدنيين، لأنه كان متأكداً أننا لن نضرب المدنيين”. ويضيف قائلا: “إن تلك الحرب، كانت حرب التناقضات، فهي كانت أنظف حرب من ناحية القوات المشـتركة، إذ لم نقصـف غير المناطق العسكرية على الرغم من أن طائراتنا تعرضت للخطر، إذ أن صداماً، نشر المدافع المضادة للطائرات فوق سطوح البنايات المدنية، ولكننا لم نقصفها.

 

ومن ناحية أخرى، كانت الحرب من الأقذر، لأن ما فعله صدام بشعبه وبالكويت، البلد والشعب، من أفظع الأمور”.

 

وينفي الأمير خالد بن سلطان أنه تم بحث الدخول إلى بغداد. فهو، أولاً، كان ضد فكرة الدخول إلى بغداد، منذ البداية. وكان الجنرال شوارتزكوف، يشاطره التفكير، وكذلك الجنرال دو لابليير. لا بل أضاف قراراً إلى قرارات عسكرية أخرى، وكان قراره عدم الدخول إلى أي قرية أو مدينة عراقية، والاكتفاء بتطويقها عسكرياً، وترك أهلها وشؤونهم، والسبب، كما يوضح: “أن مهمتي لا تنتهي الآن، بل تمتد إلى سنوات بعيدة. فأنا أتمنى أن يلعب ابني مع طفل عراقي، وأن يصافح ويدرس مع شاب عراقي، عندما يكبر”. ويعرف الأمير الجنرال، أن الشعب العراقي، كان يرغب في دخول القوات المشتركة، ووصولها حتى بغداد، من أجل إسقاط صدام، لكنه يؤكد أن الدخول، الذي لم يكن مطروحاً، لو تم، لوقعت مجازر، ثم إنه يؤمن بمبدأ المملكة، تْرك العراق وحكومة العراق لشعب العراق.

 

ويستعيد العادات والتقاليد العربية، ويتذكر كيف، وهو صغير، كان يذهب إلى الصيد في العراق، في مناطق متاخمة للمملكة، حيث التقاليد هي نفسها والعادات كذلك. ثم “إن محبتنا لشعب العراق، لم تتغير. ونعرف أنه إذا أخلّينا بالتقاليد، فلن يغفر لنا الشعب ذلك، ولهذا كانت مهمتنا أيضاً حماية العراقيين في المناطق، التي شملتها الحرب. أكرمناهم إلى درجة أنهم تألموا عندما انسحبنا. وما آلمنا نحن، هو أن صدام حسين خان شعبه. طموحاته الشخصية دمرت شعبه. أحاول كثيراً أن أحلل الأسباب، التي دفعته إلى غزو الكويت، وتهديد الخليج، فأجد أنه لا يعرف كيف يسير العالم. صدّق الذين جعلهم حوله ويعدون كلامه درراً، فاعتقد أن أعماله حق، لا يمكن للعالم أن يستوعبها، إلى درجة أنه ظن بأن العالم سيسكت عن احتلاله للكويت.

 

لقد كان يعتقد أنه كلما ازداد عدد القوات المشتركة، صعب التنسيق، وازدادت الخلافات، وتفرقت الكلمة. وضع نصب عينيه ما جرى في حروب 1948و1956و1967 و 1973، حين اختلفت الدول في ما بينها، على قلة عددها، إذاً، كيف يكون الأمر بمشاركة برية من 24 دولة، ومشاركة شاملة من 37 دولة!”.

 

وماذا لو استعمل صدام حسين أسلحته الكيماوية؟ يجيب الأمير بأن الأسلحة، ما كان في استطاعتها أن تصل بقوة مدمرة. ثم “لأنه جبان، ويخاف على نفسه، ويعرف أنه إذا استعمل هذه الأسلحة، سيكون الرد عليه قاسياً، ويؤدي إلى قتل جماعي، فيفقد هو حياته”. ويضيف الأمير أنه لو قامت القوات المشتركة بالهجوم، لكان صدام حسين استعمل الغازات السامة، عبر المدفعية وصواريخ فروج، وليس بالطائرات لأنه تم القضاء على الطيران العراقي، منذ اللحظة الأولى للحرب الجوية.

 

وعن نتائج الغارات، التي قامت بها طائرات القوات المشتركة، وما إذا أدت بالقوات العراقية إلى ترك خنادقها، والاستسلام، يوضح الأمير أن التحصينات والخنادق، التي أقامها صدام حسين لجيشه، كانت لغرضين أهمها: “ألاّ تستطيع قواته العبور مستسلمة لنا. وكنا أثناء الحرب النفسية نفكر في كيفية فتح ثغرات، تسمح لهذه القوات بالعبور، لكن تطور الأوضاع، كان أسرع من رسم خطط لاستسلام الجيش العراقي.

 

أثناء الحرب، كنا نعرف نقاط ضعفنا ونقاط قوّتنا. لو قمنا، منذ البداية بالهجوم البري، لتكبدنا خسائر كبيرة، فقواته أكثر عدداً من قواتنا. لذا، قمنا بالحرب الجوية، التي استمرت أكثر من خمسة أسابيع. ولو لم تكن القوات جاهزة للتحرك، كانت الخطة تسمح بأن نستمر في الغارات الجوية لمدة شهر وشهرين. وعندما اكتفينا بخمسة أسابيع، واجهنا أزمة كيفية تصريف المحروقات المخزونة لدينا”.

 

ويتوقف قليلاً، عند الحديث عن الحرب الجوية، التي كان يمكنها أن تؤدي المهام كلها، لو سحب صدام حسين قواته، ضمن المهلة التي حددت له. لكن، عندما رفض وبما إن القوات الجوية لا تستطيع السيطرة على الأرض، تحركت القوات البرية.

 

ونسأل الأمير، هل صحيح أن القوات المشتركة، سمحت للحرس الجمهوري العراقي بالانسحاب مع أسلحته من الكويت، بسبب دخول قوات إيرانية إلى جنوبي العراق، وصل عددها إلى 30 ألف جندي إيراني؟ يجيب بأن لا علم له بالدخول الإيراني. والحرس الجمهوري، انسحب عندما طلبت منه القيادة العراقية الانسحاب. وانسحبت القوات من دون أسلحتها. وذلك قبل التفاف القوات المشتركة.

 

وبعد سؤاله ما إذا كانت القوات، الأمريكية والفرنسية والبريطانية، دخلت إلى العراق من دون إعلان ذلك، قبل البدء بتنفيذ الخطة؟ يقول الأمير خالد إنه يفضل ترك التفاصيل، ليشرحها في كتابه.

 

ويذكر الفريق الركن خالد بن سلطان بالتمرينات، التي قامت بها القوات البرمائية في عُمان، مما جعـل صدام حسـين، يترك ثلاث فِرق من قواته في مواجهة البحر. “في الوقت نفسه، قمنا بتحريك القوات، التي في أقصى الغرب، مع القوات، التي في أقصى الشرق. وتركنا القوات، التي في الوسط، على حالها. وبعد حوالي 12 ساعة. بدأنا بالهجوم”.

 

فيما يتعلق بالعراق، يؤكد الأمير خالد بن سلطان، أن المملكة ضد تقسيم العراق. ويصر بين وقت وآخر، على القول إنه يتكلم بصفته الشخصية، كقائد متقاعد، وإنه لا علاقة له بالسياسة ولا بالعسكرية ولا باتخاذ القرارات.

 

ونسأله إذا كان على علم بما يعانيه الشعب العراقي، بسبب المقاطعة الاقتصادية، وإذا كان هناك حل آخر، غير إسقاط صدام حسين؟ فيجيب: “أنا لا أعرف حلاً لإنهاء معاناة الشعب العراقي ولا للقضاء على ذلك الطاغية. المشكلة أنه إذا رفع الحصار، من يضمن أنه لن يجلب الأسلحة؟ أو إذا جلب الغذاء، من يضمن أن يستفيد منه الشعب العراقي كله، وليس المقربين من صدام فقط؟ لكن ماذا نستطيع أمام هذه المعاناة؟ إنها حكمة الله”.

 

عن تحرير مدينة الكويت ودولة الكويت، يقول الأمير خالد بن سلطان: كثيرون تكلموا عن الذين دخلوا الكويت وساهموا في تحريرها، وعن الذين لم يدخلوها. للحقيقة وللتاريخ، واضطلاعاً بأمانة القائد، واستبعاداً للّبس في من حرر مدينة الكويت، أوضح أننا شكلنا ما أسميناه “قوة واجب”. انطلقت إحدى فرقها من جنوب مدينة الكويت، وأخرى من غربها، وشكلت فرقها من قوات مختلطة تمثل كل الدول المشاركة في الحرب، ودخلتاها في وقت واحد. ولهذا يحق للجميع، أن يفتخروا بمشاركتهم في تحرير الكويت.

 

عن الحملة التي يشنها على المملكة العربية السعودية بين الحين والآخر، بعض الأقلام الأجنبية، يذكرنا الأمير بإسرائيل وبأن بقاءها يعود إلى مساندة أمريكا لها، حرصاً من واشنطن على المنطقة. وفجأة، ترى أمامها دولة، تستطيع، بعقلانية وحق، أن تحافظ على الأمن، ليس داخل حدودها فقط، إنما في منطقـة الشرق الأوسط. “إن النجـاح الذي حصل، والعمل العظيم الذي قامت به المملكة اثبتا فاعلية التفاهم العربي ـ الأمريكي، فتضاءلت أهمية اللوبي الإسرائيلي. وأنا أعتقـد أن الحملة، التي تشـن على المملكة، بين الحين والآخر، هي خطـة ذكية لمحترفين من اللوبي الصـهيوني، تتوخى التشكيك في مقدرة المملكة في نظر الرأي العام الأمريكي، كي تأتي قرارات الإدارة الأمريكية مبنية على رأي الشعب الأمريكي”.

ويضيف الأمير خالد، أن الكونجرس الأمريكي، صار يتفهم الوضع السعودي ولكن ليس بالمستوى اللازم. ويشير إلى أن قوة اللوبي الصهيوني، سببها ضعف الصوت العربي في المحافل الأمريكية.

 

في خصوص الجنرال السير بيتر دو لابليير، يؤكد الأمير خالد أنه صديقه، وأن الجنرال البريطاني، أصر على أن ينام سمو الأمير في بيته الريفي. كما أن فرح دو لابليير فاق فرح الأمير نفسه، عندما قامت الملكة إليزابيث الثانية بتقليد سموّه وسام الشرف برتبة فارس.

 

ونسأل الأمير ما إذا كان آثر أن يتقاعد تيمناً بالجنرالين شورارتزكوف ودو لابليير؟ فنفى ذلك قائلاً: “أنا في حياتي لم أقلد أحداً، والكلام الكثير الذي تردد، بعد تقاعدي، سببه أننا في العالم العربي، لم نتعود بعد أن يقوم إنسان، بعد أداء مهمته، بتأدية التحية، ومغادرة الحلبة؛ ويستمر في الوقت نفسه جندياً وخادماً أميناً لمليكه ووطنه. هذا أنا. فإذا استدعيت لخدمة بلدي، فأنا خادم مطيع. أنا تقاعدت كقائد، وأصبحت جندياً.

 

الآن أشعر أنه من واجبي إعطاء المحاضرات، وكتابة الشؤون العسكرية، لإبراز دور قيادة القـوات المشـتركة. مع الإشارة إلى أن الإعلام العربي، قلّل من قيمة القيادة ربما لعدم خبرته.”

 

الآن، الأمير منصرف إلى إتمام تأليف كتابه عن حرب الخليج، ثم إلى تأسيس مؤسسة خيرية، يتكون مجلس أمنائها من كل القادة العسكريين، الذين شاركوا في حرب الخليج، ابتداء من شوارتزكوف ودو لابليير، حتى قائدَي القوات النيجيرية والسنغالية، من أجل الاهتمام بعائلات الشهداء والمعوقين، الذين شاركوا في حرب الخليج، من كل الجيوش، دون أي فرق بين الجندي السعودي والجندي الفرنسي أو المصري أو السوري. و”اليوم، قمت شخصياً بالتبرع بمبلغ مليوني دولار لهذه المؤسسة، وأنا متأكد أن الغرف التجارية، والدول كلها، ستتبرع لهذه المؤسسة. ونأمل أن تتحقق الشروط لفك الحصار عن العراق، كي نضيف أيضاً كل عائلات الشهداء والمعوقين العراقيين. وهذه المؤسسة هي، الآن أهم شيء في حياتي. وبعد أخذ الموافقة، أرجو أن يكون مقرها في الرياض. وسيكون لها مكاتب في كل أنحاء العالم”.

 

عن الصفات التي جمعته مع بقية القادة العسكريين، الذين شاركوا في حرب الخليج، قال: “الحرص على أداء المهمة باحتراف، هو الذي جمعنا، والاحترام لعاداتنا وتقاليدنا، وإحساس كل واحد منا، ولا سيما شوارتزكوف، الذي كان يقاسمني المسؤولية العسكرية، بأن الحمل الثقيل، الذي منحنا شرف حمله، لا يسمح لنا بأي اختلاف، لأنه ممكن أن يسبب كارثة. ويقولون إن أقوى صداقة هي صداقة الحرب. جمعتنا الصداقة المخلصة. وقد لاحظت أن الجنرال دو لابليير كان يكتب، يومياً، أثناء الحرب رسالة إلى زوجته”. وعن الوسام البريطاني، يقول الأمير القائد إنه يعده “شرفاً عظيماً” وإنه بتسلمه الوسام، “كان يمثل الملايين من الشباب العربي”.

 

بعد القيادة، وخوض غمار الحرب، والوصول إلى التقاعد، لا بد أن نسأل من كان وراء اعتناقه الجندية؟ يوضح الأمير خالد بن سلطان، أنه يشعر وكأن الله ـ سبحانه وتعالىـ أعده الإعداد الذي أهّله لتسلّم المسؤولية الكبيرة. ويؤكد أن الفضل الأول والأخير في اختياره العمل العسكري، يعود إلى والده، الأمير سلطان بن عبدالعزيز. بعد وصوله إلى شهادة الكفاءة في الدراسة، أراد أن يدخل الكلية العسكرية، فمنعه الأمير سلطان ريثما يحصل على التوجيهية. بعد ذلك، سأله والده إذا كان مصرّاً على خياره. فكان جوابه أنه يريد التوجه إلى كلية ساندهيرست حيث بدأ من القاعدة، كجندي، متزوداً بنصيحة والده، بعدم العودة إذا لم يتخرج في ساندهيرست. ولما عاد إلى المملكة، كان يحمل رتبة ملازم ثانٍ، وأقدميّة سنة واحدة فقط. وبينما حمل زملاؤه رتبة ملازم أول. ثم دخل الدفاع الجوي، الذي كان ضمن القوات البرية؛ والقائد في الحروب، هو قائد القوات البرية، فكان لا بد له من دراسة القوات البرية أيضاً. في الوقت نفسه، كان الدفاع الجوي مرتبطاً، عملياً بالقوات الجوية، وكان موجوداً في البحرية. وهكذا اضطر الشاب المتخرج حديثاً إلى دخول كلية قيادة الأركان البرية، التي تعادل الماجستير، ثم دخل كلية الحرب ـ قوات جوية، فإدارة الدفاع الدولي في البحرية. وفي الوقت عينه عمد إلى الدراسة الليلية، حتى حصل على الماجستير في العلوم السياسية. ويقول، بعد أن يشكر الله ـ جل وعلا ـ الذي أعده للوصول إلى منصب القيادة إن الفضل يعود إلى الملك فهد، الذي اختاره، “فلولا جلالته، لكان الناس يتحدثون عن شخص قائد آخر غيره”. لكنه يؤكد أن الغرور لم يزره إطلاقاً، فلم يتغير طبعه. وهو “قبل الحرب وأثناءها وبعدها ما زال يشعر أنه من السعداء في هذا العالم”.

ـــــــــــــــــــ

إلــى دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر

الكويت، الإثنين، 21 شعبان 1412، الموافق 24 فبراير 1992
ــــــــــــــــــــــــ

(إجابات الأسئلة، التي وُجِّهَت إلى سموّه)
ـ هل يمكِننا أن نتعرف، من خلالكم، على المراحل التي قطعتها حرب تحرير الكويت، بدءاً من يوم الثاني من أغسطس، ووصولاً إلى يوم وقف إطلاق النار؟

ـ “إن المراحل عديدة، بدأت بالدفاع عن حدود المملكة بإمكاناتنا الذاتية، إضافة إلى قوات درع الجزيرة، التي كانت موجودة في هذا الوقت، على أراضي المملكة. ثم باتخاذ القرار التاريخي والمنطقي لمولاي خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، القائد الأعلى للقوات المسلحة. وببدء وصول القوات الشقيقة والصديقة، انتقلنا إلى المرحلة التالية، وهي رفع القدرات الدفاعية للمملكة، مع التركيز على وجود أسلحة الردع، في أقصى درجة من درجات الاستعداد القتالي، وأقصد بذلك القوات الجوية وقوة الصواريخ الاستراتيجية. ولقد كان وصول أيّ قوات جديدة، مهْما كان حجمها، يزيد من هذه القدرات. ثم انتقلنا إلى مرحلة الاستعداد للهجوم، تحريراً لدولة الكويت. وفي هذه المرحلة، حاولنا تحقيق نسب التفوق اللازمة، التي تضمن لنا حرباً هجومية ناجحة، بأقلّ قدْر ممكن من الخسائر. ثم تمّ تنفيذ المرحلة الأخيرة، وهي العمليات الهجومية، بدءاً بالحملة الجوية، ونهايةً بالعمليات البرية، التي استمرت، كما تعلم، حوالي أربعة أيام”.

ـ ما هي مشاعركم عندما تبلغتم خبر تحرير الكويت، على يد القوات الشقيقة والصديقة؟

ـ “طبعاً مشاعر فرحة غامرة، فرحة مقاتل وُضع على كاهله مهمة من أصعب المهام، التي يمكن أن يُكلف بها قائد. فرحة بتحرير دولة شقيقة، عربية، إسلامية، مجاورة، كاد المعتدي يلتهمها ويُشرد شعبها الآمن، الذي سانده في محنته. فرحة بزوال كابوس، جثم على الصدور لمدة سبعة أشهر. فرحة بزوال تهديد، هدّد وتوعد وتكبر. فرحة بنصر مبين من الله ـ عزّ وجلّ ـ وكرَمه، الذي أكرمنا به، إذ كانت الخسائر لا تُصدق، ولم تحدث في أي حرب سابقة. أيُّ فضل أكبر من هذا. فضلٌ من الله، الذي نصر المظلوم، وأعاد الحق إلى أصحابه؟ وأيُّ فرحة أكبر من هذه، أشعر بها؟ أقول، الآن، وفي كل وقت، الحمد لله، أعزّنا بنصره، وأظلّنا برعايته وفضْله”.

ـ ما هي أبرز الاستنتاجات التي تخرجون بها من معركة تحرير الكويت، على المستوى العسكري؟

ـ “كما تعلم، إن استخلاص الدروس المستفادة ليس بالسهولة التي يتصورها بعض العسكريين أو المدنيين، لأن استخلاص هذه الدروس يجب أن يمرّ بعدة مراحل: تبدأ، أولاً: بالدراسة التفصيلية لجميع الأحداث، وكيف تمّ التخطيط لها وتنفيذها، دراسة مجردة غير منحازة. ثم ننتقل، بعد ذلك، إلى تحليل هذه الأحداث، وإدخالها على الموازين المختلفة، من عقائد قتالية وخبرات سابقة وعلم وفن عسكري … الخ. ثم نحدّد النتائج ونقاط القوة والضعف، قبل العمليات وأثناءها، وكيف تمّ استغلال نقاط القوة، وتفادي نقاط الضعف. ثم تأتي المرحلة النهائية، وهي استخلاص الدروس المستفادة، التي تفيد في التخطيط المستقبلي للمستويات الثلاثة: الإستراتيجي والعملياتي والتكتيكي.

سأذكر لك بعضاً منها، على سبيل المثال:

* أظهرتْ الحرب أهمية بناء قوات خليجية ذات قدرات قتالية عالية، كمّاً ونوعاً، وأهمية بناء نظام أمْن خليجي، وعربي، واقعي، يحقق الأمن والاستقرار لشعوب المنطقة.

* كما أظهرتْ أهمية الروح المعنوية لدى المقاتلين، وأهمية اقتناعهم بالهدف الذي يقاتلون من أجْله.

* على الرغم من تعاظم دَور القوات الجوية، وتنوّع مهامّها، وإمكان الاعتماد عليها في حسْم بعض الصراعات، وفي تقليل خسائر المعركة البرية إلى أقلّ حدٍّ ممكن، إلاّ أن المعركة ستظل معركة أسلحة مشتركة، معركة جميع أفرع القوات المسلحة، برية وجوية وبحرية ودفاع جوي، وسيستمر حسم العمليات هو دَور القوات البرية. وكما نقول دائماً، كعسكريين، إن المهمّة لا تُنجز إلاّ بوجود فرد المشاة أو الدبابة عند الهدف المطلوب الاستيلاء عليه أو تحريره.

* كما يجب ألاّ ننسى أن الثروة يجب أن تحميها القوة. والقوة لا تعني تكديس السلاح فقط. وقوة السلاح لا تعني مواصفاته وإمكاناته. وإنما تُقاس قوة السلاح بقدرات الفرد، الذي يستخدمه.

* بالطبع، كان واضحاً خطر المبالغة في القدرات العسكرية.

* أهمية الخداع العسكري، بالرغم من وسائل وإمكانات أجهزة الاستطلاع.

* أهمية دور العمليات النفسية، والنفسية المضادة.

* الدور الحيوي لعناصر الحرب الإلكترونية.

* أهمية المعلومات العسكرية الدقيقة (أي التقارير الصادقة)، التي تُرفع إلى القيادة السياسية، والتي توضح “كفاءة القوات المسلحة وقدراتها القتالية”، حتى تتمكن القيادة السياسية من اتّخاذ القرار السياسي الصحيح، وتحديد الأهداف السياسية والإستراتيجية، طبقاً لكفاءة قواتها المسلحة، وليس طبقاً لما تراه في الاستعراضات العسكرية، وحفلات التخرّج.

* أهمية الإمدادات والتموين، إذ إن المعركة الحديثة، أصبحت تستهلك مواد وأصنافاً ومعدات وذخيرة تفوق المعدلات في الحروب السابقة. لذلك، يلزم وجود نظام دقيق وكفء للإمداد والتموين، قبل المعركة وأثناءها وبعدها.

* أمّا أهمية الانضباط والتدريب، فهو درس معروف مدى أهميته، ولكن أحداث الحرب أكّدتْه. فلقد أثبتت العمليات البرية أن قوات مدربة ذات انضباط عالٍ، وروح معنوية مرتفعة، وقادة على مستوى مرتفع في القيادة والعلم والفن العسكري، هي قوات قادرة، بالتأكيد، على هزيمة قوات غير مدربة، ذات انضباط ضعيف، وروح معنوية منخفضة، بصرف النظر عن التقدم العلمي والتكنولوجي في الأسلحة والمعدات”.

ـ لماذا توقفت العمليات العسكرية، قبْل سقوط نظام الطاغية؟ وكيف ترَون مستقبل هذا النظام، وإمكانات استمراره وسقوطه؟

ـ لقـد سئُل هـذا السـؤال العديـد من القادة العسكريين ولمحلّلين، أيضاً، وأتفق معهم على ما أورَدوه من إجابات. فالهدف الذي كنّا نسعى إلى تحقيقه، في خطة عمليات “عاصفة الصحراء”، هو تحرير مدينة الكويت وتطهيرها، وتحرير الكويت بالكامل، وطرْد القوات العراقية، وعودة حكومتها الشرعية، وتأمين الحدود الدولية. والحمد لله، تحقق هذا الهدف تماماً. ولم يكُن إسقاط النظام العراقي أحد أهدافنا. ولم يكُن دخول القوات المشتركة الأراضي العراقية وارداً على الإطلاق. ولا أُذيع سرّاً إذا قلت ؟إنني عدّلت في خطة العمليات وفي مواجهات ومحاور الهجوم للقوات المشتركة لتجنّب انتهاك الأراضي العراقية. وعلى المستوى الدولي، فإن التفويض الصادر من مجلس الأمن، القرار 678، أجاز استخدام القوة لتحرير الكويت، وليس لإسقاط النظام العراقي. لقد كان من الحكمة التوقف عند هذه المرحلة، لأن تغيير الأنظمة الحاكمة، هي من مسؤولية الشعوب، وليس مسؤولية القوى الخارجية.

أمّا عن مستقبل هذا النظام، فإن جميع المحللين، العسكريين والسياسيين، توقعوا سقوطه خلال فترة قصيرة، إذ إن المنطق والإحساس، لا بد وأن يدفعان هذا القائد إلى الاستقالة، أو يدفعان الشعب إلى إقالته. فماذا يُنتظر من قائد دمّر بلاده، وألحق بها هزيمة ثقيلة، فأعادها إلى الوراء عشرات السنين، وكسب كراهية العالم واحتقاره، وأضرّ بجميع القضايا العربية والإسلامية، وأعطى أسوأ مثل لقائد عربي؟ أقول لو أن لديه ذَرّة من شجاعة أو إحساس لاستقال. ولكن، للأسف، فإنه من النوع الذي لا يفكر إلاّ في ترسيخ نظامه على حساب الشعب المقهور، ولا يفكر في ترْك السلطة، إلاّ إذا انتُزعت منه.

لقد علّمنا التاريخ أن الشعوب تنتصر دائماً، في النهاية، مهْما بَدَت القوة في يد الدكتاتور، والوَهَن والضعف والاستكانة في نفوس الشعوب. والأمثلة على ذلك كثيرة: فما هو مصير هتلـر وموسوليني وشاوشيسكـو؟ بلا أدنى شك، لن تستمـر هذه الأوضاع في العراق إلى ما لا نهاية، سوف ينقشع الظلام، وتزول الغُمة عن شعب العراق، ويعود العراق الحُرّ، المتحد شعباً، والوطني المخلص، حكومة.

ـ هناك تساؤلات حول أسباب استقالتكم من مناصبكم العسكرية، بعد النجاح الذي أحرزتموه .. فما هو ردّكم؟ وترى ما هي اهتمامات سموّكم، في الوقت الراهن؟

ـ لقد سئُلتُ هذا السؤال مرات عديدة. وللجميع الحق في توجيه مثل هذا السؤال، لأننا في العالم العربي، وفي دول العالم الثالث، لم نسمع عن قائد ترك منصبه طواعية، بعد أن حقق ما كُلّف به من مهام جسيمة. لقد كُرمتُ بالتكليف، كقائد للقوات المشتركة ومسرح العمليات، من مولاي خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، ثم كُرمتُ بالتشريف، من مولاي ومن معظم الرؤساء، الذين أرسلوا وحدات من قواتهم للدفاع عن المملكة ولتحرير الكويت، والجميع يعلمون عدد القوات المسلحة، التي شملتها قيادة القوات المشتركة. فأيّ منصب أطمع فيه أكثر من منصبي، خلال الحرب؟ وأيّ شرَف أطمع فيه أكثر مما شَرُفت به، عقب التحرير وتحقيق النصر؟ وأيّ فرصة أنسب من هذه الفرصة، لأترك لغيري استكمال المسيرة، والارتقاء بالقوات المسلحة السعودية؟ حقيقة، لقد أكرمني الله إكراماً ما كنت أتصوّره، وما كنت أحلم به، أكرَمني بالتكليف وأكرمني بالتشريف، وأكرمني بالنصر. والحمد لله، تركتُ الخدمة العسكرية ومولاي راضياً عن ما قمتُ بإنجازه خلال خدمتي، وشرفني بالترقية إلى رتبة فريق أول.

إن استقالتي لا تعني أنني بعيد عن ما يهم وما يلم بالمملكة، بل العكس هو الصحيح. إنني سأكون رهن إشارة مولاي، وسأظل جندياً مطيعاً، وابناً وفيّاً، وخادماً مخلصاً لدِيني ثم لمليكي ووطني.

أمّا عن اهتماماتي، حالياً، فإنني أقُوم بإلقاء بعض المحاضرات في الكليات العسكرية، كما حدث خلال شهر ديسمبر الماضي. فقد ألقيت محاضرة في كلية الحرب الجوية الأمريكية، ومحاضرة أخرى في كلية القيادة والأركان لقوات مشاة البحرية (المارينز) الأمريكية. ولدىّ العديد من الدعوات لإلقاء المحاضرات، وعقْد لقاءات فكر وندوات عسكرية، إضافة إلى محاولتي كتابة مذكرات عن هذه الأزمة، التي انتهت بتحرير دولة الكويت الشقيقة”.

ـ هل آن الأوان لقيام جيش خليجي موحَّد؟ وكيف ترَون سُبل تحقيق ذلك؟

ـ “إن التعاون العسكري، في إطار مجلس التعاون الخليجي، مستمر منذ فترة طويلة، وبالتحديد منذ اللحظات الأولى لتشكيل المجلس. وكانت إحدى ثماره قوات درع الجزيرة، التي اشتركتْ وقاتلتْ ضمن القوات المشتركة.

إن قيام جيش خليجي موحَّد، في الوقت الحالي، قد يصادفه العديد من العقبات، على الرغم من أنه أمل كل مواطن خليجي مخلص، ولكن التسرع في مثل هذه الأمور، قد يؤدّي إلى نتائج عكسية. والأمثلة على ذلك عديدة. لذلك، فالبدء في بناء القدرة الذاتية لكل دولة، طبقاً لظروفها وإمكاناتها، البشرية والاقتصادية، ثم بالتنسيق والتعاون، والتدريب المشترك، والخطط العملياتية المشتركة، وتوحيد العقائد القتالية، يكون هو المدخل الطبيعي والصحيح لقيام جيش خليجي موحَّد في المستقبل، بإذن الله. ومَنْ يدري، فقد يكون هذا الجيش البداية الصحيحة لجيش عربي موحَّد، بعد زوال العقبات والأسباب التي فرّقت العرب”.

ـــــــــــــ

صاحب السمو خالد بن سلطان بن عبدالعزيز
صاحب السمو خالد بن سلطان بن عبدالعزيز

جريـــدة “الأهـــرام”

القاهـرة، العدد 38433، الجمعة، 28 فبراير 1992

ـــــــــــــــــ

بهــدوء. بقلم: إبراهيــــم نافــع

حوار سريع

مع قائد القوات المشتركة الامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز

في حرب الخليج

العناويـــن

* أسرار تُذاع للمرة الأولى بعد عام من تحرير الكويت.

* قائد القوات المشتركة يكشف خفايا حرب الخليج وعملياتها.

* الرئيس مبارك اهتم شخصياً بالقوات والمهامّ المكلَّفة بها.

* القوات المصرية جاءت على 4 مراحل، وبوصولها تناقصت احتمالات الخطر.

* اختصر المصريون الزمن عند تحرير الكويت.

* الخطة العراقية اعتمدت على تصفية الأسْـرة الحاكمة وفَرْض الأمر الواقع.

* النظام العراقي دمّر المساجد والمساكن في بلده، لإثارة المشاعر والرأي العام.

* الخفجي كانت أكبر معركة برّية في تاريخ السعودية.

* استعدّت الصواريخ السعودية لضرب أهداف عراقية، وفي اللحظة الأخيرة، رفض الملك فهد.

* 750 ألف مقاتل، وليس 500 ألف، اشتركوا في المعارك.

* الخسائر البشرية للقوات: ثلاثة فقط لكل عشرة آلاف.

* صدّام راهن على أن القتال لن يحدُث، فدفع شعب الكويت الثمن، ولا يزال العراق يدفع!

 

جرى هذا الحوار متأخراً عن موعده، وإن كان قد أتى في مناسبته! فلقد كنت أودّ أن يكون لقاء الأمير الفريق الأول الركن (متقاعد) خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، وقت إعدادي لكتاب “الفتنة الكبرى … عاصفة الصحراء”؛ فالرجل كان على رأس قيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات، وبحُكْم موقعه هذا، يعرف خفايا ما جرى وكيف جرى؟

 

على أيّ حال، لقد كانت الرغبة في اللقاء متبادلة بيننا. وعندما جلست إليه في بيته، وعلى مدى حوار استمر ثلاث ساعات، وجدت الرجل والمعلومات تتدفق على لسانه بالحقائق والأرقام والتواريخ، واكتشفت أن ما يقوله يتضمن تصحيحاً جذرياً وهاماً لبعض المفاهيم، التي شاعت عن المعركة والقوات المشاركة فيها وكيفية سير العمليات، وقلت إنه لا ينبغي ترْك هذه المفاهيم، بمعلوماتها غير الصحيحة، سائدة، وإنه من الواجب نشْـرها … خاصة أن هذا التوقيت جاء في مناسبته تماماً.

 

ففي مثل هذا اليوم من العام الماضي، أُعلن رسمياً عن إتمام تحرير الكويت، وانتهاء حرب الخليج. وكان النظام العراقي، في اليوم السابق، قد أعلن رسمياً عن قبوله لكل قرارات مجلس الأمن والتزامه بتنفيذها، وأن الكويت لم تعد جزءاً من العراق!

 

صادف أن جاء هذا اللقاء، إذاً، في مناسبته، فروى قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات الامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز فـي حرب الخليـج، كثيراً من أسرار ما جرى. غير أنه، ومع أهمية وحجـم ما قال، لا يزال عند الرجل كنز خطير من المعلومات، يمكِن تناولها مستقبلاً، في حدود المسموح به عسكرياً، ومن دون خرق لمتطلبات الأمن القومي.

 

هكذا كان اللقاء مثمراً مع الرجل، وخلاله تعمّق انطباعي عنه: متحضر عصري بكل معنى، لم يكن اختياره لهذا المنصب الرفيع الحساس عشوائياً، أو لدوافع شخصية. ولم يكُن منصبه مجرد شكل مظهري، إنما كان الاختيار موضوعياً. فقد بدا واضحاً، خلال سير العمليات، ومن خلال ممارسـة المسؤولية، أن الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيزـ بدراسته وأسلوبه العلمي ـ ضالع في التخطيط العسكري، وأن لديه الإمكانات التي جعلته قائداً متمكّناً، يدير عمليات وتحركات 750 ألف مقاتل، وليس 510 آلاف، كما كان معروفاً، جاءوا من 37 دولة، يتكلمون لغات مختلفة، ويدينون بعقائد عسكرية متباينة، ويتدربون وفق نُظُم متعددة، وكل فريق منهم جاء بمزاج معين وزِيّ خاص، بل إن بعض الوحدات جاءت بأفرادها من دون ملابس عسكرية!

مـــــن هو؟
الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، من مواليد مكة في 24 سبتمبر 1949 ميلادية، متزوج وله ثلاثة بنين وثلاث بنات، تخرج في أكاديمية ساندهيرست العسكرية، وحصل على الدورات العامة والتخصصية في الدفاع الجوي من الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك ماجستير في العلوم العسكرية من كلية القادة والأركان في فورت ليفينوورث في كانساس سيتي، وعلى دورة كلية الحرب الجوية بماكسويل، ألاباما، ودورة إدارة الشؤون الدفاعية الدولية من معهد الدراسات البحرية في كاليفورنيا، وماجستير في العلوم الإدارية والسياسية بمرتبة الشرف الأولى من جامعة أوبورن، مونتجمري بألاباما، ومنها حصل على الدكتوراه الفخرية، في ديسمبر 1991م في العلوم الإنسانية، كما حصل على الدكتوراه الفخرية في الفلسفة من الأكاديمية الرياضية الأمريكية، في ديسمبر 1991م.

 

وقد شغل مناصب عسكرية عديدة، حتى أصبح قائداً لقوات الدفاع الجوي في المملكة العربية السعودية، ثم قائداً للقوات المشتركة ومسرح العمليات، في 10 أغسطس 1990.

 

ـ قلت للأمير الفريق الأول الركن (متقاعد) خالد بن سلطان بن عبدالعزيز: هل يمكن أن يصف لنا سموّكم الموقف في المملكة قبل صدور قرار مصر بإدانة الغزو، والموقف قبل وصول القوات المسلحة المصرية إلى مسرح العمليات؟ وما هو تقويمكم لأداء هذه القوات؟

ـ قال: “صدرت الإدانة، على ما أذكر، في الثالث أو الرابع من أغسطس 1990. وهذا الموقف كان متوقعاً من جمهورية مصر العربية، بثقلها السياسي والعسكري، وإيماناً بدَورها العربي، وانطلاقاً من قِيَمها ومبادئها، ومتوقعاً أيضاً من فخامة الرئيس محمد حسني مبارك، الذي وقف وقفة الرجال الشرفاء، وقفة المبادئ الأصيلة والقِيَم الإسلامية الصحيحة.

كان الموقف العسكري، قبل صدور الإدانة، يتمثل في وجود حشود عسكرية عراقية، تُقدر بحوالي (120) ألف ـ (140) ألف رجل، مدعمة بما لا يقل عن (900) دبابة قتال، و(640) قطعة مدفعية. وبإجراء مقارنة عددية بين القوات العراقية والكويتية، يتضح أن المهمة النهائية لهذه القوات، قد لا تكون احتلال الكويت فقط، وإلاّ لَمَا كان هناك أي سبب عسكري لحشد مثل هذه القوات على حدودنا. لذلك، فالمنطق يقول إن هذه الحشود، بالتأكيد، تهدد سلامة المملكة وأمنها، علاوة على أنه لا يمكِن الوثوق بمن لا عَهْد له، مَهْمَا وقّعنا معه من اتفاقيات أو معاهدات. وبناءً على ذلك، بُنِيَ تقدير الموقف السياسي والعسكري على افتراض أسوأ الظروف، وأكثرها احتمالاً، في ذلك الوقت.

إذاً، قبل صدور الإدانة كان هناك حشود، وكان هناك تهديد، وكان هناك حدود مفتوحة، وكان هناك أطماع بلا حدود.

للإجابة عن الموقف قبل وصول القوات المسلحة المصرية، يجب أن نذكُر أن القوات المصرية، وصلت على أربع مراحل: قوات خاصة أولاً، ثم الفرقة الثالثة الميكانيكية (الآلية)، ثم الفرقة الرابعة المدرعة، وأخيراً وحدات إسناد إداري وفني. وقد تزامن وصول القوات المصرية مع وصول قوات من دول أخرى. وبالتأكيد، فإن القدرة الدفاعية للمملكة كانت تتزايد، والأخطار المحتملة تتناقص، مع وصول هذه القوات. ويهمني، في هذا المجال، الإشادة باستجابة القيادة السياسية والعسكرية المصرية، بصدق وحماس وإخلاص، لجميع المتطلبات العسكرية، التي كنا في حاجة إليها، خاصة في فترة الاستعداد للعمليات، سواء كانت وحدات قتالية، أو وحدات إسناد قتالي، أو وحدات إسناد إداري، أو فِرق عمل للمساعدة على التخطيط.

أمّا عن أداء القوات المصرية، فإن الأداء الانضباطي كان عالياً، والمشاكل، في هذا المجال، تكاد تكون معدومة، على الرغم من كبر حجم القوات المصرية في مسرح العمليات. أمّا الأداء العملياتي، فقد كان ممتازاً، وظهر ذلك خلال فترة التخطيط العملياتي. وحضرت معهم أكثر من مرحلة من مراحل التخطيط، وظهر المستوى العالي لقائد القوات المصرية وهيئة قيادته، تخطيطاً وتنفيذاً. أمّا الأداء القتالي، فالكل، بلا استثناء، يشهد بقدرة المقاتل المصري وكفاءته.

وقد كان شرفاً لي أن أجد تحت قيادتي تشكيلات من القوات المسلحة المصرية، العريقة في الأصالة، والقديرة في الفن العسكري، والمتمسكة بالتقاليد العسكرية، وإنني قاتلت مع قادة وضباط مصريين محترفين، يتمتعون بالخـلُق، والعلم، والخبرة العسكرية العريضة.

ولقد برزت هذه الخبرة في مسرح العمليات، وسوف تُعلن، تفصيلاً، في المستقبل، ضمن الدراسة التي تقوم بها أجهزة وزارة الدفاع، الآن، عن القوات والعمليات، خاصة عن الدور الذي قامت به القوات المصرية في عمليات التخطيط، لتحطيم منصات صواريخ “سكود” العراقية بأسلوب أفضل، نتيجة المعرفة المصـرية بها وبمواصفاتها وتحركاتها والسرعة الخاصة بها. وقد أدّى الدور المصري، في هذا المجال، إلى تقليص هجمات صواريخ “سكود” والتقليل من تأثيراتها.

ومن العلامات المضيئة أيضاً، بروز المساندة المصرية في الاتصالات، وسط مسرح عمليات شاسع، وبينه وبين مراكز متعددة خارجه مسافات بعيدة.

وتفوقت القوات المصرية، أيضاً، في قصف وتدمير أقوى التحصينات الموجودة في القطاع المكلّفة به.

ونذكر، على سبيل المثال، أن الوحدات المصرية، عند اقتحام الكويت وتحريرها، تحركت في أسرع وقت إلى حد أنها اختصرت الزمن، وحققت الهدف، قبْل عشر ساعات من الموعد المحدد.

وفي تلك الليلة، كان للرئيس حسني مبارك موقف عظيم، لاهتمامه الشخصي بالقوات وحالتها، وبأن تنفّذ الخطة المحددة لها، حسب الأوامر والتعليمات بكل تفصيلاتها”.

 

موقف القوات السورية:

ـ بِمَ تفسر، سمو الأمير، موقف القوات السورية ورفْضها الاشتراك في العملية البرّية لتحرير الكويت؟ وهل كانت قوات أخرى تتوقع ردود فعل غير عادية من القوات السورية أثناء العمليات؟

ـ “بداية، أودّ أن أؤكد لك أن القوات السورية في مسرح العمليات، لم ترفض الاشتراك في العمليات البرّية لتحرير دولة الكويت. وكما يعلم الجميع، كان فخامة الرئيس حافظ الأسد من أوائل القادة، الذين رفضوا العدوان وأيّدوا الحق، ومن أوائل القادة، الذين أرسلوا جزءاً من قواتهم للدفاع عن المملكة.

لقد أعلن معظم القادة أنهم أرسـلوا قواتهم للدفاع، أسـاساً، عن أرض المملكة العربية السـعودية، ضدّ التهديدات المحتملة من القوات المعتدية. وعندما تطورتْ الأحداث، ورفضتْ القيادة العراقيـة الانسحاب من الكويت، وإنهاء الاعتداء على دولة عربية إسلامية مجاورة، ولم تَنْصَعْ إلى قرارات المجتمع الدولي، وصدر قرار مجلس الأمن الرقم 678 في 29 نوفمبر 1990، أعلن هؤلاء القادة تأييدهم لضرورة إجلاء القوات المعتدية، بشرط أن يكون الهدف هو تحرير دولة الكويت فقط، وعدم انتهاك الأراضي العراقية.

وأذكُر أنه في رابع اجتماع لتنسيق المواقف، بين وزراء خارجية مصر وسورية والمملكة، في أوائل شهر يناير 1991، حمّلت الدول الثلاث كامل مسؤولية الموقف المتأزم للعراق، وأُعلن في القاهرة ودمشق، أن القوات المصرية والسورية ستشارك في العمليات العسكرية لتحرير الكويت، إذا أصبح من الضروري شنّ الحرب لهذا الغرض.

واحتراماً لقرارات قادة الدول المشاركة وتنفيذاً لها، فقد أمرتُ بتعديل قطاعات الهجوم واتجاه الضربات، حتى إن كان الموقف العملياتي يحتم دخول الأراضي العراقية، كما وضعتُ في الحسبان نوعية تسليح كل قوة، والخبرات السابقة لها، والتدريبات المشتركة مع القوات الأخرى.

أمّا عن القوات السورية، فقد كان لها دَور فعّـال، وتميّزت قيادتها بالتعاون التام مع قيادة القوات المشـتركة، وقيادة المنطقة الشمالية والقوات السعودية والعربية والصديقة. ولم تتردد هذه القوات في تنفيذ أي خطط أو أوامر عملياتية صدرت إليها. وليس سرّاً أن نقول إن جزءاً من القوات السورية، قد اشتركت ضمن قوة الواجب (Task Force)، التي ساهمت في تحرير مدينة الكويت”.

 

أســرار الخفجي:

ـ أثارت عملية الخفجي ردود فعل كثيرة، وعميقة، ومتباينة. ما هي الأسباب الحقيقية للنجاح الجزئي للقوات العراقية في هذه العملية؟ وهل عكست هذه العملية نواحي ضعف تمّ الاستفادة منها فيما بعد؟

ـ “حقيقة، لك كل الحق في توجيه هذا السؤال، خاصة فيما يتعلق “بالأسباب الحقيقة للنجاح الجزئي للقوات المعتدية في هذه العملية”، لأن القوات المعتدية نجحت، فعلاً، في اقتحام المدينة، والبقاء فيها لمدة قصيرة. ولكن يجب أن نسأل أنفسنا، هل تمكّنتْ هذه القوات من الانسحاب من المدينة؟ وهل سُمِحَ بدخول أي تعزيزات، قتالية أو إدارية، إلى القوات المحاصرة داخل المدينة؟ وهل نجحت الأنساق الثانية والاحتياطيات، التي حاول المعتدي دفعها لفك الحصار عن قواته؟ أو تم تدميرها؟ وهل حققت هذه القوات أي أهداف لها؟ وما هي خسائر الجانبين في هذه المعركة؟ الإجابات عن هذه الأسئلة معروفة تماماً، وقد أوضحتها، تفصيلاً، في حديث صحفي، نُشر في مجلة “أكتوبر” المصرية، قبْل بداية الحرب البرّية.

وللحُكم على مدى صحة مقولة “تحقيق نجاح جزئي”، أودّ أن أوضح لك أن مدينة الخفجي، تبعد حوالي 17 كم عن الحدود السعودية ـ الكويتية، أي أنها في مدى المدفعية، والصواريخ الميدانية، وصواريخ أرض / أرض “فروج 7” للقوات المعتدية. ومن ثمّ، فإن المنطق العسكري يحتم ضرورة إخلاء المدينة من المدنيين، ومن كافة الأنشطة الاقتصادية، لعدم إعطاء الفرصة للمعتدي لتدميرها، أو إحداث أي خسائر بشرية. وهذا ما حاولنا تنفيذه تماماً، فلقد اعتبرت أن الحدّ الأمامي للدفاعات، يبعد 40 كم على الأقل من الحدود الدولية، واعتبرت أن المنطقة من الحدود الدولية إلى الحد الأمامي للدفاعات هي نطاق أمن وأرض قتل أيضاً لأي قوات مهاجمة. وقد أعطيت التعليمات بإخـلاء مدينة الخفجي تماماً، قبل بدء الحملة الجوية، ولم يوجد فيها إلا أعداد قليلة جداً من موظفي بعض الهيئات الحكومية. وكانت التعليمات الصادرة إلى وحدات الاستطلاع الخفيفة الحركة التي تمركزت بالقرب من الحدود الدولية: “رَاقِبْ وبَلِّغْ وارتد”، رَاقِبْ تحركات القوات المعتدية، وبَلِّغْ عن اقتراب أرتالها، وارتد جنوباً للانضمام إلى الوحدات الرئيسية. وهذه العملية معروفة في العلم العسكري، وغالباً ما تُعدّ كطُعم للقوات المهاجمة. والحمـد لله، فإن نتائـج المعركـة تشـهد بذلك، فقد قُتِلَ من القوات المعتدية، للأسف، 32 فرداً، وجُرِحَ 35، وأُسِرَ 488 آخرون، علاوة على تدمير 93 دبابة وعربة مدرعة وعربات أخرى متنوعة.

نتيجة لذلك، نجد أن القيادة العراقية لم تحقق أيّاً من أهدافها سواء السـياسية أو العسـكرية أو الإعلامية، وكانت المعركة استنزافاً للقوات العراقية، وتشهد على ضعف الفكر العسكري، فلا يُعقل أن يدفع أي قائد عسكري قواته إلى معركة هجومية، من دون غطاء جوي، وهو يعلم، في الوقت نفسه، أن الجانب المقابل يمتلك السيادة الجوية. ومن جهتي، فقد اعتبرت أن المعركة محسومة بعد ثماني ساعات فقط من بدايتها، وذلك بعد أن تمّت محاصرة المدينة حصاراً كاملاً، وتمّت السيطرة على كافة الطرق من المدينة وإليها، وتمّ احتلال الهيئات الحاكمة حوْلها، وتمّ تخصيص المهام للقوات، التي كُلّفت بالهجوم المضاد واستعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه.

للإجابة عن الشق الثاني من السؤال، وهو الخاص بنواحي الضعف، التي ظهرت، وتمت الاستفادة منها، فقد تُدهش إذا قلت إن هذه المعركة أفادتنا إفادة لم يسبق لها مثيل، خاصة علـى المستوى العملياتي (التعبـوي)، ولم يكـن هناك نواحي ضعف بالمعنى المفهوم، بل لا أكون مبالغاً، إذا قلت إنها أظهرت نقاط قوة عديدة.

لقد كانت معركة الخفجي أكبر معركة برية تشترك فيها القوات السعودية، منذ نشأة المملكة، ويكون قائد القوات المشتركة هو المسؤول عن إدارتها، لحدوثها في قطاع مسؤوليته. وبالتالي، فإنها كانت اختباراً فعلياً لقدرة القوات التي خاضتها (وهي القوات المسلحة السعودية، ووحدات من الحرس الوطني السعودي، ووحدات من دولة قطر الشقيقة) ولقدرة القيادة على القيادة والسيطرة الحازمة، وفرصة لا تعوض لاختبار نظام الاتصـالات على المستوى العملياتي، والإستراتيجي أيضاً. كما كانت المعركة اختباراً عملياً لنظام التعاون والتنسيق بين القوات المشتركة والقوات الصديقة، خاصة في الإسناد الجوي. وكانت تدريباً عملياً على العمليات البرية المنتظرة، ونعلم جميعاً أهمية ذلك لقوات ليس لها خبرة قتالية سابقة”.

ـ ربما لا يعلم كثيرون، أن “درع الصحراء” و”عاصفة الصحراء” كانتا واجهة لأضخم عملية نقْل إستراتيجي، في النصف الثاني من القرن العشرين. ما هو الدور السعودي في هذه العملية؟ وهل جرى تقويم حقيقي لأداء العناصر والأطراف المشاركة في هذه العملية للاستفادة منه في المستقبل؟

ـ “أتفق معك تماماً في أن ما حدَث يعدّ أضخم عملية نقْل إستراتيجي، منذ الحرب العالمية الثانية، بل أضيف أنها أضخم عملية نقل وحشد إستراتيجيين، تتم بكفاءة وفاعلية، وفي أقصر وقت ممكن.

قبْل أن أتحدث عن الدور السعودي في هذه العملية، يجب أن أوضح أن النقل هو إحدى المهام الفرعية للإسناد، الذي قدمته المملكة للقوات المتحالفة، فمثلاً كانت الأصناف الخمسة، التي وافقت المملكة على تقديمها إلى القوات الأمريكية هي: الوقود، والنقل، والطعام، والماء، واللوازم المعيشية. وقد قدّمت أكثر من هذه الأصناف لقوات الدول الأخرى.

والنقل، كما هو معروف، يشمل: وسائل النقل، ثم طرق تحرّك (برية، وبحرية، وجوية)، ثم موانئ استقبال، ثم طرق تحرك أخرى إلى مناطق الحشد أو التجمع. فإذا تحدّثنا عن دور المملكة نجد أنها ساعدت على تدبير وسائل نقل لمعظم القوات، وساعدت على تأمين تحرك وسائل النقل إلى موانئ المملكة، وجهزت الموانئ الجوية والبحرية لاستيعاب وصول هذه الأعداد الهائلة من القوات، وجهزت مسرح العمليات في فترة وجيزة، وساعدت البنية الأساسية لها على سهولة تحرك وحشْـد القوات التي وصل تعدادها إلى أكثر من (750) ألف مقاتل.

وقال الامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز وهنا، لا يفوتني أن أنوّه ببُعد نظر قادة المملكة، بدءاً بجلالة الملك عبدالعزيز، مؤسس المملكة، وحتى خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، في الاهتمام بالبنية الأساسية للمملكة. هذا البُعد، مما لا شك فيه، كان أحد العوامل الأساسية في نجاح عمليتي “درع الصحراء” و”عاصفة الصحراء”. وقد شهدت بذلك جميع القوات، بلا استثناء، لقدرة المملكة في هذا المجال. لقد كان هدف قادتنا من إنشاء البنية الأساسية المتطورة هو ازدهار الاقتصاد ورفاهية الشعب السعودي، ويشاء المولى ـ عزّ وجلّ ـ أن تصبح، أيضاً، وسيلة لدرء الخطر عن أرض المقدسات.

أمّا بالنسبة إلى تقويم أداء العناصر والأطراف المشاركة، فآمل أن تقوم وزارة الدفاع، بالتعاون مع الأجهزة الحكومية الأخرى، بهذا التقويم وبإظهار دور المملكة، ليس في مجال النقل فقط، ولكن في مجال الإسناد الإداري لجميع القوات، التي استضافتها المملكة”.

 

الإستراتيجية الخاطئة لصدّام:

ـ كيف تفسرون، سموّكم، ردود الأفعال العراقية؟ هل كانت تعتمد إطاراً إستراتيجياً معيناً، أو أن صدّام حسين كان مغيّباً، أو واقعاً تحت سيطرة حالة نفسية معينة، تمّ دفْعه إليها تدريجياً، على امتداد فترة زمنية طويلة، الهدف منها أن يتصرف بطريقة رافضة ومعاندة على طول الخط؟

ـ “قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : من عادتي، كقائد عسكري، ألاّ أقلل من قدر الخصم، مهْما كانت قدراته الحقيقية. ودائماً أعتبر أن القائد المقابل، يفكر بطريقة عقلانية، ويبني إستراتيجيته على أهداف واضحة ومحددة، وأنه يحدّد الأولويات التي تحقق الرفاهية لبلاده. والخطأ، من وجهة نظري، دائماً يكون في الحسابات التي يجريها القائد، وفي عدم إدخاله للمتغيرات الإقليمية والعالمية في حسبانه، وعدم دقة المعلومات التي تُقدّم له.

لقد وضع الرئيس العراقي في أولوياته، هيمنة العراق على الأمة العربية والإسلامية، تحقيقاً لرغبته في الزعامة، واتّخذ بعض الأساليب لتحقيق هذا الهدف، منها: بناء قوات مسلحة ضخمة، وحربه ضد إيران لمدة ثماني سنوات، من دون مبرر معقول، وتوسّـعه في تطوير وإنتاج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والذرية، واستنزاف اقتصاديات بلاده في المجهود الحربي، ثم تصريحاته وتهديداته التي أكسبتْه بعض المؤيدين، ممن ينخدعون بالشعارات.

لقد كانت هذه إحدى أولوياته، وسخّر إمكانات الشعب العراقي لتحقيق هدفه، إرضاءً لنزواته. وخطط لذلك، بدءاً من صعوده إلى قِمة القيادة العراقية، ونهايةً بغزوِه دولة الكويت.

إذاً، يمكن القول إنه اعتمد إطاراً إستراتيجياً معيناً لتحقيق أهدافه، بصرف النظر عن خطأ الحسابات التي أجراها. فمثلاً، عندما غزا الكويت، أقام حساباته على ضرورة حدوث احتمال واحد، على الأقل، من أربعة احتمالات، الأول: أنه سيتمكّن من تصفية جميع أفراد الأسْرة الحاكمة في الكويت، كما فعل عبدالكريم قاسم من قبْل، عندما قام بالانقلاب العسكري، في 14 يوليه 1958. وبالتالي، لن يكون هناك مطالبة بعودة القيادة الشرعية للبلاد. الثاني: إمكان استقطاب المعارضة الكويتية إلى جانبه، وتشكيل حكومة منها، في ظاهرها كويتية، وفي باطنها عراقية، تتلقى الأوامر، فتطيع. والثالث: أن خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، لن يطلب مساعدة الأشقاء والأصدقاء. والرابع: اعتماده على الاتحاد السوفيتي، وأنه سيؤيده في غزوه، وسيستخدم الفيتو في مجلس الأمن، وقد يُصعّد المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذا اقتضى الأمر ذلك، وأن معظم الدول ستقبَل الأمر الواقع، ولن تعرّض مصالحها مع العراق للخطر.

عندما لم يتحقق أي من هذه الاحتمالات غيّر إستراتيجيته في السعي إلى منْع تشكيل تحالف دولي ضدّه، أولاً، ثم السعي بشتى الطرق إلى شق هذا التحالف، ثانياً، ثم محاولته ترسيخ احتلاله للكويت، وإضفاء الصفة الشـرعية على هذا الاحتلال، وإقناع المجتمع الدولي بضرورة قبول الأمر الواقع، ثالثاً، ثم محاولته أن يصبح احتلاله للكويت أزمة مزمنة، مثل العديد من المشاكل في المنطقة.

نتائج هذه الإستراتيجية معروفة، وعدم تحقيق أي من أهدافه معلوم للجميع. وهنا يمكِن القول إن الحسابات، التي أقام عليها إستراتيجيته، لم تكُن مبنية على معلومات صحيحة وتنبؤات دقيقة. وبالتالي، نشأت عنها إستراتيجية خاطئة، كلّفت الشعب العراقي تكاليف باهظة، لا ذنب له فيها.

أمّا موضوع أنه كان واقعاً تحت سيطرة حالة نفسية، تمّ دفْعه إليها تدريجياً، على امتداد فترة زمنية طويلة، واستغلاله لتنفيذ مخطط معين، فكلها شكوك لا ترقى إلى اليقين، ويصعب الحُكم على مدى صحتها، في الوقت الحالي”.

احتمالات مهاجمة السعودية
ـ بعد أن اجتاحت القوات العراقية الكويت، سرَت شائعات كثيرة، أن العراق ينوي مواصلة التقدم في اتجاه الدمـام أو الظهران، لاحتلالهما وفرض الأمر الواقع. هل هذا صحيح؟ وماذا كانت المملكة ستفعل في تلك الحالة؟ وما هو المصدر الحقيقي لهذه المعلومات الخاصة باحتمالات التقدم العراقي؟

ـ “قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : حقيقة، لم أسمع هذه الشائعات. ولكني أجد أن سريانها، في ذلك الوقت، بل تصديقها أمر منطقي، لأنه لا أحد كان يصدق أن يعتدي العراق على دولة ساعدته وساندته في حربه على إيران، وتحمّلتْ الكثير من الأعباء والخسائر نتيجة موقفها، وهذه الدولة هي دولة عربية إسلامية مجاورة، أي أن المعتدي لم يراعِ حق الجوار، أو حق الإسلام، أو حق العروبة، وكان جاحداً للجميل، ناكراً للمساعدة؛ فما الذي يمنعه أن يتمادى في غيّه، ويستمر في عدوانه؟!

قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : إن هذا الاحتمال، كان وارداً أمام القيادة السياسية والعسكرية. وكما أوضحت لمجموعة من المفكرين الاستراتيجيين المصريين، الذين التقيتهم، في منتصف شهر يناير الماضي، أن قرار خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، كان قائماً على تقدير موقف سياسي عسكري صحيح، ومبنياً على معلومات وشواهد واضحة (سياسياً وعسكرياً). وبدراسة أسلوب الرئيس العراقي في كيفية تصعيده للأزمة، بعد وقف إطلاق النار مع إيران، ودراسة أهدافه وإستراتيجياته وأساليبه، منذ تولّيه زمام الأمور في بلده، ودراسة نزعاته وصفاته وسلوكياته وأخلاقياته، وُجد أنـه لا يمكن الوثوق بأقواله أو وعوده، ولا يمكن التأكد من حسن نواياه.

ثم بدراسة حجم الحشود العراقية على حدود المملكة، كما ذكرت في الإجابة عن السؤال الثاني، وإجراء المقارنات العددية والنوعية، يتضح أن احتمال مواصلة تقدم القوات المعتدية، هو احتمال قائم. وهنا، كان القرار التاريخي، والمنطقي، والمبني على الحسابات السياسية والعسكرية لخادم الحرمَيْن الشريفَيْن، الذي أظهر للمعتدي خطأ حساباته، واضطّره إلى تغيير إستراتيجيته السياسية والعسكرية، وتبنيه للإستراتيجية الدفاعية. ومع استمراره في الصلف والغرور والعناد، أصبحت هذه الإستراتيجية قيداً عليه، وسبباً رئيسياً في هزيمته.

أما سؤال: ماذا كانت ستفعل المملكة في تلك الحالة، فإن خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، لا ولم ولن يسمح، وبأي ثمن كان، أن تُدنس أرض المملكة بأقدام المعتدين، ولن يسمح أن تُنتهك الحرمات في الأراضي المقدسة. لذلك فقد كان هناك خطة للدفاع عن المملكة، وخطة لردع المعتدي، وكان لدينا صلاحيات بالرد السريع الحاسم. وبالتأكيد، كان سيتمّ طردهم، بإذن الله، ولكن بخسائر أكبر وتضحيات اكثر. وقد كنّا مستعدين لذلك تماماً.

أمّا مصادر المعلومات، فقد كانت معلومات استخبارية من عدة مصادر، محلية وإقليمية وعالمية، عسكرية ومدنية. وبالطبع، لا يمكن الكشف عنها”.

دور اليمــن والأردن
ـ مثّل الموقف اليمني من الغزو العراقي للكويت أكثر من علامة استفهام، في ذهن المواطن العربي. ما هو تفسيركم لهذا الموقف، على الرغم من كل الإغداقات السعودية على اليمن؟ وهل هناك نية للوصول إلى نوع من أنواع التواؤم مع المطالب اليمنية الخاصة بالحدود؟ أو أن العامل العسكري وحده سيمثّل أداة حسم هذه المطالب؟

ـ “قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز :بالفعل، كان الموقف اليمني غريباً جداً. ولم يكُن متوقعاً من جار، أن يؤيّد احتلال دولة عربية إسلامية مجاورة وابتلاعها. وقد كان تأييد اليمن للغزو مثاراً للعديد من الأسئلة.

فمثلاً: هل كان هناك وعود معينة، أعطاها الرئيس العراقي للقيادة اليمنية؟ هل كان هناك خوف من الرئيس العراقي، خوف من بطشه أو انتقامه أو كشفه لهم، دَفعهم إلى مثل هذا الموقف؟ هل كان هناك إغداقات معينة منه على بعض المسؤولين؟ هل انخدع الشعب اليمني الواعي وقياداته بالشعارات والتصريحات، التي أطلقها المعتدي؟ وهل وصل انخداعهم إلى حد إصدارهم للتهديدات والمقالات، التي تهاجم المملكة … الدولة التي تساندهم من دون مَنٍّ … وتقف إلى جوارهم في كل مِحنة، من دون إعلان … الدولة التي أعطت الرعايا اليمنيين أفضلية في جميع المجالات؟ هل كان نوعاً من ترابط المصالح، التي تقوم على حساب الآخرين؟ أسئلة كثيرة … الإجابة عنها تثير في النفس ألماً، وفي الحلْق غُصة.

أمّا إذا نظرنا إلى هذا الموقف، من الجانب العراقي، فإننا نجد أن الرئيس العراقي خطط له جيداً، قبل إنشاء مجلس التعاون العربي وبعده، الذي كانت أهدافه، ظاهرياً، نبيلة ومشروعة، وفي حقيقتها، كانت تخدم أغراضه الشخصية، وتُرضي نزعاته. فقد كان يهدف من إقامة هذا المجلس إلى أن يطوّق دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى الأخص المملكة.

لقد كان حريصاً على أن تنضم مصر إلى مجلس التعاون العربي، ليضمن حيادها، على الأقل، عند غزوِه الكويت، وإبعادها عن المملكة لإحساسه بخطر تقاربهما، المملكة بقوّتها الاقتصادية، ومكانتها الإسلامية، ومصر بقوّتها البشرية، وثقلها السياسي. وحرص أيضاً على أن ينضم كل من الأردن واليمن إلى ذلك المجلس، وبذلك تكتمل حلقة الحصار. للأسف، استجاب الأردن واليمن، وخضعا لتهديداته. والحمد لله، كان موقف مصر ورئيسها مشـرّفاً، مسانداً للحق، رافضاً للظلم. وهكذا مصر دائماً.

أما الإجابة عن الشق الثاني من السـؤال، فهي من مسؤولية السياسيين. ولكن ما أستطيع أن أؤكده، أن سياسة المملكة المُعلنة في كل مناسبة، هي: عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وحلّ كافة المشاكل القائمة بالحوار وبالأسلوب الدبلوماسي الهادئ والصريح، وعدم اللجوء إلى استخدام القوة، مراعين حق الجوار، وحق العروبة وحق الإسلام، ومساعدة كل دولة تساند الحق، من دون تفضّل أو مِنّة. وفي الوقت نفسه، عدم السماح للآخرين بالتدخل في شؤوننا، والدفاع عن حدودنا، مهْما كلّفنا الأمر. هذه هي سياسة المملكة، منذ نشأتها”.

ـ من وجهة نظر سموّكم، هل كان أداء مجلس التعاون الخليجي يتفق والذي كنتم تأملونه من إنشاء هذا المجلس؟ وإن كان ثمة خطأ فهل هذا الخطأ يكمن في الآليات، أو في الأسس، التي قام عليها المجلس؟

ـ “الحمد لله، كان أداء مجلس التعاون الخليجي متفقاً تماماً مع ما كنّا نأمله، وما كان يأمله الجميع من إنشائه. وجميع الخطوات، التي تُتخذ في هذا المجال، ويصدق عليها رؤساء الدول، هي خطوات منطقية وهادفة إلى مصلحة الدول الأعضاء. ولا أعتقد أن هناك أخطاء في الآليات، أو الأسس، التي قام عليها المجلس.

إن كل دولة من دول الخليج اشتركت بأقصى ما يمكن المشاركة به من قوات. ويمكنني القول إن هناك، كما أشرت من قبْل، لجاناً متخصصة فنية، قد شُكِّلَتْ بالفعل، وتقوم الآن بدراسة شاملة للتطوير في ضوء حرب الخليج ومسارها ونتائجها … ولا يمكنني حالياً توضيح أكثر من ذلك”.

ـ هل كانت آلية اللجوء إلى اتفاقية الدفاع المشترك من قِبَل الرئيس حسني مبارك، هي أفضل شكل يمكن أن تعمل في إطاره مصر؟ ولماذا لم تحظَ هذه الآلية بتأييد عدد من الدول العربية، من وجهة نظر سموّكم؟ وهل كان الأمر سيصبح أكثر سهولة، لو أن آليـة التعـاون المصري ـ السعودي، في المجال العسكري، أكثر عمقاً؟

ـ “حقيقة لم تُتَح لي الفرصة للاشتراك في مناقشات هذه الاتفاقية، أو التفكير في أي صِيَغ لاتفاقيات أمنية أخرى. وبالتالي، يصعُب الحديث عنها، أو الإدلاء بأي آراء في خصوصها. وأعتقد أنها أخذت مساراً سياسياً واقتصادياً، أكثر منه عسكرياً”.

حجم القوات وأساليبها
ـ يعتبر وجود حوالي نصف مليون جندي في ساحة العمليات، أمراً يصعب تصوره. كيف أَمكَن السيطرة على هذه القوات؟ وكيف تمّ حلّ مشكلة التفاهم، مع اختلاف اللغات، وتوحيد أساليب الاتصال؟ وهل توصلت القوات السعودية والقوات العربية إلى إطار يمكن الاستفادة منه، مستقبلاً، في توحيد المفاهيم العسكرية لهذه القوات؟

ـ “أودّ، أولاً، أن أصحح الرقم، فالحقيقة أن العدد وصل إلى أكثر من (750) ألف مقاتل، من الأفرع المختلفة (البرية والجوية والبحرية والدفاع الجوي). بالطبع، واجهنا، في البداية، العديد من المشاكل، سواء العملياتية أو الإمدادية، وذلك نتيجة لوجود قوات من 37 دولة، وهو ما لم يحدث من قبْل في أي حرب عرفتها البشرية، مع اختلاف أسلحتها وذخائرها ومعداتها، وعقائدها القتالية، وعاداتها، وتقاليدها، وأذواقها، ولغاتها، إضافة إلى اختلاف طبيعة الأرض والطقس بالنسبة إلى العديد منها. فكان منطقياً أن نتوقع بعض المشاكل، وهذا ما توقعه الكثير من المحلّلين العسكريين أيضاً. ولكن بفضل الله، أَمكَن وضع أنظمة عملياتية وإمدادية، تغلبت على ما ظهر من مشاكل، بل استفدنا من وجود جميع القوات، خاصة تلك التي لها خبرات قتالية سابقة، أو خبرات في التعامل مع أسلحة مشابهة للأسلحة التي كانت بين أيدي القوات المعتدية، أو خبرات في العقائد والتكتيكات المشابهة لِمَا تطبّقه القوات المعتدية أيضاً.

كما أن تخصيص “قطاعات مسؤولية”، من دون التعرض للعقائد القتالية، أو الاستخدام القتالي التفصيلي للوحدات المرءوسة، كان هو أساس التخطيط العملياتي، بالطبع مع مراعاة العديد من الاعتبارات مثل: مناسبة وحدات كل قطاع للمهمة المكلّفة بها، وتآلف كل قوة مع القوات التي إلى أجنابها، وتعاون القوات التي سبق لها إجراء تدريبات مشتركة، وتجميع القوات التي تتكلم لغة واحدة. كما أن تبادل ضباط الاتصال، وتبادل أطقم المعاونة النيرانية، والتدريب المشترك المستمر للقيادات والوحدات، من العوامل الرئيسية للقضاء على كثير من المشاكل”.

المناورة العراقية المضحكة
ـ هناك موقف ما زال يثير العديد من علامات الاستفهام، حتى الآن .. وهو: لماذا طلب صدّام حسين وقْف إطلاق النار فجأة، يوم الجمعة السابق على الحرب البرّية؟ هل أفادت التقارير أنه أَدرك عِظَمَ حجم خسارته، وأنه في طريقه إلى هزيمة كاملة؟ أو أن ذلك يرجع إلى القنابل الجديدة التي استخدمتها القوات الجوية للتحالف؟ أو أن هناك أسباباً أخرى؟

ـ “في 15 فبراير، بالتحديد، أعلن مجلس قيادة الثورة العراقي، برئاسة الرئيس صدّام، قبوله قرار مجلس الأمن الرقم 660، في 2 أغسطس 1990، واستعداده لتطبيقه، بما في ذلك الفقرة المتعلقة بالانسحاب العراقي من الكويت، وذلك لأول مرة يُذكر فيها كلمة الانسحاب. ولكن تمّ رفْض هذه المبادرة تماماً، من جانب خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، ومن جانب قادة دول التحالف، وعلى الأخص فخامة الرؤساء محمد حسني مبارك، وحافظ الأسد، وجورج بوش، وفرنسوا ميتران، ورئيس الوزراء جون ميجور. لماذا؟ لأن القيادة العراقية وضعت شروطاً، كأنها هي المنتصرة، شروط أبسط وصف لها أنها مضحكة، ولا يمكن لعاقل قبولها. وبالتأكيد، كان العراقيون يعلمون أن المجتمع الدولي سيرفضها، خاصة أن المبادرة رافقتها دعايات وشعارات تقليدية وعبارات طنانة، ووعود بخوض الحرب حتى النصر النهائي، وأن “أمّ المعارك” ستكون مقبرة للقوات المتحالفة.

لقد كان الشيء الوحيد المقبول لوقف العمليات، هو إعلانه للانسحاب الفوري غير المشروط من الكويت الشقيقة وقبوله جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن.

من وجهة نظري، إن السبب في إصدار هذه المبادرة المشروطة، من جانبه، أنه تأكد من الهزيمة المحققة، التي ستلحق بقواته البرية، التي كان يعول عليها كثيراً، والتي كان يأمل، قبْل ذلك، أن تبدأ العمليات البرية مبكراً، حتى يتمكّن من طريقها من إطالة أمَد الحرب. وكانت بداية هزيمته إخراج قواته البحرية من المعركة أولاً، ثم إخراج قواته الجوية من المعركة أيضاً، سواء بتدميرها جواً أو في ملاجئها أو هروبها إلى إيران، ثانياً، ثم إحداث الخسائر في قواته البرية، لتحقيق نسب التفوق اللازمة لبداية العمليات الهجومية ثالثاً.

للأسف، لقد أراد أن يطبّق الإستراتيجية نفسها، التي اتبعها في حربه على إيران، من دون أن يدري أن القوات المقابلة اختلفت، والظروف اختلفت، وطبيعة الأزمة اختلفت، والنظام العالمي تغيّر.

ولعل مأساة الحرب كلها تكمن في أن الرئيس العراقي كان متأخراً في اتّخاذ القرار المناسب. فقد كان يمكِن أن يتجنّب الكارثة، لو أنه قبِل نداءات ومبادرات قادة الدول العربية والإسلامية والصديقة، في بدء الاحتلال، أو خلاله، أو استغل الفرص العديدة، التي سنحت له قبْل بدء الحملة الجوية، أو لو أنه أعلن، بعد بدء القتال (إذ كان رهانه الأصلي أن القتال لن يحدث) عزْمه على الانسحاب من دون شروط، غير أنه تأخر في كل مرة، فدفعت الكويت الثمن أولاً، ولا يزال شعب العراق يدفعه حتى اليوم”.

 

0.03 % فقط خسائر

ـ لاحظنا جميعاً، سمو الأمير، أنه كان هناك مبالغات كبيرة في حجم القوات العراقية وتجهيزاتها، كما كان هناك مبالغات كثيرة في تقدير حجم نتائج الضربة الجوية في المرحلة الأولى. هل كانت هذه المبالغات متعمدة؟ وهل أسفرت هذه المبالغات عن نتائـج سلبيـة؟ وما هي هذه النتائج؟

ـ “للإجابة عن الشق الأول من السؤال: نقول نَعم، كان هناك بعض المبالغات. ولكنها ليست في حجم القوات العراقية. إنما كانت في نِسب استكمال المعدات والأسلحة، وفي الخبرة القتالية، التي تصورنا أن العراقيين اكتسبوها خلال حربهم على إيران، وفي الروح القتالية لدى القوات، وفي كفاءة وحدات الحرس الجمهوري المدللة والمميّزة على كافة قطاعات القوات المسلحة العراقية. كما أن دعايتهم ساهمت، إلى حد كبير، في هذه المبالغات.

ومن جانبنا، كنّا نأخذ أي بيان لهم أو تهديد أو معلومة صادرة عنهم مأخذ الجد، حتى إذا كان لدينا ما يفيد عكسها. وكنا نقدر دائماً الموقف العسكري على أساس أسوأ الاحتمالات، وقد أدّى ذلك إلى الاستعداد الكامل لوحداتنا، وتحقيق نسب التفوق اللازمة، خاصة في القوات البرية، وعدم حدوث أي مفاجآت، خلال الحرب، وبالتالي تقليل الخسائر إلى الحد الذي يصعب تصديقه. فهل يُصدق أحد أن نسبة الخسائر الناتجة عن القتال، كانت أقلّ من ثلاثة من مائة في المائة (0.03 %) أي ثلاثة لكل (10) آلاف مقاتل.

أمّا المبالغة في حجم الخسائر الناتجة عن الضربات الجوية، إذا كان هناك مبالغة، فأعتقد أن سببها أولاً: تطبيق القوات العراقية لأعمال الإخفاء والتمويه، واستخدام المواقع والمعدات والأسلحة والمطارات الهيكلية، وتشبيه الإصابات الحقيقية في الأهداف (لمنع قصفها مرة أخرى) بنجاح، خاصة في الأيام الأولى من الحملة الجوية. ثانياً: قصور نظام التقدير الدقيق للخسائر والتدمير، من جانب القوات المتحالفة.

وعلى الرغم من ذلك، فإنني أعتقد أنه حدَث، أحياناً، أن الخسائر الحقيقية للهجمات الجوية لم تُعلن. ولعلمك، إننا كنا حريصين، خلال الحرب، على أن نقلل الخسائر بين المدنيين إلى أقصى حد، لأننا نعرف أنه لا ذنب لهم في جريمة دفَعهم إليها رئيسهم. وفي الوقت نفسه، نزيد من فاعلية الهجمات ضد الأهداف العسكرية، التي تسمح لهذا الرئيس باستمرار عدوانه، واستمرار جريمته، واستمرار تحدّيه لإرادة المجتمع الدولي.

ويجب ألا ننسى، ونحن نتحدث عن الخسائر الناتجة عن الهجمات الجوية، ما أحدَثه النظام العراقي نفسه من تدمير في بعض المساجد والأماكن الدينية، لإثارة المشاعر الدينية للعالم الإسلامي، وما أحدَثه من تدمير في بعض المناطق السكنية، لإثارة الرأي العام العالمي”.

عندما تحركت الصواريخ السعودية
ـ ما هو تقدير سموكم لقوة الصواريخ البالستيكية العراقية؟ وهل كان هناك توقعات أن يستخدم صدّام حسين أسلحة الدمار الشامل؟ وإذا كانت المدن السعودية قد تعرضت لراشقات الصواريخ العراقية، فهل كان هناك نوايا لاستخدام الصواريخ السعودية “رياح الشرق”؟ وما هي الظروف التي كانت ستحكُم ذلك العمل؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : “لقد كانت قوة الصواريخ البالستيكية العراقية قوة لا يستهان بها، إلاّ أن التعديلات، التي أُدخلت عليها، لزيادة مداها (صواريخ “العباس” و”الحسين”) كانت على حساب دقة الإصابة. كما أن عدم الاستخدام القتالي الصحيح لها أضعف تأثيرها، وأمكَن الصواريخ “الباتريوت” اعتراضها بكفاءة. وكلنا نعلم أن لهذه الصواريخ تأثيراً معنوياً أكثر منه تأثيراً تدميرياً. ولكن يجب ألا نقلّل من تأثيرها، إذ إن قدرة الرأس الحربية للصاروخ تعادل، على الأقل، تأثير قنبلة ألف رطل للصاروخ “سكود”، وحوالي (650) رطلاً للصاروخ المسمى “الحسين”، و(350) رطلاً لصاروخ “العباس”.

وفي خصوص توقعات استخدام المعتدي لأسلحة التدمير الشامل، أقول: نَعم، كنّا نتوقع استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية أيضاً، وقد اتخذنا الإجراءات الكفيلة بالوقاية منها، وفي الوقت نفسه، للردّ المناسب على استخدامها، حتى تكون درساً آخر له. وأعتقد أن الرئيس العراقي لم يجرؤ على استخدام هذه الأسلحة، لِعِلمِه بردّ الفعل المحتمل، وبعدم قدرته على مواجهة قدرات القوات المتحالفة، في هذا المجال.

أمّا عن نوايا استخدام الصواريخ أرض / أرض السعودية، فقد كانت جاهزة وموجّهة إلى عدة أهداف عسكرية، ونظراً إلى اعتبارها صواريخ ذات طبيعة إستراتيجية، فإن أوامر إطلاقها تصدر من القائد الأعلى للقوات المسـلحة. وأتذكر أنه، في إحدى المرات، أُعطيت الأوامر بالتجهيز الفعلي لإطلاق قصفة مركزة على أحد الأهداف، ولم يكُن ينقصنا سوى أمر الإطلاق. ولكن بحكمة القائد الأعلى وإنسانيته ومراعاته لظروف الشعب العراقي، أمَر بعدم الإطلاق، في آخر لحظة. لقد كنت أعلم أن خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، لن يأمر بالإطلاق إلاّ بعد استخدام كافة الأسلحة المتيسرة الأخرى، وبعد استنفاد جميع الوسائل، وبعد الاقتناع بأن إطلاقها أمْر ضروري وحتمي. حقيقة، يمكِن القول إنها كانت حرباً نظيفة، من جانبنا بالطبع”.

ـ هل كانت قيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات تتوقع هذه الأعداد من الأسْـرى العراقيين؟ وماذا كانت ردود أفعال هؤلاء الأسْـرى؟ وهل تمّت الاستفادة منهم في التخطيط للعمليات؟ وكيف؟

ـ “نعم، كنت متوقعاً لهذه الأعداد، بل كنت موقناً بذلك. أمّا السبب، فهو عِلمي بأن الجندي العراقي لا يثق بأهداف هذه المعركة، ولا يثق بادعاءات قيادته، وأن بقاءه في وحدته ناتج عـن الخوف من المصير الذي ينتظـره وينتظر عائلتـه، إذا حاول اللجـوء إلى المملكة. ولا ننسى كتائب الإعدام، التي شكلها المعتدي لمنْع الهروب أو الاستسلام أو التعاون معنا. ولقد أصدرتُ الأوامر، في أوائل شهر ديسمبر، ببناء معسكرات للأسرى تتسع لمائة ألف أسير. وكان هذا الأمر مثاراً للتساؤل والاستغراب في القيادة من جميع ضباط الأركان، خاصة من ضباط إدارة شؤون الأسْـرى واللاجئيـن. وبالفعل، وصل عدد الأسْـرى إلـى حوالي 75 ألف أسير، وعدد اللاجئين إلى أكثر من (30) ألف لاجئ.

أمّا عن الأسْرى أنفسهم، فكانت أحوالهم الشخصية واضحة على شاشات التليفزيون، فالأفراد جائعون، ملابسهم مهلهلة، روحهم المعنوية منهارة، فرحون لوقوعهم في الأسْـر، وابتعادهم عن وسائل التهديد والإرهاب والتعذيب، وقد كان معظمهم أكثر من متعاون. وبالتأكيد، تمّت الاستفادة منهم، بعد استجوابهم. وأذكُر لك مثالَيْن عن مدى الاستفادة منهم، الأول: تأكدنا أن خطة الحرب النفسية، التي اتّبعتها قيادة القوات المشتركة، ناجحة تماماً، بينما تمّ إجراء بعض التعديلات على خطة الحرب النفسية، التي اتبعتها قيادة القوات الصديقة، خصوصاً ما يتعلق بتصميم المنشورات، التي كانت تُلقَي على الوحدات العراقية. المثال الآخر: تأكدنا من نجاح خطة الخداع العملياتي، وعلى الأخص اتجاه الضربة الرئيسية، التي كانت قيادة القوات المعتدية تتوقعها من الشرق (من الساحل) وليس من الغرب، كما خُطِطَ لها”.

 

دور القوات القطرية والعُمانية
ـ أشادت مصادر عديدة بأداء القوات القطَرية. هل يمكن أن نُلقي مزيداً من الضوء على هذه القوات؟ وهل كان وجودها ضرورياً؟ ولماذا لم تشارك قوات عُمانية في العمليات الفعلية، على الرغم من توافر إمكانات عُمانية؟

ـ “كان أداء القوات القطَرية مشرّفاً، خاصة الوحدات البرية، التي اشتركت في معركة الخفجي، فقد أبلَت بلاءً حسناً. ولم يكن اشتراك هذه الوحدات متعمداً أو مدبراً، ولكنها اشتركت في هذه المعركة لتمركزها في هذا القطـاع ولمسـؤوليتها الدفاعية مع وحدات القوات المسلحة السعودية ووحدات الحرس الوطني السعودي، وللعلم، فإنني لم أستدعِ أي قوات من خارج قطاع المسؤولية.

لقد اشتركت قطَر، في حرب تحرير الكويت، بقوات برية وقوات جوية تمثل في مجموعها أكثر من 23% من إجمالي القوات المسلحة القطَرية، وهذه النسبة تمثل مدى الأهمية التي أعطتها الدولة للمشاركة الفعلية في هذه الحرب، وكما كان الأداء المشرّف للوحدات البرية، كان مثله للقوات الجوية القطَرية، إذ نفّذت أكثر من ستين مهمة جوية.

وبالتأكيد، كان وجود القوات القطَرية ضرورياً في مسرح العمليات، لأنها، أولاً، من دول مجلس التعاون الخليجي، وثانياً، لأنها دولة عربية إسلامية، يكره سمو أميرها الظلم والعدوان، ويساند الحق والعدل.

أمّا عن القوات العُمانية فقد نفّذت بكفاءة جميع المهام، التي خُصصت لها في قطاع مسؤوليتها، واشتركت عناصر منها في قوة الواجب (Task Force)، التي شُكلت لتحرير مدينة الكويت”.

ـ في نهاية الحوار، قلت للأمير الفريق الأول الركن (متقاعد) خالد بن سلطان بن عبدالعزيز: أخيراً، سمو الأمير، ما هي الأسباب الحقيقية، التي دعتكم إلى تقديم الاستقالة؟

ـ قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : : “لك كل الحق، أيضاً، في هذا السؤال، لأننا في العالم العربي، لم نسمع قَط عن قائد ترك منصبه طواعية، بعد تنفيذه المهمّة التي كُلف بها. لم نسمع عن قائد يقول: “سأترك مكاني لِمَن يواصل تنفيذ المهـام التالية، لأن المنصـب ليس حكراً على أحد”. لقد تعودنا أن يظل القائد في مكانه إلى أن يُنتزع منه.

والحمد لله، لقد أكرَمني الله ـ عز وجل ـ أكرمني بتشريف مولاي القائـد الأعلى بتكليفـي بقيادة القوات المشـتركة ومسرح العمليات، وأكرَمني بتشريف مولاي بمنحي وشاح الملك عبدالعزيز من الطبقة الأولى، ثم ترقيتي إلى رتبة الفريق الأول. لقد كان تشريفـاً بالتكليف، وتشريفاً بالتكريم.

الحمد لله، الذي أكرمني وساعدني على تحمل المسؤولية، وأداء الواجب، وتنفيذ المهمة، وأكرَمني بتشريف قادة الدول، الذين أرسلوا قواتهم إلى مسرح العمليات، بقيادة هذه القوات، وأكرمني بحمل أرفع الأوسمة، من أكثر من إحدى عشرة دولة. أي شرف أكبر من هذا؟ وأي فرصة أنسب من هذه لترْك المجال لِمَن يكملون التنفيذ والتطوير؟

وعلى الرغم من هذه الاستقالة، فإنني سأظل جندياً مطيعاً، وخادماً مخلصاً، لدِيني ثم لمليكي ووطني”.

ـــــــــــــــــــ

إلى مجلة “معهد الدراسات المساحية والجغرافية العسكري””

الرياض، العدد الثاني، ربيع الآخر 1425، يونيه 2004

ــــــــــــــــــــ

أجرى الحوار:

العميد الدكتور الركن عبدالعزيز بن إبراهيم العبيداء، المشرف العام

والمقدم المهندس الركن صالح بن عبدالعزيز التويجري، رئيس التحرير

 

س1: صاحب السموّ، أنتم من خريجي مدرسة الأمير سلطان بن عبدالعزيز. هلاّ أطلعتمونا على تلكم المدرسة، وتأثيرها في حياتكم عامة، وحياتكم العسكرية خاصة.

ج1: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : إنها موئل الفضائل، والخلق، تُجَسّد القيم والمبادئ: انضباط في رحمة، حسم في عدل، رأفة مع حزم. تكاد تقدّس العمل وتضعه في مصاف العبادة. مدرسة تعلمك الالتزام بالحقِّ، والثبات في الأزمات، وحسن التصرف في الشدائد. مدرسة ترسخ في النفوس حب الوطن وإيثاره، وتعمق الوازع الديني. حقيقة، ليس له مدرسة، إذ هو نفسه مدرسة؛ عمادها التشدد المستقيم، والإشراف الرحيم. أطال الله عمره، وجعلني فداءً له.

س2: الحياة ميدان واسع من الخبرات والتجارب، ما أبرز دروسها المستفادة، في رأي سموّكم؟ وأيّ قراراتكم كان، من وجهة نظركم، هو الأصعب؟

ج2: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : في كلِّ يوم نتعلم، وفي كلِّ ساعة نزداد خبرة، والذاكرة تختزن ذلك كلّه، وتعكسه في السلوك والتخطيط واتخاذ القرارات. من أهم الدروس، التي أُذَكِّر بها نفسي قبل غيري، أن تضع لنفسك منهاجاً وسطياً قويماًً تسير عليه، وقِيَماً عُليا تلتزم بها، ولا تحيد عنها؛ واليقين بأن احترام المرء نفسه هو أكثر ضرورة من احترام الآخرين له؛ وأن القول ما لم يصدقه العمل، يورد صاحبه موارد الهلاك، من عدم الثقة به، أو تصديقه، أو الاهتمام بما يقول. أمّا أصعب القرارات، من وجهة نظري، فهي تلك التي يُضطر المرء إلى اتخاذها عقلاً، وقد يأباها قلباً. وما أكثرها في حياة الإنسان!

س3: سموّكم عايشتم عن قرب رجالاً دخلوا التاريخ بفكرهم، وبُعْد نظرهم، بما قَدَّموه من عطاءٍ وبذلٍ لبلدنا أو لبلدانهم. ما مدى تأثير أولئك في سموّكم؟ وأيهم كان أشدّ تأثيراً؟

ج3:قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : تأثري بشخصية ذات سمات فريدة، ليس رهيناً بمعايشتها؛ فقد أعايشها في الحقيقة، أو في كتاب، أو دراسة، أو تأريخ. وفي مختلف المجالات، خلال رحلة حياتي، كان هناك شخصيات اجتذبتني. فمثلاً، خامس الخلفاء الراشدين، عمر بن عبدالعزيز، أعلى شأن الدولة الإسلامية، وجعلها مهيبة الجانب، وأشاع العدل، وكان مثالاً في الزهد والورع، والتشدد في حرمات الله. ولم يجد في نهاية فترة حكمه، التي لم تدم أكثر من تسعة وعشرين شهراً، من يحتاج إلى الزكاة في أمّتِه.

والملك عبدالعزيز، الذي خرج ذات يوم على رأس أربعين رجلاً، وعمره واحد وعشرون عاماً، سلاحُه الإيمان بالله، ومنهجه التوكل على الله. استطاع توحيد القبائل، وحوّل المجتمع البدوي إلى دولة حديثة، من البحر إلى الخليج، دولة موحدة آمنة ترفع راية لا إله إلا الله، قاد الدولة، خلال صراعَيْن دوليَّين، وخرجت منهما من دون أن تتعرض لاحتلال، أو تقع في دائرة نفوذ.

الفيلد مارشال روميل، ثعلب الصحراء، وعملياته الشهيرة في شمالي أفريقيا، التي تدل على عبقريته العسكرية الفذّة، وقيادته أعظم انسحاب في القرن العشرين، من دون التعرض لخسائر جسيمة أو هزيمة عسكرية حاسمة.

والملك فيصل، الأمين القوي، تعلمنا منه الدقة في العمل، والانضباط في الأداء، حتى ليقال إن الناس كانت تضبط ساعاتها على مواعيد تحركاته. تحمل كلَّ العبء: السياسي والدبلوماسي، في الصراع ضد عبدالناصر، في الستينيات، ونجح في إدارة الأزمة آنذاك، إذ كان مُحيطاً بالبديهيات الإستراتيجية لليمن، وعلى معرفة بقبائلها القوية وبطبيعتها الجبلية وتاريخها الحافل بالأحداث. كان قائداً ملهماً، أنزل العائلة والدولة مكانتهما في المجتمع الدولي؛ فضلاً عن كونه رجل مواقف، تشهد عليها حرب رمضان المجيدة، قبلها وأثناءها وبعدها.

والرئيس محمد أنور السادات، بطل حرب رمضان، والذي تميز برؤية إستراتيجية عميقة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي. فما كان ممكناً منذ خمسة وعشرين عاماً بات اليوم مستحيلاً.

وعلى رأس كلّ هؤلاء، القائد والقدوة والمثل الأعلى، رسولنا ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ الذي أمرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن نتخذه أسوة حسنة.

س4: نجح سموّكم في التعامل مع الغرب، ونجحتم في التعامل مع الشرق كذلك. كيف ترون مستقبل العالم، والصين تتقدم بقوة اقتصادياً وتقنياً؟ وكيف يرى سموّكم العالم، بعد عشر سنوات؟

ج4: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : الصين وضعت أقدامها على العتبة الصحيحة للانطلاق، وهي القوة الاقتصادية. فتحت حدودها لكلِّ تقدم تقني، وصدّرت سلعها إلى كلِّ الأسواق الخارجية. فمنتجاتها متنوعة، وذات نوعية جيدة، وتشبع الحاجات الإنسانية. ومنذ فترة قصيرة، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية،أنها تخشى أن ينافسها، في يوم من الأيام، التقدم الذي تحرزه الصين. قد يكون هذا الإعلان مبالغاً فيه، ولكنه يمثل جزءاً واقعياً من الحقيقة؛ إذ سيكون للصين شأن، في خلال السنوات المقبلة. أمّا منافستها للولايات المتحدة الأمريكية، فأمر مستبعد وليس مستحيلاً. فكما ذكرت مرات عدة، أن القرن الحادي والعشرين هو قرن أمريكي، بما أحرزته واشنطن من تقدم علمي رهيب، لا ينافسها فيه أحدٌ.

س5: التعامل مع المرؤوسين، ورفع المعنويات، معادلة صعبة لتحقيق التوازن في الأداء والإنتاج. كيف يمكن تحقيق ذلك، من واقع خبرة سموّكم الطويلة.

ج5:قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : ينبغي لكلِّ قائد، في المستويات كافة، وضع مرؤوسيه في بؤرة اهتمامه؛ فمنهم نستمد وجودنا العسكري، ومن خلالهم نؤدي مهامنا، وبفضلهم، بعد فضل الله، نحقق أهدافنا، ونسعد بنجاحنا. القائد الناجح، حقيقة، هو الذي يسعى إلى احترام مرؤوسيه قبل محبتهم، يسعى إلى ثقتهم قبل سعيه إلى إرضائهم. فالتعامل معهم يجب أن يبنى على الحزم مع الرأفة، والحسم مع العدل. ينبغي أن يشركهم في مرحلة صناعة القرار، ليزداد ولاؤهم وانتماؤهم. يأخذ الحق لهم، ولا يرضى الظلم لهم. أمّا رفع المعنويات، فطريقه بعد ما ذكرنا سهل، فالتعليم والتدريب والانضباط ورفع المستوى القتالي، أفراداً ووحدة، وثقة الضابط أو الفرد بنفسه وقائده وكفاءة وحدته، كلّ أولئك يُعدّ كافياً لمعنويات مرتفعة، وأداء ناشط، وإنتاج متقن.

س6: في عام 1997، نشر مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجي محاضرة لسموّكم، تناولتم أمن الخليج العربي من منظور وطني، وتطرقتم فيها إلى قدرة الدولة على حماية قِيَمِها من التهديدات الخارجية؛ ما يستلزم أن تكون الدولة أقوى من نظيراتها المنافسة. ورأى سموّكم أن أي تهديد للبناء الاقتصادي هو تهديد للأمن الوطني؛ وقلتم إن الأمن يعني التنمية. من يقرأ هذه المحاضرة، يدرك ما نحن فيه الآن من استهداف. ما تعليق سموّكم؟

ج6: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : بداية، أودّ أن أصحح أنها لم تكن محاضرة، إنما كان بحثاً بعنوان: “أمن الخليج، المنظور الوطني”. حاولت خلاله تعريف معنى الأمن، وعلاقته بالمجالات المختلفة، السياسية والاقتصادية والعسكرية، وخلصت إلى أنه: إحساس مجموع الأفراد (أيْ المجتمع) بالأمان، إضافة إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعقائدي، والحدود الآمنة، والحياة المستقرة المزدهرة. وبهذا التعريف، يصبح مفهوم “الأمن” غير مقتصر على الجانب العسكري، بل يتعداه إلى الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

أمّا تهديد البناء الاقتصادي بالأعمال الإرهابية، فقد قلت فيه: “لن أتحدث عن الإرهاب والعنف والتطرف بصفتها مصدراً للتهديد الداخلي للأمن الوطني للدولة، فضلاً عن تهديده لوجود الدولة نفسها. فهذا أمرٌ أصبح واضحاً إلى درجة لا يحتاج المرء معها إلى الحديث عنه. ولكني أقول شيئاً واحداً، هو أن كلّ ما صدر عن الجهات، التي عالجت وبحثت واجتهدت في هذا المجال، من آراء وتحليلات وبدائل، كان يدور حول أعراض المشكلة وظواهرها، ولم يُبحث في أسبابها. وعلينا الإسراع في بحث الأسباب الحقيقية للمشكلة وجذورها، وعدم التهاون بها أو تقليل شأنها؛ والتعاون والتنسيق الوثيقاْن لسد أيّ ثغرات من المنبع إلى المصب، من المُخَطِّط إلى المُنَفِّذ، من المجرم الحقيقي إلى المُغَرَّر به”. أليس هذا هو المطلوب اليوم؟

وفي نهاية هذا البحث، اقترحت خطة عمل، محددة واضحة، من تسع مراحل؛ فضلاً عن آلية تنفيذها. فماذا حدث؟ انفض الجمع، وذهب كلّ باحث بما بحث. وصدرت المطبوعات الأنيقة، التي توثق الحدث، وسيقت إلى مثواها الأخير، رفوف المخازن والمكتبات. للأسف، إن هناك انفصالاً كاملاً بين مراكز البحوث في الوطن العربي ودوائر صناعة القرار. ليتنا ننظر إلى ما يجري في الدول المتقدمة، وندرس تأثير مثل هذه المراكز في اتخاذ القرار؟

س7: قرأنا لكم، وسمعنا منكم، يا صاحب السموّ، أن من أبرز نتائج الحروب الاتجاه إلى تطوير قواتنا المسلحة وتحديثها. فما المراحل التي ينبغي الأخذ بها، لإحداث مثل هذا التطوير؟ وهل تحققت طموحات سموّكم لتطوير القوات المسلحة؟

ج7: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : عقب كلّ حرب، محلية كانت أو إقليمية أو دولية، وسواء اشتركنا فيها أو لم نشترك، علينا استنباط الدروس المستفادة، بأسلوب علمي، يُجرى من خلال أربع مراحل رئيسية، هي: أولاً، دراسة الخطط والأوامر وتطور أعمال القتال والظروف المحيطة والخلفية التاريخية للحرب. ثانياً: تحليل العمليات القتالية كافة، طبقاً للموازين المختلفة، من عقائد وخبرات وعلم عسكري ومبادئ حرب. ثالثاً: تحديد نقاط القوة والضعف لكِلا الطرفين، منذ بداية الأزمة وحتى انتهاء الحرب. رابعاً: استنتاج الدروس المستفادة، طبقاً للمجال والمستوى.

والمقصود بالمجال، هنا، هو ذاك العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ وبالمستوى هو ذاك الإستراتيجي والعملياتي والتكتيكي. ومن أهم الأمور الاستفادة من تلك “الدروس المستخلصة”، وذلك باستيعاب كلِّ درس، وتحديد خطة تنفيذه. وسأضرب لكم مثلاً، في أثناء دراستي في كلية القيادة والأركان، في فورت ليفنورث، في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان قد مضى على انتهاء حرب رمضان نحو خمس أو ست سنوات، قرأت في كتب الإستراتيجية، والتكتيك، والأسلحة، كيف استفادت واشنطن من دروس حرب رمضان، في إعادة تنظيمها للكتائب، وخاصة كتائب المشاة الآلية، وإضافتها أعداداً كبيرة من الأسلحة المضادة للدبابات؛ وكذلك في تكتيكات الوحدات والتشكيلات المقاتلة. وكانت تكتب كلّ ذلك في صراحة ووضوح. إذاً، التطوير والتحديث عمليتان مستمرتان، ولا تتوقفان عند حدٍّ معين.

أمّا المراحل، التي ينبغي الأخذ بها، فقد أصدر سموّ سيدي أوامره بتشكيل لجنة لتطوير القوات المسلحة السعودية، في المجالات كافة؛ واختص بالمرحلة الأولى “إعادة التنظيم وتحديث النُظُم”. وتعمل اللجان بجدٍّ واهتمام على إنجاز مهام هذه المرحلة. وبالفعل، أنجزت اللجنتان: الأولى والثالثة، مهامهما. ويجري حالياً مراجعة “السياسة والإستراتيجية والعقائد العسكرية”، وكذلك “الأنظمة العسكرية المختلفة”. ونطمح، بإذن الله، ألاّ يقتصر التطوير على المرحلة الأولى فقط، بل يتعداها إلى مراحل أخرى، تشمل: إعادة تنظيم الوحدات والتشكيلات، والتسليح، واستخدام القوات؛ حتى نصل إلى تحقيق هدفنا، بفضل من الله، وهو: بناء قوات مسلحة محترفة، تتسم بالخواص الآتية: قليلة العدد، عالية الكفاءة القتالية، منخفضة النفقات، قادرة على الردع.

س8: تسعى وزارة الدفاع إلى تطوير منظوماتها العسكرية المختلفة. ما رأي سموّكم في تحويل معهد الدراسات المساحية والجغرافية العسكري إلى كلية تمنح درجتَي الدبلوم والبكالوريوس في العلوم المساحية؟ وما الآلية الملائمة لتحقيق ذلك؟

ج8:قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : الفكرة في حدِّ ذاتها مقبولة، لا اعتراض عليها، للوهلة الأولى. ولكن، دعونا نفكر في أهمية هذه الخطوة، في الوقت الحالي. وهل نحن، حقاً، في حاجة ماسة إلى ذلك؟ وما هي مهمة المعاهد الأكاديمية الأخرى المتخصصة في هذا الحقل؟ والأهم من ذلك كلّه، هل سيبعدنا هذا التحويل عن المهمة الأساسية للمعهد ولهيئة المساحة؟ دائماً، أُذَكِّر نفسي والآخرين بأنه قبل التفكير في “التطوير”، لا بدّ من إنجاز مهامنا، واستيعاب ما بين أيدينا، من معدات وأسلحة وأنظمة، قبل أن نُزيد من أعبائنا.

من وجهة نظري، المساحة العسكرية، أولاً، ليست جهة أكاديمية تعليمية. وإنشاء مثل هذه الكلية، سيصرفها عن أهدافها الأساسية، إلى متابعة أمور أكاديمية، خاصة بأعضاء هيئة التدريس وترقياتهم وتعيينهم، والطلاب وتسجيلهم والمنتظم منهم والمنسحب، وغير ذلك من الأمور، التي قد لا يتوافر لدى الهيئة من الكوادر الفنية والبشرية من يُديرها على الوجه المطلوب. ثانياً: هل يستلزم الأمر، حالياً، أن نخرّج، سنوياً، أفواجاً ممن يحملون درجة “البكالوريوس” في العلوم المساحية؟ وأين الوظائف التي تنتظرهم؟ وهل يحتاج سوق العمل “المدني أو العسكري”، إلى تلك الأعداد المتوقعة؟ أم سنزيد مشكلة البطالة تعقيداً؟ ثالثاً: في حالة الاحتياج إلى عدد محدود من ذوي الكفاءات الخاصة في هذا التخصص، فالأَوْلى الابتعاث، داخلياً أو خارجياً، أو التنسيق مع الأقسام المختصة في جامعاتنا، وإنشاء برامج دراسية مشتركة، ترعاها الجامعات، بالمواصفات التي تتطلبها القوات المسلحة، وذلك على غرار ما هو معمول به في بلدان عديدة.

س9: صاحب السموّ، زرتم كثيراً من المعاهد والكليات، العسكرية منها والمدنية. ومن خلال تجربتكم داخل المملكة وخارجها، هل يري سموّكم جدوى من تعديل اسم المعهد الحالي من “معهد الدراسات المساحية والجغرافية العسكري” إلى “المعهد الجغرافي العسكري”؛ ليلائم التخصص، ويدل على شمولية أكثر؟

ج9:قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : معهدكم أُنشئ عام 1407هـ، أيْ منذ ثمانية عشر عاماً، فهل هناك ضرورة ملحّة، الآن، لتغيير اسمه، بما سينجم عنه من إجراءات إدارية ونفقات مالية؟ وهل اسمه الحالي يسبب أيّ مشكلات تعليمية أو إدارية؟ في الدول الأجنبية يحافظون على أسماء وحداتهم وتشكيلاتهم ومنشآتهم، بصرف النظر عما آل إليه محتواها. فما زالت وحدات في القوات المسلحة الأجنبية تحمل اسم ” فوج فرسان، أو كتيبة فرسان”، على الرغم من عدم استخدامهم أيّ نوع من الخيول! إنها المحافظة على الأصل، والتمسك بالقديم، وعدم التغيير إلاّ عند الضرورة القصوى؛ فضلاً عن أن هناك نقطة خاصة بالاسم المقترح، وهي: تخصيص “الجغرافي” مسمى للمعهد؛ ما يعني أنه يشمل كلّ فروع علم الجغرافيا من دون استثناء، وما أكثرها! أمّا الاسم الحالي، فيسمح لنا باستخدام ما يلائم احتياجاتنا من فروع الجغرافيا، من دون الالتزام بشموليتها. وذلك، في رأيي، أكثر واقعية.

س10: سموّ الأمير، قلتم: “إن الجيوش تسير على بطونها، محمية بإلكترونياتها، ومهاجمة بها”. هل يمكن إلقاء الضوء أكثر على هذه العبارة؟ وهل هناك نية في تحديث منظومات الأسلحة في قواتنا المسلحة؟

ج10:قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : تلك المقولة، استلهمتها من تعريف المصطلح، الذي ما فتئ يتردد ويستخدم كثيراً، وأصبح هو محور التفوق، وهو: “عمليات المعلومات Information Operations”، التي تُعرف بأنها “إجراءات، تُتخذ للتأثير في معلومات العدو وأنظمته المعلوماتية، بينما تدافع عن معلومات القوات الصديقة وأنظمة معلوماتها. وطبقاً لهذا التعريف، فهي تشمل العمليات الهجومية والدفاعية. وتتمثل أولاهما في الاستخدام المتكامل للقدرات والأنشطة، المخصصة والمساندة، والمدعمة بالاستخبارات؛ للتأثير في صانعي القرار المعادين، وتحقيق أهداف محددة. وهي تشمل، مثلاً لا حصراً، أمن العمليات، الخداع العسكري، العمليات النفسية، الحرب الإلكترونية، الهجوم/التدمير المادي، وعمليات المعلومات الخاصة؛ وقد تشمل هجوم شبكات الحاسب.

أمّا العمليات الدفاعية فهي تتجسد في التكامل والتنسيق بين السياسات والإجراءات، والعمليات، والأفراد، والتقنية، لحماية المعلومات والأنظمة المعلوماتية والدفاع عنها؛ من خلال سلامة وأمن المعلومات، وأمن العمليات، وحماية شبكات الحاسب، والتأمين المادي، والخداع المضاد، والدعاية المضادة، والاستخبارات المضادة، والحرب الإلكترونية، وعمليات المعلومات الخاصة. وهي بذلك تضمن انسياب المعلومات الآنية الصحيحة والدقيقة، وتحرم العدوّ فرصة استغلال معلومات القوات الصديقة وأنظمة معلوماتها.

أمّا تحديث منظومات الأسلحة، فكما قلت، إن عمليات التطوير والتحديث مستمرة، طبقاً لاحتياجاتنا وإمكانياتنا، والأهم من ذلك كلّه التهديدات المحتملة لأمننا الوطني، الذي يهون في سبيل المحافظة عليه كلّ رخيص وغالٍ.

س11: وَرَدَ في كلمة سموّكم، في افتتاح ندوة الحرب الإلكترونية الثانية، أن المعلومات والسيادة المعلوماتية هي سلاح القرن الحادي والعشرين. ما هو إسهام المعلومات الجغرافية في هذا السلاح؟ وما تأثير المعلومة الجغرافية في العمليات العسكرية؟

ج11: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : ما دعاني إلى هذا القول، أنني قرأت في أحد البحوث المقدمة إلى الندوة، “أن الحرب الإلكترونية هي سلاح القرن الحادي والعشرين”، فقلت إنني لا أوافق الباحث على هذه المقولة؛ إذ إن “المعلومات هي سلاح ذلك القرن؛ ومن دانت له السيادة المعلوماتية، فقد انتصر، قبل أن تبدأ المعركة”. قد تكون مقولة الباحث تلك صحيحة بالنسبة إلى القرن الماضي، أمّا الآن فالموقف مختلف تماماً، والحرب الإلكترونية باتت في عباءة المعلومات وعملياتها الهجومية والدفاعية وإحدى أدواتها. وأضحى الناس أجمع يلهثون وراء المعلومة الصحيحة، الموثوق بها، الموقوتة.

أمّا إسهام المعلومات الجغرافية من هذا السلاح، فهو الإسهام الأوفى، من دونه تصبح المعلومة قاصرة؛ وبالمعلومات الجغرافية، يكون للمعلومة معنى وتحديد وتوجيه. أمّا تأثيرها في العمليات العسكرية، فهي حيوية، ولا يمكن الاستغناء عنها في كلِّ جزئية من جزئيات القتال. فالعنصر الرئيسي في تقدير الموقف فيّ أي مستوى قيادي أو ركني، هو دراسة الأرض؛ وكفاءة توجيه الأسلحة والمعدات، تعتمد على المعلومة الجغرافية؛ والتحركات العسكرية، والانتشار العملياتي، وإدارة العمليات القتالية، لا تجرى بكفاءة في غياب المعلومات الجغرافية. وتسألني بعدها عن تأثيرها!

س12: سموّ الأمير، قلتم: “أضحت المعلومات عنصراً من عناصر القدرة الوطنية، جنباً إلى جنب مع القدرات: السياسية والاقتصادية والعسكرية، تُنفَّذُ في العمليات العسكرية كافةً، وفي جميع مراحلها، وفي كلِّ مستويات الحرب: الإستراتيجية والعملياتية والتكتيكية”. كما اقترحتم: “حل مشكلة الأمن لحرب المعلومات، وإنشاء مكتبة التهديدات العامة والمشتركة Threat Library، لاستخدامها في أنظمة الإنذار بالتهديدات Threat Warning Systems؛ فضلاً عن استحداث نظام لتبادل المعلومات والمعرفة Knowledge؛ وتأسيس قاعدة معلومات وطنية، تنفرد بالمعلومات الجغرافية الرقمية؛ وإمكانية إطلاق قمر صناعي للأغراض العسكرية قاطبة”. سيدي، هذه الاقتراحات تبهر المتخصصين، وتقفز ببلدنا الحبيب إلى مصافّ الدول المتقدمة. هل هناك خطة لتنفيذ هذه الاقتراحات؟

ج12:قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : إن ما ذكرته في هذا الشأن، هو التذكير فقط ببعض المشاكل والقضايا، التي تدعونا إلى الاهتمام بها والعمل على ابتكار حلولها العملية، وطلبت من الباحثين أن يأخذوها في حسبانهم، في الدراسة والمناقشة. وينبغي لهم صياغة توصياتهم، لتكون في خطة شاملة، محددة المراحل والتوقيتات والنفقات والأولويات. ويا حبذا لو اشتملت تلك التوصيات على بدائل عدة، مع بيان المكاسب الآنية، والخسائر المستقبلية، إذا لم تُنفذ التوصية. وكلّ ذلك في إطار من الوضوح والشفافية والحِرفية، وإدراج جميع التفاصيل والاقتراحات. عند ذلك فقط، يمكن لصاحب القرار أن يتخذ من القرارات ما يطمئن إلى صوابه، ويتحمس لتنفيذه، لأنه على ثقة أن الأمر قد دُرس بعناية. إننا في انتظار ما يَرِدُنا من اللجنة، التي أشرفت على الندوة.

س13: بالاطلاع على موسوعة “مقاتل من الصحراء” في إصدارها الخامس، كان من اللافت إضافة أربع كلمات أسفل شعارها، وهي العمل، الإنتاج، التطوير، الإبداع. فهل يمكن إلقاء الضوء على سبب اختيار سموّكم لتلك الكلمات، لتكون في مقدمة ما يقرأه الباحث أو القارئ؟

ج13:قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : اخترنا هذه الكلمات الأربع لأنها مفتاح التقدم، عند الأخذ بها، ومفتاح التخلف، عند إهمالها؛ فلا إنتاج من دون عمل نافع، ولا إنتاج متطور من دون تطوير مستمر، ولا تطوير فعّال من دون إبداع فكري مثمر. فمن السهل التشدق كثيراً بأهمية العامل الرئيسي في العملية الإنتاجية، وهو “العمل”، الذي لا يُعطى الثقل الملائم، ولكن من الصعب وضعه نصب أعيننا، منهاجاً وسبيلاً. فديننا الحنيف يولي العمل أهمية قصوى؛ بل يقرنه بالعبادة، إن لم يسبقها، والعمل يُعدّ غاية بقدر ما هو وسيلة. ومن أفضل ما قرأت، أن “العمل حق لله؛ لتعلقه بالنفع العام للجماعة البشرية. وحق للعباد؛ لنفعه الخاص لكلِّ شخص في حفظ حياته”. وينبغي لأي دولة أو أمة، تريد مواكبة العصر، ولا تبقى في مصافّ الدول المتخلفة، أن ترى في العمل وظيفة اقتصادية، ونفسية، واجتماعية.

س14: صاحب السموّ، أنتم قائد وقدوة. ما هي الجوانب التي تلفتون إليها قادة الكليات والمعاهد والمدارس العسكرية ومنسوبيها وطلبتها؟

ج14: قال لامير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز : من السهل ادعاء الكمال، وتوزيع النصح والإرشاد؛ ومن الصعب العمل بهذه النصائح، والالتزام بها. والآية القرآنية توضح لنا مثل هذا التناقض وعاقبته، إذ يقول المولى ـ عزّ وجلّ: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)”. ولا أجد أفضل من إجابتي على السؤال نفسه، في مجلة الصقور، إذ قلت: “سأجمِل هذه النصائح في سبع، أوصي نفسي وكل قائد وطالب وفرد الالتزام بها، والعضّ عليها بالنواجذ، وهي: الإيمان، العلم، الانضباط، القدوة، الأمانة. الإخلاص في السر والعلن، العدل في الرضا والغضب”.