تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"

الآية رقم ‏(‏190‏)‏

‏{‏وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقاتلوا‏{‏ هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله‏
{‏ادفع بالتي هي أحسن‏}‏فصلت‏:‏ 34 وقوله‏{‏فاعف عنهم واصفح‏}‏المائدة‏:‏ 13 وقوله‏{‏واهجرهم هجرا جميلا‏}‏المزمل‏:‏ 10 وقوله‏{‏لست عليهم بمسيطر‏}‏الغاشية‏:‏ 22 وما كان مثله مما نزل بمكة‏.‏ فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل‏{‏وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم‏{‏ قاله الربيع بن أنس وغيره‏.‏ وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‏}‏الحج‏:‏ 39‏.‏ والأول أكثر، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن لم يقاتل من المشركين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فلما نزل الحديبية بقرب مكة - والحديبية اسم بئر، فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر - فصده المشركون عن البيت، وأقام بالحديبية شهرا، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة‏.‏ فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار‏.‏ فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهورها، فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزل ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏التوبة‏:‏ 5 فنسخت هذه الآية، قاله جماعة من العلماء‏.‏ وقال ابن زيد والربيع‏:‏ نسخها ‏{‏وقاتلوا المشركين كافة‏}‏التوبة‏:‏ 36 فأمر بالقتال لجميع الكفار‏.‏ وقال ابن عباس وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد‏:‏ هي محكمة أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، على ما يأتي بيانه‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وهذا أصح القولين في السنة والنظر، فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان، رواه الأئمة‏.‏ وأما النظر فإن ‏{‏فاعل‏{‏ لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون‏.‏ وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية، أخرجه مالك وغيره، وللعلماء فيهم صور ست‏:‏

الأولى‏:‏ النساء إن قاتلن قتلن
قال سحنون‏:‏ في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله‏{‏وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم‏{‏، ‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏}‏البقرة‏:‏ 191‏.‏ وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال‏.‏

الثانية‏:‏ الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية
ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قتل‏.‏

الثالثة‏:‏ الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون
بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد‏{‏وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له‏{‏ فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا‏.‏ ولو ترهبت المرأة فروى أشهب أنها لا تهاج‏.‏ وقال سحنون‏:‏ لا يغير الترهب حكمها‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏{‏والصحيح عندي رواية أشهب، لأنها داخلة تحت قوله‏{‏فذرهم وما حبسوا أنفسهم له‏{‏‏.‏

الرابعة‏:‏ الزمنى‏.‏ قال سحنون‏:‏ يقتلون‏.‏ وقال ابن حبيب‏:‏ لا يقتلون‏.‏ والصحيح أن تعتبر أحوالهم
فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة‏.‏

الخامسة‏:‏ الشيوخ‏.‏
قال مالك في كتاب محمد‏:‏ لا يقتلون‏.‏ والذي عليه جمهور الفقهاء‏:‏ إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة‏.‏ وللشافعي قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ مثل قول الجماعة‏.‏ والثاني‏:‏ يقتل هو والراهب‏.‏ والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع‏.‏ وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء‏:‏ القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية‏.‏

السادسة‏:‏ العسفاء
وهم الأجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد‏:‏ لا يقتلون وقال الشافعي‏:‏ يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية‏.‏ والأول أصح، {‏قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏}‏التوبة‏:‏ 123 وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ غايته نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وهو موافق للحديث الذي قبله، لأن نزوله من أشراط الساعة‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولا تعتدوا‏{‏ قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة‏.‏ فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة‏.‏ ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب‏.‏ وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق‏.‏ وقال قوم‏:‏ المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة‏.‏ وقيل‏{‏لا تعتدوا‏{‏ أي لا تقاتلوا من لم يقاتل‏.‏ فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار، والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏191‏)‏

‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثقفتموهم‏{‏ يقال‏:‏ ثقِف يثقِف ثقْفا وثقَفا، ورجل ثقف لقف‏:‏ إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور‏.‏ وفي هذا دليل على قتل الأسير، وسيأتي بيان هذا في ‏{‏الأنفال‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏{‏وأخرجوهم من حيث أخرجوكم‏{‏ أي مكة‏.‏ قال الطبري‏:‏ الخطاب للمهاجرين والضمير لكفار قريش‏.‏
قوله تعالى‏{‏والفتنة أشد من القتل‏{‏ أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشد من القتل‏.‏ قال مجاهد‏:‏ أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة‏.‏ وقال غيره‏:‏ أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشد من القتل الذي عيروكم به‏.‏ وهذا دليل على أن الآية نزلت في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله واقد بن عبدالله التميمي في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، حسب ما هو مذكور في سرية عبدالله بن جحش، على ما يأتي بيانه، قاله الطبري وغيره‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه‏{‏ الآية‏.‏ للعلماء في هذه الآية قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها منسوخة، والثاني‏:‏ أنها محكمة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل، وبه قال طاوس، وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه‏.‏ {‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏التوبة‏:‏ 5‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نسخها قوله تعالى‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏{‏ ثم نسخ هذا قوله‏{‏اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏{‏‏.‏ فيجوز الابتداء بالقتال في الحرم‏.‏ ومما احتجوا به أن ‏{‏براءة‏{‏ نزلت بعد سورة ‏{‏البقرة‏{‏ بسنتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه المغفر، فقيل‏:‏ إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال‏:‏ ‏(‏اقتلوه‏)‏
وقال ابن خويز منداد‏{‏ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام‏{‏ منسوخة، لأن الإجماع قد تقرر بأن عدوا لو استولى على مكة وقال‏:‏ لأقاتلكم، وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال، فمكة وغيرها من البلاد سواء‏.‏ وإنما قيل فيها‏:‏ هي حرام تعظيما لها، ألا ترى أن {‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏البقرة‏:‏ 193‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ حضرت في بيت المقدس - طهره الله - بمدرسة أبي عقبة الحنفي، والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار، فسلم سلام العلماء وتصدر في صدر المجلس بمدارع الرعاء، فقال القاضي الزنجاني‏:‏ من السيد‏؟‏ فقال‏:‏ رجل سلبه الشطار أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم‏.‏ فقال القاضي مبادرا‏:‏ سلوه - على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم - ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا‏؟‏ فأفتى بأنه لا يقتل‏.‏ فسئل عن الدليل، فقال قوله تعالى‏{‏ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه‏{‏ قرئ ‏{‏ولا تقتلوهم، ولا تقاتلوهم‏{‏ فإن قرئ ‏{‏ولا تقتلوهم‏{‏ فالمسألة نص، وإن قرئ ‏{‏ولا تقاتلوهم‏{‏ فهو تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل‏.‏ فاعترض عليه القاضي منتصرا للشافعي ومالك، وإن لم ير مذهبهما، على العادة، فقال‏:‏ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏التوبة‏:‏ 5‏.‏ فقال له الصاغاني‏:‏ هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن، والتي احتججت بها خاصة، ولا يجوز لأحد أن يقول‏:‏ إن العام ينسخ الخاص‏.‏ فبهت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ فإن لجأ إليه كافر فلا سبيل إليه، لنص الآية والسنة الثابتة بالنهي عن القتال فيه‏.‏ وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيقتل بنص القرآن‏.‏
قلت‏:‏ وأما ما احتجوا به من قتل ابن خطل وأصحابه فلا حجة فيه، فإن ذلك كان في الوقت الذي أحلت له مكة وهي دار حرب وكفر، وكان له أن يريق دماء من شاء من أهلها في الساعة التي أحل له فيها القتال‏.‏ فثبت وصح أن القول الأول أصح، والله أعلم‏.‏
قال بعض العلماء‏:‏ في هذه الآية دليل على أن الباغي على الإمام بخلاف الكافر، فالكافر يقتل إذا قاتل بكل حال، والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع‏.‏ ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح‏.‏ على ما يأتي بيانه من أحكام الباغين في ‏{‏الحجرات‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏192‏)‏

‏{‏فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن انتهوا‏{‏ أي عن قتالكم بالإيمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم، ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم، نظيره قوله تعالى
{‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏}‏الأنفال‏:‏ 38‏.‏ وسيأتي‏.‏

الآية رقم ‏(‏193‏)‏

‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقاتلوهم‏{‏ أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع، على من رآها ناسخة‏.‏ ومن رآها غير ناسخة قال‏:‏ المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم‏{‏فإن قاتلوكم‏{‏ والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار‏.‏ دليل ذلك قوله تعالى‏{‏ويكون الدين لله‏{‏، ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏الشورى‏:‏ 40‏.‏ والظالمون هم على أحد التأويلين‏:‏ من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر‏:‏ من بقي على كفر وفتنة‏.‏

الآية رقم ‏(‏194‏)‏

‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏الشهر الحرام ‏}‏ قد تقدم اشتقاق الشهر‏.‏ وسبب نزولها {‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏النساء‏:‏ 58‏.‏ وهو قول عطاء الخراساني‏.‏ قال قدامة بن الهيثم‏:‏ سألت عطاء بن ميسرة الخراساني فقلت له‏:‏ لي على رجل حق، وقد جحدني به وقد أعيا علي البينة، أفأقتص من ماله‏؟‏ قال‏:‏ أرأيت لو وقع بجاريتك، فعلمت ما كنت صانعا‏.‏
قلت‏:‏ والصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق‏.‏ {‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏النحل‏:‏ 126‏.‏
قالوا‏:‏ وهذا عموم في جميع الأشياء كلها، {‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏النحل‏:‏ 126‏.‏ وقوله‏{‏فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏{‏‏.‏ وأما ما استدلوا به من حديث جابر فحديث ضعيف عند المحدثين، لا يروى عن طريق صحيح، لو صح قلنا بموجبه، وأنه إذا قتل بحديدة قتل بها، يدل على ذلك {‏ومن يتعد حدود الله‏}‏البقرة‏:‏ 229 أي يتجاوزها، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية، فلو قال لك مثلا‏:‏ يا كافر، جاز لك أن تقول له‏:‏ أنت الكافر‏.‏ وإن قال لك‏:‏ يا زان، فقصاصك أن تقول له‏:‏ يا كذاب يا شاهد زور‏.‏ ولو قلت له يا زان، كنت كاذبا وأثمت في الكذب‏.‏ وإن مطلك وهو غني دون عذر فقال‏:‏ يا ظالم، يا آكل أموال الناس، {‏وقاتلوا المشركين كافة‏}‏التوبة‏:‏ 36‏.‏ وقيل‏:‏ نسخ ذلك بتصييره إلى السلطان‏.‏ ولا يحل لأحد أن يقتص من أحد إلا بإذن السلطان‏.‏

الآية رقم ‏(‏195‏)‏

‏{‏وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين‏}‏

‏"‏روى البخاري {‏ألم يعلم بأن الله يرى‏}‏العلق‏:‏ 14‏.‏ وقال المبرد‏{‏بأيديكم‏{‏ أي بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله‏{‏فبما كسبت أيديكم‏}‏الشورى‏:‏ 30، ‏{‏بما قدمت يداك‏}‏الحج‏:‏ 10‏.‏ وقيل‏:‏ هذا ضرب مثل، تقول‏:‏ فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبدالمطلب‏:‏ ‏[‏والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز وقال قوم‏:‏ التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول‏:‏ لا تفسد حالك برأيك‏.‏ التهلكة بضم اللام مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة، أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قاله الزجاج وغيره‏.‏ أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم‏.‏ ومعنى آخر‏:‏ ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة‏.‏ ويقال‏{‏لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏{‏ يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا‏.‏ ونحوه عن عكرمة قال‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏{‏ قال‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏}‏البقرة‏:‏ 267 وقال الطبري‏:‏ قوله ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏{‏ عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه، إذ اللفظ يحتمله‏.‏
اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم ابن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبدالملك من علمائنا‏:‏ لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فان لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة‏.‏ وقيل‏:‏ إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏}‏البقرة‏:‏ 207‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان‏:‏ إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا‏.‏ وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له‏:‏ إنه قاتلك‏.‏ فقال‏:‏ لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين‏.‏ وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين‏:‏ ضعوني في الحجفة‏؟‏‏؟‏ وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب‏.‏
قلت‏:‏ ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فلك الجنة‏)‏‏.‏ فانغمس في العدو حتى قتل‏.‏‏"‏ وفي صحيح مسلم {‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم‏}‏التوبة‏:‏ 111 الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه‏.‏ وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى‏{‏وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور‏}‏لقمان‏:‏ 17‏.‏ وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله‏)‏‏.‏ وسيأتي القول في هذا في ‏{‏آل عمران‏{‏ إن شاء تعالى‏.‏
قوله تعالى‏{‏وأحسنوا إن الله يحب المحسنين‏{‏ أي في الإنفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم‏.‏ وقيل‏{‏أحسنوا‏{‏ في أعمالكم بامتثال الطاعات، روي ذلك عن بعض الصحابة‏.‏

الآية رقم ‏(‏196‏)‏

‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏

اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله، فقيل‏:‏ أداؤهما والإتيان بهما، كقوله‏{‏فأتمهن‏}‏البقرة‏:‏ 124 وقوله‏{‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏البقرة‏:‏ 187 أي ائتوا بالصيام، وهذا على مذهب من أوجب العمرة، على ما يأتي‏.‏ ومن لم يوجبها قال‏:‏ المراد تمامهما بعد الشروع فيهما، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه، قال معناه الشعبي وابن زيد‏.‏ وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك‏.‏ وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، وفعله عمران بن حصين‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله ‏{‏لله‏{‏‏.‏ وقال عمر‏:‏ إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران، وقاله ابن حبيب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون‏:‏ لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك‏.‏ فقال‏:‏ فأتموهما ولا تخلطوهما بشيء آخر‏.‏
قلت‏:‏ أما ما روي عن علي وفعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبدالله بن مسعود وجماعة من السلف، وثبت أن عمر أهل من إيلياء، وكان الأسود وعلقمة وعبدالرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم، ورخص فيه الشافعي‏.‏ و‏"‏روى أبو داود والدارقطني ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏المزمل‏:‏ 20‏.‏ وابتدأ بإيجاب الحج فقال‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏آل عمران‏:‏ 97 ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها، فلو حج عشر حجج، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء، والله أعلم‏.‏ واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال‏:‏ عماد الحج الوقوف بعرفة، وليس في العمرة وقوف، فلو كانت كسنة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها‏.‏
قرأ الشعبي وأبو حيوة برفع التاء في ‏{‏العمرة‏{‏، وهي تدل على عدم الوجوب‏.‏ وقرأ الجماعة ‏{‏العمرة‏{‏ بنصب التاء، وهي تدل على الوجوب‏.‏ وفي مصحف ابن مسعود ‏{‏وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله‏{‏ وروي عنه ‏{‏وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت‏{‏‏.‏ وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة، ولا حظ بقصد، ولا قربة بمعتقد، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه، ثم سامح في التجارة، على ما يأتي‏.‏
لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة ـ والقلم جار له وعليه ـ أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه، وأن النية تجب فرضا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتموا‏}‏ ومن تمام العبادة حضور النية، وهي فرض كالإحرام عند الإحرام، {‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله‏}‏البقرة‏:‏ 273‏.‏ وقال ابن ميادة‏:‏
{‏فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏}‏النساء‏:‏ 25‏.‏ أراد فإن زنى الإماء فعلى الأمة منهن إذا زنت نصف ما على الحرة البكر إذا زنت، فذكر الله المحصنات وهو يريد الأبكار، لأن الإحصان يكون في أكثرهن فسمين بأمر يوجد في بعضهن‏.‏ والمحصنة من الحرائر هي ذات الزوج، يجب عليها الرجم إذا زنت، والرجم لا يتبعض، فيكون على الأمة نصفه، فانكشف بهذا أن المحصنات يراد بهن الأبكار لا أولات الأزواج‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أهل الحجاز وبنو أسد يخفون الهدي، قال‏:‏ وتميم وسفلى قيس يثقلون فيقولون‏:‏ هدي‏.‏ قال الشاعر‏:‏
{‏والهدي معكوفا أن يبلغ محله‏}‏الفتح‏:‏ 25 قيل‏:‏ محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق‏.‏ وعند أبي حنيفة محل الهدي في الإحصار‏:‏ الحرم، لقوله تعالى‏{‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏}‏الحج‏:‏ 33‏.‏ وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الآمن الذي يجد الوصول إلى البيت‏.‏ فأما المحصر فخارج من قول الله تعالى‏{‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏{‏ بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هديهم بالحديبية وليست من الحرم‏.‏ واحتجوا من السنة {‏هديا بالغ الكعبة‏}‏المائدة‏:‏ 95 رفقا لمساكين جيران بيته، فالإطعام فيه منفعة بخلاف الصيام، والله أعلم‏.‏ وقال مالك‏:‏ يفعل ذلك أين شاء، وهو الصحيح من القول، وهو قول مجاهد‏.‏ والذبح هنا عند مالك نسك وليس بهدي لنص القرآن والسنة، والنسك يكون حيث شاء، والهدي لا يكون إلا بمكة‏.‏ ومن حجته أيضا ما رواه عن يحيى بن سعيد في موطئه، وفيه‏:‏ فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه - يعني رأس حسين - فحلق ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا‏.‏ قال مالك قال يحيى بن سعيد‏:‏ وكان حسين خرج مع عثمان في سفره ذلك إلى مكة‏.‏ ففي هذا أوضح دليل على أن فدية الأذى جائز أن تكون بغير مكة، وجائز عند مالك في الهدي إذا نحر في الحرم أن يعطاه غير أهل الحرم، لأن البغية في إطعام مساكين المسلمين‏.‏ قال مالك‏:‏ ولما جاز الصوم أن يؤتى به بغير الحرم جاز إطعام غير أهل الحرم، ثم إن قوله تعالى‏{‏فمن كان منكم مريضا‏{‏ الآية، أوضح الدلالة على ما قلناه، فإنه تعالى لما قال‏{‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏{‏ لم يقل في موضع دون موضع، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه‏.‏ وقال‏{‏أو نسك‏{‏ فسقى ما يذبح نسكا، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ولم يسمه هديا، فلا يلزمنا أن نرده قياسا على الهدي، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن علي‏.‏ وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعبا بالفدية ما كان في الحرم، فصح أن ذلك كله يكون خارج الحرم، وقد روي عن الشافعي مثل هذا في وجه بعيد‏.‏
قوله تعالى‏{‏أو نسك‏{‏ النسك‏:‏ جمع نسيكة، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى‏.‏ ويجمع أيضا على نسائك‏.‏ والنسك‏:‏ العبادة في الأصل، ومنه قوله تعالى‏{‏وأرنا مناسكنا‏}‏البقرة‏:‏ 128 أي متعبداتنا‏.‏ وقيل‏:‏ إن أصل النسك في اللغة الغسل، ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة‏.‏ وقيل‏:‏ النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها‏.‏
قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي‏}‏
قوله تعالى‏{‏فإذا أمنتم‏{‏ قيل‏:‏ معناه برأتم من المرض‏.‏ وقيل‏:‏ من خوفكم من العدو المحصر، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏ وهو أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه، كما تقدم، والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏فمن تمتع بالعمرة إلى الحج‏{‏ اختلف العلماء من المخاطب بهذا‏؟‏ فقال عبدالله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم‏:‏ الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم‏.‏ وصورة المتمتع عند ابن الزبير‏:‏ أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج، ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة، ثم يقضي الحج من قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء‏.‏ وصورة المتمتع المحصر عند غيره‏:‏ أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه‏.‏ وقال ابن عباس وجماعة‏:‏ الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله‏.‏
لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز على ما يأتي تفصيله، وأن الإفراد جائز وأن القرآن جائز، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه، بل أجازه لهم ورضيه منهم، صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما في حجته وفي الأفضل من ذلك، لاختلاف الآثار الواردة في ذلك، فقال قائلون منهم مالك‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفردا، والإفراد أفضل من القران‏.‏ قال‏:‏ والقران أفضل من التمتع‏.‏ وفي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏ {‏فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم‏}‏إبراهيم‏:‏ 37‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنما نهى عنها لأنه رأى الناس مالوا إلى التمتع ليسارته وخفته، فخشي أن يضيع الإفراد والقران وهما سنتان للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ واحتج أحمد في اختياره التمتع ‏{‏ونادى فرعون في قومه‏}‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وقال عمر بن الخطاب‏:‏ رجمنا ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أمر بالرجم‏.‏
قلت‏:‏ الأظهر في حجته عليه السلام القران، وأنه كان قارنا، لحديث عمر وأنس المذكورين‏.‏ وفي ‏"‏صحيح مسلم (1) وساق حديث جابر بن عبدالله‏:‏ قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول‏:‏ لبيك بالحج، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال كان على وجه آخر‏.‏ وذكر مجاهد ذلك الوجه، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا فرضوا الحج أولا، بل أمرهم أن يهلوا مطلقا وينتظروا ما يؤمرون به، وكذلك أهل علي باليمن‏.‏ وكذلك كان إحرام النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه {‏فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏
‏.‏ الحديث وسيأتي‏.‏ قال النحاس‏:‏ وكان هذا إجماعا‏.‏

الآية رقم (196)

قوله تعالى‏{‏تلك عشرة كاملة‏{‏

يقال‏:‏ كمل يكمل، مثل نصر ينصر‏.‏ كمل يكمل، مثل عظم يعظم‏.‏ وكمل يكمل، مثل حمد يحمد، ثلاث لغات‏.‏ واختلفوا في معنى قوله‏{‏تلك عشرة‏{‏ وقد علم أنها عشرة، فقال الزجاج‏:‏ لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع بدلا منها، لأنه لم يقل وسبعة أخرى - أزيل ذلك بالجملة من قوله ‏{‏تلك عشرة‏{‏ ثم قال‏{‏كاملة‏{‏‏.‏ وقال الحسن‏{‏كاملة‏{‏ في الثواب كمن أهدى‏.‏ وقيل‏{‏كاملة‏{‏ في البدل عن الهدي، يعني العشرة كلها بدل عن الهدي‏.‏ وقيل‏{‏كاملة‏{‏ في الثواب كمن لم يتمتع‏.‏ وقيل‏:‏ لفظها لفظ الإخبار ومعناها الأمر، أي أكملوها فذلك فرضها‏.‏ وقال المبرد‏{‏عشرة‏{‏ دلالة على انقضاء العدد، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة‏.‏ وقيل‏:‏ هو توكيد، كما تقوله‏:‏ كتبت بيدي‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏
{‏وإن أسأتم فلها‏}‏الإسراء‏:‏ 7 أي فعليها‏.‏ وذلك إشارة إلى التمتع والقران للغريب عند أبي حنيفة وأصحابه، لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم‏.‏ ومن فعل ذلك كان عليه دم جناية لا يأكل منه، لأنه ليس بدم تمتع‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لهم دم تمتع وقران‏.‏ والإشارة ترجع إلى الهدي والصيام، فلا هدي ولا صيام عليهم‏.‏ وفرق عبدالملك بن الماجشون بين التمتع والقران، فأوجب الدم في القران وأسقطه في التمتع، على ما تقدم عنه‏.‏
واختلف الناس في حاضري المسجد الحرام - بعد الإجماع على أن أهل مكة وما اتصل بها من حاضريه‏.‏ وقال الطبري‏:‏ بعد الإجماع على أهل الحرم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وليس كما قال - فقال بعض العلماء‏:‏ من كان يجب عليه الجمعة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة‏.‏ وقال مالك وأصحابه هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة‏.‏ وعند أبي حنيفة وأصحابه‏:‏ هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية، فمن كان من أهل المواقيت أو من أهل ما وراءها فهم من حاضري المسجد الحرام‏.‏ وقال الشافعي وأصحابه‏:‏ هم من لا يلزمه تقصير الصلاة من موضعه إلى مكة، وذلك أقرب المواقيت‏.‏ وعلى هذه الأقوال مذاهب السلف في تأويل الآية‏.‏
قوله تعالى‏{‏واتقوا الله‏{‏ أي فيما فرضه عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ هو أمر بالتقوى على العموم، وتحذير من شدة عقابه‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏197‏)‏

‏{‏الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب‏}‏

قوله تعالى‏{‏الحج أشهر معلومات‏{‏ لما ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏البقرة‏:‏ 196 بين اختلافهما في الوقت، فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة، ووقت العمرة‏.‏ وأما الحج فيقع في السنة مرة، فلا يكون في غير هذه الأشهر‏.‏ و‏{‏الحج أشهر معلومات‏{‏ ابتداء وخبر، وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ أشهر الحج أشهر، أو وقت الحج أشهر، أو وقت عمل الحج أشهر‏.‏ وقيل التقدير‏:‏ الحج في أشهر‏.‏ ويلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ أحد بنصبها، إلا أنه يجوز في الكلام النصب على أنه ظرف‏.‏ قال الفراء‏:‏ الأشهر رفع، لأن معناه وقت الحج أشهر معلومات‏.‏ قال الفراء‏:‏ وسمعت الكسائي يقول‏:‏ إنما الصيف شهران، وإنما الطيلسان ثلاثة أشهر‏.‏ أراد وقت الصيف، ووقت لباس الطيلسان، فحذف‏.‏ واختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري‏:‏ أشهر الحج شوال وذو العقدة وذو الحجة كله‏.‏ وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي‏:‏ هي شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة، وروي عن ابن مسعود، وقاله ابن الزبير، والقولان مرويان عن مالك، حكى الأخير ابن حبيب، والأول ابن المنذر‏.‏ وفائدة الفرق تعلق الدم، فمن قال‏:‏ إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم ير دما فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر، لأنها في أشهر الحج‏.‏ وعلى القول الأخير ينقضي الحج بيوم النحر، ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك لتأخيره عن وقته ‏.‏ لم يسم الله تعالى أشهر الحج في كتابه، لأنها كانت معلومة عندهم‏.‏ ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث، لأن بعض الشهر يتنزل منزلة كله، كما يقال‏:‏ رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان‏.‏ ولعله إنما رآه في ساعة منها، فالوقت يذكر بعضه بكله، كما {‏يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج‏}‏البقرة‏:‏ 189‏]‏ وقد تقدم القول فيها‏.‏ وما ذهب إليه الشافعي أصح، لأن تلك عامة، وهذه الآية خاصة‏.‏ ويحتمل أن يكون من باب النص على بعض أشخاص العموم، لفضل هذه الأشهر على غيرها، وعليه فيكون قول مالك صحيح، والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏فمن فرض فيهن الحج‏{‏ أي الزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالإحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا، قاله ابن حبيب وأبو حنيفة في التلبية‏.‏ وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج، وهو قول الحسن بن حي‏.‏ قال الشافعي‏:‏ تكفي النية في الإحرام بالحج‏.‏ وأوجب التلبية أهل الظاهر وغيرهم‏.‏ وأصل الفرض في اللغة‏:‏ الحز والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل‏.‏ ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الحز للقدح‏.‏ وقيل‏{‏فرض‏{‏ أي أبان، وهذا يرجع إلى القطع، لأن من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره‏.‏ و‏{‏من‏{‏ رفع بالابتداء ومعناها الشرط، والخبر قوله‏{‏فرض‏{‏، لأن ‏{‏من‏{‏ ليست بموصولة، فكأنه قال‏:‏ رجل فرض‏.‏ وقال‏{‏فيهن‏{‏ ولم يقل فيها، فقال قوم‏:‏ هما سواء في الاستعمال‏.‏ وقال المازني أبو عثمان‏:‏ الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك، تقول‏:‏ الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويؤيد ذلك قول الله تعالى‏{‏إن عدة الشهور‏}‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ ثم قال‏{‏منها‏{‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏فلا رفث‏{‏ قال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك‏:‏ الرفث الجماع، أي فلا جماع لأنه يفسده‏.‏ وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج، وعليه حج قابل والهدي‏.‏ وقال عبدالله بن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم‏:‏ الرفث الإفحاش للمرأة بالكلام، لقوله‏:‏ إذا أحللنا فعلنا بك كذا، من غير كناية، وقاله ابن عباس أيضا، وأنشد وهو محرم‏:‏
{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏البقرة‏:‏ 228 معناه‏:‏ شرعا لا حسا، فإنا نجد المطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏الواقعة‏:‏ 79‏]‏ إذا قلنا‏:‏ إنه وارد في الآدميين - وهو الصحيح - أن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع، وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا‏:‏ إن الخبر يكون بمعنى النهي، وما وجد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما مختلفان حقيقة ومتضادان وصفا‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولا فسوق‏{‏ يعني جميع المعاصي كلها، قاله ابن عباس وعطاء والحسن‏.‏ وكذلك قال ابن عمر وجماعة‏:‏ الفسوق إتيان معاصي الله عز وجل في حال إحرامه بالحج، كقتل الصيد وقص الظفر وأخذ الشعر، وشبه ذلك‏.‏ وقال ابن زيد ومالك‏:‏ الفسوق الذبح للأصنام، ومنه قوله تعالى‏{‏أو فسقا أهل لغير الله به‏}‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الفسوق التنابز بالألقاب، ومنه قوله‏{‏بئس الاسم الفسوق‏}‏الحجرات‏:‏ 11‏.‏ وقال ابن عمر أيضا‏:‏ الفسوق السباب، ومنه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏سباب المسلم فسوق وقتاله كفر‏)‏‏.‏ والقول الأول أصح، لأنه يتناول جميع الأقوال‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه‏)‏، ‏(‏والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة‏)‏‏"‏ خرجه مسلم وغيره‏"‏‏.‏ وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال‏)‏‏.‏ وقال الفقهاء‏:‏ الحج المبرور هو الذي لم يعص الله تعالى فيه أثناء أدائه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو الذي لم يعص الله سبحانه بعده، ذكر القولين ابن العربي رحمه الله‏.‏ قلت‏:‏ الحج المبرور هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه لا بعده‏.‏ قال الحسن‏:‏ الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة‏.‏ وقيل غير هذا، وسيأتي‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولا جدال في الحج‏{‏ قرئ ‏{‏فلا رفث ولا فسوق‏{‏ بالرفع والتنوين فيهما‏.‏ وقرئا بالنصب بغير تنوين‏.‏ وأجمعوا على الفتح في ‏{‏ولا جدال‏{‏، وهو يقوي قراءة النصب فيما قبله، ولأن المقصود النفي العام من الرفث والفسوق والجدال، وليكون الكلام على نظام واحد في عموم المنفي كله، وعلى النصب أكثر القراء‏.‏ والأسماء الثلاثة في موضع رفع، كل واحد مع ‏{‏لا‏{‏‏.‏ وقوله ‏{‏في الحج‏{‏ خبر عن جميعها‏.‏ ووجه قراءة الرفع أن ‏{‏لا‏{‏ بمعنى ‏{‏ليس‏{‏ فارتفع الاسم بعدها، لأنه اسمها، والخبر محذوف تقديره‏:‏ فليس رفث ولا فسوق في الحج، دل عليه ‏{‏في الحج‏{‏ الثاني الظاهر وهو خبر ‏{‏لا جدال‏{‏‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ الرفع بمعنى فلا يكونن رفث ولا فسوق، أي شيء يخرج من الحج، ثم ابتدأ النفي فقال‏:‏ ولا جدال‏.‏
قلت‏:‏ فيحتمل أن تكون كان تامة، مثل قوله‏{‏وإن كان ذو عسرة‏{‏ فلا تحتاج إلى خبر‏.‏ ويحتمل أن تكون ناقصة والخبر محذوف، كما تقدم آنفا‏.‏ ويجوز أن يرفع ‏{‏رفث وفسوق‏{‏ بالابتداء، ‏{‏ولا‏{‏ للنفي، والخبر محذوف أيضا‏.‏ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة‏.‏ ورويت عن عاصم في بعض الطرق وعليه يكون ‏{‏في الحج‏{‏ خبر الثلاثة، كما قلنا في قراءة النصب، وإنما لم يحسن أن يكون ‏{‏في الحج‏{‏ خبر عن الجميع مع اختلاف القراءة، لأن خبر ليس منصوب وخبر ‏{‏ولا جدال‏{‏ مرفوع، لأن ‏{‏ولا جدال‏{‏ مقطوع من الأول وهو في موضع رفع بالابتداء، ولا يعمل عاملان في اسم واحد‏.‏ ويجوز ‏{‏فلا رفث ولا فسوق‏{‏ تعطفه على الموضع‏.‏ وأنشد النحويون‏:‏
لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع
ويجوز في الكلام ‏{‏فلا رفث ولا فسوقا ولا جدالا في الحج‏{‏ عطفا على اللفظ على ما كان يجب في ‏{‏لا‏{‏ قال الفراء‏:‏ ومثله‏:‏
فلا أب وابنا مثل مروان وابنه إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
وقال أبو رجاء العطاردي‏{‏فلا رفث ولا فسوق‏{‏ بالنصب فيهما، ‏{‏ولا جدال‏{‏ بالرفع والتنوين‏.‏ وأنشد الأخفش‏:‏
هذا وجدكم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
وقيل‏:‏ إن معنى ‏{‏فلا رفث ولا فسوق‏{‏ النهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا‏.‏ ومعنى ‏{‏ولا جدال‏{‏ النفي، فلما اختلفا في المعنى خولف بينهما في اللفظ‏.‏ قال القشيري‏:‏ وفيه نظر، إذ قيل‏{‏ولا جدال‏{‏ نهي أيضا، أي لا تجادلوا، فلم فرق بينهما‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولا جدال‏{‏ الجدال وزنه فعال من المجادلة، وهي مشتقة من الجدل وهو الفتل، ومنه زمام مجدول‏.‏ وقيل‏:‏ هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب به الجدالة‏.‏ قال الشاعر‏:‏
قد أركب الآلة بعد الآله وأترك العاجز بالجداله
منعفرا ليست له محالة
واختلفت العلماء في المعنى المراد به هنا على أقوال ستة، فقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء‏:‏ الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه فينتهي إلى السباب، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الجدال السباب‏.‏ وقال ابن زيد ومالك بن أنس‏:‏ الجدال هنا أن يختلف الناس‏:‏ أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام، كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب، ثم يتجادلون بعد ذلك، فالمعنى على هذا التأويل‏:‏ لا جدال في مواضعه‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ الجدال هنا أن تقول طائفة‏:‏ الحج اليوم، وتقول طائفة‏:‏ الحج غدا‏.‏ وقال مجاهد وطائفة معه‏:‏ الجدال المماراة في الشهور حسب ما كانت عليه العرب من النسيء، كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة، ويقف بعضهم بجمع وبعضهم بعرفة، ويتمارون في الصواب من ذلك‏.‏
قلت‏:‏ فعلى هذين التأويلين لا جدال في وقته ولا في موضعه، وهذان القولان أصح ما قيل في تأويل قوله ‏{‏ولا جدال‏{‏،لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، وسيأتي في ‏{‏براءة‏{‏‏.‏ يعني رجع أمر الحج كما كان، أي عاد إلى يومه ووقته‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم لما حج‏:‏ ‏(‏خذوا عني مناسككم‏)‏ فبين بهذا مواقف الحج ومواضعه‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ الجدال أن تقول طائفة‏:‏ حجنا أبر من حجكم‏.‏ ويقول الآخر مثل ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ الجدال كان في الفخر بالآباء، والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏وما تفعلوا من خير يعلمه الله‏{‏ شرط وجوابه، والمعنى‏:‏ أن الله يجازيكم على أعمالكم، لأن المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء‏.‏ وقيل‏:‏ هو تحريض وحث على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجدال‏.‏ وقيل‏:‏ جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد ما نهوا عنه‏.‏
قوله تعالى‏{‏وتزودوا‏{‏ أمر باتخاذ الزاد‏.‏ قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد‏:‏ نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم‏:‏ كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمر بالزاد‏.‏ وقال عبدالله بن الزبير‏:‏ كان الناس يتكل بعضهم على بعض بالزاد، فأمروا بالزاد‏.‏ وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلة عليها زاد، وقدم عليه ثلثمائة رجل من مزينة، فلما أرادوا أن ينصرفوا قال‏:‏ ‏(‏يا عمر زود القوم‏)‏‏.‏ وقال بعض الناس‏{‏تزودوا‏{‏ الرفيق الصالح‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وهذا تخصيص ضعيف، والأولى في معنى الآية‏:‏ وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة‏.‏
قلت‏:‏ القول الأول أصح، فإن المراد الزاد المتخذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما ذكرنا، كما ‏"‏روى البخاري عن ابن عباس‏"‏قال‏:‏ كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون‏:‏ نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى‏{‏وتزودوا فإن خير الزاد التقوى‏{‏ وهذا نص فيما ذكرنا، وعليه أكثر المفسرين‏:‏ قال الشعبي‏:‏ الزاد التمر والسويق‏.‏ ابن جبير‏:‏ الكعك والسويق‏.‏ قال ابن العربي‏{‏أمر الله تعالى بالتزود لمن كان له مال، ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق أو سائلا فلا خطاب عليه، وإنما خاطب الله أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون‏:‏ نحن المتوكلون‏.‏ والتوكل له شروط، من قام بها خرج بغير زاد ولا يدخل في الخطاب، فإنه خرج على الأغلب من الخلق وهم المقصرون عن درجة التوكل الغافلون عن حقائقه، والله عز وجل أعلم‏{‏‏.‏ قال أبو الفرج الجوزي‏:‏ وقد لبس إبليس على قوم يدعون التوكل، فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل وهم على غاية الخطأ‏.‏ قال رجل لأحمد بن حنبل‏:‏ أريد أن أخرج إلى مكة على التوكل بغير زاد، فقال له أحمد‏:‏ اخرج في غير القافلة‏.‏ فقال لا، إلا معهم‏.‏ قال‏:‏ فعلى جرب الناس توكلت‏؟‏‏!‏
قوله تعالى‏{‏فإن خير الزاد التقوى‏{‏ أخبر تعالى أن خير الزاد اتقاء المنهيات فأمرهم أن يضموا إلى التزود التقوى‏.‏ وجاء قول ‏{‏فإن خير الزاد التقوى‏{‏ محمولا على المعنى، لأن معنى ‏{‏وتزودوا‏{‏ اتقوا الله في اتباع ما أمركم به من الخروج بالزاد‏:‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون المعنى‏:‏ فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة أو الحاجة إلى السؤال والتكفف‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تنبيه على أن هذه الدار ليست بدار قرار‏.‏ قال أهل الإشارات‏:‏ ذكرهم الله تعالى سفر الآخرة وحثهم على تزود التقوى، فإن التقوى زاد الآخرة‏.‏ قال الأعشى‏:‏
إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقال آخر‏:‏
الموت بحر طامح موجه تذهب فيه حيلة السابح
يا نفس إني قائل فاسمعي مقالة من مشفق ناصح
لا يصحب الإنسان في قبره غير التقى والعمل الصالح
قوله تعالى‏{‏واتقون يا أولي الألباب‏{‏ خص أولي الألباب بالخطاب - وإن كان الأمر يعم الكل - لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها‏.‏ والألباب جمع لب، ولب كل شيء‏:‏ خالصه، ولذلك قيل للعقل‏:‏ لب‏.‏ قال النحاس‏:‏ سمعت أبا إسحاق يقول قال لي أحمد بن يحيى ثعلب‏:‏ أتعرف في كلام العرب شيئا من المضاعف جاء على فعل‏؟‏ قلت نعم، حكى سيبويه عن يونس‏:‏ لببت تلب، فاستحسنه وقال‏:‏ ما أعرف له نظيرا‏.‏

الآية رقم ‏(‏198‏)‏

‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين‏}‏

قوله تعالى‏{‏جناح‏{‏ أي إثم، وهو اسم ليس‏.‏ ‏{‏أن تبتغوا‏{‏ في موضع نصب خبر ليس، أي في أن تبتغوا‏.‏ وعلى قول الخليل والكسائي أنها في موضع خفض‏.‏ ولما أمر تعالى بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال ورخص في التجارة، المعنى‏:‏ لا جناح عليكم في أن تبتغوا فضل الله‏.‏ وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة، قال الله تعالى‏{‏فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله‏}‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري ‏{‏وأرنا مناسكنا‏}‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والظاهر أن اسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع‏.‏ وعرفة هي نعمان الأراك، وفيها يقول الشاعر‏:‏
‏{‏عرفها لهم‏}‏محمد‏:‏ 6‏]‏ أي طيبها، فهي طيبة بخلاف منى التي فيها الفروث والدماء، فلذلك سميت عرفات‏.‏ ويوم الوقوف، يوم عرفة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أصل هذين الاسمين من الصبر، يقال‏:‏ رجل عارف‏.‏ إذا كان صابرا خاشعا ويقال في المثل‏:‏ النفس عروف وما حملتها تتحمل‏.‏ قال‏:‏
{‏ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب‏}‏الحج‏:‏ 32‏]‏‏.‏ قال ابن وهب في موطئه قال لي مالك‏:‏ الوقوف بعرفة على الدواب والإبل أحب إلي من أن أقف قائما، قال‏:‏ ومن وقف قائما فلا بأس أن يستريح‏.‏
ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد أنه عليه السلام ‏(‏كان إذا أفاض من عرفة يسير العنق فإذا وجد فجوة نصَّ‏)‏ قال هشام بن عروة‏:‏ والنص فوق العنق وهكذا ينبغي على أئمة الحاج فمن دونهم، لأن في استعجال السير إلى المزدلفة استعجال الصلاة بها، ومعلوم أن المغرب لا تصلى تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة، وتلك سنتها، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏
ظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل على أن عرفة كلها موقف، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف‏)‏ ‏"‏رواه مسلم‏"‏ وغيره من حديث جابر الطويل‏.‏ وفي‏"‏ موطأ مالك‏"‏ أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن مُحَسّر‏)‏‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبدالله، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث علي بن أبي طالب، وأكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة، وبطن محسر من المزدلفة، وكذلك نقلها الحفاظ الثقات الإثبات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ واختلف الفقهاء فيمن وقف بعرفة بعرنة، فقال مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه‏:‏ يهريق دما وحجه تام‏.‏ وهذه رواية رواها خالد بن نزار عن مالك‏.‏ وذكر أبو المصعب أنه كمن لم يقف وحجه فائت، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة‏.‏ وروي عن ابن عباس قال‏:‏ من أفاض من عرنة فلا حج له‏.‏ وهو قول ابن القاسم وسالم، وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشافعي، قال وبه أقول‏:‏ لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يوقف به‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ الاستثناء ببطن عرنة من عرفة لم يجىء مجيئا تلزم حجته، لا من جهة النقل ولا من جهة الإجماع‏.‏ وحجة من ذهب مذهب أبي المصعب أن الوقوف بعرفة فرض مجمع عليه في موضع معين، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف‏.‏ وبطن عرنة يقال بفتح الراء وضمها، وهو بغربي مسجد عرفة، حتى ‏(‏لقد قال بعض العلماء‏:‏ إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة‏.‏ وحكى الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل، وعرنة في الحرم‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وأما بطن محسر فذكر وكيع‏:‏ حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏أوضع في بطن مُحَسّر‏)‏
ولا بأس بالتعريف في المساجد يوم عرفة بغير عرفة، تشبيها بأهل عرفة‏.‏ روى شعبة عن قتادة عن الحسن قال‏:‏ أول من صنع ذلك ابن عباس بالبصرة‏.‏ يعني اجتماع الناس يوم عرفة في المسجد بالبصرة‏.‏ وقال موسى بن أبي عائشة‏:‏ رأيت عمر بن حريث يخطب يوم عرفة وقد اجتمع الناس إليه‏.‏ وقال الأثرم‏:‏ سألت أحمد بن حنبل عن التعريف في الأمصار، يجتمعون يوم عرفة، فقال‏:‏ أرجو ألا يكون به بأس، قد فعله غير واحد‏:‏ الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة‏.‏
في فضل يوم عرفة، يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية‏)‏‏.‏‏"‏ أخرجه الصحيح‏"‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏)‏‏.‏ و‏"‏روى الدارقطني عن عائشة‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء‏)‏‏.‏‏"‏ وفي الموطأ عن عبيدالله بن كريز‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ وما رأى يوم بدر يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ‏"‏روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد بن كريز عن أبيه، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره وليس بشيء، والصواب ما في الموطأ‏"‏ وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول‏:‏ حدثنا حاتم بن نعيم التميمي أبو روح قال حدثنا هشام بن عبدالملك أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا عبدالقاهر بن السري السلمي قال حدثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة والرحمة، وأكثر الدعاء فأجابه‏:‏ إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها‏.‏ قال‏:‏ يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم فلم يجبه تلك العشية، فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه‏:‏ إني قد غفرت لهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له‏:‏ تبسمت يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها‏؟‏ فقال‏:‏ تبسمت من عدو الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثي التراب على رأسه ويفر‏)‏‏.‏ وذكر أبو عبدالغني الحسن بن علي حدثنا عبدالرزاق حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ هذا حديث غريب من حديث مالك، وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه، وأبو عبدالغني لا أعرفه، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام‏.‏
استحب أهل العلم صوم يوم عرفة إلا بعرفة‏.‏ ‏"‏روى الأئمة واللفظ للترمذي عن ابن عباس‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة، وأرسلت إليه أم الفضل بلبن فشرب‏.‏ قال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وقد روي عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه‏)‏ والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، يستحبون الإفطار بعرفة ليتقوى به الرجل على الدعاء، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة‏.‏ وأسند عن ابن عمر مثل الحديث الأول، وزاد في آخره‏:‏ ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه، حديث حسن‏.‏ وذكره ابن المنذر‏.‏ وقال عطاء في صوم يوم عرفة‏:‏ أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف‏.‏ وقال يحيى الأنصاري‏:‏ يجب الفطر يوم عرفة‏.‏ وكان عثمان بن أبي العاصي وابن الزبير وعائشة يصومون يوم عرفة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ الفطر يوم عرفة بعرفات أحب إلي، اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصوم بغير عرفة أحب إلي، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن صوم يوم عرفة فقال‏:‏ ‏(‏يكفر السنة الماضية والباقية‏)‏‏.‏ وقد روينا عن عطاء أنه قال‏:‏ من أفطر يوم عرفة ليتقوى على الدعاء فإن له مثل أجر الصائم‏.‏
قوله تعالى‏{‏فاذكروا الله عند المشعر الحرام‏{‏ أي اذكروه بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام‏.‏ ويسمى جمعا لأنه يجمع ثم المغرب والعشاء، قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ لاجتماع آدم فيه مع حواء، وازدلف إليها، أي دنا منها، وبه سميت المزدلفة‏.‏ ويجوز أن يقال‏:‏ سميت بفعل أهلها، لأنهم يزدلفون إلى الله، أي يتقربون بالوقوف فيها‏.‏ وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة، لأنه معلم للحج والصلاة والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحج‏.‏ ووصف بالحرام لحرمته‏.‏
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا‏.‏ وأجمع أهل العلم - لا اختلاف بينهم - أن السنة أن يجمع الحاج بجمع بين المغرب والعشاء‏.‏ واختلفوا فيمن صلاها قبل أن يأتي جمعا، فقال مالك‏:‏ من وقف مع الإمام ودفع بدفعه فلا يصلي حتى يأتي المزدلفة فيجمع بينها، واستدل على ذلك بقوله لأسامة بن زيد‏:‏ ‏(‏الصلاة أمامك‏)‏‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ من صلى قبل أن يأتي المزدلفة دون عذر يعيد متى ما علم، بمنزلة من قد صلى قبل الزوال، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الصلاة أمامك‏)‏‏.‏ وبه قال أبو حنيفة‏.‏ وقال أشهب‏:‏ لا إعادة عليه، إلا أن يصليهما قبل مغيب الشفق فيعيد العشاء وحدها، وبه قال الشافعي، وهو الذي نصره القاضي أبو الحسن، واحتج له بأن هاتين صلاتان سن الجمع بينهما، فلم يكن ذلك شرطا في صحتهما، وإنما كان على معنى الاستحباب، كالجمع بين الظهر والعصر بعرفة‏.‏ واختار ابن المنذر هذا القول، وحكاه عن عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وأبي ثور ويعقوب‏.‏ وحكي عن الشافعي أنه قال‏:‏ لا يصلي حتى يأتي المزدلفة، فإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما‏.‏
ومن أسرع فأتى المزدلفة قبل مغيب الشفق فقد قال ابن حبيب‏:‏ لا صلاة لمن عجل إلى المزدلفة قبل مغيب الشفق، لا لإمام ولا غيره حتى يغيب الشفق، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الصلاة أمامك‏)‏ ثم صلاها بالمزدلفة بعد مغيب الشفق ومن جهة المعنى أن وقت هذه الصلاة بعد مغيب الشفق، فلا يجوز أن يؤتى بها قبله، ولو كان لها وقت قبل مغيب الشفق لما أخرت عنه‏.‏
وأما من أتى عرفة بعد دفع الإمام، أو كان له عذر ممن وقف مع الإمام فقد قال ابن المواز‏:‏ من وقف بعد الإمام فليصل كل صلاة لوقتها‏.‏ وقال مالك فيمن كان له عذر يمنعه أن يكون مع الإمام‏:‏ إنه يصلي إذا غاب الشفق الصلاتين يجمع بينهما‏.‏ وقال ابن القاسم فيمن وقف بعد الإمام‏:‏ إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل فليؤخر الصلاة حتى يأتي المزدلفة، وإلا صلى كل صلاة لوقتها‏.‏ فجعل ابن المواز تأخير الصلاة إلى المزدلفة لمن وقف مع الإمام دون غيره، وراعى مالك الوقت دون المكان، واعتبر ابن القاسم الوقت المختار للصلاة والمكان، فإذا خاف فوات الوقت المختار بطل اعتبار المكان، وكان مراعاة وقتها المختار أولى‏.‏

اختلف العلماء في هيئة الصلاة بالمزدلفة
على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ الأذان والإقامة‏.‏ والآخر‏:‏ هل يكون جمعهما متصلا لا يفصل بينهما بعمل، أو يجوز العمل بينهما وحط الرحال ونحو ذلك، فأما الأذان والإقامة فثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين‏.‏ أخرجه الصحيح من حديث جابر الطويل، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وابن المنذر‏.‏ وقال مالك‏:‏ يصليهما بأذانين وإقامتين، وكذلك الظهر والعصر بعرفة، إلا أن ذلك في أول وقت الظهر بإجماع‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب، وزاد ابن المنذر ابن مسعود‏.‏ ومن الحجة لمالك في هذا الباب من جهة النظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن في الصلاتين بمزدلفة وعرفة أن الوقت لهما جميعا وقت واحد، وإذا كان وقتهما واحدا وكانت كل صلاة تصلى في وقتها لم تكن واحدة منهما أولى بالأذان والإقامة من الأخرى، لأن ليس واحدة منهما تقضى، وإنما هي صلاة تصلى في وقتها، وكل صلاة صليت في وقتها سنتها أن يؤذن لها وتقام في الجماعة، وهذا بين، والله أعلم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ أما الأولى منهما فتصلى بأذان وإقامة، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة‏.‏ قالوا‏:‏ وإنما أمر عمر بالتأذين الثاني لأن الناس قد تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعهم‏.‏ قالوا‏:‏ وكذلك نقول إذا تفرق الناس عن الإمام لعشاء أو غيره، أمر المؤذنين فأذنوا ليجمعهم، وإذا أذن أقام‏.‏ قالوا‏:‏ فهذا معنى ما روي عن عمر، وذكروا حديث عبدالرحمن بن يزيد قال‏:‏ كان ابن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين، وفي طريق أخرى وصلى كل صلاة بأذان وإقامة، ذكره عبدالرزاق‏.‏ وقال آخرون‏:‏ تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شيء منهما، روي عن ابن عمر وبه قال الثوري‏.‏ وذكر عبدالرزاق وعبدالملك بن الصباح عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة‏)‏ وقال آخرون‏:‏ تصلى الصلاتان جميعا بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة‏.‏ وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هشيم عن يونس بن عبيد عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة، لم يجعل بينهما شيئا‏.‏ وروي مثل هذا مرفوعا من حديث خزيمة بن ثابت، وليس بالقوي‏.‏ وحكى الجوزجاني عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط‏.‏ وإلى هذا ذهب الطحاوي لحديث جابر، وهو القول الأول وعليه المعول‏.‏ وقال آخرون‏:‏ تصلى بإقامتين دون أذان لواحدة منهما‏.‏ وممن قال ذلك الشافعي وأصحابه وإسحاق وأحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول سالم بن عبدالله والقاسم بن محمد، واحتجوا بما ذكره عبدالرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئا‏)‏ قال أبو عمر‏:‏ والآثار عن ابن عمر في هذا القول من أثبت ما روي عنه في هذا الباب، ولكنها محتملة للتأويل، وحديث جابر لم يختلف فيه، فهو أولى، ولا مدخل في هذه المسألة للنظر، وإنما فيها الاتباع‏.‏
وأما الفصل بين الصلاتين بعمل غير الصلاة فثبت عن أسامة بن زيد ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلاها، ولم يصل بينهما شيئا‏)‏ في رواية‏:‏ ‏(‏ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا‏)‏ وقد ذكرنا آنفا عن ابن مسعود أنه كان يجعل العشاء بين الصلاتين، ففي هذا جواز الفصل بين الصلاتين بجمع‏.‏ وقد سئل مالك فيمن أتى المزدلفة‏:‏ أيبدأ بالصلاة أو يؤخر حتى يحط عن راحلته‏؟‏ فقال‏:‏ أما الرحل الخفيف فلا بأس أن يبدأ به قبل الصلاة، وأما المحامل والزوامل فلا أرى ذلك، وليبدأ بالصلاتين ثم يحط عن راحلته‏.‏ وقال أشهب في كتبه‏:‏ له حط رحله قبل الصلاة، وحطه له بعد أن يصلي المغرب أحب إلي ما لم يضطر إلى ذلك، لما بدابته من الثقل، أو لغير ذلك من العذر‏.‏ وأما التنفل بين الصلاتين فقال ابن المنذر‏:‏ ولا أعلمهم يختلفون أن من السنة ألا يتطوع بينهما الجامع بين الصلاتين وفي حديث أسامة‏:‏ ولم يصل بينهما شيئا‏.‏
وأما المبيت بالمزدلفة فليس ركنا في الحج عند الجمهور‏.‏ واختلفوا فيما يجب على من لم يبت بالمزدلفة ليلة النحر ولم يقف بجمع، فقال مالك‏:‏ من لم يبت بها فعليه دم، ومن قام بها أكثر ليله فلا شيء عليه، لأن المبيت بها ليلة النحر سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه، لا فرض، ونحوه قول عطاء والزهري وقتادة وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي فيمن لم يبت‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى، والفدية شاة‏.‏ وقال عكرمة والشعبي والنخعي والحسن البصري‏:‏ الوقوف بالمزدلفة فرض، ومن فاته جمع ولم يقف فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة‏.‏ وروي ذلك عن ابن الزبير هو قول الأوزاعي‏.‏ وروي عن الثوري مثل ذلك، والأصح عنه أن الوقوف بها سنة مؤكدة‏.‏ وقال حماد بن‏.‏ أبي سليمان‏.‏ من فاتته الإفاضة من جمع فقد فاته الحج، وليتحلل بعمرة ثم ليحج قابلا‏.‏ واحتجوا بظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقول الله تعالى‏{‏فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام‏{‏ وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أدرك جمعا فوقف مع الناس حتى يفيض فقد أدرك ومن لم يدرك ذلك فلا حج له‏)‏‏.‏ ذكره ابن المنذر‏.‏ و‏"‏روى الدارقطني عن عروة بن مضرس‏:‏‏"‏قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بجمع فقلت له‏:‏ يا رسول الله، هل لي من حج‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا حتى نفيض وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه‏)‏‏.‏ قال الشعبي‏:‏ من لم يقف بجمع جعلها عمرة‏.‏ وأجاب من احتج للجمهور بأن قال‏:‏ أما الآية فلا حجة فيها على الوجوب في الوقوف ولا المبيت، إذ ليس ذلك مذكورا فيها، وإنما فيها مجرد الذكر‏.‏ وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله أن حجه تام، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صلب الحج فشهود الموطن أولى بألا يكون كذلك‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وكذلك أجمعوا أن الشمس إذا طلعت يوم النحر فقد فات وقت الوقوف بجمع، وإن من أدرك الوقوف بها قبل طلوع الشمس فقد أدرك، ممن يقول إن ذلك فرض، ومن يقول إن ذلك سنة‏.‏ وأما حديث عروة بن مضرس فقد جاء في بعض طرقه بيان الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة، ومثلهحديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال‏:‏ شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، وأتاه ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه‏)‏ رواه النسائي قال‏:‏ أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال‏:‏ شهدت‏.‏‏.‏‏.‏، فذكره‏.‏ ورواه ابن عيينة عن بكير عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال‏:‏ شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه‏)‏‏.‏ وقوله في حديث عروة‏:‏ ‏(‏من صلى صلاتنا هذه‏)‏‏.‏ فذكر الصلاة بالمزدلفة، فقد أجمع العلماء أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصل مع الإمام حتى فاتته أن حجه تام‏.‏ فلما كان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك‏.‏ قالوا‏:‏ فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة‏.‏
قوله تعالى‏{‏واذكروه كما هداكم‏{‏ كرر الأمر تأكيدا، كما تقول‏:‏ ارم‏.‏ ارم‏.‏ وقيل‏:‏ الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام‏.‏ والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص وقيل‏:‏ المراد بالثاني تعديد النعمة وأمر بشكرها، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام فقال‏{‏وإن كنتم من قبله لمن الضالين‏{‏ والكاف في ‏{‏كما‏{‏ نعت لمصدر محذوف، و‏{‏ ما‏{‏ مصدرية أو كافة والمعنى‏:‏ اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه‏.‏ و‏{‏إن‏{‏ مخففة من الثقيلة، يدل على ذلك دخول اللام في الخبر، قال سيبويه‏.‏ الفراء‏:‏ نافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلا، كما قال‏:‏
ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما حلت عليك عقوبة الرحمن
أو بمعنى قد أي قد كنتم ثلاثة أقوال والضمير في ‏{‏قبله‏{‏ عائد إلى الهدي‏.‏ وقيل إلى القرآن، أي ما كنتم من قبل إنزاله إلا ضالين‏.‏ وإن شئت على النبي صلى الله عليه وسلم كناية عن غير مذكور، والأول أظهر والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏199‏)‏

‏{‏ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس‏{‏ قيل‏:‏ الخطاب للحمس، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم، وكانوا يقولون‏:‏ نحن قطين الله، فينبغي لنا أن نعظم الحرم، ولا نعظم شيئا من الحل، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم إن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم، ويقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة، فقيل لهم‏:‏ أفيضوا مع الجملة‏.‏ و‏{‏ثم‏{‏ ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ المخاطب بالآية جملة الأمة، والمراد بـ ‏{‏الناس‏{‏ إبراهيم عليه السلام، كما قال‏
{‏الذين قال لهم الناس‏}‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ وهو يريد واحدا‏.‏ ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة، فتجيء ‏{‏ثم‏{‏ على هذا الاحتمال على بابها، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري‏.‏ والمعنى‏:‏ أفيضوا من حيت أفاض إبراهيم من مزدلفة جمع، أي ثم أفيضوا إلى منى لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع‏.‏
قلت‏:‏ ويكون في هذا حجة لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة، للأمر بالإفاضة منها، والله أعلم والصحيح في تأويل هذه الآية من القولين القول الأول‏.‏ ‏"‏روى الترمذي {‏فنسي ولم نجد له عزما‏}‏طه‏:‏ 115‏]‏‏.‏ ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس، كالقاض والهاد‏.‏ ابن عطية‏:‏ أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه‏.‏ وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه، ومظان القبول ومساقط الرحمة‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة دون عرفة‏.‏
‏"‏روى أبو داود عن علي‏"‏قال‏:‏ فلما أصبح - يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قزح فقال‏:‏ ‏(‏هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف ونحرت ههنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم‏)‏‏.‏ فحكم الحجيج إذا دفعوا من عرفة إلى المزدلفة أن يبيتوا بها ثم يغلس بالصبح الإمام بالناس ويقفون بالمشعر الحرام‏.‏ وقزح هو الجبل الذي يقف عليه الإمام، ولا يزالون يذكرون الله ويدعون إلى قرب طلوع الشمس، ثم يدفعون قبل الطلوع، على مخالفة العرب، فإنهم كانوا يدفعون بعد الطلوع ويقولون‏:‏ أشرق ثبير، كيما نغير، أي كيما نقرب من التحلل فنتوصل إلى الإغارة‏.‏ و‏"‏روى البخاري عن عمرو بن ميمون‏"‏قال‏:‏ شهدت عمر صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال‏:‏ إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون‏:‏ أشرق ثبير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم فدفع قبل أن تطلع الشمس‏.‏ وروى ابن عيينة عن ابن جريج عن محمد بن مخرمة عن ابن طاوس عن أبيه أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، وكانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعجل هذا، أخر الدفع من عرفة، وعجل الدفع من المزدلفة مخالفا هدي المشركين‏.‏
فإذا دفعوا قبل الطلوع فحكمهم أن يدفعوا على هيئة الدفع من عرفة، وهو أن يسير الإمام بالناس سير العنق، فإذا وجد أحدهم فرجة زاد في العنق شيئا‏.‏ والعنق‏:‏ مشي للدواب معروف لا يجهل‏.‏ والنص‏:‏ فوق العنق، كالخبب أو فوق ذلك‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما وسئل‏:‏ كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة‏؟‏ قال‏:‏ كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص‏.‏ قال هشام‏:‏ والنص فوق العنق، وقد تقدم‏.‏ ويستحب له أن يحرك في بطن محسر قدر رمية بحجر، فإن لم يفعل فلا حرج، وهو من منى‏.‏ وروى الثوري وغيره عن أبي الزبير عن جابر قال‏:‏ دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وقال لهم‏:‏ ‏(‏أوضعوا في وادي محسر‏)‏ وقال لهم‏:‏ ‏(‏خذوا عني مناسككم‏)‏‏.‏ فإذا أتوا منى وذلك غدوة يوم النحر، رموا جمرة العقبة بها ضحى ركبانا إن قدروا، ولا يستحب الركوب في غيرها من الجمار، ويرمونها بسبع حصيات، كل حصاة منها مثل حصى الخذف - على ما يأتي بيانه - فإذا رموها حل لهم كل ما حرم عليهم من اللباس والتفث كله، إلا النساء والطيب والصيد عند مالك وإسحاق في رواية أبي داود الخفاف عنه‏.‏ وقال عمر بن الخطاب وابن عمر‏:‏ يحل له كل شيء إلا النساء والطيب‏.‏ ومن تطيب عند مالك بعد الرمي وقبل الإفاضة لم ير عليه فدية، لما جاء في ذلك‏.‏ ومن صاد عنده بعد أن رمى جمرة العقبة وقبل أن يفيض كان عليه الجزاء‏.‏ وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور‏:‏ يحل له كل شيء إلا النساء، وروي عن ابن عباس‏.‏
ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة، وعلى هذا أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها، وهو جائز مباح عند مالك‏.‏ والمشهور عنه قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة، على ما ذكر في موطئه عن علي، وقال‏:‏ هو الأمر عندنا‏.‏
قلت‏:‏ والأصل في هذه الجملة من السنة ما رواه مسلم عن الفضل بن عباس، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا‏:‏ ‏(‏عليكم بالسكينة‏)‏ وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا وهو من منى قال‏:‏ ‏(‏عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة‏)‏، وقال‏:‏ لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة‏.‏ في رواية‏:‏ والنبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يخذف الإنسان‏.‏ وفي البخاري عن عبدالله أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبع وقال‏:‏ هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم و‏"‏روى الدار قطني عن عائشة‏"‏قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء وحل لكم الثياب والطيب‏)‏‏.‏‏"‏ وفي البخاري عن عائشة‏"‏ قالت‏:‏ طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها‏.‏ وهذا هو التحلل الأصغر عند العلماء‏.‏ والتحلل الأكبر‏:‏ طواف الإفاضة، وهو الذي يحل النساء وجميع محظورات الإحرام وسيأتي ذكره في سورة ‏{‏الحج‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏
قوله تعالى‏{‏إن الله غفور رحيم‏{‏ أي يغفر المعاصي، فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه، ومن رحمته أنه رخص‏.‏

الآية رقم ‏(‏200‏)‏

‏{‏فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإذا قضيتم مناسككم‏{‏ قال مجاهد‏:‏ المناسك الذبائح وهراقة الدماء وقيل‏:‏ هي شعائر الحج، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏خذوا عني مناسككم‏)‏‏.‏ المعنى‏:‏ فإذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله وأثنوا عليه بآلائه عندكم‏.‏ وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف وكذلك ‏{‏ما سلككم‏{‏ لأنهما مثلان و‏{‏قضيتم‏{‏ هنا بمعنى أديتم وفرغتم، قال الله تعالى‏
{‏فإذا قضيت الصلاة‏}‏الجمعة‏:‏10‏]‏ أي أديتم الجمعة‏.‏ وقد يعبر بالقضاء عما فعل من العبادات خارج وقتها المحدود لها‏.‏
قوله تعالى‏{‏فاذكروا الله كذكركم آباءكم‏{‏ كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة، فتفاخر بالآباء، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم، وغير ذلك، حتى أن الواحد منهم ليقول‏:‏ اللهم إن أبي كان عظيم القبة، عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية هذا قول جمهور المفسرين‏.‏ وقال ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع‏:‏ معنى الآية واذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم‏:‏ أبه أمه، أي فاستغيثوا به والجؤوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم‏.‏ وقال أبو الجوزاء لابن عباس‏:‏ إن الرجل اليوم لا يذكر أباه، فما معنى الآية‏؟‏ قال‏:‏ ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما والكاف من قول ‏{‏كذكركم‏{‏ في موضع نصب، أي ذكرا كذكركم‏.‏ ‏{‏أو أشد‏{‏ قال الزجاج ‏{‏أو أشد‏{‏ في موضع خفض عطفا على ذكركم، المعنى ‏:‏ أو كأشد ذكرا، ولم ينصرف لأنه ‏{‏أفعل‏{‏ صفة، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشد‏.‏ و‏{‏ ذكرا ‏{‏نصب على البيان‏.‏
قوله تعالى‏{‏فمن الناس من يقول ربنا‏{‏ ‏{‏من‏{‏ في موضع رفع بالابتداء وإن شئت بالصفة يقول ‏{‏ربنا آتنا في الدنيا‏{‏ صلة ‏{‏من‏{‏ والمراد المشركون‏.‏ قال أبو وائل والسدي وابن زيد‏:‏ كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة، إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا إذا قصر دعواته في الدنيا، وعلى هذا فـ ‏{‏ما له في الآخرة من خلاق‏{‏ أي كخلاق الذي يسأل الآخرة والخلاق النصيب‏.‏ و‏{‏من‏{‏ زائدة وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏201‏)‏

‏{‏ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومنهم‏{‏ أي من الناس، وهم المسلمون يطلبون خير الدنيا والآخرة‏.‏ واختلف في تأويل الحسنتين على أقوال عديدة، فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الحسنة في الدنيا المرأة الحسناء، وفي الآخرة الحور العين‏.‏ ‏{‏وقنا عذاب النار‏{‏‏:‏ المرأة السوء‏.‏
قلت‏:‏ وهذا فيه بعد، ولا يصح عن علي، لأن النار حقيقة في النار المحرقة، وعبارة المرأة عن النار تجوز‏.‏ وقال قتادة‏:‏ حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال‏.‏ وقال الحسن‏:‏ حسنة الدنيا العلم والعبادة‏.‏ وقيل غير هذا‏.‏ والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعم الدنيا والآخرة‏.‏ وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن ‏{‏حسنة‏{‏ نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل‏.‏ وحسنة الآخرة‏:‏ الجنة بإجماع‏.‏ وقيل‏:‏ لم يرد حسنة واحدة، بل أراد‏:‏ أعطنا في الدنيا عطية حسنة، فحذف الاسم‏.‏
قوله تعالى‏{‏وقنا عذاب النار‏{‏ أصل ‏{‏قنا‏{‏ أو قنا حذفت الواو كما حذفت في يقي ويشي، لأنها بين ياء وكسرة، مثل يعد، هذا قول البصريين‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ حذفت فرقا بين اللازم والمتعدي‏.‏ قال محمد بن يزيد‏:‏ هذا خطأ، لأن العرب تقول‏.‏ ورم يرم، فيحذفون الواو‏.‏ والمراد بالآية الدعاء في ألا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة‏.‏ ويحتمل أن يكون دعاء مؤكدا لطلب دخول الجنة، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين، كما قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم أنا إنما أقول في دعائي‏:‏ اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حولها ندندن‏)‏‏"‏ خرجه أبو داود في سننه وابن ماجة أيضا‏"‏‏.‏
هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة‏.‏ قيل لأنس‏:‏ ادع الله لنا، فقال‏:‏ اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏.‏ قالوا‏:‏ زدنا‏.‏ قال‏:‏ ما تريدون قد سألت الدنيا والآخرة ‏"‏وفي الصحيحين عن أنس‏"‏ قال‏:‏ كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه‏.‏ وفي حديث عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول‏:‏ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏.‏ ما له هجيرى غيرها، ذكره أبو عبيد‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ بلغني أنه كان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف هذه الآية‏{‏ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏{‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن عند الركن ملكا قائما منذ خلق الله السموات والأرض يقول آمين، فقولوا‏{‏ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏{‏ وسئل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني وهو يطوف بالبيت، فقال عطاء‏:‏ حدثني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏وكل به سبعون ملكا فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ ‏"‏خرجه ابن ماجة في السنن‏"‏، وسيأتي بكماله مسندا في ‏{‏الحج‏]‏ إن شاء الله‏.‏

الآية رقم ‏(‏202‏)‏

‏{‏أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏أولئك لهم نصيب مما كسبوا‏{‏ هذا يرجع إلى الفريق الثاني فريق الإسلام، أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء، فإن دعاء المؤمن عبادة‏.‏ وقيل‏:‏ يرجع ‏{‏أولئك‏{‏ إلى الفريقين، فللمؤمن ثواب عمله ودعائه، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا، وهو مثل قوله تعالى‏{‏ولكل درجات مما عملوا‏}‏الأنعام‏:‏ 132‏]‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله سريع الحساب‏{‏ من سرع يسرع - مثل عظم يعظم - سرعا وسرعة، فهو سريع‏.‏ ‏{‏الحساب‏{‏‏:‏ مصدر كالمحاسبة، وقد يسمى المحسوب حسابا‏.‏ والحساب العد، يقال‏:‏ حسب يحسب حسابا وحسابة وحُسبانا وحِسبانا وحسبا، أي عد وأنشد ابن الأعرابي‏:‏
{‏وكفى بنا حاسبين‏}‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏، {‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏لقمان‏:‏ 28‏]‏‏.‏ قال الحسن‏:‏ حسابه أسرع من لمح البصر، وفي الخبر ‏(‏إن الله يحاسب في قدر حلب شاة‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو أنه إذا حاسب واحدا فقد حاسب جميع الخلق‏.‏ وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ كيف يحاسب الله العباد في يوم‏؟‏ قال‏:‏ كما يرزقهم في يوم‏.‏ ومعنى الحساب‏:‏ تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسو بدليل قوله تعالى‏{‏يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه‏}‏المجادلة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الآية سريع بمجيء يوم الحساب، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة‏.‏
قلت‏:‏ والكل محتمل فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة، وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا‏.‏
قال ابن عباس في قوله تعالى‏{‏أولئك لهم نصيب مما كسبوا‏{‏ هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب‏.‏وروي عنه في هذه الآية أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي‏)‏‏.‏ قال نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فدين الله أحق أن يقضى‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فهل لي من أجر‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏{‏أولئك لهم نصيب مما كسبوا‏{‏ يعني من حج عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت‏.‏ قال أبو عبدالله محمد بن خويز منداد في أحكامه‏:‏ قول ابن عباس نحو قول مالك، لأن تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، ولهذا قلنا‏:‏ لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الإسلام أو لم يحج، لأن الأعمال التي تدخلها النيابة لا يختلف حكم المستناب فيها بين أن يكون قد أدى عن نفسه أو لم يؤد، اعتبارا بأعمال الدين والدنيا‏.‏ ألا ترى أن الذي عليه زكاة أو كفارة أو غير ذلك يجوز أن يؤدي عن غيره وإن لم يؤد عن نفسه، وكذلك من لم يراع مصالحه في الدنيا يصح أن ينوب عن غيره من مثلها فتتم لغيره وإن لم تتم لنفسه، ويزوج غيره وإن لم يزوج نفسه‏.‏
 
التعديل الأخير:
الآية رقم ‏(‏203‏)‏

‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات‏}‏‏:‏ قال الكوفيون‏:‏ الألف والتاء في ‏{‏معدودات‏}‏ لأقل العدد‏.‏ وقال البصريون‏:‏ هما للقليل والكثير، بدليل قوله تعالى‏{‏وهم في الغرفات آمنون‏}‏سبأ‏:‏ 37‏]‏ والغرفات كثيرة‏.‏ ولا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى، وهي أيام التشريق، وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها، وهي أيام رمي الجمار، وهي واقعة على الثلاثة الأيام التي يتعجل الحاج منها في يومين بعد يوم النحر، فقف على ذلك‏.‏ وقال الثعلبي وقال إبراهيم‏:‏ الأيام المعدودات أيام العشر، والأيام المعلومات أيام النحر، وكذا حكى مكي والمهدوي أن الأيام المعدودات هي أيام العشر‏.‏ ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع، على ما نقله أبو عمر بن عبدالبر وغيره‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا إما أن يكون من تصحيف النسخة، وإما أن يريد العشر الذي بعد النحر، وفي ذلك بعد‏.‏
أمر الله سبحانه وتعالى عباده بذكره في الأيام المعدودات، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها، لإجماع الناس أنه لا ينفر أحد يوم النفر وهو ثاني يوم النحر، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم النفر، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات‏.‏ خرج الدارقطني والترمذي وغيرهما {‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏}‏الحج‏:‏28‏]‏ ولا خلاف أن المراد به النحر، وكان النحر في اليوم الأول وهو يوم الأضحى والثاني والثالث، ولم يكن في الرابع نحر بإجماع من علمائنا، فكان الرابع غير مراد في قوله تعالى‏{‏معلومات‏}‏ لأنه لا ينحر فيه وكان مما يرمى فيه، فصار معدودا لأجل الرمي، غير معلوم لعدم النحر فيه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والحقيقة فيه أن يوم النحر معدود بالرمي معلوم بالذبح، لكنه عند علمائنا ليس مرادا في قوله تعالى‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات‏}‏‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ ‏(‏الأيام المعلومات العشر من أول يوم من ذي الحجة، وآخرها يوم النحر‏)‏، لم يختلف قولهما في ذلك، ورويا ذلك عن ابن عباس‏.‏ وروى الطحاوي عن أبي يوسف أن الأيام المعلومات أيام النحر، قال أبو يوسف‏:‏ روي ذلك عن عمر وعلي، وإليه أذهب، لأنه تعالى قال‏{‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ‏.‏ وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة‏:‏ يوم الأضحى ويومان بعده‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات، لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف، ولا يشك أحد أن المعدودات لا تتناول أيام العشر، لأن الله تعالى يقول‏{‏فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه‏}‏ وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثالث‏.‏ وقد روي عن ابن عباس ‏(‏أن المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق‏)‏، وهو قول الجمهور‏.‏
قلت‏:‏ وقال ابن زيد‏:‏ الأيام المعلومات عشر ذي الحجة وأيام التشريق، وفيه بعد، لما ذكرناه، وظاهر الآية يدفعه‏.‏ وجعل الله الذكر في الأيام المعدودات والمعلومات يدل على خلاف قوله، فلا معنى للاشتغال به‏.‏
ولا خلاف أن المخاطب بهذا الذكر هو الحاج، خوطب بالتكبير عند رمي الجمار، وعلى ما رزق من بهيمة الأنعام في الأيام المعلومات وعند أدبار الصلوات دون تلبية، وهل يدخل غير الحاج في هذا أم لا‏؟‏ فالذي عليه فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين على أن المراد بالتكبير كل أحد - وخصوصا في أوقات الصلوات - فكبر عند انقضاء كل صلاة - كان المصلي وحده أو في جماعة - تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام، اقتداء بالسلف رضي الله عنهم‏.‏ وفي المختصر‏:‏ ولا يكبر النساء دبر الصلوات، والأول أشهر، لأنه يلزمها حكم الإحرام كالرجل، قاله في المدونة‏.‏
من نسي التكبير بإثر صلاة كبر إن كان قريبا، وإن تباعد فلا شيء عليه، قاله ابن الجلاب‏.‏ وقال مالك في المختصر‏:‏ يكبر ما دام في مجلسه، فإذا قام من مجلسه فلا شيء عليه وفي المدونة من قول مالك‏:‏ إن نسي الإمام التكبير فإن كان قريبا قعد فكبر، وإن تباعد فلا شيء عليه، وإن ذهب ولم يكبر والقوم جلوس فليكبروا‏.‏
واختلف العلماء في طرفي مدة التكبير، فقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس‏:‏ ‏(‏يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق‏)‏‏.‏ وقال ابن مسعود وأبو حنيفة‏:‏ يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر‏.‏ وخالفه صاحباه فقالا بالقول الأول، قول عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، فاتفقوا في الابتداء دون الانتهاء‏.‏ وقال مالك‏:‏ يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال الشافعي، وهو قول ابن عمر وابن عباس أيضا‏.‏ وقال زيد بن ثابت‏:‏ ‏(‏يكبر من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق‏)‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ فأما من قال‏:‏ يكبر يوم عرفة ويقطع العصر من يوم النحر فقد خرج عن الظاهر، لأن الله تعالى قال‏{‏في أيام معدودات‏}‏ وأيامها ثلاثة، وقد قال هؤلاء‏:‏ يكبر في يومين، فتركوا الظاهر لغير دليل‏.‏ وأما من قال يوم عرفة وأيام التشريق، فقال‏:‏ إنه قال‏{‏فإذا أفضتم من عرفات‏}‏البقرة‏:‏ 198‏]‏، فذكر ‏{‏عرفات‏}‏ داخل في ذكر الأيام، هذا كان يصح لو كان قال‏:‏ يكبر من المغرب يوم عرفة، لأن وقت الإفاضة حينئذ، فأما قبل فلا يقتضيه ظاهر اللفظ، ويلزمه أن يكون من يوم التروية عند الحلول بمنى‏.‏
واختلفوا في لفظ التكبير، فمشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاث تكبيرات، رواه زياد بن زياد عن مالك‏.‏ وفي المذهب رواية‏:‏ يقال بعد التكبيرات الثلاث‏:‏ لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد‏.‏ وفي المختصر عن مالك‏:‏ الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد‏.‏
قوله تعالى‏{‏فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون‏}‏‏:‏ قوله تعالى‏{‏فمن تعجل‏}‏ التعجيل أبدا لا يكون هنا إلا في آخر النهار، وكذلك اليوم الثالث، لأن الرمي في تلك الأيام إنما وقته بعد الزوال‏.‏ وأجمعوا على أن يوم النحر لا يرمى فيه غير جمرة العقبة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها، ووقتها من طلوع الشمس إلى الزوال، وكذلك أجمعوا أن وقت رمي الجمرات في أيام التشريق بعد الزوال إلى الغروب، واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر أو بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق‏:‏ جائز رميها بعد الفجر قبل طلوع الشمس‏.‏ وقال مالك‏:‏ لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد برمي قبل أن يطلع الفجر، ولا يجوز رميها قبل الفجر، فإن رماها قبل الفجر أعادها، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا يجوز رميها، وبه قال أحمد وإسحاق‏.‏ ورخصت طائفة في الرمي قبل طلوع الفجر، {‏ومنهم من يستمعون إليك‏}‏يونس‏:‏ 42‏]‏ وكذا ‏{‏ومن تأخر فلا إثم عليه‏}‏‏.‏ واللام من قوله‏{‏لمن اتقى‏}‏ متعلقة بالغفران، التقدير المغفرة لمن اتقى، وهذا على تفسير ابن مسعود وعلي‏.‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن ابن مسعود قال‏:‏ إنما جعلت المغفرة لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ التقدير ذلك لمن اتقى‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لمن اتقى يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم‏.‏ وقيل التقدير الإباحة لمن اتقى، روي هذا عن ابن عمر‏.‏ وقيل‏:‏ السلامة لمن اتقى‏.‏ وقيل‏:‏ هي متعلقة بالذكر الذي في قوله تعالى‏{‏واذكروا‏}‏ أي الذكر لمن اتقى‏.‏ وقرأ سالم بن عبدالله ‏{‏فلا إثم عليه‏}‏ بوصل الألف تخفيفا، والعرب قد تستعمله‏.‏ قال الشاعر‏:‏
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا
ثم أمر الله تعالى بالتقوى وذكر بالحشر والوقوف‏.‏

الآية رقم ‏(‏204‏)‏

‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله‏}‏ لما ذكر الذين قصرت همتهم على الدنيا - في قوله‏{‏فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا‏}‏البقرة‏:‏ 200‏]‏ - والمؤمنين الذين سألوا خير الدارين ذكر المنافقين لأنهم أظهروا الإيمان وأسروا الكفر‏.‏ قال السدي وغيره من المفسرين‏:‏ نزلت في الأخنس بن شريق، واسمه أبي، والأخنس لقب لُقب به، لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما يأتي في آل عمران بيانه‏.‏ وكان رجلا حلو القول والمنظر، فجاء بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام وقال‏:‏ الله يعلم أني صادق، ثم هرب بعد ذلك، فمر بزرع لقوم من المسلمين وبحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وفيه نزلت ‏{‏ولا تطع كل حلاف مهين‏.‏ هماز مشاء بنميم‏}‏ن‏:‏ 10 - 11‏]‏ و‏{‏ويل لكل همزة لمزة‏}‏الهمزة‏:‏ 1‏]‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ما ثبت قط أن الأخنس أسلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع‏:‏ عاصم بن ثابت، وخبيب، وغيرهم، وقالوا‏:‏ ويح هؤلاء القوم، لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم‏)‏، فنزلت هذه الآية في صفات المنافقين، ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏}‏البقرة‏:‏ 207‏.‏ وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء‏:‏ نزلت في كل مبطن كفرا أو نفاقا أو كذبا أو إضرارا، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة، وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى‏:‏ إن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، يشترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى‏:‏ أبي يغترون، وعلي يجترئون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران‏.‏ ومعنى ‏{‏ويٌشهد الله‏}‏ أي يقول‏:‏ الله يعلم أني أقول حقا‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏ويشهد الله على ما في قلبه‏}‏ بفتح الياء والهاء في ‏{‏يشهد‏}‏ ‏{‏الله‏}‏ بالرفع، والمعنى يعجبك قوله، والله يعلم منه خلاف ما قال‏.‏ دليل قوله‏{‏والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقراءة ابن عباس‏{‏والله يشهد على ما في قلبه‏}‏‏.‏ وقراءة الجماعة أبلغ في الذم، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن، ثم ظهر من باطنه خلافه‏.‏ وقرأ أبي وابن مسعود‏{‏ويستشهد الله على ما في قلبه‏}‏ وهي حجة لقراءة الجماعة‏.‏
قال علماؤنا‏:‏ وفي هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم، لأن الله تعالى بين أحوال الناس، وأن منهم من يظهر قولا جميلا وهو ينوي قبيحا‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذا يعارضه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله‏)‏ الحديث، وقوله‏:‏ ‏(‏فأقضي له على نحو ما أسمع‏)‏ فالجواب أن هذا كان في صدر الإسلام، حيث كان إسلامهم سلامتهم، وأما وقد عم الفساد فلا، قاله ابن العربي‏.‏
قلت‏:‏ والصحيح أن الظاهر يعمل عليه حتى يتبين خلافه، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صحيح البخاري‏:‏ أيها الناس، إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة‏.‏
قوله تعالى‏{‏وهو ألد الخصام‏}‏ الألد‏:‏ الشديد الخصومة، وهو رجل ألد، وامرأة لداء، وهم أهل لدد‏.‏ وقد لددت - بكسر الدال - تلد - بالفتح - لددا، أي صرت ألد‏.‏ ولددته - بفتح الدال - ألده - بضمها - إذا جادلته فغلبته‏.‏ والألد مشتق من اللديدين، وهما صفحتا العنق، أي في أي جانب أخذ من الخصومة غلب‏.‏ قال الشاعر ‏:‏
وألد ذي حنق علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل
وقال آخر‏:‏
إن تحت التراب عزما وحزما وخصيما ألد ذا مغلاق
و ‏{‏الخصام‏}‏ في الآية مصدر خاصم، قاله الخليل‏.‏ وقيل‏:‏ جمع خصم، قاله الزجاج، ككلب وكلاب، وصعب وصعاب، وضخم وضخام‏.‏ والمعنى أشد المخاصمين خصومة، أي هو ذو جدال، إذا كلمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه باطل‏.‏ وهذا يدل على أن الجدال لا يجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏205‏)‏

‏{‏وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها‏}‏ قيل‏{‏تولى وسعى‏}‏ من فعل القلب، فيجيء ‏{‏تولى‏}‏ بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه‏.‏ و‏{‏سعى‏}‏ أي سعى بحيلته وإرادته الدوائر على الإسلام وأهله، عن ابن جريج وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ هما فعل الشخص، فيجيء ‏{‏تولى‏}‏ بمعنى أدبر وذهب عنك يا محمد‏.‏ و‏{‏سعى‏}‏ أي بقدميه فقطع الطريق وأفسدها، عن ابن عباس وغيره‏.‏ وكلا السعيين فساد‏.‏ يقال‏:‏ سعى الرجل يسعى سعيا، أي عدا، وكذلك إذا عمل وكسب‏.‏ وفلان يسعى على عياله أي يعمل في نفعهم‏.‏
قوله تعالى‏{‏ويُهلك‏}‏ عطف على ليفسد‏.‏ وفي قراءة أبي ‏{‏وليهلك‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن، وقتادة ‏{‏ويهلك‏}‏ بالرفع، وفي رفعه أقوال‏:‏ يكون معطوفا على ‏{‏يعجبك‏}‏‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ هو معطوف على ‏{‏سعى‏}‏ لأن معناه يسعى ويهلك، وقال أبو إسحاق‏:‏ وهو يهلك‏.‏ وروي عن ابن كثير ‏{‏ويهلك‏}‏ بفتح الياء وضم الكاف، ‏{‏الحرث والنسل‏}‏ مرفوعان بيهلك، وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وأبي حيوة وابن محيصن، ورواه عبدالوارث عن أبي عمرو‏.‏ وقرأ قوم ‏{‏ويهلك‏}‏ بفتح الياء واللام، ورفع الحرث، لغة هَلَكَ يَهلك، مثل ركن يركن، وأبى يأبى، وسلى يسلى، وقلى يقلى، وشبهه‏.‏ والمعني في الآية الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر، قاله الطبري‏.‏ قال غيره‏:‏ ولكنها صارت عامة لجميع الناس، فمن عمل مثل علمه استوجب تلك اللعنة والعقوبة‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ إن من يقتل حمارا أو يحرق كدسا استوجب الملامة، ولحقه الشين إلى يوم القيامة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل‏.‏ وقيل‏:‏ الحرث النساء، والنسل الأولاد، وهذا لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع القتال، وفيه هلاك الخلق، قال معناه الزجاج‏.‏ والسعي في الأرض المشي بسرعة، وهذه عبارة عن إيقاع الفتنة والتضريب بين الناس، والله أعلم‏.‏
وفي الحديث‏:‏ ‏{‏إلى ربهم ينسلون‏}‏يس‏:‏ 51‏]‏، ‏{‏من كل حدب ينسلون‏}‏الأنبياء‏:‏ 96‏]‏ وقال امرؤ القيس‏:‏
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
قلت‏:‏ ودلت الآية على الحرث وزراعة الأرض، وغرسها بالأشجار حملا على الزرع، وطلب النسل، وهو‏.‏ نماء الحيوان، وبذلك يتم قوام الإنسان‏.‏ وهو يرد على من قال بترك الأسباب، وسيأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله لا يحب الفساد‏}‏ قال العباس بن الفضل‏:‏ الفساد هو الخراب‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ قطع الدراهم من الفساد في الأرض‏.‏ وقال عطاء‏:‏ إن رجلا يقال له عطاء بن منبه أحرم في جبة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزعها‏.‏ قال قتادة‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ إنا كنا نسمع أن يشقها، فقال عطاء‏:‏ إن الله لا يحب الفساد‏.‏
قلت‏:‏ والآية بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى‏.‏ قيل‏:‏ معنى لا يحب الفساد أي لا يحبه من أهل الصلاح، أولا يحبه دينا‏.‏
ويحتمل أن يكون المعنى لا يأمر به، والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏206‏)‏

‏{‏وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد‏}‏

هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب بنفسه زهوا، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في بعض هذا‏.‏ وقال عبدالله‏:‏ كفى بالمرء إثما أن يقول له أخوه‏:‏ اتق الله، فيقول‏:‏ عليك بنفسك، مثلك يوصيني‏!‏ والعزة‏:‏ القوة والغلبة، من عزه يعزه إذا غلبه‏.‏ ومنه‏{‏وعزني في الخطاب‏}‏ص ‏:‏ 23‏]‏ وقيل‏:‏ العزة هنا الحمية، ومنه قول الشاعر‏:‏
{‏بل الذين كفروا في عزة وشقاق‏}‏ص‏:‏ 2‏]‏ وقيل‏:‏ الباء في ‏{‏بالإثم‏}‏ بمعنى اللام، أي أخذته العزة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو النفاق، ومنه قول عنترة يصف عرق الناقة‏:‏
{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏ ونظيره من الكلام قولهم‏:‏
تحية بينِهم ضرب وجيع

الآية رقم ‏(‏207‏)‏

‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد‏}‏

‏{‏ابتغاء‏}‏ نصب على المفعول من أجله‏.‏ ولما ذكر صنيع المنافقين ذكر بعده صنيع المؤمنين‏.‏ قيل‏:‏ ‏{‏وشروه بثمن بخس‏}‏يوسف‏:‏ 20 أي باعوه، وأصله الاستبدال، ومنه قوله تعالى‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏}‏التوبة‏:‏ 111‏]‏‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏
وإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى شروا هذه الدنيا بجناته الخلد
وقال آخر‏:‏
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
البرد هنا اسم غلام‏.‏ وقال آخر‏:‏
يعطى بها ثمنا فيمنعها ويقول صاحبها ألا فاشر
وبيع النفس هنا هو بذلها لأوامر الله‏.‏ ‏{‏ابتغاء‏}‏ مفعول من أجله‏.‏ ووقف الكسائي على ‏{‏مرضات‏}‏ بالتاء، والباقون بالهاء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وقف الكسائي بالتاء إما على لغة من يقول‏:‏ طلحت وعلقمت، ومنه قول الشاعر‏:‏
بل جوزتيهاء كظهر الحجفت
وإما أنه لما كان هذا المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما ثبتت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد‏.‏ والمرضاة الرضا، يقال‏:‏ رضي يرضى رضا ومرضاة‏.‏ وحكى قوم أنه يقال‏:‏ شرى بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها، اللهم إلا أن يقال‏:‏ إن عرض صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله‏.‏ فيستقيم اللفظ على معنى باع‏.‏

اية رقم ‏(‏208‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين‏}‏

لما بين الله سبحانه الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق فقال‏:‏ كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه‏.‏ فالسلم هنا بمعنى الإسلام، قال مجاهد، ورواه أبو مالك عن ابن عباس‏.‏ ومنه قول الشاعر الكندي‏:‏
دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا
أي إلى الإسلام لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأشعث بن قيس الكندي، ولأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا له، وأما أن يبتدئ بها فلا، قاله الطبري‏.‏ وقيل‏:‏ أمر من آمن بأفواههم أن يدخلوا فيه بقلوبهم‏.‏ وقال طاوس ومجاهد‏:‏ ادخلوا في أمر الدين‏.‏ سفيان الثوري‏:‏ في أنواع البر كلها‏.‏ وقرئ ‏{‏السلم‏}‏ بكسر السين‏.‏
قال الكسائي‏:‏ السِّلم والسَّلم بمعنى واحد، وكذا هو عند أكثر البصريين، وهما جميعا يقعان للإسلام والمسالمة‏.‏ وفرق أبو عمرو بن العلاء بينهما، فقرأههنا‏{‏ادخلوا في السلم‏}‏ وقال هو الإسلام‏.‏ وقرأ التي في الأنفال والتي في سورة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏السلم‏}‏ بفتح السين، وقال‏:‏ هي بالفتح المسالمة‏.‏ وأنكر المبرد هذه التفرقة‏.‏ وقال عاصم الجحدري‏:‏ السلم الإسلام، والسلم الصلح، والسلم الاستسلام‏.‏ وأنكر محمد بن يزيد هذه التفريقات وقال‏:‏ اللغة لا تؤخذ هكذا، وإنما تؤخذ بالسماع لا بالقياس، ويحتاج من فرق إلى دليل‏.‏ وقد حكى البصريون‏:‏ بنو فلان سلم وسلم وسلم، بمعنى واحد‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والسلم الصلح، يفتح ويكسر، ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام والانقياد، ولذلك قيل للصلح‏:‏ سلم‏.‏ قال زهير‏:‏
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا بمال ومعروف من الأمر نسلم
ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام بما تقدم‏.‏ وقال حذيفة بن اليمان في هذه الآية‏:‏ الإسلام ثمانية أسهم، الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له في الإسلام‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏نزلت الآية في أهل الكتاب، والمعنى، يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم كافة‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن، بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار‏)‏‏.‏ و‏(‏كافة‏)‏ معناه جميعا، فهو نصب على الحال من السلم أو من ضمير المؤمنين، وهو مشتق من قولهم‏:‏ كففت أي منعت، أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام‏.‏ والكف المنع، ومنه كفة القميص - بالضم - لأنها تمنع الثوب من الانتشار، ومنه كفة الميزان - بالكسر - التي تجمع الموزون وتمنعه أن ينتشر، ومنه كف الإنسان الذي يجمع منافعه ومضاره، وكل مستدير كفة، وكل مستطيل كفة‏.‏ ورجل مكفوف البصر، أي منع عن النظر، فالجماعة تسمى كافة لامتناعهم عن التفرق‏.‏ ‏{‏ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ ‏(‏ولا تتبعوا‏)‏ نهي‏.‏ ‏(‏خطوات الشيطان‏)‏ مفعول، وقد تقدم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ استأذن عبدالله بن سلام وأصحابه بأن يقرؤوا التوراة في الصلاة، وأن يعملوا ببعض ما في التوراة، فنزلت‏.‏ ‏{‏ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ فإن اتباع السنة أولى بعد ما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من خطوات الشيطان‏.‏ وقيل‏:‏ لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان‏.‏ ‏{‏إنه لكم عدو مبين‏}‏ ظاهر العداوة، وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏209‏)‏

‏{‏فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم‏}‏

‏{‏فإن زللتم‏}‏ أي تنحيتم عن طريق الاستقامة‏.‏ وأصل الزلل في القدم، ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال‏:‏ زل يزل زلا وزللا وزلولا، أي دحضت قدمه‏.‏ وقرأ أبو السمال العدوي ‏{‏زللتم‏}‏ بكسر اللام، وهما لغتان‏.‏ وأصل الحرف، من الزلق، والمعنى ضللتم وعجتم عن الحق‏.‏ ‏{‏من بعد ما جاءتكم البينات‏}‏ أي المعجزات وآيات القرآن، إن كان الخطاب للمؤمنين، فإن كان الخطاب لأهل الكتابين فالبينات ما ورد في شرعهم من الإعلام بمحمد صلى الله عليه وسلم والتعريف به‏.‏ وفي الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع‏.‏ وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن، فأقرأه الذي كان يعلمه ‏{‏فاعلموا أن الله غفور رحيم‏}‏ فقال كعب‏:‏ إني لأستنكر أن يكون هكذا، ومر بهما رجل فقال كعب‏:‏ كيف تقرأ هذه الآية‏؟‏ فقال الرجل‏{‏فاعلموا أن الله عزيز حكيم‏}‏ فقال كعب‏:‏ هكذا ينبغي‏.‏ و‏{‏عزيز‏}‏ لا يمتنع عليه ما يريده‏.‏ ‏{‏حكيم‏}‏ فيما يفعله‏.‏

الآية رقم ‏(‏210‏)‏

‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور‏}‏

‏{‏هل ينظرون‏}‏ يعني التاركين الدخول في السلم، و‏{‏هل‏}‏ يراد به هنا الجحد، أي ما ينتظرون‏{‏إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة‏}‏‏.‏ نظرته وانتظرته بمعنى‏.‏ والنظر الانتظار‏.‏ وقرأ قتادة وأبو جعفر يزيد بن القعقاع والضحاك ‏{‏في ظلال من الغمام‏}‏‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏والملائكة‏}‏ بالخفض عطفا على الغمام، وتقديره مع الملائكة، تقول العرب‏:‏ أقبل الأمير في العسكر، أي مع العسكر‏.‏ ‏{‏ظلل‏}‏ جمع ظلة في التكسير، كظلمة وظلم وفي التسليم ظللات، وأنشد سيبوبه‏:‏
إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها سواقط من حر وقد كان أظهرا
وظلات وظلال، جمع ظل في الكثير، والقليل أظلال‏.‏ ويجوز أن يكون ظلال جمع ظلة، مثل قوله‏:‏ قلة وقلال، كما قال الشاعر‏:‏
ممزوجة بماء القلال
قال الأخفش سعيد‏:‏ و‏{‏الملائكة‏}‏ بالخفض بمعنى وفي الملائكة‏.‏ قال‏:‏ والرفع أجود، كما قال‏
{‏هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة‏}‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏، ‏{‏وجاء ربك والملك صفا صفا‏}‏الفجر‏:‏ 22‏]‏‏.‏ قال الفراء‏:‏ وفي قراءة عبدالله‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ الملائكة يعني تأتيهم لقبض أرواحهم، ويقال يوم القيامة، وهو أظهر‏.‏ قال أبو العالية والربيع‏:‏ تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتيهم الله فيما شاء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ ليس الكلام على ظاهره في حقه سبحانه، وإنما المعنى يأتيهم أمر الله وحكمه‏.‏ وقيل‏:‏ أي بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل، مثل‏{‏فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا‏}‏الحشر‏:‏ 2‏]‏ أي بخذلانه إياهم، هذا قول الزجاج، والأول قول الأخفش سعيد‏.‏ وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعا إلى الجزاء، فسمى الجزاء إتيانا كما سمى التخويف والتعذيب في قصة نمروذ إتيانا فقال‏{‏فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم‏}‏النحل‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقال في قصة النضير‏{‏فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب‏}‏، وقال‏{‏وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها‏}‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وإنما احتمل الإتيان هذه المعاني لأن أصل الإتيان عند أهل اللغة هو القصد إلى الشيء، فمعنى الآية‏:‏ هل ينظرون إلا أن يظهر الله تعالى فعلا من الأفعال مع خلق من خلقه يقصد إلى مجازاتهم ويقضي في أمرهم ما هو قاض، وكما أنه سبحانه أحدث فعلا سماه نزولا واستواء كذلك يحدث فعلا يسميه إتيانا، وأفعاله بلا آلة ولا علة، سبحانه‏!‏ وقال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ هذا من المكتوم الذي لا يفسر‏.‏ وقد سكت بعضهم عن تأويلها، وتأولها بعضهم كما ذكرنا‏.‏ وقيل‏:‏ الفاء بمعنى الباء، أي يأتيهم بظلل، ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏يأتيهم الله في صورة‏)‏ أي بصورة امتحانا لهم ولا يجوز أن يحمل هذا وما أشبهه مما جاء في القرآن والخبر على وجه الانتقال والحركة والزوال، لأن ذلك من صفات الأجرام والأجسام، تعالى الله الكبير المتعال، ذو الجلال والإكرام عن مماثلة الأجسام علوا كبيرا‏.‏ والغمام‏:‏ السحاب الرقيق الأبيض، سمي بذلك لأنه يغم، أي يستر، كما تقدم‏.‏ وقرأ معاذ بن جبل‏{‏وقضاء الأمر‏}‏‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر ‏{‏وقضي الأمور‏}‏ بالجمع‏.‏ والجمهور ‏{‏وقضي الأمر‏}‏ فالمعنى وقع الجزاء وعذب أهل العصيان‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ‏{‏ترجع الأمور‏}‏ على بناء الفعل للفاعل، وهو الأصل، دليله ‏{‏ألا إلى الله تصير الأمور‏}‏الشورى‏:‏ 53‏]‏، ‏{‏إلى الله مرجعكم‏}‏المائدة‏:‏ 48 - 105‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏ترجع‏}‏ على بنائه للمفعول، وهي أيضا قراءة حسنة، دليله ‏{‏ثم تردون‏}‏التوبة‏:‏ 94‏]‏ ‏{‏ثم ردوا إلى الله‏}‏الأنعام‏:‏ 62‏]‏، ‏{‏ولئن رددت إلى ربي‏}‏الكهف‏:‏ 36‏]‏‏.‏ والقراءتان حسنتان بمعنى، والأصل الأولى، وبناؤه للمفعول توسع وفرع، والأمور كلها راجعة إلى الله قبل وبعد‏.‏ وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا‏.‏

الآية رقم ‏(‏211‏)‏

‏{‏سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة‏}‏ ‏{‏سل‏}‏ من السؤال‏:‏ بتخفيف الهمزة، فلما تحركت السين لم يحتج إلى ألف الوصل‏.‏ وقيل‏:‏ إن للعرب في سقوط ألف الوصل في، ‏{‏سل‏}‏ وثبوتها في ‏{‏واسأل‏}‏ وجهين‏:‏
أحدهما - حذفها في إحداهما وثبوتها في الأخرى، وجاء القرآن بهما، فاتبع خط المصحف في إثباته للهمزة وإسقاطها‏.‏
والوجه الثاني - أنه يختلف إثباتها وإسقاطها باختلاف الكلام المستعمل فيه، فتحذف الهمزة في الكلام المبتدأ، مثل قوله‏{‏سل بني إسرائيل‏}‏، وقوله‏{‏سلهم أيهم بذلك زعيم‏}‏ن ‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وثبت في العطف، مثل قوله‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، ‏{‏واسألوا الله من فضله‏}‏النساء‏:‏ 32‏]‏ قاله علي بن عيسى‏.‏ وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه ‏{‏اسأل‏}‏ على الأصل‏.‏ وقرأ قوم ‏{‏اسل‏}‏ على نقل الحركة إلى السين وإبقاء ألف الوصل، على لغة من قال‏:‏ الاحمر‏.‏ و‏{‏كم‏}‏ في موضع نصب، لأنها مفعول ثان لآتيناهم‏.‏ وقيل‏:‏ بفعل مضمر، تقديره كم آتينا آتيناهم‏.‏ ولا يجوز أن يتقدمها الفعل لأن لها صدر الكلام‏.‏ ‏{‏من آية‏}‏ في موضع نصب على التمييز على التقدير الأول، وعلى الثاني مفعول ثان لآتيناهم، ويجوز أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في آتيناهم، ويصير فيه عائد على كم، تقديره‏:‏ كم آتيناهموه، ولم يعرب وهي اسم لأنها بمنزلة الحروف لما وقع فيه معنى الاستفهام، وإذا فرقت بين كم وبين الاسم كان الاختيار أن تأتي بمن كما في هذه الآية، فإن حذفتها نصبت في الاستفهام والخبر، ويجوز الخفض في الخبر كما قال الشاعر‏:‏
كم بجود مقرف نال العلا وكريم بخله قد وضعه
والمراد بالآية كم جاءهم في أمر محمد عليه السلام من آية معرفة به دالة عليه‏.‏ قال مجاهد والحسن وغيرهما‏:‏ يعني الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام من فلق البحر والظلل من الغمام والعصا واليد وغير ذلك‏.‏ وأمر الله تعالى نبيه بسؤالهم على جهة التقريع لهم والتوبيخ‏.‏
قوله تعالى‏{‏ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته‏}‏ لفظ عام لجميع العامة، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل، لكونهم بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فاللفظ منسحب على كل مبدل نعمة الله تعالى‏.‏ وقال الطبري‏:‏ النعمة هنا الإسلام، وهذا قريب من الأول‏.‏ ويدخل في اللفظ أيضا كفار قريش، فإن بعث محمد صلى الله عليه وسلم فيهم نعمة عليهم، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفرا‏.‏
قوله تعالى‏{‏فإن الله شديد العقاب‏}‏ خبر يتضمن الوعيد‏.‏ والعقاب مأخوذ من العقب، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر‏.‏ فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب، وقد عاقبه بذنبه‏.‏

الآية رقم ‏(‏212‏)‏

‏{‏زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏زين للذين كفروا الحياة الدنيا‏}‏ على ما لم يسم فاعله‏.‏ والمراد رؤساء قريش‏.‏ وقرأ مجاهد وحميد بن قيس على بناء الفاعل‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهي قراءة شاذة، لأنه لم يتقدم للفاعل ذكر‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏{‏زينت‏}‏ بإظهار العلامة، وجاز ذلك لكون التأنيث غير حقيقي، والمزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه‏.‏ وخص الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة، وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها‏.‏ وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها‏.‏ وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال‏:‏ اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا‏.‏
قوله تعالى‏{‏ويسخرون من الذين آمنوا‏}‏ إشارة إلى كفار قريش، فإنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها، ويسخرون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ في طلبهم الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ لفقرهم وإقلالهم، كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم، رضي الله عنهم، فنبه سبحانه على خفض منزلتهم لقبيح فعلهم بقوله‏{‏والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة‏}‏‏.‏{‏ليتخذ بعضهم بعضا سخريا‏}‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏ وقوله‏{‏فاتخذتموهم سخريا‏}‏المؤمنون‏:‏ 110‏]‏‏.‏ ورجل سخرة‏.‏ يسخر منه، وسخرة - بفتح الخاء - يسخر من الناس‏.‏ وفلان سخرة يتسخر في العمل، يقال‏:‏ خادمه سخرة، وسخره تسخيرا كلفه عملا بلا أجرة‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ قال الضحاك‏:‏ يعني من غير تبعة في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ هو إشارة إلى هؤلاء المستضعفين، أي يرزقهم علو المنزلة، فالآية تنبيه على عظيم النعمة عليهم‏.‏ وجعل رزقهم بغير حساب من حيث هو دائم لا يتناهى، فهو لا ينعد‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏{‏بغير حساب‏}‏ صفة لرزق الله تعالى كيف يصرف، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد، ففضله كله بغير حساب، والذي بحساب ما كان على عمل قدمه العبد، قال الله تعالى‏{‏جزاء من ربك عطاء حسابا‏}‏النبأ‏:‏ 36‏]‏‏.‏ والله أعلم‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى بغير احتساب من المرزوقين، كما قال‏{‏ويرزقه من حيث لا يحتسب‏}‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏213‏)‏

‏{‏كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ أي على دين واحد‏.‏ قال أبي بن كعب، وابن زيد‏:‏ المراد بالناس بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم فأقروا له بالوحدانية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الناس آدم وحده، وسمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل‏.‏ وقيل‏:‏ آدم وحواء‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ ‏(‏المراد بالناس القرون التي كانت بين آدم ونوح، وهي عشرة كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله نوحا فمن بعده‏)‏‏.‏ وقال ابن أبي خيثمة‏:‏ منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ أكثر من ذلك، وكان بينه وبين نوح ألف سنة ومائتا سنة‏.‏ وعاش آدم تسعمائة وستين سنة، وكان الناس في زمانه أهل ملة واحدة، متمسكين بالدين، تصافحهم الملائكة، وداموا على ذلك إلى أن رفع إدريس عليه السلام فاختلفوا‏.‏ وهذا فيه نظر، لأن إدريس بعد نوح على الصحيح‏.‏ وقال قوم منهم الكلبي الواقدي‏:‏ المراد نوح ومن في السفينة، وكانوا مسلمين ثم بعد وفاة نوح اختلفوا‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏كانوا أمة واحدة على الكفر، يريد في مدة نوح حين بعثه الله‏)‏‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة، كلهم كفار، وولد إبراهيم في جاهلية، فبعث الله تعالى إبراهيم وغيره من النبيين‏.‏ فـ ‏{‏كان‏}‏ على هذه الأقوال على بابها من المضي المنقضي‏.‏ وكل من قدر الناس في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا فبعث، ودل على هذا الحذف‏{‏وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه‏}‏ أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين، مبشرين من أطاع ومنذرين من عصى‏.‏ وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة النبيين إليهم‏.‏ ويحتمل أن تكون ‏{‏كان‏}‏ للثبوت، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا من الله عليهم، وتفضله بالرسل إليهم‏.‏ فلا يختص ‏{‏كان‏}‏ على هذا التأويل بالمضي فقط، بل معناه معنى قوله‏{‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏النساء‏:‏ 96، 100، 152‏]‏‏.‏ و‏{‏أمة‏}‏ مأخوذة من قولهم‏:‏ أممت كذا، أي قصدته، فمعنى ‏{‏أمة‏}‏ مقصدهم واحد، ويقال للواحد‏:‏ أمة، أي مقصده غير مقصد الناس، {‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق‏}‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أي ليحكم كل نبي بكتابه، وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتاب‏.‏ وقراءة عاصم الجحدري ‏{‏ليحكم بين الناس‏}‏ على ما لم يسم فاعله، وهي قراءة شاذة، لأنه قد تقدم ذكر الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ليحكم الله، والضمير في ‏{‏فيه‏}‏ عائد على ‏{‏ما‏}‏ من قوله‏{‏فيما‏}‏ والضمير في ‏{‏فيه‏}‏ الثانية يحتمل أن يعود على الكتاب، أي وما اختلف في الكتاب إلا الذين أوتوه‏.‏ موضع ‏{‏الذين‏}‏ رفع بفعلهم‏.‏ و‏{‏أتوه‏}‏ بمعنى أعطوه‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على المنزل عليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج‏.‏ أي وما اختلف في النبي عليه السلام إلا الذين أعطوا علمه‏.‏ ‏{‏بغيا بينهم‏}‏ نصب على المفعول له، أي لم يختلفوا إلا للبغي، وقد تقدم معناه‏.‏ وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم، والقبح الذي واقعوه‏.‏ و‏{‏هدى‏}‏ معناه أرشد، أي فهدى الله أمة محمد إلى الحق بأن بين لهم ما اختلف فيه من كان قبلهم‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ معنى الآية أن الأمم كذب بعضهم كتاب بعض، فهدى الله تعالى أمة محمد للتصديق بجميعها‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين، من قولهم‏:‏ إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا‏.‏ وقال ابن زيد وزيد بن أسلم‏:‏ من قبلتهم، فإن اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق، ومن يوم الجمعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غد وللنصارى بعد غد‏)‏ ومن صيامهم، ومن جميع ما اختلفوا فيه‏.‏
وقال ابن زيد‏:‏ واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود لفرية، وجعلته النصارى ربا، فهدى الله المؤمنين بأن جعلوه عبدا لله‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو من المقلوب - واختاره الطبري - قال‏:‏ وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق لما اختلفوا فيه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه، وعساه غير الحق في نفسه، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء، وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه، لأن قوله‏{‏فهدى‏}‏ يقتضي أنهم أصابوا الحق وتم المعنى في قوله‏{‏فيه‏}‏ وتبين بقوله‏{‏من الحق‏}‏ جنس ما وقع الخلاف فيه، قال المهدوي‏:‏ وقدم لفظ الاختلاف على لفظ الحق اهتماما، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وليس هذا عندي بقوي‏.‏ وفي قراءة عبدالله بن مسعود ‏{‏لما اختلفوا عنه من الحق‏}‏ أي عن الإسلام‏.‏ و‏{‏بإذنه‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه بعلمه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا غلط، والمعنى بأمره، وإذا أذنت في الشيء فقد أمرت به، أي فهدى الله الذين آمنوا بأن أمرهم بما يجب أن يستعملوه‏.‏ وفي قوله‏{‏والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏ رد على المعتزلة في قولهم‏:‏ إن العبد يستبد بهداية نفسه‏.‏

الآية رقم ‏(‏214‏)‏

‏{‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب‏}‏

قوله تعالى‏{‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة‏}‏ ‏{‏حسبتم‏}‏ معناه ظننتم‏.‏ قال قتادة والسدي وأكثر المفسرين‏:‏ نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الشدائد، وكان كما قال الله تعالى‏{‏وبلغت القلوب الحناجر‏}‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في حرب أحد، نظيرها - في آل عمران - ‏{‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم‏}‏آل عمران‏:‏ 142‏]‏‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ نزلت الآية تسلية للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم ‏{‏أم حسبتم‏}‏‏.‏ و‏{‏أم‏}‏ هنا منقطعة، بمعنى بل، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة ألف الاستفهام ليبتدأ بها، و‏{‏حسبتم‏}‏ تطلب مفعولين، فقال النحاة‏{‏أن تدخلوا‏}‏ تسد مسد المفعولين‏.‏ وقيل‏:‏ المفعول الثاني محذوف‏:‏ أحسبتم دخولكم الجنة واقعا‏.‏ و‏{‏لما‏}‏ بمعنى لم‏.‏ و‏{‏مثل‏}‏ معناه شبه، أي ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم فتصبروا كما صبروا‏.‏ وحكى النضر بن شميل أن ‏{‏مثل‏}‏ يكون بمعنى صفة، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ ولما يصبكم مثل الذي أصاب الذين من قبلكم، أي من البلاء‏.‏ قال وهب‏:‏ وجد فيما بين مكة والطائف سبعون نبيا موتى، كان سبب موتهم الجوع والقمل، ونظير هذه الآية ‏{‏الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم‏}‏العنكبوت‏:‏ 1 - 2 - 3‏]‏ على ما يأتي، فاستدعاهم تعالى إلى الصبر، ووعدهم على ذلك بالنصر فقال‏{‏ألا إن نصر الله قريب‏}‏‏.‏ والزلزلة‏:‏ شدة التحريك، تكون في الأشخاص وفي الأحوال، يقال‏:‏ زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالا - بالكسر - فتزلزلت إذا تحركت واضطربت، فمعنى ‏{‏زلزلوا‏{‏ خوفوا وحركوا‏.‏ والزلزال - بالفتح - الاسم‏.‏ والزلازل‏:‏ الشدائد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أصل الزلزلة من زل الشيء عن مكانه، فإذا قلت‏:‏ زلزلته فمعناه كررت زلله من مكانه‏.‏ ومذهب سيبويه أن زلزل رباعي كدحرج‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏حتى يقول‏}‏ بالرفع، والباقون بالنصب‏.‏ ومذهب سيبويه في ‏{‏حتى‏}‏ أن النصب فيما بعدها من جهتين والرفع من جهتين، تقول‏:‏ سرت حتى أدخل المدينة - بالنصب - على أن السير والدخول جميعا قد مضيا، أي سرت إلى أن أدخلها، وهذه غاية، وعليه قراءة من قرأ بالنصب‏.‏ والوجه الآخر في النصب في غير الآية سرت حتى أدخلها، أي كي أدخلها‏.‏ والوجهان في الرفع سرت حتى أدخلها، أي سرت فأدخلها، وقد مضيا جميعا، أي كنت سرت فدخلت‏.‏ ولا تعمل حتى ههنا بإضمار أن، لأن بعدها جملة، كما قال الفرزدق‏:‏
{‏إن رحمة الله قريب من المحسنين‏}‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وقال الشاعر‏:‏
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم قريب ولا بسباسة بنة يشكرا
فإن قلت‏:‏ فلان قريب لي ثنيت وجمعت، فقلت‏:‏ قريبون وأقرباء وقرباء‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏222‏)‏

‏{‏ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويسألونك عن المحيض‏}‏ ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح - وقيل‏:‏ أسيد بن حضير وعباد بن بشر، وهو قول الأكثرين‏.‏ وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره‏:‏ أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كانوا يتجنبون النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض، فنزلت‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أنس‏:‏ أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى‏{‏ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏ إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اصنعوا كل شيء إلا النكاح‏)‏ فبلغ ذلك اليهود، فقالوا‏:‏ ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا‏:‏ يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن‏؟‏ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لَبَنٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض، فأمر الله بالقصد بين هذين‏.‏
قوله تعالى‏{‏عن المحيض‏}‏ المحيض‏:‏ الحيض وهو مصدر، يقال‏:‏ حاضت المرأة حيضا ومحاضا ومحيضا، فهي حائض، وحائضة أيضا، عن الفراء وأنشد‏:‏
كحائضة يزنى بها غير طاهر
ونساء حيض وحوائض‏.‏ والحيضة‏:‏ المرة الواحدة‏.‏ والحيضة ‏(‏بالكسر‏)‏ الاسم، والجمع الحيض‏.‏ والحيضة أيضا‏:‏ الخرقة التي تستثفر بها المرأة‏.‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ليتني كنت حيضة ملقاة‏.‏ وكذلك المحيضة، والجمع المحائض‏.‏ وقيل‏:‏ المحيض عبارة عن الزمان والمكان، وعن الحيض نفسه، وأصله في الزمان والمكان مجاز في الحيض‏.‏ وقال الطبري‏:‏ المحيض اسم للحيض، ومثله قول رؤبة في العيش‏:‏
إليك أشكو شدة المعيش ومر أعوام نتفن ريشي
وأصل الكلمة من السيلان والانفجار، يقال‏:‏ حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة أي سالت رطوبتها، ومنه الحيض أي الحوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو، لأنهما من حيز واحد‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ المحيض والحيض اجتماع الدم إلى ذلك الموضع، وبه سمي الحوض لاجتماع الماء فيه، يقال‏:‏ حاضت المرأة وتحيضت، ودرست وعركت، وطمثت، تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا إذا سال الدم منها في أوقات معلومة‏.‏ فإذا سال في غير أيام معلومة، ومن غير عرق المحيض قلت‏:‏ استحيضت، فهي مستحاضة‏.‏ ابن العربي‏:‏ ولها ثمانية ابن العربي‏.‏ ولها ثمانية أسماء‏:‏ الأول‏:‏ حائض‏.‏ الثاني‏:‏ عارك‏.‏ الثالث‏:‏ فارك‏.‏ الرابع‏:‏ طامس‏.‏ الخامس‏:‏ دارس‏.‏ السادس‏:‏ كابر‏.‏ السابع‏:‏ ضاحك‏.‏ الثامن‏:‏ طامث‏.‏ قال مجاهد في قوله تعالى‏{‏فضحكت‏}‏ يعني حاضت‏.‏ وقيل في قوله تعالى
{‏فلما رأينه أكبرنه‏}‏يوسف‏:‏ 31‏]‏ يعني حضن‏.‏ وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏
أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر السائل من فرجها، فمن ذلك الحيض المعروف، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة، تترك له الصلاة والصوم، لا خلاف في ذلك‏.‏ وقد يتصل وينقطع، فإن اتصل فالحكم ثابت له، وإن انقطع فرأت الدم يوما والطهر يوما، أو رأت الدم يومين والطهر يومين أو يوما فإنها تترك الصلاة في أيام الدم، وتغتسل عند انقطاعه وتصلي، ثم تلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر المتخللة لها، ولا تحتسب بها طهرا في عدة ولا استبراء‏.‏ والحيض خلقة في النساء، وطبع معتاد معروف منهن‏.‏‏"‏روى البخاري {‏لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏البقرة‏:‏ 264‏]‏ أي بما تسمعه من المكروه‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏ودع أذاهم‏}‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏ أي دع أذى المنافقين لا تجازهم إلا أن تؤمر فيهم، وفي الحديث‏:‏ {‏ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر‏}‏النساء‏:‏ 102‏]‏ وسيأتي‏.‏
استدل من منع وطء المستحاضة بسيلان دم الاستحاضة، فقالوا‏:‏ كل دم فهو أذى، يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والاستحاضة لأنه كله رجس‏.‏ وأما الصلاة فرخصة وردت بها السنة كما يصلى بسلس البول، هذا قول إبراهيم النخعي وسليمان بن يسار والحكم بن عيينة وعامر الشعبي وابن سيرين والزهري‏.‏ واختلف فيه عن الحسن، وهو قول عائشة‏:‏ لا يأتيها زوجها، وبه قال ابن علية والمغيرة بن عبدالرحمن، وكان من أعلى أصحاب مالك، وأبو مصعب، وبه كان يفتي‏.‏ وقال جمهور العلماء‏:‏ المستحاضة تصوم وتصلي وتطوف وتقرأ، ويأتيها زوجها‏.‏ قال مالك‏:‏ أمر أهل الفقه والعلم على هذا، وإن كان دمها كثيرا، رواه عنه ابن وهب‏.‏ وكان أحمد يقول‏:‏ أحب إلي ألا يطأها إلا أن يطول ذلك بها‏.‏ وعن ابن عباس في المستحاضة‏:‏ ‏(‏لا بأس أن يصيبها زوجها وإن كان الدم يسيل على عقبيها‏)‏‏.‏ وقال مالك‏:‏{‏وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح‏}‏النساء‏:‏ 6‏]‏ الآية، فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين‏:‏ أحدهما‏:‏ بلوغ المكلف النكاح‏.‏ والثاني‏:‏ إيناس الرشد، وكذلك قوله تعالى في المطلقة‏{‏فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏البقرة‏:‏ 230‏]‏ ثم جاءت السنة باشتراط العسيلة، فوقف التحليل على الأمرين جميعا، وهو انعقاد النكاح ووجود الوطء‏.‏ احتج أبو حنيفة فقال‏:‏ إن معنى الآية، الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله‏{‏حتى يطهرن‏}‏ مخففا هو بمعنى قوله‏{‏يطهرن‏}‏ مشددا بعينه، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية، كما قال تعالى‏{‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين‏}‏التوبة‏:‏ 108‏]‏‏.‏ قال الكميت‏:‏
‏{‏ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله‏.‏ في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ وهو الحيض والحمل، وإنما خاطب الله عز وجل بذلك المؤمنات، وقال‏{‏لا إكراه في الدين‏}‏البقرة‏:‏ 256‏]‏ وبهذا كان يقول محمود بن عبدالحكم‏.‏
وصفة غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة، وليس عليها نقض شعرها في ذلك، لما رواه مسلم {‏أروني ماذا خلقوا من الأرض‏}‏فاطر‏:‏ 40‏]‏ أي في الأرض،‏:‏ وقوله‏{‏إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة‏}‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ أي في يوم الجمعة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى، أي من الوجه الذي أذن لكم فيه، أي من غير صوم وإحرام واعتكاف، قاله الأصم‏.‏ وقال ابن عباس وأبو رزين‏:‏ ‏(‏من قبل الطهر لا من قبل الحيض‏)‏، وقاله الضحاك‏.‏ وقال محمد بن الحنفية‏:‏ المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنى‏.‏
قوله تعالى‏{‏إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين‏}‏ اختلف فيه، فقيل‏:‏ التوابون من الذنوب والشرك‏.‏ والمتطهرون أي بالماء من الجنابة والأحداث، قاله عطاء وغيره‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من الذنوب، وعنه أيضا‏:‏ من إتيان النساء في أدبارهن‏.‏ ابن عطية‏:‏ كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط‏{‏أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون‏}‏الأعراف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المتطهرون الذين لم يذنبوا‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب، قيل‏:‏ قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه، كما ذكر في آية أخرى‏{‏فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات‏}‏الملائكة‏:‏ 32‏]‏ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏223‏)‏

‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏‏"‏روى الأئمة واللفظ للمسلم {‏أتأتون الذكران من العالمين‏.‏ وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم‏}‏الشعراء‏:‏ 166‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم، ولو لم يبح مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك، وليس المباح من الموضع الآخر مثلا له، حتى يقال‏:‏ تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح‏.‏ قال الكيا‏:‏ وهذا فيه نظر، إذ معناه‏:‏ وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتك، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا، فيجوز التوبيخ على هذا المعنى‏.‏ وفي قوله تعالى‏{‏فإذا تطهرن فأتوا من حيث أمركم الله‏}‏ مع قوله‏{‏فأتوا حرثكم‏}‏ ما يدل على أن في المأتى اختصاصا، وأنه مقصور على موضع الولد‏.‏
قلت‏:‏ هذا هو الحق في المسألة‏.‏ وقد ذكر أبو عمر بن عبدالبر أن العلماء لم اختلفوا في الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيب ترد به، إلا شيئا جاء عن عمر بن عبدالعزيز من وجه ليس بالقوي أنه لا ترد الرتقاء ولا غيرها، والفقهاء كلهم على خلاف ذلك، لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح، وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء، ولو كان موضعا للوطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج‏.‏ وفي إجماعهم أيضا على أن العقيم التي لا تلد لا ترد‏.‏ والصحيح في هذه المسألة ما بيناه‏.‏ وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرؤون من ذلك، لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث، لقوله تعالى‏{‏فأتوا حرثكم‏}‏، ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل، فغير موضع النسل لا يناله ملك النكاح، وهذا هو الحق‏.‏ وقد قال أصحاب أبي حنيفة‏:‏ إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم، ولأن القذر والأذى في موضع النجو أكثر من دم الحيض، فكان أشنع‏.‏ وأما صمام البول فغير صمام الرحم‏.‏ وقال ابن العربي في قبسه‏:‏ قال لنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه‏:‏ الفرج أشبه شيء بخمسة وثلاثين، وأخرج يده عاقدا بها‏.‏ وقال‏:‏ مسلك البول ما تحت الثلاثين، ومسلك الذكر والفرج ما اشتملت عليه الخمسة، وقد حرم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة‏.‏ فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة‏.‏ وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال‏:‏ كذبوا علي، كذبوا علي، كذبوا علي‏!‏ ثم قال‏:‏ ألستم قوما عربا‏؟‏ ألم يقل الله تعالى‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت‏!‏ وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل‏{‏أنى شئتم‏}‏ شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها، إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم‏.‏ وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه تحريم المحل المكروه ‏.‏ ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه ‏(‏إظهار إدبار، من أجاز الوطء في الأدبار‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه‏.‏ وقد حذرنا من زلة العالم‏.‏ وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به رضي الله عنه‏.‏ وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي، وقد تقدم‏.‏ وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه‏.‏ وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال‏:‏ قلت لابن عمر‏:‏ ما تقول في الجواري حين أحمض بهن‏؟‏ قال‏:‏ وما التحميض‏؟‏ فذكرت له الدبر، فقال‏:‏ هل يفعل ذلك أحد من المسلمين‏!‏ وأسند {‏وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله‏}‏البقرة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالمعنى قدموا لأنفسكم الطاعة والعمل الصالح‏.‏ وقيل ابتغاء الولد والنسل، لأن الولد خير الدنيا والآخرة، فقد يكون شفيعا وجنة‏.‏ وقيل‏:‏ هو التزوج بالعفائف، ليكون الولد صالحا طاهرا‏.‏ وقيل‏:‏ هو تقدم الإفراط،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم‏)‏ الحديث‏.‏ وسيأتي في مريم إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال ابن عباس وعطاء‏:‏ أي قدموا ذكر الله عند الجماع، كما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره شيطان أبدا‏)‏‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏واتقوا الله‏}‏ تحذير ‏{‏واعلموا أنكم ملاقوه‏}‏ خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم‏.‏وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال‏:‏ سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول‏:‏ ‏(‏إنكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا‏)‏ - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏{‏واتقوا الله وأعلموا أنكم ملاقوه‏}‏‏.‏‏"‏ أخرجه مسلم بمعناه‏"‏‏.‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ تأنيس لفاعل البر ومبتغي سنن الهدى‏.‏

الآية رقم ‏(‏224‏)‏

‏{‏ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم‏}‏

قال العلماء‏:‏ لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة قال‏:‏ لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعللا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا، قال معناه ابن عباس والنخعي ومجاهد والربيع وغيرهم‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ ‏(‏هو الرجل يحلف ألا يبر ولا يصل ولا يصلح بين الناس، فيقال له‏:‏ بر، فيقول‏:‏ قد حلفت‏)‏‏.‏ وقال بعض المتأولين‏:‏ المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير ‏{‏لا‏}‏ بعد ‏{‏أن‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تستكثروا من اليمين بالله فإنه أهيب للقلوب، ولهذا قال تعالى‏{‏واحفظوا أيمانكم‏}‏المائدة‏:‏ 89‏]‏‏.‏ وذم من كثر اليمين فقال تعالى‏{‏ولا تطع كل حلاف مهين‏}‏القلم‏:‏ 10‏]‏‏.‏ والعرب تمتدح بقلة الأيمان، حتى قال قائلهم‏:‏
{‏طاعة وقول معروف‏}‏محمد‏:‏ 21‏]‏ عن الزجاج والنحاس‏.‏ وقيل‏:‏ محله النصب، أي لا تمنعكم اليمين بالله عز وجل البر والتقوى والإصلاح، عن الزجاج أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ مفعول من أجله‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ألا تبروا، فحذف ‏{‏لا‏}‏، كقوله تعالى‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏النساء‏:‏ 176‏]‏ أي لئلا تضلوا، قاله الطبري والنحاس‏.‏ ووجه رابع من وجوه النصب‏:‏ كراهة أن تبروا، ثم حذفت، ذكره النحاس والمهدوي‏.‏ وقيل‏:‏ هو في موضع خفض على قول الخليل والكسائي، التقدير‏:‏ في أن تبروا، فأضمرت ‏{‏في‏}‏ وخفضت بها‏.‏ و‏{‏سميع‏}‏ أي لأقوال العباد‏.‏ ‏{‏عليم‏}‏ بنياتهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏225‏)‏

‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏باللغو‏}‏ اللغو‏:‏ مصدر لغا يلغو ويلغى، ولغي يلغى لغا إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بما يلغى إثمه، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت‏)‏‏.‏ ولغة أبي هريرة ‏{‏فقد لغيت‏}‏ وقال الشاعر‏:‏
ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
وقال آخر‏:‏
ولست بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم
واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو، فقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة‏:‏ لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين‏)‏‏.‏ قال المروزي‏:‏ لغو اليمين التي اتفق العلماء على أنها لغو هو قول الرجل‏:‏ لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدها‏.‏ وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن عروة حدثه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ ‏(‏أيمان اللغو ما كانت في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب‏)‏‏.‏ وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ نزل قوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ في قول الرجل‏:‏ لا والله، وبلى والله‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ اللغو ما يحلف به على الظن، فيكون بخلافه، قاله مالك، حكاه ابن القاسم عنه، وقال به جماعة من السلف‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ ‏(‏إذا حلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه، فإذا ليس هو، فهو اللغو، وليس فيه كفارة‏)‏، ونحوه عن ابن عباس‏.‏ وروي‏:‏ أن قوما تراجعوا القول عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرمون بحضرته، فحلف أحدهم لقد أصبت وأخطأت يا فلان، فإذا الأمر بخلاف ذلك، فقال الرجل‏:‏ حنث يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيمان الرماة لغو لا حنث فيها ولا كفارة‏)‏‏.‏ وفي الموطأ قال مالك‏:‏ أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه، فلا كفارة فيه‏.‏ والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أن فيه آثم كاذب ليرضي به أحدا، أو يعتذر لمخلوق، أو يقتطع به مالا، فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة، وإنما الكفارة على من حلف ألا يفعل الشيء المباح له فعله ثم يفعله، أو أن يفعله ثم لا يفعله، مثل إن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيعه بمثل ذلك، أو حلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه‏.‏ وروى عن ابن عباس - إن صح عنه - قال‏:‏ ‏(‏لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان‏)‏، وقاله طاوس‏.‏ وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يمين في غضب‏)‏ أخرجه مسلم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو تحريم الحلال، فيقول‏:‏ مالي علي حرام إن فعلت كذا، والحلال علي حرام، وقاله مكحول الدمشقي، ومالك أيضا، إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه‏.‏ وقيل‏:‏ هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبدالرحمن وعروة وعبدالله ابنا الزبير، كالذي يقسم ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم فبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه، وحجتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها‏)‏ أخرجه ابن ماجة في سننه، وسيأتي في المائدة أيضا‏.‏ وقال زيد بن أسلم لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه‏:‏ أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغية إن فعل كذا‏.‏ مجاهد‏:‏ هما الرجلان يتبايعان فيقول أحدهما‏:‏ والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر، والله لا أشتريه بكذا‏.‏ النخعي‏:‏ هو الرجل يحلف ألا يفعل الشيء ثم ينسى فيفعله‏.‏ وقال ابن عباس أيضا والضحاك‏:‏ ‏(‏إن لغو اليمين هي المكفرة، أي إذا كفرت اليمين سقطت وصارت لغوا، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير‏)‏‏.‏ وحكى ابن عبدالبر قولا‏:‏ أن اللغو أيمان المكره‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ أما اليمين مع النسيان فلا شك في إلغائها‏.‏ لأنها جاءت على خلاف قصده، فهي لغو محض‏.‏
قلت‏:‏ ويمين المكره بمثابتها‏.‏ وسيأتي حكم من حلف مكرها في النحل إن شاء الله تعالى‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وأما من قال إنه يمين المعصية فباطل، لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة، والحالف على فعل المعصية تنعقد يمينه معصية، ويقال له‏:‏ لا تفعل وكفر، فإن أقدم على الفعل أثم في إقدامه وبر في قسمه‏.‏ وأما من قال‏:‏ إنه دعاء الإنسان على نفسه إن لم يكن كذا فينزل به كذا، فهو قول لغو، في طريق الكفارة، ولكنه منعقد في القصد، مكروه، وربما يؤاخذ به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يدعون أحدكم على نفسه فربما صادف ساعة لا يسأل الله أحد فيها شيئا إلا أعطاه إياه‏)‏‏.‏ وأما من قال إنه يمين الغضب فإنه يرده حلف النبي صلى الله عليه وسلم غاضبا ألا يحمل الأشعريين وحملهم وكفر عن يمينه‏.‏ وسيأتي في براءة ‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وأما من قال‏:‏ إنه اليمين المكفرة فلا متعلق له يحكى‏.‏ وضعفه ابن عطية أيضا وقال‏:‏ قد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقتها لا إثم فيه ولا كفارة، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في اليمين الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم‏.‏
قوله تعالى‏{‏في أيمانكم‏}‏ الأيمان جمع يمين، واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاقدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا‏.‏ وقيل‏:‏ يمين فعيل من اليمن، وهو البركة، سماها الله تعالى بذلك لأنها تحفظ الحقوق‏.‏ ويمين تذكر وتؤنث، وتجمع أيمان وأيمن، قال زهير‏:‏
فتجمع أيمن منا ومنكم
قوله تعالى‏{‏ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم‏{‏ مثل قوله‏}‏ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان‏}‏المائدة‏:‏ 89‏]‏‏.‏ وهناك يأتي الكلام فيه مستوفى، إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ قوله تعالى‏{‏ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم‏}‏ هو في الرجل يقول‏:‏ هو مشرك إن فعل، أي هذا اللغو، إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويكسبه‏.‏ و‏{‏غفور حليم‏}‏ صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة‏.‏

الآية رقم ‏(‏226 ‏:‏227‏)‏

‏{‏للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏للذين يؤلون‏}‏ ‏{‏يؤلون‏}‏ معناه يحلفون، والمصدر إيلاء وألية وألوة وإلوة‏.‏ وقرأ أبي وابن عباس ‏{‏للذين يقسمون‏}‏‏.‏ ومعلوم أن ‏{‏يقسمون‏}‏ تفسير ‏{‏يؤلون‏}‏‏.‏ وقرئ ‏{‏للذين آلوا‏}‏ يقال‏:‏ آلى يؤلي إيلاء، وتألى تأليا، وائتلى ائتلاء، أي حلف، ومنه ‏{‏ولا يأتل أولو الفضل منكم‏}‏، وقال الشاعر‏:‏
{‏واهجروهن في المضاجع‏}‏النساء‏:‏ 34‏]‏ وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهرا تأديبا لهن‏.‏ وقد قيل‏:‏ الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد‏:‏
{‏حتى تفيء إلى أمر الله‏}‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ ومنه قيل للظل بعد الزوال‏:‏ فيء، لأنه رجع من جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال‏:‏ فاء يفيء فيئة وفيوءا‏.‏ وإنه لسريع الفيئة، يعني الرجوع‏.‏ قال‏:‏
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا
قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الفيء الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن أو شبه ذلك فإن ارتجاعه صحيح وهي امرأته، فإذا زال العذر بقدومه من سفره أو إفاقته من مرضه، أو انطلاقه من سجنه فأبى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قاله مالك في المدونة والمبسوط‏.‏ وقال عبدالملك‏:‏ وتكون بائنا منه يوم انقضت المدة، فإن صدق عذره بالفيئة إذا أمكنته حكم بصدقه فيما مضى، فان أكذب ما ادعاه من الفيئة بالامتناع حين القدرة عليها، حمل أمره على الكذب فيها واللدد، وأمضيت الأحكام على ما كانت تجب في ذلك الوقت‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إذا شهدت بينة بفيئته في حال العذر أجزأه، قاله الحسن وعكرمة والنخعي‏:‏ وبه قال الأوزاعي‏.‏ وقال النخعي أيضا‏:‏ يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء، أرأيت إن لم ينتشر للوطء، قال ابن عطية‏:‏ ويرجع هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ إذا كان له عذر يفيء بقلبه، وبه قال أبو قلابة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن لم يقدر على الجماع فيقول‏:‏ قد فئت إليها‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ أبو حنيفة يقول فيمن آلى وهو مريض وبينه وبينها مدة أربعة أشهر، وهي رتقاء أو صغيره أو هو مجبوب‏:‏ إنه إذا فاء إليها بلسانه ومضت المدة والعذر قائم فذلك فيء صحيح، والشافعي يخالفه على أحد مذهبيه‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ لا يكون الفيء إلا بالجماع في حال العذر وغيره، وكذلك قال سعيد بن جبير، قال‏:‏ وكذلك إن كان في سفر أو سجن‏.‏
أوجب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور العلماء الكفارة على المولي إذا فاء بجماع امرأته‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لا كفارة عليه، وبه قال النخعي، قال النخعي‏:‏ كانوا يقولون إذا فاء لا كفارة عليه‏.‏ وقال إسحاق‏:‏ قال بعض أهل التأويل في قوله تعالى‏{‏فإن فاؤوا‏}‏ يعني لليمين التي حنثوا فيها، وهو مذهب في الأيمان لبعض التابعين فيمن حلف على بر أو تقوى أو باب من الخير ألا يفعله فإنه يفعله ولا كفارة عليه، والحجة له قوله تعالى‏{‏فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم‏}‏، ولم يذكر كفارة، وأيضا فإن هذا يتركب على أن لغو اليمين ما حلف على معصية، وترك وطء الزوجة معصية‏.‏
قلت‏:‏ وقد يستدل لهذا القول من السنة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها‏)‏ خرجه ابن ماجة في سننه‏.‏ وسيأتي لها مزيد بيان في آية الأيمان إن شاء الله تعالى‏.‏ وحجة الجمهور قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه‏)‏‏.‏
إذا كفر عن يمينه سقط عنه الإيلاء، قاله علماؤنا‏.‏ وفي ذلك دليل على تقديم الكفارة على الحنث في المذهب، وذلك إجماع في مسألة الإيلاء، ودليل على أبي حنيفة في مسألة الأيمان، إذ لا يرى جواز تقديم الكفارة على الحنث، قاله ابن العربي‏.‏
قلت‏:‏ بهذه الآية استدل محمد بن الحسن على امتناع جواز الكفارة قبل الحنث فقال‏:‏ لما حكم الله تعالى للمولي بأحد الحكمين من فيء أو عزيمة الطلاق، فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث لبطل الإيلاء بغير فيء أو عزيمة الطلاق، لأنه إن حنث لا يلزمه بالحنث شيء، ومتى لم يلزم الحانث بالحنث شيء لم يكن موليا‏.‏ وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله، وذلك خلاف الكتاب‏.‏
قوله تعالى‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏ العزيمة‏:‏ تتميم العقد على الشيء، يقال‏:‏ عزم عليه يعزم عزما ‏(‏بالضم‏)‏ وعزيمة وعزيما وعزمانا واعتزم اعتزاما، وعزمت عليك لتفعلن، أي أقسمت عليك‏.‏ قال شمر‏:‏ العزيمة والعزم ما عقدت عليه نفسك من أمر أنك فاعله‏.‏ والطلاق من طلقت المرأة تطلق ‏(‏على وزن نصر ينصر‏)‏ طلاقا، فهي طالق وطالقة أيضا‏.‏ قال الأعشى‏:‏
أيا جارتا بيني فإنك طالقة
ويجوز طلقت ‏(‏بضم اللام‏)‏ مثل عظم يعظم، وأنكره الأخفش‏.‏ والطلاق حل عقدة النكاح، وأصله الانطلاق، والمطلقات المخليات، والطلاق‏:‏ التخلية، يقال‏:‏ نعجة طالق، وناقة طالق، أي مهملة قد تركت في المرعى لا قيد عليها ولا راعي، وبعير طلق ‏(‏بضم الطاء واللام‏)‏ غير مقيد، والجمع أطلاق، وحبس فلان في السجن طلقا أي بغير قيد، والطالق من الإبل‏:‏ التي يتركها الراعي لنفسه لا يحتلبها على الماء، يقال‏:‏ استطلق الراعي ناقة لنفسه‏.‏ فسميت المرأة المخلى سبيلها بما سميت به النعجة أو الناقة المهمل أمرها‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مأخوذ من طلق الفرس، وهو ذهابه شوطا لا يمنع، فسميت المرأة المخلاة طالقا لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة‏.‏
في قوله تعالى‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏ دليل على أنها لا تطلق بمضي مدة أربعة أشهر، كما قال مالك‏:‏ ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال‏{‏سميع‏}‏ وسميع يقتضي مسموعا بعد المضي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏{‏سمع‏}‏ لإيلائه، ‏{‏عليم‏}‏ بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر‏.‏ وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال‏:‏ سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول‏:‏ ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق‏.‏ قال القاضي ابن العربي‏:‏ وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا‏{‏للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا بعد انقضائها فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم‏}‏‏.‏ وتقديرها عندهم‏{‏للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا‏}‏ فيها ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏.‏ وإن عزموا الطلاق‏}‏ بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها ‏{‏فإن الله سميع عليم‏}‏‏.‏ ابن العربي‏:‏ وهذا احتمال متساو، ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه‏.‏
قلت‏:‏ وإذا تساوى الاحتمال كان قول الكوفيين أقوى قياسا على المعتدة بالشهور والأقراء، إذ كل ذلك أجل ضربه الله تعالى، فبانقضائه انقطعت العصمة وأبينت من غير خلاف، ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلا بإذنها، فكذلك الإيلاء، حتى لو نسي الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق، والله أعلم‏.‏
وفي قوله تعالى‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏ دليل على أن الأمة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاء، إذ لا يقع عليها طلاق، والله أعلم‏.‏

الآية رقم (228)‏

‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏والمطلقات‏}‏ لما ذكر الله تعالى الإيلاء وأن الطلاق قد يقع فيه بين تعالى حكم المرأة بعد التطليق‏.‏ وفي ‏"‏ أبي داود والنسائي عن ابن عباس‏"‏ قال في قول الله تعالى‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق بها، وإن طلقها ثلاثا‏)‏، فنسخ ذلك وقال‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ الآية‏.‏ والمطلقات لفظ عموم، والمراد به الخصوص في المدخول بهن، وخرجت المطلقة قبل البناء بآية الأحزاب
{‏فما لكم عليهن من عدة تعتدونها‏}‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏ على ما يأتي‏.‏ وكذلك الحامل بقوله‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والمقصود من الأقراء الاستبراء، بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة‏.‏ وجعل الله عدة الصغيرة التي لم تحض والكبيرة التي قد يئست الشهور على ما يأتي‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن العموم في المطلقات يتناول هؤلاء ثم نسخن، وهو ضعيف، وإنما الآية فيمن تحيض خاصة، وهو عرف النساء وعليه معظمهن‏.‏
قوله تعالى‏{‏يتربصن‏}‏ التربص الانتظار، على ما قدمناه‏.‏ وهذا خبر والمراد الأمر، كقوله تعالى‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن‏}‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ وجمع رجل عليه ثيابه، وحسبك درهم، أي اكتف بدرهم، هذا قول أهل اللسان من غير خلاف بينهم فيما ذكر ابن الشجري‏.‏ ابن العربي‏:‏ وهذا باطل، وإنما هو خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى على خلاف مخبره‏.‏ وقيل،‏:‏ معناه ليتربصن، فحذف اللام‏.‏
قرأ جمهور الناس ‏{‏قروء‏}‏ على وزن فعول، اللام همزة‏.‏ ويروى عن نافع ‏{‏قرو‏}‏ بكسر الواو وشدها من غير همز‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏قرء‏}‏ بفتح القاف وسكون الراء والتنوين‏.‏ وقروء جمع أقرؤ وأقراء، والواحد قرء بضم القاف، قال الأصمعي‏.‏ وقال أبو زيد‏{‏قرء‏}‏ بفتح القاف، وكلاهما قال‏:‏ أقرأت المرأة إذا حاضت، فهي مقرئ‏.‏ وأقرأت طهرت‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت‏:‏ قرأت، بلا ألف‏.‏ يقال‏:‏ أقرأت المرأة حيضة أو حيضتين‏.‏ والقرء‏:‏ انقطاع الحيض‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ما بين الحيضتين وأقرأت حاجتك‏:‏ دنت، عن الجوهري‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ من العرب من يسمي الحيض قرءا، ومنهم من يسمي الطهر قرءا، ومنهم من يجمعهما جميعا، فيسمي الطهر مع الحيض قرءا، ذكره النحاس‏.‏
واختلف العلماء في الأقراء، فقال أهل الكوفة‏:‏ هي الحيض، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي‏.‏ وقال أهل الحجاز‏:‏ هي الأطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي‏.‏ فمن جعل القرء اسما للحيض سماه بذلك، لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسما للطهر فلاجتماعه في البدن، والذي يحقق لك هذا الأصل في القرء الوقت، يقال‏:‏ هبت الريح لقرئها وقارئها أي لوقتها، قال الشاعر‏:‏
{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر فيجب أن يكون هو المعتبر في العدة، فإنه قال‏{‏فطلقوهن‏}‏ يعني وقتا تعتد به، ثم قال تعالى‏{‏وأحصوا العدة‏}‏‏.‏ يريد ما تعتد به المطلقة وهو الطهر الذي تطلق فيه، {‏واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر‏}‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فجعل المأيوس منه المحيض، فدل على أنه هو العدة، وجعل العوض منه هو الأشهر إذا كان معدوما‏.‏ وقال عمر بحضرة الصحابة‏:‏ ‏(‏عدة الأمة حيضتان، نصف عدة الحرة، ولو قدرت على أن أجعلها حيضة ونصفا لفعلت‏)‏، ولم ينكر عليه أحد‏.‏ فدل على أنه إجماع منهم، وهو قول عشرة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة، وحسبك ما قالوا‏!‏ وقوله تعالى‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ يدل على ذلك، لأن المعنى يتربصن ثلاثة أقراء، يريد كوامل، هذا لا يمكن أن يكون إلا على قولنا بأن الأقراء الحيض، لأن من يقول‏:‏ إنه الطهر يجوز أن تعتد بطهرين وبعض آخر، لأنه إذا طلق حال الطهر اعتدت عنده ببقية ذلك الطهر قرءا‏.‏ وعندنا تستأنف من أول الحيض حتى يصدق الاسم، فإذا طلق الرجل المرأة في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة، فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة‏.‏
قلت‏:‏ هذا يرده قوله تعالى‏{‏سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام‏}‏الحاقة‏:‏ 7‏]‏ فأثبت الهاء في ‏{‏ثمانية أيام‏}‏، لأن اليوم مذكر وكذلك القرء، فدل على أنه المراد‏.‏ ووافقنا أبو حنيفة على أنها إذا طلقت حائضا أنها لا تعتد بالحيضة التي طلقت فيها ولا بالطهر الذي بعدها، وإنما تعتد بالحيض الذي بعد الطهر‏.‏ وعندنا تعتد بالطهر، على ما بيناه‏.‏ وقد استجاز أهل اللغة أن يعبروا عن البعض باسم الجميع، كما قال تعالى‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ والمراد به شهران وبعض الثالث، فكذلك قوله‏{‏ثلاثة قروء‏}‏‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال بعض من يقول بالحيض‏:‏ إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة بعد الغسل وبطلت الرجعة، قال سعيد بن جبير وطاوس وابن شبرمة والأوزاعي‏.‏ وقال شريك‏:‏ إذا فرطت المرأة في الغسل عشرين سنة فلزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل‏.‏ وروي عن إسحاق بن راهويه أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا طعنت المرأة في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج‏.‏ إلا أنها لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل من حيضتها‏)‏‏.‏ وروى نحوه عن ابن عباس، وهو قول ضعيف بدليل قول الله تعالى‏{‏فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن‏}‏البقرة‏:‏234‏]‏ على ما يأتي‏.‏ وأما ما ذكره الشافعي من أن نفس الانتقال من الطهر إلى الحيضة يسمى قرءا ففائدته تقصير العدة على المرأة، وذلك أنه إذا طلق المرأة في آخر ساعة من طهرها فدخلت في الحيضة عدته قرءا، وبنفس الانتقال من الطهر الثالث انقطعت العصمة وحلت‏.‏ والله أعلم‏.‏
والجمهور من العلماء على أن عدة الأمة التي تحيض من طلاق زوجها حيضتان‏.‏ وروي عن ابن سيرين أنه قال‏:‏ ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة، إلا أن تكون مضت في ذلك سنة‏:‏ فإن السنة أحق أن تتبع‏.‏ وقال الأصم عبدالرحمن بن كيسان وداود بن علي وجماعة أهل الظاهر‏:‏ إن الآيات في عدة الطلاق والوفاة بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة، فعدة الحرة والأمة سواء‏.‏ واحتج الجمهور بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان‏)‏‏.‏ {‏أتدعون بعلا‏}‏الصافات‏:‏ 125‏]‏ أي ربا، لعلوه في الربوبية، يقال‏:‏ بعل وبعولة، كما يقال في جمع الذكر‏:‏ ذكر وذكورة، وفي جمع الفحل‏:‏ فحل وفحولة، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، وهو شاذ لا يقاس عليه، ويعتبر فيها السماع، فلا يقال في لعب‏:‏ لعوبة‏.‏ وقيل‏:‏ هي هاء تأنيث دخلت على فعول‏.‏ والبعولة أيضا مصدر البعل‏.‏ وبعل الرجل يبعل ‏(‏مثل منع يمنع‏)‏ بعولة، أي صار بعلا‏:‏ والمباعلة والبعال‏:‏ الجماع، ومنه {‏فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ فذكر الإشهاد في الرجعة ولم يذكره في النكاح ولا في الطلاق‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وفيما ذكرناه من كتاب الله مع إجماع أهل العلم كفاية عن ذكر ما روي عن الأوائل في هذا الباب، والله تعالى أعلم‏.‏
واختلفوا فيما يكون به الرجل مراجعا في العدة، فقال مالك‏:‏ إذا وطئها في العدة وهو يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة‏.‏ وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد، وبه قال إسحاق، لقوله عليه السلام‏:‏ {‏ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا‏}‏البقرة‏:‏ 231‏]‏ ثم من فعل ذلك فالرجعة صحيحة، وإن ارتكب النهي وظلم نفسه، ولو علمنا نحن ذلك المقصد طلقنا عليه‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولهن‏}‏ أي لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، ولهذا قال ابن عباس‏:‏ إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي، لأن الله تعالى قال‏{‏ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف‏{‏ أي زينة من غير مأثم‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن‏.‏ وقيل‏:‏ إن لهن على أزواجهن ترك مضارتهن كما كان ذلك عليهن لأزواجهن‏.‏ قاله الطبري‏:‏ وقال ابن زيد‏:‏ تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله عز وجل فيكم، والمعنى متقارب‏.‏ والآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية‏.‏
قول ابن عباس‏:‏ ‏(‏إني لأتزين لامرأتي‏)‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم، فإنهم يعملون ذلك على اللبق والوفاق، فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب، ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حف شاربه ليق به ذلك وزانه، والشاب إذا فعل ذلك سمج ومقت‏.‏ لأن اللحية لم توفر بعد، فإذا حف شاربه في أول ما خرج وجهه سمج، وإذا وفرت لحيته وحف شاربه زانه ذلك‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أمرني ربي أن أعفي لحيتي وأحفي شاربي‏)‏‏.‏ وكذلك في شأن الكسوة، ففي هذا كله ابتغاء الحقوق، فإنما يعمل على اللبق والوفاق عند امرأته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال‏.‏ وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به ومنهم من لا يليق به‏.‏ فأما الطيب والسواك والخلال والرمي بالدرن وفضول الشعر والتطهير وقلم الأظفار فهو بين موافق للجميع‏.‏ والخضاب للشيوخ والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة، وهو حلي الرجال على ما يأتي بيانه في سورة النحل ‏.‏ ثم عليه أن يتوخى أوقات حاجتها إلى الرجل فيعفها ويغنيها عن التطلع إلى غيره‏.‏ وإن رأى الرجل من نفسه عجزا عن إقامة حقها في مضجعها أخذ من الأدوية التي تزيد في باهه وتقوي شهوته حتى يعفها‏.‏
قوله تعالى‏{‏وللرجال عليهن درجة‏{‏ أي منزلة‏.‏ ومدرجة الطريق‏:‏ قارعته، والأصل فيه الطي، يقال‏:‏ درجوا، أي طووا عمرهم، ومنها الدرجة التي يرتقى عليها‏.‏ ويقال‏:‏ رجل بين الرجلة، أي القوة‏.‏ وهو أرجل الرجلين، أي أقواهما‏.‏ وفرس رجيل، أي قوي، ومنه الرجل، لقوتها على المشي‏.‏ فزيادة درجة الرجل بعقله وقوته على الإنفاق وبالدية والميراث والجهاد‏.‏ وقال حميد‏:‏ الدرجة اللحية، وهذا إن صح عنه فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم، وخصوصا في كتاب الله تعالى‏!‏ ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء، ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها، وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه، فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه‏.‏ وقيل‏:‏ الدرجة الصداق، قاله الشعبي‏.‏ وقيل‏:‏ جواز الأدب‏.‏ وعلى الجملة فدرجة تقتضي التفضيل، وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه،ولهذا قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏ولو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه‏)‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول حسن بارع‏.‏ قال الماوردي‏:‏ يحتمل أنها في حقوق النكاح، له رفع العقد دونها، ويلزمها إجابته إلى الفراش، ولا يلزمه إجابتها‏.‏
قلت‏:‏ ومن هذا قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح‏)‏‏.‏ قوله تعالى‏{‏والله عزيز‏{‏ أي منيع السلطان لا معترض عليه‏.‏ قوله تعالى‏{‏حكيم‏{‏ أي عالم مصيب فيما يفعل‏.‏
 
الآية رقم‏(‏215‏)‏

‏{‏يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏يسألونك‏}‏ إن خففت الهمزة ألقيت حركتها على السين ففتحها وحذفت الهمزة فقلت‏:‏ يسلونك‏.‏ ونزلت الآية في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا فقال‏:‏ يا رسول الله، إن مالي كثير، فبماذا أتصدق، وعلى من أنفق‏؟‏ فنزلت ‏{‏يسألونك ماذا ينفقون‏}‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏ماذا ينفقون‏}‏ ‏{‏ما‏}‏ في موضع رفع بالابتداء، و‏{‏ذا‏}‏ الخبر، وهو بمعنى الذي، وحذفت الهاء لطول الاسم، أي ما الذي ينفقونه، وإن شئت كانت ‏{‏ما‏}‏ في موضع نصب بـ ‏{‏ينفقون‏}‏ و‏{‏ذا‏}‏ مع ‏{‏ما‏}‏ بمنزلة شيء واحد ولا يحتاج إلى ضمير، ومتى كانت اسما مركبا فهي في موضع نصب، إلا ما جاء في قول الشاعر‏:‏
‏{‏فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل‏}‏الروم‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب ‏{‏يفعلوا‏}‏ بالياء على ذكر الغائب، وظاهر الآية الخبر، وهي تتضمن الوعد بالمجازاة‏.‏

الآية رقم ‏(‏216‏)‏

‏{‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏كتب‏}‏ معناه فرض، وقد تقدم مثله‏.‏ وقرأ قوم ‏{‏كتب عليكم القتل‏}‏، وقال الشاعر‏:‏
{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‏}‏الحج‏:‏ 39‏]‏ ثم أذن له في قتال المشركين عامة‏.‏ واختلفوا من المراد بهذه الآية، فقيل‏:‏ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين عليهم، فلما استقر الشرع صار على الكفاية، قال عطاء والأوزاعي‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ أواجب الغزو على الناس في هذه الآية‏؟‏ فقال‏:‏ لا، إنما كتب على أولئك‏.‏ وقال الجمهور من الأمة‏:‏ أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير لوجوب طاعته‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ إن الجهاد فرض على كل مسلم في عينه أبدا، حكاه الماوردي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين، وسيأتي هذا مبينا في سورة براءة
إن شاء الله تعالى‏.‏ وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال‏:‏ الجهاد تطوع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد، فقيل له‏:‏ ذلك تطوع‏.‏
قوله تعالى‏{‏وهو كره لكم‏}‏ ابتداء وخبر، وهو كره في الطباع‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ الكره، المشقة والكره - بالفتح - ما أكرهت عليه، هذا هو الاختيار، ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين، يقال‏:‏ كرهت الشيء كرها وكرها وكراهة وكراهية، وأكرهته عليه إكراها‏.‏ وإنما كان الجهاد كرها لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى‏.‏ وقال عكرمة في هذه الآية‏:‏ إنهم كرهوه ثم أحبوه وقالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا، وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، لكن إذا عرف الثواب هان في جنبه مقاساة المشقات‏.‏
قلت‏:‏ ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس، وفصد وحجامة ابتغاء العافية ودوام الصحة، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق‏.‏
قوله تعالى‏{‏وعسى أن تكرهوا شيئا‏}‏ قيل‏{‏عسى‏}‏‏:‏ بمعنى قد، قاله الأصم‏.‏ وقيل‏:‏ هي واجبة‏.‏ و‏{‏عسى‏}‏ من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى‏{‏عسى ربه إن طلقكن أن يبدله‏}‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال أبو عبيدة‏{‏عسى‏}‏ من الله إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم‏.‏
قلت‏:‏ وهذا صحيح لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد‏؟‏‏!‏ وأسر وقتل وسبى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏!‏ ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته‏!‏ وقال الحسن في معنى الآية‏:‏ لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أم تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير‏:‏
رب أمر تتقيه جر أمرا ترتضيه
خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه

الآية رقم ‏(‏217‏)‏

‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يسألونك‏}‏ تقدم القول فيه‏.‏ {‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه‏}‏الأنفال‏:‏ 41 فأقر الله ورسوله فعل عبدالله بن جحش ورضيه وسنه للأمة إلى يوم القيامة، وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول أمير، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل‏.‏ وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم، فأنزل الله عز وجل‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه‏}‏ إلى قوله‏{‏هم فيها خالدون‏}‏‏.‏ وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين، فأما عثمان بن عبدالله فمات بمكة كافرا، وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد ببئر معونة، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين‏.‏
وقيل‏:‏ إن انطلاق سعد بن أبي وقاص وعتبة في طلب بعيرهما كان عن إذن من عبدالله بن جحش، وإن عمرو بن الحضرمي وأصحابه لما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم، فقال عبدالله بن جحش‏:‏ إن القوم قد فزعوا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا وقالوا‏:‏ قوم عمار لا بأس عليكم، وتشاوروا في قتالهم، الحديث‏.‏ وتفاءلت اليهود وقالوا‏:‏ واقد وقدت الحرب، وعمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب‏.‏ وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم، فقال‏:‏ لا نفديهما حتى يقدم سعد وعتبة، وإن لم يقدما قتلناهما بهما، فلما قدما فاداهما فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فرجع إلى مكة فمات بها كافرا، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله تعالى، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية‏)‏ فهذا سبب نزول قوله تعالى‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام‏}‏‏.‏ وذكر ابن إسحاق أن قتل عمرو بن الحضرمي كان في آخر يوم من رجب، على ما تقدم‏.‏ وذكر الطبري عن السدي وغيره أن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة، والأول أشهر، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذلك كان في أول ليلة من رجب، والمسلمون يظنونها من جمادى‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبدالله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين‏.‏
واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح‏.‏ واختلفوا في ناسخها، فقال الزهري‏:‏ نسخها ‏{‏وقاتلوا المشركين كافة‏}‏التوبة‏:‏ 36‏.‏ وقيل نسخها غزو النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام‏.‏ وقيل‏:‏ نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم‏.‏ وذكر البيهقي عن عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي‏:‏ فأنزل عز وجل‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه‏}‏ الآية، قال‏:‏ فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بالله وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين، وفتنتهم إياهم عن الدين، فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل الله عز وجل‏{‏براءة من الله ورسوله‏}‏التوبة‏:‏ 1‏.‏ وكان عطاء يقول‏:‏ الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم، ويحلف على ذلك، لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق‏.‏ وروى أبو الزبير عن جابر قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى‏.‏
قوله تعالى‏{‏قتال فيه‏}‏ ‏{‏قتال‏}‏ بدل عند سيبويه بدل اشتمال، لأن السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال، أي يسألك الكفار تعجبا من هتك حرمة الشهر، فسؤالهم عن الشهر إنما كان لأجل القتال فيه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام‏.‏ وقال القتبي‏:‏ يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز‏؟‏ فأبدل قتالا من الشهر، وأنشد سيبويه‏:‏
{‏فاقتلوا المشركين‏}‏التوبة‏:‏ 5‏.‏ وقال عطاء‏:‏ لم ينسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم، وقد تقدم‏.‏
قوله تعالى‏{‏والفتنة أكبر من القتل‏}‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ الفتنة هنا الكفر، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي أن ذلك أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولا يزالون‏}‏ ابتداء خبر من الله تعالى، وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني كفار قريش‏.‏ و‏{‏يردوكم‏}‏ نصب بحتى، لأنها غاية مجردة‏.‏
قوله تعالى‏{‏ومن يرتدد‏}‏ أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر ‏{‏فأولئك حبطت‏}‏ أي بطلت وفسدت، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، فالآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام‏.‏
واختلف العلماء في المرتد هل يستتاب أم لا‏؟‏ وهل يحبط عمله بنفس الردة أم لا، إلا على الموافاة على الكفر‏؟‏ وهل يورث أم لا‏؟‏ قالت طائفة‏:‏ يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وقال بعضهم‏:‏ ساعة واحدة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ يستتاب شهرا‏.‏ وقال آخرون‏:‏ يستتاب ثلاثا، على ما روي عن عمر وعثمان، وهو قول مالك رواه عنه ابن القاسم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يستتاب مائة مرة، وقد روي عنه أنه يقتل دون استتابة، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، وهو أحد قولي طاوس وعبيد بن عمير‏.‏ وذكر سحنون أن عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون كان يقول‏:‏ يقتل المرتد ولا يستتاب، واحتج بحديث معاذ وأبي موسى، وفيه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه قال‏:‏ انزل، وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده موثق قال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود‏.‏ قال‏:‏ لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، فقال‏:‏ اجلس‏.‏ قال‏:‏ نعم لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله - ثلاث مرات - فأمر به فقتل، خرجه مسلم وغيره‏.‏ وذكر أبو يوسف عن أبى حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه، إلا أن يطلب أن يؤجل، فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام، والمشهور عنه وعن أصحابه أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب‏.‏ والزنديق عندهم والمرتد سواء‏.‏ وقال مالك‏:‏ وتقتل الزنادقة ولا يستتابون‏.‏ وقد مضى هذا أول البقرة ‏.‏ واختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر، فقال مالك وجمهور الفقهاء‏:‏ لا يتعرض له، لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه‏.‏ وحكى ابن عبدالحكم عن الشافعي أنه يقتل، {‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏الزمر‏:‏ 65‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، لأنه عليه السلام يستحيل منه الردة شرعا‏.‏ وقال أصحاب الشافعي‏:‏ بل هو خطاب النبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله، فكيف أنتم‏!‏ لكنه لا يشرك لفضل مرتبته، كما قال‏{‏يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏ وذلك لشرف منزلتهن، وإلا فلا يتصور إتيان منهن صيانة لزوجهن المكرم المعظم، ابن العربي‏.‏ وقال علماؤنا‏:‏ إنما ذكر الله الموافاة شرطا ههنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء، فمن وافى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين، وحكمين متغايرين‏.‏ وما خوطب به عليه السلام فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه، وما ورد في أزواجه فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكان أحدهما لحرمة الدين، والثاني لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكل هتك حرمة عقاب، وينزل ذلك منزلة من عصى في الشهر الحرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام، يضاعف عليه العذاب بعدد ما هتك من الحرمات‏.‏ والله أعلم‏.‏
اختلاف العلماء في ميراث المرتد‏:‏ فقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه‏:‏ ميراث المرتد لورثته من المسلمين‏.‏ وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور‏:‏ ميراثه في بيت المال‏.‏ وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي في إحدى الروايتين‏:‏ ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ما اكتسبه المرتد في حال الردة فهو فيء، وما كان مكتسبا في حالة الإسلام ثم ارتد يرثه ورثته المسلمون، وأما ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد فلا يفصلون بين الأمرين، ومطلق قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا وراثة بين أهل ملتين‏)‏ يدل على بطلان قولهم‏.‏ وأجمعوا على أن ورثته من الكفار لا يرثونه، سوى عمر بن عبدالعزيز فإنه قال‏:‏ يرثونه‏.‏

الآية رقم ‏(‏218‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا‏}‏ الآية‏.‏ قال جندب بن عبدالله وعروة بن الزبير وغيرهما‏:‏ لما قتل واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبدالله بن جحش وفي الأسيرين، فعنف المسلمون عبدالله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام وفرج عنهم، وأخبر أن لهم ثواب من هاجر وغزا، فالإشارة إليهم في قوله‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكره الله عز وجل‏.‏ وقيل‏:‏ إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏
والهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وقصد ترك الأول إيثارا للثاني‏.‏ والهجر ضد الوصل‏.‏ وقد هجره هجرا وهجرانا، والاسم الهجرة‏.‏ والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية‏.‏ والتهاجر التقاطع‏.‏ ومن قال‏:‏ المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم، بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله‏.‏ ‏{‏وجاهد‏}‏ مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، مجاهدة وجهادا‏.‏ والاجتهاد والتجاهد‏:‏ بذل الوسع والمجهود‏.‏ والجهاد ‏(‏بالفتح‏)‏‏:‏ الأرض الصلبة‏.‏ ‏{‏ويرجون‏}‏ معناه يطمعون ويستقربون‏.‏ وإنما قال ‏{‏يرجون‏}‏ وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ، لأمرين‏:‏ أحدهما لا يدري بما يختم له‏.‏ والثاني - لئلا يتكل على عمله، والرجاء ينعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء‏.‏ والرجاء من الأمل ممدود، يقال‏:‏ رجوت فلانا رجوا ورجاء ورجاوة، يقال‏:‏ ما أتيتك إلا رجاوة الخير‏.‏ وترجيته وارتجيته ورجيته وكله بمعنى رجوته، قال بشر يخاطب بنته‏:‏
فرجي الخير وانتظري إيابي إذا ما القارظ العنزي آبا
وما لي في فلان رجية، أي ما أرجو‏.‏ وقد يكون الرجو والرجاء بمعنى الخوف، قال الله تعالى‏
{‏ما لكم لا ترجون لله وقارا‏}‏نوح‏:‏ 13‏]‏ أي لا تخافون عظمة الله، قال أبو ذؤيب‏:‏
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل
أي لم يخف ولم يبال‏.‏ والرجا - مقصور - ‏:‏ ناحية البئر وحافتاها، وكل ناحية رجا‏.‏ والعوام من الناس يخطئون في قولهم‏:‏ يا عظيم الرجا، فيقصرون ولا يمدون‏.‏

الآية رقم ‏(‏219‏)‏

‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما‏}‏ فيه تسع مسائل‏:‏
قوله تعالى‏{‏يسألونك‏}‏ السائلون هم المؤمنون، كما تقدم‏.‏ والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة‏.‏ وكل شيء غطى شيئا فقد خمره، ومنه ‏{‏خمروا آنيتكم‏}‏ فالخمر تخمر العقل، أي تغطيه وتستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له‏:‏ الخمر ‏(‏بفتح الميم لأنه يغطي ما تحته ويستره، يقال منه‏:‏ أخمرت الأرض كثر خمرها، قال الشاعر‏:‏
{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏النساء‏:‏ 43‏ ثم قوله‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون‏} ‏المائدة‏:‏ 91‏ ثم قوله‏{‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه‏}‏المائدة‏:‏ 90‏على ما يأتي بيانه في المائدة ‏.‏
قوله تعالى‏{‏والميسر‏}‏ الميسر‏:‏ قمار العرب بالأزلام‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله‏)‏ فنزلت الآية‏.‏ وقال مجاهد ومحمد بن سيرين والحسن وابن المسيب وعطاء وقتادة ومعاوية بن صالح وطاوس وعلي بن أبى طالب رضي الله عنه وابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق‏)‏، على ما يأتي‏.‏ وقال مالك‏:‏ الميسر ميسران‏:‏ ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها‏.‏ وميسر القمار‏:‏ ما يتخاطر الناس عليه‏.‏ قال علي بن أبي طالب‏:‏ الشطرنج ميسر العجم‏.‏ وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء‏.‏ وسيأتي في يونس زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى‏.‏
والميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال‏:‏ يسر لي كذا إذا وجب فهو ييسر يسرا وميسرا‏.‏ والياسر‏:‏ اللاعب بالقداح، وقد يسر ييسر، قال الشاعر‏:‏
{‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم‏}‏الأعراف‏:‏ 33‏ فأخبر في هذه الآية أن فيها إثما فهو حرام‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ليس هذا النظر بجيد، لأن الإثم الذي فيها هو الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر‏.‏
قلت‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ في هذه الآية ما دل على تحريم الخمر لأنه سماه إثما، وقد حرم الإثم في آية أخرى، وهو قوله عز وجل‏{‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم‏}‏ وقال بعضهم‏:‏ الإثم أراد به الخمر، بدليل قول الشاعر‏:‏
‏{‏قل ما أنفقتم من خير فللوالدين‏}‏البقرة‏:‏ 215‏]‏ قال‏:‏ كم أنفق‏؟‏ فنزل‏{‏قل العفو‏}‏ والعفو‏:‏ ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، ومنه قول الشاعر‏:‏
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
فالمعنى‏:‏ أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية، وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسدي والقرظي محمد بن كعب وابن أبي ليلى وغيرهم، قالوا‏:‏ ‏(‏العفو ما فضل عن العيال‏)‏، ونحوه عن ابن عباس وقال مجاهد‏:‏ صدقة عن ظهر غنى وكذا قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏خير الصدقة ما أنفقت عن غنى‏)‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى‏)‏‏.‏ وقال قيس بن سعد‏:‏ هذه الزكاة المفروضة‏.‏ وقال جمهور العلماء‏:‏ بل هي نفقات التطوع‏.‏ وقيل‏:‏ هي منسوخة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يوما وتصدق بالباقي، حتى نزلت آيه الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها‏.‏ وقال قوم‏:‏ هي محكمة، وفي المال حق سوى الزكاة‏.‏ والظاهر يدل على القول الأول‏.‏
قوله تعالى‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات‏}‏ قال المفضل بن سلمة‏:‏ أي في أمر النفقة‏.‏ ‏{‏لعلكم تتفكرون‏}‏ فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، أي كذلك يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها‏.‏

الآية رقم ‏(‏220‏)‏

‏{‏في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم‏}‏

‏"‏روى أبو داود والنسائي {‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن‏}‏الأنعام‏:‏ 152‏ و‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما‏}‏النساء‏:‏ 10‏ الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏{‏ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير‏}‏ الآية، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه‏)‏، لفظ أبي داود‏.‏ والآية متصلة بما قبل، لأنه اقترن بذكر الأموال الأمر بحفظ أموال اليتامى‏.‏ وقيل‏:‏ إن السائل عبدالله بن رواحة‏.‏ وقيل‏:‏ كانت العرب تتشاءم بملابسة أموال اليتامى في مؤاكلتهم، فنزلت هذه الآية‏.‏
لما أذن الله جل وعز في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر إليهم وفيهم كان ذلك دليلا على جواز التصرف في مال اليتيم، تصرف الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك، على الإطلاق لهذه الآية‏.‏ فإذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره جاز عليه فعله وإن لم يقدمه وال عليه، لأن الآية مطلقة والكفالة ولاية عامة‏.‏ لم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم‏.‏
تواترت الآثار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة فيه، وفي جواز خلط ماله بماله دلالة على جواز التصرف في ماله بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح، وجواز دفعه مضاربة، إلى غير ذلك على ما نذكره مبينا‏.‏ واختلف في عمله هو قراضا، فمنعه أشهب، وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه أو يشتري لها‏.‏ وقال غيره‏:‏ إذا أخذه على جزء من الربح بنسبة قراض مثله فيه أمضي، كشرائه شيئا لليتيم بتعقب فيكون أحسن لليتيم‏.‏ قال محمد بن عبدالحكم‏:‏ وله أن يبيع له بالدين إن رأى ذلك نظرا‏.‏ قال ابن كنانة‏:‏ وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب، ومصلحته بقدر حاله وحال من يزوج إليه، وبقدر كثرة ماله‏.‏ قال‏:‏ وكذلك في ختانه، فإن خشي أن يتهم رفع ذلك إلى السلطان فيأمره بالقصد، وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز‏.‏ ودل الظاهر على أن ولي اليتيم يعلمه أمر الدنيا والآخرة، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلمه الصناعات‏.‏ وإذا وهب لليتيم شيء فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في النساء إن شاء الله تعالى‏.‏
ولما ينفقه الوصي والكفيل من مال اليتيم حالتان‏:‏ حالة يمكنه الإشهاد عليه، فلا يقبل قوله إلا ببينة‏.‏ وحالة لا يمكنه الإشهاد عليه فقوله مقبول بغير بينة، فمهما اشترى من العقار وما جرت العادة بالتوثق فيه لم يقبل قوله بغير بينة‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ ولذلك فرق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصي ينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته وكسوته، لأنه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ويلبسه في كل وقت، ولكن إذا قال‏:‏ أنفقت نفقة لسنة قبل منه، وبين أن يكون عند أمه أو حاضنته فيدعي الوصي أنه كان ينفق عليه، أو كان يعطي الأم أو الحاضنة النفقة والكسوة فلا يقبل قوله على الأم أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة‏.‏
واختلف العلماء في الرجل ينكح نفسه من يتيمه، وهل له أن يشتري لنفسه من مال يتيمه أو يتيمته‏؟‏ فقال مالك‏:‏ ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة، حتى قال في الأعراب الذين يسلمون أولادهم في أيام المجاعة‏:‏ إنهم ينكحونهم إنكاحهم، فأما إنكاح الكافل والحاضن لنفسه فيأتي في النساء بيانه، إن شاء الله تعالى‏.‏ وأما الشراء منه فقال مالك‏:‏ يشتري في مشهور الأقوال، وكذلك قال أبو حنيفة‏:‏ له أن يشتري مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن المثل، لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يجوز ذلك في النكاح ولا في البيع، لأنه لم يذكر في الآية التصرف، بل قال‏{‏إصلاح لهم خير‏}‏ من غير أن يذكر فيه الذي يجوز له النظر‏.‏ وأبو حنيفة يقول‏:‏ إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوج منه‏.‏ والشافعي لا يرى في التزويج إصلاحا إلا من جهة دفع الحاجة، ولا حاجة قبل البلوغ‏.‏ وأحمد بن حنبل يجوز للوصي التزويج لأنه إصلاح‏.‏ والشافعي يجوز للجد التزويج مع الوصي، وللأب في حق ولده الذي ماتت أمه لا بحكم هذه الآية‏.‏ وأبو حنيفة يجوز للقاضي تزويج اليتيم بظاهر القرآن‏.‏ وهذه المذاهب نشأت من هذه الآية، فإن ثبت كون التزويج إصلاحا فظاهر الآية يقتضي جوازه‏.‏ ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى‏{‏ويسألونك عن اليتامى‏}‏ أي يسألك القوام على اليتامى الكافلون لهم، وذلك مجمل لا يعلم منه عين الكافل والقيم وما يشترط فيه من الأوصاف‏.‏
فإن قيل‏:‏ يلزم ترك مالك أصله في التهمة والذرائع إذ جوز له الشراء من يتيمه، فالجواب أن ذلك لا يلزم، وإنما يكون ذلك ذريعة فيما يؤدى من الأفعال المحظورة إلى محظورة منصوص عليها، وأما ههنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة، ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال فيه‏:‏ إنه يتذرع إلى محظور به فيمنع منه، كما جعل الله النساء مؤتمنات على فروجهن، مع عظيم ما يترتب على قولهن في ذلك من الأحكام، ويرتبط به من الحل والحرمة والأنساب، وإن جاز أن يكذبن‏.‏ وكان طاوس إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏‏.‏ وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه في مال اليتيم أن يجتمع نصحاؤه فينظرون الذي هو خير له، ذكره البخاري‏.‏ وفي هذا دلالة على جواز الشراء منه لنفسه، كما ذكرنا‏.‏ والقول الآخر أنه لا ينبغي للولي أن يشتري مما تحت يده شيئا، لما يلحقه في ذلك من التهمة إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملأ من الناس‏.‏ وقال محمد بن عبدالحكم‏:‏ لا يشتري من التركة، ولا بأس أن يدس من يشتري له منها إذا لم يعلم أنه من قبله‏.‏
قوله تعالى‏{‏وإن تخالطوهم فإخوانكم‏}‏ هذه المخالطة كخلط المثل بالمثل كالتمر بالتمر‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه، ولا يجد بدا من خلطه بعياله فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وهذا عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الأسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية، وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته، وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه، فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعا كان في غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس‏.‏
قوله تعالى‏{‏فإخوانكم‏}‏ خبر لمبتدأ محذوف، أي فهم إخوانكم، والفاء جواب الشرط‏.‏ وقوله تعالى‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ تحذير، أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح لها، فيجازي كلا على إصلاحه وإفساده‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولو شاء الله لأعنتكم‏}‏‏"‏روى الحكم عن مقسم عن ابن عباس‏{‏ولو شاء الله لأعنتكم‏}‏ قال‏:‏‏(‏لو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا‏)‏‏.‏ وقيل‏{‏لأعنتكم‏}‏ لأهلككم، عن الزجاج وأبي عبيدة‏.‏ وقال القتبي‏:‏ لضيق عليكم وشدد، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ أي لكلفكم ما يشتد عليكم أداؤه وأثمكم في مخالطتهم، كما فعل بمن كان قبلكم، ولكنه خفف عنكم‏.‏ والعنت‏:‏ المشقة، وقد عنت وأعنته غيره‏.‏ ويقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه‏:‏ قد أعنته، فهو عنت ومعنت‏.‏ وعنتت الدابة تعنت عنتا‏:‏ إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر لا يمكنها معه جري‏.‏ وأكمة عنوت‏:‏ شاقة المصعد‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ أصل العنت التشديد، فإذا قالت العرب‏:‏ فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادها يشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه، ثم نقلت إلى معنى الهلاك‏.‏ والأصل ما وصفنا‏.‏
قوله تعالى‏{‏إن الله عزيز‏}‏ أي لا يمتنع عليه شيء ‏{‏حكيم‏}‏ يتصرف في ملكه بما يريد لا حجر عليه، جل وتعالى علوا كبيرا‏.‏

الآية رقم ‏(‏221‏)‏

‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تنكحوا‏}‏ قراءة الجمهور بفتح التاء‏.‏ وقرئت في الشاذ بالضم، كأن المعنى أن المتزوج لها أنكحها من نفسه‏.‏ ونكح أصله الجماع، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏
لما أذن الله سبحانه وتعالى في مخالطة الأيتام، وفي مخالطة النكاح بين أن مناكحة المشركين لا تصح‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي، وقيل‏:‏ في مرثد بن أبي مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة سرا ليخرج رجلا من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية يقال لها ‏{‏عناق‏}‏ فجاءته، فقال لها‏:‏ إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية، قالت‏:‏ فتزوجني، قال‏:‏ حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها، لأنه كان مسلما وهي مشركة‏.‏ وسيأتي في النور بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقالت طائفة‏:‏ حرم الله نكاح المشركات في سورة البقرة ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب، فأحلهن في سورة المائدة ‏.‏ وروي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري، وعبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي‏.‏ وقال قتادة وسعيد بن جبير‏:‏ لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات، وبينت الخصوص آية المائدة ولم يتناول العموم قط الكتابيات‏.‏ وهذا أحد قولي الشافعي، وعلى القول الأول يتناولهن العموم، ثم نسخت آية المائدة بعض العموم‏.‏ وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب، وقال‏:‏ ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقل مذموم‏.‏ وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي‏:‏ ذهب قوم فجعلوا الآية التي في البقرة هي الناسخة، والتي في المائدة هي المنسوخة، فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية‏.‏ قال النحاس‏:‏ ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدثناه محمد بن ريان، قال‏:‏ حدثنا محمد بن رمح، قال‏:‏ حدثنا الليث عن نافع أن عبدالله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال‏:‏ حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله‏!‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة‏.‏ ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك، وفقهاء الأمصار عليه‏.‏ وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التي في سورة المائدة لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة، و المائدة من آخر ما نزل‏.‏ وإنما الآخر ينسخ الأول، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه، لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين، في واحدة التحليل، وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل‏.‏ وذكر ابن عطية‏:‏ وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه‏:‏ ‏(‏إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير الإسلام حرام‏)‏، فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في المائدة وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ‏:‏ ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى‏.‏ وروي عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيدالله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا‏:‏ نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال‏:‏ لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما‏!‏ ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة‏:‏ أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين‏؟‏ فقال‏:‏ لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن‏.‏ وروي عن ابن عباس نحو هذا‏.‏ وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب، ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس‏.‏ وقال في آخر كلامه‏:‏ ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ وأما الآيتان فلا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى‏
{‏ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم‏}‏البقرة‏:‏ 105‏‏، وقال‏{‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين‏}‏البينة‏:‏ 1‏ ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وأيضا فاسم الشرك عموم وليس بنص، وقوله تعالى‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏المائدة‏:‏ 5‏ بعد قوله ‏{‏والمحصنات من المؤمنات‏}‏ نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل‏.‏ فإن قيل‏:‏ أراد بقوله‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ أي أوتوا الكتاب من قبلكم وأسلموا، كقوله ‏{‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله‏}‏آل عمران‏:‏ 199‏‏ الآية‏.‏ وقوله‏{‏من أهل الكتاب أمة قائمة‏}‏آل عمران‏:‏ 113‏‏ الآية‏.‏ قيل له‏:‏ هذا خلاف نص الآية في قوله‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ وخلاف ما قاله الجمهور، فإنه لا يشكل على أحد جواز التزويج ممن أسلم وصار من أعيان المسلمين‏.‏ فإن قالوا‏:‏ فقد قال الله تعالى‏{‏أولئك يدعون إلى النار‏}‏ فجعل العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار‏.‏ والجواب أن ذلك علة لقوله تعالى‏{‏ولأمة مؤمنة خير من مشركة‏}‏ لأن المشرك يدعو إلى النار، وهذه العلة مطردة في جميع الكفار، فالمسلم خير من الكافر مطلقا، وهذا بين‏.‏
وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا فلا يحل، وسئل ابن عباس عن ذلك فقال‏:‏ لا يحل، وتلا قول الله تعالى‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏التوبة‏:‏ 29‏ إلى قوله ‏{‏صاغرون‏}‏‏.‏ قال المحدث‏:‏ حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه‏.‏ وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولأمة مؤمنة خير من مشركة‏}‏ إخبار بأن المؤمنة المملوكة خير من المشركة، وإن كانت ذات الحسب والمال‏.‏ ‏{‏ولو أعجبتكم‏}‏ في الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره‏.‏ ونزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، فقال لها حذيفة‏:‏ يا خنساء، قد ذكرت في الملأ الأعلى مع سوادك ودمامتك، وأنزل الله تعالى ذكرك في كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوجها‏.‏ {‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا‏}‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقال عمر في رسالته لأبي موسى الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ‏.‏ جواب آخر‏:‏ قوله تعالى‏{‏ولأمة‏}‏ لم يرد به الرق المملوك وإنما أراد به الآدمية، والآدميات والآدميون بأجمعهم عبيدالله وإماؤه، قاله القاضي بالبصرة أبو العباس الجرجاني‏.‏
واختلفوا في نكاح نساء المجوس، فمنع مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق من ذلك‏.‏ وقال ابن حنبل‏:‏ لا يعجبني‏.‏ وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية، وأن عمر قال له‏:‏ طلقها‏.‏ وقال ابن القصار‏:‏ قال بعض أصحابنا‏:‏ يجب على أحد القولين أن لهم كتابا أن تجوز مناكحتهم‏.‏ وروى ابن وهب عن مالك أن الأمة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين، وكذلك الوثنيات وغيرهن من الكافرات، وعلى هذا جماعة العلماء، إلا ما رواه يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء وعمرو بن دينار أنهما سئلا عن نكاح الإماء المجوسيات، فقالا‏:‏ لا بأس بذلك‏.‏ وتأولا قول الله عز وجل‏{‏ولا تنكحوا المشركات‏}‏‏.‏ فهذا عندهما على عقد النكاح لا على الأمة المشتراة، واحتجا بسبي أوطاس، وأن الصحابة نكحوا الإماء منهن بملك اليمين‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول شاذ، أما سبي أوطاس فقد يجوز أن يكون الإماء أسلمن فجاز نكاحهن وأما الاحتجاج بقوله تعالى‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ فغلط، لأنهم حملوا النكاح على العقد، والنكاح في اللغة يقع على العقد وعلى الوطء، فلما قال‏{‏ولا تنكحوا المشركات‏}‏ حرم كل نكاح يقع على المشركات من نكاح ووطء‏.‏ وقال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ وقال الأوزاعي‏:‏ سألت الزهري عن الرجل يشتري المجوسية أيطؤها‏؟‏ فقال‏:‏ إذا شهدت أن لا إله إلا الله وطئها‏.‏ وعن يونس عن ابن شهاب قال‏:‏ لا يحل له أن يطأها حتى تسلم‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ قول ابن شهاب لا يحل له أن يطأها حتى تسلم هذا - وهو أعلم الناس بالمغازي والسير - دليل على فساد قول من زعم أن سبي أوطاس وطئن ولم يسلمن‏.‏ روي ذلك عن طائفة منهم عطاء وعمرو بن دينار قالا‏:‏ لا بأس بوطء المجوسية، وهذا لم يلتفت إليه أحد من الفقهاء بالأمصار‏.‏ وقد جاء عن الحسن البصري - وهو ممن لم يكن غزوه ولا غزو أهل ناحيته إلا الفرس وما وراءهم من خراسان، وليس منهم أحد أهل كتاب - ما يبين لك كيف كانت السيرة في نسائهم إذا سبين، قال‏:‏ أخبرنا عبدالله بن محمد بن أسد، قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، قال‏:‏ حدثنا علي بن عبدالعزيز، قال‏:‏ حدثنا أبو عبيد، قال‏:‏ حدثنا هشام عن يونس عن الحسن، قال‏:‏ قال رجل له‏:‏ يا أبا سعيد كيف كنتم تصنعون إذا سبيتموهن‏؟‏ قال‏:‏ كنا نوجهها إلى القبلة ونأمرها أن تسلم وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم نأمرها أن تغتسل، وإذا أراد صاحبها أن يصيبها لم يصبها حتى يستبرئها‏.‏ وعلى هذا تأويل جماعة العلماء في قول الله تعالى‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏‏.‏ أنهن الوثنيات والمجوسيات، لأن الله تعالى قد أحل الكتابيات بقوله‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ يعني العفائف، لا من شهر زناها من المسلمات‏.‏ ومنهم من كره نكاحها ووطأها بملك اليمين ما لم يكن منهن توبة، لما في ذلك من إفساد النسب‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولا تنكحوا‏}‏ أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك‏.‏ وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام‏.‏ والقراء على ضم التاء من ‏{‏تنكحوا‏}‏‏.‏
في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي‏.‏ قال محمد بن علي بن الحسين‏{‏النكاح بولي في كتاب الله‏}‏، ثم قرأ ‏{‏ولا تنكحوا المشركين‏}‏‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ {‏فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏}‏البقرة‏:‏ 232‏‏‏.‏ وهذه الآية نزلت في معقل بن يسار إذ عضل أخته عن مراجعة زوجها، قاله البخاري‏.‏ ولولا أن له حقا في الإنكاح ما نهي عن العضل‏.‏
قلت‏:‏ ومما يدل على هذا أيضا من الكتاب قوله‏{‏فانكحوهن بإذن أهلهن‏}‏النساء‏:‏ 25‏‏ وقوله‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏النور‏:‏ 32‏‏ فلم يخاطب تعالى بالنكاح غير الرجال، ولو كان إلى النساء لذكرهن‏.‏ وسيأتي بيان هذا في النور وقال تعالى حكاية عن شعيب في قصة موسى عليهما السلام‏{‏إني أريد أن أنكحك‏}‏ على ما يأتي بيانه في سورة القصص ‏.‏ وقال تعالى‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏النساء‏:‏ 34‏]‏، فقد تعاضد الكتاب والسنة على أن لا نكاح إلا بولي‏.‏ قال الطبري‏:‏ في حديث حفصة حين تأيمت وعقد عمر عليها النكاح ولم تعقده هي إبطال قول من قال‏:‏ إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها وعقد النكاح دون وليها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع خطبة حفصة لنفسها إذا كانت أولى بنفسها من أبيها، وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان ‏{‏فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏}‏البقرة‏:‏ 232‏‏، وقوله تعالى‏{‏فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف‏}‏البقرة‏:‏ 234‏، وبما‏"‏روى الدارقطني {‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏}‏التوبة‏:‏ 71‏ والمؤمنون في الجملة هكذا يرث بعضهم بعضا، فلو أن رجلا مات ولا وارث له لكان ميراثه لجماعة المسلمين، ولو جنى جناية لعقل عنه المسلمون، ثم تكون ولاية أقرب من ولاية، وقرابة أقرب من قرابة‏.‏ وإذا كانت المرأة بموضع لا سلطان فيه ولا ولي لها فإنها تصير أمرها إلى من يوثق به من جيرانها، فيزوجها ويكون هو وليها في هذه الحال، لأن الناس لا بد لهم من التزويج، وإنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن، وعلى هذا قال مالك في المرأة الضعيفة الحال‏:‏ إنه يزوجها من تسند أمرها إليه، لأنها ممن تضعف عن السلطان فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في الجملة إلى أن المسلمين أولياؤها، فأما إذا صيرت أمرها إلى رجل وتركت أولياءها فإنها أخذت الأمر من غير وجهه، وفعلت ما ينكره الحاكم عليها والمسلمون، فيفسخ ذلك النكاح من غير أن يعلم أن حقيقته حرام، لما وصفنا من أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ولما في ذلك من الاختلاف، ولكن يفسخ لتناول الأمر من غير وجهه، ولأنه أحوط للفروج ولتحصينها، فإذا وقع الدخول وتطاول الأمر وولدت الأولاد وكان صوابا لم يجز الفسخ، لأن الأمور إذا تفاوتت لم يرد منها إلا الحرام الذي لا يشك فيه، ويشبه ما فات من ذلك بحكم الحاكم إذا حكم بحكم لم يفسخ إلا أن يكون خطأ لا شك فيه‏.‏ وأما الشافعي وأصحابه فالنكاح عندهم بغير ولي مفسوخ أبدا قبل الدخول وبعده، ولا يتوارثان إن مات أحدهما‏.‏ والولي عندهم من فرائض النكاح، لقيام الدليل عندهم من الكتاب والسنة‏:‏ قال الله تعالى‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏النور‏:‏ 32‏ كما قال‏{‏فانكحوهن بإذن أهلهن‏}‏النساء‏:‏ 25‏‏، وقال مخاطبا للأولياء‏{‏فلا تعضلوهن‏}‏البقرة‏:‏ 232‏.‏ ‏{‏نعم العبد إنه أواب‏}‏ص‏:‏ 30، 44‏‏‏.‏ وهذا أحسن ما حمل عليه القول في هذه الآية، وبه يرتفع النزاع ويزول الخلاف، والله الموفق‏.‏
قوله تعالى‏{‏أولئك‏}‏ إشارة للمشركين والمشركات‏.‏ ‏{‏يدعون إلى النار‏}‏ أي إلى الأعمال الموجبة للنار، فإن صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل‏.‏ ‏{‏والله يدعو إلى الجنة والمغفرة‏}‏ أي إلى عمل أهل الجنة‏.‏ ‏{‏بإذنه‏}‏ أي بأمره، قاله الزجاج‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏229‏)‏

‏{‏الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الطلاق مرتان‏{‏ ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة، وكان هذا في أول الإسلام برهة، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا آويك ولا أدعك تحلين، قالت‏:‏ وكيف‏؟‏ قال‏:‏ أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك‏.‏ فشكت المرأة ذلك إلى عائشة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي، ونسخ ما كانوا عليه‏.‏ قال معناه عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم‏.‏ وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم‏:‏ ‏(‏المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها، والآية تتضمن هذين المعنيين‏)‏‏.‏
الطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة‏.‏ والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها، {‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏البقرة‏:‏ 230‏]‏‏.‏ وأجمعوا على أن من طلق امرأته طلقة أو طلقتين فله مراجعتها، فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وكان هذا من محكم القرآن الذي لم يختلف في تأويله‏.‏ وقد روي من أخبار العدول مثل ذلك أيضا‏:‏ ‏{‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏البقرة‏:‏ 230‏]‏‏.‏ فالثالثة مذكورة في صلب هذا الخطاب، مفيدة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج، فوجب حمل قوله‏{‏أو تسريح بإحسان‏{‏ على فائدة مجددة، وهو وقوع البينونة بالاثنتين عند انقضاء العدة، وعلى أن المقصود من الآية بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم، ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور، فلو كان قوله‏{‏أو تسريح بإحسان‏{‏ هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث، إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج، وإنما علم التحريم بقوله تعالى‏{‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏{‏‏.‏ فوجب ألا يكون معنى قوله‏{‏أو تسريح بإحسان‏{‏ الثالثة، ولو كان قوله‏{‏أو تسريح بإحسان‏{‏ بمعنى الثالثة كان قوله عقيب ذلك‏{‏فإن طلقها‏{‏ الرابعة، لأن الفاء للتعقيب، وقد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره، فثبت بذلك أن قوله تعالى‏{‏أو تسريح بإحسان‏{‏ هو تركها حتى تنقضي عدتها‏.‏
ترجم البخاري على هذه الآية ‏{‏باب من أجاز الطلاق الثلاث بقوله تعالى‏:‏ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏{‏ وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم، فمن ضيق على نفسه لزمه‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف، وشذ طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة، ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطأة‏.‏ وقيل عنهما‏:‏ لا يلزم منه شيء، وهو قول مقاتل‏.‏ ويحكى عن داود أنه قال لا يقع‏.‏ والمشهور عن الحجاج بن أرطأة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثا‏.‏ ولا فرق بين أن يوقع ثلاثا مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات، فأما من ذهب إلى أنه لا يلزم منه شيء فاحتج بدليل قوله تعالى‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏البقرة‏:‏ 228‏]‏‏.‏ وهذا يعم كل مطلقة إلا ما خص منه، وقد تقدم‏.‏ وقال‏{‏الطلاق مرتان‏{‏ والثالثة ‏{‏فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏{‏‏.‏ ومن طلق ثلاثا في كلمة فلا يلزم، إذ هو غير مذكور في القرآن‏.‏ وأما من ذهب إلى أنه واقع واحدة فاستدل بأحاديث ثلاثة‏:‏ أحدها‏:‏ حديث ابن عباس من رواية طاوس وأبي الصهباء وعكرمة‏.‏ وثانيها‏:‏ {‏لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا‏}‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ يريد الندم على الفرقة والرغبة في الرجعة، وموقع الثلاث غير حسن، لأن فيه ترك المندوحة التي وسع الله بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه الطلاق مفرقا يدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد، وقد يخرج بقياس من غير ما مسألة من المدونة ما يدل على ذلك، من ذلك قول الإنسان‏:‏ مالي صدقة في المساكين أن الثلث يجزيه من ذلك‏.‏ وفي الإشراف لابن المنذر‏:‏ وكان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون‏:‏ من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة‏.‏
قلت‏:‏ وربما اعتلوا فقالوا‏:‏ غير المدخول بها لا عدة عليها، فإذا قال‏:‏ أنت طالق ثلاثا فقد بانت بنفس فراغه من قوله‏:‏ أنت طالق، فيرد ‏{‏ثلاثا‏{‏ عليها وهى بائن فلا يؤثر شيئا، ولأن قوله‏:‏ أنت طالق مستقل بنفسه، فوجب ألا تقف البينونة في غير المدخول بها على ما يرد بعده، أصله إذا قال‏:‏ أنت طالق‏.‏
استدل الشافعي بقوله تعالى‏{‏أو تسريح بإحسان‏{‏ وقوله‏{‏وسرحوهن‏}‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏ على أن هذا اللفظ من صريح الطلاق‏.‏ وقد اختلف العلماء في هذا المعنى، فذهب القاضي أبو محمد إلى أن الصريح ما تضمن لفظ الطلاق على أي وجه، مثل أن يقول‏:‏ أنت طالق، أو أنت مطلقة، أو قد طلقتك، أو الطلاق له لازم، وما عدا ذلك من ألفاظ الطلاق مما يستعمل فيه فهو كناية، وبهذا قال أبو حنيفة‏.‏ وقال القاضي أبو الحسن‏:‏ صريح ألفاظ الطلاق كثيرة، وبعضها أبين من بعض‏:‏ الطلاق والسراح والفراق والحرام والخلية والبرية‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ الصريح ثلاثة ألفاظ، وهو ما ورد به القرآن من لفظ الطلاق والسراح والفراق، قال الله تعالى‏{‏أو فارقوهن بمعروف‏}‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ وقال‏{‏أو تسريح بإحسان‏{‏ وقال‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ وإذا تقرر هذا فالطلاق على ضربين‏:‏ صريح وكناية، فالصريح ما ذكرنا، والكناية ما عداه، والفرق بينهما أن الصريح لا يفتقر إلى نية، بل بمجرد اللفظ يقع الطلاق، والكناية تفتقر إلى نية، والحجة لمن قال‏:‏ إن الحرام والخلية والبرية من صريح الطلاق كثرة استعمالها في الطلاق حتى عرفت به، فصارت بينة واضحة في إيقاع الطلاق، كالغائط الذي وضع للمطمئن من الأرض، ثم استعمل على وجه المجاز في إتيان قضاء الحاجة، فكان فيه أبين وأظهر وأشهر منه فيما وضع له، وكذلك في مسألتنا مثله‏.‏ ثم إن عمر بن عبدالعزيز قد قال‏{‏لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا، فمن قال‏:‏ البتة، فقد رمى الغاية القصوى‏{‏ أخرجه مالك‏.‏ وقد‏"‏روى الدارقطني عن علي قال‏:‏ ‏(‏الخلية والبرية والبتة والبائن والحرام ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره‏)‏‏.‏ {‏ولا تتخذوا آيات الله هزوا‏}‏البقرة‏:‏ 231‏]‏ إن شاء الله تعالى‏.‏
لم يختلف العلماء فيمن قال لامرأته‏:‏ قد طلقتك، إنه من صريح الطلاق في المدخول بها وغير المدخول بها، فمن قال لامرأته‏:‏ أنت طالق فهي واحدة إلا أن ينوي أكثر من ذلك‏.‏ فإن نوى اثنتين أو ثلاثا لزمه ما نواه، فإن لم ينو شيئا فهي واحدة تملك الرجعة‏.‏ ولو قال‏:‏ أنت طالق، وقال‏:‏ أردت من وثاق لم يقبل قوله ولزمه، إلا أن يكون هناك ما يدل على صدقه‏.‏ ومن، قال‏:‏ أنت طالق واحدة، لا رجعة لي عليك فقوله‏{‏لا رجعة لي عليك‏{‏ باطل، وله الرجعة لقوله واحدة، لأن الواحدة لا تكون ثلاثا، فإن نوى بقوله‏{‏لا رجعة لي عليك‏{‏ ثلاثا فهي ثلاث عند مالك‏.‏
واختلفوا فيمن قال لامرأته‏:‏ قد فارقتك، أو سرحتك، أو أنت خلية، أو برية، أو بائن، أو حبلك على غاربك، أو أنت علي حرام، أو الحقي بأهلك، أو قد وهبتك لأهلك، أو قد خليت سبيلك، أو لا سبيل لي عليك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ هو طلاق بائن، وروى عن ابن مسعود وقال‏:‏ ‏(‏إذا قال الرجل لامرأته استقلي بأمرك، أو أمرك لك، أو الحقي بأهلك فقبلوها فواحدة بائنة‏)‏‏.‏ وروي عن مالك فيمن قال لامرأته‏:‏ قد فارقتك، أو سرحتك، أنه من صريح الطلاق، كقوله‏:‏ أنت طالق‏.‏ وروي عنه أنه كناية يرجع فيها إلى نية قائلها، ويسأل ما أراد من العدد، مدخولا بها كانت أو غير مدخول بها‏.‏ قال ابن المواز‏:‏ وأصح قوليه في التي لم يدخل بها أنها واحدة، إلا أن ينوي أكثر، وقاله ابن القاسم وابن عبدالحكم‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ هي ثلاث، ومثله خلعتك، أو لا ملك لي عليك‏.‏ وأما سائر الكنايات فهي ثلاث عند مالك في كل من دخل بها لا ينوى فيها قائلها، وينوى في غير المدخول بها‏.‏ فإن حلف وقال أردت واحدة كان خاطبا من الخطاب، لأنه لا يخلي المرأة التي قد دخل بها زوجها ولا يبينها ولا يبريها إلا ثلاث تطليقات‏.‏ والتي لم يدخل بها يخليها ويبريها ويبينها الواحدة‏.‏ وقد‏"‏روى مالك وطائفة من أصحابه، وهو قول جماعة من أهل المدينة، أنه ينوي في هذه الألفاظ كلها ويلزمه من الطلاق ما نوى‏.‏ وقد روي عنه في البتة خاصة من بين سائر الكنايات أنه لا ينوي فيها لا في المدخول بها ولا في غير المدخول بها‏.‏ وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه‏:‏ له نيته في ذلك كله، فإن نوى ثلاثا فهي ثلاث، وإن نوى واحدة فهي واحده بائنة وهي أحق بنفسها‏.‏ وإن نوى اثنتين فهي واحدة‏.‏ وقال زفر‏:‏ إن نوى اثنتين فهي اثنتان‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ هو في ذلك كله غير مطلق حتى يقول‏:‏ أردت بمخرج الكلام مني طلاقا فيكون ما نوى‏.‏ فإن نوى دون الثلاث كان رجعيا، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية‏.‏ وقال إسحاق‏:‏ كل كلام يشبه الطلاق فهو ما نوى من الطلاق‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ هي تطليقة رجعية ولا يسأل عن نيته‏.‏ وروي عن ابن مسعود ‏(‏أنه كان لا يرى طلاقا بائنا إلا في خلع أو إيلاء‏)‏ وهو المحفوظ عنه، قال أبو عبيد‏.‏ وقد ترجم البخاري ‏{‏باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو البرية أو الخلية أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته‏{‏‏.‏ وهذا منه إشارة إلى قول الكوفيين والشافعي وإسحاق في قوله‏:‏ أو ما عنى به من الطلاق‏{‏ والحجة في ذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقا أو غير طلاق فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلا أن يقول المتكلم‏:‏ إنه أراد بها الطلاق فيلزمه ذلك بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ واختلف قول مالك في معنى قول الرجل لامرأته‏:‏ اعتدي، أو قد خليتك، أو حبلك على غاربك، فقال مرة‏:‏ لا ينوي فيها وهي ثلاث‏.‏ وقال مرة‏:‏ ينوي فيها كلها، في المدخول بها وغير المدخول بها، وبه أقول‏.‏
قلت‏:‏ ما ذهب إليه الجمهور، وما‏"‏روى عن مالك أنه ينوي في هذه الألفاظ ويحكم عليه بذلك هو الصحيح، لما ذكرناه من الدليل، وللحديث الصحيح الذي خرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني وغيرهم {‏وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا‏}‏النساء‏:‏ 20‏]‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ هذا قول شاذ خارج عن الإجماع لشذوذه، وليست إحدى الآيتين دافعة للأخرى فيقع النسخ‏.‏، لأن قوله ‏{‏فإن خفتم‏{‏ الآية، ليست بمزالة بتلك الآية، لأنهما إذا خافا هذا لم يدخل الزوج‏.‏ في ‏{‏وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج‏{‏ لأن هذا للرجال خاصة‏.‏ وقال الطبري‏:‏ الآية محكمة، ولا معنى لقول بكر‏:‏ إن أرادت هي العطاء فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها كما تقدم‏.‏
تمسك بهذه الآية من رأى اختصاص الخلع بحالة الشقاق والضرر، وأنه شرط في الخلع، وعضد هذا بما رواه أبو داود{‏فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا‏}‏النساء‏:‏ 4‏]‏‏.‏
لما قال الله تعالى‏{‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏{‏ دل على جواز الخلع بأكثرها مما أعطاها‏.‏ وقد اختلف العلماء في هذا، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأبو ثور‏:‏ يجوز أن تفتدى منه بما تراضيا عليه، كان أقل مما أعطاها أو أكثر منه‏.‏ وروي هذا عن عثمان بن عفان وابن عمر وقبيصة والنخعي‏.‏ واحتج قبيصة بقوله‏{‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏{‏‏.‏ وقال مالك‏:‏ ليس من مكارم الأخلاق، ولم أر أحدا من أهل العلم يكره ذلك‏.‏ وروى الدارقطني {‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة‏}‏البقرة‏:‏ 233‏]‏‏.‏
فإن وقع الخلع على الوجه المباح بنفقة الابن فمات الصبي قبل انقضاء المدة فهل للزوج الرجوع عليها ببقية النفقة، فروى ابن المواز عن مالك‏:‏ لا يتبعها بشيء، وروى عنه أبو الفرج‏:‏ يتبعها، لأنه حق ثبت له في ذمة الزوجة بالخلع فلا يسقط بموت الصبي، كما لو خالعها بمال متعلق بذمتها، ووجه الأول أنه لم يشترط لنفسه مالا يتموله، وإنما اشترط كفاية مؤونة ولده، فإذا مات الولد لم يكن له الرجوع عليها بشيء، كما لو تطوع رجل بالإنفاق على صبي سنة فمات الصبي لم يرجع عليه بشيء، لأنه إنما قصد بتطوعه تحمل مؤونته، والله أعلم‏.‏ قال مالك‏:‏ لم أر أحدا يتبع بمثل هذا، ولو اتبعه لكان له في ذلك قول‏.‏ واتفقوا على أنها إن ماتت فنفقة الولد في مالها، لأنه حق ثبت فيه قبل موتها فلا يسقط بموتها‏.‏
ومن اشترط على امرأته في الخلع نفقة حملها وهي لا شيء لها فعليه النفقة إذا لم يكن لها مال تنفق منه، وإن أيسرت بعد ذلك اتبعها بما أنفق وأخذه منها‏.‏ قال مالك‏:‏ ومن الحق أن يكلف الرجل نفقة ولده وإن اشترط على أمه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه‏.‏
واختلف العلماء في الخلع هل هو طلاق أو فسخ، فروي عن عثمان وعلي وابن مسعود وجماعة من التابعين‏:‏ هو طلاق، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة‏:‏ وأصحابه والشافعي في أحد قوليه‏.‏ فمن نوى بالخلع تطليقتين أو ثلاثا لزمه ذلك عند مالك‏.‏ وقال أصحاب الرأي‏:‏ إن نوى الزوج ثلاثا كان ثلاثا، وإن نوى اثنتين فهو واحدة بائنة لأنها كلمة واحدة‏.‏ وقال الشافعي في أحد قوليه‏:‏ إن نوى بالخلع طلاقا وسماه فهو طلاق، وإن لم ينو طلاقا ولا سمى لم تقع فرقة، قاله في القديم‏.‏ وقوله الأول أحب إلي‏.‏ المزني‏:‏ وهو الأصح عندهم‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ إذا لم يسم الطلاق فالخلع فرقة وليس بطلاق، وإن سمى تطليقة فهي تطليقة، والزوج أملك برجعتها ما دامت في العدة‏.‏ وممن قال‏:‏ إن الخلع فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأحمد‏.‏ واحتجوا بالحديث عن ابن عيينة عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس ‏(‏أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله‏:‏ رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها‏؟‏ قال‏:‏ نعم لينكحها، ليس الخلع بطلاق‏)‏، ذكر الله عز وجل الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء ثم قال‏{‏الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏ ثم قرأ ‏{‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏البقرة‏:‏ 230‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ ولأنه لو كان طلاقا لكان بعد ذكر الطلقتين ثالثا، وكان قوله‏{‏فإن طلقها‏{‏ بعد ذلك دالا على الطلاق الرابع، فكان يكون التحريم متعلقا بأربع تطليقات‏.‏ واحتجوا أيضا بما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني ‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ ولو كانت هذه مطلقة لم يقتصر بها على قرء واحد‏.‏
قلت‏:‏ فمن طلق امرأته تطليقتين ثم خالعها ثم أراد أن يتزوجها فله ذلك - كما قال ابن عباس - وإن لم تنكح زوجا غيره، لأنه ليس له غير تطليقتين والخلع لغو‏.‏ ومن جعل الخلع طلاقا قال‏:‏ لم يجز أن يرتجعها حتى تنكح زوجا غيره، لأنه بالخلع كملت الثلاث، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى‏.‏ قال القاضي إسماعيل بن إسحاق‏:‏ كيف يجوز القول في رجل قالت له امرأته‏:‏ طلقني على مال فطلقها إنه لا يكون طلاقا، وهو لو جعل أمرها بيدها من غير شيء فطلقت نفسها كان طلاقا‏!‏‏.‏ قال وأما قوله تعالى‏{‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏{‏ فهو معطوف‏.‏ على قوله تعالى‏{‏الطلاق مرتان‏{‏، لأن قوله‏{‏أو تسريح بإحسان‏{‏ إنما يعني به أو تطليق‏.‏ فلو كان الخلع معطوفا على التطليقتين لكان لا يجوز الخلع أصلا إلا بعد تطليقتين وهذا لا يقوله أحد‏.‏ وقال غيره‏:‏ ما تأولوه في الآية غلط فإن قوله‏{‏الطلاق مرتان‏{‏ أفاد حكم الاثنتين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع، وأثبت معهما الرجعة بقوله‏{‏فإمساك بمعروف‏{‏ ثم ذكر حكمهما إذا كان على وجه الخلع فعاد الخلع إلى الثنتين المتقدم ذكرهما، إذ المراد بذلك بيان الطلاق المطلق والطلاق بعوض، والطلاق الثالث بعوض كان أو بغير عوض فإنه يقطع الحل إلا بعد زوج‏.‏
قلت‏:‏ هذا الجواب عن الآية، وأما الحديث فقال أبو داود - لما ذكر حديث ابن عباس في الحيضة - ‏:‏ هذا الحديث رواه عبدالرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا‏.‏ وحدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ عدة المختلعة عدة المطلقة‏.‏ قال أبو داود‏:‏ والعمل عندنا على هذا‏.‏
قلت‏:‏ وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأهل الكوفة‏.‏ قال الترمذي‏:‏ وأكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم‏.‏
قلت‏:‏ وحديث ابن عباس في الحيضة مع غرابته كما ذكر الترمذي، وإرساله كما ذكر أبو داود فقد قيل فيه‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عدتها حيضة ونصفا، {‏تلك حدود الله فلا تقربوها‏}‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ فقسم الحدود قسمين، منها حدود الأمر بالامتثال، وحدود النهي بالاجتناب، ثم أخبر تعالى فقال‏{‏ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون‏{‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏230‏)‏

‏{‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون‏}‏

احتج بعض مشايخ خراسان من الحنفية بهذه الآية على أن المختلعة يلحقها الطلاق، قالوا‏:‏ فشرع الله سبحانه صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق، لأن الفاء حرف تعقيب، فيبعد أن يرجع إلى قوله‏{‏الطلاق مرتان‏{‏ لأن الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله ‏{‏فإن طلقها‏{‏ على قوله ‏{‏الطلاق مرتان‏{‏ بل الأقرب عوده على ما يليه كما في الاستثناء ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة، كما أن قوله تعالى‏{‏وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن‏}‏النساء‏:‏ 23‏]‏ فصار مقصورا على ما يليه غير عائد على ما تقدمه حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء‏.‏
وقد اختلف العلماء في الطلاق بعد الخلع في العدة، فقالت طائفة‏:‏ إذا خالع الرجل زوجته ثم طلقها وهي في العدة لحقها الطلاق ما دامت في العدة، كذلك قال سعيد بن المسيب وشريح وطاوس والنخعي والزهري والحكم وحماد والثوري وأصحاب الرأي‏.‏ وفيه قول ثان وهو ‏(‏أن الطلاق لا يلزمها‏)‏، وهو قول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول مالك إلا أن مالكا قال‏:‏ إن افتدت منه على أن يطلقها ثلاثا متتابعا نسقا حين طلقها فذلك ثابت عليه، وإن كان بين ذلك صمات فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء، وإنما كان ذلك لأن نسق الكلام بعضه على بعض متصلا يوجب له حكما واحدا، وكذلك إذا اتصل‏.‏ الاستثناء باليمين بالله أثر وثبت له حكم الاستثناء، وإذا انفصل عنه لم يكن له تعلق بما تقدم من الكلام‏.‏
المراد بقوله تعالى‏{‏فإن طلقها‏{‏ الطلقة الثالثة ‏{‏فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏{‏‏.‏ وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه‏.‏
واختلفوا فيما يكفي من النكاح، وما الذي يبيح التحليل، فقال سعيد بن المسيب ومن وافقه‏:‏ مجرد العقد كاف‏.‏ وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ لا يكفي مجرد الوطء حتى يكون إنزال‏.‏ وذهب الجمهور من العلماء والكافة من الفقهاء إلى أن الوطء كاف في ذلك، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ما مرت بي في الفقه مسألة أعسر منها، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها‏؟‏ فإن قلنا‏:‏ إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب‏.‏ وإن قلنا‏:‏ إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال، لأنه آخر ذوق العسيلة على ما قاله الحسن‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب فقال‏:‏ أما الناس فيقولون‏:‏ لا تحل، للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول‏:‏ إذا تزوجها زواجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول‏.‏ وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها‏.‏
قلت‏:‏ وقد قال بقول سعيد بن المسيب سعيد بن جبير، ذكره النحاس في كتاب ‏{‏معاني القرآن‏{‏ له‏.‏ قال‏:‏ وأهل العلم على أن النكاح ههنا الجماع، لأنه قال‏{‏زوجا غيره‏{‏ فقد تقدمت الزوجية فصار النكاح الجماع، إلا سعيد بن جبير فإنه قال‏:‏ النكاح ههنا التزوج الصحيح إذا لم يرد إحلالها‏.‏
قلت‏:‏ وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى‏{‏حتى تنكح زوجا غيره‏{‏ والله أعلم‏.‏‏‏{‏أو ما ملكت أيمانكم‏}‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذا خطأ من القول، لأن قوله عز وجل‏{‏أو ما ملكت أيمانكم‏{‏ لا يبيح الأمهات ولا الأخوات، فكذلك سائر المحرمات‏.‏
إذا طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فنكحها ذمي ودخل بها ثم طلقها، فقالت طائفة‏:‏ الذمي زوج لها، ولها أن ترجع إلى الأول، هكذا قال الحسن والزهري وسفيان الثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وكذلك نقول، لأن الله تعالى قال‏{‏حتى تنكح زوجا غيره‏{‏ والنصراني زوج‏.‏ وقال مالك وربيعة‏:‏ لا يحلها‏.‏
النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا في قول الجمهور‏.‏ مالك والثوري‏.‏ والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، كلهم يقولون‏:‏ لا تحل للزوج الأول إلا بنكاح صحيح، وكان الحكم يقول‏:‏ هو زوج‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ليس بزوج، لأن أحكام الأزواج في الظهار والإيلاء واللعان غير ثابتة بينهما‏.‏ وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا قالت للزوج الأول‏:‏ قد تزوجت ودخل علي زوجي وصدقها أنها تحل للأول‏.‏ قال الشافعي‏:‏ والورع ألا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته‏.‏
جاء عن عمر بن الخطاب في هذا الباب تغليظ شديد وهو قوله‏:‏ ‏(‏لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما‏)‏‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ التحليل سفاح، ولا يزالون زانيين ولو أقاما عشرين سنة‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ، لأنه قد صح عنه أنه وضع الحد عن الواطئ فرجا حراما قد جهل تحريمه وعذره بالجهالة، فالتأويل أولى بذلك ولا خلاف أنه لا رجم عليه‏.‏
قوله تعالى‏{‏فإن طلقها‏{‏ يريد الزوج الثاني‏.‏ ‏{‏فلا جناح عليهما‏{‏ أي المرأة والزوج الأول، قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا آخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات‏.‏
واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها الأول، فقالت طائفة‏:‏ تكون على ما بقي من طلاقها، وكذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعمران بن حصين وأبو هريرة‏.‏ ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبدالله بن عمرو بن العاص، وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر‏.‏ وفيه قول ثان وهو ‏(‏أن النكاح جديد والطلاق جديد‏)‏، هذا قول ابن عمر وابن عباس، وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب‏.‏ وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال‏:‏ حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال‏:‏ كان أصحاب عبدالله يقولون‏:‏ أيهدم الزوج الثلاث، ولا يهدم الواحدة والاثنتين‏!‏ قال‏:‏ وحدثنا حفص عن حجاج عن طلحة عن إبراهيم أن أصحاب عبدالله كانوا يقولون‏:‏ يهدم الزوج الواحدة والاثنتين كما يهدم الثلاث، إلا عبيدة فإنه قال‏:‏ هي على ما بقي من طلاقها، ذكره أبو عمر‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبالقول الأول أقول‏.‏ وفيه قول ثالث وهو‏:‏ إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد، وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي، هذا قول إبراهيم النخغي‏.‏
قوله تعالى‏{‏إن ظنا أن يقيما حدود الله‏{‏ شرط‏.‏ قال طاوس‏:‏ إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه‏.‏ وقيل‏:‏ حدود الله فرائضه، أي إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني، فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته أو صداقها أو شيء من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع كان عليه أن يبين، كيلا يغر المرأة من نفسه‏.‏ وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال له ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها‏.‏ وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أو كان بها علة تمنع الاستمتاع من جنون أو جذام أو برص أو داء في الفرج لم يجز لها أن تغره، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك، كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد، فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها نصفه‏.‏ وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج وأخذ ما كان أعطاها من الصداق، {‏فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا‏}‏النساء‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وقال بعض أصحابنا‏:‏ عليها خدمة مثلها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوة أو ترفه فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك فعليها أن تقم البيت وتطبخ وتغسل‏.‏ وإن كانت من نساء الكرد والديلم والجبل في بلدهن كلفت ما يكلفه نساؤهم، وذلك أن الله تعالى قال‏{‏ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف‏}‏البقرة‏:‏ 228‏]‏‏.‏ وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه بما ذكرنا، ألا ترى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك، ويأخذونهن بالخدمة، فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن ذلك‏.‏
قوله تعالى‏{‏وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون‏{‏ حدود الله‏:‏ ما منع منه، والحد مانع من الاجتزاء على الفواحش، وأحدت المرأة‏:‏ امتنعت من الزينة، ورجل محدود‏:‏ ممنوع من الخير، والبواب حداد أي مانع‏.‏ وقد تقدم هذا مستوفى‏.‏ وإنما قال‏{‏لقوم يعلمون‏{‏ لأن الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده‏.‏ والعالم يحفظ ويتعاهد، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال‏.‏

الآية رقم ‏(‏231‏)‏

‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏فبلغن أجلهن‏{‏ معنى ‏{‏بلغن‏{‏ قاربن، بإجماع من العلماء، ولأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، وهو في الآية التي بعدها بمعنى التناهي، لأن المعنى يقتضي ذلك، فهو حقيقة في الثانية مجاز في الأولى‏.‏
قوله تعالى‏{‏فأمسكوهن بمعروف‏{‏ الإمساك بالمعروف هو القيام بما يجب لها من حق على زوجها، ولذلك قال جماعة من العلماء‏:‏ إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حد المعروف، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، والجوع لا صبر عليه، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ويحيى القطان وعبدالرحمن بن مهدي، وقاله من الصحابة عمر وعلي وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وقال‏:‏ إن ذلك سنة‏.‏ ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ لا يفرق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم، وهذا قول عطاء والزهري، وإليه ذهب الكوفيون والثوري، واحتجوا بقوله تعالى‏{‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة‏}‏البقرة‏:‏ 280‏]‏ وقال‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏النور‏:‏ 32‏]‏ الآية، فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة، وهو مندوب معه إلى النكاح‏.‏ وأيضا فإن النكاح بين الزوجين قد انعقد بإجماع فلا يفرق بينهما إلا بإجماع مثله، أو بسنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا معارض لها‏.‏ والحجة للأول قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري‏:‏ ‏(‏تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني‏)‏ فهذا نص في موضع الخلاف‏.‏ والفرقة بالإعسار عندنا طلقة رجعية خلافا للشافعي في قوله‏:‏ إنها طلقة بائنة، لأن هذه فرقة بعد البناء لم يستكمل بها عدد الطلاق ولا كانت لعوض ولا لضرر بالزوج فكانت رجعية، أصله طلاق المولي‏.‏
قوله تعالى‏{‏أو سرحوهن بمعروف‏{‏ يعني فطلقوهن، وقد تقدم‏.‏ ‏{‏ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا‏{‏‏"‏روى مالك عن ثور بن زيد الديلي‏:‏ أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها، كيما يطول بذلك العدة عليها وليضارها، فأنزل الله تعالى‏{‏ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه‏{‏ يعظهم الله به‏.‏ وقال الزجاج‏{‏فقد ظلم نفسه‏{‏ يعني عرض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله‏.‏ وهذا الخبر موافق للخبر الذي نزل بترك ما كان عليه أهل الجاهلية من الطلاق والارتجاع حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى‏{‏الطلاق مرتان‏{‏‏.‏ فأفادنا هذان الخبران أن نزول الآيتين المذكورتين كان في معنى واحد متقارب وذلك حبس الرجل المرأة ومراجعته لها قاصدا إلى الإضرار بها، وهذا ظاهر‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولا تتخذوا آيات الله هزوا‏{‏ معناه لا تتخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزو بالهزو فإنها جد كلها، فمن هزل فيها لزمته‏.‏ قال أبو الدرداء‏:‏ كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول‏:‏ إنما طلقت وأنا لاعب، وكان يعتق وينكح ويقول‏:‏ كنت لاعبا، فنزلت هذه الآية، فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏من طلق أو حرر أو نكح أو أنكح فزعم أنه لاعب فهو جد‏)‏‏.‏ رواه معمر قال‏:‏ حدثنا عيسى بن يونس عن عمرو عن الحسن عن أبي الدرداء فذكره بمعناه‏.‏ وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رجلا قال لابن عباس‏:‏ إني طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى علي‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏طلقت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا‏)‏‏.‏ وخرج الدارقطني من حديث إسماعيل بن أمية القرشي عن علي قال‏:‏ سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب وقال‏:‏ ‏(‏تتخذون آيات الله هزوا - أو دين الله هزوا ولعبا من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره‏)‏‏.‏ إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث‏.‏ وروي عن عائشة‏:‏ ‏(‏أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول‏:‏ والله لا أورثك ولا أدعك‏.‏ قالت‏:‏ وكيف ذاك‏؟‏ قال‏:‏ إذا كدت تقضين عدتك راجعتك‏)‏، فنزلت‏{‏ولا تتخذوا آيات الله هزوا‏{‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ والأقوال كلها داخلة في معنى الآية، لأنه يقال لمن سخر من آيات الله‏:‏ اتخذها هزوا‏.‏ ويقال ذلك لمن كفر بها، ويقال ذلك لمن طرحها ولم يأخذ بها وعمل بغيرها، فعلى هذا تدخل هذه الأقوال في الآية‏.‏ وآيات الله‏:‏ دلائله وأمره ونهيه‏.‏
ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه، واختلفوا في غيره على ما يأتي بيانه في ‏{‏براءة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وخرج أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة‏)‏‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي الدرداء كلهم قالوا‏:‏ ‏(‏ثلاث لا لعب فيهن واللاعب فيهن جاد‏:‏ النكاح والطلاق والعتاق‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين‏.‏ ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولا مع الإصرار فعلا، وكذا كل ما كان في هذا المعنى فاعلمه‏.‏
قوله تعالى‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم‏{‏ أي بالإسلام وبيان الأحكام‏.‏ ‏{‏والحكمة‏{‏ هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب‏.‏ ‏{‏يعظكم به‏{‏ أي يخوفكم‏.‏ ‏{‏واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم‏{‏ تقدم‏.‏
 
الاية رقم ‏(‏232‏)‏

‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلا تعضلوهن‏{‏ روي أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي البدَّاح فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها وقال‏:‏ وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه‏.‏ فنزلت الآية‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلا فقال‏:‏ ‏(‏إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبي البداح‏)‏ فقال‏:‏ آمنت بالله، وزوجها منه‏.‏ وروى البخاري عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت‏{‏فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏{‏‏.‏ وأخرجه أيضا الدارقطني عن الحسن قال‏:‏ حدثني معقل بن يسار قال‏:‏ كانت لي أخت فخطبت إلي فكنت أمنعها الناس، فأتى ابن عم لي فخطبها فأنكحتها إياه، فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا رجعيا ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها مع الخطاب، فقلت‏:‏ منعتها الناس وزوجتك إياها ثم طلقتها طلاقا له رجعة ثم تركتها حتى انقضت عدتها فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب لا أزوجك أبدا فأنزل الله، أو قال أنزلت‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏{‏ فكفرت عن يمين وأنكحتها إياه‏.‏ في رواية للبخاري‏:‏ فحمي معقل من ذلك أنفا، وقال‏:‏ خلى عنها وهو يقدر عليها ثم يخطبها فأنزل الله الآية، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية فترك الحمية وانقاد لأمر الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ هو معقل بن سنان ‏(‏بالنون‏)‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ رواه الشافعي في كتبه عن معقل بن يسار أو سنان‏.‏ وقال الطحاوي‏:‏ هو معقل بن سنان‏.‏
إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي لأن أخت معقل كانت ثيبا، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذا في قوله تعالى‏{‏فلا تعضلوهن‏{‏ للأولياء، وأن الأمر إليهم في التزويج مع رضاهن‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الخطاب في ذلك للأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير بتطويل العدة عليها‏.‏ واحتج بها أصحاب أبي حنيفة على أن تزوج المرأة نفسها قالوا‏:‏ لأن الله تعالى أضاف ذلك إليها كما قال‏
{‏فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏البقرة‏:‏ 230‏]‏ ولم يذكر الولي‏.‏ وقد تقدم القول في هذه المسألة مستوفى‏.‏ والأول أصح لما ذكرناه من سبب النزول‏.‏ والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏فإذا بلغن أجلهن‏{‏ بلوغ الأجل في هذا الموضع‏:‏ تناهيه، لأن ابتداء النكاح إنما يتصور بعد انقضاء العدة‏.‏ و‏{‏تعضلوهن‏{‏ معناه تحبسوهن‏.‏ وحكى الخليل‏:‏ دجاجة معضل‏:‏ قد احتبس بيضها‏.‏ وقيل‏:‏ العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال‏:‏ أردت أمرا فعضلتني عنه أي منعتني عنه وضيقت علي‏.‏ وأعضل الأمر‏:‏ إذا ضاقت عليك فيه الحيل، ومنه قولهم‏:‏ إنه لعضلة من العضل إذا كان لا يقدر على وجه الحيلة فيه‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ أصل العضل من قولهم‏:‏ عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة‏:‏ نشب بيضها‏.‏ وفي حديث معاوية‏:‏ ‏(‏معضلة ولا أبا حسن‏)‏، أي مسألة صعبة ضيقة المخارج‏.‏ وقال طاوس‏:‏ لقد وردت عضل أقضية ما قام بها إلا ابن عباس‏.‏ وكل مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشافعي‏:‏
إذا المعضلات تصدينني كشفت حقائقها بالنظر
ويقال‏:‏ أعضل الأمر إذا اشتد‏.‏ وداء عضال أي شديد عسر البرء أعيا الأطباء‏.‏ وعضل فلان أيمه أي منعها، يعضُلها ويعضِلها ‏(‏بالضم والكسر‏)‏ لغتان‏.‏
قوله تعالى‏{‏ذلك يوعظ به من كان‏{‏ ولم يقل ‏{‏ذلكم‏{‏ لأنه محمول على معنى الجمع‏.‏ ولو كان ‏{‏ذلكم‏{‏ لجاز، مثل ‏{‏ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم‏{‏ أي ما لكم فيه من الصلاح‏.‏ ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏{‏ ذلك‏.‏

الآية رقم ‏(‏233‏)‏

‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏والوالدات‏{‏ ابتداء‏.‏ ‏{‏يرضعن أولادهن‏{‏ في موضع الخبر‏.‏ ‏{‏حولين كاملين‏{‏ ظرف زمان‏.‏ ولما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ذكر الولد، لأن الزوجين قد يفترقان وثم ولد، فالآية إذا في المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن، قاله السدي والضحاك وغيرهما، أي هن أحق برضاع أولادهن من الأجنبيات لأنهن أحنى وأرق، وانتزاع الولد الصغير إضرار به وبها، وهذا يدل على أن الولد وإن فطم فالأم أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها، وإنما تكون أحق بالحضانة إذا لم تتزوج على ما يأتي‏.‏ وعلى هذا يشكل قوله‏{‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏{‏ لأن المطلقة لا تستحق الكسوة إذا لم تكن رجعية بل تستحق الأجرة إلا أن يحمل على مكارم الأخلاق فيقال‏:‏ الأولى ألا تنقص الأجرة عما يكفيها لقوتها وكسوتها‏.‏ وقيل‏:‏ الآية عامة في المطلقات اللواتي لهن أولاد وفي الزوجات‏.‏ والأظهر أنها في الزوجات في حال بقاء النكاح، لأنهن المستحقات للنفقة والكسوة، والزوجة تستحق النفقة والكسوة أرضعت أو لم ترضع، والنفقة والكسوة مقابلة التمكين، فإذا اشتغلت بالإرضاع لم يكمل التمكين، فقد يتوهم أن النفقة تسقط فأزال ذلك الوهم بقوله تعالى‏{‏وعلى المولود له‏{‏ أي الزوج ‏{‏رزقهن وكسوتهن، في حال الرضاع لأنه اشتغال في مصالح الزوج، فصارت كما لو سافرت لحاجة الزوج بإذنه فإن النفقة لا تسقط‏.‏
قوله تعالى‏{‏يرضعن‏{‏ خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، وعلى جهة الندب لبعضهن على ما يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ هو خبر عن المشروعية كما تقدم‏.‏
واختلف الناس في الرضاع هل هو حق للأم أو هو حق عليها، واللفظ محتمل لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال‏:‏ وعلى الوالدات رضاع أولادهن كما قال تعالى‏{‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن‏{‏ ولكن هو عليها في حال الزوجية، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط، إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها ألا ترضع وذلك كالشرط‏.‏ وعليها إن لم يقبل الولد غيرها واجب‏.‏ وهو عليها إذا عدم لاختصاصها به‏.‏ فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في المدونة أن الرضاع لازم للأم بخلاف النفقة‏.‏ وفي كتاب ابن الجلاب‏:‏ رضاعه في بيت المال‏.‏ وقال عبدالوهاب‏:‏ هو فقير من فقراء المسلمين‏.‏ وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي، فهي أحق بأجرة المثل، هذا مع يسر الزوج فإن كان معدما لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع‏.‏ وكل من يلزمها الإرضاع فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب‏.‏ وروي عن مالك أن الأب إذا كان معدما ولا مال للصبي أن الرضاع على الأم، فإن لم يكن لها لبن ولها مال فالإرضاع عليها في مالها‏.‏ قال الشافعي،‏:‏ لا يلزم الرضاع إلا والدا أو جدا وإن علا، وسيأتي ما للعلماء في هذا عند قوله تعالى‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏{‏‏.‏ يقال‏:‏ رضع يرضع رضاعة ورضاعا، ورضع يرضع رضاعا ورضاعة ‏(‏بكسر الراء في الأول وفتحها في الثاني‏)‏ واسم الفاعل راضع فيهما‏.‏ والرضاعة‏:‏ اللؤم ‏(‏مفتوح الراء لا غير‏)‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏حولين‏{‏ أي سنتين، من حال الشيء إذا انقلب، فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني‏.‏ وقيل‏:‏ سمي العام حولا لاستحالة الأمور فيه في الأغلب‏.‏ ‏{‏كاملين‏{‏ قيد بالكمال لأن القائل قد يقول‏:‏ أقمت عند فلان حولين وهو يريد حولا وبعض حول آخر، قال الله تعالى‏{‏فمن تعجل في يومين‏}‏البقرة‏:‏203‏]‏ وإنما يتعجل في يوم وبعض الثاني‏.‏ وقوله تعالى‏{‏لمن أراد أن يتم الرضاعة‏{‏ دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتما فإنه يجوز الفطام قبل الحولين، ولكنه تحديد لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين‏.‏ وإن أراد الأب الفطم قبل هذه المدة ولم ترض الأم لم يكن له ذلك‏.‏ والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود وعند رضا الوالدين‏.‏ وقرأ مجاهد وابن محيصن ‏{‏لمن أراد أن تتم الرضاعة‏{‏ بفتح التاء ورفع ‏{‏الرضاعة‏{‏ على إسناد الفعل إليها‏.‏ وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة بكسر الراء من ‏{‏الرضاعة‏{‏ وهي لغة كالحضارة والحضارة‏.‏ وروي عن مجاهد أنه قرأ ‏{‏الرضعة‏{‏ على وزن الفعلة‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قرأ ‏{‏أن يكمل الرضاعة‏{‏‏.‏ النحاس‏:‏ لا يعرف البصريون ‏{‏الرضاعة‏{‏ إلا بفتح الراء، ولا ‏{‏الرضاع‏{‏ إلا بكسر الراء، مثل القتال‏.‏ وحكى الكوفيون كسر الراء مع الهاء وفتحها بغير هاء‏.‏
انتزع مالك رحمه الله تعالى ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة‏.‏ هذا قوله في موطئه، وهي رواية محمد بن عبدالحكم عنه، وهو قول عمر وابن عباس، وروي عن ابن مسعود، وبه قال الزهري وقتادة والشعبي وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور‏.‏ وروى ابن عبدالحكم عنه الحولين وزيادة أيام يسيرة‏.‏ عبدالملك‏:‏ كالشهر ونحوه‏.‏ وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال‏:‏ الرضاع الحولين والشهرين بعد الحولين، وحكى عنه الوليد بن مسلم أنه قال‏:‏ ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فهو من الحولين، وما كان بعد ذلك فهو عبث‏.‏ وحكي عن النعمان أنه قال‏:‏ وما كان بعد الحولين إلى ستة أشهر فهو رضاع، والصحيح الأول لقوله تعالى‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين‏{‏ وهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين‏.‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏}‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وعلى هذا تتداخل مدة الحمل ومدة الرضاع ويأخذ الواحد من الآخر‏.‏
قوله تعالى‏{‏وعلى المولود له‏{‏ أي وعلى الأب‏.‏ ويجوز في العربية ‏{‏وعلى المولود لهم‏{‏ كقوله تعالى‏{‏ومنهم من يستمعون إليك‏}‏يونس‏:‏ 42‏]‏ لأن المعنى وعلى الذي ولد له و‏{‏الذي‏{‏ يعبر به عن الواحد والجمع كما تقدم‏.‏
قوله تعالى‏{‏رزقهن وكسوتهن‏{‏ الرزق في هذا الحكم الطعام الكافي، وفي هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجزه‏.‏ وسماه الله سبحانه للأم، لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع كما قال‏{‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن‏}‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏ لأن الغذاء لا يصل إلا بسببها‏.‏
وأجمع العلماء على أن على المرء نفقة ولده الأطفال الذين لا مال لهم‏.‏ (1)‏ وساق حديث أم سلمة وهند‏.‏ والمعنى فيه‏:‏ أن أم سلمة كان لها أبناء من أبي سلمة ولم يكن لهم مال، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها أن لها في ذلك أجرا‏.‏ فدل هذا الحديث على أن نفقة بنيها لا تجب عليها، ولو وجبت عليها لم تقل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ولست بتاركتهم‏.‏ وأما حديث هند فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقها على أخذ نفقتها ونفقة بنيها من مال الأب، ولم يوجبها عليها كما أوجبها على الأب‏.‏ فاستدل البخاري من هذا على أنه لما لم يلزم الأمهات نفقات الأبناء في حياة الآباء فكذلك لا يلزمهن بموت الآباء‏.‏ وأما قول من قال إن النفقة والكسوة على كل ذي رحم محرم فحجته أن على الرجل أن ينفق على كل ذي رحم محرم إذا كان فقيرا‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقد عورض هذا القول بأنه لم يؤخذ من كتاب الله تعالى ولا من إجماع ولا من سنة صحيحة، بل لا يعرف من قول سوى ما ذكرناه‏.‏ فأما القرآن فقد قال الله عز وجل‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏{‏ فإن كان على الوارث النفقة والكسوة فقد خالفوا ذلك فقالوا‏:‏ إذا ترك خاله وابن عمه فالنفقة على خاله وليس على ابن عمه شيء، فهذا مخالف نص القرآن لأن الخال لا يرث مع ابن العم في قول أحد، ولا يرث وحده في قول كثير من العلماء، والذي احتجوا به من النفقة على كل ذي رحم محرم، أكثر أهل العلم على خلافه‏.‏
قوله تعالى‏{‏فإن أرادا فصالا‏{‏ الضمير في ‏{‏أرادا‏{‏ للوالدين‏.‏ و‏{‏فصالا‏{‏ معناه فطاما عن الرضاع، أي عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات‏.‏ والفصال والفصل‏:‏ الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريق بين الصبي والثدي، ومنه سمي الفصيل، لأنه مفصول عن أمه‏.‏ ‏{‏عن تراض منهما‏{‏ أي قبل الحولين‏.‏ ‏{‏فلا جناح عليهما‏{‏ أي في فصله، وذلك أن الله سبحانه لما جعل مدة الرضاع حولين بين أن فطامهما، هو الفطام، وفصالهما هو الفصال ليس لأحد عنه منزع، إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارة بالولد، فذلك جائز بهذا البيان‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان الرضاع واجبا في الحولين وكان يحرم الفطام قبله، ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من الحولين بقوله‏{‏فإن أرادا فصالا‏{‏ الآية‏.‏ وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنونهما لا على الحقيقة واليقين، والتشاور‏:‏ استحراج الرأي، وكذلك المشاورة، والمشورة كالمعونة، وشرت العسل‏:‏ استخرجته، وشرت الدابة وشورتها أي أجريتها لاستخراج جريها، والشوار‏:‏ متاع البيت، لأنه يظهر للناظر، والشارة‏:‏ هيئة الرجل، والإشارة‏:‏ إخراج ما في نفسك وإظهاره‏.‏
قوله تعالى‏{‏وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم‏{‏ أي لأولادكم غير الوالدة، قاله الزجاج‏.‏ قال النحاس‏:‏ التقدير في العربية أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم، مثل ‏{‏كالوهم أو وزنوهم‏}‏المطففين‏:‏ 3‏]‏ أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، وحذفت اللام لأنه يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف، وأنشد سيبوبه‏:‏
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب
ولا يجوز‏:‏ دعوت زيدا، أي دعوت لزيد، لأنه يؤدي إلى التلبيس، فيعتبر في هذا النوع السماع‏.‏
قلت‏:‏ وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز اتخاذ الظئر إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك‏.‏ وقد قال عكرمة في قوله تعالى‏{‏لا تضار والدة‏{‏ معناه الظئر، حكاه ابن عطية‏.‏ والأصل أن كل أم يلزمها رضاع ولدها كما أخبر الله عز وجل، فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والزوجية قائمة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكره من رزقهن وكسوتهن، إلا أن مالكا رحمه الله دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة فقال‏:‏ لا يلزمها رضاعه‏.‏ فأخرجها من الآية وخصصها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالعادة‏.‏ وهذا أصل لم يتفطن له إلا مالك‏.‏ والأصل البديع فيه أن، هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب وجاء الإسلام فلم يغيره، وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء للمراضع إلى زمانه فقال به، وإلى زماننا فتحققناه شرعا‏.‏
قوله تعالى‏{‏إذا سلمتم‏{‏ يعني الآباء، أي سلمتم الأجرة إلى المرضعة الظئر، قاله سفيان‏.‏ مجاهد‏:‏ سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع‏.‏ وقرأ الستة من السبعة ‏{‏ما آتيتم‏{‏ بمعنى ما أعطيتم‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏أتيتم‏{‏ بمعنى ما جئتم وفعلتم، كما قال زهير‏:‏
وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل
قال قتادة والزهري‏:‏ المعنى سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي، وكان ذلك على اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر‏.‏ وعلى هذا الاحتمال فيدخل في الخطاب ‏{‏سلمتم‏{‏ الرجال والنساء، وعلى القولين المتقدمين الخطاب للرجال‏.‏ قال أبو علي‏:‏ المعنى إذا سلمتم ما آتيتم نقده أو إعطاءه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه، فكان التقدير‏:‏ ما آتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة، وعلى هذا التأويل فالخطاب للرجال، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ويحتمل أن تكون ‏{‏ما‏{‏ مصدرية، أي إذا سلمتم الإتيان، والمعنى كالأول، لكن يستغني عن الصفة من حذف المضاف ثم حذف الضمير‏.‏

الآية رقم ‏(‏234‏)‏

‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين يتوفون منكم‏{‏ لما ذكر عز وجل عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع، ذكر عدة الوفاة أيضا؛ لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق‏.‏ ‏{‏والذين‏{‏ أي والرجال الذين يموتون منكم‏.‏ ‏{‏ويذرون أزواجا‏{‏ أي يتركون أزواجا، أي ولهم زوجات؛ فالزوجات ‏{‏يتربصن‏{‏؛ قال معناه الزجاج واختاره النحاس‏.‏ وحذف المبتدأ في الكلام كثير؛ كقوله تعالى‏{‏قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار‏}‏الحج‏:‏ 72‏]‏ أي هو النار‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم؛ وهو كقولك‏:‏ السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن؛ فجاءت العبارة في غاية الإيجاز وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى‏:‏ وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون‏.‏ وقال بعض نحاة الكوفة‏:‏ الخبر عن ‏{‏الذين‏{‏ متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن؛ وهذا اللفظ معناه الخبر عن المشروعية في أحد الوجهين كما تقدم‏.‏
هذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص‏.‏ وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج‏}‏البقرة‏:‏240‏]‏ لأن الناس أقاموا برهة من الإسلام إذا توفى الرجل وخلف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقة سنة وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج؛ ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر وبالميراث‏.‏ وقال قوم‏:‏ ليس في هذا نسخ وإنما هو نقصان من الحول؛ كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن هذا نسخا‏.‏ وهذا غلط بين؛ لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة إذا لم تخرج، فإن خرجت لم تمنع، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشرا‏.‏ وهذا هو النسخ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء‏.‏ وقد قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر بحالها؛ وسيأتي‏.‏
عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين؛ واختاره سحنون من علمائنا‏.‏، وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن هذا‏.‏ والحجة لما روي عن على وابن عباس روم الجمع بين قوله تعالى‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏{‏ وبين قوله‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ وذلك أنها إذا قعدت أقصى الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول‏.‏ وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من حديث سبيعة الأسلمية وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال، وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج؛ أخرجه في الصحيح‏.‏ فبين الحديث أن قوله تعالى‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏{‏ محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنفين؛ ويعتضد هذا بقول ابن مسعود‏:‏ ومن شاء باهلته أن آية النساء القصرى نزلت بعد آية عدة الوفاة‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وظاهر كلامه أنها ناسخة لها وليس ذلك مراده‏.‏ والله أعلم‏.‏ وإنما يعني أنها مخصصة لها؛ فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها‏.‏ وكذلك حديث سبيعة متأخر عن عدة الوفاة؛ لأن قصة سبيعة كانت بعد حجة الوداع، وزوجها هو سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدرا، توفي بمكة حينئذ وهي حامل، وهو الذي رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفي بمكة، وولدت بعده بنصف شهر‏.‏ وقال البخاري‏:‏ بأربعين ليلة‏.‏ وروى مسلم من حديث عمر بن عبدالله بن الأرقم أن سبيعة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالت‏:‏ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي‏.‏ قال ابن شهاب‏:‏ ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر؛ وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء‏.‏ وقال الحسن والشعبي والنخعي وحماد‏:‏ لا تنكح النفساء ما دامت في دم نفاسها‏.‏ فاشترطوا شرطين‏:‏ وضع الحمل، والطهر من دم النفاس‏.‏ والحديث حجة عليهم، ولا حجة لهم في قوله‏:‏ ‏(‏فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب‏)‏ كما في صحيح مسلم وأبي داود؛ لأن ‏(‏تعلت‏)‏ وإن كان أصله، طهرت من دم نفاسها على ما قاله الخليل - فيحتمل أن يكون المراد به ههنا تعلت من آلام نفاسها؛ أي استقلت من أوجاعها‏.‏ ولو سلم أن معناه ما قال الخليل فلا حجة فيه؛ وإنما الحجة في قوله عليه السلام لسبيعة‏:‏ ‏(‏قد حللت حين وضعت‏)‏ فأوقع الحل في حين الوضع وعلقه عليه، ولم يقل إذا انقطع دمك ولا إذا طهرت؛ فصح ما قاله الجمهور‏.‏
ولا خلاف بين العلماء على أن أجل كل حامل مطلقة يملك الزوج رجعتها أو لا يملك، حرة كانت أو أمة أو مدبرة أو مكاتبة أن تضع حملها‏.‏
واختلفوا في أجل الحامل المتوفى عنها كما تقدم؛ وقد أجمع الجميع بلا خلاف بينهم أن رجلا لو توفي وترك امرأة حاملا فانقضت أربعة أشهر وعشر أنها لا تحل حتى تلد؛ فعلم أن المقصود الولادة‏.‏
قوله تعالى‏{‏يتربصن‏{‏ التربص‏:‏ التأني والتصبر عن النكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بألا تفارقه ليلا‏.‏ ولم يذكر الله تعالى السكنى للمتوفى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلقة بقوله تعالى‏{‏أسكنوهن‏{‏ وليس في لفظ العدة في كتاب الله تعالى ما يدل على الإحداد، وإنما قال‏{‏يتربصن‏{‏ فبينت السنة جميع ذلك‏.‏ والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة بأن التربص في الوفاة إنما هو بإحداد، وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه، وهذا قول جمهور العلماء‏.‏ وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ ليس الإحداد بشيء، إنما تتربص عن الزوج، ولها أن تتزين وتتطيب؛ وهذا ضعيف لأنه خلاف السنة على ما نبينه إن شاء الله تعالى‏.‏ وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة بنت مالك بن سنان وكانت متوفى عنها‏:‏ ‏(‏امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله‏)‏ قالت‏:‏ فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا؛ وهذا حديث ثابت أخرجه مالك عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، رواه عنه مالك والثوري ووهيب بن خالد وحماد بن زيد وعيسى بن يونس وعدد كثير وابن عيينة والقطان وشعبة، وقد رواه مالك عن ابن شهاب، وحسبك، قال الباجي‏:‏ لم يرو عنه غيره، وقد أخذ به عثمان بن عفان‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقضى به في اعتداد المتوفى عنها في بيتها، وهو حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج عنه، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر‏.‏ وكان داود يذهب إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتد في بيتها وتعتد حيث شاءت، لأن السكنى إنما ورد به القرآن في المطلقات؛ ومن حجته أن المسألة مسألة خلاف‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا الحديث إنما ترويه امرأة غير معروفة بحمل العلم؛ وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب الله أو سنة أو إجماع‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ أما السنة فثابتة بحمد الله، وأما الإجماع فمستغنى عنه بالسنة؛ لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة، وبالله التوفيق‏:‏ وروي عن علي وابن عباس وجابر وعائشة مثل قول داود؛ وبه قال جابر بن زيد وعطاء والحسن البصري‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إنما قال الله تعالى‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏{‏ ولم يقل يعتددن في بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت؛ وروي عن أبي حنيفة‏.‏ وذكر عبدالرزاق قال‏:‏ حدثنا معمر عن الزهري عن عروة قال‏:‏ خرجت عائشة بأختها أم كلثوم - حين قتل عنها زوجها طلحة بن عبيدالله - إلى مكة في عمرة، وكانت تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها‏.‏ قال‏:‏ وحدثنا الثوري عن عبيدالله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول‏:‏ أبى الناس ذلك عليها‏.‏ قال‏:‏ وحدثنا معمر عن الزهري قال‏:‏ أخذ المترخصون في المتوفى عنها زوجها بقول عائشة، وأخذ أهل الورع والعزم بقول ابن عمر‏.‏ وفي الموطأ‏:‏ أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج‏.‏ وهذا من عمر رضي الله عنه اجتهاد؛ لأنه كان يرى اعتداد المرأة في منزل زوجها المتوفى عنها لازما لها؛ وهو مقتضى القرآن والسنة، فلا يجوز لها أن تخرج في حج ولا عمرة حتى تنقضي عدتها‏.‏ وقال مالك‏:‏ ترد ما لم تحرم‏.‏
إذا كان الزوج يملك رقبة المسكن فإن للزوجة العدة فيه؛ وعليه أكثر الفقهاء‏:‏ مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم لحديث الفريعة‏.‏ وهل يجوز بيع الدار، إذا كانت ملكا للمتوفى وأراد ذلك الورثة؛ فالذي عليه جمهور أصحابنا أن ذلك جائز، ويشترط فيه العدة للمرأة‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ لأنها أحق بالسكنى من الغرماء‏.‏ وقال محمد بن الحكم‏:‏ البيع فاسد؛ لأنها قد ترتاب فتمتد عدتها‏.‏ وجه قول ابن القاسم‏:‏ أن الغالب السلامة، والريبة نادرة وذلك لا يؤثر في فساد العقود؛ فإن وقع البيع فيه بهذا الشرط فارتابت، قال مالك في كتاب محمد‏:‏ هي أحق بالمقام حتى تنقضي الريبة، وأحب إلينا أن يكون للمشتري الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ولا يرجع بشيء؛ لأنه دخل على العدة المعتادة، ولو وقع البيع بشرط زوال الريبة كان فاسدا‏.‏ وقال سحنون‏:‏ لا حجة للمشترى وإن تمادت الريبة إلى خمس سنين؛ لأنه دخل على العدة والعدة قد تكون خمس سنين؛ ونحو هذا‏"‏روى أبو زيد عن ابن القاسم‏.‏
فإن كان للزوج السكنى دون الرقبة، فلها السكنى في مدة العدة، خلافا لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله عليه السلام للفريعة - وقد علم أن زوجها لا يملك رقبة المسكن - ‏:‏ ‏(‏امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله‏)‏‏.‏ لا يقال إن المنزل كان لها، فلذلك قال لها‏:‏ ‏(‏امكثي في بيتك‏)‏ فإن معمرا‏"‏روى عن الزهري أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها قتل، وأنه تركها في مسكن ليس لها واستأذنته؛ وذكر الحديث‏.‏ ولنا من جهة المعنى أنه ترك دارا يملك سكناها ملكا لا تبعة عليه فيه؛ فلزم أن تعتد الزوجة فيه؛ أصل ذلك إذا ملك رقبتها‏.‏
وهذا إذا كان قد أدى الكراء، وأما إذا كان لم يؤد الكراء فالذي في المدونة‏:‏ إنه لا سكنى لها في مال الميت وإن كان موسرا؛ لأن حقها إنما يتعلق بما يملكه من السكنى ملكا تاما، وما لم ينقد عوضه لم يملكه ملكا تاما، وإنما ملك العوض الذي بيده، ولا حق في ذلك للزوجة إلا بالميراث دون السكنى؛ لأن ذلك مال وليس بسكنى‏.‏ وروى محمد عن مالك أن الكراء لازم للميت في ماله‏.‏
قوله صلى الله عليه وسلم للفريعة‏:‏ ‏(‏امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله‏)‏ يحتمل أنه أمرها بذلك لما كان زوجها قد أدى كراء المسكن، أو كان أسكن فيه إلى وفاته، أو أن أهل المنزل أباحوا لها العدة فيه بكراء أو غير كراء، أو ما شاء الله تعالى من ذلك مما رأى به أن المقام لازم لها فيه حتى تنقضي عدتها‏.‏
واختلفوا في المرأة يأتيها نعي زوجها وهي في بيت غير بيت زوجها؛ فأمرها بالرجوع إلى مسكنه وقراره مالك بن أنس؛ وروى ذلك عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه‏.‏ وقال سعيد بن المسيب والنخعي‏:‏ تعتد حيث أتاها الخبر، لا تبرح منه حتى تنقضي العدة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ قول مالك صحيح، إلا أن يكون نقلها الزوج إلى مكان فتلزم ذلك المكان‏.‏
ويجوز لها أن تخرج في حوائجها من وقت انتشار الناس بكرة إلى وقت هدوئهم بعد العتمة، ولا تبيت إلا في ذلك المنزل‏.‏ وفي البخاري ومسلم عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار‏)‏‏.‏ وفي حديث أم حبيبة‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ الإحداد‏:‏ ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلي والكحل والخضاب بالحناء ما دامت في عدتها؛ لأن الزينة داعية إلى الأزواج، فنهيت عن ذلك قطعا للذرائع، وحماية لحرمات الله تعالى أن تنتهك، وليس دهن المرأة رأسها بالزيت والشيرج من الطيب في شيء‏.‏ يقال‏:‏ امرأة حاد ومحد‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ ولم نعرف ‏(‏حدت‏)‏‏.‏ وفاعل ‏(‏لا يحل‏)‏ المصدر الذي يمكن صياغته من ‏(‏تحد‏)‏ مع ‏(‏أن‏)‏ المرادة؛ فكأنه قال‏:‏ الإحداد‏.‏
وصفه عليه السلام المرأة بالإيمان يدل على صحة أحد القولين عندنا في الكتابية المتوفى عنها زوجها أنها لا إحداد عليها؛ وهو قول ابن كنانة وابن نافع، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر، وروي عن ابن القاسم أن عليها الإحداد، كالمسلمة؛ وبه قال الليث والشافعي وأبو ثور وعامة أصحابنا؛ لأنه حكم من أحكام العدة فلزمت الكتابية للمسلم كلزوم المسكن والعدة‏.‏
وفي قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فوق ثلاث إلا على زوج‏)‏ دليل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة الإحداد عليهم ثلاثا تبدأ بالعدد من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها؛ فإن مات حميمها في بقية يوم أو ليلة ألغته وحسبت من الليلة القابلة‏.‏
هذا الحديث بحكم عمومه يتناول الزوجات كلهن المتوفى عنهن أزواجهن، فيدخل فيه الإماء والحرائر والكبار والصغار؛ وهو مذهب الجمهور من العلماء‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا إحداد على أمة ولا على صغيرة؛ حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أما الأمة الزوجة فهي داخلة في جملة الأزواج وفي عموم الأخبار؛ وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي؛ ولا أحفظ في ذلك عن أحد خلافا، ولا أعلمهم يختلفون في الإحداد على أم الولد إذا مات سيدها؛ لأنها ليست بزوجة، والأحاديث إنما جاءت في الأزواج‏.‏ قال الباجي‏:‏ الصغيرة إذا كانت ممن تعقل الأمر والنهي وتلتزم ما حد لها أمرت بذلك، وإن كانت لا تدرك شيئا من ذلك لصغرها فروى ابن مزين عن عيسى يجنبها أهلها جميع ما تجتنبه الكبيرة، وذلك لازم لها‏.‏ والدليل على وجوب الإحداد على الصغيرة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سألته امرأة عن بنت لها توفي عنها زوجها فاشتكت عينها أفتكحلها‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا‏)‏ مرتين أو ثلاثا؛ كل ذلك يقول ‏(‏لا‏)‏ ولم يسأل عن سنها؛ ولو كان الحكم يفترق بالصغر والكبر لسأل عن سنها حتى يبين الحكم، وتأخير البيان في مثل هذا لا يجوز، وأيضا فإن كل من لزمتها العدة بالوفاة لزمها الإحداد كالكبيرة‏.‏
قال ابن المنذر‏:‏ ولا أعلم خلافا أن الخضاب داخل في جملة الزينة المنهي عنها‏.‏ وأجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس الثياب المصبغة والمعصفرة، إلا ما صبغ، بالسواد فإنه رخص فيه عروة بن الزبير ومالك والشافعي، وكرهه الزهري‏.‏ وقال الزهري‏:‏ لا تلبس ثوب عصب، وهو خلاف الحديث‏.‏ وفي المدونة قال مالك‏:‏ لا تلبس رقيق عصب اليمن؛ ووسع في غليظه‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ لأن رقيقه بمنزلة الثياب المصبغة وتلبس رقيق الثياب وغليظه من الحرير والكتان والقطن‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ورخص كل من أحفظ عنه في لباس البياض؛ قال القاضي عياض‏:‏ ذهب الشافعي إلى أن كل صبغ كان زينة لا تمسه الحاد رقيقا كان أو غليظا‏.‏ ونحوه للقاضي عبدالوهاب قال‏:‏ كل ما كان من الألوان تتزين به النساء لأزواجهن فلتمتنع منه الحاد‏.‏ ومنع بعض، مشايخنا المتأخرين جيد البياض الذي يتزين به، وكذلك الرفيع من السواد‏.‏ وروى ابن المواز عن مالك‏:‏ لا تلبس حليا وإن كان حديدا؛ وفي الجملة أن كل ما تلبسه المرأة على وجه ما يستعمل عليه الحلي من التجمل فلا تلبسه الحاد‏.‏ ولم ينص أصحابنا على الجواهر واليواقيت والزمرد وهو داخل في معنى الحلي‏.‏ والله أعلم‏.‏
وأجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، إلا الحسن فإنه قال‏:‏ ليس بواجب؛ واحتج بما رواه عبدالله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس قالت‏:‏ لما أصيب جعفر بن أبي طالب قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت‏)‏‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد، وقال‏:‏ المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتختضبان وتصنعان ما شاءا‏.‏ وقد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإحداد، وليس لأحد بلغته إلا التسليم؛ ولعل الحسن لم تبلغه، أو بلغته فتأولها بحديث أسماء بنت عميس أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تحد على جعفر وهى امرأته؛ فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهري واكتحلي‏.‏ قال ابن المنذر؛ وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوبه؛ وكان أحمد بن حنبل يقول‏:‏ هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به؛ وقاله إسحاق‏.‏
ذهب مالك والشافعي إلى أن لا إحداد على مطلقة رجعية كانت أو بائنة واحدة‏.‏ أو أكثر؛ وهو قول ربيعة وعطاء‏.‏ وذهب الكوفيون‏:‏ أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي، وأبو ثور وأبو عبيد‏؟‏‏؟‏ أن المطلقة ثلاثا عليها الإحداد؛ وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن سيرين والحكم بن عيينة‏.‏ قال الحكم‏:‏ هو عليها أوكد وأشد منه على المتوفى عنها زوجها؛ ومن جهة المعنى أنهما جميعا في عدة يحفظ بها النسب‏.‏ وقال الشافعي وأحمد وإسحاق‏:‏ الاحتياط أن تتقي المطلقة الزينة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا‏)‏ دليل على أن المطلقة ثلاثا والمطلِق حيُّ لا إحداد عليها‏.‏
أجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها ثم توفي قبل انقضاء العدة أن عليها عدة الوفاة وترثه‏.‏ واختلفوا في عدة المطلقة ثلاثا في المرض؛ فقالت طائفة تعتد عدة الطلاق؛ هذا قول مالك والشافعي ويعقوب وأبي عبيد وأبي ثور‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبه نقول؛ لأن الله تعالى جعل عدة المطلقات الأقراء، وقد أجمعوا على المطلقة ثلاثا لو ماتت لم يرثها المطلق، وذلك لأنها غير زوجة؛ وإذا كانت غير زوجة فهو غير زوج لها‏.‏ وقال الثوري‏:‏ تعتد بأقصى العدتين‏.‏ وقال النعمان ومحمد‏:‏ عليها أربعة أشهر وعشر تستكمل في ذلك ثلاث حيض‏.‏
واختلفوا في المرأة يبلغها وفاة زوجها أو طلاقه؛ فقالت طائفة‏:‏ العدة في الطلاق والوفاة من يوم يموت أو يطلق؛ هذا قول ابن عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه قال مسروق وعطاء وجماعة من التابعين، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر‏.‏ وفيه قول ثان وهو أن عدتها من يوم يبلغها الخبر؛ روي هذا القول عن علي، وبه قال الحسن البصري وقتادة وعطاء الخراساني وجلاس بن عمرو‏.‏ وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز‏:‏ إن قامت بينة فعدتها من يوم مات أو طلق، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر؛ والصحيح الأول، لأنه تعالى علق العدة بالوفاة أو الطلاق، ولأنها لو علمت بموته فتركت الإحداد انقضت العدة، فإذا تركته مع عدم العلم فهو أهون؛ ألا ترى أن الصغيرة تنقضي عدتها ولا إحداد عليها‏.‏ وأيضا فقد أجمع العلماء على أنها لو كانت‏.‏ حاملا لا تعلم طلاق الزوج أو وفاته ثم وضعت حملها أن عدتها منقضية‏.‏ ولا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المختلف فيها‏.‏ ووجه من قال بالعدة من يوم يبلغها الخبر، أن العدة عبادة بترك الزينة وذلك لا يصح إلا بقصد ونية، والقصد لا يكون إلا بعد العلم‏.‏ والله أعلم‏.‏
عدة الوفاة تلزم الحرة والأمة والصغيرة والكبيرة والتي لم تبلغ المحيض، والتي حاضت واليائسة من المحيض والكتابية - دخل بها أو لم يدخل بها إذا كانت غير حامل - وعدة جميعهن إلا الأمة أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لعموم الآية في قوله تعالى‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏{‏‏.‏ وعدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهران وخمس ليال‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ نصف عدة الحرة إجماعا، إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى فيها بين الحرة والأمة وقد سبقه الإجماع، لكن لصممه لم يسمع‏.‏ قال الباجي‏:‏ ولا نعلم في ذلك خلافا إلا ما يروى عن ابن سيرين، وليس بالثابت عنه أنه قال‏:‏ عدتها عدة الحرة‏.‏
قلت‏:‏ قول الأصم صحيح من حيث النظر؛ فإن الآيات الواردة في عدة الوفاة والطلاق بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة؛ فعدة الحرة والأمة سواء على هذا النظر؛ فإن العمومات لا فصل فيها بين الحرة والأمة، وكما استوت الأمة والحرة في النكاح فكذلك تستوي معها في العدة‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وروي عن مالك أن الكتابية تعتد بثلاث حيض إذ يبرأ الرحم؛ وهذا منه فاسد جدا، لأنه أخرجها من عموم آية الوفاة وهي منها وأدخلها في عموم آية الطلاق وليست منها‏.‏
قلت‏:‏ وعليه بناء ما في المدونة لا عدة عليها إن كانت غير مدخول بها؛ لأنه قد علم براءة رحمها، هذا يقتضي أن تتزوج مسلما أو غيره إثر وفاته؛ لأنه إذا لم يكن عليها عدة للوفاة ولا استبراء للدخول فقد حلت للأزواج‏.‏
واختلفوا في

عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها
فقالت طائفة‏:‏ عدتها أربعة أشهر وعشر؛ قاله جماعة من التابعين منهم سعيد والزهري والحسن البصري وغيرهم، وبه قال الأوزاعي وإسحاق‏.‏ وروى أبو داود والدارقطني عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال‏:‏ لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر؛ يعني في أم الولد؛ لفظ أبي داود‏.‏ وقال الدارقطني‏:‏ موقوف‏.‏ وهو الصواب، وهو مرسل لأن قبيصة لم يسمع من عمرو‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وضعف أحمد وأبو عبيد هذا الحديث‏.‏ وروي عن علي وابن مسعود أن عدتها ثلاث حيض؛ وهو قول عطاء وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأصحاب الرأي؛ قالوا‏:‏ لأنها عدة تجب في حال الحرية، فوجب أن تكون عدة كاملة؛ أصله عدة الحرة‏.‏ وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور‏:‏ عدتها حيضة؛ وهو قول ابن عمر‏.‏ وروي عن طاوس أن عدتها نصف عدة الحرة المتوفى عنها؛ وبه قال قتادة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبقول ابن عمر أقول؛ لأنه الأقل مما قيل فيه وليس فيه سنة تتبع ولا إجماع يعتمد عليه‏.‏ وذكر اختلافهم في عدتها في العتق كهو في الوفاة سواء، إلا أن الأوزاعي جعل عدتها في العتق ثلاث حيض‏.‏
قلت‏:‏ أصح هذه الأقوال قول مالك، لأن الله سبحانه قال‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ فشرط في تربص الأقراء أن يكون عن طلاق؛ فانتفى بذلك أن يكون عن غيره‏.‏ وقال‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏{‏ فعلق وجوب ذلك بكون المتربصة زوجة؛ فدل على أن الأمة بخلافها‏.‏ وأيضا فإن هذه أمة موطوءة بملك اليمين فكان استبراؤها بحيضة؛ أصل ذلك الأمة‏.‏
إذا ثبت هذا فهل عدة أم الولد استبراء محض أو عدة؛ فالذي ذكره أبو محمد في معونته أن الحيضة استبراء وليست بعدة‏.‏ وفي المدونة أن أم الولد عليها العدة، وأن عدتها حيضة كعدة الحرة ثلاث حيض‏.‏ وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا هي عدة فقد قال مالك‏:‏ لا أحب أن تواعد أحدا ينكحها حتى تحيض حيضة‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ وبلغني عنه أنه قال‏:‏ لا تبيت إلا في بيتها؛ فأثبت لمدة استبرائها حكم العدة‏.‏
أجمع أهل العلم على أن نفقة المطلقة ثلاثا أو مطلقة للزوج عليها رجعة وهي حامل واجبة؛ لقوله تعالى‏{‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن‏}‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏
واختلفوا في

وجوب نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها
فقالت طائفة‏:‏ لا نفقة لها؛ كذلك قال جابر بن عبدالله وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعبدالملك بن يعلى ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك وأحمد وإسحاق، وحكى أبو عبيد ذلك عن أصحاب الرأي‏.‏ وفيه قول ثان وهو أن لها النفقة من جميع المال؛ وروي هذا القول عن علي وعبدالله وبه قال ابن عمرو وشريح وابن سيرين والشعبي وأبو العالية والنخعي وجلاس بن عمرو وحماد بن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري وأبو عبيد‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبالقول الأول أقول؛ لأنهم أجمعوا على أن نفقة كل من كان يجبر على نفقته وهو حي مثل أولاده الأطفال وزوجته ووالديه تسقط عنه؛ فكذلك تسقط عنه نفقة الحامل من أزواجه‏.‏ وقال القاضي أبو محمد‏:‏ لأن نفقة الحمل ليست بدين ثابت فتتعلق بماله بعد موته، بدليل أنها تسقط عنه بالإعسار فبأن تسقط بالموت أولى وأحرى‏.‏
قوله تعالى‏{‏أربعة أشهر وعشرا‏{‏ اختلف العلماء في الأربعة الأشهر والعشر التي جعلها الله ميقاتا لعدة المتوفى عنها زوجها، هل تحتاج فيها إلى حيضة أم لا؛ فقال بعضهم‏:‏ لا تبرأ إذا كانت ممن توطأ إلا بحيضة تأتي بها في الأربعة الأشهر والعشر، وإلا فهي مسترابة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ليس عليها أكثر من أربعة أشهر وعشر، إلا أن تستريب نفسها ريبة بينة؛ لأن هذه المدة لا بد فيها من الحيض في الأغلب من أمر النساء إلا أن تكون المرأة ممن لا تحيض أو ممن عرفت من نفسها أو عرف منها أن حيضتها لا تأتيها إلا في أكثر من هذه المدة‏.‏
قوله تعالى‏{‏وعشرا‏{‏‏"‏روى وكيع عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية أنه سئل‏:‏ لم ضمت العشر إلى الأربعة الأشهر‏؟‏ قال‏:‏ لأن الروح تنفخ فيها، وسيأتي في الحج بيان هذا إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ ويقال إن ولد كل حامل يرتكض في نصف حملها فهي مركض‏.‏ وقال غيره‏:‏ أركضت فهي مركضة وأنشد‏:‏
ومركضة صريحي أبوها تهان لها الغلامة والغلام
وقال الخطابي‏:‏ قوله ‏{‏وعشرا‏{‏ يريد - والله أعلم - الأيام بلياليها‏.‏ وقال المبرد‏:‏ إنما أنث العشر لأن المراد به المدة‏.‏ المعنى وعشر مدد، كل مدة من يوم وليلة، فالليلة مع يومها مدة معلومة من الدهر‏.‏ وقيل‏:‏ لم يقل عشرة تغليبا لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها‏.‏ ‏{‏وعشرا‏{‏ أخف في اللفظ؛ فتغلب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ، لأن ابتداء الشهور بالليل عند الاستهلال، فلما كان أول الشهر الليلة غلب الليلة؛ تقول‏:‏ صمنا خمسا من الشهر؛ فتغلب الليالي وإن كان الصوم بالنهار‏.‏ وذهب مالك والشافعي والكوفيون إلى أن المراد بها الأيام والليالي‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليالي كان باطلا حتى يمضي اليوم العاشر‏.‏ وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليالي حلت للأزواج، وذلك لأنه رأى العدة مبهمة فغلب التأنيث وتأولها على الليالي‏.‏ وإلى هذا ذهب الأوزاعي من الفقهاء وأبو بكر الأصم من المتكلمين‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قرأ ‏{‏أربعة أشهر وعشر ليال ‏{‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير‏{‏

فيه ثلاث مسائل‏:‏
الأولى‏:‏
أضاف تعالى الأجل إليهن إذ هو محدود مضروب في أمرهن، وهو عبارة عن انقضاء العدة‏.‏
الثانية‏:‏ قوله تعالى‏{‏فلا جناح عليكم‏{‏ خطاب لجميع الناس، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء‏.‏ ‏{‏فيما فعلن‏{‏ يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد‏.‏ ‏{‏بالمعروف‏{‏ أي بما أذن فيه الشرع من اختيار أعيان الأزواج وتقدير الصداق دون مباشرة العقد؛ لأنه حق للأولياء كما تقدم‏.‏
الثالثة‏:‏ وفي هذه الآية دليل على أن للأولياء منعهن من التبرج والتشوف للزوج في زمان العدة‏.‏ وفيها رد على إسحاق في قوله‏:‏ إن المطلقة إذا طعنت في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج الأول، إلا أنه لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل‏.‏ وعن شريك أن لزوجها الرجعة ما لم تغتسل ولو بعد عشرين سنة؛ قال الله تعالى‏{‏فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن‏{‏ وبلوغ الأجل هنا انقضاء العدة بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة ولم يذكر غسلا؛ فإذا انقضت عدتها حلت للأزواج ولا جناح عليها فيما فعلت من ذلك‏.‏ والحديث عن ابن عباس لو صح يحتمل أن يكون منه على الاستحباب، والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏235‏)‏

‏{‏ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا جناح‏{‏ أي لا إثم، والجناح الإثم، وهو أصح في الشرع وقيل‏:‏ بل هو الأمر الشاق، وهو أصح في اللغة؛ قال الشماخ‏:‏
{‏ إلا خطأ‏}‏النساء‏:‏ 92‏]‏ أي لكن خطأ‏.‏ والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض‏.‏ وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول للمعتدة‏:‏ احبسي علي نفسك فإن لي بك رغبة؛ فتقول هي‏:‏ وأنا مثل ذلك؛ وهذا شبه المواعدة‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح‏{‏ قد تقدم القول في معنى العزم؛ يقال‏:‏ عزم الشيء وعزم عليه‏.‏ والمعنى هنا‏:‏ ولا تعزموا على عقدة النكاح‏.‏ ومن الأمر البين أن القرآن أفصح كلام؛ فما ورد فيه فلا معترض عليه، ولا يشك في صحته وفصاحته؛ وقد قال الله تعالى‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏البقرة‏:‏ 227‏]‏ وقال هنا‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح‏{‏ والمعنى‏:‏ لا تعزموا على عقدة النكاح في زمان العدة ثم حذف على ما تقدم‏.‏ وحكى سيبويه‏:‏ ضرب فلان الظهر والبطن؛ أي على‏.‏ قال سيبويه‏:‏ والحذف في هذه الأشياء لا يقاس عليه‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ولا تعقدوا عقدة النكاح‏{‏؛ لأن معنى ‏{‏تعزموا‏{‏ وتعقدوا واحد‏.‏ ويقال‏{‏تعزموا‏{‏ بضم الزاي‏.‏
قوله تعالى‏{‏حتى يبلغ الكتاب أجله‏{‏ يريد تمام العدة‏.‏ والكتاب هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة؛ سماها كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله كما قال ‏{‏كتاب الله عليكم‏{‏ وكما قال‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا‏}‏النساء‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فالكتاب‏:‏ الفرض، أي حتى يبلغ الفرض أجله؛ ‏{‏كتب عليكم الصيام‏}‏البقرة‏:‏ 183‏]‏ أي فرض‏.‏ وقيل‏:‏ ، في الكلام حذف، أي حتى يبلغ فرض الكتاب أجله؛ فالكتاب على هذا التأويل بمعنى القرآن‏.‏ وعلى الأول لا حذف فهو أولى، والله أعلم‏.‏
حرم الله تعالى عقد النكاح في العدة بقوله تعالى‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله‏{‏ وهذا من المحكم المجمع على تأويله، أن بلوغ أجله انقضاء العدة‏.‏ وأباح التعريض في العدة بقوله‏{‏ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء‏{‏ الآية‏.‏ ولم يختلف العلماء في إباحة ذلك، واختلفوا في ألفاظ التعريض على ما تقدم‏.‏ واختلفوا في الرجل يخطب امرأة في عدتها جاهلا، أو يواعدها ويعقد بعد العدة؛ وقد تقدم هذا في الآية التي قبلها‏.‏ واختلفوا إن عزم العقدة في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه؛ وذلك قبل الدخول وهي‏:‏
فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء أن ذلك لا يؤبد تحريما، وأنه يكون خاطبا من الخطاب؛ وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه (2)‏‏.‏ وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد وإن فسخ قبل الدخول؛ ووجهه أنه نكاح في العدة فوجب أن يتأبد به التحريم؛ أصله إذا بنى بها‏.‏ وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها وهي‏:‏
فقال قوم من أهل العلم‏:‏ ذلك كالدخول في العدة؛ يتأبد التحريم بينهما‏.‏ وقال قوم من أهل العلم‏:‏ لا يتأبد بذلك تحريم‏.‏ وقال مالك‏:‏ يتأبد التحريم‏.‏ وقال مرة‏:‏ وما التحريم بذلك بالبين؛ والقولان له في المدونة في طلاق السنة‏.‏ وأما إن دخل في العدة، وهي‏:‏
فقال مالك والليث والأوزاعي‏:‏ يفرق بينهما ولا تحل له أبدا‏.‏ قال مالك والليث‏:‏ ولا بملك اليمين؛ مع أنهم جوزوا التزويج بالمزني بها‏.‏ واحتجوا بأن عمر بن الخطاب قال‏:‏ لا يجتمعان أبدا‏.‏ قال سعيد‏:‏ ولها مهرها بما استحل من فرجها؛ أخرجه مالك في موطئه وسيأتي‏.‏ وقال الثوري والكوفيون والشافعي‏:‏ يفرق بينهما ولا يتأبد التحريم بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه، ثم يكون خاطبا من الخطاب‏.‏ واحتجوا بإجماع العلماء على أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها؛ فكذلك وطؤه إياها في العدة‏.‏ قالوا‏:‏ وهو قول علي‏.‏ ذكره عبدالرزاق‏.‏ وذكر عن ابن مسعود مثله؛ وعن الحسن أيضا‏.‏ وذكر عبدالرزاق عن الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان‏.‏ وذكر القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى فقال‏:‏ لا يخلو الناكح في العدة إذا بنى بها أن يبني بها في العدة أو بعدها؛ فإن كان بنى بها في العدة فإن المشهور من المذهب أن التحريم يتأبد؛ وبه قال أحمد بن حنبل‏.‏ وروى الشيخ أبو القاسم في تفريعه أن في التي يتزوجها الرجل في عدة من طلاق أو وفاة عالما بالتحريم روايتين؛ إحداهما‏:‏ أن تحريمه يتأبد على ما قدمناه‏.‏ والثانية‏:‏ أنه زان وعليه الحد، ولا يلحق به الولد، وله أن يتزوجها إذا انقضت عدتها؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة‏.‏ ووجه الرواية الأولى - وهي المشهورة - ما ثبت من قضاء عمر بذلك، وقيامه بذلك في الناس، وكانت قضاياه تسير وتنتشر وتنقل في الأمصار، ولم يعلم له مخالف؛ فثبت أنه إجماع‏.‏ قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد روي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب ولا مخالف لهما مع شهرة ذلك وانتشاره؛ وهذا حكم الإجماع‏.‏ ووجه الرواية الثانية أن هذا وطء ممنوع فلم يتأبد تحريمه؛ كما لو زوجت نفسها أو تزوجت متعة أو زنت‏.‏ وقد قال القاضي أبو الحسن‏:‏ إن مذهب مالك المشهور في ذلك ضعيف من جهة النظر‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأسند أبو عمر‏:‏ حدثنا عبدالوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ عن محمد بن إسماعيل عن نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن أشعث عن الشعبي عن مسروق قال‏:‏ بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال‏:‏ لا تنكحها أبدا وجعل صداقها في بيت المال؛ وفشا ذلك في الناس فبلغ عليا فقال‏:‏ يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبيت المال، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة‏.‏ قيل‏:‏ فما تقول أنت فيهما‏؟‏ فقال‏:‏ لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ثم يخطبها إن شاء‏.‏ فبلغ عمر فخطب الناس فقال‏:‏ أيها الناس، ردوا الجهالات إلى السنة‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة نكاحها وهي في عدة من غيره أن النكاح فاسد‏.‏ وفي اتفاق عمر وعلي على نفي الحد عنهما ما يدل على أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد؛ إلا أنه مع الجهل بالتحريم متفق عليه، ومع العلم به مختلف فيه‏.‏ واختلفوا هل تعتد منهما جميعا‏.‏ وهذه مسألة العدتين وهي‏:‏
فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول، وتستأنف عدة أخرى من الآخر؛ وهو قول الليث والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ وروي عن علي كما ذكرنا، وعن عمر على ما يأتي‏.‏ وروى محمد بن القاسم وابن وهب عن مالك‏:‏ إن عدتها من الثاني تكفيها من يوم فرق بينه وبينها، سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالشهور؛ وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة‏.‏ وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها في بقية العدة منه؛ فدل على أنها في عدة من الثاني، ولولا ذلك لنكحها في عدتها منه‏.‏ أجاب الأولون فقالوا‏:‏ هذا غير لازم لأن منع الأول من أن ينكحها في بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثاني؛ وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين، لا يدخل أحدهما في صاحبه‏.‏ وخرج مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن سليمان بن يسار أن طليحة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما؛ ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الزوج الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب؛ وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر ثم لا يجتمعان أبدا‏.‏ قال مالك‏:‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ ولها مهرها بما استحل من فرجها‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وأما طليحة هذه فهي طليحة، بنت عبيدالله أخت طلحة بن عبيدالله التيمي، وفي بعض نسخ الموطأ من رواية يحيى‏:‏ طليحة الأسدية وذلك خطأ وجهل، ولا أعلم أحدا قاله‏.‏
قوله ‏(‏فضربها عمر بالمخفقة وضرب زوجها ضربات‏)‏ يريد على وجه العقوبة لما ارتكباه من المحظور وهو النكاح في العدة‏.‏ وقال الزهري‏:‏ فلا أدري كم بلغ ذلك الجلد‏.‏ قال‏:‏ وجلد عبدالملك في ذلك كل واحد منهما أربعين جلدة‏.‏ قال‏:‏ فسئل عن ذلك قبيصة بن ذؤيب فقال‏:‏ لو كنتم خففتم فجلدتم عشرين، وقال ابن حبيب في التي تتزوج في العدة فيمسها الرجل أو يقبل أو يباشر أو يغمز أو ينظر على وجه اللذة أن على الزوجين العقوبة وعلى الولي وعلى الشهود ومن علم منهم أنها في عدة، ومن جهل منهم ذلك فلا عقوبة عليه‏.‏ وقال ابن المواز‏:‏ يجلد الزوجان الحد إن كانا تعمدا ذلك؛ فيحمل قول ابن حبيب على من علم بالعدة، ولعله جهل التحريم ولم يتعمد ارتكاب المحظور فذلك الذي يعاقب؛ وعلى ذلك كان ضرب عمر المرأة وزوجها بالمخفقة ضربات‏.‏ وتكون العقوبة والأدب في ذلك بحسب حال المعاقب‏.‏ ويحمل قول ابن المواز على أنهما علما التحريم واقتحما ارتكاب المحظور جرأة وإقداما‏.‏ وقد قال الشيخ أبو القاسم‏:‏ إنهما روايتان في التعمد؛ إحداهما يحد، والثانية يعاقب ولا يحد‏.‏
قوله تعالى‏{‏واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه‏{‏ هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏236‏)‏

‏{‏لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا جناح عليكم إن طلقتم النساء‏{‏ هذا أيضا من أحكام المطلقات؛ وهو ابتداء إخبار برفع الحرج عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهرا أو لم يفرض؛ ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوج لطلب العصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن‏.‏ وقال قوم‏{‏لا جناح عليكم‏{‏ معناه لا طلب لجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها، والمتعة لمن لم يفرض لها‏.‏ وقيل‏:‏ لما كان أمر المهر مؤكدا في الشرع فقد يتوهم أنه لا بد من مهر إما مسمى وإما مهر المثل؛ فرفع الحرج عن المطلق في وقت التطليق وإن لم يكن في النكاح مهر‏.‏ وقال قوم‏{‏لا جناح عليكم‏{‏ معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت الحيض، بخلاف المدخول بها إذ غير المدخول بها لا عدة عليها‏.‏
المطلقات أربع‏:‏ مطلقة مدخول بها مفروض لها وقد ذكر الله حكمها قبل هذه الآية وأنه لا يسترد منها شيء من المهر، وأن عدتها ثلاثة قروء‏.‏ ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها فهذه الآية في شأنها ولا مهر لها بل أمر الرب تعالى بإمتاعها وبين في سورة ‏{‏الأحزاب‏{‏ أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدة عليها، وسيأتي‏.‏ ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها ذكرها بعد هذه الآية إذ قال‏
{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة‏{‏، ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها ذكرها الله في قوله‏{‏فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن‏}‏النساء‏:‏24‏]‏؛ فذكر تعالى هذه الآية والتي بعدها مطلقة قبل المسيس وقبل الفرض، ومطلقة قبل المسيس وبعد الفرض؛ فجعل للأولى المتعة، وجعل للثانية نصف الصداق لما لحق الزوجة من دحض العقد، ووصم الحل الحاصل للزوج بالعقد؛ وقابل المسيس بالمهر الواجب‏.‏
لما قسم الله تعالى حال المطلقة هنا قسمين‏:‏ مطلقة مسمى لها المهر، ومطلقة لم يسم لها دل على أن نكاح التفويض جائز وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصداق ولا خلاف فيه، ويفرض بعد ذلك الصداق فإن فرض التحق بالعقد وجاز وإن لم يفرض لها وكان الطلاق لم يجب صداق إجماعا قاله القاضي أبو بكر بن العربي‏.‏ وحكى المهدوي عن حماد بن أبي سليمان أنه إذا طلقها ولم يدخل بها ولم يكن فرض لها أجبر على نصف صداق مثلها‏.‏ وإن فرض بعد عقد النكاح وقبل وقوع الطلاق فقال أبو حنيفة‏:‏ لا يتنصف بالطلاق لأنه لم يجب بالعقد وهذا خلاف الظاهر من قوله تعالى‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة‏}‏البقرة‏:‏237‏]‏ وخلاف القياس أيضا؛ فإن الفرض بعد العقد يلحق بالعقد فوجب أن يتنصف بالطلاق؛ أصله الفرض المقترن بالعقد‏.‏
إن وقع الموت قبل الفرض فذكر الترمذي ‏{‏وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون‏}‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏ أي وهم قائلون‏.‏ وقوله‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏الصافات‏:‏ 147‏]‏ أي ويزيدون‏.‏، وقوله‏{‏ولا تطع منهم آثما أو كفورا‏}‏الإنسان‏:‏24‏]‏ أي وكفورا‏.‏ وقوله‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏النساء‏:‏ 43‏]‏ معناه وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى أو مسافرون‏.‏ وقوله‏{‏إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم‏}‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ وما كان مثله‏.‏ ويعتضد هذا بأنه تعالى عطف عليها بعد ذلك المفروض لها فقال‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة‏}‏البقرة‏:‏ 237‏]‏‏.‏ فلو كان الأول لبيان طلاق المفروض لها قبل المسيس لما كرره‏.‏
قوله تعالى‏{‏ومتعوهن‏{‏ معناه أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن‏.‏ وحمله ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبى الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب‏.‏ وحمله أبو عبيد ومالك بن أنس وأصحابه والقاضي شريح وغيرهم على الندب‏.‏ تمسك أهل القول الأول بمقتضى الأمر‏.‏ وتمسك أهل القول الثاني بقوله تعالى‏{‏حقا على المحسنين‏{‏ و‏{‏على المتقين‏{‏ ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين‏.‏ والقول الأول أولى؛ لأن عمومات الأمر بالإمتاع في قوله‏{‏متعوهن‏{‏ وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله‏{‏وللمطلقات متاع‏{‏ أظهر في الوجوب منه في الندب‏.‏ وقوله‏{‏على المتقين‏{‏ تأكيد لإيجابها؛ لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه، وقد قال تعالى في القرآن‏{‏هدى للمتقين‏{‏‏.‏
واختلفوا في الضمير المتصل بقوله ‏{‏ومتعوهن‏{‏ من المراد به من النساء‏؟‏ فقال ابن عباس وابن عمر وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وعطاء وإسحاق وأصحاب الرأي‏:‏ المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض، ومندوبة في حق غيرها‏.‏ وقال مالك وأصحابه‏:‏ المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها، إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها فحسبها ما فرض لها ولا متعة لها‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ لها المتعة ولكل مطلقة‏.‏ وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة‏.‏ قال الزهري‏:‏ يقضي لها بها القاضي‏.‏ وقال جمهور الناس‏:‏ لا يقضي بها لها‏.‏
قلت‏:‏ هذا الإجماع إنما هو في الحرة، فأما الأمة إذا طلقت قبل الفرض والمسيس فالجمهور على أن لها المتعة‏.‏ وقال الأوزاعي والثوري‏:‏ لا متعة لها لأنها تكون لسيدها وهو لا يستحق مالا في مقابلة تأذي مملوكته بالطلاق‏.‏ وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان‏:‏ المتعة بإزاء غم الطلاق، ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة قبل البناء ولا بعده؛ لأنها هي التي اختارت الطلاق‏.‏ وقال الترمذي وعطاء والنخعي‏:‏ للمختلعة متعة‏.‏ وقال أصحاب الرأي‏:‏ للملاعنة متعة‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ ولا متعة في نكاح مفسوخ‏.‏ قال ابن المواز‏:‏ ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد؛ مثل ملك أحد الزوجين صاحبه‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ وأصل ذلك قوله تعالى‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف‏{‏ فكان هذا الحكم مختصا بالطلاق دون الفسخ‏.‏ وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار هي نفسها، فهذه لا متعة لها‏.‏ وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذلك كله فلها المتعة؛ لأن الزوج سبب للفراق‏.‏
قال مالك‏:‏ ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها‏.‏ وقد اختلف الناس في هذا؛ فقال ابن عمر‏:‏ أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة‏.‏ عطاء‏:‏ أوسطها الدرع والخمار والملحفة‏.‏ أبو حنيفة‏:‏ ذلك أدناها‏.‏ وقال ابن محيريز‏:‏ على صاحب الديوان ثلاثة دنانير، وعلى العبد المتعة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يمتع كل بقدره، هذا بخادم وهذا بأثواب وهذا بثوب وهذا بنفقة؛ وكذلك يقول مالك بن أنس، وهو مقتضى القرآن فإن الله سبحانه لم يقدرها ولا حددها وإنما قال‏{‏على الموسع قدره وعلى المقتر قدره‏{‏‏.‏ ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفا وزقاق من عسل‏.‏ ومتع شريح بخمسمائة درهم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن حالة المرأة معتبرة أيضا؛ قاله بعض الشافعية، قالوا‏:‏ لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية ثم طلقهما قبل المسيس ولم يسم لهما أن يكونا متساويتين في المتعة فيجب للدنية ما يجب للشريفة وهذا خلاف ما قال الله تعالى‏{‏متاعا بالمعروف‏{‏ ويلزم منه أن، الموسر العظيم اليسار إذا تزوج امرأة دنية أن يكون مثلها؛ لأنه إذا طلقها قبل الدخول والفرض لزمته المتعة على قدر حاله ومهر مثلها؛ فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مثلها؛ فتكون قد استحقت قبل الدخول أضعاف ما تستحقه بعد الدخول من مهر المثل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطء‏.‏ وقال أصحاب الرأي وغيرهم‏:‏ متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير؛ لأن مهر المثل مستحق بالعقد، والمتعة هي بعض مهر المثل؛ فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول، وهذا يرده قوله تعالى‏{‏على الموسع قدره وعلى المقتر قدرة‏{‏ وهذا دليل على رفض التحديد؛ والله بحقائق الأمور عليم‏.‏ {‏فسالت أودية بقدرها‏}‏الرعد‏:‏ 17‏]‏ وقدرها، وقال تعالى‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ ولو حركت الدال لكان جائزا‏.‏ و‏{‏المقتر‏{‏ المقل القليل المال‏.‏ و‏{‏متاعا‏{‏ نصب على المصدر، أي متعوهن متاعا ‏{‏بالمعروف‏{‏ أي بما عرف في الشرع من الاقتصاد‏.‏
قوله تعالى‏{‏حقا على المحسنين‏{‏ أي يحق ذلك عليهم حقا، يقال‏:‏ حققت عليه القضاء وأحققت، أي أوجبت، وفي هذا دليل على وجوب المتعة مع الأمر بها، فقوله‏{‏حقا‏{‏ تأكيد للوجوب‏.‏ ومعنى ‏{‏على المحسنين‏{‏ و‏{‏على المتقين‏{‏ أي على المؤمنين، إذ ليس لأحد أن يقول‏:‏ لست بمحسن ولا متق، والناس مأمورون بأن يكونوا جميعا محسنين متقين؛ فيحسنون، بأداء فرائض الله ويجتنبون معاصيه حتى لا يدخلوا النار؛ فواجب على الخلق أجمعين أن يكونوا محسنين متقين‏.‏ و‏{‏حقا‏{‏ صفة لقوله ‏{‏متاعا‏{‏ أو نصب على المصدر، وذلك أدخل في التأكيد للأمر؛ والله أعلم‏.‏

الاية رقم ‏(‏237‏)‏

‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير‏}‏

اختلف الناس في هذه الآية؛ فقالت فرقة منها مالك وغيره‏:‏ إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتع؛ إذ يتناولها قوله تعالى‏{‏ومتعوهن‏{‏‏.‏ وقال ابن المسيب‏:‏ نسخت هذه الآية الآية التي في ‏{‏الأحزاب‏{‏ لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نسخت هذه الآية الآية التي قبلها‏.‏
قلت‏:‏ قول سعيد وقتادة فيه نظر؛ إذ شروط النسخ غير موجودة والجمع ممكن‏.‏ وقال ابن القاسم في المدونة‏:‏ كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف‏}‏البقرة‏:‏241‏]‏ ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة ‏{‏الأحزاب‏{‏ فاستثنى الله تعالى المفروض لها قبل الدخول بها بهذه الآية، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط‏.‏ وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور‏:‏ المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض لها، ولم يعن بالآية إسقاط متعتها، بل لها المتعة ونصف المفروض‏.‏
قوله تعالى‏{‏فنصف ما فرضتم‏{‏ أي فالواجب نصف ما فرضتم، أي من المهر فالنصف للزوج والنصف للمرأة بإجماع‏.‏ والنصف الجزء من اثنين؛ فيقال‏:‏ نصف الماء القدح أي بلغ نصفه‏.‏ ونصف الإزار الساق؛ وكل شيء بلغ نصف غيره فقد نصفه‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏فنصف‏{‏ بالرفع‏.‏ وقرأت فرقة ‏{‏فنصف‏{‏ بنصب الفاء؛ المعنى فادفعوا نصف‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت ‏{‏فنصف‏{‏ بضم النون في جميع القرآن وهي لغة‏.‏ وكذلك‏"‏روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء يقال‏:‏ نصف ونصف ونصيف،، لغات ثلاث في النصف؛ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه‏)‏ أي نصفه‏.‏ والنصيف أيضا القناع‏.‏
إذا أصدقها ثم طلقها قبل الدخول ونما الصداق في يدها فقال مالك‏:‏ كل عرض أصدقها أو عبد فنماؤهما لهما جميعا ونقصانه بينهما، وتواه عليهما جميعا ليس على المرأة منه شيء‏.‏ فإن أصدقها عينا ذهبا أو ورقا فاشترت به عبدا أو دارا أو اشترت به منه أو من غيره طيبا أو شوارا أو غير ذلك مما لها التصرف فيه لجهازها وصلاح شأنها في بقائها معه فذلك كله بمنزلة ما لو أصدقها إياه، ونماؤه ونقصانه بينهما‏.‏ وإن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا نصفه، وليس عليها أن تغرم له نصف ما قبضته منه، وإن اشترت به أو منه شيئا تختص به فعليها أن تغرم له نصف صداقها الذي قبضت منه، وكذلك لو اشترت من غيره عبدا أو دارا بالألف الذي أصدقها ثم طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الألف‏.‏
لا خلاف أن من دخل بزوجته ثم مات عنها وقد سمى لها أن لها ذلك المسمى كاملا والميراث، وعليها العدة‏.‏
واختلفوا في الرجل يخلو بالمرأة ولم يجامعها حتى فارقها؛ فقال الكوفيون ومالك‏:‏ عليه جميع المهر، وعليها العدة؛ لخبر ابن مسعود قال‏:‏ قضى الخلفاء الراشدون فيمن أغلق بابا أو أرخى سترا أن لها الميراث وعليها العدة؛ وروي مرفوعا خرجه الدارقطني وسيأتي في ‏{‏النساء‏{‏‏.‏ والشافعي لا يوجب مهرا كاملا، ولا عدة إذا لم يكن دخول؛ لظاهر القرآن‏.‏ قال شريح‏:‏ لم أسمع الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه بابا ولا سترا، إذا زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصداق؛ وهو مذهب ابن عباس وسيأتي ما لعلمائنا في هذا في سورة ‏{‏النساء‏{‏ إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى‏{‏وقد أفضى بعضكم إلى بعض‏}‏النساء‏:‏ 21‏]‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏{‏ الآية‏.‏ ‏{‏إلا أن يعفون‏{‏ استثناء منقطع؛ لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن‏.‏ و‏{‏يعفون‏{‏ معناه يتركن ويصفحن، ووزنه يفعلن‏.‏ والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي، وجب لهن عند الزوج، ولم تسقط النون مع ‏{‏أن‏{‏؛ لأن جمع المؤنث في المضارع على حالة واحدة في الرفع والنصب والجزم، فهي ضمير وليست بعلامة إعراب فلذلك لم تسقط؛ ولأنه لو سقطت النون لاشتبه بالمذكر‏.‏ والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها، فأذن الله سبحانه وتعالى لهن في إسقاطه بعد وجوبه؛ إذ جعله خالص حقهن، فيتصرفن فيه بالإمضاء والإسقاط كيف شئن، إذا ملكن أمر أنفسهن وكن بالغات عاقلات راشدات‏.‏ وقال ابن عباس وجماعة من الفقهاء والتابعين‏:‏ ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها؛ وحكاه سحنون في المدونة عن غير ابن القاسم بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا يجوز‏.‏ وأما التي في حجر أب أو وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها قولا واحدا، ولا خلاف فيه فيما أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏أو يعفو الذي بيده‏{‏ معطوف على الأول مبني، وهذا معرب‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏أو يعفو‏{‏ ساكنة الواو، كأنه استثقل الفتحة في الواو‏.‏ واختلف الناس في المراد بقوله تعالى‏{‏أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏{‏ فروى الدارقطني عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة من بني نصر فطلقها قبل أن يدخل بها، فأرسل إليها بالصداق كاملا وقال‏:‏ أنا أحق بالعفو منها، قال الله تعالى‏{‏إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ‏{‏وأنا أحق بالعفو منها‏.‏ وتأول قوله تعالى‏{‏أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏{‏ يعني نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده، أي عقدة نكاحه؛ فلما أدخل اللام حذف الهاء كقوله‏{‏فإن الجنة هي المأوى‏}‏النازعات‏:‏ 41‏]‏ أي مأواه‏.‏ قال النابغة‏:‏
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير عوازب
أي أحلامهم‏.‏ وكذلك قوله‏{‏عقدة النكاح‏{‏ أي عقدة نكاحه‏.‏ وروى الدارقطني مرفوعا من حديث قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولي عقدة النكاح الزوج‏)‏‏.‏ وأسند هذا عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح‏.‏ قال‏:‏ وكذلك قال نافع بن جبير ومحمد بن كعب وطاوس ومجاهد، والشعبي وسعيد بن جبير، زاد غيره ومجاهد والثوري؛ واختاره أبو حنيفة، وهو الصحيح من قول الشافعي، كلهم لا يرى سبيلا للولي على شيء من صداقها؛ للإجماع على أن الولي لو أبرأ الزوج من المهر قبل الطلاق لم يجز فكذلك بعده‏.‏ وأجمعوا على أن الولي لا يملك أن يهب شيئا من مالها، والمهر مالها‏.‏ وأجمعوا على أن من الأولياء من لا يجوز عفوهم وهم بنو العم وبنو الإخوة، فكذلك الأب، والله أعلم‏.‏ ومنهم من قال هو الولي أسنده الدارقطني أيضا عن ابن عباس قال‏:‏ وهو قول إبراهيم وعلقمة والحسن، زاد غيره وعكرمة وطاوس وعطاء وأبي الزناد وزيد بن أسلم وربيعة ومحمد بن كعب وابن شهاب والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في القديم‏.‏ فيجوز للأب العفو عن نصف صداق ابنته البكر إذا طلقت، بلغت المحيض أم لم تبلغه‏.‏ قال عيسى بن دينار‏:‏ ولا ترجع بشيء منه على أبيها، والدليل على أن المراد الولي أن الله سبحانه وتعالى قال في أول الآية‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم‏{‏ فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب، ثم قال‏{‏إلا أن يعفون‏{‏ فذكر النسوان، ‏{‏أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏{‏ فهو ثالث فلا يرد إلى الزوج المتقدم إلا لو لم يكن لغيره وجود، وقد وجد وهو الولي فهو المراد‏.‏ قال معناه مكي وذكره ابن العربي‏.‏ وأيضا فإن الله تعالى قال‏{‏إلا أن يعفون‏{‏ ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو، فإن الصغيرة والمحجور عليها لا عفو لهما، فبين الله القسمين فقال‏{‏إلا أن يعفون‏{‏ أي إن كن لذلك أهلا، ‏{‏أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏{‏ وهو الولي؛ لأن الأمر فيه إليه‏.‏ وكذلك‏"‏روى ابن وهب وأشهب وابن عبدالحكم وابن القاسم عن مالك أنه الأب في ابنته البكر والسيد في أمته‏.‏ وإنما يجوز عفو الولي إذا كان من أهل السداد، ولا يجوز عفوه إذا كان سفيها‏.‏ فإن قيل‏:‏ لا نسلم أنه الولي بل هو الزوج، وهذا الاسم أولى به؛ لأنه أملك للعقد من الولي على ما تقدم‏.‏ فالجواب - أنا لا نسلم أن الزوج أملك للعقد من الأب في ابنته البكر، بل أب البكر يملكه خاصة دون الزوج؛ لأن المعقود عليه هو بضع البكر، ولا يملك الزوج أن يعقد على ذلك بل الأب يملكه‏.‏ وقد أجاز شريح عفو الأخ عن نصف المهر؛ وكذلك قال عكرمة‏:‏ يجوز عفو الذي، عقد عقدة النكاح بينهما، كان عما أو أبا أو أخا، وإن كرهت‏.‏ وقرأ أبو نهيك والشعبي ‏{‏أو يعفو‏{‏ بإسكان الواو على التشبيه بالألف؛ ومثله قول الشاعر‏:‏
فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
قوله تعالى‏{‏وأن تعفوا أقرب للتقوى‏{‏ ابتداء وخبر، أو الأصل تعفووا أسكنت الواو الأولى لثقل حركتها ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وهو خطاب للرجال والنساء في قول ابن عباس فغلب الذكور، واللام بمعنى إلى، أي أقرب إلى التقوى‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏تعفو‏{‏ بالتاء باثنتين من فوق‏.‏ وقرأ أبو نهيك والشعبي ‏{‏وأن يعفوا‏{‏ بالياء، وذلك راجع إلى الذي بيده عقدة النكاح‏.‏
قلت‏:‏ ولم يقرأ ‏{‏وأن تعفون‏{‏ بالتاء فيكون للنساء‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ولا تنسوا الفضل‏{‏ بضم الواو؛ وكسرها يحيى بن يعمر‏.‏ وقرأ علي ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة ‏{‏ولا تناسوا الفضل‏{‏ وهي قراءة متمكنة المعنى؛ لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه‏.‏ قال مجاهد‏:‏ الفضل إتمام الرجل الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها‏.‏
قوله تعالى‏{‏إن الله بما تعملون بصير‏{‏ خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن، أي لا يخفى عليه عفوكم واستقضاؤكم‏.‏

الآية رقم ‏(‏238‏)‏

‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين‏}‏

قوله تعالى‏{‏حافظوا‏{‏ خطاب لجمع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها‏.‏ والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه‏.‏ ، والوسطى تأنيث الأوسط‏.‏ ووسط الشيء خيره وأعدله؛ ومنه قوله تعالى
‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وقد تقدم‏.‏ وقال أعرابي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏{‏وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح‏}‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏{‏فيهما فاكهة ونخل ورمان‏}‏الرحمن‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وقرأ أبو جعفر الواسطي ‏{‏والصلاة الوسطى‏{‏ بالنصب على الإغراء، أي وألزموا الصلاة الوسطى‏:‏ وكذلك قرأ الحلواني‏.‏ وقرأ قالون عن نافع ‏{‏الوصطى‏{‏ بالصاد لمجاورة الطاء لها؛ لأنهما من حيز واحد، وهما لغتان كالصراط ونحوه‏.‏

واختلف الناس في تعيين الصلاة الوسطى
على عشرة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أنها الظهر
لأنها وسط النهار على الصحيح من القولين أن النهار أوله من طلوع الفجر كما تقدم، وإنما بدأنا بالظهر لأنها أول صلاة صليت في الإسلام‏.‏ وممن قال أنها الوسطى زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وعبدالله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم‏.‏ ومما يدل على أنها وسطى ما قالته عائشة وحفصة حين أملتا ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر‏{‏ بالواو‏.‏ وروي أنها كانت أشق على المسلمين؛ لأنها كانت تجيء في الهاجرة وهم قد نفهتهم أعمالهم في أموالهم‏.‏ وروى أبو داود عن زيد قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن تصلى صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏{‏ وقال‏:‏ إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين‏.‏ وروى مالك في موطئه وأبو داود الطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال‏:‏ الصلاة الوسطى صلاة الظهر؛ زاد الطيالسي‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجير‏.‏

الثاني‏:‏ إنها العصر
لأن قبلها صلاتي نهار وبعدها صلاتي ليل‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأجود من هذا الاحتجاج أن يكون إنما قيل لها وسطى لأنها بين صلاتين إحداهما أول ما فرض والأخرى الثانية مما فرض‏.‏ وممن قال أنها وسطى علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري، وهو اختيار أبي حنيفة وأصحابه، وقاله الشافعي وأكثر أهل الأثر، وإليه ذهب عبدالملك بن حبيب واختاره ابن العربي في قبسه وابن عطية في تفسيره وقال‏:‏ وعلى هذا القول الجمهور من الناس وبه أقول واحتجوا بالأحاديث الواردة في هذا الباب خرجها مسلم وغيره، وأنصها حديث ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصلاة الوسطى صلاة العصر‏)‏ خرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وقد أتينا زيادة على هذا في القبس في شرح موطأ مالك بن أنس‏.‏

الثالث‏:‏ إنها المغرب
قاله قبيصة بن أبي ذؤيب في جماعة‏.‏ والحجة لهم أنها متوسطة في عدد الركعات ليست بأقلها ولا أكثرها ولا تقصر في السفر، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها، وبعدها صلاتا جهر وقبلها صلاتا سر‏.‏ وروي من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب لم يحطها عن مسافر ولا مقيم فتح الله بها صلاة الليل وختم بها صلاة النهار فمن صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين بنى الله له قصرا في الجنة ومن صلى بعدها أربع ركعات غفر الله له ذنوب عشرين سنة - أو قال - أربعين سنة‏)‏‏.

الرابع‏:‏ صلاة العشاء الآخرة
لأنها بين صلاتين لا تقصران، وتجيء في وقت نوم ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها‏.‏

الخامس‏:‏ إنها الصبح
لأن قبلها صلاتي ليل يجهر فيهما وبعدها صلاتي نهار يسر فيهما؛ ولأن وقتها يدخل والناس نيام، والقيام إليها شاق في زمن البرد لشدة البرد وفي زمن الصيف لقصر الليل‏.‏ وممن قال أنها وسطى علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس، أخرجه، الموطأ بلاغا، وأخرجه الترمذي عن ابن عمر وابن عباس تعليقا، وروي عن جابر بن عبدالله، وهو قول مالك وأصحابه وإليه ميل الشافعي فيما ذكر عنه القشيري‏.‏ والصحيح عن علي أنها العصر، وروي عنه ذلك من وجه معروف صحيح وقد استدل من قال أنها الصبح بقوله تعالى‏{‏وقوموا لله قانتين‏{‏ يعني فيها، ولا صلاة مكتوبة فيها قنوت إلا الصبح‏.‏ قال أبو رجاء‏:‏ صلى بنا ابن عباس صلاة الغداة بالبصرة فقنت فيها قبل الركوع ورفع يديه فلما فرغ قال‏:‏ هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله تعالى أن نقوم فيها قانتين‏.‏ وقال أنس‏:‏ قنت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بعد الركوع؛ وسيأتي حكم القنوت وما للعلماء فيه في ‏{‏آل عمران‏{‏ عند قوله تعالى‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏‏.‏

السادس‏:‏ صلاة الجمعة
لأنها خصت بالجمع لها والخطبة فيها وجعلت عيدا ذكره ابن حبيب ومكي وروى مسلم عن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة‏:‏ ‏(‏لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم‏)‏‏.‏

السابع‏:‏ إنها الصبح والعصر معا‏.‏
قاله الشيخ أبو بكر الأبهري؛ واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، رواه أبو هريرة‏.‏ وروى جرير بن عبدالله قال‏:‏ كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال‏:‏ ‏(‏أما أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ يعني العصر والفجر‏:‏ ثم قرأ جرير
{‏وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها‏}‏ق‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وروى عمارة بن رؤيبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها‏)‏، يعني الفجر والعصر‏.‏ وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من صلى البردين دخل الجنة‏)‏ كله ثابت في صحيح مسلم وغيره‏.‏ وسميتا البردين لأنهما يفعلان في وقتي البرد‏.‏

الثامن‏:‏ إنها العتمة والصبح‏.‏
قال أبو الدرداء رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه‏:‏ ‏(‏اسمعوا وبلغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة - العشاء والصبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على مرافقكم وركبكم‏)‏ قاله عمر وعثمان‏.‏ وروى الأئمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا - وقال - إنهما أشد الصلاة على المنافقين‏)‏ وجعل لمصلي الصبح في جماعة قيام ليلة والعتمة نصف ليلة؛ ذكره مالك موقوفا على عثمان ورفعه مسلم، وخرجه أبو داود والترمذي عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة‏)‏ وهذا خلاف ما رواه مالك ومسلم‏.‏

التاسع‏:‏ أنها الصلوات الخمس بجملتها
قاله معاذ بن جبل؛ لأن قوله تعالى‏{‏حافظوا على الصلوات‏{‏ يعم الفرض والنفل، ثم خص الفرض بالذكر‏.‏

العاشر‏:‏ إنها غير معينة
قاله نافع عن ابن عمر، وقاله الربيع بن خيثم فخبأها الله تعالى في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان، وكما خبأ ساعة يوم الجمعة وساعات الليل المستجاب فيها الدعاء ليقوموا بالليل في الظلمات لمناجاة عالم الخفيات‏.‏ ومما يدل على صحة أنها مبهمة غير معينة ما رواه مسلم في صحيحه في آخر الباب عن البراء بن عازب قال‏:‏ نزلت هذه الآية‏{‏حافظوا على الصلوات وصلاة العصر‏{‏ فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏{‏ فقال رجل‏:‏ هي إذا صلاة العصر‏؟‏ قال البراء‏:‏ قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله تعالى، والله أعلم‏.‏ فلزم من هذا أنها بعد أن عينت نسخ تعيينها وأبهمت فارتفع التعيين، والله أعلم‏.‏ وهذا اختيار مسلم لأنه أتى به في آخر الباب وقال به غير واحد من العلماء المتأخرين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لتعارض الأدلة وعدم الترجيح فلم يبق إلا المحافظة على جميعها وأدائها في أوقاتها والله أعلم‏.‏
وهذا الاختلاف في الصلاة الوسطى يدل على بطلان من أثبت ‏{‏وصلاة العصر‏{‏ المذكور في {‏أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما‏}‏الزمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ (1) وذكر أن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وقدم المدينة في ذلك العام، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أعوام، وشهد قصة ذي اليدين وحضرها، وأنها لم تكن قبل بدر كما زعموا، وأن ذا اليدين قتل في بدر‏.‏ قال‏:‏ وحضور أبي هريرة يوم ذي اليدين محفوظ من رواية الحفاظ الثقات، وليس تقصير من قصر عن ذلك بحجة على من علم ذلك وحفظه وذكر‏.‏
القنوت‏:‏ القيام، وهو أحد أقسامه فيما ذكر أبو بكر بن الأنباري، وأجمعت الأمة على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، منفردا كان أو إماما‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما‏)‏ الحديث،، أخرجه الأئمة، وهو بيان لقوله تعالى‏{‏وقوموا لله قانتين‏{‏‏.‏ واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعدا خلف إمام مريض لا يستطيع القيام؛ فأجازت ذلك طائفة من أهل العلم بل جمهورهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الإمام‏:‏ ‏(‏وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون‏)‏ وهذا هو الصحيح في المسألة على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى‏.‏ وقد أجاز طائفة من العلماء صلاة القائم خلف الإمام المريض لأن كلا يؤدي فرضه على قدر طاقته تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صلى في مرضه الذي توفي فيه قاعدا وأبو بكر إلى جنبه قائما يصلي بصلاته والناس قيام خلفه، ولم يشر إلى أبي بكر ولا إليهم بالجلوس، وأكمل صلاته بهم جالسا وهم قيام؛ ومعلوم أن ذلك كان منه بعد سقوطه عن فرسه؛ فعلم أن الآخر من فعله ناسخ للأول‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وممن ذهب إلى هذا المذهب واحتج بهذه الحجة الشافعي وداود بن علي، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك‏.‏ قال‏:‏ وأحب إلي أن يقوم إلى جنبه ممن يعلم الناس بصلاته، وهذه الرواية غريبة عن مالك‏.‏ وقال بهذا جماعة من أهل المدينة وغيرهم وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأنها آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمشهور عن مالك أنه لا يؤم القيام أحد جالسا، فإن أمهم قاعدا بطلت صلاته وصلاتهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحد بعدي قاعدا‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فإن كان الإمام عليلا تمت صلاة الإمام وفسدت صلاة من خلفه‏.‏ قال‏:‏ ومن صلى قاعدا من غير علة أعاد الصلاة؛ هذه رواية أبي مصعب في مختصره عن مالك، وعليها فيجب على من صلى قاعدا الإعادة في الوقت وبعده‏.‏ وقد روي عن مالك في هذا أنهم يعيدون في الوقت خاصة، وقول محمد بن الحسن في هذا مثل قول مالك المشهور‏.‏ واحتج لقوله ومذهبه بالحديث الذي ذكره أبو مصعب، أخرجه الدارقطني عن جابر عن الشعبي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحد بعدي جالسا‏)‏‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي وهو متروك الحديث، مرسل لا تقوم به حجة‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ جابر الجعفي لا يحتج بشيء يرويه مسندا فكيف بما يرويه مرسلا‏؟‏ قال محمد بن الحسن‏:‏ إذا صلى الإمام المريض جالسا بقوم أصحاء ومرضى جلوسا فصلاته وصلاة من خلفه ممن لا يستطيع القيام صحيحة جائزة، وصلاة من صلى خلفه ممن حكمه القيام باطلة‏.‏ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ صلاته وصلاتهم جائزة‏.‏ وقالوا‏:‏ لو صلى وهو يومئ بقوم وهم يركعون ويسجدون لم تجزهم في قولهم جميعا وأجزأت الإمام صلاته‏.‏ وكان زفر يقول‏:‏ تجزئهم صلاتهم؛ لأنهم صلوا على فرضهم وصلى إمامهم على فرضه، كما قال الشافعي‏.‏
قلت‏:‏ أما ما ذكره أبو عمر وغيره من العلماء قبله وبعده من أنها آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأيت لغيرهم خلال ذلك ممن جمع طرق الأحاديث في هذا الباب، وتكلم عليها وذكر اختلاف الفقهاء في ذلك، ونحن نذكر ما ذكره ملخصا حتى يتبين لك الصواب إن شاء الله تعالى‏.‏ وصحة قول من قال أن صلاة المأموم الصحيح قاعدا خلف الإمام المريض جائزة، فذكر أبو حاتم محمد بن حبان البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من أصحابه فقال‏:‏ ‏(‏ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم‏)‏ قالوا‏:‏ بلى، نشهد أنك رسول الله، قال‏:‏ ‏(‏ألستم تعلمون أنه من أطاعني فقد أطاع الله ومن طاعة الله طاعتي‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله ومن طاعة الله طاعتك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن من طاعة الله أن تطيعوني ومن طاعتي أن تطيعوا أمراءكم فإن صلوا قعودا فصلوا قعودا‏)‏‏.‏ في طريقه عقبة بن أبي الصهباء وهو ثقة؛ قاله يحيى بن معين‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ في هذا الخبر بيان واضح أن صلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا من طاعة الله جل وعلا التي أمر الله بها عباده، وهو عندي ضرب من الإجماع الذي أجمعوا على إجازته؛ لأن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أفتوا به‏:‏ جابر بن عبدالله وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قهد، ولم يرو عن أحد من الصحابة الذين شهدوا هبوط الوحي والتنزيل وأعيذوا من التحريف والتبديل خلاف لهؤلاء الأربعة، لا بإسناد متصل ولا منقطع؛ فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعدا كان على المأمومين أن يصلوا قعودا‏.‏ وبه قال جابر بن زيد والأوزاعي ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة وابن أبي شيبة ومحمد بن إسماعيل ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل محمد بن نصر ومحمد بن إسحاق بن خزيمة‏.‏ وهذه السنة رواها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك وعائشة وأبو هريرة وجابر بن عبدالله وعبدالله بن عمر بن الخطاب وأبو أمامة الباهلي‏.‏ وأول من أبطل في هذه الأمة صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب النخعي وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة وتبعه عليه من بعده من أصحابه‏.‏ وأعلى شيء احتجوا به فيه شيء رواه جابر الجعفي عن الشعبي قال قال رسول الله‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحد بعدي جالسا‏)‏ وهذا لو صح إسناده لكان مرسلا، والمرسل من الخبر وما لم يرو سيان في الحكم عندنا، ثم إن أبا حنيفة يقول‏:‏ ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، وما أتيته بشيء قط من رأي إلا جاءني فيه بحديث، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينطق بها؛ فهذا أبو حنيفة يجرح جابرا الجعفي ويكذبه ضد قول من انتحل من أصحابه مذهبه‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فجاءت الأخبار فيها مجملة ومختصرة، وبعضها مفصلة مبينة؛ ففي بعضها‏:‏ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر‏.‏ وفي بعضها‏:‏ فجلس عن يسار أبي بكر وهذا مفسر‏.‏ وفيه‏:‏ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس قاعدا وأبو بكر قائما‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وأما إجمال هذا الخبر فإن عائشة حكت هذه الصلاة إلى هذا الموضع، وآخر القصة عند جابر بن عبدالله‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقعود أيضا في هذه الصلاة كما أمرهم به عند سقوطه عن فرسه؛ أنبأنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال أنبأنا يزيد بن موهب قال حدثني الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال‏:‏ اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، قال‏:‏ فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال‏:‏ ‏(‏كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا‏)‏‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ ففي هذا الخبر المفسر بيان واضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قعد عن يسار أبي بكر وتحول أبو بكر مأموما يقتدى بصلاته ويكبر يسمع الناس التكبير ليقتدوا بصلاته، أمرهم صلى الله عليه وسلم حينئذ بالقعود حين رآهم قياما؛ ولما فرغ من صلاته أمرهم أيضا بالقعود إذا صلى إمامهم قاعدا‏.‏
وقد شهد جابر بن عبدالله صلاته صلى الله عليه وسلم حين سقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، وكان سقوطه صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجة آخر سنة خمس من الهجرة، وشهد هذه الصلاة في علته صلى الله عليه وسلم في غير هذا التاريخ فأدى كل خبر بلفظه؛ ألا تراه يذكر في هذه الصلاة‏:‏ رفع أبو بكر صوته بالتكبير ليقتدي به الناس، وتلك الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته عند سقوطه عن فرسه، لم يحتج إلى أن يرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس تكبيره على صغر حجرة عائشة، وإنما كان رفعه صوته بالتكبير في المسجد الأعظم الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في علته؛ فلما صح ما وصفنا لم يجز أن نجعل بعض هذه الأخبار ناسخا لبعض؛ وهذه الصلاة كان خروجه إليها صلى الله عليه وسلم بين رجلين، وكان فيها إماما وصلى بهم قاعدا وأمرهم بالقعود‏.‏ وأما الصلاة التي صلاها آخر عمره فكان خروجه إليها بين بريرة وثوبة، وكان فيها مأموما، وصلى قاعدا خلف أبي بكر في ثوب واحد متوشحا به‏.‏ رواه أنس بن مالك قال‏:‏ آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد متوشحا به قاعدا خلف أبي بكر فصلى عليه السلام صلاتين في المسجد جماعة لا صلاة واحدة‏.‏ وإن في خبر عبيدالله بن عبدالله عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بين رجلين‏.‏ يريد أحدهما العباس والآخر عليا‏.‏ وفي خبر مسروق عن عائشة‏:‏ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين بريرة وثوبة، إني لأنظر إلى نعليه تخطان في الحصى وأنظر إلى بطون قدميه؛ الحديث‏.‏ فهذا يدلك على أنهما كانتا صلاتين لا صلاة واحدة‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال‏:‏ حدثنا محمد بن بشار قال‏:‏ حدثنا بدل بن المحبر قال‏:‏ حدثنا شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن عبيدالله بن عبدالله عن عائشة‏:‏ أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ خالف شعبة بن الحجاج زائدة بن قدامة في متن هذا الخبر عن موسى بن أبي عائشة فجعل شعبة النبي صلى الله عليه وسلم مأموما حيث صلى قاعدا والقوم قيام، وجعل زائدة النبي صلى الله عليه وسلم إماما حيث صلى قاعدا والقوم قيام، وهما متقنان حافظان‏.‏ فكيف يجوز أن يجعل إحدى الروايتين اللتين تضادتا في الظاهر في فعل واحد ناسخا لأمر مطلق متقدم، فمن جعل أحد الخبرين ناسخا لما تقدم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وترك الآخر من غير دليل ثبت له على صحته سوغ لخصمه أخذ ما ترك من الخبرين وترك ما أخذ منهما‏.‏ ونظير هذا النوع من السنن خبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم وخبر أبي رافع صلى نكحها وهما حلالان فتضاد الخبران في فعل واحد في الظاهر من غير أن يكون بينهما تضاد عندنا؛ فجعل جماعة من أصحاب الحديث الخبرين اللذين رويا في نكاح ميمونة متعارضين، وذهبوا إلى خبر عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ينكح المحرم ولا ينكح‏)‏ فأخذوا به، إذ هو يوافق إحدى الروايتين اللتين رويتا في نكاح ميمونة، وتركوا خبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهو محرم؛ فمن فعل هذا لزمه أن يقول‏:‏ تضاد الخبران في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في علته على حسب ما ذكرناه قبل، فيجب أن يجيء إلى الخبر الذي فيه الأمر بصلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا فيأخذ به، إذ هو يوافق إحدى الروايتين اللتين رويتا في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في علته ويترك الخبر المنفرد عنهما كما فعل ذلك في نكاح ميمونة‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ زعم بعض العراقيين ممن كان ينتحل مذهب الكوفيين أن قوله‏:‏ ‏(‏وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا‏)‏ أراد به وإذا تشهد قاعدا فتشهدوا قعودا أجمعون فحرف الخبر عن عموم ما ورد الخبر فيه بغير دليل ثبت له على تأويله‏.‏

الآية رقم ‏(‏239‏)‏

‏{‏فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن خفتم‏{‏ من الخوف الذي هو الفزع‏.‏ ‏{‏فرجالا‏{‏ أي فصلوا رجالا‏.‏ ‏{‏أو ركبانا‏{‏ معطوف عليه‏.‏ والرجال جمع راجل أو رجل من قولهم‏:‏ رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركوب ومشى على قدميه، فهو رجل وراجل ورجل - ‏(‏بضم الجيم‏)‏ وهي لغة أهل الحجاز؛ يقولون‏:‏ مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا؛ - حكاه الطبري وغيره - ورجلان ورجيل ورجل، ويجمع على رجال ورجلي ورجال ورجالة ورجالى ورجلان ورجلة ورجله ‏(‏بفتح الجيم‏)‏ وأرجلة وأراجل وأراجيل‏.‏ والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضا على رجال‏.‏
لما أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قنوت وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة ذكر حالة الخوف الطارئة أحيانا، وبين أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حال، ورخص لعبيده في الصلاة رجالا على الأقدام وركبانا على الخيل والإبل ونحوها، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه؛ هذا قول العلماء، وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو من عدو يتبعه أو سيل يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية‏.‏
هذه الرخصة في ضمنها إجماع العلماء أن يكون الإنسان حيثما توجه من السُّموت ويتقلب ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه‏.‏
واختلف في الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالا وركبانا؛ فقال الشافعي‏:‏ هو إطلال العدو عليهم فيتراءون معا والمسلمون في غير حصن حتى ينالهم السلاح من الرمي أو أكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب، أو يأتي من يصدق خبره فيخبره بأن العدو قريب منه ومسيرهم جادين إليه؛ فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف‏.‏ فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ثم ذهب العدو لم يعيدوا، وقيل‏:‏ يعيدون؛ وهو قول أبي حنيفة‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ فالحال التي يجوز منها للخائف أن يصلي راجلا أو راكبا مستقبل القبلة أو غير مستقبلها هي حال شدة الخوف، والحال التي وردت الآثار فيها هي غير هذه‏.‏ وهي صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس وليس حكمها في هذه الآية، وهذا يأتي بيانه في سورة ‏{‏النساء‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وفرق مالك بين خوف العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه من جمل صائل أو سيل أو ما الأغلب من شأنه الهلاك، فإنه استحب من غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن‏.‏ وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء‏.‏
قال أبو حنيفة‏:‏ إن القتال يفسد الصلاة؛ وحديث ابن عمر يرد عليه، وظاهر الآية أقوى دليل عليه، وسيأتي هذا في ‏{‏النساء‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ قال الشافعي‏:‏ لما رخص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الشروط دل ذلك على أن القتال في الصلاة لا يفسدها، والله أعلم‏.‏
لا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعي وجماعة من العلماء وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما‏:‏ يصلي ركعة إيماء؛‏"‏روى مسلم عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ فرض الله الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ انفرد به بكير بن الأخنس وليس بحجة فيما ينفرد به، والصلاة أولى ما احتيط فيه، ومن صلى ركعتين في خوفه وسفره خرج من الاختلاف إلى اليقين‏.‏ وقال الضحاك بن مزاحم‏:‏ يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين‏.‏ وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ذكره ابن المنذر‏.‏
وقوله تعالى‏{‏فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم‏{‏ أي ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان‏.‏ وقال مجاهد‏{‏أمنتم‏{‏ خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة؛ ورد الطبري على هذا القول‏.‏ وقالت فرقة‏{‏أمنتم‏{‏ زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة‏.‏
واختلف العلماء من هذا الباب في بناء الخائف إذا أمن؛ فقال مالك‏:‏ إن صلى ركعة آمنا ثم خاف ركب وبنى، وكذلك إن صلى ركعة راكبا وهو خائف ثم أمن نزل وبنى؛ وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال المزني‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا افتتح الصلاة آمنا ثم خاف استقبل ولم يبن فإن صلى خائفا ثم أمن بنى‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يبني النازل ولا يبني الراكب‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ لا يبنى في شيء من هذا كله‏.‏
قوله تعالى‏{‏فاذكروا الله‏{‏ قيل‏:‏ معناه اشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء؛ ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه‏.‏ فالكاف في قوله ‏{‏كما‏{‏ بمعنى الشكر؛ تقول‏:‏ افعل بي كما فعلت بك كذا مكافأة وشكرا‏.‏ ‏{‏وما‏{‏ في قوله ‏{‏ما لم‏{‏ مفعولة بـ ‏{‏علمكم‏{‏‏.‏
قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ الصلاة أصلها الدعاء، وحالة الخوف أولى بالدعاء؛ فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف؛ فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض، وحضر أو سفر، وقدرة أو عجز وخوف أو أمن، لا تسقط عن المكلف بحال، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال‏.‏ وسيأتي بيان حكم المريض في آخر ‏{‏آل عمران‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن سائر العبادات، كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها بالرخص‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ولهذا قال علماؤنا‏:‏ وهي مسألة عظمى، إن تارك الصلاة يقتل؛ لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال، وقالوا فيها‏:‏ إحدى دعائم الإسلام لا تجوز النيابة عنها ببدن ولا مال، فيقتل تاركها؛ أصله الشهادتان‏.‏ وسيأتي ما للعلماء في تارك الصلاة في ‏{‏براءة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏240‏)‏

‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا‏{‏ ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى عنها حولا، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل؛ فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها؛ ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة ‏{‏النساء‏{‏ قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع‏.‏ وفي السكنى خلاف للعلماء،‏"‏روى البخاري {‏أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما‏}‏البلد‏:‏ 14 - 15‏]‏ والمتاع ههنا نفقة سنتها‏.‏
قوله تعالى‏{‏غير إخراج‏{‏ معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها و‏{‏غير‏{‏ نصب على المصدر عند الأخفش، كأنه قال لا إخراجا‏.‏ وقيل‏:‏ نصب لأنه صفة المتاع وقيل‏:‏ نصب على الحال من الموصين أي متعوهن غير مخرجات‏.‏ وقيل‏:‏ بنزع الخافض، أي من غير إخراج‏.‏
قوله تعالى‏{‏فإن خرجن‏{‏ الآية‏.‏ معناه باختيارهن قبل الحول‏.‏ ‏{‏فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن‏{‏ أي لا حرج على أحد ولِيٍّ أو حاكم أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولا‏.‏ وقيل‏:‏ أي لا جناح في قطع النفقة عنهن، أو لا جناح عليهن في التشوف إلى الأزواج، إذ قد انقطعت عنهن مراقبتكم أيها الورثة، ثم عليها ألا تتزوج قبل انقضاء العدة بالحول، أو لا جناح في تزويجهن بعد انقضاء العدة‏.‏ لأنه قال ‏{‏من معروف‏{‏ وهو ما يوافق الشرع‏.‏ ‏{‏والله عزيز‏{‏ صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحد في هذه النازلة، فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج‏.‏ ‏{‏حكيم‏{‏ أي محكم لما يريد من أمور عباده‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏241 ‏:‏242‏)‏

‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون‏}‏

اختلف الناس في هذه الآية؛ فقال أبو ثور‏:‏ هي محكمة، والمتعة لكل مطلقة؛ وكذلك قال الزهري‏.‏ قال الزهري‏:‏ حتى للأمة يطلقها زوجها‏.‏ وكذلك قال سعيد بن جبير‏:‏ لكل مطلقة متعة وهو أحد قولي الشافعي لهذه الآية‏.‏ وقال مالك‏:‏ لكل مطلقه - اثنتين أو واحدة بنى بها أم لا؛ سمى لها صداقا أم لا - المتعة، إلا المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداقا فحسبها نصفه، ولو لم يكن سمى لها كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر، وليس لهذه المتعة حد؛ حكاه عنه ابن القاسم‏.‏ وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة، قال‏:‏ جعل الله تعالى المتعة لكل مطلقة بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة، وزعم ابن زيد أنها نسختها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ففر ابن القاسم من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم، وإذا التزم ابن القاسم أن قوله‏{‏وللمطلقات‏{‏ يعم كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح وغيره‏:‏ هذه الآية في الثيبات اللواتي قد جومعن، إذ تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن؛ فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في العموم‏.‏ فهذا يجيء على أن قوله تعالى‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن‏}‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ مخصصة لهذا الصنف من النساء، ومتى قيل‏:‏ إن هذا العموم يتناولها فذلك نسخ لا تخصيص‏.‏ وقال الشافعي في القول الآخر‏:‏ إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثم مسيس ولا فرض؛ لأن من استحقت شيئا من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة‏.‏ وقول الله عز وجل في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم‏{‏فتعالين أمتعكن‏}‏الأحزاب‏:‏ 28‏]‏ محمول على أنه تطوع من النبي صلى الله عليه وسلم، لا وجوب له‏.‏ وقوله‏{‏فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن‏}‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏ محمول على غير المفروضة أيضا؛ قال الشافعي‏:‏ والمفروض لها المهر إذا طلقت قبل المسيس لا متعة لها؛ لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطء، والمدخول بها إذا طلقت فلها المتعة؛ لأن المهر يقع في مقابلة الوطء والمتعة بسبب الابتذال بالعقد‏.‏ وأوجب الشافعي المتعة للمختلعة والمبارئة‏.‏ وقال أصحاب مالك‏:‏ كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي، فكيف تأخذ متاعا لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقا أم لا، وقد مضى هذا مبينا‏.‏

الآية رقم ‏(‏243‏)‏

‏{‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر‏{‏ هذه رؤية القلب بمعنى ألم تعلم‏.‏ والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين‏.‏ ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ‏{‏ألم تر‏{‏ بجزم الراء، وحذفت الهمزة حذفا من غير إلقاء حركة لأن الأصل ألم ترء‏.‏ وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، وكانوا بقرية يقال لها ‏(‏داوردان‏)‏ فخرجوا منها هاربين فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا‏:‏ نأتي أرضا ليس بها موت، فأماتهم الله تعالى؛ فمر بهم نبي فدعا الله تعالى فأحياهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم ماتوا ثمانية أيام‏.‏ وقيل‏:‏ سبعة، والله أعلم‏.‏ قال الحسن‏:‏ أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم، قيل‏:‏ كان اسمه شمعون‏.‏ وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم فروا من الجهاد ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى‏{‏وقاتلوا في سبيل الله‏}‏البقرة‏:‏ 190‏]‏؛ قاله الضحاك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم؛ ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره؛ فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر‏.‏ وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمرة المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد؛ هذا قول الطبري وهو ظاهر رصف الآية‏.‏
قوله تعالى‏{‏وهم ألوف‏{‏ قال الجمهور‏:‏ هي جمع ألف‏.‏ قال بعضهم‏:‏ كانوا ستمائة ألف‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ثمانين ألفا‏.‏ ابن عباس‏:‏ أربعين ألفا‏.‏ أبو مالك‏:‏ ثلاثين ألفا‏.‏ السدي‏:‏ سبعة وثلاثين ألفا‏.‏ وقيل‏:‏ سبعين ألفا؛ قاله عطاء بن أبي رباح‏.‏ وعن ابن عباس أيضا أربعين ألفا، وثمانية آلاف؛ رواه عنه ابن جريج‏.‏ وعنه أيضا ثمانية آلاف، وعنه أيضا أربعة آلاف، وقيل‏:‏ ثلاثة آلاف‏.‏ والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى‏{‏وهم ألوف‏{‏ وهو جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف‏.‏ وقال ابن زيد في لفظة ألوف‏:‏ إنما معناها وهم مؤتلفون، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم‏.‏ فألوف على هذا جمع الف؛ مثل جالس وجلوس‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم؛ وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها‏.‏ قال مجاهد‏:‏ إنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون أنهم كانوا موتى ولكن سحنة الموت على وجوههم، ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم‏.‏ ابن جريج عن ابن عباس‏:‏ وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم‏.‏ وروي أنهم كانوا بواسط العراق‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم أحيوا بعد أن أنتنوا؛ فتلك الرائحة موجودة في نسلهم إلى اليوم‏.‏
قوله تعالى‏{‏حذر الموت‏{‏ أي لحذر الموت؛ فهو نصب لأنه مفعول له‏.‏ و‏{‏موتوا‏{‏ أمر تكوين، ولا يبعد أن يقال‏:‏ نودوا وقيل لهم‏:‏ موتوا‏.‏ وقد حكي أن ملكين صاحا بهم‏:‏ موتوا فماتوا؛ فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين ‏{‏موتوا‏{‏، والله أعلم‏.‏
أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله‏.‏ وقال عمرو بن دينار في هذه الآية‏:‏ وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي، قال‏:‏ فنجا الذين خرجوا ومات الذين أقاموا؛ فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ خرجوا حذارا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفا‏.‏
قلت‏:‏ وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية‏.‏ فروى الأئمة واللفظ للبخاري من (1)‏.‏ فقدم عليه حين نزلها رسول لعبدالملك بن مروان‏.‏ فقال له عبدالعزيز‏:‏ ما اسمك ‏؟‏ فقال له‏:‏ طالب بن مدرك‏.‏ فقال‏:‏ أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط فمات في تلك القرية‏.‏

الآية رقم ‏(‏244‏)‏

‏{‏وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم‏}‏

هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور‏.‏ وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا‏.‏ وسبل الله كثيرة فهي عامة في كل سبيل؛ قال الله تعالى‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏يوسف‏:‏ 108‏]‏‏.‏ قال مالك‏:‏ سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل؛ وروي عن ابن عباس والضحاك‏.‏ والواو على هذا في قوله ‏{‏وقاتلوا‏{‏ عاطفة على الأمر المتقدم، وفي الكلام متروك تقديره‏:‏ وقال لهم قاتلوا‏.‏ وعلى القول الأول عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام‏.‏ قال النحاس‏{‏وقاتلوا‏{‏ أمر من الله تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء‏.‏ ‏{‏واعلموا أن الله سميع عليم‏{‏ أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به، وقال الطبري‏:‏ لا وجه لقول من قال‏:‏ إن الأمر بالقتال للذين أحيوا‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏245‏)‏

‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا‏{‏ لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق - إذ ليس شيء من الشريعة إلا ويجوز القتال عليه وعنه، وأعظمها دين الإسلام كما قال مالك - حرض على الإنفاق في ذلك‏.‏ فدخل في هذا الخبر المقاتل في سبيل الله، فإنه يقرض به رجاء الثواب كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة‏.‏ و‏{‏ من‏{‏ رفع بالابتداء، و‏{‏ذا‏{‏ خبره، و‏{‏الذي‏{‏ نعت لذا، وإن شئت بدل‏.‏ ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب ربه‏.‏ أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث القاضي أبو عامر يحيى بن عامر بن أحمد بن منيع الأشعري نسبا ومذهبا بقرطبة - أعادها الله - في ربيع الآخر عام ثمانية وعشرين وستمائة قراءة مني عليه قال‏:‏ أخبرنا أبي إجازة قال‏:‏ قرأت على أبي بكر عبدالعزيز بن خلف بن مدين الأزدي عن أبي عبدالله بن سعدون سماعا عليه؛ قال‏:‏ حدثنا أبو الحسن علي بن مهران قال‏:‏ حدثنا أبو الحسن محمد بن عبدالله بن زكريا بن حيوة النيسابوري سنة ست وستين وثلاثمائة، قال‏:‏ أنبأنا عمي أبو زكريا يحيى بن زكريا قال‏:‏ حدثنا محمد بن معاوية بن صالح قال‏:‏ حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ لما نزلت‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا‏{‏ قال أبو الدحداح‏:‏ يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القرض ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم يا أبا الدحداح‏)‏ قال‏:‏ أرني يدك؛ قال فناوله؛ قال‏:‏ فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة‏.‏، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله؛ فناداها‏:‏ يا أم الدحداح؛ قالت‏:‏ لبيك؛ قال‏:‏ اخرجي، قد أقرضت ربي عز وجل حائطا فيه ستمائة نخلة‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ لما نزل‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا‏{‏ قال أبو الدحداح‏:‏ فداك أبي وأمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم يريد أن يدخلكم الجنة به‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ قال‏:‏ فناولني يدك؛ فناوله رسوله الله صلى الله عليه وسلم يده‏:‏ فقال‏:‏ إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضا لله تعالى‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك‏)‏ قال‏:‏ فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إذا يجزيك الله به الجنة‏)‏‏.‏ فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول‏:‏
هداك ربي سبل الرشاد إلى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضا إلى التناد
أقرضته الله على اعتمادي بالطوع لا من ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في المعاد فارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لا شك فخير زاد قدمه المرء إلى المعاد
قالت أم الدحداح‏:‏ ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول‏:‏
بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ونصح
قد متع الله عيالي ومنح بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح‏)‏‏.‏
قال ابن العربي‏{‏انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما، فتفرقوا فرقا ثلاثة‏:‏ الفرقة الأولى الرَّذلى قالوا‏:‏ إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء، فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب، فرد الله عليهم بقوله‏
{‏لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء‏}‏آل عمران‏:‏ 181‏]‏‏.‏ الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار‏.‏ الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره‏.‏ والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏قرضا حسنا‏{‏ القرض‏:‏ اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه قال الشاعر وهو لبيد‏:‏
{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل‏}‏البقرة‏:‏ 261‏]‏ الآية‏.‏ وقال ههنا‏{‏فيضاعفه له أضعافا كثيرة‏{‏ وهذا لا نهاية له ولا حد‏.‏
ثواب القرض عظيم، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه‏.‏ {‏ويؤت من لدنه أجرا عظيما‏}‏النساء‏:‏40‏]‏‏.‏ قاله أبو هريرة‏:‏ هذا في نفقة الجهاد، وكنا نحسب والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره بألفي ألف‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله يقبض ويبسط‏{‏ هذا عام في كل شيء فهو القابض الباسط، وقد أتينا عليهما في ‏(‏شرح الأسماء الحسنى في الكتاب الأسنى‏)‏‏.‏ ‏{‏وإليه ترجعون‏{‏ وعيد فيجازي كلا بعمله‏.‏

الآية رقم ‏(‏246‏)‏

‏{‏ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين‏}‏

ذكر في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل‏.‏ والملأ‏:‏ الأشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ سموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم‏.‏ والملأ في هذه الآية القوم؛ لأن المعنى يقتضيه‏.‏ والملأ‏:‏ اسم للجمع كالقوم والرهط‏.‏ والملأ أيضا‏:‏ حسن الخلق، ومنه الحديث ‏(‏أحسنوا الملأ فكلكم سيروى‏)‏ خرجه مسلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏من بعد موسى‏{‏ أي من بعد وفاته‏.‏ ‏{‏إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله‏{‏ قيل‏:‏ هو شمويل بن بال بن علقمة ويعرف بابن العجوز‏.‏ ويقال فيه‏:‏ شمعون، قاله السدي‏:‏ وإنما قيل‏:‏ ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها‏.‏ ويقال له‏:‏ سمعون لأنها دعت الله أن يرزقها الولد فسمع دعاءها فولدت غلاما فسمته ‏{‏سمعون‏{‏، تقول‏:‏ سمع الله دعائي، والسين تصير شينا بلغة العبرانية، وهو من ولد يعقوب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو من نسل هارون عليه السلام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو يوشع بن نون‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف لأن مدة داود هي من بعد موسى بقرون من الناس، ويوشع هو فتى موسى‏.‏ وذكر المحاسبي أن اسمه إسماعيل، والله أعلم‏.‏ وهذه الآية هي خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به، فلما أمروا كعَّ أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله‏.‏ وفي الخبر أن هؤلاء المذكورين هم الذين أميتوا ثم أحيوا، والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏نقاتل‏{‏ بالنون والجزم وقراءة جمهور القراء على جواب الأمر‏.‏ وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة بالياء ورفع الفعل، فهو في موضع الصفة للملك‏.‏
قوله تعالى‏{‏قال هل عسيتم‏{‏ و‏{‏عسيتم‏{‏ بالفتح والكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، والباقون بالأولى وهي الأشهر‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وليس للكسر وجه، وبه قرأ الحسن وطلحة‏.‏ قال مكي في اسم الفاعل‏:‏ عس، فهذا يدل على كسر السين في الماضي‏.‏ والفتح في السين هي اللغة الفاشية‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ووجه الكسر قول العرب‏:‏ هو عسٍ بذلك، مثل حرٍ وشجٍ، وقد جاء فعل وفعل في نحو نعم ونعم، وكذلك عَسَيت وعَسِيت، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال عَسِيَ زيد، مثل رضي زيد، فإن قيل فهو القياس وإن لم يقل، فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأخرى‏.‏ ومعنى هذه المقالة‏:‏ هل أنتم قريب من التولي والفرار‏؟‏‏.‏ ‏{‏إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا‏{‏ قال الزجاج‏{‏ألا تقاتلوا‏{‏ في موضع نصب، أي هل عسيتم مقاتلة‏.‏ ‏{‏قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله‏{‏ قال الأخفش‏{‏أن‏{‏ زائدة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو محمول على المعنى، أي وما منعنا، كما تقول‏:‏ ما لك ألا تصلي ‏؟‏ أي ما منعك‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وأي شيء لنا في ألا نقاتل في سبيل الله قال النحاس‏:‏ وهذا أجودها‏.‏ ‏{‏وأن‏{‏ في موضع نصب‏.‏ ‏{‏وقد أخرجنا من ديارنا‏{‏ تعليل، وكذلك ‏{‏وأبنائنا‏{‏ أي بسبب ذرارينا‏.‏
قوله تعالى‏{‏فلما كتب عليهم القتال‏{‏ أي فرض عليهم‏.‏ ‏{‏القتال تولوا‏{‏ أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم، ربما قد تذهب ‏{‏تولوا‏{‏ أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها‏.‏ وعن هذا المعنىنهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا‏)‏ رواه الأئمة‏.‏ ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏247‏)‏

‏{‏وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا‏{‏ أي أجابكم إلى ما سألتم، وكان طالوت سقاء‏.‏ وقيل‏:‏ دباغا‏.‏ وقيل‏:‏ مكاريا، وكان عالما فلذلك رفعه الله على ما يأتي‏:‏ وكان من سبط بنيامين ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط الملك، وكانت النبوة في بني لاوى، والملك في سبط يهوذا فلذلك أنكروا‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بال ما قالوا، سأل الله تعالى أن يبعث إليهم ملكا ويدله عليه؛ فقال الله تعالى له‏:‏ انظر إلى القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن، فهو ملك بني إسرائيل فأدهن رأسه منه وملكه عليهم‏.‏ قال‏:‏ وكان طالوت دباغا فخرج في ابتغاء دابة أضلها، فقصد شمويل عسى أن يدعو له في أمر الدابة أو يجد عنده فرجا، فنش الدهن على ما زعموا، قال‏:‏ فقام إليه شمويل فأخذه ودهن منه رأس طالوت، وقال له‏:‏ أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى بتقديمه، ثم قال لبني إسرائيل‏{‏إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا‏{‏‏.‏ وطالوت وجالوت اسمان أعجميان معربان؛ ولذلك، لم ينصرفا، وكذلك داود، والجمع طواليت وجواليت ودوايد، ولو سميت رجلا بطاوس وراقود لصرفت وإن كان أعجميين‏.‏ والفرق بين هذا والأول أنك تقول‏:‏ الطاوس، فتدخل الألف واللام فيمكن في العربية ولا يمكن هذا في ذاك‏.‏
قوله تعالى‏{‏أنى يكون له الملك علينا‏{‏ أي كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه‏.‏ جروا على سنتهم في تعنيتهم الأنبياء وحيدهم عن أمر الله تعالى فقالوا‏{‏أنى‏{‏ أي من أي جهة، فـ ‏{‏أنى‏{‏ في موضع نصب على الظرف، ونحن من سبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قدر الله تعالى وقضاؤه السابق حتى احتج عليهم نبيهم بقوله‏{‏إن الله اصطفاه‏{‏ أي اختاره وهو الحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو مِلاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء؛ فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وإنها مستحقة بالعلم والدين والقوة لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس وأنها متقدمة عليه؛ لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسبا‏.‏ وقد مضى في أول السورة من ذكر الإمامة وشروطها ما يكفي ويغني‏.‏ وهذه الآية أصل فيها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه؛ وزيادة الجسم مما يهيب العدو‏.‏ وقيل‏:‏ سمى طالوت لطوله‏.‏ وقيل‏:‏ زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم؛ ألم تر إلى قول الشاعر‏:‏
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه فخلف ظنك الرجل الطرير
وقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير
قلت‏:‏ ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه‏:‏ ‏(‏أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا‏)‏ فكن يتطاولن؛ فكانت زينب أولهن موتا؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق؛ خرجه مسلم‏.‏ وقال بعض المتأولين‏:‏ المراد بالعلم علم الحرب، وهذا تخصيص العموم من غير دليل‏.‏ وقد قيل‏:‏ زيادة العلم بأن أوحى الله إليه، وعلى هذا كان طالوت نبيا، وسيأتي‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله يؤتي ملكه من يشاء‏{‏ ذهب بعض المتأولين إلى أن هذا من قول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول شمويل وهو الأظهر‏.‏ قال لهم ذلك لما علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد إن يتمم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض عليه فقال الله تعالى‏{‏والله يؤتي ملكه من يشاء‏{‏‏.‏ وإضافة ملك الدنيا إلى الله تعالى إضافة مملوك إلى ملك‏.‏ ثم قال لهم على جهة التغبيط والتنبيه من غير سؤال منهم‏{‏إن آية ملكه‏{‏‏.‏ ويحتمل أن يكونوا سألوه الدلالة على صدقه في قوله‏{‏إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا‏{‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والأول أظهر بمساق الآية، والثاني أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة، وإليه ذهب الطبري‏.‏

الآية رقم ‏(‏248‏)‏

‏{‏وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت‏{‏ أي إتيان التابوت، والتابوت كان من شأنه فيما ذكر أنه أنزله الله على آدم عليه السلام، فكان عنده إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السلام، فكان في بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت غلبهم عليه العمالقة‏:‏ جالوت وأصحابه في قول السدي، وسلبوا التابوت منهم‏.‏
قلت‏:‏ وهذا أدل دليله على أن العصيان سبب الخذلان، وهذا بين‏.‏ قال النحاس‏:‏ والآية في التابوت على ما روي أنه كان يسمع فيه أنين، فإذا سمعوا ذلك ساروا لحربهم،، وإذا هدأ الأنين لم يسيروا ولم يسر التابوت‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يضعونه في مأزق الحرب فلا تزال تغلب حتى عصوا فغلبوا وأخذ منهم التابوت وذل أمرهم؛ فلما رأوا آية الاصطلام وذهاب الذكر، أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم حتى اجتمع ملؤهم أن قالوا لنبي الوقت‏:‏ أبعث لنا ملكا؛ فلما قال لهم‏:‏ ملككم طالوت راجعوه فيه كما أخبر الله عنهم؛ فلما قطعهم بالحجة سألوه البينة على ذلك، في قول الطبري‏.‏ فلما سألوا نبيهم البينة على ما قال، دعا ربه فنزل بالقوم الذين أخذوا التابوت داء بسببه، على خلاف في ذلك‏.‏ قيل‏:‏ وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام فكانت الأصنام تصبح منكوسة‏.‏ وقيل‏:‏ وضعوه في بيت أصنامهم تحت الصنم الكبير فأصبحوا وهو فوق الصنم، فأخذوه وشدوه إلى رجليه فأصبحوا وقد قطعت يدا الصنم ورجلاه وألقيت تحت التابوت؛ فأخذوه وجملوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم‏.‏ وقيل‏:‏ جعلوه في مخرأة قوم فكانوا يصيبهم الباسور؛ فلما عظم بلاؤهم كيفما كان، قالوا‏:‏ ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بني إسرائيل فوضعوه على عجلة بين ثورين وأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل، وبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر؛ وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية‏.‏ وروي أن الملائكة جاءت به تحمله وكان يوشع بن نون قد جعله في البرية، فروي أنهم رأوا التابوت في الهواء حتى نزل بينهم؛ قال الربيع بن خيثم‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين‏.‏ الكلبي‏:‏ وكان من عود شمسار الذي يتخذ منه الأمشاط‏.‏ وقرأ زيد بن ثابت ‏{‏التابوه‏{‏ وهي لغته، والناس على قراءته بالتاء وقد تقدم‏.‏ وروي عنه ‏{‏التيبوت‏{‏ ذكره النحاس‏.‏ وقرأ حميد بن قيس ‏{‏يحمله‏{‏ بالياء‏.‏
قوله تعالى‏{‏فيه سكينة من ربكم وبقية‏{‏ اختلف الناس في السكينة والبقية؛ فالسكينة فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة‏.‏ فقوله ‏{‏فيه سكينة‏{‏ أي هو سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت؛ ونظيره ‏{‏فأنزل الله سكينته عليه‏}‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ أي أنزل عليه ما سكن به قلبه‏.‏ وقيل‏:‏ أراد أن التابوت كان سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه ولم يفروا من التابوت إذا كان معهم في الحرب‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ السكينة روح من الله تتكلم، فكانوا إذا اختلفوا في أمر نطقت ببيان ما يريدون، وإذا صاحت في الحرب كان الظفر لهم‏.‏ وقال علي بن أبي طالب‏:‏ هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ هي ريح خجوج لها رأسان‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينيه شعاع، فإذا نظر إلى الجيش انهزم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء؛ وقال السدي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى‏.‏
قلت‏:‏ وفي صحيح مسلم عن البراء قال‏:‏ كان رجل يقرأ سورة ‏{‏الكهف‏{‏ وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال‏:‏ ‏(‏تلك السكينة تنزلت للقرآن‏)‏‏.‏ وفي حديث أبي سعيد الخدري‏:‏ أن أسيد بن الحضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث وفيه‏:‏ فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم‏)‏ خرجه البخاري ومسلم‏.‏ فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة؛ فدل على أن السكينة كانت في تلك الظلة، وأنها تنزل أبدا مع الملائكة‏.‏ وفي هذا حجة لمن قال إن السكينة روح أو شيء له روح لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل، والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏وبقية‏{‏ اختلف في البقية على أقوال، فقيل‏:‏ عصا موسى وعصا هارون ورضاض الألواح؛ لأنها انكسرت حين ألقاها موسى، قال ابن عباس‏.‏ زاد عكرمة‏:‏، التوراة‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ البقية‏:‏ عصا موسى وثيابه وثياب هارون ولوحان من التوراة‏.‏ وقال عطية بن سعد‏:‏ وهي عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ورضاض الألواح‏.‏ وقاله الثوري‏:‏ من الناس من يقول البقية قفيزا من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون ورضاض الألواح‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ العصا والنعلان‏.‏ ومعنى هذا ما روي من أن موسى لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل، ألقى الألواح غضبا فتكسرت، فنزع منها ما كان صحيحا وأخذ رضاض ما تكسر فجعله في التابوت‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ البقية‏:‏ الجهاد وقتال الأعداء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ أي الأمر بذلك في التابوت، إما أنه مكتوب فيه، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك، وأسند الترك إلى آل موسى وآل هارون من حيث كان الأمر مندرجا من قوم إلى قوم وكلهم آل موسى وآل هارون‏.‏ وآل الرجل قرابته‏.‏ وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏249‏)‏

‏{‏فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما فصل طالوت بالجنود‏{‏ ‏{‏فصل‏{‏ معناه خرج بهم‏.‏ فصلت الشيء فانفصل، أي قطعته فانقطع‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ فلما فصل طالوت قالوا له أن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا فقال لهم طالوت‏:‏ إن الله مبتليكم بنهر‏.‏ وكان عدد الجنود - في قول السدي - ثمانين ألفا‏.‏ وقال وهب‏:‏ لم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض‏.‏ والابتلاء الاختبار‏.‏ والنهَر والنهْر لغتان‏.‏ واشتقاقه من السعة، ومنه النهار وقد تقدم‏.‏ قال قتادة‏:‏ النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏بنهر‏{‏ بفتح الهاء‏.‏ وقرأ مجاهد وحميد الأعرج ‏{‏بنهر‏{‏ بإسكان الهاء‏.‏ ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى، فروي أنهم أتوا النهر وقد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، فلذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين همهم في غير الرفاهية، كما قال عروة‏:‏
وأحسوا قراح الماء والماء بارد
قلت‏:‏ ومن هذا المعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏حسب المرء لقيمات يقمن صلبه‏)‏‏.‏ وقال بعض من يتعاطى غوامض المعاني‏:‏ هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة‏.‏
قلت‏:‏ ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر، لكن معناه صحيح من غير هذا‏.‏
استدل من قال أن طالوت كان نبيا بقوله‏{‏إن الله مبتليكم‏{‏ وأن الله أوحى إليه بذلك وألهمه، وجعله الإلهام ابتلاء من الله لهم‏.‏ ومن قال لم يكن نبيا قال‏:‏ أخبره نبيهم شمويل بالوحي حين أخبر طالوت قومه بهذا، وإنما وقع هذا الابتلاء ليتميز الصادق من الكاذب‏.‏ وقد ذهب قوم إلى أن عبدالله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله علي وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم، لكنه حمل مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم، وسيأتي بيانه في ‏{‏النساء‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏
قوله تعالى‏{‏فمن شرب منه فليس مني‏{‏ شرب قيل معناه كرع‏.‏ ومعنى ‏{‏فليس مني‏{‏ أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان‏.‏ قال السدي‏:‏ كانوا ثمانين ألفا، ولا محالة أنه كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان، وفي الحديث ‏(‏من غشنا فليس منا‏)‏ أي ليس من أصحابنا ولا على طريقتنا وهدينا‏.‏ قال‏:‏
إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني
هذا مهيع في كلام العرب؛ يقول الرجل لابنه إذا سلك غير أسلوبه‏:‏ لست مني‏.‏
قوله تعالى‏{‏ومن لم يطعمه فإنه مني‏{‏ يقال‏:‏ طعمت الشيء أي ذقته‏.‏ وأطعمته الماء أي أذقته، ولم يقل ومن لم يشربه لأن من عادة العرب إذا كرروا شيئا أن يكرروه بلفظ آخر، ولغة القرآن أفصح اللغات، فلا عبرة بقدح من يقول‏:‏ لا يقال طعمت الماء‏.‏
استدل علماؤنا بهذا على القول بسد الذرائع؛ لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم؛ ولهذه المبالغة لم يأت الكلام ‏{‏ومن لم يشرب منه‏{‏‏.‏
لما قال تعالى‏{‏ومن لم يطعمه‏{‏ دل على أن الماء طعام وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به فوجب أن يجري فيه الربا، قال ابن العربي‏:‏ وهو الصحيح من المذهب‏.‏ قال أبو عمر قال مالك‏:‏ لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف‏.‏ وقال محمد بن الحسن‏:‏ هو مما يكال ويوزن، فعلى هذا القول لا يجوز عنده التفاضل، وذلك عنده فيه ربا؛ لأن علته في الربا الكيل والوزن‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يجوز بيع الماء متفاضلا ولا يجوز فيه الأجل، وعلته في الربا أن يكون مأكولا جنسا‏.‏
قال ابن العربي قال أبو حنيفة‏:‏ من قال إن شرب عبدي فلان من الفرات فهو حر فلا يعتق إلا أن يكرع فيه، والكرع أن يشرب الرجل بفيه من النهر، فإن شرب بيده أو اغترف بالإناء منه لم يعتق؛ لأن الله سبحانه فرق بين الكرع في النهر وبين الشرب باليد‏.‏ قال‏:‏ وهذا فاسد؛ لأن شرب الماء يطلق على كل هيئة وصفة في لسان العرب من غرف باليد أو كرع بالفم انطلاقا واحدا، فإذا وجد الشرب المحلوف عليه لغة وحقيقة حنث، فاعلمه‏.‏
قلت‏:‏ قول أبي حنيفة أصح، فإن أهل اللغة فرقوا بينهما كما فرق الكتاب والسنة‏.‏ قال الجوهري وغيره‏:‏ وكرع في الماء كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء، وفيه لغة أخرى
(2)‏ بكسر الراء يكرع كرعا‏.‏ والكَرَع‏:‏ ماء السماء يكرع فيه‏.‏ وأما السنة فذكر ابن ماجة في سننه‏:‏ ‏{‏اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله‏}‏آل عمران‏:‏ 200‏]‏ وقال‏{‏وعلى الله فتوكلوا‏}‏المائدة‏:‏ 23‏]‏ وقال‏{‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏}‏النحل‏:‏ 128‏]‏ وقال‏{‏ولينصرن الله من ينصره‏}‏الحج‏:‏ 40‏]‏ وقال‏{‏إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون‏}‏الأنفال‏:‏ 45‏]‏‏.‏ فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا‏!‏ بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم‏.‏

الآية رقم ‏(‏250‏)‏

‏{‏ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏

قوله‏{‏برزوا‏{‏ صاروا في البَراز وهو الأفيح من الأرض المتسع‏.‏ وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ظله ميل‏.‏ ويقال‏:‏ إن البر من من نسله، وكان فيما روي في ثلاثمائة ألف فارس‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ في تسعين ألفا، ولما رأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى ربهم؛ وهذا كقوله‏{‏وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير‏}‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏ إلى قوله ‏{‏وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا‏}‏آل عمران‏:‏ 147‏]‏ الآية‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو يقول في القتال‏:‏ ‏(‏اللهم بك أصول وأجول‏)‏ وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا لقي العدو‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم‏)‏ ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز الله وعده على ما يأتي بيانه في ‏{‏آل عمران‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.

الآية رقم ‏(‏251‏)‏

‏{‏فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فهزموهم بإذن الله‏{‏ أي فأنزل الله عليهم النصر ‏{‏فهزموهم‏{‏‏:‏ فكسروهم‏.‏ والهزم‏:‏ الكسر ومنه سقاء متهزم، أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم‏:‏ إنها هزمة جبريل أي هزمها جبريل برجله فخرج الماء‏.‏ والهزم‏:‏ ما تكسر من يابس الحطب‏.‏
قوله تعالى‏{‏وقتل داود جالوت‏{‏ وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت، وكان رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده، وكان قتل جالوت وهو رأس العمالقة على يده‏.‏ وهو داود، بن إيشى - بكسر الهمزة، ويقال‏:‏ داود بن زكريا بن رشوى، وكان من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان من أهل بيت المقدس جمع له بين النبوة والملك بعد أن كان راعيا وكان أصغر إخوته وكان يرعى غنما، وكان له سبعة إخوة في أصحاب طالوت؛ فلما حضرت الحرب قال في نفسه‏:‏ لأذهبن إلى رؤية هذه الحرب، فلما نهض في طريقه مر بحجر فناداه‏:‏ يا داود خذني فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها وجعلها في مخلاته وسار، فخرج جالوت يطلب مبارزا فكع الناس عنه حتى قال طالوت‏:‏ من يبرز إليه ويقتله فأنا أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي؛ فجاء داود عليه السلام فقال‏:‏ أنا أبرز إليه وأقتله، فازدراه طالوت حين رآه لصغير سنه وقصره فرده، وكان داود أزرق قصيرا؛ ثم نادى ثانية وثالثة فخرج داود، فقال طالوت له‏:‏ هل جربت نفسك بشيء ‏؟‏ قال نعم؛ قال بماذا ‏؟‏ قال‏:‏ وقع ذئب في غنمي فضربته ثم أخذت رأسه فقطعته من جسده‏.‏ قال طالوت‏:‏ الذئب ضعيف، هل جربت نفسك في غيره ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، دخل الأسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتهما؛ أفترى هذا أشد من الأسد ‏؟‏ قال لا؛ وكان عند طالوت درع لا تستوي إلا على من يقتل جالوت، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت؛ فقال طالوت‏:‏ فأركب فرسي وخذ سلاحي ففعل؛ فلما مشى قليلا رجع فقال الناس‏:‏ جبن الفتى فقال داود‏:‏ إن الله إن لم يقتله لي ويعني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي‏.‏ قال‏:‏ وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه وخرج إلى جالوت، وهو شاك في سلاحه على رأسه بيضة فيها ثلاثمائة رطل، فيما ذكر الماوردي وغيره؛ فقال له جالوت‏:‏ أنت يا فتى تخرج إلي قال نعم؛ قال‏:‏ هكذا كما تخرج إلى الكلب قال نعم، وأنت أهون‏.‏ قال‏:‏ لأطعمن لحمك اليوم للطير والسباع؛ ثم تدانيا وقصد جالوت أن يأخذ داود بيده استخفافا به، فأدخل داود يده إلى الحجارة، فروي أنها التأمت فصارت حجرا واحدا، فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله، وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله، وحز رأسه وجعله في مخلاته، وأختلط الناس وحمله أصحاب طالوت فكانت الهزيمة‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنما أصاب بالحجر من البيضة موضع أنفه، وقيل‏:‏ عينه وخرج من قفاه، وأصاب جماعة من عسكره فقتلهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الحجر تفتت حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه؛ وكان كالقبضة التي رمى بها النبي صلى الله عليه وسلم هوازن يوم حنين، والله أعلم‏.‏ وقد أكثر الناس في قصص هذه الآي، وقد ذكرت لك منها المقصود والله المحمود‏.‏
قلت‏:‏ وفي قول طالوت‏:‏ ‏(‏من يبرز له ويقتله فإني أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي‏)‏ معناه ثابت في شرعنا، وهو أن يقول الإمام‏:‏ من جاء برأس فله كذا، أو أسير فله كذا على ما يأتي بيانه في ‏{‏الأنفال‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وفيه دليل على أن المبارزة لا تكون إلا بإذن الإمام؛ كما يقوله أحمد وإسحاق وغيرهما‏.‏ واختلف فيه عن الأوزاعي فحكي عنه أنه قال‏:‏ لا يحمل أحد إلا بإذن إمامه‏.‏ وحكي عنه أنه قال‏:‏ لا بأس به، فإن نهى الإمام عن البراز فلا يبارز أحد إلا بإذنه‏.‏ وأباحت طائفة البراز ولم تذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه؛ هذا قول مالك‏.‏ سئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين‏:‏ من يبارز ‏؟‏ فقال‏:‏ ذلك إلى نيته إن كان يريد بذلك الله فأرجو ألا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك فيما مضى‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا بأس بالمبارزة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ المبارزة بإذن الإمام حسن، وليس على من بارز بغير إذن الإمام حرج، وليس ذلك بمكروه لأني لا أعلم خبرا يمنع منه‏.‏
قوله تعالى‏{‏وآتاه الله الملك والحكمة‏{‏ قال السدي‏:‏ أتاه الله ملك، طالوت ونبوة شمعون‏.‏ والذي علمه هو صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع ما علمه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو أن الله أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ورأسها عند صومعة داود؛ فكان لا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فيعلم داود ما حدث، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ؛ وكانت علامة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفهم على صدورهم، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت‏.‏
قوله تعالى‏{‏مما يشاء‏{‏ أي مما شاء، وقد يوضع المستقبل موضع الماضي، وقد تقدم‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض‏{‏ كذا قراءة الجماعة، إلا نافعا فإنه قرأ ‏{‏دفاع‏{‏ ويجوز أن يكون مصدرا لفعل كما يقال‏:‏ حسبت الشيء حسابا، وآب إيابا، ولقيته لقاء؛ ومثله كتبه كتابا؛ ومنه ‏{‏كتاب الله عليكم‏}‏النساء‏:‏ 24‏]‏ النحاس‏:‏ وهذا حسن؛ فيكون دفاع ودفع مصدرين لدفع وهو مذهب سيبويه‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ دافع ودفع بمعنى واحد؛ مثل طرقت النعل وطارقت؛ أي خصفت إحداهما فوق الأخرى، والخصف‏:‏ الخرز‏.‏ واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور ‏{‏ولولا دفع الله‏{‏‏.‏ وأنكر أن يقرأ ‏{‏دفاع‏{‏ وقال‏:‏ لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد‏.‏ قال مكي‏:‏ هذا وهم توهم فيه باب المفاعلة وليس به، واسم ‏{‏الله‏{‏ في موضع رفع بالفعل، أي لولا أن يدفع الله‏.‏ و‏{‏دفاع‏{‏ مرفوع بالابتداء عند سيبويه‏.‏ ‏{‏الناس‏{‏ مفعول، ‏{‏بعضهم‏{‏ بدل من الناس، ‏{‏ببعض‏{‏ في موضع المفعول الثاني عند سيبويه، وهو عنده مثل قولك‏:‏ ذهبت بزيد، فزيد في موضع مفعول فاعلمه‏.‏
واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم ‏؟‏ فقيل‏:‏ هم الأبدال وهم أربعون رجلا كلما مات واحد بدل الله آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم؛ اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق‏.‏ وروي عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا كلما مات منهم رجل أبدله الله مكانه رجلا يسقى بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء‏)‏ ذكره الترمذي الحكيم في ‏{‏نوادر الأصول‏{‏‏.‏ وخرج أيضا عن أبي الدرداء قال‏:‏ إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقال لهم الأبدال؛ لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولب، وتواضع في غير مذلة، فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صديقا منهم ثلاثون رجلا على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض والبلايا عن الناس، وبهم يمطرون ومن يرزقون، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ولولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ هم الشهود الذين تستخرج بهم الحقوق‏.‏ وحكى مكي أن أكثر المفسرين على أن المعنى‏:‏ لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم؛ وكذا ذكر النحاس والثعلبي أيضا‏.‏ قال الثعلبي وقال سائر المفسرين‏:‏ ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت وذكر حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏)‏‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا‏)‏ خرجه أبو بكر الخطيب بمعناه من حديث الفضيل بن عياض‏.‏ حدثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المؤمنين صبا‏)‏‏.‏ أخذ بعضهم هذا المعنى فقال‏:‏
لولا عباد للإله ركع وصبية من اليتامى رضع
ومهملات في الفلاة رتع صب عليكم العذاب الأوجع
وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده وأهله دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم‏)‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يبتلي الله المؤمن بالكافر ويعافي الكافر بالمؤمن‏.‏ وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏، ‏(‏إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء‏)‏‏.‏ ثم قرأ ابن عمر ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ هذا الدفع بما شرع على السنة الرسل من الشرائع، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا، وهذا قول حسن فإنه عموم في الكف والدفع وغير ذلك فتأمله‏.‏ ‏{‏ولكن الله ذو فضل على العالمين‏{‏‏.‏ بين سبحانه أن دفعه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة‏.‏

الآية رقم ‏(‏252‏)‏

‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين‏}‏

تلك‏:‏ ابتداء ‏{‏آيات الله‏{‏ خبره، وإن شئت كان بدلا والخبر ‏{‏نتلوها عليك بالحق‏{‏‏.‏ ‏{‏وإنك لمن المرسلين‏{‏، خبر إن أي وإنك لمرسل‏.‏ نبه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبي مرسل‏.‏

الآية رقم ‏(‏253‏)‏

‏{‏تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد‏}‏

قوله تعالى‏{‏تلك الرسل‏{‏ قال‏{‏تلك‏{‏ ولم يقل‏:‏ ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة، وهي رفع بالابتداء‏.‏ و‏{‏الرسل‏{‏ نعته، وخبر الابتداء الجملة‏.‏ وقيل‏:‏ الرسل عطف بيان، و‏{‏فضلنا‏{‏ الخبر‏.‏ وهذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تخيروا بين الأنبياء‏)‏ و‏(‏لا تفضلوا بين أنبياء الله‏)‏ رواها الأئمة الثقات، أي لا تقولوا‏:‏ فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان‏.‏ يقال‏:‏ خير فلان بين فلان وفلان، وفضل،‏(‏مشددا‏)‏ إذا قال ذلك‏.‏ وقد اختلف العلماء في تأويله هذا المعنى؛ فقال قوم‏:‏ إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وإن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ إنما أراد بقوله‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة؛ لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله‏{‏لا تخيروني على موسى‏{‏ على طريق التواضع؛ كما قال أبو بكر‏:‏ وليتكم ولست بخيركم‏.‏ وكذلك معنى قوله‏:‏ ‏(‏لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى‏)‏ على معنى التواضع‏.‏ وفي قوله تعالى‏
{‏ولا تكن كصاحب الحوت‏}‏القلم‏:‏ 48‏]‏ ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه؛ لأن الله تعالى يقول‏:‏ ولا تكن مثله؛ فدل على أن قوله‏:‏ ‏(‏لا تفضلوني عليه‏)‏ من طريق التواضع‏.‏ ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملا مني، ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة مني‏.‏ وليس ما أعطاه الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له، وهذا التأويل اختاره المهلب‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إنما نهى عن الخوض في ذلك، لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال وذلك يؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة‏.‏ قال شيخنا‏:‏ فلا يقال‏:‏ النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهي لما يتوهم من النقص في المفضول؛ لأن النهي اقتضى منه إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى؛ فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول‏:‏ نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهي عنه وتأدبا به وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، والله بحقائق الأمور عليم‏.‏
قلت‏:‏ وأحسن من هذا قول من قال‏:‏ إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات، قال الله تعالى‏{‏ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا‏}‏الإسراء‏:‏ 55‏]‏ وقال‏{‏تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض‏}‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطي من الوسائل، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال‏:‏ إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا‏:‏ بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ‏؟‏ فقال‏:‏ إن الله تعالى قال‏{‏ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين‏}‏الأنبياء‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم‏{‏إنا فتحنا لك فتحا مبينا‏.‏ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏}‏الفتح‏:‏ 1 - 2‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ فما فضله على الأنبياء ‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ قال الله تعالى‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم‏}‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏ وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم‏{‏وما أرسلناك إلا كافة للناس‏}‏سبأ‏:‏ 28‏]‏ فأرسله إلى الجن والإنس؛ ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ خير بني آدم نوج وإبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أولو العزم من الرسل، وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل، فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء فيه، إلا أن ابن عطية أبا محمد عبدالحق قال‏:‏ إن القرآن يقتضي التفضيل، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول، وكذلك هي الأحاديث؛ ولذلك {‏منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات‏}‏البقرة‏:‏ 253‏]‏ وقال ‏{‏وآتينا داود زبورا‏}‏الإسراء‏:‏ 55‏]‏ وقال تعالى‏{‏وآتيناه الإنجيل‏}‏المائدة‏:‏ 46‏]‏، ‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين‏}‏الأنبياء‏:‏ 48‏]‏ وقال تعالى‏{‏ولقد آتينا داود وسليمان علما‏}‏النمل‏:‏ 15‏]‏ وقال‏{‏وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح‏}‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏ فعم ثم خص وبدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر‏.‏
قلت‏:‏ وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم، وحسبك بقوله الحق‏{‏محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار‏}‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ إلى آخر السورة‏.‏ وقال‏{‏وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها‏}‏الفتح‏:‏ 26‏]‏ ثم قال‏{‏لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل‏}‏الحديد‏:‏ 10‏]‏ وقال‏{‏لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة‏}‏الفتح‏:‏ 18‏]‏ فعم وخص، ونفى عنهم الشين والنقص، رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين‏.‏
قوله تعالى‏{‏منهم من كلم الله‏{‏ المكلم موسى عليه السلام، وقد سئل رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم نبي مكلم‏)‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى‏.‏ وحذفت الهاء لطول الاسم، والمعنى من كلمه الله‏.‏
قوله تعالى‏{‏ورفع بعضهم درجات‏{‏ قال النحاس‏:‏ بعضهم هنا على قول ابن عباس والشعبي ومجاهد محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت، الشفاعة‏)‏‏.‏ ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وإطعامه الطعام خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف‏.‏ وقال ابن عطية معناه، وزاد‏:‏ وهو أعظم الناس أمة وختم به النبيون إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله‏.‏ ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد صلى الله عليه وسلم وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيدا‏.‏ ويحتمل أن يريد به رفع إدريس المكان العلي، ومراتب الأنبياء في السماء كما في حديث الإسراء، وسيأتي‏.‏
قوله تعالى‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البينات‏{‏ وبينات عيسى هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين كما نص عليه في التنزيل‏.‏ ‏{‏وأيدناه‏{‏ قويناه‏.‏ ‏{‏بروح القدس‏{‏ جبريل عليه السلام، وقد تقدم‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولو شاء الله ما أقتتل الذين من بعدهم‏{‏ أي من بعد الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير لموسى وعيسى، والاثنان جمع‏.‏ وقيل‏:‏ من بعد جميع الرسل، وهو ظاهر اللفظ‏.‏ وقيل‏:‏ إن القتال إنما وقع من الذين جاؤوا بعدهم وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي، وهذا كما تقول‏:‏ اشتريت خيلا ثم بعتها، فجائز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك الفعل لما يريد‏.‏ وكسرت النون من ‏{‏ولكن اختلفوا‏{‏ لالتقاء الساكنين، ويجوز حذفها في غير القرآن، وأنشد سيبويه‏:‏
فلست بآتيه ولا أستطيعه ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
‏{‏فمنهم من آمن ومنهم من كفر‏{‏ ‏{‏من‏{‏ في موضع رفع بالابتداء والصفة
 
الآية رقم‏(‏254‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون‏}‏

قال الحسن‏:‏ هي الزكاة المفروضة‏.‏ وقال ابن جريج وسعيد بن جبير‏:‏ هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع‏.‏ قال ابن عطية‏.‏ وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوى ذلك في آخر الآية قوله‏{‏والكافرون هم الظالمون‏{‏ أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال‏.‏
قلت‏:‏ وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرة واجبا ومرة ندبا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه‏.‏ وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال‏{‏فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق‏}‏المنافقين‏:‏ 10‏]‏‏.‏ والخلة‏:‏ خالص المودة، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين‏.‏ والخلالة والخلالة والخلالة‏:‏ الصداقة والمودة، قال الشاعر‏:‏
{‏لا بيع فيه ولا خلال‏}‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏ وفي ‏{‏الطور‏]‏ ‏{‏لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏الطور‏:‏ 23‏]‏ وأنشد حسان بن ثابت‏:‏
ألا طعان ولا فرسان عادية إلا تجشوكم عند التنانير
وألف الاستفهام غير مغيرة عمل ‏{‏لا‏{‏ كقولك‏:‏ ألا رجل عندك، ويجوز ألا رجل ولا امرأة كما جاز في غير الاستفهام فاعلمه‏.‏ وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، كما قال الراعي‏:‏
وما صرمتك حتى قلت معلنة لا ناقة لي في هذا ولا جمل
ويروى ‏{‏وما هجرتك‏{‏ فالفتح على النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف، كأنه جواب لمن قال‏:‏ هل فيه من بيع ‏؟‏ فسأل سؤالا عاما فأجيب جوابا عاما بالنفي‏.‏ و‏{‏لا‏{‏ مع الاسم المنفى بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء، والخبر ‏{‏فيه‏{‏‏.‏ وإن شئت جعلته صفة ليوم، ومن رفع جمله ‏{‏لا‏{‏ بمنزلة ليس‏.‏ وجعل الجواب غير عام، وكأنه جواب من قال‏:‏ هل فيه بيع ‏؟‏ بإسقاط من، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه، والمرفوع مبتدأ أو اسم ليس و‏{‏فيه‏{‏ الخبر‏.‏ قال مكي‏:‏ والاختيار الرفع؛ لأن أكثر القراء عليه، ويجوز في غير القرآن لا بيع فيه ولا خلة، وأنشد سيبويه لرجل من مذحج‏:‏
هذا لعمركم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
ويجوز أن تبني الأول وتنصب الثاني وتنونه فتقول‏:‏ لا رجل فيه ولا امرأة، وأنشد سيبويه‏:‏
لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع
ف ‏{‏لا‏{‏ زائدة في الموضعين، الأول عطف على الموضع والثاني على اللفظ ووجه خامس أن ترفع الأول وتبني الثاني كقولك‏:‏ لا رجل فيها ولا امرأة، قال أمية‏:‏
فلا لغو ولا تأثيم فيها وما فاهوا به أبدا مقيم
وهذه الخمسة الأوجه جائزة في قولك‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد تقدم هذا والحمد لله‏.‏ ‏{‏والكافرون‏{‏ ابتداء‏.‏ ‏{‏هم‏{‏ ابتداء ثان، ‏{‏الظالمون‏{‏ خبر الثاني، وإن شئت كانت ‏{‏هم‏{‏ زائدة للفصل و‏{‏الظالمون‏{‏ خبر ‏{‏الكافرون‏{‏‏.‏ قال عطاء بن دينار‏:‏ والحمد لله الذي قال‏{‏والكافرون هم الظالمون‏{‏ ولم يقل والظالمون هم الكافرون‏.‏

الآية رقم ‏(‏255‏)‏

‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏{‏ هذه آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية، كما تقدم بيانه في الفاتحة، ونزلت ليلا ودعا النبي صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها‏.‏ روي عن محمد بن الحنفية أنه قال‏:‏ لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في الدنيا، وكذلك خر كل ملك في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضهم على بعض إلى أن أتوا إبليس فأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاؤوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت‏.‏ {‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلتين، أو وصل ولكن له أعماله صالحة‏.‏ وفي البخاري في ‏{‏باب بقية من أبواب الرؤية‏{‏‏:‏ إن المؤمنين يقولون‏:‏ ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا‏.‏ وهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطئ على باب الجنة‏.‏ وهذا إنما هو في قراباتهم ومعارفهم‏.‏ وإن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان، ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين في الخطايا والذنوب الذين لم تعمل فيهم شفاعة الأنبياء‏.‏ وأما شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في تعجيل الحساب فخاصة له‏.‏
قلت‏:‏ قد ‏إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما‏}‏النساء‏:‏ 40‏]‏ ‏(‏فيقول الله تعالى‏:‏ شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وذكر من {‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏القصص‏:‏ 4‏]‏‏.‏ و‏{‏العظيم‏{‏ صفة بمعنى عظيم القدر والخطر والشرف، لا على معنى عظم الأجرام‏.‏ وحكى الطبري عن قوم أن العظيم معناه المعظم، كما يقال‏:‏ العتيق بمعنى المعتق، وأنشد بيت الأعشى‏:‏
فكأن الخمر العتيق من الإسـ ـفنط ممزوجة بماء زلال
وحكي عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا‏:‏ لو كان بمعنى معظم لوجب ألا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم؛ إذ لا معظم له حينئذ‏.‏

الآية رقم ‏(‏256‏)‏

‏{‏لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا إكراه في الدين‏{‏ الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله‏{‏قد تبين الرشد من الغي‏{‏‏.‏ والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه، وإنما يجيء في تفسير قوله‏{‏إلا من أكره‏}‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن ‏{‏قد تبين الرشد من الغي‏{‏ وكذا روي عن الحسن والشعبي؛ يقال‏:‏ رَشَد يَرْشُد رُشْداً، ورَشِدَ يرْشَد رَشَدا‏:‏ إذا بلغ ما يحب‏.‏ وغوى ضده؛ عن النحاس‏.‏ وحكى ابن عطية عن أبي عبدالرحمن السلمي أنه قرأ ‏{‏الرشاد‏{‏ بالألف‏.‏ وروي عن الحسن أيضا ‏{‏الرشد‏{‏ بضم الراء والشين‏.‏ ‏{‏الغي‏{‏ مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي؛ ولا يقال الغي في الضلال على الإطلاق‏.‏

اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال‏:‏
الأول‏:‏ قيل إنها منسوخة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام؛ قاله سليمان بن موسى، قال‏:‏ نسختها ‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين‏}‏التوبة‏:‏ 73‏]‏‏.‏ وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين‏.‏
الثاني‏:‏ ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم ‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين‏{‏‏.‏ هذا قول الشعبي وقتادة والحسن والضحاك‏.‏ والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية‏:‏ اسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق‏.‏ قالت‏:‏ أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب فقال عمر‏:‏ اللهم اشهد، وتلا ‏{‏لا إكراه في الدين‏{‏‏.‏
الثالث‏:‏ ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا‏:‏ لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى‏{‏لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي‏{‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ والمقلات التي لا يعيش لها ولد‏.‏ في رواية‏:‏ إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت‏{‏لا إكراه في الدين‏{‏ من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام‏.‏ وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال‏:‏ كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع‏.‏ قال النحاس‏:‏ قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي‏.‏
الرابع‏:‏ قال السدي‏:‏ نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما فنزلت‏{‏لا إكراه في الدين‏{‏ ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال‏:‏ ‏(‏أبعدهما الله هما أول من كفر‏)‏ فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم‏}‏النساء‏:‏ 65‏]‏ الآية ثم إنه نسخ ‏{‏لا إكراه في الدين‏{‏ فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة ‏[‏براءة‏]‏‏.‏ والصحيح في سبب قوله تعالى‏{‏فلا وربك لا يؤمنون‏{‏ حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السقي، على ما يأتي في ‏{‏النساء‏{‏ بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏
وقيل ‏:‏ معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرا مكرها؛ وهو
القول الخامس‏.‏
وقول سادس‏:‏
وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارا، وإن كانوا مجوسا صغارا أو كبارا أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام؛ لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين؛ ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم، ويدينون بأكل الميتة
والنجاسات وغيرهما، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار‏.‏ ونحو هذا‏"‏روى ابن القاسم عن مالك‏.‏ وأما أشهب فإنه قال‏:‏ هم على دين من سباهم، فإذا امتنعوا أجبروا على الإسلام، والصغار لا دين لهم فلذلك فأجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل‏.‏ فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عربا أم عجما قريشا أو غيرهم‏.‏ وسيأتي بيان هذا وما للعلماء في الجزية ومن تقبل منه في ‏{‏براءة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏
قوله تعالى‏{‏فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله‏{‏ جزم بالشرط‏.‏ والطاغوت مؤنثة من طغى يطغى‏.‏ - وحكى الطبري يطغو - إذا جاوز الحد بزيادة عليه‏.‏ ووزنه فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مذكر مفرد كأنه اسم جنس يقع للقليل والكثير‏.‏ ومذهب أبي علي أنه مصدر كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام كجَبَذ وجَذَب، فقلبت الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها فقيل طاغوت؛ واختار هذا القول النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ أصل طاغوت في اللغة مأخوذة من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل‏:‏ لآل من اللؤلؤ‏.‏ وقال المبرد‏:‏ هو جمع‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وذلك مردود‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والطاغوت الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً قال الله تعالى‏
{‏يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به‏}‏النساء‏:‏ 60‏]‏‏.‏ وقد يكون جمعا قال الله تعالى‏{‏أولياؤهم الطاغوت‏}‏البقرة 257‏]‏ والجمع الطواغيت‏.‏ ‏{‏ويؤمن بالله‏{‏ عطف‏.‏ ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى‏{‏ جواب الشرط، وجمع الوُثْقى الوُثْق مثل الفُضْلى والفُضْل؛ فالوثقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه‏.‏ واختلف عبارة المفسرين في الشيء المشبه به؛ فقال مجاهد‏:‏ العروة الإيمان‏.‏ وقال السدي‏:‏ الإسلام‏.‏ وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك؛ لا إله إلا الله؛ وهذه عبارات ترجع إلى معنىً واحد‏.‏ ثم قال‏{‏لا انفصام لها‏{‏ قال مجاهد‏:‏ أي لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي لا يزيل عنهم اسم الإيمان حتى يكفروا‏.‏ والانفصام‏:‏ الانكسار من غير بينونة‏.‏ والقصم‏:‏ كسر ببينونة؛ وفي صحيح الحديث ‏(‏فيفصم عنه الوحي وإن جبينه ليتفصد عرقا‏)‏ أي يقلع‏.‏ قال الجوهري‏:‏ فصم الشيء كسره من غير أن يبين، تقول‏:‏ فصمته فانفصم؛ قال الله تعالى‏:‏ لا انفصام لها‏{‏ وتفصم مثله؛ قال ذو الرمة يذكر غزالا يشبهه بدُمْلُج فضة‏:‏
كأنه دملج من فضة نبه في ملعب من جواري الحي مفصوم
وإنما جعله مفصوما لتثنيه وانحنائه إذا نام‏.‏ ولم يقل ‏{‏مقصوم‏{‏ بالقاف فيكون بائنا باثنين‏.‏ وافْصم المطر‏:‏ أقلع‏.‏ وأفصمت عنه الحمى‏.‏ ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات ‏{‏سميع‏{‏ من أجل النطق ‏{‏عليم‏{‏ من أجل المعتقد‏.‏

الآية رقم ‏(‏257‏)‏

‏{‏الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏{‏ الولي فعيل بمعنى فاعل‏.‏ قال الخطابي‏:‏ الولي الناصر ينصر عباده المؤمنين؛ قال الله عز وجل ‏{‏الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور‏{‏، وقال ‏{‏ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم‏}‏محمد‏:‏ 11‏]‏ قال قتادة‏:‏ الظلمات الضلالة، والنور الهدى، وبمعناه قال الضحاك والربيع‏.‏ وقال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة‏:‏ قوله ‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏{‏ نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فكأن هذا المعتقد أحرز نوراً في المعتقد خرج منه إلى الظلمات، ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود النبي صلى الله عليه وسلم الداعي المرسل فشيطانه مغويه، كأنه أخرجه من الإيمان إذ هو معه معد وأهل للدخول فيه، وحكم عليهم بالدخول في النار لكفرهم؛ عدلا منه، لا يسأل عما يفعل‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏أولياؤهم الطواغيت‏{‏ يعني الشياطين، والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏258‏)‏

‏{‏ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر‏{‏ هذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التعجب، أي اعجبوا له‏.‏ وقال الفراء‏{‏ألم تر‏{‏ بمعنى هل رأيت، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم، وهل رأيت الذي مر على قرية، وهو النمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم‏.‏ وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه باباً من البعوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة؛ فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك، فبقي في البلاء أربعين يوما‏.‏ قال ابن جريح‏:‏ هو أول ملك في الأرض‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا مردود‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ملك الدنيا بأجمعها؛ وهو أحد الكافرين؛ والآخر بختنصر‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي حاج إبراهيم نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام؛ حكى جميعه ابن عطية‏.‏ وحكى السهيلي أنه النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح وكان ملكاً على السواد وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق واسمه بيوراسب بن أندراست وكان ملك الأقاليم كلها، وهو الذي قتله أفريدون بن أثفيان؛ وفيه يقول حبيب‏:‏
(1)‏ أو نحو هذا الاسم، وله ابن يسمى نمروذ الأصغر‏.‏ وكان ملك نمروذ الأصغر عاما واحدا، وكان ملك نمروذ الأكبر أربعمائة عام فيما ذكروا‏.‏ وفي قصص هذه المحاجة روايتان‏:‏ إحداهما أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها؛ فلما رجعوا قال لهم‏:‏ أتعبدون ما تنحتون ‏؟‏ فقالوا‏:‏ فمن تعبد‏؟‏ قال‏:‏ أعبد ربي الذي يحيي ويميت‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه، فإذا دخلوا عليه سجدوا له؛ فدخل إبراهيم فلم يسجد له، فقال‏:‏ مالك لا تسجد لي قال‏:‏ أنا لا أسجد إلا لربي‏.‏ فقال له نمروذ‏:‏ من ربك ‏؟‏ قال إبراهيم‏:‏ ربي الذي يحيي ويميت‏.‏ وذكر زيد بن أسلم أن النمروذ هذا قعد يأمر الناس بالميرة، فكلما جاء قوم يقول‏:‏ من ربكم وإلهكم ‏؟‏ فيقولون أنت؛ فيقول‏:‏ ميروهم‏.‏ وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار فقال له‏:‏ من ربك وإلهك ‏؟‏ قال إبراهيم‏:‏ ربي الذي يحيي ويميت؛ فلما سمعها نمروذ قال‏:‏ أنا أحيي وأميت؛ فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر، وقال لا تميروه؛ فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء فمر على كثيب رمل كالدقيق فقال في نفسه‏:‏ لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء؛ فقالت امرأته‏:‏ لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى فخبزته، فلما قام وضعته بين يديه فقال‏:‏ من أين هذا‏؟‏ فقالت‏:‏ من الدقيق الذي سقت‏.‏ فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك‏.‏
قلت‏:‏ وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي صالح قال‏:‏ انطلق إبراهيم النبي عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا‏:‏ ما هذا ‏؟‏ فقال‏:‏ حنطة حمراء؛ ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء، قال‏:‏ وكان إذا زرع منها شيئا جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً‏.‏ وقال الربيع وغيره في هذا القصص‏:‏ إن النمروذ لما قال أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال‏:‏ قد أحييت هذا وأمت هذا؛ فلما رد عليه بأمر الشمس بهت‏.‏ وروي في الخبر‏:‏ أن الله تعالى قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك‏.‏ ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة، فأنجاه الله من النار، على ما يأتي‏.‏ وقال السدي‏:‏ إنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك - ولم يكن قبل ذلك دخل عليه - فكلمه وقال له‏:‏ من ربك ‏؟‏ فقال‏:‏ ربي الذي يحيي ويميت‏.‏ قال النمروذ‏:‏ أنا أحيي وأميت، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتركت اثنين فماتا‏.‏ فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت‏.‏ وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه؛ فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه ‏{‏فبهت الذي كفر‏{‏ أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق؛ لأن ذوي الألباب يكذبونه‏.‏
هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الملك والعز والرفعة في الدنيا، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة‏.‏ وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى‏{‏قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين‏}‏البقرة‏:‏ 111‏]‏‏.‏‏{‏إن عندكم من سلطان‏}‏يونس‏:‏ 68‏]‏ أي من حجة‏.‏ وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة ‏[‏الأنبياء‏]‏ وغيرها‏.‏ وقال في قصة نوح عليه السلام‏{‏قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا‏}‏هود‏:‏ 32‏]‏ الآيات إلى قوله‏{‏وأنا بريء مما تجرمون‏}‏هود‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي‏.‏ فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل‏.‏ وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة، على ما يأتي بيانه في ‏{‏آل عمران‏{‏‏.‏ وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة‏.‏ وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده‏.‏ وفي قول الله عز وجل‏{‏فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم‏}‏آل عمران‏:‏ 66‏]‏ دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر‏.‏ قال المزني صاحب الشافعي‏:‏ ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين‏.‏ وقالوا‏:‏ لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة‏.‏
قراءات - قرأ علي بن أبي طالب ‏{‏ألم تر‏{‏ بجزم الراء، والجمهور بتحريكها، وحذفت الياء للجزم‏.‏ ‏{‏أن آتاه الله الملك‏{‏ في موضع نصب، أي لأن آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله‏.‏ وقرأ جمهور القراء ‏{‏أن أحيي‏{‏ بطرح الألف التي بعد النون من ‏{‏أنا‏{‏ في الوصل، وأثبتها نافع وابن أبي أويس، إذا لقيتها همزة في كل القرآن إلا في قوله تعالى‏{‏إن أنا إلا نذير‏}‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏ فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء لقلة ذلك، فإنه لم يقع منه في القرآن إلا ثلاثة مواضع أجراها مجرى ما ليس بعده همزة لقلته فحذف الألف في الوصل‏.‏ قال النحويون‏:‏ ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون، فإذا قلت‏:‏ أنا أو أنه فالألف والهاء لبيان الحركة في الوقف، فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطتا؛ لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف، فلا يقال‏:‏ أنا فعلت بإثبات الألف إلا شاذاً في الشعر كما قال الشاعر‏:‏
أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما
قال النحاس‏:‏ على أن نافعاً قد أثبت الألف فقرأ ‏{‏أنا أحيي وأميت‏{‏ ولا وجه له‏.‏ قال مكي‏:‏ والألف زائدة عند البصريين، والاسم المضمر عندهم الهمزة والنون وزيدت الألف للتقوية‏.‏ وقيل‏:‏ زيدت للوقف لتظهر حركة النون‏.‏ والاسم عند الكوفيين ‏{‏أنا‏{‏ بكماله؛ فنافع في إثبات الألف على قولهم على الأصل، وإنما حذف الألف من حذفها تخفيفاً؛ ولأن الفتحة تدل عليها‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وأما قولهم ‏{‏أنا‏{‏ فهو اسم مكنى وهو للمتكلم وحده، وإنما بني على الفتح فرقا بينه وبين ‏{‏أن‏{‏ التي هي حرف ناصب للفعل، والألف الأخيرة إنما هي لبيان الحركة في الوقف، فإن توسطت الكلام سقطت إلا في لغة رديئة؛ كما قال‏:‏
أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما
وبَهُت الرجل وبَهِت وبُهت إذا انقطع وسكت متحيراً؛ عن النحاس وغيره‏.‏ وقال الطبري‏:‏ وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى ‏{‏بَهَت‏{‏ بفتح الباء والهاء‏.‏ قال ابن جني قرأ أبو حيوة‏{‏فبهت الذي كفر‏{‏ بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في ‏{‏بهت‏{‏ بكسر الهاء‏.‏ قال‏:‏ وقرأ ابن السميقع ‏{‏فبهت‏{‏ بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر؛ فالذي في موضع نصب‏.‏ قال‏:‏ وقد يجوز أن يكون بَهَت بفتحها لغة في بَهُت‏.‏ قال‏:‏ وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة ‏{‏فبهت‏{‏ بكسر الهاء كغرق ودهش‏.‏ قال‏:‏ والأكثرون بالضم في الهاء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقد تأول قوم في قراءة من قرأ ‏{‏فبهت‏{‏ بفتحها أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة‏.‏

الآية رقم ‏(‏259‏)‏

‏{‏أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها‏{‏ ‏{‏أو‏{‏ للعطف حملا على المعنى والتقدير عند الكسائي والفراء‏:‏ هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية‏.‏ وقال المبرد‏:‏ المعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، ألم تر من هو كالذي مر على قرية‏.‏ فأضمر في الكلام من هو‏.‏ وقرأ أبو سفيان بن حسين ‏{‏أو كالذي مر‏{‏ بفتح الواو، وهي واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام الذي معناه التقرير‏.‏ وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها؛ من قولهم‏:‏ قريت الماء أي جمعته، وقد تقدم‏.‏ قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك‏:‏ الذي مر على القرية هو عزير‏.‏ وقال وهب بن منبه وعبدالله بن عبيد بن عمير وعبدالله بن بكر بن مضر‏:‏ هو إرمياء وكان نبياً‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ إرمياء هو الخضر، وحكاه النقاش عن وهب بن منبه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما؛ لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما رواه وهب بن منبه‏.‏
قلت‏:‏ إن كان الخضر هو إرمياء فلا يبعد أن يكون هو؛ لأن الخضر لم يزل حيا من وقت موسى حتى الآن على الصحيح في ذلك، على ما يأتي بيانه في سورة ‏{‏الكهف‏{‏‏.‏ وإن كان مات قبل هذه القصة فقول ابن عطية صحيح، والله أعلم‏.‏ وحكى النحاس ومكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى‏.‏ قال النقاش‏:‏ ويقال هو غلام لوط عليه السلام‏.‏ وحكى السهيلي عن القتبي هو شعيا في أحد قوليه‏.‏ والذي أحياها بعد خرابها كوشك الفارسي‏.‏ والقرية المذكورة هي بيت المقدس في قول وهب بن منبه وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم‏.‏ قال‏:‏ وكان مقبلا من مصر وطعامه وشرابه المذكور تين أخضر وعنب وركوة من خمر‏.‏ وقيل من عصير‏.‏ وقيل‏:‏ قلة ماء هي شرابه‏.‏ والذي أخلى بيت المقدس حينئذ بختنصر وكان واليا على العراق للهراسب ثم ليستاسب بن لهراسب والد اسبندياد‏.‏ وحكى النقاش أن قوما قالوا‏:‏ هي المؤتفكة‏.‏ وقال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم أناسا كثيرة فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا وكان من علماء بني إسرائيل فجاء بهم إلى بابل، فخرج ذات يوم في حاجة له إلى دير هزقل على شاطئ الدجلة‏.‏ فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له، فربط الحمار تحت ظل الشجرة ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكنا وهي خاوية على عروشها فقال‏:‏ أنى يحيي هذه الله بعد موتها‏.‏ وقيل‏:‏ إنها القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت؛ قاله ابن زيد‏.‏ وعن ابن زيد أيضا أن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا، مر رجل عليهم وهم عظام نخرة تلوح فوقف ينظر فقال‏:‏ أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام‏.‏ قال‏:‏ ابن عطية‏:‏ وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها، والإشارة بـ ‏{‏ـهذه‏{‏ إنما هي إلى القرية‏.‏ وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان‏.‏ وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك والربيع وعكرمة‏:‏ القرية بيت المقدس لما خربها بختنصر البابلي‏.‏ وفي الحديث الطويل حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف إرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس، لأن بختنصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، ورأى إرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها فقال‏:‏ أنى يحيي هذه الله بعد موتها‏.‏
والعريش‏:‏ سقف البيت‏.‏ وكل ما يتهيأ ليظل أو يكن فهو عريش؛ ومنه عريش الدالية؛ ومنه قوله تعالى‏{‏ومما يعرشون‏}‏النحل‏:‏ 68‏]‏‏.‏ قال السدي‏:‏ يقول هي ساقطة على سقفها، أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها؛ واختاره الطبري‏.‏ وقال غير السدي‏:‏ معناه خاوية من الناس والبيوت قائمة؛ وخاوية معناها خالية؛ وأصل الخواء الخلو؛ يقال‏:‏ خَوَت الدار وخَوِيَتْ تخوى خواء ‏(‏ممدود‏)‏ وخُوِياً‏:‏ أقْوَتْ، وكذلك إذا سقطت؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا‏}‏النمل‏:‏ 52‏]‏ أي خالية، ويقال ساقطة؛ كما يقال‏{‏فهي خاوية على عروشها‏{‏ أي ساقطة على سقفها‏.‏ والخَواء الجوع لخلو البطن من الغذاء‏.‏ وخوت المرأة وخويت أيضا خوًى أي خلا جوفها عند الولادة‏.‏ وخويت لها تخوية إذا عملت لها خوية تأكلها وهي طعام‏.‏ والخوي البطن السهل من الأرض على فعيل‏.‏ وخوى البعير إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه، وكذلك الرجل في سجوده‏.‏
قوله تعالى‏{‏قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها‏{‏ معناه من أي طريق وبأي سبب، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان، كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن‏:‏ أنى تعمر هذه بعد خرابها‏.‏ فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته‏.‏ وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان على إحياء الموتى من بني آدم، أي أنى يحيي الله موتاها‏.‏ وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال‏:‏ كان هذا القول شكا في قدرة الله تعالى على الإحياء؛ فلذلك ضرب له المثل في نفسه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وليس يدخل شك في قدرة الله تعالى على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر، والصواب ألا يتأول في الآية شك‏.‏
قوله تعالى‏{‏فأماته الله مائة عام‏{‏ ‏{‏مائة‏{‏ نصب على الظرف‏.‏ والعام‏:‏ السنة؛ يقال‏:‏ سِنون عُوَّم وهو تأكيد للأول؛ كما يقال‏:‏ بينهم شغل شاغل‏.‏ وقال العجاج‏:‏
{‏كل في فلك يسبحون‏}‏الأنبياء‏:‏ 33‏]‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذا بمعنى قول النقاش، والعام على هذا كالقول والقال، وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد‏.‏ وروي في قصص هذه الآية أن الله تعالى بعث لها ملكا من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه لما مضى لموته سبعون سنة أرسل الله ملكا من ملوك فارس عظيما يقال له ‏{‏كوشك‏{‏ فعمرها في ثلاثين سنة‏.‏
قوله تعالى‏{‏ثم بعثه‏{‏ معناه أحياه، وقد تقدم الكلام فيه‏.‏
قوله تعالى‏{‏قال كم لبثت‏{‏ اختلف في القائل له ‏{‏كم لبثت‏{‏؛ فقيل الله جل وعز؛ ولم يقل له إن كنت صادقا كما قال للملائكة على ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ سمع هاتفا من السماء يقول له ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ خاطبه جبريل‏.‏ وقيل‏:‏ نبي‏.‏ وقيل‏:‏ رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له‏:‏ كم لبثت‏.‏
قلت‏:‏ والأظهر أن القائل هو الله تعالى؛ لقوله‏{‏وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما‏{‏ والله أعلم‏.‏ وقرأ أهل الكوفة ‏{‏كم لبثت‏{‏ بإدغام الثاء في التاء لقربها منها في المخرج‏.‏ فإن مخرجهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان‏.‏ قال النحاس‏:‏ والإظهار أحسن لتباين مخرج الثاء من مخرج التاء‏.‏ ويقال‏:‏ كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير‏.‏ و‏{‏كم‏{‏ في موضع نصب على الظرف‏.‏
قوله تعالى‏{‏قال لبثت يوما أو بعض يوم‏{‏ إنما قال هذا على ما عنده وفي ظنه، وعلى هذا لا يكون كاذبا فيما أخبر به؛ ومثله قول أصحاب الكهف ‏{‏قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم‏}‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ وإنما لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين - على ما يأتي - ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم، كأنهم قالوا‏:‏ الذي عندنا وفي ظنوننا أننا لبثنا يوما أو بعض يوم‏.‏ ونظيره ‏{‏حمأ مسنون‏}‏الحجر‏:‏ 26‏]‏ فالمعنى لم يتغير‏.‏ الزجاج، ليس كذلك؛ لأن قوله ‏{‏مسنون‏{‏ ليس معناه متغير وإنما معناه مصبوب على سنة الأرض‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وأصله على قول الشيباني ‏{‏يتسنن‏{‏ فأبدلت إحدى النونين ياء كراهة التضعيف فصار يتسنى، ثم سقطت الألف للجزم ودخلت الهاء للسكت‏.‏ وقال مجاهد‏{‏لم يتسنه‏{‏ لم ينتن‏.‏ قال النحاس‏:‏ أصح ما قيل فيه أنه من السنة، أي لم تغيره السنون‏.‏ ويحتمل أن يكون من السنة وهي الجدب؛ ومنه قوله تعالى‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين‏}‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏ {‏وإذا قيل انشزوا فانشزوا‏}‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏ أي ارتفعوا وانضموا‏.‏ وأيضا فإن القراءة بالراء بمعنى الإحياء، والعظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض، والزاي أولى بذلك المعنى، إذ هو ، بمعنى الانضمام دون الإحياء‏.‏ فالموصوف بالإحياء هو الرجل دون العظام على انفرادها، ولا يقال‏:‏ هذا عظم حي، وإنما المعنى فانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء‏.‏ وقرأ النخعي ‏{‏ننشزها‏{‏ بفتح النون وضم الشين والزاي؛ وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة‏.‏ وقرأ أبي بن كعب ‏{‏ننشيها‏{‏ بالياء‏.‏
والكسوة‏:‏ ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها‏.‏ وقد استعاره لبيد للإسلام فقال‏:‏
حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وقد تقدم أول السورة‏.‏
قوله تعالى‏{‏فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير‏{‏ بقطع الألف‏.‏ وقد روي أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقي جسده‏.‏ قال قتادة‏:‏ إنه جعل ينظر كيف يوصل بعض عظامه إلى بعض؛ لأن أول ما خلق الله منه ورأسه وقيل له‏:‏ انظر، فقال عند ذلك‏{‏أعلم‏{‏ بقطع الألف، أي أعلم هذا‏.‏ وقال الطبري‏:‏ المعنى في قوله ‏{‏فلما تبين له‏{‏ أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه قال‏:‏ أعلم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا خطأ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري، بل هو قول بعثه الاعتبار؛ كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله تعالى‏:‏ لا إله إلا الله ونحو هذا‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته‏.‏
قلت‏:‏ وقد ذكرنا هذا المعنى عن قتادة، وكذلك قال مكي رحمه الله، قال مكي‏:‏ إنه أخبر عن نفسه عندما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى، فتيقن ذلك بالمشاهدة، فأقرأنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، أي أعلم أنا هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينة؛ وهذا على قراءة من قرأ ‏{‏أعلم‏{‏ بقطع الألف وهم الأكثر من القراء‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف، ويحتمل وجهين‏:‏ أحدهما قال له الملك‏:‏ اعلم، والآخر هو أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل؛ فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه‏:‏ اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين الذي لم تكوني تعلمين معاينة؛ وأنشد أبو علي في مثل هذا المعنى‏:‏
ودع هريرة إن الركب مرتحل
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
قال ابن عطية‏:‏ وتأنس أبو علي في هذا الشعر بقول الشاعر‏:‏
تذكر من أنى ومن أين شربه يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل
قال مكي‏:‏ ويبعد أن يكون ذلك أمرا من الله جل ذكره له بالعلم؛ لأنه قد أظهر إليه قدرته، وأراه أمرا أيقن صحته وأقر بالقدرة فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك، بل هو يأمر نفسه بذلك وهو جائز حسن‏.‏ وفي حرف عبدالله ما يدل على أنه أمر من الله تعالى له بالعلم على معنى ألزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت، وذلك أن في حرفه‏:‏ قيل اعلم‏.‏ وأيضا فإنه موافق لما قبله من الأمر في قوله ‏{‏انظر إلى طعامك‏{‏ و‏{‏انظر إلى حمارك‏{‏ و‏{‏انظر إلى العظام ‏{‏فكذلك ‏{‏واعلم أن الله‏{‏ وقد كان ابن عباس يقرؤها ‏{‏قيل اعلم‏{‏ ويقول أهو خير أم إبراهيم‏؟‏ إذ قيل له‏{‏واعلم أن الله عزيز حكيم‏{‏‏.‏ فهذا يبين أنه من قول الله سبحانه له لما عاين من الإحياء‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏260‏)‏

‏{‏وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم‏}‏

اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا‏؟‏ فقال الجمهور‏:‏ لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرقة إلى رؤية ما أخبرت به، {‏ربي الذي يحيي ويميت‏}‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً‏.‏ وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، نحو قولك‏:‏ كيف علم زيد‏؟‏ وكيف نسج الثوب ‏؟‏ ونحو هذا‏.‏ ومتى قلت‏:‏ كيف ثوبك ‏؟‏ وكيف زيد ‏؟‏ فإنما السؤال عن حال من أحواله‏.‏ وقد تكون ‏{‏كيف‏{‏ خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف، نحو قولك‏:‏ كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري‏:‏ كيف كان بدء الوحي‏.‏ و‏{‏كيف‏{‏ في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع‏:‏ أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له‏:‏ أرني كيف ترفعه فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول‏:‏ افرض أنك ترفعه، فأرني كيف ترفعه فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له‏{‏أو لم تؤمن قال بلى‏{‏ فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة‏.‏
قلت‏:‏ هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث‏.‏ وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ وقال اللعين‏:‏ إلا عبادك منهم المخلصين، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين، فقوله‏{‏أرني كيف‏{‏ طلب مشاهدة الكيفية‏.‏ وقال بعض أهل المعاني‏:‏ إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب، وهذا فاسد مردود بما تعقبه من البيان، ذكره الماوردي، وليست الألف في قوله ‏{‏أو لم تؤمن‏{‏ ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال جرير‏:‏
{‏رب أرني أنظر إليك‏}‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ ‏؟‏ فعنه جوابان‏:‏ أحدهما أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاص يصح معه بقاء التكليف‏.‏ الثاني أن الأحوال تختلف فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أمر الله تعالى إبراهيم بهذا قبل أن يولد له وقبل أن ينزل عليه الصحف، والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏261‏)‏

‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم‏}‏

لما قص الله سبحانه ما فيه من البراهين، حث على الجهاد، وأعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذي لا يأتي به إلا نبي فله في جهاده الثواب العظيم‏.‏‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة‏}‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رب زد أمتي‏)‏ فنزلت ‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏}‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها، وضمنها التحريض على ذلك‏.‏ وفي الكلام حذف مضاف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة‏.‏ وطريق آخر‏:‏ مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت الحبة سبع سنابل، يعني أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة، ثم قال تعالى‏{‏والله يضاعف لمن يشاء‏{‏ يعني على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزارع، إن كان حاذقا في عمله، ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر، خلافا لمن قال‏:‏ ليس في الآية تضعيف على سبعمائة، على ما نبينه إن شاء الله‏.‏
‏{‏وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم‏}‏الملك‏:‏ 6‏]‏ على ‏{‏وأعتدنا لهم عذاب السعير‏}‏الملك‏:‏ 5‏]‏ وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ‏{‏أنبتت سبع سنابل‏{‏ بإدغام التاء في السين، لأنهما مهموستان، ألا ترى أنهما يتعاقبان‏.‏ وأنشد أبو عمرو‏:‏
يا لعن الله بني السعلاة عمرو بن ميمون لئام النات
أراد الناس فحول السين تاء‏.‏ الباقون بالإظهار على الأصل لأنهما كلمتان‏.‏
ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف‏.‏ واختلف العلماء في معنى قوله ‏{‏والله يضاعف لمن يشاء‏{‏ فقالت طائفة‏:‏ هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة‏.‏ وقالت طائفة من العلماء‏:‏ بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف‏.‏
قلت‏:‏ وهذا القول أصح لحديث ابن عمر المذكور أول الآية‏.‏ وروى ابن ماجة حدثنا هارون بن عبدالله الحمال حدثنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبدالله عن الحسن عن علي بن أبي طالب وأبي الدرداء وعبدالله بن عمرو وأبي أمامة الباهلي وعبدالله بن عمرو وجابر بن عبدالله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم - ثم تلا هذه الآية ‏{‏والله يضاعف لمن يشاء الله‏{‏‏)‏‏.‏ وقد روي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وليس هذا بثابت الإسناد عنه‏.‏
في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل فقال‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم‏{‏ الآية‏.‏ وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة‏)‏‏.‏ وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏التمسوا الرزق في خبايا الأرض‏)‏ يعني الزرع، أخرجه الترمذي‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم في النخل‏:‏ ‏(‏هي الراسخات في الوحل المطعمات في المحل‏)‏‏.‏ وهذا خرج مخرج المدح والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار‏.‏ ولقي عبدالله بن عبدالملك بن شهاب الزهري فقال‏:‏ دلني على مال أعالجه، فأنشأ ابن شهاب يقول‏:‏
أقول لعبدالله يوم لقيته وقد شد أحلاس المطي مشرقا
تتبع خبايا الأرض وادع مليكها لعلك يوما أن تجاب فترزقا
فيؤتيك مالا واسعا ذا مثابة إذا ما مياه الأرض غارت تدفقا
وحكي عن المعتضد أنه قال‏:‏ رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام يناولني مسحاة وقال‏:‏ خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض‏.‏

الآية رقم ‏(‏262‏)‏

‏{‏الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏{‏ قيل‏:‏ {‏لا نريد منكم جزاء ولا شكورا‏}‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ومتى أنفق ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله، فهذا إذا أخلف ظنه فيه منّ بإنفاقه وآذى‏.‏ وكذلك من أنفق مضطرا دافع غرم إما لمانة للمنفق عليه أو لقرينة أخرى من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله‏.‏ وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله، كالذي حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابيا أتاه فقال‏:‏
{‏ولا تمنن تستكثر‏}‏المدثر‏:‏ 6‏]‏ أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها‏.‏ وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية إنما هي في الذين لا يخرجون في الجهاد بل ينفقون وهم قعود، وإن الآية التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم، قال‏:‏ ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي هذا القول نظر، لأن التحكم فيه باد‏.‏
قوله تعالى‏{‏منا ولا أذى‏{‏ المن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها مثل أن يقول‏:‏ قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المن‏:‏ التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه‏.‏ والمن من الكبائر، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وروى النسائي عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى‏)‏‏.‏ وفي بعض طرق مسلم‏:‏ ‏(‏المنان هو الذي لا يعطي شيئا إلا منة‏)‏‏.‏ والأذى‏:‏ السب والتشكي، وهو أعم من المن لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه‏.‏ وقالت له امرأة‏:‏ يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه فإن عندي أسهما وجعبة‏.‏ فقال‏:‏ لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم‏.‏ قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ فمن أنفق في سبيل الله ولم يتبعه منا ولا أذى كقوله‏:‏ ما أشد إلحاحك وخلصنا الله منك وأمثال هذا فقد تضمن الله له بالأجر، والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل، والحزن على ما سلف من دنياه، لأنه يغتبط بآخرته فقال‏{‏لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏{‏‏.‏ وكفى بهذا فضلا وشرفا للنفقة في سبيل الله تعالى‏.‏ وفيها دلالة لمن فضل الغني على الفقير حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏263‏)‏

‏{‏قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قول معروف‏{‏ ابتداء والخبر محذوف، أي قول معروف أولى وأمثل، ذكره النحاس والمهدوي‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏قول معروف‏{‏ خبر ابتداء محذوف، أي الذي أمرتم به قول معروف‏.‏ والقول المعروف هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شيء، لأن ذكر القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق‏)‏ أخرجه مسلم‏.‏ فيتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب، ليكون مشكورا إن أعطى ومعذورا إن منع‏.‏ وقد قال بعض الحكماء‏:‏ الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره‏.‏ وحكى ابن لنكك أن أبا بكر بن دريد قصد بعض الوزراء في حاجة لم يقضها وظهر له منه ضجر فقال‏:‏
لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسؤولا
لا تجبهن بالرد وجه مؤمل فبقاء عزك أن ترى مأمولا
تلقى الكريم فتستدل ببشره وترى العبوس على اللئيم دليلا
واعلم بأنك عن قليل صائر خبرا فكن خبرا يروق جميلا
وروي من حديث عمر رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار ولين أو ببذل يسير أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرون صنيعكم فيما خولكم الله تعالى‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ دليله حديث أبرص وأقرع وأعمى، خرجه مسلم وغيره‏.‏ وذلك أن ملكا تصور في صورة أبرص مرة وأقرع أخرى وأعمى أخرى امتحانا للمسؤول‏.‏ وقال بشر بن الحارث‏:‏ رأيت عليا في المنام فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين قل لي شيئا ينفعني الله به، قال‏:‏ ما أحسن عطف الأنبياء على الفقراء رغبة في ثواب الله تعالى، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بموعود الله‏.‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين زدني، فولى وهو يقول‏:‏
قد كنت ميتا فصرت حيا وعن قليل تصير ميتا
فاخرب بدار الفناء بيتا وابن بدار البقاء بيتا
قوله تعالى‏{‏ومغفرة‏{‏ المغفرة هنا‏:‏ الستر للخلة وسوء حالة المحتاج، ومن هذا قول الأعرابي - وقد سأل قوما بكلام فصيح - فقال له قائل‏:‏ ممن الرجل ‏؟‏ فقال له‏:‏ اللهم غفرا‏!‏ سوء الاكتساب يمنع من الانتساب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى تجاوز عن السائل إذا ألح وأغلظ وجفى خير من التصدق عليه من المن والأذى، قال معناه النقاش‏.‏ وقال النحاس‏:‏ هذا مشكل يبينه الإعراب‏.‏ ‏{‏مغفرة‏{‏ رفع بالابتداء والخبر ‏{‏خير من صدقة‏{‏‏.‏ والمعنى والله أعلم وفعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى، وتقديره في العربية وفعل مغفرة‏.‏ ويجوز أن يكون مثل قولك‏:‏ تفضل الله عليك أكبر من الصدقة التي تمن بها، أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنون بها‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله غني حليم‏{‏ أخبر تعالى عن غناه المطلق أنه غني عن صدقة العباد، وإنما أمر بها ليثيبهم، وعن حلمه بأنه لا يعاجل بالعقوبة من منّ وآذى بصدقته‏.‏

الآية رقم ‏(‏264‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏بالمن والأذى‏{‏ قد تقدم معناه‏.‏ وعبر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال، والمراد الصدقة التي يمن بها ويؤذي، لا غيرها‏.‏ والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات ولا تحبطها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها‏.‏
قال جمهور العلماء في هذه الآية‏:‏ إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمن أو يؤذي بها فإنها لا تقبل‏.‏ وقيل‏:‏ بل قد جعل الله للملك عليها أمارة فهو لا يكتبها، وهذا حسن‏.‏ والعرب تقول لما يمن به‏:‏ يد سوداء‏.‏ ولما يعطى عن غير مسألة‏:‏ يد بيضاء‏.‏ ولما يعطى عن مسألة‏:‏ يد خضراء‏.‏ وقال بعض البلغاء‏:‏ من من بمعروفه سقط شكره، ومن أعجب بعمله حبط أجره‏.‏ وقال بعض الشعراء‏:‏
{‏أخذناه أخذا وبيلا‏}‏المزمل‏:‏ 16‏]‏ أي شديدا‏.‏ وضرب وبيل، وعذاب وبيل أي شديد‏.‏ والصلد‏:‏ الأملس من الحجارة‏.‏ قال الكسائي‏:‏ صَلِد يَصْلَدُ صَلَدا بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان، وهو كل ما لا ينبت شيئا، ومنه جبين أصلد، وأنشد الأصمعي لرؤبة‏:‏
براق أصلاد الجبين الأجله
قال النقاش‏:‏ الأصلد الأجرد بلغة هذيل‏.‏ ومعنى ‏{‏لا يقدرون‏{‏ يعني المرائي والكافر والمان ‏{‏على شيء‏{‏ أي على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم عند حاجتهم إليه، إذا كان لغير الله فعبر عن النفقة بالكسب، لأنهم قصدوا بها الكسب‏.‏ وقيل‏:‏ ضرب هذا مثلا للمرائي في إبطال ثوابه ولصاحب المن والأذى في إبطال فضله، ذكره الماوردي‏.‏

الآية رقم ‏(‏265‏)‏

‏{‏ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم‏{‏ ‏{‏ابتغاء‏{‏ مفعول من أجله‏.‏ ‏{‏وتثبيتا من أنفسهم‏{‏ عطف عليه‏.‏ وقال مكي في المشكل‏:‏ كلاهما مفعول من أجله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو مردود، ولا يصح في ‏{‏تثبيتا‏{‏ أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت‏.‏ و‏{‏ابتغاء‏{‏ نصب على المصدر في موضع الحال، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو ‏{‏تثبيتا‏{‏ عليه‏.‏ ولما ذكر الله تعالى صفة صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما، عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم إذ كانت على وفق الشرع ووجهه‏.‏ و‏{‏ابتغاء‏{‏ معناه طلب‏.‏ و‏{‏مرضات‏{‏ مصدر من رضي يرضى‏.‏ ‏{‏وتثبيتا‏{‏ معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، قاله مجاهد والحسن‏.‏ قال الحسن‏:‏ كان الرجل إذا هم بصدقه تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك‏.‏ وقيل‏:‏ معناه تصديقا ويقينا، قاله ابن عباس‏.‏ وقال ابن عباس أيضا وقتادة‏:‏ معناه واحتسابا من أنفسهم‏.‏ وقال الشعبي والسدي وقتادة أيضا وابن زيد وأبو صالح وغيرهم‏{‏وتثبيتا‏{‏ معناه وتيقنا أي أن نفوسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا‏.‏ وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول الحسن ومجاهد، لأن المعنى الذي ذهبا إليه إنما عبارته ‏{‏وتثبيتا‏{‏ مصدر على غير المصدر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم، كقوله تعالى‏
{‏والله أنبتكم من الأرض نباتا‏}‏نوح‏:‏ 17‏]‏، ‏{‏وتبتل إليه تبتيلا‏}‏المزمل‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول‏:‏ أحمله على معنى كذا وكذا، لفعل لم يتقدم له ذكر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذا مهْيَعُ كلام العرب فيما علمته‏.‏ وقال النحاس‏:‏ لو كان كما قال مجاهد لكان وتثبتا من تثبت كتكرمت تكرما، وقول قتادة‏:‏ احتسابا، لا يعرف إلا أن يراد به أن أنفسهم تثبتهم محتسبة، وهذا بعيد‏.‏ وقول الشعبي حسن، أي تثبيتا من أنفسهم لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله عز وجل، يقال‏:‏ ثبت فلانا في هذا الأمر، أي صححت عزمه، وقويت فيه رأيه، أثبته تثبيتا، أي أنفسهم موقنة بوعد الله على تثبيتهم في ذلك‏.‏ وقيل‏{‏وتثبيتا من أنفسهم‏{‏ أي يقرون بأن الله تعالى يثبت عليها، أي وتثبيتا من أنفسهم لثوابها، بخلاف المنافق الذي لا يحتسب الثواب‏.‏
قوله تعالى‏{‏كمثل جنة بربوة‏{‏ الجنة البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، فهي مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارهم‏.‏ وقد تقدم‏.‏ والربوة‏:‏ المكان المرتفع ارتفاعا يسيرا، معه في الأغلب كثافة تراب، وما كان كذلك فنباته أحسن، ولذلك خص الربوة بالذكر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ورياض الحزن ليست من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد، لأنها خير من رياض تهامة، ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن‏.‏ وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية‏{‏زوجي كليل تهامة‏{‏‏.‏ وقال السدي‏{‏بربوة‏{‏ أي برباوة، وهو ما انخفض من الأرض‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه عبارة قِلقة، ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد‏.‏
قلت‏:‏ عبارة السدي ليست بشيء، لأن بناء ‏{‏رَبَ و‏{‏ معناه الزيادة في كلام العرب، ومنه الربو للنفس العالىِ‏.‏ ربا يربو إذا أخذه الربو‏.‏ وربا الفرس إذا أخذه الربو من عدو أو فزع‏.‏ وقال الفراء في قوله تعالى‏{‏أخذهم أخذة رابية‏}‏الحاقة‏:‏ 10‏]‏ أي زائدة، كقولك‏:‏ أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت‏.‏ وربوت في بني فلان وربيت أي نشأت فيهم‏.‏ وقال الخليل‏:‏ الربوة أرض مرتفعة طيبة وخص الله تعالى بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، لأن قوله تعالى‏{‏أصابها وابل‏{‏ إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد جنس التي تجري فيها الأنهار، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين‏.‏ والمعروف من كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر‏.‏ وفيها خمس لغات ‏{‏ربوة‏{‏ بضم الراء، وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو‏.‏ و‏{‏ربوة‏{‏ بفتح الراء، وبها قرأ عاصم وابن عامر والحسن‏.‏ ‏{‏وربوة‏{‏ بكسر الراء، وبها قرأ ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي‏.‏ و‏{‏رباوة‏{‏ بالفتح، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبدالرحمن، وقال الشاعر‏:‏
{‏تؤتي أكلها كل حين‏}‏إبراهيم‏:‏ 25‏]‏‏.‏ والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل‏.‏ والأكلة‏:‏ اللقمة، ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين‏)‏ يعني لقمة أو لقمتين، خرجه مسلم‏.‏ وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص، كسرج الفرس وباب الدار‏.‏ وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة‏.‏ وقرأ نافع، وابن كثير وأبو عمرو ‏{‏أكلها‏{‏ بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث، وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أُكُلَه أو كان غير مضاف إلى شيء مثل ‏{‏أكل خمط‏{‏ فثقل أبو عمرو ذلك وخففاه‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل‏.‏ ويقال‏:‏ أَكْل وأُكُل بمعنى‏.‏ ‏{‏ضعفين‏{‏ أي أعطت ضعفي ثمر غيرها من الأرضين‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ حملت مرتين في السنة، والأول أكثر، أي أخرجت من الزرع ما يخرج غيرها في سنتين‏.‏
قوله تعالى‏{‏فإن لم يصبها وابل فطل‏{‏ تأكيد منه تعالى لمدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابل فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين، وذلك لكرم الأرض وطيبها‏.‏ قال المبرد وغيره‏:‏ تقديره فطل يكفيها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ فالذي يصيبها طل‏.‏ والطل‏:‏ المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة‏.‏ وقال قوم منهم مجاهد‏:‏ الطل‏:‏ الندى‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو تجوز وتشبيه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى أهل اللغة وَبَلَت وأوْبَلَت، وطَلّت وأَطَلّت‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ الطل أضعف المطر والجمع الطلال، تقول منه‏:‏ طلت الأرض وأطلها الندى فهي مطلولة‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعا، وفيه - وإن قل - تماسك ونفع‏.‏ قال بعضهم الآية تقديم وتأخير، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين‏.‏ يعني اخضرت أوراق البستان وخرجت ثمرتها ضعفين‏.‏
قلت‏:‏ التأويل الأول أصوب ولا حاجة إلى التقديم والتأخير‏.‏ فشبه تعالى نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفُلُوّ والفصيل بنمو نبات الجنة بالربوة الموصوفة، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا‏.‏ وخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم‏)‏ خرجه الموطأ أيضا‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله بما تعملون بصير‏{‏ وعد ووعيد‏.‏ وقرأ الزهري ‏{‏يعملون‏{‏ بالياء كأنه يريد به الناس أجمع، أو يريد المنفقين فقط، فهو وعد محض‏.‏

الآية رقم ‏(‏266‏)‏

‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب‏{‏ الآية‏.‏ حكى الطبري عن السدي أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء، ورجح هو هذا القول‏.‏
قلت وروي عن ابن عباس أيضا قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها، كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه فكبر وأصاب الجنة إعصار أي ريح عاصف فيه نار فاحترقت ففقدها أحوج ما كان إليها‏.‏ وحكي عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏البقرة‏:‏ 264‏]‏ الآية، قال‏:‏ ثم ضرب في ذلك مثلا فقال‏{‏أيود أحدكم‏{‏ الآية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء، هذا هو مقتضى سياق الكلام‏.‏ وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل عملا وهو يحسب أنه يحسن صنعا فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا‏.‏
قلت‏:‏ قد روي عن ابن عباس أنها مثل لمن عمل لغير الله من منافق وكافر على ما يأتي، إلا أن الذي ثبت في البخاري عنه خلاف هذا‏.‏ خرج البخاري عن عبيد بن عمير قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيم ترون هذه الآية نزلت ‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب‏{‏‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، فغضب عمر وقال‏:‏ قولوا‏:‏ نعلم أو لا نعلم‏!‏ فقال ابن عباس‏:‏ في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال‏:‏ يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس‏:‏ ضربت مثلا لعمل‏.‏ قال عمر‏:‏ أي عمل‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله عز وجل له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله‏.‏ في رواية‏:‏ فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء، فرضى ذلك عمر‏.‏ وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية‏.‏ وقال‏:‏ هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها، وبنحو ذلك قال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم‏.‏ وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏جنات‏{‏ بالجمع‏.‏ ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏{‏ تقدم ذكره‏.‏ ‏{‏له فيها من كل الثمرات‏{‏ يريد ليس شيء من الثمار إلا وهو فيها نابت‏.‏
قوله تعالى‏{‏وأصابه الكبر‏{‏ عطف ماضيا على مستقبل وهو ‏{‏تكون‏{‏ وقيل‏{‏يود‏{‏ فقيل‏:‏ التقدير وقد أصابه الكبر‏.‏ وقيل إنه محمول على المعنى، لأن المعنى أيود أحدكم أن لو كانت له جنة‏.‏ وقيل‏:‏ الواو واو الحال، وكذا في قوله تعالى ‏{‏وله‏{‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت‏{‏ قال الحسن‏{‏إعصار فيه نار‏{‏ ريح فيها برد شديد‏.‏ الزجاج‏:‏ الإعصار في اللغة الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود، وهي التي يقال لها‏:‏ الزوبعة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الزوبعة رئيس من رؤساء الجن، ومنه سمي الإعصار زوبعة‏.‏ ويقال‏:‏ أم زوبعة، وهي ريح تثير الغبار وترتفع إلى السماء كأنها عمود‏.‏ وقيل‏:‏ الإعصار ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق‏.‏ المهدوي‏:‏ قيل لها إعصار لأنها تلتف كالثوب إذا عصر‏.‏ ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف‏.‏
قلت‏:‏ بل هو صحيح، لأنه المشاهد المحسوس، فإنه يصعد عمودا ملتفا‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قيل للريح إعصار، لأنه يعصر السحاب، والسحاب معصرات إما لأنها حوامل فهي كالمعصر من النساء‏.‏ وإما لأنها تنعصر بالرياح‏.‏ وحكى ابن سيده‏:‏ إن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب‏.‏ ابن زيد‏:‏ الإعصار ريح عاصف وسموم شديدة، وكذلك قال السدي‏:‏ الإعصار الريح والنار السموم‏.‏ ابن عباس‏:‏ ريح فيها سموم شديدة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويكون، ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد، وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها، كما تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم‏)‏ و‏(‏إن النار اشتكت إلى ربها‏)‏ الحديث‏.‏ وروي عن ابن عباس وغيره‏:‏ ‏(‏إن هذا مثل ضربه الله تعالى للكافرين والمنافقين، كهيئة رجل غرس بستانا فأكثر فيه من الثمر فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء - يريد صبيانا بنات وغلمانا - فكانت معيشته ومعيشة ذريته من ذلك البستان، فأرسل الله على بستانه ريحا فيها نار فأحرقته، ولم يكن عنده قوة فيغرسه ثانية، ولم يكن عند بنيه خير فيعودون على أبيهم‏.‏ وكذلك الكافر والمنافق إذا ورد إلى الله تعالى يوم القيامة ليست له كرة يبعث فيرد ثانية، كما ليست عند هذا قوة فيغرس بستانه ثانية، ولم يكن عنده من افتقر إليه عند كبر سنه وضعف ذريته غنى عنه‏.‏
قوله تعالى‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏{‏ يريد كي ترجعوا إلى عظمتي وربوبيتي ولا تتخذوا من دوني أولياء‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها‏.‏

الآية رقم ‏(‏267‏)

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا‏{‏ هذا خطاب لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا، فقال علي بن أبي طالب وعبيدة السلماني وابن سيرين‏:‏ هي الزكاة المفروضة، نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أن الآية في التطوع، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بمختار جيد‏.‏ والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب، وبأنه نهى عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بالقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم خير من تمرة‏.‏ تمسك أصحاب الندب بأن لفظة افْعَلْ صالح للندب صلاحيته للفرض، والرديء منهي عنه في النقل كما هو منهي عنه في الفرض، والله أحق من اختير له‏.‏ ‏{‏ومما أخرجنا لكم من الأرض‏}‏البقرة‏:‏ 267‏]‏ وإن ذلك عموم في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره وفي سائر الأصناف، ورأوا ظاهر الأمر الوجوب‏.‏ وسيأتي بيان هذا في ‏{‏الأنعام‏{‏ مستوفى‏.‏ وأما المعدن ‏{‏ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏}‏البقرة‏:‏ 267‏]‏‏.‏ يقال‏:‏ أغمض لي فيما بعتني، كأنك تريد الزيادة منه لرداءته والحط من ثمنه‏.‏ و‏{‏أن‏{‏ في موضع نصب، والتقدير إلا بأن‏.‏
قوله تعالى‏{‏واعلموا أن الله غني حميد‏{‏ نبه سبحانه وتعالى على صفة الغني، أي لا حاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر وبال، فإنما يقدم لنفسه‏.‏ و‏{‏حميد‏{‏ معناه محمود في كل حال‏.‏ وقد أتينا على معاني هذين الاسمين في ‏{‏الكتاب الأسنى‏{‏ والحمد لله‏.‏ قال الزجاج في قوله‏{‏واعلموا أن الله غني حميد‏{‏‏:‏ أي لم يأمركم أن تصدقوا من عوز ولكنه بلا أخباركم فهو حميد على ذلك على جميع نعمه‏.‏

الآية رقم ‏(‏268‏)‏

‏{‏الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏الشيطان‏{‏ تقدم معنى الشيطان واشتقاقه فلا معنى لإعادته‏.‏ و‏{‏يعدكم‏{‏ معناه يخوفكم ‏{‏الفقر‏{‏ أي بالفقر لئلا تنفقوا‏.‏ فهذه الآية متصلة بما قبل، وأن الشيطان له مدخل في التثبيط للإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وهو مع ذلك يأمر بالفحشاء وهي المعاصي والإنفاق فيها‏.‏ وقيل‏:‏ أي بأن لا تتصدقوا فتعصوا وتتقاطعوا‏.‏ وقرئ ‏{‏الفُقْر‏{‏ بضم الفاء وهي لغة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والفقر لغة في الفقر، مثل الضُّعف والضَّعف‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله يعدكم مغفرة منه وفضلا‏{‏ الوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير، وإذا قيد بالموعود ما هو فقد يقدر بالخير وبالشر كالبشارة‏.‏ فهذه الآية مما يقيد فيها الوعد بالمعنيين جميعا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ في هذه الآية اثنتان من الله تعالى واثنتان من الشيطان‏.‏ {‏وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين‏}‏سبأ‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ذكره ابن عباس‏.‏ ‏{‏والله واسع عليم‏{‏ تقدم معناه‏.‏ والمراد هنا أنه سبحانه وتعالى يعطي من سعة ويعلم حيث يضع ذلك، ويعلم الغيب والشهادة‏.‏ وهما اسمان من أسمائه ذكرناهما في جملة الأسماء في ‏(‏الكتاب الأسنى‏)‏ والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏269‏)‏

‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب‏}‏

قوله تعالى‏{‏يؤتِ الحكمة من يشاء‏{‏ أي يعطيها لمن يشاء من عباده‏.‏ واختلف العلماء في الحكمة هنا، فقال السدي‏:‏ هي النبوة‏.‏ ابن عباس‏:‏ هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدمه ومؤخره‏.‏ وقال قتادة ومجاهد‏:‏ الحكمة هي الفقه في القرآن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الإصابة في القول والفعل‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الحكمة العقل في الدين‏.‏ وقال مالك بن أنس‏:‏ الحكمة المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له‏.‏ وروى عنه ابن القاسم أنه قال‏:‏ الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له‏.‏ وقال أيضا‏:‏ الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ الحكمة الخشية‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ الحكمة الفهم في القرآن، وقاله زيد بن أسلم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الحكمة الورع‏.‏
قلت‏:‏ وهذه الأقوال كلها ما عدا السدي والربيع والحسن قريب بعضها من بعض، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة‏.‏ وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة، لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم‏.‏ وفي البخاري‏:‏ ‏(‏من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين‏)‏ وقال هنا‏{‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا‏{‏ وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها اعتناء بها، وتنبيها على شرفها وفضلها حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى‏{‏فبدل الذين ظلموا قولا‏}‏البقرة‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده‏:‏ حدثنا مروان بن محمد حدثنا رفدة الغساني قال‏:‏ أخبرنا ثابت بن عجولان الأنصاري قال‏:‏ كان يقال‏:‏ إن الله يريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم المعلم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم‏.‏ قال مروان‏:‏ يعني بالحكمة القرآن‏.‏
قوله تعالى‏{‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب‏{‏ يقال‏:‏ إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها، لأنه قال لأولئك‏
{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏}‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وسمى هذا خيرا كثيرا، لأن هذا هو جوامع الكلم‏.‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم، فإنما أعطي أفضل ما أعطي أصحاب الدنيا، لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا فقال‏{‏قل متاع الدنيا قليل‏{‏ وسمى العلم والقرآن ‏{‏خيرا كثيرا‏{‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ومن يؤت‏{‏ على بناء الفعل للمفعول‏.‏ وقرأ الزهري ويعقوب ‏{‏ومن يؤت‏{‏ بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة، فالفاعل اسم الله عز وجل‏.‏ و‏{‏من‏{‏ مفعول أول مقدم، والحكمة مفعول ثان‏.‏ والألباب‏:‏ العقول، واحدها لب وقد تقدم‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏270‏)

‏{‏وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار‏}‏

شرط وجوابه، وكانت النذور من سيرة العرب تكثر منها، فذكر الله تعالى النوعين، ما يفعله المرء متبرعا، وما يفعله بعد إلزامه لنفسه‏.‏ وفي الآية معنى الوعد والوعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب، ومن أنفق رياء أو لمعنى آخر مما يكسبه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم، يذهب فعله باطلا ولا يجد له ناصرا فيه‏.‏ ومعنى ‏{‏يعلمه‏{‏ يحصيه، قاله مجاهد‏.‏ ووحد الضمير وقد ذكر شيئين، فقال النحاس‏:‏ التقدير ‏{‏وما أنفقتم من نفقة‏{‏ فإن الله يعلمها، ‏{‏أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه‏{‏ ثم حذف‏.‏ ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ وما أنفقتم فإن الله يعلمه وتعود الهاء على ‏{‏ما‏{‏ كما أنشد سيبويه لامرئ القيس‏:‏
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل
ويكون ‏{‏أو نذرتم من نذر‏{‏ معطوفا عليه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ووحد الضمير في ‏{‏يعلمه‏{‏ وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص‏.‏
قلت‏:‏ وهذا حسن‏:‏ فإن الضمير قد يراد به جميع المذكور وإن كثر‏.‏ والنذر حقيقة العبارة عنه أن تقول‏:‏ هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه، تقول‏:‏ نذر الرجل كذا إذا التزم فعله، ينذر - بضم الذال - وينذر - بكسرها - ‏.‏ وله أحكام يأتي بيانها في غير هذا الوضع إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏271‏)‏

‏{‏إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير‏}‏

ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع، لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء عنها، وليس كذلك الواجبات‏.‏ قال الحسن‏:‏ إظهار الزكاة أحسن، وإخفاء التطوع أفضل، لأنه أدل على أنه يراد الله عز وجل به وحده‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها يقال بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا‏.‏ قال‏:‏ وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها‏.‏
قلت‏:‏ مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف، {‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية‏}‏البقرة‏:‏ 274‏]‏ الآية‏.‏
قوله تعالى‏{‏فنعما هي‏{‏ ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك‏.‏ ولذلك قال بعض الحكماء‏:‏ إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطنع إليك فانشره‏.‏ قال دعبل الخزاعي‏:‏
إذا انتقموا أعلنوا أمرهم وإن أنعموا باكتتام
وقال سهل بن هارون‏:‏
خل إذا جئته يوما لتسأله أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا
يخفى صنائعه والله يظهرها إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
وقال العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه‏:‏ لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال‏:‏ تعجيله وتصغيره وستره، فإذا أعجلته هنيته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته‏.‏ وقال بعض الشعراء فأحسن‏:‏
زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير
واختلف القراء في قول ‏{‏فنعما هي‏{‏ فقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ورش وعاصم في رواية حفص وابن كثير ‏{‏فنعما هي‏{‏ بكسر النون والعين‏.‏ وقرأ أبو عمرو أيضا ونافع في غير رواية ورش وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل ‏{‏فنعما‏{‏ بكسر النون وسكون العين‏.‏ وقرأ الأعمش وابن عامر وحمزة والكسائي ‏{‏فنعما‏{‏ بفتح النون وكسر العين، وكلهم سكن الميم‏.‏ ويجوز في غير القرآن فنعم ما هي‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولكنه في السواد متصل فلزم الإدغام‏.‏ وحكى النحويون في ‏{‏نعم‏{‏ أربع لغات‏:‏ نعم الرجل زيد، هذا الأصل‏.‏ ونعم الرجل، بكسر النون لكسر العين‏.‏ ونعم الرجل، بفتح النون وسكون العين، والأصل نعم حذفت الكسرة لأنها ثقيلة‏.‏ ونعم الرجل، وهذا أفضل اللغات، والأصل فيها نَعِم‏.‏ وهي تقع في كل مدح، فخففت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت العين، فمن قرأ ‏{‏فنعما هي‏{‏ فله تقديران‏:‏ أحدهما أن يكون جاء به على لغة من يقول نِعِم‏.‏ والتقدير الآخر أن يكون على اللغة الجيدة، فيكون الأصل نِعْمَ، ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين‏.‏ قال النحاس‏:‏ فأما الذي حكي عن أبي عمرو ونافع من إسكان العين فمحال‏.‏ حكي عن محمد بن يزيد أنه قال‏:‏ أما إسكان العين والميم مشددة فلا يقدر أحد أن ينطق به، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأبه‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد، إذ المد يصير عوضا من الحركة، وهذا نحو دابة وضوال ونحوه‏.‏ ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في ‏{‏بارئكم - و - يأمركم‏{‏ فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف ذلك في السمع وخفائه‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وأما من قرأ ‏{‏نعما‏{‏ بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها ومنه قول الشاعر‏:‏
ما أقلت قدماي إنهم نعم الساعون في الأمر المبر
قال أبو علي‏:‏ و‏{‏ما‏{‏ من قوله تعالى‏{‏نعما‏{‏ في موضع نصب، وقوله ‏{‏هي‏{‏ تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر، والتقدير نعم شيئا إبداؤها، والإبداء هو المخصوص بالمدح إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه‏.‏ ويدلك على هذا قوله ‏{‏فهو خير لكم‏{‏ أي الإخفاء خير‏.‏ فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات فكذلك، أولا الفاعل هو الإبداء وهو الذي اتصل به الضمير، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مثله‏.‏ ‏{‏وإن تخفوها‏{‏ شرط، فلذلك حذفت النون‏.‏ ‏{‏وتؤتوها‏{‏ عطف عليه‏.‏ والجواب ‏{‏فهو خير لكم‏{‏‏.‏ ‏{‏ويكفر‏{‏ اختلف القراء في قراءته، فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وقتادة وابن أبي إسحاق ‏{‏ونكفر‏{‏ بالنون ورفع الراء‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم في الراء، وروي مثل ذلك أيضا عن عاصم‏.‏ وروى الحسين بن علي الجعفي عن الأعمش ‏{‏يكفر‏{‏ بنصب الراء‏.‏ وقرأ ابن عامر بالياء ورفع الراء، ورواه حفص عن عاصم، وكذلك روي عن الحسن، وروي عنه بالياء والجزم‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏وتكفر‏{‏ بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء‏.‏ وقرأ عكرمة ‏{‏وتكفر‏{‏ بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء‏.‏ وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ ‏{‏وتكفر‏{‏ بالتاء ورفع الراء‏.‏ وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآ بتاء ونصب الراء‏.‏ فهذه تسع قراءات أبينها ‏{‏ونكفر‏{‏ بالنون والرفع‏.‏ هذا قول الخليل وسيبويه‏.‏ قال النحاس‏:‏ قال سيبويه‏:‏ والرفع ههنا الوجه وهو الجيد، لأن الكلام الذي بعد الفاء يجري مجراه في غير الجزاء‏.‏ وأجاز الجزم بحمله على المعنى، لأن المعنى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن خيرا لكم ونكفر عنكم‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ قرأ الأعمش ‏{‏يكفر‏{‏ بالياء دون واو قبلها‏.‏ قال النحاس‏:‏ والذي حكاه أبو حاتم عن الأعمش بغير واو جزما يكون على البدل كأنه في موضع الفاء‏.‏ والذي روي عن عاصم ‏{‏ويكفر‏{‏ بالياء والرفع يكون معناه ويكفر الله، هذا قول أبي عبيد‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ معناه يكفر الإعطاء‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏وتكفر‏{‏ يكون معناه وتكفر الصدقات‏.‏ وبالجملة فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلمه، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر، والإعطاء في خفاء مكفر أيضا كما ذكرنا، وحكاه مكي‏.‏ وأما رفع الراء فهو على وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء تقديره ونحن نكفر أو وهي تكفر، أعني الصدقة، أو والله يكفر‏.‏ والثاني القطع والاستئناف لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن تعطف جملة كلام على جملة‏.‏ وقد ذكرنا معنى قراءة الجزم‏.‏ فأما نصب ‏{‏ونكفر‏{‏ فضعيف وهو على إضمار أن وجاز على بُعْد‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وهو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام‏.‏ والجزم في الراء أفصح هذه القراءات، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء‏.‏ وأما الرفع فليس فيه هذا المعنى‏.‏
قلت‏:‏ هذا خلاف ما اختاره الخليل وسيبويه‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في قوله ‏{‏من سيئاتكم‏{‏ للتبعيض المحض‏.‏ وحكى الطبري عن فرقة أنها زائدة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك منهم خطأ‏.‏ ‏{‏والله بما تعملون خبير‏{‏ وعد ووعيد‏.‏

الآية رقم ‏(‏272‏)‏

‏{‏ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليس عليك هداهم‏{‏ هذا الكلام متصل بذكر الصدقات، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين‏.‏‏{‏ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا‏}‏الإنسان‏:‏ 8‏]‏ والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا‏.‏ وقال تعالى‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم‏}‏الممتحنة‏:‏ 8‏]‏‏.‏ فظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم خص منها الزكاة المفروضة، {‏خير مستقرا‏}‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏ وقوله ‏{‏مثقال ذرة خيرا يره‏}‏الزلزلة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ إلى غير ذلك‏.‏ وهذا تحرز من قول عكرمة‏:‏ كل خير في كتاب الله تعالى فهو المال‏.‏ وحكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيرا من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرا، فقيل له في ذلك فيقول‏:‏ إنما فعلت مع نفسي، ويتلو ‏{‏وما تنفقوا من خير فلأنفسكم‏{‏‏.‏ ثم بين تعالى أن النفقة المعتد بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجهه‏.‏ و‏{‏ابتغاء‏{‏ هو على المفعول له‏.‏ وقيل‏:‏ إنه شهادة من الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجهه، فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم‏.‏ وعلى التأويل الأول هو اشتراط عليهم، ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص‏:‏ ‏(‏إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيِ امرأتك‏)‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏{‏ ‏{‏يوف إليكم‏{‏ تأكيد وبيان لقوله‏{‏وما تنفقوا من خير فلأنفسكم‏{‏ وأن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ولا يبخسون منه شيئا فيكون ذلك البخس ظلما لهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏273‏)‏

‏{‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏للفقراء‏{‏ اللام متعلقة بقوله ‏{‏وما تنفقوا من خير‏{‏ وقيل‏:‏ بمحذوف تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء‏.‏ قال السدي ومجاهد وغيرهما‏:‏ المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقراء غابر الدهر‏.‏ وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصفة وكانوا نحوا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يقدمون فقراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لهم‏:‏ أهل الصفة‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏}‏البقرة‏:‏ 267‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ولو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض وحياء‏.‏ قال‏:‏ فكنا بعد ذلك يأتي الرجل بصالح ما عنده‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب صحيح‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وكانوا رضي الله عنهم في المسجد ضرورة، وأكلوا من الصدقة ضرورة، فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا ثم ملكوا وتأمروا‏.‏ ثم بين الله سبحانه من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم بقوله تعالى‏{‏الذين أحصروا في سبيل الله‏{‏ والمعنى حبسوا ومنعوا‏.‏ قال قتادة وابن زيد‏:‏ معنى ‏{‏أحصروا في سبيل الله‏{‏ حبسوا أنفسهم عن التصرف في معايشهم خوف العدو، ولهذا قال تعالى‏{‏لا يستطيعون ضربا في الأرض‏{‏ لكون البلاد كلها كفرا مطبقا‏.‏ وهذا في صدر الإسلام، فعلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد، وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة فبقوا فقراء‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏لا يستطيعون ضربا في الأرض‏{‏ أي لما قد ألزموا أنفسهم من الجهاد‏.‏ والأول أظهر‏.‏ والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف‏{‏ أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء‏.‏ وفيه دليل على أن اسم الفقر يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه‏.‏ وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرضى ولا عميان‏.‏ والتعفف تفعل، وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه، وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره‏.‏ وفتح السين وكسرها في ‏{‏يحسبهم‏{‏ لغتان‏.‏ قال أبو علي‏:‏ والفتح أقيس، لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة‏.‏ والقراءة بالكسر حسنة، لمجيء السمع به وإن كان شاذا عن القياس‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في قوله ‏{‏من التعفف‏{‏ لابتداء الغاية‏.‏ وقيل لبيان الجنس‏.‏
قوله تعالى‏{‏تعرفهم بسيماهم‏{‏ فيه دليل على أن للسيما أثرا في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتا في دار الإسلام وعليه زنار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى‏{‏ولتعرفنهم في لحن القول‏}‏محمد‏:‏ 30‏]‏‏.‏ فدلت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزي في التجمل‏.‏ واتفق العلماء على ذلك، وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يأخذه إذا احتاج فأبو حنيفة اعتبر مقدار ما تجب فيه الزكاة، والشافعي اعتبر قوت سنة، ومالك اعتبر أربعين درهما، والشافعي لا يصرف الزكاة إلى المكتسب‏.‏
والسيما ‏(‏مقصورة‏)‏‏:‏ العلامة، وقد تمد فيقال السيماء‏.‏ وقد اختلف العلماء في تعيينههنا، فقال مجاهد‏:‏ هي الخشوع والتواضع‏.‏ السدي‏:‏ أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلة النعمة‏.‏ ابن زيد‏:‏ رثاثة ثيابهم‏.‏ وقال قوم وحكاه مكي‏:‏ أثر السجود‏.‏ ابن عطية‏:‏ وهذا حسن، وذلك لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم‏.‏
قلت‏:‏ وهده السيما التي هي أثر السجود اشترك فيها جميع الصحابة رضوان الله عليهم بإخبار الله تعالى في آخر ‏{‏الفتح‏{‏ بقوله‏{‏سيماهم في وجوههم من أثر السجود‏}‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ فلا فرق بينهم وبين غيرهم، فلم يبق إلا أن تكون السيماء أثر الخصاصة والحاجة، أو يكون أثر السجود أكثر، فكانوا يعرفون بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأما الخشوع فذلك محله القلب ويشترك فيه الغني والفقير، فلم يبق إلا ما اخترناه، والموفق الإله‏.‏
قوله تعالى‏{‏لا يسألون الناس إلحافا‏{‏ مصدر في موضع الحال أي ملحفين يقال‏:‏ ألحف وأحفى وألح في المسألة سواء ويقال‏:‏
وليس للملحف مثل الرد
واشتقاق الإلحاف من اللحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف من التغطية، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك، ومنه قول ابن أحمر‏:‏
فظل يحفهن بقفقفيه ويلحفهن هفهافا ثخينا
يصف ذكر النعام يحضن بيضا بجناحيه ويجعل جناحه لها كاللحاف وهو رقيق مع ثخنه‏.‏ وروى النسائي ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرؤوا إن شئتم ‏{‏لا يسألون الناس إلحافا‏{‏‏.‏
واختلف العلماء في معنى قوله ‏{‏لا يسألون الناس إلحافا‏{‏ على قولين، فقال قوم منهم الطبري والزجاج‏:‏ إن المعنى لا يسألون البتة، وهذا على أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، يكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن المراد نفي الإلحاف، أي أنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين‏.‏ وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا‏.‏‏"‏روى الأئمة واللفظ لمسلم عن معاوية بن أبي سفيان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته‏)‏‏.‏ وفي الموطأ ‏{‏عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال‏:‏ نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي‏:‏ اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله لنا شيئاً نأكله، وجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا أجد ما أعطيك‏)‏ فتولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول‏:‏ لعمري إنك لتعطي من شئت‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه يغضب علي ألا أجد ما أعطيه من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا‏)‏‏.‏ قال الأسدي‏:‏ فقلت للقحة لنا خير من أوقية - قال مالك‏:‏ والأوقية أربعون درهما - قال‏:‏ فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بشعير وزبيب فقسم لنا منه حتى أغنانا الله‏{‏‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ هكذا رواه مالك وتابعه هشام بن سعد وغيره، وهو حديث صحيح، وليس حكم الصحابي إذا لم يسم كحكم من دونه إذا لم يسم عند العلماء، لارتفاع الجرحة عن جميعهم وثبوت العدالة لهم‏.‏ وهذا الحديث يدل على أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة، فمن سأل وله هذا الحد والعدد والقدر من الفضة أو ما يقوم مقامها ويكون عدلا منها فهو ملحف، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا وهو يكره السؤال لمن له هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث‏.‏ وما جاءه من غير مسألة فجائز له أن يأكله إن كان من غير الزكاة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا، فإن كان من الزكاة ففيه خلاف يأتي بيانه في آية الصدقات إن شاء الله تعالى‏.‏
قال ابن عبدالبر‏:‏ من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سئل عن المسألة متى تحل قال‏:‏ إذا لم يكن ما يغذيه ويعشيه على حديث سهل بن الحنظلية‏.‏ قيل لأبي عبدالله‏:‏ فإن اضطر إلى المسألة‏؟‏ قال‏:‏ هي مباحة له إذا اضطر‏.‏ قيل له‏:‏ فإن تعفف ‏؟‏ قال‏:‏ ذلك خير له‏.‏ ثم قال‏:‏ ما أظن أحدا يموت من الجوع‏!‏ الله يأتيه برزقه‏.‏ ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري ‏(‏من استعف أعفه الله‏)‏‏.‏ وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏تعفف‏)‏‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ وسمعته يسأل عن الرجل لا يجد شيئا أيسأل الناس أم يأكل الميتة‏؟‏ فقال‏:‏ أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله، هذا شنيع‏.‏ قال‏:‏ وسمعته يسأله هل يسأل الرجل لغيره‏؟‏ قال لا، ولكن يعرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار فقال‏:‏ ‏(‏تصدقوا‏)‏ ولم يقل أعطوهم‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏اشفعوا تؤجروا‏)‏‏.‏ وفيه إطلاق السؤال لغيره‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ألا رجل يتصدق على هذا‏)‏‏؟‏ قال أبو بكر‏:‏ قيل له - يعني أحمد بن حنبل - فالرجل يذكر الرجل فيقول‏:‏ إنه محتاج‏؟‏ فقال‏:‏ هذا تعريض وليس به بأس، إنما المسألة أن يقول أعطه‏.‏ ثم قال‏:‏ لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه فكيف لغيره‏؟‏ والتعريض هنا أحب إلي‏.‏
قلت‏:‏ قد‏"‏روى أبو داود والنسائي وغيرهما أن الفراسي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أسأل يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا وإن كنت سائلا لا بد فاسأل الصالحين‏)‏‏.‏ فأباح صلى الله عليه وسلم سؤال أهل الفضل والصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وإن أوقع حاجته بالله فهو أعلى‏.‏ قال إبراهيم بن أدهم‏:‏ سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله تعالى، فأنزل حاجتك بمن يملك الضر والنفع، وليكن مفزعك إلى الله تعالى يكفيك الله ما سواه وتعيش مسرورا‏.‏
فإن جاءه شيء من غير سؤال فله أن يقبله ولا يرده، إذ هو رزق رزقه الله‏.‏‏"‏روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فرده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لم رددته‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، أليس أخبرتنا أن أحدنا خير له ألا يأخذ شيئا‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما ذاك عن المسألة فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله‏)‏‏.‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني بشيء من غير مسألة إلا أخذته‏.‏ وهذا نص‏.‏ وخرج مسلم في صحيحه والنسائي في سننه وغيرهما عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول‏:‏ أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً فقلت‏:‏ أعطه أفقر إليه مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك‏)‏‏.‏ زاد النسائي - بعد قوله ‏(‏خذه - فتموله أو تصدق به‏)‏‏.‏وروى مسلم من حديث عبدالله بن السعدي المالكي عن عمر فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق‏)‏‏.‏ وهذا يصحح لك حديث مالك المرسل‏.‏ قال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يسأل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف‏)‏ أي الإشراف أراد‏؟‏ فقال‏:‏ أن تستشرفه وتقول‏:‏ لعله يبعث إلي بقلبك‏.‏ قيل له‏:‏ وإن لم يتعرض، قال نعم إنما هو بالقلب‏.‏ قيل له‏:‏ هذا شديد قال‏:‏ وإن كان شديدا فهو هكذا‏.‏ قيل له‏:‏ فإن كان الرجل لم يعودني أن يرسل إلي شيئا إلا أنه قد عرض بقلبي فقلت‏:‏ عسى أن يبعث إلي‏.‏ قال‏:‏ هذا إشراف، فأما إذا جاءك من غير أن تحتسبه ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ الإشراف في اللغة رفع الرأس إلى المطموع عنده والمطموع فيه، وأن يهش الإنسان ويتعرض‏.‏ وما قاله أحمد في تأويل الإشراف تضييق وتشديد وهو عندي بعيد، لأن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله جارحة‏.‏ وأما ما اعتقده القلب من المعاصي ما خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل له، وخطرات النفس متجاوز عنها بإجماع‏.‏
الإلحاح في المسألة والإلحاف فيها مع الغنى عنها حرام لا يحل‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر‏)‏ رواه أبو هريرة خرجه مسلم‏.‏ وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم‏)‏ رواه مسلم أيضا‏.‏
السائل إذا كان محتاجا فلا بأس أن يكرر المسألة ثلاثا إعذارا وإنذارا والأفضل تركه‏.‏ فإن كان المسؤول يعلم بذلك وهو قادر على ما سأله وجب عليه الإعطاء، وإن كان جاهلا به فيعطيه مخافة أن يكون صادقاً في سؤاله فلا يفلح في رده‏.‏
فإن كان محتاجاً إلى ما يقيم به سنة كالتجمل بثوب يلبسه في العيد والجمعة فذكر ابن العربي‏:‏ سمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلاً يقول‏:‏ هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم وليس عنده ثياب يقيم بها سنة الجمعة‏.‏ فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثيابا أخر، فقيل لي‏:‏ كساه إياها أبو الطاهر البرسني أخذ الثناء‏.‏

الآية رقم ‏(‏274‏)‏

‏{‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏

روي عن ابن عباس وأبي ذر وأبي أمامة وأبي الدرداء وعبدالله بن بشر الغافقي والأوزاعي أنها نزلت في علف الخيل المربوطة في سبيل الله‏.‏ وذكر ابن سعد في الطبقات قال‏:‏ أخبرت عن محمد بن شعيب بن شابور قال‏:‏ أنبأنا سعيد بن سنان عن يزيد بن عبدالله بن عريب عن أبيه عن جده عريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى‏{‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏هم أصحاب الخيل‏)‏‏.‏ وبهذا الإسناد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها وأبوالها وأرواثها عند الله يوم القيامة كذكي المسك‏)‏‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كانت معه أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم جهراً، ذكره عبدالرزاق قال‏:‏ أخبرنا عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس‏.‏ ابن جريج‏:‏ نزلت في رجل فعل ذلك، ولم يسم عليا ولا غيره‏.‏ وقال قتادة‏.‏ هذه الآية نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير‏.‏ ومعنى ‏{‏بالليل والنهار‏{‏ في الليل والنهار، ودخلت الفاء في قوله تعالى‏{‏فلهم‏{‏ لأن في الكلام معنى الجزاء‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ولا يجوز زيد فمنطلق‏.‏

الآية رقم ‏(‏275‏)‏

‏{‏الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين يأكلون الربا‏{‏ ‏(‏يأكلون‏)‏ يأخذون، فعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأخذ إنما يراد للأكل‏.‏ والربا في اللغة الزيادة مطلقا، يقال‏:‏ ربا الشيء يربو إذا زاد، ومنه الحديث‏:‏ ‏{‏وأخذهم الربا وقد نهوا عنه‏}‏النساء‏:‏ 161‏]‏‏.‏ ولم يرد به الربا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام، كما قال تعالى‏{‏سماعون للكذب أكالون للسحت‏}‏المائدة‏:‏ 42‏]‏ يعني به المال الحرام من الرشا، وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏‏.‏ وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه اكتسب‏.‏ والربا الذي عليه عرف الشرع شيئان‏:‏ تحريم النساء، والتفاضل في العقود وفي المطعومات على ما نبينه‏.‏ وغالبه ما كانت العرب تفعله، من قولها للغريم‏:‏ أتقضي أم تربي ‏؟‏ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه‏.‏ وهذا كله محرم باتفاق الأمة‏.‏
أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه‏.‏ ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها، آكل الربا فتجوز وتشبيه‏.‏
{‏وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس‏}‏الروم‏:‏ 39‏]‏ قال محمد بن يزيد‏:‏ كتب ‏{‏الربا‏{‏ في المصحف بالواو فرقا بينه وبين الزنا، وكان الربا أولى منه بالواو، لأنه من ربا يربو‏.‏
قوله تعالى‏{‏لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏{‏ الجملة خبر الابتداء وهو ‏{‏الذين‏{‏‏.‏ والمعنى من قبورهم، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يجعل معه شيطان يخنقه‏.‏ وقالوا كلهم‏:‏ يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند جميع أهل المحشر‏.‏ ويقوي هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة ابن مسعود ‏{‏لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم‏{‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الدنيا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما من فزع أو غيره‏:‏ قد جن هذا‏!‏ وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله‏:‏
{‏ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏المؤمن‏:‏ 46‏]‏ - قلت - يا جبريل من هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏)‏‏.‏ والمس الجنون وكذلك الأولق والألس والرود‏.‏
قوله تعالى‏{‏ذلك بأنهم قالوا‏{‏ معناه عند جميع المتأولين في الكفار، ولهم قيل‏{‏فله ما سلف‏{‏ ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه ويرد فعله وإن كان جاهلا، فلذلك {‏وأحل الله البيع وحرم الربا‏}‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة‏.‏ وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لما قال‏:‏ {‏والعصر إن الإنسان لفي خسر‏}‏العصر 1، 2‏]‏ ثم استثنى ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏العصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نهي عنه ومنع العقد عليه، كالخمر والميتة وحَبلَ الحَبَلة وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة النهي عنه‏.‏ ونظيره ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ وسائر الظواهر التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص وهذا مذهب أكثر الفقهاء‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم فلا يمكن أن يستعمل في إحلال البيع وتحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل‏.‏ وهذا فرق ما بين العموم والمجمل‏.‏ فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة، والتفصيل ما لم يخص بدليل‏.‏ والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان‏.‏ والأول أصح‏.‏ والله أعلم‏.‏
البيع في اللغة مصدر باع كذا بكذا، أي دفع عوضاً وأخذ معوضاً‏.‏ وهو يقتضي بائعا وهو المالك أو من ينزل منزلته، ومبتاعا وهو الذي يبذل الثمن، ومبيعا وهو المثمون وهو الذي يبذل في مقابلته الثمن‏.‏ وعلى هذا فأركان البيع أربعة‏:‏ البائع والمبتاع والثمن والمثمن‏.‏ ثم المعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه، فإن كان أحد المعوضين في مقابلة الرقبة سمي بيعاً، وإن كان في مقابلة منفعة رقبة فإن كانت منفعة بضع سمي نكاحاً، وإن كانت منفعة غيرها سمي إجارة، وإن كان عينا بعين فهو بيع النقد وهو الصرف، وان كان بدين مؤجل فهو السلم، وسيأتي بيانه في آية الدين‏.‏ وقد مضى حكم الصرف، ويأتي حكم الإجارة في ‏{‏القصص‏{‏ وحكم المهر في النكاح في ‏{‏النساء‏{‏ كل في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏
البيع قبول وإيجاب يقع باللفظ المستقبل والماضي، فالماضي فيه حقيقة والمستقبل كناية، ويقع بالصريح والكناية المفهوم منها نقل الملك‏.‏ فسواء قال‏:‏ بعتك هذه السلعة بعشرة فقال‏:‏ اشتريتها، أو قال المشتري‏:‏ اشتريتها وقال البائع‏:‏ بعتكها، أو قال البائع‏:‏ أنا أبيعك بعشرة فقال المشتري‏:‏ أنا أشتري أو قد اشتريت، وكذلك لو قال‏:‏ خذها بعشرة أو أعطيتكها أو دونكها أو بورك لك فيها بعشرة أو سلمتها إليك - وهما يريدان البيع - فذلك كله بيع لازم‏.‏ ولو قال البائع‏:‏ بعتك بعشرة ثم رجع قبل أن يقبل المشتري فقد قال‏:‏ ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أو رده، لأنه قد بذل ذلك من نفسه وأوجبه عليها، وقد قال ذلك له، لأن العقد لم يتم عليه‏.‏ ولو قال البائع‏:‏ كنت لاعبا، فقد اختلفت الرواية عنه، فقال مرة‏:‏ يلزمه البيع ولا يلتفت إلى قوله‏.‏ وقال مرة‏:‏ ينظر إلى قيمة السلعة‏.‏
فإن كان الثمن يشبه قيمتها فالبيع لازم، وإن كان متفاوتا كعبد بدرهم ودار بدينار، علم أنه لم يرد به البيع، وإنما كان هازلاً فلم يلزمه‏.‏
قوله تعالى‏{‏وحرم الربا‏{‏ الألف واللام هنا للعهد، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيناه، ثم تتناول ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من البيوع المنهي عنها‏.‏
عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال، لما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ جاء بلال بتمر برني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أين هذا‏)‏ ‏؟‏ فقال بلال‏:‏ من تمر كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك‏:‏ ‏(‏أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به‏)‏ وفي رواية ‏(‏هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فقوله ‏(‏أوه عين الربا‏)‏ أي هو الربا المحرم نفسه لا ما يشبهه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏فردوه‏)‏ يدل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لا تصح بوجه، وهو قول الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة حيث يقول‏:‏ إن بيع الربا جائز بأصله من حيث هو بيع، ممنوع بوصفه من حيث هو رباً، فيسقط الربا ويصح البيع‏.‏ ولو كان على ما ذكر لما فسخ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة، ولأمره برد الزيادة على الصاع ولصحح الصفقة في مقابلة الصاع‏.‏
كل ما كان من حرام بين ففسخ فعلى المبتاع رد السلعة بعينها‏.‏ فإن تلفت بيده رد القيمة فيما له القيمة، وذلك كالعقار والعروض والحيوان، والمثل فيما له مثل من موزون أو مكيل من طعام أو عرض‏.‏ قال مالك‏:‏ يرد الحرام البين فات أو لم يفت، وما كان مما كره الناس رد إلا أن يفوت فيترك‏.‏
قوله تعالى‏{‏ فمن جاءه موعظة من ربه‏{‏ قال جعفر بن محمد الصادق رحمهما الله‏:‏ حرم الله الربا ليتقارض الناس‏.‏ وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قرض مرتين يعدل صدقة مرة‏)‏ أخرجه البزار، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس‏.‏ وسقطت علامة التأنيث في قوله تعالى‏{‏فمن جاءه‏{‏ لأن تأنيث ‏{‏الموعظة‏{‏ غير حقيقي وهو بمعنى وعظ‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏فمن جاءته‏{‏ بإثبات العلامة‏.‏
هذه الآية تلتها عائشة لما أخبرت بفعل زيد بن أرقم‏.‏‏"‏روى الدارقطني عن العالية بنت أنفع قالت‏:‏ خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة رضي الله عنها فسلمنا عليها، فقالت لنا‏:‏ ممن أنتن ‏؟‏ قلنا من أهل الكوفة، قالت‏:‏ فكأنها أعرضت عنا، فقالت لها أم محبة‏:‏ يا أم المؤمنين ‏!‏ كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقداً‏.‏ قالت‏:‏ فأقبلت علينا فقالت‏:‏ بئسما شريت وما اشتريت ‏!‏ فأبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب‏.‏ فقالت لها‏:‏ أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي ‏؟‏ قالت‏{‏فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف‏{‏‏.‏ العالية هي زوج أبي إسحاق الهمداني الكوفي السبيعي أم يونس بن أبي إسحاق‏.‏ وهذا الحديث أخرجه مالك من رواية ابن وهب عنه في بيوع الآجال، فان كان منها ما يؤدي إلى الوقوع في المحظور منع منه وإن كان ظاهره بيعاً جائزاً‏.‏ وخالف مالكاً في هذا الأصل جمهور الفقهاء وقالوا‏:‏ الأحكام مبنية على الظاهر لا على الظنون‏.‏ ودليلنا القول بسد الذرائع، فإن سلم وإلا استدللنا على صحته‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وهذا الحديث نص، ولا تقول عائشة ‏(‏أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب‏)‏ إلا بتوقيف، إذ مثله لا يقال بالرأي فإن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي كما تقدم‏.‏ وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يوقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه‏)‏‏.‏ وجه دلالته أنه منع من الإقدام على المتشابهات مخافة الوقوع في المحرمات وذلك سد للذريعة‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من الكبائر شتم الرجل والديه‏)‏ قالوا‏:‏ وكيف يشتم الرجل والديه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه‏)‏‏.‏ فجعل التعريض لسب الآباء كسب الآباء‏.‏ ولعن صلى الله عليه وسلم اليهود إذا أكلوا ثمن ما نهوا عن أكله‏.‏ وقال أبو بكر في كتابه‏:‏ لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة‏.‏ ونهى ابن عباس عن دراهم بدراهم بينهما جريرة‏.‏ واتفق العلماء على منع الجمع بين بيع وسلف، وعلى تحريم قليل الخمر وإن كان لا يسكر، وعلى تحريم الخلوة بالأجنبية وإن كان عنيناً، وعلى تحريم النظر إلى وجه المرأة الشابة إلى غير ذلك مما يكثر ويعلم على القطع والثبات أن الشرع حكم فيها بالمنع، لأنها ذرائع المحرمات‏.‏ والربا أحق ما حميت مراتعه وسدت طرائقه، ومن أباح هذه الأسباب فليبح حفر البئر ونصب الحبالات لهلاك المسلمين والمسلمات، وذلك لا يقوله أحد‏.‏ وأيضا فقد اتفقنا على منع من باع بالعينة إذا عرف بذلك وكانت عادته، وهي في معنى هذا الباب‏.‏ والله الموفق للصواب‏.‏
روى أبو داود عن ابن عمر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم‏)‏‏.‏ في إسناده أبو عبدالرحمن الخراساني‏.‏ ليس بمشهور‏.‏ وفسر أبو عبيد الهروي العينة فقال‏:‏ هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به‏.‏ قال‏:‏ فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة، وهي أهون من الأولى، وهو جائز عند بعضهم‏.‏ وسميت عينة لحضور النقد لصاحب العينة، وذلك أن العَين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره‏.‏
قال علماؤنا‏:‏ فمن باع سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها بثمن من جنس الثمن الذي باعها به، فلا يخلو أن يشتريها منه بنقد، أو إلى أجل دون الأجل الذي باعها إليه، أو إلى أبعد منه، بمثل الثمن أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ثلاث مسائل‏:‏ وأما الأولى والثانية فإن كان بمثل الثمن أو أكثر جاز، ولا يجوز بأقل على مقتضى حديث عائشة، لأنه أعطى ستمائة ليأخذ ثمانمائة والسلعة لغو، وهذا هو الربا بعينه‏.‏ وأما الثالثة إلى أبعد من الأجل، فإن كان اشتراها وحدها أو زيادة فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه، ولا يجوز بأكثر، فإن اشترى بعضها فلا يجوز على كل حال لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر‏.‏ ومسائل هذا الباب حصرها علماؤنا في سبع وعشرين مسألة، ومدارها على ما ذكرناه فاعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏فله ما سلف‏{‏ أي من أمر الربا لا تباعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة، قاله السدي وغيره‏.‏ وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هنالك‏.‏ وسلف‏:‏ معناه تقدم في الزمن وانقضى‏.‏
قوله تعالى‏{‏وأمره إلى الله‏{‏ فيه أربع تأويلات‏:‏ أحدها أن الضمير عائد إلى الربا، بمعنى وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك‏.‏ والآخر أن يكون الضمير عائداً على ‏{‏ما سلف‏{‏ أي أمره إلى الله تعالى في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه‏.‏ والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا، بمعنى أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا‏.‏ واختار هذا القول النحاس، قال‏:‏ وهذا قول حسن بين، أي وأمره إلى الله في المستقبل إن شاء ثبته على التحريم وإن شاء أباحه‏.‏ والرابع أن يعود الضمير على المنتهى، ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير، كما تقول‏:‏ وأمره إلى طاعة وخير، وكما تقول‏:‏ وأمره في نمو وإقبال إلى الله تعالى وإلى طاعته‏.‏
قوله تعالى‏{‏ومن عاد‏{‏ يعني إلى فعل الربا حتى يموت، قاله سفيان‏.‏ وقال غيره‏:‏ من عاد فقال إنما البيع مثل الربا فقد كفر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ إن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب‏:‏ ملك خالد، عبارة عن دوام ما لا يبقى على التأبيد الحقيقي‏.‏

الآية رقم ‏(‏276‏)‏

‏{‏يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏يمحق الله الربا‏{‏ يعني في الدنيا أي يذهب بركته وإن كان كثيراً‏.‏‏"‏روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل‏)‏‏.‏ وقيل‏{‏يمحق الله الربا‏{‏ يعني في الآخرة‏.‏ وعن ابن عباس في قوله تعالى‏{‏يمحق الله الربا‏{‏ قال‏:‏ لا يقبل منه صدقة ولا حجاً ولا جهاداً ولا صلةً‏.‏ والمحق‏:‏ النقص والذهاب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه‏.‏ ‏{‏ويربي الصدقات‏{‏ أي ينميها في الدنيا بالبركة ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يجيء يوم القيامة وإن اللقمة لعلى قدر أحد‏)‏‏.‏ وقرأ ابن الزبير ‏{‏يمحق‏{‏ بضم الياء وكسر الحاء مشددة ‏{‏يربي‏{‏ بفتح الراء وتشديد الباء، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله لا يحب كل كفار أثيم‏{‏ ووصف كفار بأثيم مبالغة، من حيث اختلف اللفظان‏.‏ وقيل‏:‏ لإزالة الاشتراك في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض‏:‏ قاله ابن فورك‏.‏

الآية رقم ‏(‏277‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة‏{‏ تقدم القول فيه وخص الصلاة والزكاة بالذكر وقد تضمنها عمل الصالحات تشريفا لهما وتنبيها على قدرهما إذ هما رأس الأعمال الصلاة في أعمال البدن والزكاة في أعمال المال‏.‏
قوله تعالى‏{‏لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏{‏ الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه والتخوف التنقص ومنه قوله تعالى ‏{‏أو يأخذهم على تخوف‏}‏النحل‏:‏ 47‏]‏ وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب ‏{‏فلا خوف‏{‏ بفتح الفاء على التبرمة والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن ‏{‏لا‏{‏ لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد ويجوز أن تكون ‏{‏لا‏{‏ في قوله فلا خوف بمعنى ليس والحزن والحزن ضد السرور ولا يكون إلا على ماض وحزن الرجل - بالكسر - فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ومحزون بنى عليه قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما واحتزن وتحزن بمعنى والمعنى في الآية فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا وقيل ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا والله أعلم‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏270‏)

‏{‏وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار‏}‏

شرط وجوابه، وكانت النذور من سيرة العرب تكثر منها، فذكر الله تعالى النوعين، ما يفعله المرء متبرعا، وما يفعله بعد إلزامه لنفسه‏.‏ وفي الآية معنى الوعد والوعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب، ومن أنفق رياء أو لمعنى آخر مما يكسبه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم، يذهب فعله باطلا ولا يجد له ناصرا فيه‏.‏ ومعنى ‏{‏يعلمه‏{‏ يحصيه، قاله مجاهد‏.‏ ووحد الضمير وقد ذكر شيئين، فقال النحاس‏:‏ التقدير ‏{‏وما أنفقتم من نفقة‏{‏ فإن الله يعلمها، ‏{‏أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه‏{‏ ثم حذف‏.‏ ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ وما أنفقتم فإن الله يعلمه وتعود الهاء على ‏{‏ما‏{‏ كما أنشد سيبويه لامرئ القيس‏:‏
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل
ويكون ‏{‏أو نذرتم من نذر‏{‏ معطوفا عليه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ووحد الضمير في ‏{‏يعلمه‏{‏ وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص‏.‏
قلت‏:‏ وهذا حسن‏:‏ فإن الضمير قد يراد به جميع المذكور وإن كثر‏.‏ والنذر حقيقة العبارة عنه أن تقول‏:‏ هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه، تقول‏:‏ نذر الرجل كذا إذا التزم فعله، ينذر - بضم الذال - وينذر - بكسرها - ‏.‏ وله أحكام يأتي بيانها في غير هذا الوضع إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏271‏)‏

‏{‏إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير‏}‏

ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع، لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء عنها، وليس كذلك الواجبات‏.‏ قال الحسن‏:‏ إظهار الزكاة أحسن، وإخفاء التطوع أفضل، لأنه أدل على أنه يراد الله عز وجل به وحده‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها يقال بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا‏.‏ قال‏:‏ وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها‏.‏
قلت‏:‏ مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف، {‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية‏}‏البقرة‏:‏ 274‏]‏ الآية‏.‏
قوله تعالى‏{‏فنعما هي‏{‏ ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك‏.‏ ولذلك قال بعض الحكماء‏:‏ إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطنع إليك فانشره‏.‏ قال دعبل الخزاعي‏:‏
إذا انتقموا أعلنوا أمرهم وإن أنعموا باكتتام
وقال سهل بن هارون‏:‏
خل إذا جئته يوما لتسأله أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا
يخفى صنائعه والله يظهرها إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
وقال العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه‏:‏ لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال‏:‏ تعجيله وتصغيره وستره، فإذا أعجلته هنيته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته‏.‏ وقال بعض الشعراء فأحسن‏:‏
زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير
واختلف القراء في قول ‏{‏فنعما هي‏{‏ فقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ورش وعاصم في رواية حفص وابن كثير ‏{‏فنعما هي‏{‏ بكسر النون والعين‏.‏ وقرأ أبو عمرو أيضا ونافع في غير رواية ورش وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل ‏{‏فنعما‏{‏ بكسر النون وسكون العين‏.‏ وقرأ الأعمش وابن عامر وحمزة والكسائي ‏{‏فنعما‏{‏ بفتح النون وكسر العين، وكلهم سكن الميم‏.‏ ويجوز في غير القرآن فنعم ما هي‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولكنه في السواد متصل فلزم الإدغام‏.‏ وحكى النحويون في ‏{‏نعم‏{‏ أربع لغات‏:‏ نعم الرجل زيد، هذا الأصل‏.‏ ونعم الرجل، بكسر النون لكسر العين‏.‏ ونعم الرجل، بفتح النون وسكون العين، والأصل نعم حذفت الكسرة لأنها ثقيلة‏.‏ ونعم الرجل، وهذا أفضل اللغات، والأصل فيها نَعِم‏.‏ وهي تقع في كل مدح، فخففت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت العين، فمن قرأ ‏{‏فنعما هي‏{‏ فله تقديران‏:‏ أحدهما أن يكون جاء به على لغة من يقول نِعِم‏.‏ والتقدير الآخر أن يكون على اللغة الجيدة، فيكون الأصل نِعْمَ، ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين‏.‏ قال النحاس‏:‏ فأما الذي حكي عن أبي عمرو ونافع من إسكان العين فمحال‏.‏ حكي عن محمد بن يزيد أنه قال‏:‏ أما إسكان العين والميم مشددة فلا يقدر أحد أن ينطق به، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأبه‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد، إذ المد يصير عوضا من الحركة، وهذا نحو دابة وضوال ونحوه‏.‏ ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في ‏{‏بارئكم - و - يأمركم‏{‏ فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف ذلك في السمع وخفائه‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وأما من قرأ ‏{‏نعما‏{‏ بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها ومنه قول الشاعر‏:‏
ما أقلت قدماي إنهم نعم الساعون في الأمر المبر
قال أبو علي‏:‏ و‏{‏ما‏{‏ من قوله تعالى‏{‏نعما‏{‏ في موضع نصب، وقوله ‏{‏هي‏{‏ تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر، والتقدير نعم شيئا إبداؤها، والإبداء هو المخصوص بالمدح إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه‏.‏ ويدلك على هذا قوله ‏{‏فهو خير لكم‏{‏ أي الإخفاء خير‏.‏ فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات فكذلك، أولا الفاعل هو الإبداء وهو الذي اتصل به الضمير، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مثله‏.‏ ‏{‏وإن تخفوها‏{‏ شرط، فلذلك حذفت النون‏.‏ ‏{‏وتؤتوها‏{‏ عطف عليه‏.‏ والجواب ‏{‏فهو خير لكم‏{‏‏.‏ ‏{‏ويكفر‏{‏ اختلف القراء في قراءته، فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وقتادة وابن أبي إسحاق ‏{‏ونكفر‏{‏ بالنون ورفع الراء‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم في الراء، وروي مثل ذلك أيضا عن عاصم‏.‏ وروى الحسين بن علي الجعفي عن الأعمش ‏{‏يكفر‏{‏ بنصب الراء‏.‏ وقرأ ابن عامر بالياء ورفع الراء، ورواه حفص عن عاصم، وكذلك روي عن الحسن، وروي عنه بالياء والجزم‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏وتكفر‏{‏ بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء‏.‏ وقرأ عكرمة ‏{‏وتكفر‏{‏ بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء‏.‏ وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ ‏{‏وتكفر‏{‏ بالتاء ورفع الراء‏.‏ وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآ بتاء ونصب الراء‏.‏ فهذه تسع قراءات أبينها ‏{‏ونكفر‏{‏ بالنون والرفع‏.‏ هذا قول الخليل وسيبويه‏.‏ قال النحاس‏:‏ قال سيبويه‏:‏ والرفع ههنا الوجه وهو الجيد، لأن الكلام الذي بعد الفاء يجري مجراه في غير الجزاء‏.‏ وأجاز الجزم بحمله على المعنى، لأن المعنى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن خيرا لكم ونكفر عنكم‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ قرأ الأعمش ‏{‏يكفر‏{‏ بالياء دون واو قبلها‏.‏ قال النحاس‏:‏ والذي حكاه أبو حاتم عن الأعمش بغير واو جزما يكون على البدل كأنه في موضع الفاء‏.‏ والذي روي عن عاصم ‏{‏ويكفر‏{‏ بالياء والرفع يكون معناه ويكفر الله، هذا قول أبي عبيد‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ معناه يكفر الإعطاء‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏وتكفر‏{‏ يكون معناه وتكفر الصدقات‏.‏ وبالجملة فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلمه، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر، والإعطاء في خفاء مكفر أيضا كما ذكرنا، وحكاه مكي‏.‏ وأما رفع الراء فهو على وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء تقديره ونحن نكفر أو وهي تكفر، أعني الصدقة، أو والله يكفر‏.‏ والثاني القطع والاستئناف لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن تعطف جملة كلام على جملة‏.‏ وقد ذكرنا معنى قراءة الجزم‏.‏ فأما نصب ‏{‏ونكفر‏{‏ فضعيف وهو على إضمار أن وجاز على بُعْد‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وهو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام‏.‏ والجزم في الراء أفصح هذه القراءات، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء‏.‏ وأما الرفع فليس فيه هذا المعنى‏.‏
قلت‏:‏ هذا خلاف ما اختاره الخليل وسيبويه‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في قوله ‏{‏من سيئاتكم‏{‏ للتبعيض المحض‏.‏ وحكى الطبري عن فرقة أنها زائدة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك منهم خطأ‏.‏ ‏{‏والله بما تعملون خبير‏{‏ وعد ووعيد‏.‏

الآية رقم ‏(‏272‏)‏

‏{‏ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليس عليك هداهم‏{‏ هذا الكلام متصل بذكر الصدقات، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين‏.‏‏{‏ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا‏}‏الإنسان‏:‏ 8‏]‏ والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا‏.‏ وقال تعالى‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم‏}‏الممتحنة‏:‏ 8‏]‏‏.‏ فظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم خص منها الزكاة المفروضة، {‏خير مستقرا‏}‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏ وقوله ‏{‏مثقال ذرة خيرا يره‏}‏الزلزلة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ إلى غير ذلك‏.‏ وهذا تحرز من قول عكرمة‏:‏ كل خير في كتاب الله تعالى فهو المال‏.‏ وحكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيرا من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرا، فقيل له في ذلك فيقول‏:‏ إنما فعلت مع نفسي، ويتلو ‏{‏وما تنفقوا من خير فلأنفسكم‏{‏‏.‏ ثم بين تعالى أن النفقة المعتد بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجهه‏.‏ و‏{‏ابتغاء‏{‏ هو على المفعول له‏.‏ وقيل‏:‏ إنه شهادة من الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجهه، فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم‏.‏ وعلى التأويل الأول هو اشتراط عليهم، ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص‏:‏ ‏(‏إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيِ امرأتك‏)‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏{‏ ‏{‏يوف إليكم‏{‏ تأكيد وبيان لقوله‏{‏وما تنفقوا من خير فلأنفسكم‏{‏ وأن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ولا يبخسون منه شيئا فيكون ذلك البخس ظلما لهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏273‏)‏

‏{‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏للفقراء‏{‏ اللام متعلقة بقوله ‏{‏وما تنفقوا من خير‏{‏ وقيل‏:‏ بمحذوف تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء‏.‏ قال السدي ومجاهد وغيرهما‏:‏ المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقراء غابر الدهر‏.‏ وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصفة وكانوا نحوا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يقدمون فقراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لهم‏:‏ أهل الصفة‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏}‏البقرة‏:‏ 267‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ولو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض وحياء‏.‏ قال‏:‏ فكنا بعد ذلك يأتي الرجل بصالح ما عنده‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب صحيح‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وكانوا رضي الله عنهم في المسجد ضرورة، وأكلوا من الصدقة ضرورة، فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا ثم ملكوا وتأمروا‏.‏ ثم بين الله سبحانه من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم بقوله تعالى‏{‏الذين أحصروا في سبيل الله‏{‏ والمعنى حبسوا ومنعوا‏.‏ قال قتادة وابن زيد‏:‏ معنى ‏{‏أحصروا في سبيل الله‏{‏ حبسوا أنفسهم عن التصرف في معايشهم خوف العدو، ولهذا قال تعالى‏{‏لا يستطيعون ضربا في الأرض‏{‏ لكون البلاد كلها كفرا مطبقا‏.‏ وهذا في صدر الإسلام، فعلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد، وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة فبقوا فقراء‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏لا يستطيعون ضربا في الأرض‏{‏ أي لما قد ألزموا أنفسهم من الجهاد‏.‏ والأول أظهر‏.‏ والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف‏{‏ أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء‏.‏ وفيه دليل على أن اسم الفقر يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه‏.‏ وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرضى ولا عميان‏.‏ والتعفف تفعل، وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه، وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره‏.‏ وفتح السين وكسرها في ‏{‏يحسبهم‏{‏ لغتان‏.‏ قال أبو علي‏:‏ والفتح أقيس، لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة‏.‏ والقراءة بالكسر حسنة، لمجيء السمع به وإن كان شاذا عن القياس‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في قوله ‏{‏من التعفف‏{‏ لابتداء الغاية‏.‏ وقيل لبيان الجنس‏.‏
قوله تعالى‏{‏تعرفهم بسيماهم‏{‏ فيه دليل على أن للسيما أثرا في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتا في دار الإسلام وعليه زنار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى‏{‏ولتعرفنهم في لحن القول‏}‏محمد‏:‏ 30‏]‏‏.‏ فدلت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزي في التجمل‏.‏ واتفق العلماء على ذلك، وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يأخذه إذا احتاج فأبو حنيفة اعتبر مقدار ما تجب فيه الزكاة، والشافعي اعتبر قوت سنة، ومالك اعتبر أربعين درهما، والشافعي لا يصرف الزكاة إلى المكتسب‏.‏
والسيما ‏(‏مقصورة‏)‏‏:‏ العلامة، وقد تمد فيقال السيماء‏.‏ وقد اختلف العلماء في تعيينههنا، فقال مجاهد‏:‏ هي الخشوع والتواضع‏.‏ السدي‏:‏ أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلة النعمة‏.‏ ابن زيد‏:‏ رثاثة ثيابهم‏.‏ وقال قوم وحكاه مكي‏:‏ أثر السجود‏.‏ ابن عطية‏:‏ وهذا حسن، وذلك لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم‏.‏
قلت‏:‏ وهده السيما التي هي أثر السجود اشترك فيها جميع الصحابة رضوان الله عليهم بإخبار الله تعالى في آخر ‏{‏الفتح‏{‏ بقوله‏{‏سيماهم في وجوههم من أثر السجود‏}‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ فلا فرق بينهم وبين غيرهم، فلم يبق إلا أن تكون السيماء أثر الخصاصة والحاجة، أو يكون أثر السجود أكثر، فكانوا يعرفون بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأما الخشوع فذلك محله القلب ويشترك فيه الغني والفقير، فلم يبق إلا ما اخترناه، والموفق الإله‏.‏
قوله تعالى‏{‏لا يسألون الناس إلحافا‏{‏ مصدر في موضع الحال أي ملحفين يقال‏:‏ ألحف وأحفى وألح في المسألة سواء ويقال‏:‏
وليس للملحف مثل الرد
واشتقاق الإلحاف من اللحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف من التغطية، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك، ومنه قول ابن أحمر‏:‏
فظل يحفهن بقفقفيه ويلحفهن هفهافا ثخينا
يصف ذكر النعام يحضن بيضا بجناحيه ويجعل جناحه لها كاللحاف وهو رقيق مع ثخنه‏.‏ وروى النسائي ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرؤوا إن شئتم ‏{‏لا يسألون الناس إلحافا‏{‏‏.‏
واختلف العلماء في معنى قوله ‏{‏لا يسألون الناس إلحافا‏{‏ على قولين، فقال قوم منهم الطبري والزجاج‏:‏ إن المعنى لا يسألون البتة، وهذا على أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، يكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن المراد نفي الإلحاف، أي أنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين‏.‏ وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا‏.‏‏"‏روى الأئمة واللفظ لمسلم عن معاوية بن أبي سفيان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته‏)‏‏.‏ وفي الموطأ ‏{‏عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال‏:‏ نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي‏:‏ اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله لنا شيئاً نأكله، وجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا أجد ما أعطيك‏)‏ فتولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول‏:‏ لعمري إنك لتعطي من شئت‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه يغضب علي ألا أجد ما أعطيه من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا‏)‏‏.‏ قال الأسدي‏:‏ فقلت للقحة لنا خير من أوقية - قال مالك‏:‏ والأوقية أربعون درهما - قال‏:‏ فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بشعير وزبيب فقسم لنا منه حتى أغنانا الله‏{‏‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ هكذا رواه مالك وتابعه هشام بن سعد وغيره، وهو حديث صحيح، وليس حكم الصحابي إذا لم يسم كحكم من دونه إذا لم يسم عند العلماء، لارتفاع الجرحة عن جميعهم وثبوت العدالة لهم‏.‏ وهذا الحديث يدل على أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة، فمن سأل وله هذا الحد والعدد والقدر من الفضة أو ما يقوم مقامها ويكون عدلا منها فهو ملحف، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا وهو يكره السؤال لمن له هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث‏.‏ وما جاءه من غير مسألة فجائز له أن يأكله إن كان من غير الزكاة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا، فإن كان من الزكاة ففيه خلاف يأتي بيانه في آية الصدقات إن شاء الله تعالى‏.‏
قال ابن عبدالبر‏:‏ من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سئل عن المسألة متى تحل قال‏:‏ إذا لم يكن ما يغذيه ويعشيه على حديث سهل بن الحنظلية‏.‏ قيل لأبي عبدالله‏:‏ فإن اضطر إلى المسألة‏؟‏ قال‏:‏ هي مباحة له إذا اضطر‏.‏ قيل له‏:‏ فإن تعفف ‏؟‏ قال‏:‏ ذلك خير له‏.‏ ثم قال‏:‏ ما أظن أحدا يموت من الجوع‏!‏ الله يأتيه برزقه‏.‏ ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري ‏(‏من استعف أعفه الله‏)‏‏.‏ وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏تعفف‏)‏‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ وسمعته يسأل عن الرجل لا يجد شيئا أيسأل الناس أم يأكل الميتة‏؟‏ فقال‏:‏ أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله، هذا شنيع‏.‏ قال‏:‏ وسمعته يسأله هل يسأل الرجل لغيره‏؟‏ قال لا، ولكن يعرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار فقال‏:‏ ‏(‏تصدقوا‏)‏ ولم يقل أعطوهم‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏اشفعوا تؤجروا‏)‏‏.‏ وفيه إطلاق السؤال لغيره‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ألا رجل يتصدق على هذا‏)‏‏؟‏ قال أبو بكر‏:‏ قيل له - يعني أحمد بن حنبل - فالرجل يذكر الرجل فيقول‏:‏ إنه محتاج‏؟‏ فقال‏:‏ هذا تعريض وليس به بأس، إنما المسألة أن يقول أعطه‏.‏ ثم قال‏:‏ لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه فكيف لغيره‏؟‏ والتعريض هنا أحب إلي‏.‏
قلت‏:‏ قد‏"‏روى أبو داود والنسائي وغيرهما أن الفراسي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أسأل يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا وإن كنت سائلا لا بد فاسأل الصالحين‏)‏‏.‏ فأباح صلى الله عليه وسلم سؤال أهل الفضل والصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وإن أوقع حاجته بالله فهو أعلى‏.‏ قال إبراهيم بن أدهم‏:‏ سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله تعالى، فأنزل حاجتك بمن يملك الضر والنفع، وليكن مفزعك إلى الله تعالى يكفيك الله ما سواه وتعيش مسرورا‏.‏
فإن جاءه شيء من غير سؤال فله أن يقبله ولا يرده، إذ هو رزق رزقه الله‏.‏‏"‏روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فرده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لم رددته‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، أليس أخبرتنا أن أحدنا خير له ألا يأخذ شيئا‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما ذاك عن المسألة فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله‏)‏‏.‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني بشيء من غير مسألة إلا أخذته‏.‏ وهذا نص‏.‏ وخرج مسلم في صحيحه والنسائي في سننه وغيرهما عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول‏:‏ أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً فقلت‏:‏ أعطه أفقر إليه مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك‏)‏‏.‏ زاد النسائي - بعد قوله ‏(‏خذه - فتموله أو تصدق به‏)‏‏.‏وروى مسلم من حديث عبدالله بن السعدي المالكي عن عمر فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق‏)‏‏.‏ وهذا يصحح لك حديث مالك المرسل‏.‏ قال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يسأل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف‏)‏ أي الإشراف أراد‏؟‏ فقال‏:‏ أن تستشرفه وتقول‏:‏ لعله يبعث إلي بقلبك‏.‏ قيل له‏:‏ وإن لم يتعرض، قال نعم إنما هو بالقلب‏.‏ قيل له‏:‏ هذا شديد قال‏:‏ وإن كان شديدا فهو هكذا‏.‏ قيل له‏:‏ فإن كان الرجل لم يعودني أن يرسل إلي شيئا إلا أنه قد عرض بقلبي فقلت‏:‏ عسى أن يبعث إلي‏.‏ قال‏:‏ هذا إشراف، فأما إذا جاءك من غير أن تحتسبه ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ الإشراف في اللغة رفع الرأس إلى المطموع عنده والمطموع فيه، وأن يهش الإنسان ويتعرض‏.‏ وما قاله أحمد في تأويل الإشراف تضييق وتشديد وهو عندي بعيد، لأن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله جارحة‏.‏ وأما ما اعتقده القلب من المعاصي ما خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل له، وخطرات النفس متجاوز عنها بإجماع‏.‏
الإلحاح في المسألة والإلحاف فيها مع الغنى عنها حرام لا يحل‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر‏)‏ رواه أبو هريرة خرجه مسلم‏.‏ وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم‏)‏ رواه مسلم أيضا‏.‏
السائل إذا كان محتاجا فلا بأس أن يكرر المسألة ثلاثا إعذارا وإنذارا والأفضل تركه‏.‏ فإن كان المسؤول يعلم بذلك وهو قادر على ما سأله وجب عليه الإعطاء، وإن كان جاهلا به فيعطيه مخافة أن يكون صادقاً في سؤاله فلا يفلح في رده‏.‏
فإن كان محتاجاً إلى ما يقيم به سنة كالتجمل بثوب يلبسه في العيد والجمعة فذكر ابن العربي‏:‏ سمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلاً يقول‏:‏ هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم وليس عنده ثياب يقيم بها سنة الجمعة‏.‏ فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثيابا أخر، فقيل لي‏:‏ كساه إياها أبو الطاهر البرسني أخذ الثناء‏.‏

الآية رقم ‏(‏274‏)‏

‏{‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏

روي عن ابن عباس وأبي ذر وأبي أمامة وأبي الدرداء وعبدالله بن بشر الغافقي والأوزاعي أنها نزلت في علف الخيل المربوطة في سبيل الله‏.‏ وذكر ابن سعد في الطبقات قال‏:‏ أخبرت عن محمد بن شعيب بن شابور قال‏:‏ أنبأنا سعيد بن سنان عن يزيد بن عبدالله بن عريب عن أبيه عن جده عريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى‏{‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏هم أصحاب الخيل‏)‏‏.‏ وبهذا الإسناد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها وأبوالها وأرواثها عند الله يوم القيامة كذكي المسك‏)‏‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كانت معه أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم جهراً، ذكره عبدالرزاق قال‏:‏ أخبرنا عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس‏.‏ ابن جريج‏:‏ نزلت في رجل فعل ذلك، ولم يسم عليا ولا غيره‏.‏ وقال قتادة‏.‏ هذه الآية نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير‏.‏ ومعنى ‏{‏بالليل والنهار‏{‏ في الليل والنهار، ودخلت الفاء في قوله تعالى‏{‏فلهم‏{‏ لأن في الكلام معنى الجزاء‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ولا يجوز زيد فمنطلق‏.‏

الآية رقم ‏(‏275‏)‏

‏{‏الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين يأكلون الربا‏{‏ ‏(‏يأكلون‏)‏ يأخذون، فعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأخذ إنما يراد للأكل‏.‏ والربا في اللغة الزيادة مطلقا، يقال‏:‏ ربا الشيء يربو إذا زاد، ومنه الحديث‏:‏ ‏{‏وأخذهم الربا وقد نهوا عنه‏}‏النساء‏:‏ 161‏]‏‏.‏ ولم يرد به الربا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام، كما قال تعالى‏{‏سماعون للكذب أكالون للسحت‏}‏المائدة‏:‏ 42‏]‏ يعني به المال الحرام من الرشا، وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏‏.‏ وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه اكتسب‏.‏ والربا الذي عليه عرف الشرع شيئان‏:‏ تحريم النساء، والتفاضل في العقود وفي المطعومات على ما نبينه‏.‏ وغالبه ما كانت العرب تفعله، من قولها للغريم‏:‏ أتقضي أم تربي ‏؟‏ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه‏.‏ وهذا كله محرم باتفاق الأمة‏.‏
أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه‏.‏ ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها، آكل الربا فتجوز وتشبيه‏.‏
{‏وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس‏}‏الروم‏:‏ 39‏]‏ قال محمد بن يزيد‏:‏ كتب ‏{‏الربا‏{‏ في المصحف بالواو فرقا بينه وبين الزنا، وكان الربا أولى منه بالواو، لأنه من ربا يربو‏.‏
قوله تعالى‏{‏لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏{‏ الجملة خبر الابتداء وهو ‏{‏الذين‏{‏‏.‏ والمعنى من قبورهم، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يجعل معه شيطان يخنقه‏.‏ وقالوا كلهم‏:‏ يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند جميع أهل المحشر‏.‏ ويقوي هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة ابن مسعود ‏{‏لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم‏{‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الدنيا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما من فزع أو غيره‏:‏ قد جن هذا‏!‏ وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله‏:‏
{‏ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏المؤمن‏:‏ 46‏]‏ - قلت - يا جبريل من هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏)‏‏.‏ والمس الجنون وكذلك الأولق والألس والرود‏.‏
قوله تعالى‏{‏ذلك بأنهم قالوا‏{‏ معناه عند جميع المتأولين في الكفار، ولهم قيل‏{‏فله ما سلف‏{‏ ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه ويرد فعله وإن كان جاهلا، فلذلك {‏وأحل الله البيع وحرم الربا‏}‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة‏.‏ وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لما قال‏:‏ {‏والعصر إن الإنسان لفي خسر‏}‏العصر 1، 2‏]‏ ثم استثنى ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏العصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نهي عنه ومنع العقد عليه، كالخمر والميتة وحَبلَ الحَبَلة وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة النهي عنه‏.‏ ونظيره ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ وسائر الظواهر التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص وهذا مذهب أكثر الفقهاء‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم فلا يمكن أن يستعمل في إحلال البيع وتحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل‏.‏ وهذا فرق ما بين العموم والمجمل‏.‏ فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة، والتفصيل ما لم يخص بدليل‏.‏ والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان‏.‏ والأول أصح‏.‏ والله أعلم‏.‏
البيع في اللغة مصدر باع كذا بكذا، أي دفع عوضاً وأخذ معوضاً‏.‏ وهو يقتضي بائعا وهو المالك أو من ينزل منزلته، ومبتاعا وهو الذي يبذل الثمن، ومبيعا وهو المثمون وهو الذي يبذل في مقابلته الثمن‏.‏ وعلى هذا فأركان البيع أربعة‏:‏ البائع والمبتاع والثمن والمثمن‏.‏ ثم المعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه، فإن كان أحد المعوضين في مقابلة الرقبة سمي بيعاً، وإن كان في مقابلة منفعة رقبة فإن كانت منفعة بضع سمي نكاحاً، وإن كانت منفعة غيرها سمي إجارة، وإن كان عينا بعين فهو بيع النقد وهو الصرف، وان كان بدين مؤجل فهو السلم، وسيأتي بيانه في آية الدين‏.‏ وقد مضى حكم الصرف، ويأتي حكم الإجارة في ‏{‏القصص‏{‏ وحكم المهر في النكاح في ‏{‏النساء‏{‏ كل في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏
البيع قبول وإيجاب يقع باللفظ المستقبل والماضي، فالماضي فيه حقيقة والمستقبل كناية، ويقع بالصريح والكناية المفهوم منها نقل الملك‏.‏ فسواء قال‏:‏ بعتك هذه السلعة بعشرة فقال‏:‏ اشتريتها، أو قال المشتري‏:‏ اشتريتها وقال البائع‏:‏ بعتكها، أو قال البائع‏:‏ أنا أبيعك بعشرة فقال المشتري‏:‏ أنا أشتري أو قد اشتريت، وكذلك لو قال‏:‏ خذها بعشرة أو أعطيتكها أو دونكها أو بورك لك فيها بعشرة أو سلمتها إليك - وهما يريدان البيع - فذلك كله بيع لازم‏.‏ ولو قال البائع‏:‏ بعتك بعشرة ثم رجع قبل أن يقبل المشتري فقد قال‏:‏ ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أو رده، لأنه قد بذل ذلك من نفسه وأوجبه عليها، وقد قال ذلك له، لأن العقد لم يتم عليه‏.‏ ولو قال البائع‏:‏ كنت لاعبا، فقد اختلفت الرواية عنه، فقال مرة‏:‏ يلزمه البيع ولا يلتفت إلى قوله‏.‏ وقال مرة‏:‏ ينظر إلى قيمة السلعة‏.‏
فإن كان الثمن يشبه قيمتها فالبيع لازم، وإن كان متفاوتا كعبد بدرهم ودار بدينار، علم أنه لم يرد به البيع، وإنما كان هازلاً فلم يلزمه‏.‏
قوله تعالى‏{‏وحرم الربا‏{‏ الألف واللام هنا للعهد، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيناه، ثم تتناول ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من البيوع المنهي عنها‏.‏
عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال، لما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ جاء بلال بتمر برني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أين هذا‏)‏ ‏؟‏ فقال بلال‏:‏ من تمر كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك‏:‏ ‏(‏أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به‏)‏ وفي رواية ‏(‏هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فقوله ‏(‏أوه عين الربا‏)‏ أي هو الربا المحرم نفسه لا ما يشبهه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏فردوه‏)‏ يدل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لا تصح بوجه، وهو قول الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة حيث يقول‏:‏ إن بيع الربا جائز بأصله من حيث هو بيع، ممنوع بوصفه من حيث هو رباً، فيسقط الربا ويصح البيع‏.‏ ولو كان على ما ذكر لما فسخ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة، ولأمره برد الزيادة على الصاع ولصحح الصفقة في مقابلة الصاع‏.‏
كل ما كان من حرام بين ففسخ فعلى المبتاع رد السلعة بعينها‏.‏ فإن تلفت بيده رد القيمة فيما له القيمة، وذلك كالعقار والعروض والحيوان، والمثل فيما له مثل من موزون أو مكيل من طعام أو عرض‏.‏ قال مالك‏:‏ يرد الحرام البين فات أو لم يفت، وما كان مما كره الناس رد إلا أن يفوت فيترك‏.‏
قوله تعالى‏{‏ فمن جاءه موعظة من ربه‏{‏ قال جعفر بن محمد الصادق رحمهما الله‏:‏ حرم الله الربا ليتقارض الناس‏.‏ وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قرض مرتين يعدل صدقة مرة‏)‏ أخرجه البزار، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس‏.‏ وسقطت علامة التأنيث في قوله تعالى‏{‏فمن جاءه‏{‏ لأن تأنيث ‏{‏الموعظة‏{‏ غير حقيقي وهو بمعنى وعظ‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏فمن جاءته‏{‏ بإثبات العلامة‏.‏
هذه الآية تلتها عائشة لما أخبرت بفعل زيد بن أرقم‏.‏‏"‏روى الدارقطني عن العالية بنت أنفع قالت‏:‏ خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة رضي الله عنها فسلمنا عليها، فقالت لنا‏:‏ ممن أنتن ‏؟‏ قلنا من أهل الكوفة، قالت‏:‏ فكأنها أعرضت عنا، فقالت لها أم محبة‏:‏ يا أم المؤمنين ‏!‏ كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقداً‏.‏ قالت‏:‏ فأقبلت علينا فقالت‏:‏ بئسما شريت وما اشتريت ‏!‏ فأبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب‏.‏ فقالت لها‏:‏ أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي ‏؟‏ قالت‏{‏فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف‏{‏‏.‏ العالية هي زوج أبي إسحاق الهمداني الكوفي السبيعي أم يونس بن أبي إسحاق‏.‏ وهذا الحديث أخرجه مالك من رواية ابن وهب عنه في بيوع الآجال، فان كان منها ما يؤدي إلى الوقوع في المحظور منع منه وإن كان ظاهره بيعاً جائزاً‏.‏ وخالف مالكاً في هذا الأصل جمهور الفقهاء وقالوا‏:‏ الأحكام مبنية على الظاهر لا على الظنون‏.‏ ودليلنا القول بسد الذرائع، فإن سلم وإلا استدللنا على صحته‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وهذا الحديث نص، ولا تقول عائشة ‏(‏أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب‏)‏ إلا بتوقيف، إذ مثله لا يقال بالرأي فإن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي كما تقدم‏.‏ وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يوقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه‏)‏‏.‏ وجه دلالته أنه منع من الإقدام على المتشابهات مخافة الوقوع في المحرمات وذلك سد للذريعة‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من الكبائر شتم الرجل والديه‏)‏ قالوا‏:‏ وكيف يشتم الرجل والديه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه‏)‏‏.‏ فجعل التعريض لسب الآباء كسب الآباء‏.‏ ولعن صلى الله عليه وسلم اليهود إذا أكلوا ثمن ما نهوا عن أكله‏.‏ وقال أبو بكر في كتابه‏:‏ لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة‏.‏ ونهى ابن عباس عن دراهم بدراهم بينهما جريرة‏.‏ واتفق العلماء على منع الجمع بين بيع وسلف، وعلى تحريم قليل الخمر وإن كان لا يسكر، وعلى تحريم الخلوة بالأجنبية وإن كان عنيناً، وعلى تحريم النظر إلى وجه المرأة الشابة إلى غير ذلك مما يكثر ويعلم على القطع والثبات أن الشرع حكم فيها بالمنع، لأنها ذرائع المحرمات‏.‏ والربا أحق ما حميت مراتعه وسدت طرائقه، ومن أباح هذه الأسباب فليبح حفر البئر ونصب الحبالات لهلاك المسلمين والمسلمات، وذلك لا يقوله أحد‏.‏ وأيضا فقد اتفقنا على منع من باع بالعينة إذا عرف بذلك وكانت عادته، وهي في معنى هذا الباب‏.‏ والله الموفق للصواب‏.‏
روى أبو داود عن ابن عمر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم‏)‏‏.‏ في إسناده أبو عبدالرحمن الخراساني‏.‏ ليس بمشهور‏.‏ وفسر أبو عبيد الهروي العينة فقال‏:‏ هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به‏.‏ قال‏:‏ فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة، وهي أهون من الأولى، وهو جائز عند بعضهم‏.‏ وسميت عينة لحضور النقد لصاحب العينة، وذلك أن العَين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره‏.‏
قال علماؤنا‏:‏ فمن باع سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها بثمن من جنس الثمن الذي باعها به، فلا يخلو أن يشتريها منه بنقد، أو إلى أجل دون الأجل الذي باعها إليه، أو إلى أبعد منه، بمثل الثمن أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ثلاث مسائل‏:‏ وأما الأولى والثانية فإن كان بمثل الثمن أو أكثر جاز، ولا يجوز بأقل على مقتضى حديث عائشة، لأنه أعطى ستمائة ليأخذ ثمانمائة والسلعة لغو، وهذا هو الربا بعينه‏.‏ وأما الثالثة إلى أبعد من الأجل، فإن كان اشتراها وحدها أو زيادة فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه، ولا يجوز بأكثر، فإن اشترى بعضها فلا يجوز على كل حال لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر‏.‏ ومسائل هذا الباب حصرها علماؤنا في سبع وعشرين مسألة، ومدارها على ما ذكرناه فاعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏فله ما سلف‏{‏ أي من أمر الربا لا تباعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة، قاله السدي وغيره‏.‏ وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هنالك‏.‏ وسلف‏:‏ معناه تقدم في الزمن وانقضى‏.‏
قوله تعالى‏{‏وأمره إلى الله‏{‏ فيه أربع تأويلات‏:‏ أحدها أن الضمير عائد إلى الربا، بمعنى وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك‏.‏ والآخر أن يكون الضمير عائداً على ‏{‏ما سلف‏{‏ أي أمره إلى الله تعالى في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه‏.‏ والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا، بمعنى أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا‏.‏ واختار هذا القول النحاس، قال‏:‏ وهذا قول حسن بين، أي وأمره إلى الله في المستقبل إن شاء ثبته على التحريم وإن شاء أباحه‏.‏ والرابع أن يعود الضمير على المنتهى، ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير، كما تقول‏:‏ وأمره إلى طاعة وخير، وكما تقول‏:‏ وأمره في نمو وإقبال إلى الله تعالى وإلى طاعته‏.‏
قوله تعالى‏{‏ومن عاد‏{‏ يعني إلى فعل الربا حتى يموت، قاله سفيان‏.‏ وقال غيره‏:‏ من عاد فقال إنما البيع مثل الربا فقد كفر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ إن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب‏:‏ ملك خالد، عبارة عن دوام ما لا يبقى على التأبيد الحقيقي‏.‏

الآية رقم ‏(‏276‏)‏

‏{‏يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏يمحق الله الربا‏{‏ يعني في الدنيا أي يذهب بركته وإن كان كثيراً‏.‏‏"‏روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل‏)‏‏.‏ وقيل‏{‏يمحق الله الربا‏{‏ يعني في الآخرة‏.‏ وعن ابن عباس في قوله تعالى‏{‏يمحق الله الربا‏{‏ قال‏:‏ لا يقبل منه صدقة ولا حجاً ولا جهاداً ولا صلةً‏.‏ والمحق‏:‏ النقص والذهاب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه‏.‏ ‏{‏ويربي الصدقات‏{‏ أي ينميها في الدنيا بالبركة ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يجيء يوم القيامة وإن اللقمة لعلى قدر أحد‏)‏‏.‏ وقرأ ابن الزبير ‏{‏يمحق‏{‏ بضم الياء وكسر الحاء مشددة ‏{‏يربي‏{‏ بفتح الراء وتشديد الباء، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله لا يحب كل كفار أثيم‏{‏ ووصف كفار بأثيم مبالغة، من حيث اختلف اللفظان‏.‏ وقيل‏:‏ لإزالة الاشتراك في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض‏:‏ قاله ابن فورك‏.‏

الآية رقم ‏(‏277‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة‏{‏ تقدم القول فيه وخص الصلاة والزكاة بالذكر وقد تضمنها عمل الصالحات تشريفا لهما وتنبيها على قدرهما إذ هما رأس الأعمال الصلاة في أعمال البدن والزكاة في أعمال المال‏.‏
قوله تعالى‏{‏لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏{‏ الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه والتخوف التنقص ومنه قوله تعالى ‏{‏أو يأخذهم على تخوف‏}‏النحل‏:‏ 47‏]‏ وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب ‏{‏فلا خوف‏{‏ بفتح الفاء على التبرمة والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن ‏{‏لا‏{‏ لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد ويجوز أن تكون ‏{‏لا‏{‏ في قوله فلا خوف بمعنى ليس والحزن والحزن ضد السرور ولا يكون إلا على ماض وحزن الرجل - بالكسر - فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ومحزون بنى عليه قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما واحتزن وتحزن بمعنى والمعنى في الآية فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا وقيل ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا والله أعلم‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 278 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا‏{‏ ظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل نزول آية التحريم، ولا يتعقب بالفسخ ما كان مقبوضا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الآية نزلت بسبب ثقيف، وكانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن مالهم من الربا على الناس فهو لهم، وما للناس عليهم فهو موضوع عنهم، فلما أن جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني عبدة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت على بني المغيرة المخزوميين‏.‏ فقال بنو المغيرة‏:‏ لا نعطي شيئا فإن الربا قد رفع ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فعلمت بها ثقيف فكفت‏.‏ هذا سبب الآية على اختصار مجموع ما‏"‏روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم‏.‏ والمعنى اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من الربا وصفحكم عنه‏.‏
قوله تعالى‏{‏إن كنتم مؤمنين‏{‏ شرط محض في ثقيف على بابه لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام‏.‏ وإذا قدرنا الآية فيمن قد تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه‏:‏ إن كنت رجلاً فافعل كذا‏.‏ وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال‏:‏ إن ‏{‏إنْ‏{‏ في هذه الآية بمعنى ‏{‏إذ‏{‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا مردود لا يعرف في اللغة‏.‏ وقال ابن فورك‏:‏ يحتمل أن يريد ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏{‏ بمن قبل محمد عليه السلام من الأنبياء ‏{‏ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين‏{‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ لا ينفع الأول إلا بهذا‏.‏ وهذا مردود بما روي في سبب الآية‏.‏

الآية رقم‏(‏ 279 ‏)‏

‏{‏فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله‏{‏ هذا وعيد إن لم يذروا الربا، والحرب داعية القتل‏.‏ وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا‏:‏ خذ سلاحك للحرب‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ من كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستثيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجاً أينما ثقفوا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله، أي أعداء‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالاً كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً جاز للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال‏{‏فأذنوا بحرب من الله ورسوله‏}‏البقرة‏:‏ 279‏]‏‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏فآذنوا‏{‏ على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم‏.‏
ذكر ابن بكير قال‏:‏ جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال‏:‏ يا أبا عبدالله، إني رأيت رجلاً سكراناً يتعاقر يريد أن يأخذ القمر، فقلت‏:‏ امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر‏.‏ فقال‏:‏ ارجع حتى أنظر في مسألتك‏.‏ فأتاه من الغد فقال له‏:‏ ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له‏:‏ امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب‏.‏
دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك على ما نبينه‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏‏{‏وأخذهم الربا وقد نهوا عنه‏}‏النساء‏:‏ 161‏]‏‏.‏ وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا‏:‏
‏{‏أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏}‏هود‏:‏ 87‏]‏ فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به‏.‏ نعم، يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ إن كانت معقودة على فساد‏.‏
ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا غلو في الدين فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه، ولو تلف لقام المثل مقامه والاختلاط إتلاف لتمييزه كما أن الإهلاك إتلاف لعينه والمثل قائم مقام الذاهب وهذا بين حسا بين معنى‏.‏ والله أعلم‏.‏
قلت‏:‏ قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من رباً فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضراً، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه‏.‏ وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه‏.‏ فإن التبس عليه الأمر ولم يدرِ كَمْ الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عُرف ممن ظلمه أو أربى عليه‏.‏ فإن أيس من وجوده تصدق به عنه‏.‏ فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه، لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه‏.‏ وفارق ههنا المفلس في قول أكثر العلماء لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء بل هم الذين صيروها إليه، فيترك له ما يواريه وما هو هيئة لباسه‏.‏ وأبو عبيد وغيره يرى ألا يترك للمفلس من اللباس إلا أقل ما يجزئه في الصلاة وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته، ثم كلما وقع بيد هذا شيء أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا، حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه‏.‏
هذا الوعيد الذي وعد الله به في الربا من المحاربة، قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في المخابرة‏.‏ وروى أبو داود قال‏:‏ أخبرنا يحيى بن معين قال أخبرنا ابن رجاء قال ابن خيثم حدثني عن أبي الزبير ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله‏}‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ وقال الشافعي في قول ابن عمر‏:‏ كنا نخابر ولا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، أي كنا نكري الأرض ببعض ما يخرج منها‏.‏ قال‏:‏ وفي ذلك نسخ لسنة خيبر‏.‏
قلت‏:‏ ومما يصحح قول الشافعي في النسخ ما رواه الأئمة واللفظ للدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وعن الثنيا إلا أن تُعلم‏.‏ صحيح‏.‏ وروى أبو داود عن زيد بن ثابت قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة‏.‏ قلت‏:‏ وما المخابرة ‏؟‏ قال‏:‏ أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع‏.‏
في القراءات‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏ما بقي‏{‏ بتحريك الياء، وسكنها الحسن، ومثله قول جرير‏:‏
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم **** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
وقال عمر بن أبي ربيعة‏:‏
كم قد ذكرتك لو أجزى بذكرك **** يا أشبه الناس كل الناس بالقمر
إني لأجذل أن أمسي مقابله ***** حباً لرؤية من أشبهت في الصور
أصله ‏{‏ما رضي‏{‏ و‏{‏أن أمسي‏{‏ فأسكنها وهو في الشعر كثير‏.‏ ووجهه أنه شبه الياء بالألف فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لا تصل هنا إلى الياء‏.‏ ومن هذه اللغة أحب أن أدعوك، وأشتهي أن أقضيك، بإسكان الواو والياء‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏ما بقى‏{‏ بالألف، وهي لغة طيء، يقولون للجارية‏:‏ جاراة، وللناصية‏:‏ ناصاة، وقال الشاعر‏:‏
لعمرك لا أخشى التصعلك ما بقى **** على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
وقرأ أبو السمال من بين جميع القراء ‏{‏من الربو‏{‏ بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو‏.‏ وقال أبو الفتح عثمان بن جني‏:‏ شذ هذا الحرف من أمرين، أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم، والآخر وقوع الواو بعد الضم في آخر الاسم‏.‏ وقال المهدوي‏.‏ وجهها أنه فخم الألف فانتحى بها نحو الواو التي الألف منها، ولا ينبغي أن يحمل على غير هذا الوجه، إذ ليس في الكلام اسم آخره واو ساكنة قبلها ضمة‏.‏ وأمال الكسائي وحمزة ‏{‏الربا‏{‏ لمكان الكسرة في الراء‏.‏ الباقون بالتفخيم لفتحة الباء‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة ‏{‏فآذنوا‏{‏ على معنى فآذنوا غيركم، فحذف المفعول‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏فأذنوا‏{‏ أي كونوا على إذن، من قولك‏:‏ إن على علم، حكاه أبو عبيد عن الأصمعي‏.‏ وحكى أهل اللغة أنه يقال‏:‏ أذنت به إذنا، أي علمت به‏.‏ وقال ابن عباس وغيره من المفسرين‏:‏ معنى ‏{‏فأذنوا‏{‏ فاستيقنوا الحرب من الله تعالى، وهو بمعنى الإذن‏.‏ ورجح أبو علي وغيره قراءة المد قال‏:‏ لأنهم إذا أمروا بإعلام غيرهم ممن لم ينته عن ذلك علموا هم لا محالة‏.‏ قال‏:‏ ففي إعلامهم علمهم وليس في علمهم إعلامهم‏.‏ ورجح الطبري قراءة القصر، لأنها تختص بهم‏.‏ وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم‏.‏ وقرأ جميع القراء ‏{‏لا تظلمون‏{‏ بفتح التاء ‏{‏ولا تظلمون‏{‏ بضمها‏.‏ وروى المفضل عن عاصم ‏{‏لا تظلمون‏{‏ ‏{‏ولا تظلمون‏{‏ بضم التاء في الأولى وفتحها في الثانية على العكس‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ تترجح قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله‏{‏وإن تبتم‏{‏ في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فيجيء ‏{‏تظلمون‏{‏ بفتح التاء أشكل بما قبله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 280 ‏)‏

‏{‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن كان ذو عسرة‏{‏ لما حكم جل وعز لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال، حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حال الميسرة، وذلك أن ثقيفا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة شكوا العسرة - يعني بني المغيرة - وقالوا‏:‏ ليس لنا شيء، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم، فنزلت هذه الآية ‏{‏وإن كان ذو عسرة‏{‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏وإن كان ذو عسرة‏{‏ مع قوله ‏{‏وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم‏}‏البقرة‏:‏ 279‏]‏ يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه‏.‏ ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالماً، فإن الله تعالى يقول‏{‏فلكم رؤوس أموالكم‏{‏ فجعل له المطالبة برأس ماله‏.‏ فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه‏.‏
قال المهدوي وقال بعض العلماء‏:‏ هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع مَنْ أعسر‏.‏ وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ وإلا فليس بنسخ‏.‏ قال الطحاوي‏:‏ كان الحر يباع في الدين أول الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال جل وعز‏{‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة‏{‏‏.‏ واحتجوا بحديث رواه الدارقطني من حديث مسلم بن خالد الزنجي أخبرنا زيد بن أسلم {‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏النساء‏:‏ 58‏]‏ الآية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع، وأما مع العدم والفقر الصريح فالحكم هو النظرة ضرورة‏.‏
من كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته‏.‏‏"‏روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه‏.‏ والمشهور أنه يترك له كسوته المعتادة ما لم يكن فيها فضل، ولا ينزع منه رداؤه إن كان ذلك مزرياً به‏.‏ وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالما خلاف‏.‏ ولا يترك له مسكن ولا خادم ولا ثوب جمعة ما لم تقل قيمتها، وعند هذا يحرم حبسه‏.‏ والأصل في هذا قوله تعالى‏{‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة‏{‏‏.‏‏"‏روى الأئمة واللفظ لمسلم {‏أنظرني إلى يوم يبعثون‏}‏الأعراف‏:‏ 14‏]‏ وأجاز ذلك أبو إسحاق الزجاج وقال‏:‏ هي من أسماء المصادر، كقوله تعالى‏{‏ليس لوقعتها كاذبة‏}‏الواقعة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وكقوله تعالى‏{‏تظن أن يفعل بها فاقرة‏}‏القيامة‏:‏ 25‏]‏ وكـ ‏{‏خائنة الأعين‏}‏المؤمن‏:‏ 19‏]‏ وغيره‏.‏
قوله تعالى‏{‏وأن تصدقوا‏{‏ ابتداء، وخبره ‏{‏خير‏{‏‏.‏ ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك‏.‏ وقال الطبري‏:‏ وقال آخرون‏:‏ معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم‏.‏ والصحيح الأول، وليس في الآية مدخل للغني‏.‏
‏"‏روى أبو جعفر الطحاوي عن بريدة بن الخصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة‏)‏ ثم قلت‏:‏ بكل يوم مثله صدقة، قال فقال‏:‏ ‏(‏بكل يوم صدقة ما لم يحل الدين فإذا أنظره بعد الحل فله بكل يوم مثله صدقة‏)‏‏.‏ وروى مسلم عن أبي مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال‏:‏ قال الله عز وجل نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه‏)‏‏.‏ وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال‏:‏ إني معسر‏.‏ فقال‏:‏ آلله ‏؟‏ قال‏:‏ آلله‏.‏ قال‏:‏ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه‏)‏، وفي حديث أبي اليسر الطويل - واسمه كعب بن عمرو - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله‏)‏‏.‏ ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها‏.‏ وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علم عسرة غريمه أو ظنها حرمت عليه مطالبته، وإن لم تثبت عسرته عند الحاكم‏.‏ وإنظار المعسر تأخيره إلى أن يوسر‏.‏ والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته‏.‏ وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له‏:‏ إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل‏.‏

الآية رقم‏(‏ 281 ‏)‏

‏{‏واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏

قيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء، قاله ابن جريج‏.‏ وقال ابن جبير ومقاتل‏:‏ بسبع ليال‏.‏ وروي بثلاث ليال‏.‏ وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه عليه السلام قال‏:‏ ‏‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ إلى آخر الآية‏.‏ والقول الأول أعرف وأكثر وأصح وأشهر‏.‏ ورواه أبو صالح [1]{‏كتاب الرد‏{‏ له، وهو قول ابن عمر رضي الله عنه أنها آخر ما نزل، وأنه عليه السلام عاش بعدها أحدا وعشرين يوما، على ما يأتي بيانه في آخر سورة ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏النصر‏:‏ 1‏]‏ إن شاء تعالى‏.‏ والآية وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان‏.‏ و‏{‏يوما‏{‏ منصوب على المفعول لا على الظرف‏.‏ ‏{‏ترجعون فيه إلى الله‏{‏ من نعته‏.‏ وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، مثل ‏{‏إن إلينا إيابهم‏}‏الغاشية‏:‏ 25‏]‏ واعتبارا بقراءة أبي ‏{‏يوما تصيرون فيه إلى الله‏{‏‏.‏ والباقون بضم التاء وفتح الجيم، مثل ‏{‏ثم ردوا إلى الله‏}‏الأنعام‏:‏ 62‏]‏‏.‏ ‏{‏ولئن رددت إلى ربي‏}‏الكهف‏:‏ 36‏]‏ واعتبارا بقراءة عبدالله ‏{‏يوما تردون فيه إلى الله‏{‏ وقرأ الحسن ‏{‏يرجعون‏{‏ بالياء، على معنى يرجع جميع الناس‏.‏ قال ابن جني‏:‏ كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة، إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم‏{‏واتقوا يوما‏{‏ ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم‏.‏ وجهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو يوم الموت‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية‏.‏ وفي قوله ‏{‏إلى الله‏{‏ مضاف محذوف، تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه‏.‏ ‏{‏وهم‏{‏ رد على معنى ‏{‏كل‏{‏ لا على اللفظ، إلا على قراءة الحسن ‏{‏يرجعون‏{‏ فقوله ‏{‏وهم‏{‏ رد على ضمير الجماعة في ‏{‏يرجعون‏{‏‏.‏ وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الأعمال، وهو رد على الجبرية، وقد تقدم‏.‏

الآية رقم‏(‏ 282 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم‏{‏ الآية‏.‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هذه الآية نزلت في السلم خاصة‏.‏ معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ إنها تضمنت ثلاثين حكما‏.‏ وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض، على ما قال مالك، إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات‏.‏ وخالف في ذلك الشافعية وقالوا‏:‏ الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دَيْناً مؤجلا، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه‏.‏
قوله تعالى‏{‏بدين‏{‏ تأكيد مثل قوله ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏ ‏{‏فسجد الملائكة كلهم أجمعون‏}‏الحجر‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والدين ما كان غائبا، قال الشاعر‏:‏
وعدتنا بدرهمينا طلاء **** وشواء معجلا غير دين
وقال آخر‏:‏
لترم بي المنايا حيث شاءت **** إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أوقدوا حطبا ونارا **** فذاك الموت نقدا غير دين
وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله الحق ‏{‏إلى أجل مسمى‏{‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏إلى أجل مسمى‏{‏ قال ابن المنذر‏:‏ دل قول الله ‏{‏إلى أجل مسمى‏{‏ على أن السلم إلى الأجل المجهول غير جائز، ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى‏.‏ ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم‏)‏ رواه ابن عباس‏.‏ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حَبَل الحَبَلة‏.‏ وحبل الحبلة‏:‏ أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت‏.‏ فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏.‏ وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم الجائز أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف، من طعام أرض عامة لا يخطئ مثلها‏.‏ بكيل معلوم، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة، يدفع ممن ما أسلم فيه قبل أن يفترقا من مقامهما الذي تبايعا فيه، وسميا المكان الذي يقبض فيه الطعام‏.‏ فإذا فعلا ذلك وكان جائز الأمر كان سلما صحيحا لا أعلم أحدا من أهل العلم يبطله‏.‏
قلت‏:‏ وقال علماؤنا‏:‏ إن السلم إلى الحصاد والجذاذ والنيروز والمهرجان جائز، إذ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم‏.‏
حدّ علماؤنا رحمة الله عليهم السلم فقالوا‏:‏ هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم‏.‏ فتقييده بمعلوم في الذمة يفيد التحرز من المجهول، ومن السلم في الأعيان المعينة، مثل الذي كانوا يستلفون في المدينة حين قدم عليهم النبي عليه السلام فإنهم كانوا يستلفون في ثمار نخيل بأعيانها، فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر، إذ قد تخلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئا‏.‏
وقولهم ‏[‏محصور بالصفة‏]‏ تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل، كما لو أسلم في تمر أو ثياب أو حيتان ولم يبين نوعها ولا صفتها المعينة‏.‏ وقولهم ‏[‏بعين حاضرة‏]‏ تحرز من الدين بالدين‏.‏ وقولهم ‏[‏أو ما هو في حكمها‏]‏ تحرز من اليومين والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليه، فإنه يجوز تأخيره عندنا ذلك القدر، بشرط وبغير شرط لقرب ذلك، ولا يجوز اشتراطه عليها‏.‏ ولم يجز الشافعي ولا الكوفي تأخير رأس مال السلم عن العقد والافتراق، ورأوا أنه كالصرف‏.‏ ودليلنا أن البابين مختلفان بأخص أوصافهما، فإن الصرف بابه ضيق كثرت فيه الشروط بخلاف السلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر‏.‏ والله أعلم‏.‏
وقولهم إلى أجل معلوم تحرز من السلم الحال فإنه لا يجوز على المشهور وسيأتي‏.‏ ووصف الأجل بالمعلوم تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه‏.‏
السلم والسلف عبارتان عن معنى واحد وقد جاءا في الحديث، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب ‏[‏السَّلم‏]‏ لأن السلف يقال على القرض‏.‏ والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، مستثنى من نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك‏.‏ وأرخص في السلم، لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتابعين، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج، فإن جاز حالا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة‏.‏ والله أعلم‏.‏

شروط السلم
المتفق عليها والمختلف فيها وهي تسعة‏:‏
ستة في المُسْلَم فيه
وثلاثة في رأس مال السلم‏.‏ أما الستة التي في المسلم فيه
فأن يكون في الذمة
وأن يكون موصوفا
وأن يكون مقدرا
وأن يكون مؤجل
وأن يكون الأجل معلوما
وأن يكون موجودا عند محل الأجل‏.‏ وأما
الثلاثة التي في رأس مال السلم
فأن يكون معلوم الجنس
مقدرا

نقدا‏.‏
وهذه الشروط الثلاثة التي في رأس المال متفق عليها إلا النقد حسب ما تقدم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وأما الشرط الأول وهو أن يكون في الذمة فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة، لأنه مداينة، ولولا ذلك لم يشرع دينا ولا قصد الناس إليه ربحا ورفقا‏.‏ وعلى ذلك القول اتفق الناس‏.‏ بيد أن مالكا قال‏:‏ لا يجوز السلم في المعين إلا بشرطين‏:‏ أحدهما أن يكون قرية مأمونة، والثاني أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخلة، ولم يقل ذلك أحد سواه‏.‏ وهاتان المسألتان صحيحتان في الدليل، لأن التعيين امتنع في السلم مخافة المزابنة والغرر، لئلا يتعذر عند المحل‏.‏ وإذا كان الموضع مأمونا لا يتعذر وجود ما فيه في الغالب جاز ذلك، إذ لا يتيقن ضمان العواقب على القطع في مسائل الفقه، ولا بد من احتمال الغرر اليسير، وذلك كثير في مسائل الفروع، تعدادها في كتب المسائل‏.‏ وأما السلم في اللبن والرطب مع الشروع في أخذه فهي مسألة مدنية اجتمع عليها أهل المدينة، وهي مبنية على قاعدة المصلحة، لأن المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مياومة ويشق أن يأخذ كل يوم ابتداء، لأن النقد قد لا يحضره ولأن السعر قد يختلف عليه، وصاحب النخل واللبن محتاج إلى النقد، لأن الذي عنده عروض لا يتصرف له‏.‏ فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياسا على العرايا وغيرها من أصول الحاجات والمصالح‏.‏ وأما الشرط الثاني وهو أن يكون موصوفا فمتفق عليه، وكذلك الشرط الثالث‏.‏ والتقدير يكون من ثلاثة أوجه‏:‏ الكيل، والوزن، والعدد، وذلك ينبني على العرف، وهو إما عرف الناس وإما عرف الشرع‏.‏ وأما الشرط الرابع وهو أن يكون مؤجلا فاختلف فيه، فقال الشافعي‏:‏ يجوز السلم الحال، ومنعه الأكثر من العلماء‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ واضطربت المالكية في تقدير الأجل حتى ردوه إلى يوم، حتى قال بعض علمائنا‏:‏ السلم الحال جائز‏.‏ والصحيح أنه لا بد من الأجل فيه، لأن المبيع على ضربين‏:‏ معجل وهو العين، ومؤجل‏.‏ فإن كان حالا ولم يكن عند المسلم إليه فهو من باب‏:‏ بيع ما ليس عندك، فلا بد من الأجل حتى يخلص كل عقد على صفته وعلى شروطه، وتتنزل الأحكام، الشرعية منازلها‏.‏ وتحديده عند علمائنا مدة تختلف الأسواق في مثلها‏.‏ وقول الله تعالى ‏{‏إلى أجل مسمى‏{‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلة‏}‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏ وأما الشرط السادس وهو أن يكون موجودا عند المحل فلا خلاف فيه بين الأمة أيضا، فإن انقطع المبيع عند محل الأجل بأمر من الله تعالى انفسخ العقد عند كافة العلماء‏.‏
ليس من شرط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه خلافا لبعض السلف، لما رواه البخاري عن محمد بن المجالد قال‏:‏ بعثني عبدالله بن شداد وأبو بردة إلى عبدالله بن أبي أوفى فقالا‏:‏ سله هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة ‏؟‏ فقال عبدالله‏:‏ كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم‏.‏ قلت‏:‏ إلى من كان أصله عنده ‏؟‏ قال‏:‏ ما كنا نسألهم عن ذلك‏.‏ ثم بعثاني إلى عبدالرحمن بن أبزى فسألته فقال‏:‏ كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا ‏؟‏ وشرط أبو حنيفة وجود المسلم فيه من حين العقد إلى حين الأجل، مخافة أن يطلب المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غررا، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا‏:‏ المراعى وجوده عند الأجل‏.‏ وشرط الكوفيون والثوري أن يذكر موضع القبض فيما له حمل ومؤونة وقالوا‏:‏ السلم فاسد إذا لم يذكر موضع القبض‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ هو مكروه‏.‏ وعندنا لو سكتوا عنه لم يفسد العقد، ويتعين موضع القبض، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث، لحديث ابن عباس فإنه ليس فيه ذكر المكان الذي يقبض فيه السلم، ولو كان من شروطه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الكيل والوزن والأجل، ومثله ابن أبي أوفى‏.‏
روى أبو داود ‏{‏فإن أمن‏}‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ ناسخ لأمره بالكتب‏.‏ وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري‏.‏ وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله‏{‏فإن أمن بعضكم بعضا‏{‏‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق‏.‏ قال بعضهم‏:‏ إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة‏.‏ ابن عطية‏:‏ وهذا هو القول الصحيح‏.‏ ولا يترتب نسخ في هذا، لأن الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس‏.‏
قوله تعالى‏{‏وليكتب بينكم كاتب‏{‏ قال عطاء وغيره‏:‏ واجب على الكاتب أن يكتب، وقاله الشعبي، وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب‏.‏ السدي‏:‏ واجب مع الفراغ‏.‏ وحذفت اللام من الأول وأثبتت في الثاني، لأن الثاني غائب والأول للمخاطب‏.‏ وقد ثبتت في المخاطب، ومنه قوله تعالى‏{‏فلتفرحوا‏{‏ بالتاء‏.‏ وتحذف في الغائب، ومنه‏:‏
محمد تفد نفسك كل نفس **** إذا ما خفت من شيء تبالا
قوله تعالى‏{‏بالعدل‏{‏ أي بالحق والمعدلة، أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل‏.‏ وإنما قال ‏{‏بينكم‏{‏ ولم يقل أحدكم، لأنه لما كان الذي له الدين يتهم في الكتابة الذي عليه الدين وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتبا غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمه موادة لأحدهما على الآخر‏.‏ وقيل‏:‏ إن الناس لما كانوا يتعاملون حتى لا يشذ أحدهم عن المعاملة، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب، أمر الله سبحانه أن يكتب بينهم كاتب بالعدل‏.‏
الباء في قوله تعالى ‏{‏بالعدل‏{‏ متعلقة بقوله‏{‏وليكتب‏{‏ وليست متعلقة بـ ‏{‏كاتب‏{‏ لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها‏.‏ أما المنتصبون لكتبها فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين‏.‏ قال مالك رحمه الله تعالى‏:‏ لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى‏{‏وليكتب بينكم كاتب بالعدل ‏{‏‏.‏
قلت‏:‏ فالباء على هذا متعلقة بـ ‏{‏كاتب‏{‏ أي ليكتب بينكم كاتب عدل، فـ ‏{‏بالعدل‏{‏ في موضع الصفة‏.‏
 
باقي الآية رقم ‏(‏ 282 ‏)‏

قوله تعالى‏{‏ولا يأب كاتب أن يكتب‏{‏ نهى الله الكاتب عن الإباء، واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد، فقال الطبري والربيع‏:‏ واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر على كاتب غيره، فيضر صاحب الدين إن امتنع، فإن كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره‏.‏ السدي‏:‏ واجب عليه في حال فراغه، وقد تقدم‏.‏ وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله ‏{‏ولا يأب‏{‏ منسوخ بقوله ‏{‏ولا يضار كاتب ولا شهيد‏{‏‏.‏

قلت‏:‏ هذا يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد كان وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع حتى نسخه قوله تعالى‏{‏ولا يضار كاتب ولا شهيد‏{‏ وهذا بعيد، فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من كان‏.‏ ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها، لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة‏.‏ ابن العربي‏:‏ والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذه حقه‏.‏ وأبى يأبى شاذ، ولم يجئ إلا قلى يقلى وأبى يأبى وغسى يغسى وجبى الخراج يجبى، وقد تقدم‏.‏
قوله تعالى‏{‏كما علمه الله فليكتب‏{‏ الكاف في ‏{‏كما‏{‏ متعلقة بقوله ‏{‏أن يكتب‏{‏ المعنى كتبا كما علمه الله‏.‏ ويحتمل أن تكون متعلقة بما في قوله ‏{‏ولا يأب‏{‏ من المعنى، أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو وليفضل كما أفضل الله عليه‏.‏ ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله ‏{‏أن يكتب‏{‏ ثم يكون ‏{‏كما علمه الله‏{‏ ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله ‏{‏فليكتب‏{‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏وليملل الذي عليه الحق‏{‏ وهو المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه‏.‏ والإملاء والإملال لغتان، أملّ وأملى، فأمل لغة أهل الحجاز وبني أسد، وتميم تقول‏:‏ أمليت‏.‏ وجاء القرآن باللغتين، قال عز وجل‏{‏فهي تملى عليه بكرة وأصيلا‏}‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والأصل أمللت، أبدل من اللام ياء لأنه أخف‏.‏ فأمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون بسبب إقراره‏.‏ وأمره تعالى بالتقوى فيما يمل، ونهى عن أن يبخس شيئا من الحق‏.‏ والبخس النقص‏.‏ ومن هذا المعنى قوله تعالى‏{‏ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن‏}‏البقرة‏:‏ 228‏]‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا‏{‏ قال بعض الناس‏:‏ أي صغيرا‏.‏ وهو خطأ فإن السفيه قد يكون كبيرا على ما يأتي بيانه‏.‏ ‏{‏أو ضعيفا‏{‏ أي كبيرا لا عقل له‏.‏ ‏{‏أو لا يستطيع أن يمل‏{‏ جعل الله الذي عليه الحق أربعة أصناف‏:‏ مستقل بنفسه يمل، وثلاثة أصناف لا يملون وتقع نوازلهم في كل زمن، وكون الحق يترتب لهم في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك، وهم السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل‏.‏ فالسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج‏.‏ والبذيء اللسان يسمى سفيها، لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة‏.‏ والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى، قال الشاعر‏:‏
{‏يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين‏}‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وساق الخطاب إلى قوله ‏{‏من رجالكم‏{‏ فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون، والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة‏.‏ فإن قالوا‏:‏ إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخرها‏.‏ قيل لهم‏:‏ هذا يخصه قوله تعالى‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏{‏ على ما يأتي بيانه‏.‏ وقوله ‏{‏من رجالكم‏{‏ دليل على أن الأعمى من أهل الشهادة لكن إذا علم يقينا، مثل ما روي عن ابن عباس قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال‏:‏ ‏(‏ترى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع‏)‏‏.‏ وهذا يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطئ‏.‏ نعم يجوز له وطء امرأته إذا عرف صوتها، لأن الإقدام على الوطء جائز بغلبة الظن، فلو زفت إليه امرأة وقيل‏:‏ هذه امرأتك وهو لا يعرفها جاز له وطؤها، ويحل له قبول هدية جاءته بقول الرسول‏.‏ ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف أو غصب لما جاز له إقامة الشهادة على المخْبَر عنه، لأن سبيل الشهادة اليقين، وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن، ولذلك قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف‏:‏ إذا علمه قبل العمى جازت الشهادة بعد العمى، ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه كالغيبة والموت في المشهود عليه‏.‏ فهذا مذهب هؤلاء‏.‏ والذي يمنع أداء الأعمى فيما تحمل بصيرا لا وجه له، وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومن العلماء من قبل شهادة الأعمى فيما طريقه الصوت، لأنه رأى الاستدلال بذلك يترقى إلى حد اليقين، ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصور والألوان‏.‏ وهذا ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير‏.‏
قلت‏:‏ مذهب مالك في شهادة الأعمى على الصوت جائزة في الطلاق وغيره إذا عرف الصوت‏.‏ قال ابن قاسم‏:‏ قلت لمالك‏:‏ فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط ولا يراه، يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت ‏؟‏ قال‏:‏ قال مالك‏:‏ شهادته جائزة‏.‏ وقال ذلك علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد وشريح الكندي والشعبي وعطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد وربيعة وإبراهيم النخعي ومالك والليث‏.‏
قوله تعالى‏{‏فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان‏{‏ المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين، هذا قول الجمهور‏.‏ ‏{‏فرجل‏{‏ رفع بالابتداء، ‏{‏وامرأتان‏{‏ عطف عليه والخبر محذوف‏.‏ أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما‏.‏ ويجوز النصب في غير القرآن، أي فاستشهدوا رجلا وامرأتين‏.‏ وحكى سيبويه‏:‏ إن خنجرا فخنجرا‏.‏ وقال قوم‏:‏ بل المعنى فإن لم يكن رجلان، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف، فلفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهر منه قول الجمهور، أي إن لم يكن المستشهد رجلين، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما فليستشهد رجلا وامرأتين‏.‏ فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية، ولم يذكرها في غيرها، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور، بشرط أن يكون معهما رجل‏.‏ وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها، لأن الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها، فجعل فيها التوثق تارة بالكتبة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال‏.‏ ولا يتوهم عاقل أن قوله تعالى‏{‏إذا تداينتم بدين‏{‏ يشتمل على دين المهر مع البضع، وعلى الصلح على دم العمد، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين، بل هي شهادة على النكاح‏.‏ وأجاز العلماء شهادتهن منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة‏.‏ وعلى مثل ذلك أجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة‏.‏

وقد اختلف العلماء في شهادة الصبيان في الجراح‏:‏
فأجازها مالك ما لم يختلفوا ولم يفترقوا‏.‏ ولا يجوز أقل من شهادة اثنين منهم على صغير لكبير ولكبير على صغير‏.‏ وممن كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح عبدالله بن الزبير‏.‏ وقال مالك‏:‏ وهو الأمر عندنا المجتمع عليه‏.‏ ولم يجز الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه شهادتهم، لقوله تعالى‏{‏من رجالكم‏{‏ وقوله‏{‏ممن ترضون‏{‏ وقوله‏{‏ذوي عدل منكم‏}‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ وهذه الصفات ليست في الصبي‏.‏
لما جعل الله سبحانه شهادة امرأتين بدل شهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه، فكما له أن يحلف مع الشاهد عندنا، وعند الشافعي كذلك، يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضية‏.‏ وخالف في هذا أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا اليمين مع الشاهد وقالوا‏:‏ إن الله سبحانه قسم الشهادة وعددها، ولم يذكر الشاهد واليمين، فلا يجوز القضاء به لأنه يكون قسما زائدا على ما قسمه الله، وهذه زيادة على النص، وذلك نسخ‏.‏ وممن قال بهذا القول الثوري والأوزاعي وعطاء والحكم بن عتيبة وطائفة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ الحكم باليمين مع الشاهد منسوخ بالقرآن‏.‏ وزعم عطاء أن أول من قضى به عبدالملك بن مروان، وقال‏:‏ الحكم‏:‏ القضاء باليمين والشاهد بدعة، وأول من حكم به معاوية‏.‏ وهذا كله غلط وظن لا يغني من الحق شيئا، وليس من نفى وجهل كمن أثبت وعلم وليس في قول الله تعالى‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏{‏ الآية، ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين مع الشاهد ولا أنه لا يتوصل إلى الحقوق ولا تستحق إلا بما ذكر فيها لا غير، فإن ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطالب، فإن ذلك يستحق به المال إجماعا وليس في كتاب الله تعالى، وهذا قاطع في الرد عليهم‏.‏ قال مالك‏:‏ فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يقال له‏:‏ أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه ‏؟‏ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق، أن حقه لحق، وثبت حقه على صاحبه‏.‏ فهذا مما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان، فبأي شيء أخذ هذا وفي أي كتاب الله وجده‏؟‏ فمن أقر فليقر باليمين مع الشاهد‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ ثم العجب مع شهرة الأحاديث وصحتها بدعوا من عمل بها حتى نقضوا حكمه واستقصروا رأيه، مع أنه قد عمل بذلك الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب ومعاوية وشريح وعمر بن عبدالعزيز - وكتب به إلى عماله - وإياس بن معاوية وأبو سلمة بن عبدالرحمن وأبو الزناد وربيعة، ولذلك قال مالك‏:‏ وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من عمل السنة، أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم ‏!‏ هذا إغفال شديد، ونظر غير سديد‏.‏‏"‏روى الأئمة ‏{‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏النساء‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وكنهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع مع قوله‏{‏قل لا أجد‏}‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏‏.‏ وكالمسح على الخفين، والقرآن إنما ورد بغسل الرجلين أو مسحهما، ومثل هذا كثير‏.‏ ولو جاز أن يقال‏:‏ إن القرآن نسخ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد، لجاز أن يقال‏:‏ إن القرآن في قوله عز وجل‏{‏وأحل الله البيع وحرم الربا‏}‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ وفي قوله‏{‏إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم‏}‏النساء‏:‏ 29‏]‏ ناسخ لنهيه عن المزابنة وبيع الغرر وبيع ما لم يخلق، إلى سائر ما نهى عنه في البيوع، وهذا لا يسوغ لأحد، لأن السنة مبينة للكتاب‏.‏
فإن قيل‏:‏ إن ما ورد من الحديث قضية في عين فلا عموم‏.‏ قلنا‏:‏ بل ذلك عبارة عن تقعيد هذه القاعدة، فكأنه قال‏:‏ أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم باليمين مع الشاهد‏.‏ ومما يشهد لهذا التأويل ما رواه أبو داود في {‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه‏}‏البقرة‏:‏204‏]‏ إلى قوله‏{‏والله لا يحب الفساد‏}‏البقرة‏:‏205‏]‏ وقال‏{‏وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم‏}‏المنافقين‏:‏ 4‏]‏ الآية‏.‏
قوله تعالى‏{‏أن تضل إحداهما‏{‏ قال أبو عبيد‏:‏ معنى تضل تنسى‏.‏ والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء، ويبقى المرء حيران ببن ذلك ضالا‏.‏ ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال‏:‏ ضل فيها‏.‏ وقرأ حمزة ‏{‏إن‏{‏ بكسر الهمزة على معنى الجزاء، والفاء في قوله‏{‏فتذكر‏{‏ جوابه، وموضع الشرط وجوابه رفع على الصفة للمرأتين والرجل، وارتفع ‏{‏تذكر‏{‏ على الاستئناف، كما ارتفع قوله‏{‏ومن عاد فينتقم الله منه‏}‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ هذا قول سيبويه‏.‏ ومن فتح ‏{‏أن‏{‏ فهي مفعول له والعامل فيها محذوف‏.‏ وانتصب ‏{‏فتذكر‏{‏ على قراءة الجماعة عطفا على الفعل المنصوب بأن‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز ‏{‏تضل‏{‏ بفتح التاء والضاد، ويجوز تضل بكسر التاء وفتح الضاد‏.‏ فمن قال‏{‏تضل‏{‏ جاء به على لغة من قال‏:‏ ضَلِلْت تَضَل‏.‏ وعلى هذا تقول تِضل فتكسر التاء لتدل على أن الماضي فعلت‏.‏ وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر ‏{‏أن تضل‏{‏ بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى، وهكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني‏.‏ وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة‏.‏ تقول‏:‏ أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما‏.‏
قوله تعالى‏{‏فتذكر‏{‏ خفف الذال والكاف ابن كثير وأبو عمرو، وعليه فيكون المعنى أن تردها ذكرا في الشهادة، لأن شهادة المرأة نصف شهادة، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر، قاله سفيان بن عيينة وأبو عمرو بن العلاء‏.‏ وفيه بعد، إذ لا يحصل في مقابلة الضلال الذي معناه النسيان إلا الذكر، وهو معنى قراءة الجماعة ‏{‏فتذكر‏{‏ بالتشديد، أي تنبهها إذا غفلت ونسيت‏.‏
قلت‏:‏ وإليها ترجع قراءة أبي عمرو، أي إن تنس إحداهما فتذكرها الأخرى، يقال‏:‏ تذكرت الشيء وأذكرته وذكرته بمعنى، قاله في الصحاح‏.‏
قوله تعالى‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏{‏ قال الحسن‏:‏ جمعت هذه الآية أمرين، وهما ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها، وقاله ابن عباس‏.‏ وقال قتادة والربيع وابن عباس‏:‏ أي لتحملها وإثباتها في الكتاب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ معنى الآية إذا دعيت إلى أداء شهادة وقد حصلت عندك‏.‏ وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا، قال مجاهد‏:‏ فأما إذا دعيت لتشهد أولا فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا، وقاله أبو مجلز وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم‏.‏ وعليه فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحالة التي يجوز أن تراد بقوله تعالى‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏{‏ لإثبات الشهادة فإذا ثبتت شهادتهم ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو بحضورهما عند الحاكم، على ما يأتي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر، وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له‏.‏ وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد، لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء‏.‏
قلت‏:‏ وقد يستلوح من هذه الآية دليل على أن جائزا للإمام أن يقيم للناس شهودا ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا لها، وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت‏.‏ فيكون المعنى ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا‏.‏ والله أعلم‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذه شهادة بالأجرة، قلنا‏:‏ إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال، وذلك كأرزاق القضاة والولاة وجميع المصالح التي تعن للمسلمين وهذا من جملتها‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد قال تعالى‏{‏والعاملين عليها‏}‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ ففرض لهم‏.‏
لما قال تعالى‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏{‏ دل على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم، وهذا أمر بني عليه الشرع وعمل به في كل زمان وفهمته كل أمة، ومن أمثالهم‏{‏في بيته يؤتى الحكم‏{‏‏.‏
وإذا ثبت هذا فالعبد خارج عن جملة الشهداء، وهو يخص عموم قوله‏{‏من رجالكم‏{‏ لأنه لا يمكنه أن يجيب، ولا يصح له أن يأتي، لأنه لا استقلال له بنفسه، وإنما يتصرف بإذن غيره، فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منزل الولاية‏.‏ نعم ‏!‏ وكما انحط عن فرض الجمعة والجهاد والحج، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏
قال علماؤنا‏:‏ هذا في حال الدعاء إلى الشهادة‏.‏ فأما من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقها الذي ينتفع بها، فقال قوم‏:‏ أداؤها ندب لقوله تعالى‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏{‏ ففرض الله الأداء عند الدعاء، فإذا لم يدع كان ندبا، لقوله عليه السلام‏:‏ {‏وأقيموا الشهادة لله‏}‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ وقال‏{‏إلا من شهد بالحق وهم يعلمون‏}‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته‏}‏البقرة‏:‏ 283‏]‏‏.‏ قال‏:‏ نسخت هذه الآية ما قبلها‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول الحسن والحكم وعبدالرحمن بن زيد‏.‏ قال الطبري‏:‏ وهذا لا معنى له، لأن هذا حكم غير الأول، وإنما هذا حكم من لم يجد كاتبا قال الله عز وجل‏{‏وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا (1) فليؤد الذي اؤتمن أمانته‏}‏البقرة‏:‏ 283‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول لجاز أن يكون قوله عز وجل‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏النساء‏:‏ 43‏]‏ الآية ناسخا لقوله عز وجل‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ الآية ولجاز أن يكون قوله عز وجل‏{‏فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين‏}‏النساء‏:‏ 92‏]‏ ناسخا لقوله عز وجل‏{‏فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏النساء‏:‏ 92‏]‏ وقال بعض العلماء‏:‏ إن قوله تعالى‏{‏فإن أمن بعضكم بعضا‏{‏ لم يتبين تأخر نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد، بل وردا معا‏.‏ ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة‏.‏ قال‏:‏ وقد روي عن ابن عباس أنه قال لما قيل له‏:‏ إن آية الدين منسوخة قال‏:‏ لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ قال‏:‏ والإشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا، منها الكتاب، ومنها الرهن، ومنها الإشهاد‏.‏ ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب‏.‏ فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد‏.‏ وما زال الناس يتبايعون حضرا وصفرا وبرا وبحرا وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه‏.‏
قلت‏:‏ هذا كله استدلال حسن، وأحسن منه ما جاء من صريح السنة في ترك الإشهاد، وهو ما خرجه الدارقطني عن طارق بن عبدالله المحاربي قال‏:‏ ‏(‏أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة‏:‏ حتى نزلنا قريبا من المدينة ومعنا ظعينة لنا‏.‏ فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه، فقال‏:‏ من أين أقبل القوم ‏؟‏ فقلنا‏:‏ من الربذة وجنوب الربذة‏.‏ قال‏:‏ ومعنا جمل أحمر، فقال‏:‏ تبيعوني جملكم هذا‏؟‏ فقلنا نعم‏.‏ قال بكم ‏؟‏ قلنا‏:‏ بكذا وكذا صاعا من تمر‏.‏ قال‏:‏ فما استوضعنا شيئا وقال‏:‏ قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا، فتلاومنا بيننا وقلنا‏:‏ أعطيتم جملكم من لا تعرفونه‏!‏ فقالت الظعينة‏:‏ لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم‏.‏ ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه‏.‏ فلما كان العشاء أتانا رجل فقال‏:‏ السلام عليكم، أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى تستوفوا‏.‏ قال‏:‏ فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا‏)‏‏.‏ وذكر الحديث الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي، الحديث‏.‏ وفيه‏:‏ فطفق الأعرابي يقول‏:‏ هلم شاهدا يشهد أني بعتك - قال خزيمة بن ثابت‏:‏ أنا أشهد أنك قد بعته‏.‏ فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال‏:‏ ‏(‏بم تشهد‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ بتصديقك يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين‏.‏ أخرجه النسائي وغيره‏.‏
قوله تعالي {‏ولا يضار كاتب ولا شهيد‏{‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ لا يكتب الكاتب ما لم يمل عليه

ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها‏.‏ قاله الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم‏.‏
الثاني‏:‏ وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن المعنى لا يمتنع الكاتب أن يكتب ولا الشاهد أن يشهد‏.‏ ‏{‏ولا يضار‏{‏ على هذين القولين أصله يضارر بكسر الراء، ثم وقع الإدغام، وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة‏.‏ قال النحاس‏:‏ ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول، قال‏:‏ لأن بعده‏.‏ ‏{‏وإن تفعلوا فإن فسوق بكم‏}‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ فالأولى أن تكون، من شهد بغير الحق أو حرف في الكتابة أن يقال له‏:‏ فاسق، فهو أولى بهذا ممن سأل شاهدا أن يشهد وهو مشغول‏.‏ وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق يضارر بكسر الراء الأولى‏.‏
الثالث‏:‏
وقال مجاهد والضحاك وطاوس والسدي وروي عن ابن عباس‏:‏ معنى الآية
‏(‏ولا يضار كاتب ولا شهيد‏)‏ بأن يدعى الشاهد إلى الشهادة والكاتب إلى الكتب وهما مشغولان، فإذا اعتذرا بعذرهما أخرجهما وآذاهما، وقال‏:‏ خالفتما أمر الله، ونحو هذا من القول فيضر بهما‏.‏ وأصل ‏{‏يضار‏{‏ على هذا يضارر بفتح الراء، وكذا قرأ ابن مسعود ‏{‏يضارر‏{‏ بفتح الراء الأولى، فنهى الله سبحانه عن هذا، لأنه لو أطلقه لكان فيه شغل لهما عن أمر دينهما ومعاشهما‏.‏ ولفظ المضارة، إذ هو من اثنين، يقتضي هذه المعاني‏.‏ والكاتب والشهيد على القولين الأولين رفع بفعلهما، وعلى القول الثالث رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله‏.‏
قوله تعالى‏{‏وإن تفعلوا‏{‏ يعني المضارة‏.‏ ‏{‏فإنه فسوق بكم‏{‏ أي معصية، عن سفيان الثوري‏.‏ فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان، وذلك من الكذب المؤذي في الأموال والأبدان، وفيه إبطال الحق‏.‏ وكذلك إذايتهما إذا كانا مشغولين معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله‏.‏ وقوله ‏{‏بكم‏{‏ تقديره فسوق حال بكم‏.‏
قوله تعالى‏{‏واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم‏{‏ وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه، أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانا، أي فيصلا يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى‏
{‏يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا‏}‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏‏.‏ والله أعلم‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏283‏)‏

‏{‏وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم‏}‏

لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر‏.‏ فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن‏.‏ {‏أوفوا بالعقود‏}‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ وهذا عقد، وقوله ‏{‏بالعهد‏}‏الإسراء‏:‏ 34‏]‏ وهذا عهد‏.‏ {‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏}‏النساء‏:‏ 5‏]‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏وليتق الله ربه‏{‏ أي في ألا يكتم من الحق شيئا‏.‏ وقوله‏{‏ولا تكتموا الشهادة‏{‏ تفسير لقوله‏{‏ولا يضارر‏{‏ بكسر العين‏.‏ نهى الشاهد عن أن يضر بكتمان الشهادة، وهو نهي على الوجوب بعدة قرائن منها الوعيد‏.‏ وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد، ويخبر حيثما استخبر، قال‏:‏ ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن ‏{‏ولا يكتموا‏{‏ بالياء، جعله نهيا للغائب‏.‏
إذا كان على الحق شهود تعين عليهم أداؤها على الكفاية، فإن أداها اثنان واجتزأ الحاكم بهما سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يجتزأ بها تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات‏.‏ وهذا يعلم بدعاء صاحبها، فإذا قال له‏:‏ أحي حقي بأداء ما عندك لي من الشهادة تعين ذلك عليه‏.‏
قوله تعالى‏{‏ومن يكتمها فإنه آثم قلبه‏{‏ خص القلب بالذكر إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله كما قال عليه السلام، فعبر بالبعض عن الجملة، وقد تقدم في أول السورة‏.‏ وقال الكيا‏:‏ لما عزم على ألا يؤديها وترك أداءها باللسان رجع المأثم إلى الوجهين جميعا‏.‏ فقوله ‏{‏آثم قلبه‏{‏ مجاز، وهو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد، وهو من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني‏.‏ يقال‏:‏ إثم القلب سبب مسخه، والله تعالى إذا مسخ قلبا جعله منافقا وطبع عليه، نعوذ بالله منه وقد تقدم في أول السورة‏.‏ و‏{‏قلبه‏{‏ رفع بـ ‏{‏آثم‏{‏ و‏{‏آثم‏{‏ خبر ‏{‏إن‏{‏، وان شئت رفعت آثما بالابتداء، و‏{‏قلبه‏{‏ فاعل يسد مسد الخبر والجملة خبر إن‏.‏ وإن شئت رفعت آثما على أنه خبر الابتداء تنوي به التأخير‏.‏ وإن شئت كان ‏{‏قلبه‏{‏ بدلا من ‏{‏آثم‏{‏ بدل البعض من الكل‏.‏ وإن شئت كان بدلا من المضمر الذي في ‏{‏آثم‏{‏‏.‏
وهنا ثلاث مسائل‏:‏
الأولى‏:‏ اعلم أن الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البين ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين، لئلا يسول له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق، ولأجله حرم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغن والتباين‏.‏ فمن ذلك ما حرمه الله من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر‏}‏المائدة‏:‏ 91‏]‏ الآية‏.‏ فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدين، قال الله تعالى‏{‏ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم‏}‏النساء‏:‏ 66‏]‏ الآية‏.‏
الثانية‏:‏‏"{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما‏}‏النساء‏:‏ 5‏]‏ {‏فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏النساء‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، قال لسعد‏:‏ ‏(‏إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ما نفعني مال كمال أبي بكر‏)‏‏.‏ وقال لعمرو بن العاص‏:‏ ‏(‏نعم المال الصالح للرجل الصالح‏)‏‏.‏ ودعا لأنس، وكان في آخر دعائه‏:‏ ‏(‏اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه‏)‏‏.‏ وقال كعب‏:‏ يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك‏)‏‏.‏ قال الجوزي‏:‏ هذه الأحاديث مخرجة في الصحاح، وهي على خلاف ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة، وأن حبسه ينافي التوكل، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته، وأن خلقا كثيرا اجتنبوه لخوف ذلك، وأن جمعه من وجهه ليعز، وأن سلامة القلب من الافتتان به تقل، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخر يندر، فلهذا خيف فتنته‏.‏ فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البلغة من حلها فذلك أمر لا بد منه وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظر في مقصوده، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته، وادخر لحوادث زمانه وزمانهم، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات‏.‏ وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم بجمعه، فحرصوا عليه وسألوا زيادته‏.‏ ولما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حضر فرسه أجرى الفرس حتى قام ثم رمى سوطه، فقال‏:‏ ‏(‏أعطوه حيث بلغ سوطه‏)‏‏.‏ وكان سعد بن عبادة يقول في دعائه‏:‏ اللهم وسع علي‏.‏ وقال إخوة يوسف‏{‏ونزداد كيل بعير‏{‏‏.‏ وقال شعيب لموسى‏{‏فإن أتممت عشرا فمن عندك‏{‏‏.‏ وإن أيوب لما عوفي نثر عليه رجل من جراد من ذهب، فأخذ يحثي في ثوبه ويستكثر منه، فقيل له‏:‏ أما شبعت ‏؟‏ فقال‏:‏ يا رب فقير يشبع من فضلك ‏؟‏‏.‏ وهذا أمر مركوز في الطباع‏.‏ وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم، وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال‏.‏ من وضع الجهال وخفيت عدم صحته عنه للحوقه بالقوم‏.‏ وقد روي بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت، لأن في سنده ابن لهيعة وهو مطعون فيه‏.‏ قال يحيى‏:‏ لا يحتج بحديثه‏.‏ والصحيح في التاريخ أن أبا ذرتوفي سنة خمس وعشرين، وعبدالرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين وثلاثين، فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين‏.‏ ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع، ثم كيف تقول الصحابة‏:‏ إنا نخاف على عبدالرحمن‏!‏ أو ليس الإجماع منعقدا على إباحة جمع المال من حله، فما وجه الخوف مع الإباحة‏؟‏ أو يأذن الشرع في شيء ثم يعاقب عليه‏؟‏ هذا قلة فهم وفقه‏.‏ ثم أينكر أبو ذر على عبدالرحمن، وعبدالرحمن خير من أبي ذر بما لا يتقارب ‏؟‏ ثم تعلقه بعبدالرحمن وحده دليل على أنه لم يسير سير الصحابة؛ فإنه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير‏.‏ والبهار الحمل‏.‏ وكان مال الزبير خمسين ألفا ومائتي ألف‏.‏ وخلف ابن مسعود تسعين ألفا‏.‏ وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم على أحد‏.‏ وأما قوله‏{‏إن عبدالرحمن يحبو حبوا يوم القيامة‏{‏ فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث، وأعوذ بالله أن يحبو عبدالرحمن في القيامة؛ أفترى من سبق وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر والشورى يحبو ‏؟‏ ثم الحديث يرويه عمارة بن زاذان؛ وقال البخاري‏:‏ ربما اضطرب حديثه‏.‏ وقال أحمد‏:‏ يروي عن أنس أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ لا يحتج به‏.‏ وقال الدارقطني‏:‏ ضعيف‏.‏ وقوله‏{‏ترك المال الحلال أفضل من جمعه‏{‏ ليس كذلك، ومتى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء‏.‏ وكان سعيد بن المسيب يقول‏:‏ لا خير فيمن لا يطلب المال، يقضي به دينه ويصون به عرضه؛ فإن مات تركه ميراثا لمن بعده‏.‏ وخلف ابن المسيب أربعمائة دينار، وخلف سفيان الثوري مائتين، وكان يقول‏:‏ المال في هذا الزمان سلاح‏.‏ وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء؛ وإنما تحاماه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات، وجمع الهمم فقنعوا باليسير‏.‏ فلو قال هذا القائل‏:‏ إن التقليل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم‏.‏ قلت‏:‏ ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد‏)‏‏.‏ وسيأتي بيانه في ‏{‏المائدة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏284‏)‏

‏{‏لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير‏}‏ قوله تعالى‏{‏لله ما في السماوات وما في الأرض‏{‏ تقدم معناه‏.‏ ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏{‏ اختلف الناس في معنى قوله تعالى‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏{‏ على أقوال خمسة‏:‏ الأول‏:‏ أنها منسوخة، قاله ابن

ُعباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وجماعة من الصحابة والتابعين، وأنه بقي هذا التكليف حولا حتى أنزل الله الفرج بقوله‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏}‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏ وهو قول ابن مسعود وعائشة وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وغيرهم ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ قال‏:‏ ‏(‏قد فعلت‏)‏‏:‏ في رواية فلما فعلوا ذلك نسخها الله ثم أنزل تعالى‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏{‏ وسيأتي‏.‏ الثاني‏:‏ قال ابن عباس وعكرمة
والشعبي ومجاهد‏:‏ إنها محكمة مخصوصة، وهي في معنى الشهادة التي نهى عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب‏.‏ الثالث‏:‏ أن الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين، وقاله مجاهد أيضا‏.‏ الرابع‏:‏ أنها محكمة عامة غير
منسوخة، والله محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، ذكره الطبري عن قوم، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا‏.‏ روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول‏:‏ ‏(‏إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم‏)‏ فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، فذلك قوله‏{‏يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء‏}‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ وهو قوله عز وجل‏{‏ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم‏}‏البقرة‏:‏ 225‏]‏ من الشك والنفاق‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏الأنفال‏:‏ 65‏]‏ فهذا لفظه الخبر ولكن معناه التزموا هذا واثبتوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ بعد ذلك‏.‏ وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه الآية في ‏{‏البقرة‏{‏ أشبه شيء بها‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام إضمار وتقييد، تقديره يحاسبكم به الله إن شاء، وعلى هذا فلا نسخ‏.‏ وقال النحاس‏:‏ ومن أحسن ما قيل في الآية وأشبه بالظاهر قول ابن عباس‏:‏ إنها عامة، ثم أدخل حديث ابن عمر في النجوى، ‏قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه ـ من ولاية الكفار ـ يعلمه الله‏}‏آل عمران‏:‏ 29‏]‏ يدل عليه ما قبله من قوله‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏ قلت‏:‏ وهذا فيه بعد، لأن سياق الآية لا يقتضيه، وإنما ذلك بين في ‏{‏آل عمران‏{‏ والله أعلم‏.‏ وقد قال سفيان بن عيينة‏:‏ بلغني أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأتون قومهم بهذه الآية ‏{‏لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏{‏‏.‏ قوله تعالى‏{‏فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء‏{‏ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي ‏{‏فيغفر ويعذب‏{‏ بالجزم عطف على الجواب‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم بالرفع فيهما على القطع، أي فهو يغفر ويعذب‏.‏ وروي عن ابن عباس والأعرج وأبي العالية وعاصم الجحدري بالنصب فيهما على إضمار ‏{‏أن‏{‏‏.‏ وحقيقته أنه عطف على المعنى، كما في قوله تعالى‏{‏فيضاعفه له‏{‏ وقد تقدم‏.‏ والعطف على اللفظ أجود للمشاكلة، كما قال الشاعر‏:
‏ ومتى ما يع منك كلاما يتكلم فيجبك بعقل
قال النحاس‏:‏ وروي عن طلحة بنمصرف ‏{‏يحاسبكم به الله يغفر‏{‏ بغير فاء على البدل‏.‏ ابن عطية‏:‏ وبها قرأ الجعفي وخلاد‏.‏ وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود‏.‏ قال ابن جني‏:‏ هي على البدل من ‏{‏يحاسبكم‏{‏ وهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر‏:‏
رويدا بني شيبان بعض وعيدكمتلاقوا غدا خيلي على سفوان تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى إذا ما غدت في المأزق المتدانيفهذا على البدل‏.‏ وكرر الشاعر
الفعل، لأن الفائدة فيما يليه من القول‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأجود من الجزم لو كان بلا فاء الرفع، يكون في موضع الحال، كما قال الشاعر‏:‏ متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد خير نار عندها خير موقد

الآية رقم ‏(‏285‏)

‏ ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير‏}‏ قوله تعالى‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه‏{‏

روي عن الحسن ومجاهد والضحاك‏:‏ أن هذه الآية كانت في قصة المعراج، وهكذا روي في بعض الروايات عن ابن عباس، وقال بعضهم‏:‏ جميع القرآن نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم إلا هذه الآية فإن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو الذي سمع ليلة المعراج، وقال بعضهم‏:‏ لم يكن ذلك في قصة المعراج، لأن ليلة المعراج كانت بمكة وهذه السورة كلها مدنية، فأما من قال إنها كانت ليلة المعراج قال‏:‏ لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ في السماوات في مكان مرتفع ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى فقال له جبريل‏:‏ إني لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر بالمجاوزة أحد هذا الموضع غيرك فجاوز النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله، فأشار إليه جبريل بأن سلم على ربك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ التحيات لله والصلوات والطيبات‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لأمته حظ في السلام فقال‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل وأهل السماوات كلهم‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‏.‏ قال الله تعالى‏{‏آمن الرسول‏{‏ على معنى الشكر أي صدق الرسول ‏{‏بما أنزل إليه من ربه‏{‏ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشارك أمته في الكرامة والفضيلة فقال‏{‏والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله‏{‏ يعني يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بأحد منهم ولا نفرق بينهم كما فرقت اليهود والنصارى، فقال له ربه كيف قبولهم بآي الذي أنزلتها ‏؟‏ وهو قوله‏{‏إن تبدوا ما في أنفسكم‏{‏ {‏لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير‏}البقرة :‏ 284‏]‏ فإنه ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير‏}‏البقرة‏:‏ 285‏]‏‏.‏ فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله عز وجل‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏{‏ ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ ‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ ‏{‏ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ ‏{‏واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ أخرجه مسلم عن أبي هريرة‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ قوله في الرواية الأولى ‏(‏قد فعلت‏)‏ وهنا قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ دليل على نقل الحديث بالمعنى، وقد تقدم‏.‏ ولما تقرر الأمر على أن قالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، ورفع المشقة في أمر الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والانجلاء إذ قالوا‏:‏ سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله تعالى، أعاذنا الله من نقمه بمنه وكرمه‏.‏ وفي الحديث ‏{‏فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب‏}‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏ قرأت الجماعة ‏{‏ورسله‏{‏ بضم السين، وكذلك ‏{‏رسُلنا ورسُلكم ورسلك‏{‏، إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف ‏{‏رسْلنا ورسْلكم‏{‏، وروي عنه في ‏{‏رسلك‏{‏ التثقيل والتخفيف‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من قرأ ‏{‏رسلك‏{‏ بالتثقيل فذلك أصل الكلمة، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد، مثل عنق وطنب‏.‏ وإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل، وقال معناه مكي‏.‏ وقرأ جمهور الناس ‏{‏لا نفرق‏{‏ بالنون، والمعنى يقولون لا نفرق، فحذف القول، وحذف القول كثير، قال الله تعالى‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب‏.‏ سلام عليكم‏}‏الرعد‏:‏ 23‏]‏‏:‏ أي يقولون سلام عليكم‏.‏ وقال‏{‏ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا‏}‏آل عمران‏:‏ 191‏]‏ أي يقولون ربنا، وما كان مثله‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويعقوب ‏{‏لا يفرق‏{‏ بالياء، وهذا على لفظ كل‏.‏ قال هارون‏:‏ وهي في حرف ابن مسعود ‏{‏لا يفرقون‏{‏‏.‏ وقال ‏{‏بين أحد‏{‏ على الإفراد ولم يقل آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد والجميع، كما قال تعالى‏{‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏الحاقة‏:‏ 47‏]‏ فـ ‏{‏حاجزين‏{‏ صفة لأحد، لأن معناه الجمع‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أحلت الغنائم لأحد سود الرؤوس غيركم‏)‏ وقال رؤبة‏:
‏ إذا أمور الناس دينت دينكا لا يرهبون أحدا من دونكا
ُومعنى هذه الآية‏:‏ أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض‏.‏ قوله تعالى‏{‏وقالوا سمعنا وأطعنا‏{‏ فيه حذف، أي سمعنا سماع قابلين‏.‏ وقيل‏:‏ سمع بمعنى قبل، كما يقال‏:‏ سمع الله لمن حمده فلا يكون فيه حذف‏.‏ وعلى الجملة فهذا القول يقتضي المدح لقائله‏.‏ والطاعة قبول الأمر‏.‏ وقوله ‏{‏غفرانك‏{‏ مصدر كالكفران والخسران، والعامل فيه فعل مقدر، تقديره‏:‏ اغفر غفرانك، قاله الزجاج‏.‏ وغيره‏:‏ نطلب أو أسأل غفرانك‏.‏ ‏{‏وإليك المصير‏{‏ إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل‏:‏ ‏(‏إن الله قد أحل الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه‏)‏ فسأل إلى آخر السورة‏ .

‏الآية رقم ‏(‏286‏)

‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏{‏ التكليف هو الأمر بما يشق عليه وتكلفت الأمر تجشمته، حكاه الجوهري‏.‏ والوسع‏:‏ الطاقة والجدة‏.‏ وهذا خبر جزم‏.‏ نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر‏.‏ وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب، فإني تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ منزله لم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثارة فشقه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرُّب وهو يقول‏:‏ ‏{‏سيصلى نارا‏}‏المسد‏:‏ 3‏]‏ معناه إن وافى، حكاه ابن عطية‏.‏ ‏{‏ويكلف‏{‏ يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف، تقديره عبادة أو شيئا‏.‏ فالله سبحانه بلطفه وإنعامه علينا وإن كان قد كلفنا بما يشق ويثقل كثبوت الواحد للعشرة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه ومفارقة أهله ووطنه وعادته، لكنه لم يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المؤلمة، كما كلف من قبلنا بقتل أنفسهم وقرض موضع البول من ثيابهم وجلودهم، بل سهل ورفق ووضع عنا الإصر والأغلال التي وضعها على من كان قبلنا‏.‏ فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة‏.‏ قوله تعالى‏{‏لها ما كسبت وعلي
ها ما اكتسبت‏{‏ يريد من الحسنات والسيئات قاله السدي‏.‏ وجماعة المفسرين لا خلاف بينهم في ذلك، قاله ابن عطية‏.‏ وهو مثل قوله ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ ‏{‏ولا تكسب كل نفس إلا عليها‏}‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏‏.‏ والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان‏.‏ وجاءت العبارة في الحسنات بـ ‏{‏لها‏{‏ من حيث هي مما يفرح المرء بكسبه ويسر بها، فتضاف إلى ملكه وجاءت في السيئات بـ ‏{‏عليها‏{‏ من حيث هي أثقال وأوزار ومتحملات صعبة، وهذا كما تقول‏:‏ لي مال وعلى دين‏.‏ وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال‏ {‏فمهل الكافرين أمهلهم رويدا‏}‏الطارق‏:‏ 17‏]‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله تعالى ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا، لهذا المعنى‏.‏ في هذه الآية دليل على صحة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد كسبا واكتسابا، ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خلق ولا خالق، خلافا لمن أطلق ذلك من مجترئة المبتدعة‏.‏ ومن أطلق من أئمتنا ذلك على العبد، وأنه فاعل فبالمجاز المحض‏.‏ وقال المهدوي وغيره‏:‏ وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا صحيح في نفسه ولكن من غير هذه الآية‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ قوله تعالى‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏{‏ يستدل به على أن من قتل غيره بمثقل أو بخنق أو تغريق فعليه ضمانه قصاصا أو دية، فخلافا لمن جعل ديته على العاقلة، وذلك يخالف الظاهر، ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب لا يقتضي سقوطه عن شريكه‏.‏ ويدل على وجوب الحد على العاقلة إذا مكنت مجنونا من نفسها‏.‏ وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏{‏ذكر علماؤنا هذه الآية في أن القود واجب على شريك الأب خلافا لأبي حنيفة، وعلى شريك الخاطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة، لأن كل واحد منهما قد اكتسب القتل‏.‏ وقالوا‏:‏ إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص لا يكون شبهة في درء ما يدرأ بالشبهة‏{‏‏.‏ قوله تعالى‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏{‏ المعنى‏:‏ أعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما، {‏وأخذتم على ذلكم إصري‏{‏‏.‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ والإصر‏:‏ الضيق والذنب والثقل‏.‏ والإصار‏:‏ الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال‏:‏ أصر يأصر أصرا حبسه‏.‏ والإصر - بكسر الهمزة - من ذلك قال الجوهري‏:‏ والموضع مأصِر ومأصَر والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ ويمكن أن يستدل بهذا الظاهر في كل عبادة ادعى الخصم تثقيلها، فهو نحو قوله تعالى ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏المؤمنون‏:‏ 78‏]‏ وكقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الدين يسر فيسروا ولا تعسروا‏)‏‏.‏ اللهم شق على من شق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قلت‏:‏ ونحوه قال الكيا الطبري قال‏:‏ يحتج به في نفي الحرج والضيق المنافي ظاهره للحنيفية السمحة، وهذا بين‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏283‏)‏

‏{‏وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم‏}‏

لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر‏.‏ فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن‏.‏ {‏أوفوا بالعقود‏}‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ وهذا عقد، وقوله ‏{‏بالعهد‏}‏الإسراء‏:‏ 34‏]‏ وهذا عهد‏.‏ {‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏}‏النساء‏:‏ 5‏]‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏وليتق الله ربه‏{‏ أي في ألا يكتم من الحق شيئا‏.‏ وقوله‏{‏ولا تكتموا الشهادة‏{‏ تفسير لقوله‏{‏ولا يضارر‏{‏ بكسر العين‏.‏ نهى الشاهد عن أن يضر بكتمان الشهادة، وهو نهي على الوجوب بعدة قرائن منها الوعيد‏.‏ وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد، ويخبر حيثما استخبر، قال‏:‏ ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن ‏{‏ولا يكتموا‏{‏ بالياء، جعله نهيا للغائب‏.‏
إذا كان على الحق شهود تعين عليهم أداؤها على الكفاية، فإن أداها اثنان واجتزأ الحاكم بهما سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يجتزأ بها تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات‏.‏ وهذا يعلم بدعاء صاحبها، فإذا قال له‏:‏ أحي حقي بأداء ما عندك لي من الشهادة تعين ذلك عليه‏.‏
قوله تعالى‏{‏ومن يكتمها فإنه آثم قلبه‏{‏ خص القلب بالذكر إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله كما قال عليه السلام، فعبر بالبعض عن الجملة، وقد تقدم في أول السورة‏.‏ وقال الكيا‏:‏ لما عزم على ألا يؤديها وترك أداءها باللسان رجع المأثم إلى الوجهين جميعا‏.‏ فقوله ‏{‏آثم قلبه‏{‏ مجاز، وهو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد، وهو من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني‏.‏ يقال‏:‏ إثم القلب سبب مسخه، والله تعالى إذا مسخ قلبا جعله منافقا وطبع عليه، نعوذ بالله منه وقد تقدم في أول السورة‏.‏ و‏{‏قلبه‏{‏ رفع بـ ‏{‏آثم‏{‏ و‏{‏آثم‏{‏ خبر ‏{‏إن‏{‏، وان شئت رفعت آثما بالابتداء، و‏{‏قلبه‏{‏ فاعل يسد مسد الخبر والجملة خبر إن‏.‏ وإن شئت رفعت آثما على أنه خبر الابتداء تنوي به التأخير‏.‏ وإن شئت كان ‏{‏قلبه‏{‏ بدلا من ‏{‏آثم‏{‏ بدل البعض من الكل‏.‏ وإن شئت كان بدلا من المضمر الذي في ‏{‏آثم‏{‏‏.‏
وهنا ثلاث مسائل‏:‏
الأولى‏:‏ اعلم أن الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البين ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين، لئلا يسول له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق، ولأجله حرم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغن والتباين‏.‏ فمن ذلك ما حرمه الله من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر‏}‏المائدة‏:‏ 91‏]‏ الآية‏.‏ فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدين، قال الله تعالى‏{‏ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم‏}‏النساء‏:‏ 66‏]‏ الآية‏.‏
الثانية‏:‏‏"{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما‏}‏النساء‏:‏ 5‏]‏ {‏فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏النساء‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، قال لسعد‏:‏ ‏(‏إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ما نفعني مال كمال أبي بكر‏)‏‏.‏ وقال لعمرو بن العاص‏:‏ ‏(‏نعم المال الصالح للرجل الصالح‏)‏‏.‏ ودعا لأنس، وكان في آخر دعائه‏:‏ ‏(‏اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه‏)‏‏.‏ وقال كعب‏:‏ يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك‏)‏‏.‏ قال الجوزي‏:‏ هذه الأحاديث مخرجة في الصحاح، وهي على خلاف ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة، وأن حبسه ينافي التوكل، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته، وأن خلقا كثيرا اجتنبوه لخوف ذلك، وأن جمعه من وجهه ليعز، وأن سلامة القلب من الافتتان به تقل، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخر يندر، فلهذا خيف فتنته‏.‏ فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البلغة من حلها فذلك أمر لا بد منه وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظر في مقصوده، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته، وادخر لحوادث زمانه وزمانهم، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات‏.‏ وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم بجمعه، فحرصوا عليه وسألوا زيادته‏.‏ ولما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حضر فرسه أجرى الفرس حتى قام ثم رمى سوطه، فقال‏:‏ ‏(‏أعطوه حيث بلغ سوطه‏)‏‏.‏ وكان سعد بن عبادة يقول في دعائه‏:‏ اللهم وسع علي‏.‏ وقال إخوة يوسف‏{‏ونزداد كيل بعير‏{‏‏.‏ وقال شعيب لموسى‏{‏فإن أتممت عشرا فمن عندك‏{‏‏.‏ وإن أيوب لما عوفي نثر عليه رجل من جراد من ذهب، فأخذ يحثي في ثوبه ويستكثر منه، فقيل له‏:‏ أما شبعت ‏؟‏ فقال‏:‏ يا رب فقير يشبع من فضلك ‏؟‏‏.‏ وهذا أمر مركوز في الطباع‏.‏ وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم، وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال‏.‏ من وضع الجهال وخفيت عدم صحته عنه للحوقه بالقوم‏.‏ وقد روي بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت، لأن في سنده ابن لهيعة وهو مطعون فيه‏.‏ قال يحيى‏:‏ لا يحتج بحديثه‏.‏ والصحيح في التاريخ أن أبا ذرتوفي سنة خمس وعشرين، وعبدالرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين وثلاثين، فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين‏.‏ ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع، ثم كيف تقول الصحابة‏:‏ إنا نخاف على عبدالرحمن‏!‏ أو ليس الإجماع منعقدا على إباحة جمع المال من حله، فما وجه الخوف مع الإباحة‏؟‏ أو يأذن الشرع في شيء ثم يعاقب عليه‏؟‏ هذا قلة فهم وفقه‏.‏ ثم أينكر أبو ذر على عبدالرحمن، وعبدالرحمن خير من أبي ذر بما لا يتقارب ‏؟‏ ثم تعلقه بعبدالرحمن وحده دليل على أنه لم يسير سير الصحابة؛ فإنه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير‏.‏ والبهار الحمل‏.‏ وكان مال الزبير خمسين ألفا ومائتي ألف‏.‏ وخلف ابن مسعود تسعين ألفا‏.‏ وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم على أحد‏.‏ وأما قوله‏{‏إن عبدالرحمن يحبو حبوا يوم القيامة‏{‏ فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث، وأعوذ بالله أن يحبو عبدالرحمن في القيامة؛ أفترى من سبق وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر والشورى يحبو ‏؟‏ ثم الحديث يرويه عمارة بن زاذان؛ وقال البخاري‏:‏ ربما اضطرب حديثه‏.‏ وقال أحمد‏:‏ يروي عن أنس أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ لا يحتج به‏.‏ وقال الدارقطني‏:‏ ضعيف‏.‏ وقوله‏{‏ترك المال الحلال أفضل من جمعه‏{‏ ليس كذلك، ومتى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء‏.‏ وكان سعيد بن المسيب يقول‏:‏ لا خير فيمن لا يطلب المال، يقضي به دينه ويصون به عرضه؛ فإن مات تركه ميراثا لمن بعده‏.‏ وخلف ابن المسيب أربعمائة دينار، وخلف سفيان الثوري مائتين، وكان يقول‏:‏ المال في هذا الزمان سلاح‏.‏ وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء؛ وإنما تحاماه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات، وجمع الهمم فقنعوا باليسير‏.‏ فلو قال هذا القائل‏:‏ إن التقليل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم‏.‏ قلت‏:‏ ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد‏)‏‏.‏ وسيأتي بيانه في ‏{‏المائدة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏284‏)‏

‏{‏لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير‏}‏ قوله تعالى‏{‏لله ما في السماوات وما في الأرض‏{‏ تقدم معناه‏.‏ ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏{‏ اختلف الناس في معنى قوله تعالى‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏{‏ على أقوال خمسة‏:‏ الأول‏:‏ أنها منسوخة، قاله ابن

ُعباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وجماعة من الصحابة والتابعين، وأنه بقي هذا التكليف حولا حتى أنزل الله الفرج بقوله‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏}‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏ وهو قول ابن مسعود وعائشة وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وغيرهم ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ قال‏:‏ ‏(‏قد فعلت‏)‏‏:‏ في رواية فلما فعلوا ذلك نسخها الله ثم أنزل تعالى‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏{‏ وسيأتي‏.‏ الثاني‏:‏ قال ابن عباس وعكرمة
والشعبي ومجاهد‏:‏ إنها محكمة مخصوصة، وهي في معنى الشهادة التي نهى عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب‏.‏ الثالث‏:‏ أن الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين، وقاله مجاهد أيضا‏.‏ الرابع‏:‏ أنها محكمة عامة غير
منسوخة، والله محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، ذكره الطبري عن قوم، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا‏.‏ روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول‏:‏ ‏(‏إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم‏)‏ فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، فذلك قوله‏{‏يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء‏}‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ وهو قوله عز وجل‏{‏ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم‏}‏البقرة‏:‏ 225‏]‏ من الشك والنفاق‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏الأنفال‏:‏ 65‏]‏ فهذا لفظه الخبر ولكن معناه التزموا هذا واثبتوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ بعد ذلك‏.‏ وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه الآية في ‏{‏البقرة‏{‏ أشبه شيء بها‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام إضمار وتقييد، تقديره يحاسبكم به الله إن شاء، وعلى هذا فلا نسخ‏.‏ وقال النحاس‏:‏ ومن أحسن ما قيل في الآية وأشبه بالظاهر قول ابن عباس‏:‏ إنها عامة، ثم أدخل حديث ابن عمر في النجوى، ‏قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه ـ من ولاية الكفار ـ يعلمه الله‏}‏آل عمران‏:‏ 29‏]‏ يدل عليه ما قبله من قوله‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏ قلت‏:‏ وهذا فيه بعد، لأن سياق الآية لا يقتضيه، وإنما ذلك بين في ‏{‏آل عمران‏{‏ والله أعلم‏.‏ وقد قال سفيان بن عيينة‏:‏ بلغني أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأتون قومهم بهذه الآية ‏{‏لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏{‏‏.‏ قوله تعالى‏{‏فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء‏{‏ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي ‏{‏فيغفر ويعذب‏{‏ بالجزم عطف على الجواب‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم بالرفع فيهما على القطع، أي فهو يغفر ويعذب‏.‏ وروي عن ابن عباس والأعرج وأبي العالية وعاصم الجحدري بالنصب فيهما على إضمار ‏{‏أن‏{‏‏.‏ وحقيقته أنه عطف على المعنى، كما في قوله تعالى‏{‏فيضاعفه له‏{‏ وقد تقدم‏.‏ والعطف على اللفظ أجود للمشاكلة، كما قال الشاعر‏:
‏ ومتى ما يع منك كلاما يتكلم فيجبك بعقل
قال النحاس‏:‏ وروي عن طلحة بنمصرف ‏{‏يحاسبكم به الله يغفر‏{‏ بغير فاء على البدل‏.‏ ابن عطية‏:‏ وبها قرأ الجعفي وخلاد‏.‏ وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود‏.‏ قال ابن جني‏:‏ هي على البدل من ‏{‏يحاسبكم‏{‏ وهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر‏:‏
رويدا بني شيبان بعض وعيدكمتلاقوا غدا خيلي على سفوان تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى إذا ما غدت في المأزق المتدانيفهذا على البدل‏.‏ وكرر الشاعر
الفعل، لأن الفائدة فيما يليه من القول‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأجود من الجزم لو كان بلا فاء الرفع، يكون في موضع الحال، كما قال الشاعر‏:‏ متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد خير نار عندها خير موقد

الآية رقم ‏(‏285‏)

‏ ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير‏}‏ قوله تعالى‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه‏{‏

روي عن الحسن ومجاهد والضحاك‏:‏ أن هذه الآية كانت في قصة المعراج، وهكذا روي في بعض الروايات عن ابن عباس، وقال بعضهم‏:‏ جميع القرآن نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم إلا هذه الآية فإن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو الذي سمع ليلة المعراج، وقال بعضهم‏:‏ لم يكن ذلك في قصة المعراج، لأن ليلة المعراج كانت بمكة وهذه السورة كلها مدنية، فأما من قال إنها كانت ليلة المعراج قال‏:‏ لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ في السماوات في مكان مرتفع ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى فقال له جبريل‏:‏ إني لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر بالمجاوزة أحد هذا الموضع غيرك فجاوز النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله، فأشار إليه جبريل بأن سلم على ربك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ التحيات لله والصلوات والطيبات‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لأمته حظ في السلام فقال‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل وأهل السماوات كلهم‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‏.‏ قال الله تعالى‏{‏آمن الرسول‏{‏ على معنى الشكر أي صدق الرسول ‏{‏بما أنزل إليه من ربه‏{‏ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشارك أمته في الكرامة والفضيلة فقال‏{‏والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله‏{‏ يعني يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بأحد منهم ولا نفرق بينهم كما فرقت اليهود والنصارى، فقال له ربه كيف قبولهم بآي الذي أنزلتها ‏؟‏ وهو قوله‏{‏إن تبدوا ما في أنفسكم‏{‏ {‏لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير‏}البقرة :‏ 284‏]‏ فإنه ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير‏}‏البقرة‏:‏ 285‏]‏‏.‏ فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله عز وجل‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏{‏ ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ ‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ ‏{‏ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ ‏{‏واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ أخرجه مسلم عن أبي هريرة‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ قوله في الرواية الأولى ‏(‏قد فعلت‏)‏ وهنا قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ دليل على نقل الحديث بالمعنى، وقد تقدم‏.‏ ولما تقرر الأمر على أن قالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، ورفع المشقة في أمر الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والانجلاء إذ قالوا‏:‏ سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله تعالى، أعاذنا الله من نقمه بمنه وكرمه‏.‏ وفي الحديث ‏{‏فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب‏}‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏ قرأت الجماعة ‏{‏ورسله‏{‏ بضم السين، وكذلك ‏{‏رسُلنا ورسُلكم ورسلك‏{‏، إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف ‏{‏رسْلنا ورسْلكم‏{‏، وروي عنه في ‏{‏رسلك‏{‏ التثقيل والتخفيف‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من قرأ ‏{‏رسلك‏{‏ بالتثقيل فذلك أصل الكلمة، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد، مثل عنق وطنب‏.‏ وإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل، وقال معناه مكي‏.‏ وقرأ جمهور الناس ‏{‏لا نفرق‏{‏ بالنون، والمعنى يقولون لا نفرق، فحذف القول، وحذف القول كثير، قال الله تعالى‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب‏.‏ سلام عليكم‏}‏الرعد‏:‏ 23‏]‏‏:‏ أي يقولون سلام عليكم‏.‏ وقال‏{‏ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا‏}‏آل عمران‏:‏ 191‏]‏ أي يقولون ربنا، وما كان مثله‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويعقوب ‏{‏لا يفرق‏{‏ بالياء، وهذا على لفظ كل‏.‏ قال هارون‏:‏ وهي في حرف ابن مسعود ‏{‏لا يفرقون‏{‏‏.‏ وقال ‏{‏بين أحد‏{‏ على الإفراد ولم يقل آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد والجميع، كما قال تعالى‏{‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏الحاقة‏:‏ 47‏]‏ فـ ‏{‏حاجزين‏{‏ صفة لأحد، لأن معناه الجمع‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أحلت الغنائم لأحد سود الرؤوس غيركم‏)‏ وقال رؤبة‏:
‏ إذا أمور الناس دينت دينكا لا يرهبون أحدا من دونكا
ُومعنى هذه الآية‏:‏ أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض‏.‏ قوله تعالى‏{‏وقالوا سمعنا وأطعنا‏{‏ فيه حذف، أي سمعنا سماع قابلين‏.‏ وقيل‏:‏ سمع بمعنى قبل، كما يقال‏:‏ سمع الله لمن حمده فلا يكون فيه حذف‏.‏ وعلى الجملة فهذا القول يقتضي المدح لقائله‏.‏ والطاعة قبول الأمر‏.‏ وقوله ‏{‏غفرانك‏{‏ مصدر كالكفران والخسران، والعامل فيه فعل مقدر، تقديره‏:‏ اغفر غفرانك، قاله الزجاج‏.‏ وغيره‏:‏ نطلب أو أسأل غفرانك‏.‏ ‏{‏وإليك المصير‏{‏ إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل‏:‏ ‏(‏إن الله قد أحل الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه‏)‏ فسأل إلى آخر السورة‏ .

‏الآية رقم ‏(‏286‏)

‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏{‏ التكليف هو الأمر بما يشق عليه وتكلفت الأمر تجشمته، حكاه الجوهري‏.‏ والوسع‏:‏ الطاقة والجدة‏.‏ وهذا خبر جزم‏.‏ نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر‏.‏ وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب، فإني تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ منزله لم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثارة فشقه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرُّب وهو يقول‏:‏ ‏{‏سيصلى نارا‏}‏المسد‏:‏ 3‏]‏ معناه إن وافى، حكاه ابن عطية‏.‏ ‏{‏ويكلف‏{‏ يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف، تقديره عبادة أو شيئا‏.‏ فالله سبحانه بلطفه وإنعامه علينا وإن كان قد كلفنا بما يشق ويثقل كثبوت الواحد للعشرة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه ومفارقة أهله ووطنه وعادته، لكنه لم يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المؤلمة، كما كلف من قبلنا بقتل أنفسهم وقرض موضع البول من ثيابهم وجلودهم، بل سهل ورفق ووضع عنا الإصر والأغلال التي وضعها على من كان قبلنا‏.‏ فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة‏.‏ قوله تعالى‏{‏لها ما كسبت وعلي
ها ما اكتسبت‏{‏ يريد من الحسنات والسيئات قاله السدي‏.‏ وجماعة المفسرين لا خلاف بينهم في ذلك، قاله ابن عطية‏.‏ وهو مثل قوله ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ ‏{‏ولا تكسب كل نفس إلا عليها‏}‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏‏.‏ والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان‏.‏ وجاءت العبارة في الحسنات بـ ‏{‏لها‏{‏ من حيث هي مما يفرح المرء بكسبه ويسر بها، فتضاف إلى ملكه وجاءت في السيئات بـ ‏{‏عليها‏{‏ من حيث هي أثقال وأوزار ومتحملات صعبة، وهذا كما تقول‏:‏ لي مال وعلى دين‏.‏ وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال‏ {‏فمهل الكافرين أمهلهم رويدا‏}‏الطارق‏:‏ 17‏]‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله تعالى ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا، لهذا المعنى‏.‏ في هذه الآية دليل على صحة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد كسبا واكتسابا، ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خلق ولا خالق، خلافا لمن أطلق ذلك من مجترئة المبتدعة‏.‏ ومن أطلق من أئمتنا ذلك على العبد، وأنه فاعل فبالمجاز المحض‏.‏ وقال المهدوي وغيره‏:‏ وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا صحيح في نفسه ولكن من غير هذه الآية‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ قوله تعالى‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏{‏ يستدل به على أن من قتل غيره بمثقل أو بخنق أو تغريق فعليه ضمانه قصاصا أو دية، فخلافا لمن جعل ديته على العاقلة، وذلك يخالف الظاهر، ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب لا يقتضي سقوطه عن شريكه‏.‏ ويدل على وجوب الحد على العاقلة إذا مكنت مجنونا من نفسها‏.‏ وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏{‏ذكر علماؤنا هذه الآية في أن القود واجب على شريك الأب خلافا لأبي حنيفة، وعلى شريك الخاطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة، لأن كل واحد منهما قد اكتسب القتل‏.‏ وقالوا‏:‏ إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص لا يكون شبهة في درء ما يدرأ بالشبهة‏{‏‏.‏ قوله تعالى‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏{‏ المعنى‏:‏ أعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما، {‏وأخذتم على ذلكم إصري‏{‏‏.‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ والإصر‏:‏ الضيق والذنب والثقل‏.‏ والإصار‏:‏ الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال‏:‏ أصر يأصر أصرا حبسه‏.‏ والإصر - بكسر الهمزة - من ذلك قال الجوهري‏:‏ والموضع مأصِر ومأصَر والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ ويمكن أن يستدل بهذا الظاهر في كل عبادة ادعى الخصم تثقيلها، فهو نحو قوله تعالى ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏المؤمنون‏:‏ 78‏]‏ وكقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الدين يسر فيسروا ولا تعسروا‏)‏‏.‏ اللهم شق على من شق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قلت‏:‏ ونحوه قال الكيا الطبري قال‏:‏ يحتج به في نفي الحرج والضيق المنافي ظاهره للحنيفية السمحة، وهذا بين‏.‏
 
سورة آل عمران

الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏2‏)‏


{‏الم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏

هذه السورة مدنية بإجماع‏.‏ وحكى النقاش أن اسمها في التوراة طَيْبة، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وعاصم بن أبي النجود وأبو جعفر الرؤاسي ‏{‏الم‏.‏ ألله‏{‏ بقطع ألف الوصل، على تقدير الوقف على ‏{‏الم‏{‏ كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد في نحو واحد، إثنان، ثلاثة، أربعة، وهم واصلون‏.‏ قال الأخفش سعيد‏:‏ ويجوز ‏{‏الم الله‏{‏ بكسر الميم لالتقاء الساكنين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا خطأ، ولا تقوله العرب لثقله‏.‏ قال النحاس‏:‏ القراءة الأولى قراءة العامة، وقد تكلم فيها النحويون القدماء؛ فمذهب سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين، واختاروا لها الفتح لئلا يجمع بين كسرة وياء وكسرة قبلها‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ حروف التهجي إذا لقيتها ألف وصل فحذفت ألف الوصل حركتها بحركة الألف فقلت‏:‏ الم الله، والم اذكر، والمِ اقتربت‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الأصل ‏{‏الم ألله‏{‏ كما قرأ الرؤاسي فألقيت حركة الهمزة على الميم‏.‏ وقرأ عمر بن الخطاب ‏{‏الحي القيام‏{‏‏.‏ وقال خارجة‏:‏ في مصحف عبدالله ‏{‏الحي القيم‏{‏‏.‏ وقد تقدم ما للعلماء من آراء في الحروف التي في أوائل السور في أول ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ ومن حيث جاء في هذه السورة‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏{‏ جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها‏.‏
روى الكسائي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى العشاء فاستفتح ‏{‏آل عمران‏{‏ فقرأ ‏{‏آلم‏.‏ الله لا إله إلا هو الحي القيام‏{‏ فقرأ في الركعة الأولى بمائة آية، وفي الثانية بالمائة الباقية‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ ولا يقرأ سورة في ركعتين، فإن فعل أجزأه‏.‏ وقال مالك في المجموعة‏:‏ لا بأس به، وما هو بالشأن‏.‏
قلت‏:‏ الصحيح جواز ذلك‏.‏ وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأعراف في المغرب فرقها في ركعتين، خرجه النسائي أيضا، وصححه أبو محمد عبدالحق، وسيأتي‏.‏
هذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار؛ فمن ذلك ما جاء أنها أمان من الحيات، وكنز للصعلوك، وأنها تحاج عن قارئها في الآخرة، ويكتب لمن قرأ آخرها في ليلة كقيام ليلة، إلى غير ذلك‏.‏ ذكر الدارمي أبو محمد في مسنده حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثني عبيدالله الأشجعي قال‏:‏ حدثني مسعر قال حدثني جابر، قبل أن يقع فيما وقع فيه، عن الشعبي قال قال عبدالله‏:‏ ‏(‏نِعم كنز الصعلوك سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ يقوم بها في آخر الليل‏)‏ حدثنا محمد بن سعيد حدثنا عبدالسلام عن الجريري عن أبي السليل قال‏:‏ أصاب رجل دما قال‏:‏ فأوى إلى وادي مجنة‏:‏ واد لا يمشي فيه أحد إلا أصابته حية، وعلى شفير الوادي راهبان؛ فلما أمسى قال أحدهما لصاحبه‏:‏ هلك والله الرجل‏!‏ قال‏:‏ فافتتح سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ قالا‏:‏ فقرأ سورة طيبة لعله سينجو‏.‏ قال‏:‏ فأصبح سليما‏.‏ وأسند عن مكحول قال‏:‏ ‏(‏من قرأ سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلى الليل‏)‏‏.‏ وأسند عن عثمان بن عفان قال‏:‏ ‏(‏من قرأ آخر سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ في ليلة كتب له قيام ليلة‏)‏ في طريقه ابن لهيعة‏.‏ وخرج مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران‏)‏، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال‏:‏ - كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حِزْقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما‏.‏ وخرج أيضا عن أبي أمامة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البَطَلة‏)‏‏.‏ قال معاوية‏:‏ وبلغني أن البطلة السحرة‏.‏

للعلماء في تسمية ‏{‏البقرة وآل عمران‏{‏ بالزهراوين ثلاثة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ إنهما النيرتان، مأخوذ من الزّهْر والزُّهْرة؛ فإما لهدايتهما قارئهما بما يزهر له من أنوارهما، أي من معانيهما‏.‏

وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة، وهو القول الثاني‏.‏

الثالث‏:‏ سميتا بذلك لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم؛ كما ذكره أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم والتي في آل عمران الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏)‏ أخرجه ابن ماجة أيضا‏.‏ والغمام‏:‏ السحاب الملتف، وهو الغَيَاية إذا كانت قريباً من الرأس، وهي الظلة أيضا‏.‏ والمعنى‏:‏ إن قارئهما في ظل ثوابهما؛ كما جاء ‏(‏الرجل في ظل صدقته‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏تحاجان‏)‏ أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة كما جاء في بعض الحديث‏:‏ ‏(‏إن من قرأ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو‏.‏‏.‏‏.‏‏{‏ الآية خلق الله سبعين ملكا يستغفرون له إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏بينهما شرق‏)‏ قيد بسكون الراء وفتحها وهو تنبيه على الضياء، لأنه لما قال‏:‏ ‏(‏سوداوان‏)‏ قد يتوهم أنهما مظلمتان، فنفى ذلك‏.‏ بقوله‏:‏ ‏(‏بينهما شرق‏)‏‏.‏ ويعني بكونهما سوداوان أي من كثافتهما التي بسببها حالتا بين من تحتهما وبين حرارة الشمس وشدة اللهب والله أعلم‏.‏
صدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران فيما ذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، وكانوا نصارى وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ستين راكبا، فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلا، في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يرجع أمرهم‏:‏ العاقب أمير القوم وذو آرائهم واسمه عبدالمسيح، والسيد ثمالهم وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم؛ فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر صلاة العصر، عليهم ثياب الحِبَرات جُبَب وأرْدية فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة‏.‏ وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشرق‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دعوهم‏)‏‏.‏ ثم أقاموا بها أياما يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى ويزعمون أنه ابن الله، إلى غير ذلك من أقوال شنيعة مضطربة، ورسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية؛ إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، حسب ما هو مذكور في سيرة ابن إسحاق وغيره‏.‏

الآية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏نزل عليك الكتاب‏{‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏بالحق‏{‏ أي بالصدق وقيل‏:‏ بالحجة الغالبة‏.‏ والقرآن نزل نجوما‏:‏ شيئا بعد شيء؛ فلذلك قال ‏{‏نَزّلَ‏{‏ والتنزيل مرة بعد مرة‏.‏ والتوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة فلذلك قال ‏{‏أنزل‏{‏ والباء في قوله ‏{‏بالحق‏{‏ في موضع الحال من الكتاب والباء متعلقة بمحذوف التقدير آتيا بالحق ولا تتعلق بـ ‏{‏نَزَّلَ‏{‏ لأنه قد تعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر، ولا يتعدى إلى ثالث‏.‏ و‏{‏مصدقا‏{‏ حال مؤكدة غير منتقلة؛ لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق، أي غير موافق؛ هذا قول الجمهور‏.‏ وقدر فيه بعضهم الانتقال، على معنى أنه مصدق لنفسه ومصدق لغيره‏.‏
قوله تعالى‏{‏لما بين يديه‏{‏ يعني من الكتب المنزلة، ‏{‏وأنزل التوراة والإنجيل‏{‏ والتوراة معناها الضياء والنور مشتقة من ورى الزَّنْد ووَرِيَ لغتان إذا خرجت ناره‏.‏ وأصلها تَوْرَيَة على وزن تفعلة، التاء زائدة، وتحركت الياء وقبلها فتحة فقلبت ألفا‏.‏ ويجوز أن تكون تَفْعِلة فتنقل الراء من الكسر إلى الفتح كما قالوا في جارية وفي ناصية ناصاة كلاهما عن الفراء‏.‏ وقال الخليل‏:‏ أصلها فَوْعَلة فالأصل وَوْرَيَة قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تَوْلَج، والأصل وَوْلج فوعل من وَلَجَت وقلبت الياء ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها‏.‏ وبناء فَوْعَلة أكثر من تَفْعَلَة‏.‏ وقيل‏:‏ التوراة مأخوذة من التورية، وهي التعريض بالشيء والكتمان لغيره؛ فكأن أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح، هذا قول المؤرج‏.‏ والجمهور على القول الأول لقوله تعالى‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين‏}‏الأنبياء‏:‏ 48‏]‏ يعني التوراة‏.‏ والإنجيل إفعيل من النَّجْل وهو الأصل، ويجمع على أناجيل وتوراة على تَوَار؛ فالإنجيل أصل لعلوم وحكم‏.‏ ويقال‏:‏ لعن الله ناجليه، يعني والديه، إذ كانا أصله‏.‏ وقيل‏:‏ هو من نجلت الشيء إذا استخرجته؛ فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم؛ ومنه سمي الولد والنسل نجلا لخروجه؛ كما قال‏:‏
إلى معشر لم يورث اللؤم جدهم أصاغرهم وكل فحل لهم نجل
والنجل الماء الذي يخرج من النز‏.‏ واستنجلت الأرض، وبها نجال إذا خرج منها الماء، فسمي الإنجيل به؛ لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا‏.‏ وقيل‏:‏ هو من النجل في العين ‏(‏بالتحريك‏)‏ وهو سعتها؛ وطعنة نجلاء، أي واسعة؛ قال‏:‏
ربما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء
فسمي الإنجيل بذلك؛ لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم ونورا وضياء‏.‏ وقيل‏:‏ التناجل التنازع؛ وسمي إنجيلا لتنازع الناس فيه‏.‏ وحكى شمر عن بعضهم‏:‏ الإنجيل كل كتاب مكتوب وافر السطور‏.‏ وقيل‏:‏ نَجَل عمل وصنع؛ قال‏:‏
وأنجل في ذاك الصنيع كما نجل
أي أعمل وأصنع‏.‏ وقيل‏:‏ التوراة والإنجيل من اللغة السريانية‏.‏ وقيل‏:‏ الإنجيل بالسريانية إنكليون؛ حكاه الثعلبي‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الإنجيل كتاب عيسى عليه السلام يذكر ويؤنث؛ فمن أنث أراد الصحيفة، ومن ذكر أراد الكتاب‏.‏ قال غيره‏:‏ وقد يسمى القرآن إنجيلا أيضا؛ كما روي في قصة مناجاة موسى عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏يا رب أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمتي‏)‏‏.‏ فقال الله تعالى له‏:‏ ‏(‏تلك أمة أحمد‏)‏ صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد بالأناجيل القرآن‏.‏ وقرأ الحسن‏{‏والأنجيل‏{‏ بفتح الهمزة، والباقون بالكسر مثل الإكليل، لغتان‏.‏ ويحتمل أن سمع أن يكون مما عربته العرب من الأسماء الأعجمية، ولا مثال له في كلامها‏.‏

الآية رقم ‏(‏4‏)‏

‏{‏من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام‏}‏

قوله تعالى‏{‏من قبل‏{‏ يعني القرآن ‏{‏هدى للناس‏{‏ قال ابن فورك‏:‏ التقدير هدى للناس المتقين؛ دليله في البقرة
{‏هدى للمتقين‏}‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ فرد هذا العام إلى ذلك الخاص‏.‏ و‏{‏هدى‏{‏ في موضع نصب على الحال‏.‏ و‏{‏الفرقان‏{‏ القرآن‏.‏ وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏5‏)‏

‏{‏إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏}‏

هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل؛ ومثله في القرآن كثير‏.‏ فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون؛ فكيف يكون عيسى إلها أو بن إله وهو تخفى عليه الأشياء‏.‏

الآية رقم ‏(‏6‏)‏

‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏هو الذي يصوركم‏{‏ أخبر تعالى عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات وأصل الرحِم من الرحمة، لأنها مما يتراحم به‏.‏ واشتقاق الصورة من صاره إلى كذا إذا أماله؛ فالصورة مائلة إلى شَبَه وهيئة‏.‏ وهذه الآية تعظيم لله تعالى، وفي ضمنها الرد على نصارى نجران، وأن عيسى من المصَوَّرين، وذلك مما لا ينكره عاقل‏.‏ وأشار تعالى إلى شرح التصوير في سورة ‏{‏الحج‏{‏ و‏{‏المؤمنون‏{‏‏.‏ وكذلك شرحه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود، على ما يأتي هناك بيانه إن شاء الله تعالى وفيها الرد على الطبائعيين أيضا إذ يجعلونها فاعلة مستبدة‏.‏ وقد مضى الرد عليهم في آية التوحيد وفي مسند ابن سنجر - واسمه محمد بن سَنْجر - حديث ‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‏}‏ الحجرات‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏وامتازوا اليوم أيها المجرمون‏}‏يس‏:‏59‏]‏ فلا أدري في أي الفريقين أكون‏.‏ ثم قال تعالى‏{‏لا إله إلا هو‏{‏ أي لا خالق ولا مصور سواه وذلك دليل على وحدانيته، فكيف يكون عيسى إلها مصورا وهو مصور‏.‏ ‏{‏العزيز‏{‏ الذي لا يغالب‏.‏ ‏{‏الحكيم‏{‏ ذو الحكمة أو المحكم، وهذا أخص بما ذكر من التصوير‏.‏

الآية رقم ‏(‏7‏)‏

‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب‏}‏

{‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا أبا أمامة، هم هؤلاء‏؟‏ قال نعم‏.‏ قلت‏:‏ أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ إني إذا لجريء إني إذا لجريء‏!‏ بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال‏:‏ وإلا فصُمَّتا - قالها ثلاثا - ‏)‏ ثم قال‏:‏ {‏كتاب أحكمت آياته‏}‏هود‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ كله متشابه؛ لقوله‏{‏كتابا متشابها‏}‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ وليس هذا من معنى الآية في شيء؛ فإن قوله تعالى‏{‏كتاب أحكمت آياته‏{‏ أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله‏.‏ ومعنى ‏{‏كتابا متشابها‏{‏، أي يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً‏.‏ وليس المراد بقوله‏{‏آيات محكمات‏{‏ ‏{‏وأخر متشابهات‏{‏ هذا المعنى؛ وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله‏{‏إن البقر تشابه علينا‏}‏البقرة‏:‏ 70‏]‏ أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر‏.‏ والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً‏.‏ وقيل‏:‏ إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما‏.‏ فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع؛ والمتشابه هو الفرع‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المحكمات هو قوله في سورة الأنعام ‏{‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم‏}‏الأنعام‏:‏151‏]‏ إلى ثلاث آيات، وقوله في بني إسرائيل‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا‏}‏الإسراء 23‏]‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به‏)‏ وقال ابن مسعود وغيره‏:‏ ‏(‏المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات‏)‏ وقاله قتادة والربيع والضحاك‏.‏ وقال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه‏.‏ والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد؛ وقاله مجاهد وابن إسحاق‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية‏.‏ قال النحاس‏:‏ أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره؛ نحو ‏{‏لم يكن له كفوا أحد‏}‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏}‏طه‏:‏ 82‏]‏‏.‏ والمتشابهات نحو ‏{‏إن الله يغفر الذنوب جميعا‏}‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ يرجع فيه إلى قوله جل وعلا‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏}‏طه‏:‏ 82‏]‏ وإلى قوله عز وجل‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏النساء‏:‏ 48‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان؛ وذلك أن المحكَم اسم مفعول من أحْكِم، والإحكام الإتقان؛ ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها؛ ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ للمتشابه وجوه، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى؛ كقول علي وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد أقصى الأجلين‏.‏ فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون وضع الحمل ويقولون‏:‏ ‏(‏سورة النساء القصرى نسخت أربعة أشهر وعشرا‏)‏ وكان علي وابن عباس يقولان لم تنسخ‏.‏ وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ‏.‏ وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه؛ كقوله تعالى‏{‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏النساء‏:‏ 24‏]‏ يقتضي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين، وقوله تعالى‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف‏}‏النساء‏:‏ 23‏]‏ يمنع ذلك‏.‏ ومنه أيضا تعارض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارض الأقيسة، فذلك المتشابه‏.‏ وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملا أو مجملا يحتاج إلى تفسير لأن الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه‏.‏ والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعا؛ كما قرئ‏{‏وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم‏}‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ بالفتح والكسر، على ما يأتي بيانه ‏{‏في المائدة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏
روى البخاري عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قال رجل لابن عباس‏:‏ إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي‏.‏ قال‏:‏ ما هو‏؟‏ قال‏{‏فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون‏}‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏ وقال‏{‏وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏الصافات‏:‏ 27‏]‏ وقال‏{‏ولا يكتمون الله حديثا‏}‏النساء‏:‏42‏]‏ وقال‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ فقد كتموا في هذه الآية‏.‏ وفي النازعات ‏{‏أم السماء بناها‏{‏ إلى قوله ‏{‏دحاها‏}‏النازعات‏:‏ 27 - 28 - 29 - 30‏]‏ فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال‏{‏أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏.‏‏.‏‏.‏ إلى‏:‏ طائعين‏}‏فصلت‏:‏9، 0 1، 11‏]‏ فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء‏.‏ وقال‏{‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏النساء‏:‏ 100‏]‏ ‏{‏وكان الله عزيزا حكيما‏}‏النساء‏:‏ 158‏]‏‏.‏ ‏{‏وكان الله سميعا بصيرا‏}‏النساء‏:‏134‏]‏ فكأنه كان ثم مضى‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏‏{‏فلا أنساب بينهم‏{‏ في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون؛ ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏.‏ وأما قوله‏{‏ما كنا مشركين‏{‏ ‏{‏ولا يكتمون الله حديثا‏{‏ فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون‏:‏ تعالوا نقول‏:‏ لم نكن مشركين؛ فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم؛ فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين‏.‏ وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين؛ فذلك قوله‏{‏والأرض بعد ذلك دحاها‏{‏‏.‏ فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين‏.‏ وقوله‏{‏وكان الله غفورا رحيما‏{‏ يعني نفسه ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد‏.‏ ويحك فلا يختلف عليك القرآن؛ فإن كلا من عند الله‏)‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏وأخر متشابهات‏{‏ لم تصرف ‏{‏أُخر‏{‏ لأنها عدلت عن الألف واللام؛ لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر؛ فلما عدلت عن مجرى الألف واللام منعت الصرف‏.‏ أبو عبيد‏:‏ لم يصرفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة‏.‏ وأنكر ذلك المبرد وقال‏:‏ يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش‏.‏ الكسائي‏:‏ لم تنصرف لأنها صفة‏.‏ وأنكره المبرد أيضا وقال‏:‏ إن لبداً وحطماً صفتان وهما منصرفان‏.‏ سيبويه‏:‏ لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الألف واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكان معرفة، ألا ترى أن سَحَرَ معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة عن السحر، وأمْسِ في قول من قال‏:‏ ذهب أمس معدولا عن الأمس؛ فلو كان أخر معدولا أيضا عن الألف واللام لكان معرفة، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة‏.‏
قوله تعالى‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ‏{‏ الذين رفع بالابتداء، والخبر ‏{‏فيتبعون ما تشابه منه‏{‏‏.‏ والزيغ الميل؛ ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار‏.‏ ويقال‏:‏ زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏الصف‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران‏.‏ وقال قتادة في تفسير قوله تعالى‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ‏{‏‏:‏ إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم‏.‏
قلت‏:‏ قد مر هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعا، وحسبك‏.‏
قوله تعالى‏{‏فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‏{‏ قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه‏:‏ متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن؛ أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلك؛ أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها، أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال‏.‏
فهذه أربعة أقسام‏:‏
‏(‏الأول‏)‏ لا شك في كفرهم، وإن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة‏.‏ ‏(‏الثاني‏)‏ الصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد‏.‏
‏(‏الثالث‏)‏ اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها‏.‏ وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون أمروها كما جاءت‏.‏ وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها‏.‏
‏(‏الرابع‏)‏ الحكم فيه الأدب البليغ، كما فعله عمر بصبيغ‏.‏ وقال أبو بكر الأنباري‏:‏ وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن، لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل‏.‏ فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عِسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء؛ فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل‏.‏ فلما حضر قال له عمر‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا عبدالله صبيغ‏.‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ وأنا عبدالله عمر؛ ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال‏:‏ حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي‏.‏ وقد اختلفت الروايات في أدبه، وسيأتي ذكرها في ‏{‏الذاريات‏{‏‏.‏ ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته‏.‏ ومعنى ‏{‏ابتغاء الفتنة‏{‏ طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم، ويردوا الناس إلى زيغهم‏.‏ وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ معنى ‏{‏ابتغاء تأويله‏{‏ أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله‏.‏ قال‏:‏ والدليل على ذلك قوله تعالى‏{‏هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله‏{‏ أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب ‏{‏يقول الذين نسوه من قبل‏{‏ أي تركوه - ‏{‏قد جاءت رسل ربنا بالحق‏}‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏ أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل قال‏:‏ فالوقف على قوله تعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏ أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله‏.‏
قوله تعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏ يقال‏:‏ إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أحطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ بلغنا أنه نزل عليك ‏{‏آلم‏{‏ فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة؛ لأن الألف في حساب الجمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏‏.‏ والتأويل يكون بمعنى التفسير، كقولك‏:‏ تأويل هذه الكلمة على كذا‏.‏ ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه‏.‏ واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه، أي صار‏.‏ وأولته تأويلا أي صيرته‏.‏ وقد حده بعض الفقهاء فقالوا‏:‏ هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه‏.‏ فالتفسير بيان اللفظ؛ كقوله ‏{‏لا ريب فيه‏}‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ أي لا شك‏.‏ وأصله من الفسر وهو البيان؛ يقال‏:‏ فسرت الشيء ‏(‏مخففا‏)‏ أفسره ‏(‏بالكسر‏)‏ فسرا‏.‏ والتأويل بيان المعنى؛ كقوله لا شك فيه عند المؤمنين أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك‏.‏ وكقول ابن عباس في الجد أبا، لأنه تأول قول الله عز وجل‏{‏يا بني آدم‏{‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏والراسخون في العلم‏{‏ اختلف العلماء في ‏{‏والراسخون في العلم‏{‏ هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع‏.‏ فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تم عند قوله ‏{‏إلا الله‏{‏ هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم، وهو مذ هب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد وغيرهم‏.‏ قال أبو نهيك الأسدي‏:‏ إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة‏.‏ وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم ‏{‏آمنا به كل من عند ربنا‏{‏‏.‏ وقال مثل هذا عمر بن عبدالعزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس‏.‏ و‏{‏يقولون‏{‏ على هذا خبر ‏{‏الراسخون‏{‏‏.‏ قال الخطابي‏:‏ وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه قسمين‏:‏ محكما ومتشابها؛ فقال عز من قائل‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ كل من عند ربنا‏{‏ فأعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يعلم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به‏.‏ ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه‏.‏ ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏ وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله ‏{‏والراسخون في العلم يقولون آمنا به‏{‏‏.‏ وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة‏.‏ وإنما روي عن مجاهد أنه نسق ‏{‏الراسخون‏{‏ على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه‏.‏ واحتج له بعض أهل اللغة فقال‏:‏ معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا؛ وزعم أن موضع ‏{‏يقولون‏{‏ نصب على الحال‏.‏ وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل؛ فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال؛ ولو جاز ذلك لجاز أن يقال‏:‏ عبدالله راكبا، بمعنى أقبل عبدالله راكبا؛ وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله‏:‏ عبدالله يتكلم يصلح بين الناس؛ فكان ‏{‏يصلح‏{‏ حالا له؛ كقول الشاعر - أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب - ‏:‏
{‏قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله‏}‏النمل‏:‏ 65‏]‏ وقوله‏{‏لا يجليها لوقتها إلا هو‏}‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ وقوله‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏القصص‏:‏ 88‏]‏، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره‏.‏ وكذلك قوله تبارك وتعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏‏.‏ ولو كانت الواو في قوله‏{‏والراسخون‏{‏ للنسق لم يكن لقوله‏{‏كل من عند ربنا‏{‏ فائدة‏.‏ والله أعلم‏.‏
قلت‏:‏ ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به؛ وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم‏.‏ و‏{‏يقولون‏{‏ على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين؛ كما قال‏:‏
{‏وروح منه‏}‏النساء‏:‏ 171‏]‏ إلى غير ذلك‏.‏ فلا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له‏.‏ وأما من يقول‏:‏ إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل؛ لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح‏.‏
والرسوخ‏:‏ الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ‏.‏ وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض؛ قال الشاعر‏:‏
{‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏النحل‏:‏ 44‏]‏ فكيف لم يجعله كله واضحا‏؟‏ قيل له‏:‏ الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يظهر فضل العلماء؛ لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض‏.‏ وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا، ويترك للجثوة موضعا؛ لأن ما هان وجوده قل بهاؤه‏.‏ والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏كل من عند ربنا‏{‏ فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه؛ والتقدير‏:‏ كله من عند ربنا‏.‏ وحذف الضمير لدلالة ‏{‏كل‏{‏ عليه؛ إذ هي لفظة تقتضي الإضافة‏.‏ ثم قال‏{‏وما يذكر إلا أولوا الألباب‏{‏ أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب، وهو العقل‏.‏ ولب كل شيء خالصه؛ فلذلك قيل للعقل لب‏.‏ و‏{‏أولو‏{‏ جمع ذو‏.‏

الآية رقم ‏(‏8‏)‏

‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏{‏ في الكلام حذف تقديره يقولون‏.‏ وهذا حكاية عن الراسخين‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى قل يا محمد، ويقال‏:‏ إزاغة القلب فساد وميل عن الدين، أفكانوا يخافون وقد هدوا أن ينقلهم الله إلى الفساد‏؟‏ فالجواب أن يكونوا سألوا إذ هداهم الله ألا يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال فيعجزوا عنه؛ نحو ‏{‏ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏النساء‏:‏ 66‏]‏‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ سألوا ألا يزيغوا فيزيغ الله قلوبهم؛ نحو ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏الصف‏:‏ 5‏]‏ أي ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا وألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو منقطع مما قبل؛ وذلك أنه تعالى لما ذكر أهل الزيغ‏.‏ عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في ألا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت هي وأهل الزيغ‏.‏ وفي الموطأ عن أبي عبدالله الصنابحي أنه قال‏:‏ قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏{‏ الآية‏.‏ قال العلماء‏:‏ قراءته بهذه الآية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة‏.‏ والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم، وفي كل صلاة أيضا إذا دهم المسلمين أمر عظيم يفزعهم ويخافون منه على أنفسهم‏.‏ وروى الترمذي من حديث شهر بن حوشب قال‏:‏ قلت لأم سلمة‏:‏ يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك‏؟‏ قالت‏:‏ كان أكثر دعائه ‏(‏يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك‏)‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال‏:‏ ‏(‏يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ‏)‏‏.‏ فتلا معاذ ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‏{‏‏.‏ قال‏:‏ حديث حسن‏.‏ وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم‏:‏ إن الله لا يضل العباد‏.‏ ولو لم تكن الإزاغة من قبله لما جاز أن يدعى في دفع ما لا يجوز عليه فعله‏.‏ وقرأ أبو واقد الجراح ‏{‏لا تزغ قلوبنا‏{‏ بإسناد الفعل إلى القلوب، وهذه رغبة إلى الله تعالى‏.‏ ومعنى الآية على القراءتين ألا يكون منك خلق الزيغ فيها فتزيغ‏.‏
قوله تعالى‏{‏وهب لنا من لدنك رحمة‏{‏ أي من عندك ومن قبلك تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل‏.‏ وفي هذا استسلام وتطارح‏.‏ وفي ‏{‏لدن‏{‏ أربع لغات‏:‏ لدن بفتح اللام وضم الدال وجزم النون، وهي أفصحها، وبفتح اللام وضم الدال وحذف النون؛ وبضم اللام وجزم الدال وفتح النون؛ وبفتح اللام وسكون الدال وفتح النون‏.‏ ولعل جهال المتصوفة وزنادقة الباطنية يتشبثون بهذه الآية وأمثالها فيقولون‏:‏ العلم ما وهبه الله ابتداء من غير كسب، والنظر في الكتب والأوراق حجاب‏.‏ وهذا مردود على ما يأتي بيانه في هذا الموضع‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ هب لنا نعيماً صادراً عن الرحمة، لأن الرحمة راجعة إلى صفة الذات فلا يتصور فيها الهبة‏.‏ يقال‏:‏ وَهب يَهَب والأصل يوهب بكسر الهاء‏.‏ ومن قال‏:‏ الأصل يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ لأنه لو كان كما قال لم تحذف الواو كما لم تحذف في يَوْجَل‏.‏ وإنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم فتح بعد حذفها لأن فيه حرفا من حروف الحلق‏.‏

الآية رقم ‏(‏9‏)‏

‏{‏ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏

أي باعثهم ومحييهم بعد تفرقهم، وفي هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون وأقروا به، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حتى أنكروه‏.‏ والريب الشك، وقد تقدمت محامله في البقرة‏.‏ والميعاد مفعال من الوعد‏.‏

الآية رقم ‏(‏10‏)‏

‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار‏}‏

معناه بَيِّن، أي لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا‏.‏ وقرأ السلمي ‏{‏لن يغني‏{‏ بالياء لتقدم الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏يُغْني‏{‏ بالياء وسكون الياء الآخرة للتخفيف؛ كقول الشاعر‏:‏
كفى باليأس من أسماء كافي وليس لسقمها إذ طال شافي
وكان حقه أن يقول كافيا، فأرسل الياء‏.‏ وأنشد الفراء في مثله‏:‏
كأن أيديهن بالقاع القَرِقْ أيدي جوار يتعاطين الوَرِق
القَرِقُ والقَرِقَة لغتان في القاع‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في قوله ‏{‏من الله‏{‏ بمعنى عند؛ قاله أبو عبيدة‏.‏ ‏{‏أولئك هم وقود النار‏{‏ والوقود اسم للحطب، وقد تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف ‏{‏وقود‏{‏ بضم الواو على حذف مضاف تقديره حطب وقود النار‏.‏ ويجوز في العربية إذا ضم الواو أن تقول أقود مثل أُقتت‏.‏ والوقود بضم الواو المصدر؛ وقدت النار تقد إذا اشتعلت‏.‏ وخرج ابن المبارك من حديث العباس بن عبدالمطلب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى تخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرؤون القرآن فإذا قرؤوه قالوا من أقرأ منا من أعلم منا‏؟‏ ثم التفت إلى أصحابه فقال‏:‏ هل ترون في أولئكم من خير‏)‏‏؟‏ قالوا لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أولئك منكم وأولئك من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏11‏)‏

‏{‏كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب‏}‏

الدأب العادة والشأن‏.‏ ودأب الرجل في عمله يدأب دأبا ودؤوبا إذا جد واجتهد، وأدأبته أنا‏.‏ وأدأب بعيره إذا جهده في السير‏.‏ والدائبان الليل والنهار‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وسمعت يعقوب يذكر ‏{‏كدأب‏{‏ بفتح الهمزة، وقال لي وأنا غليم‏:‏ على أي شيء يجوز ‏{‏كدأب‏{‏‏؟‏ فقلت له‏:‏ أظنه من دَئِب يدْأَب دَأَبا‏.‏ فقبل ذلك مني وتعجب من جودة تقديري على صغري؛ ولا أدري أيقال أم لا‏.‏ قال النحاس‏{‏وهذا القول خطأ، لا يقال البتة دَئِب؛ وإنما يقال‏:‏ دَأَب يدْأَب دُؤوبا ودَأْبا؛ هكذا حكى النحويون، منهم الفراء حكاه في كتاب المصادر؛ كما قال امرؤ القيس‏:‏
{‏لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏ أي لم تغن عنهم غناء كما لم تغن الأموال والأولاد عن آل فرعون‏.‏ وهذا جواب لمن تخلف عن الجهاد وقال‏:‏ شغلتنا أموالنا وأهلونا‏.‏ ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق‏.‏ ويؤيد هذا المعنى ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وحاق بآل فرعون سوء العذاب‏.‏ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏المؤمن‏:‏ 46‏]‏‏.‏ والقول الأول أرجح، واختاره غير واحد من العلماء‏.‏ قال ابن عرفة‏{‏كدأب آل فرعون‏{‏ أي كعادة آل فرعون‏.‏ يقول‏:‏ اعتاد هؤلاء الكفرة الإلحاد والإعنات للنبي صلى الله عليه وسلم كما اعتاد آل فرعون من إعنات الأنبياء؛ وقال معناه الأزهري‏.‏ فأما قوله في سورة ‏(‏الأنفال‏)‏ ‏{‏كدأب آل فرعون‏{‏ فالمعنى جوزي هؤلاء بالقتل والأسر كما جوزي آل فرعون بالغرق والهلاك‏.‏ ‏{‏بآياتنا‏{‏ يحتمل أن يريد الآيات المتلوة، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية‏.‏ ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب‏{‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏12‏)‏

‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏}‏

يعني اليهود، قال محمد بن إسحاق‏:‏ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود فقال‏:‏‏(‏يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم‏)‏، فقالوا‏:‏ يا محمد، لا يغرنك أنك قتلت أقواما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس‏.‏ فأنزل الله تعالى‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون‏{‏ بالتاء يعني اليهود‏:‏ أي تهزمون ‏{‏وتحشرون إلى جهنم‏{‏ في الآخرة‏.‏ فهذه رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏ وفي رواية أبي صالح عنه أن اليهود لما فرحوا بما أصاب المسلمين يوم أحد نزلت‏.‏ فالمعنى على هذا ‏{‏سيغلبون‏{‏ بالياء، يعني قريشا، ‏{‏ويحشرون‏{‏ بالياء فيهما، وهي قراءة نافع‏.‏ ‏{‏وبئس المهاد‏{‏ يعني جهنم؛ هذا ظاهر الآية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المعنى بئس ما مهدوا لأنفسهم، فكأن المعنى‏:‏ بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم‏.‏


الآية رقم ‏(‏13‏)‏

‏{‏قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏}‏

قوله تعالى‏{‏قد كان لكم آية‏{‏ أي علامة‏.‏ وقال ‏{‏كان‏{‏ ولم يقل ‏{‏كانت‏{‏ لأن ‏{‏آية‏{‏ تأنيثها غير حقيقي‏.‏ وقيل‏:‏ ردها إلى البيان، أي قد كان لكم بيان؛ فذهب إلى المعنى وترك اللفظ؛ كقول امرئ القيس‏:‏
برهرهة رؤدة رخصة كخرعوبة البانة المنفطر
ولم يقل المنفطرة؛ لأنه ذهب إلى القضيب‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ذكره لأنه فرق بينهما بالصفة، فلما حالت الصفة بين الاسم والفعل ذكر الفعل‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في البقرة في قوله تعالى
{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية‏}‏البقرة‏:‏ 180‏]‏
قوله تعالى‏{‏في فئتين التقتا‏{‏ يعني المسلمين والمشركين يوم بدر ‏{‏فئة‏{‏ قرأ الجمهور ‏{‏فئة‏{‏ بالرفع، بمعنى إحداهما فئة‏.‏ وقرأ الحسن ومجاهد ‏{‏فئة‏{‏ بالخفض ‏{‏وأخرى كافرة‏{‏ على البدل‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما‏.‏ قال أحمد بن يحيى‏:‏ ويجوز النصب على الحال، أي التقتا مختلفتين مؤمنة وكافرة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ النصب بمعنى أعني‏.‏ وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها، أي يرجع إليها في وقت الشدة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الفئة الفرقة، مأخوذة من فَأَوْتُ رأسه بالسيف - ويقال‏:‏ فأيته - إذا فلقته‏.‏ ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر‏.‏ واختلف من المخاطب بها؛ فقيل‏:‏ يحتمل أن يخاطب بها المؤمنون، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة؛ وبكل احتمال منها قد قال قوم‏.‏ وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع‏.‏
قوله تعالى‏{‏يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏{‏ قال أبو علي الرؤية في هذه الآية رؤية عين؛ ولذلك تعدت إلى مفعول واحد‏.‏ قال مكي والمهدوي‏:‏ يدل عليه ‏{‏رَأْيَ العين‏{‏‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏ترونهم‏{‏ بالتاء والباقون بالياء‏.‏ ‏{‏مثليهم‏{‏ نصب على الحال من الهاء والميم في ‏{‏ترونهم‏{‏‏.‏ والجمهور من الناس على أن الفاعل بترون هم المؤمنون، والضمير المتصل هو للكفار‏.‏ وأنكر أبو عمرو أن يقرأ ‏{‏ترونهم‏{‏ بالتاء؛ قال‏:‏ ولو كان كذلك لكان مثليكم‏.‏ قال النحاس‏{‏ وذا لا يلزم، ولكن يجوز أن يكون مثلي أصحابكم‏.‏ قال مكي‏{‏ترونهم‏{‏ بالتاء جرى على الخطاب في ‏{‏لكم‏{‏ فيحسن أن يكون الخطاب للمسلمين، والهاء والميم للمشركين‏.‏ وقد كان يلزم من قرأ بالتاء أن يقرأ مثليكم بالكاف، وذلك لا يجوز لمخالفة الخط؛ ولكن جرى الكلام على الخروج من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏}‏يونس‏:‏ 22‏]‏، وقوله تعالى‏{‏وما آتيتم من زكاة‏}‏الروم‏:‏ 39‏]‏ فخاطب ثم قال‏{‏فأولئك هم المضعفون‏}‏الروم‏:‏ 39‏]‏ فرجع إلى الغيبة‏.‏ فالهاء والميم في ‏{‏مثليهم‏{‏ يحتمل أن يكون للمشركين، أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد؛ وهو بعيد في المعنى؛ لأن الله تعالى لم يكثر المشركين في أعين المسلمين بل أعلمنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، فيكون المعنى ترون أيها المؤمنون المشركين مثليكم في العدد وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم ويقع التجاسر، وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، وقلل المسلمين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم فينفذ حكم الله فيهم‏.‏ ويحتمل أن يكون الضمير في ‏{‏مثليهم‏{‏ للمسلمين، أي ترون أيها المسلمون المسلمين مثلي ما أنتم عليه من العدد، أي ترون أنفسكم مثلي عددكم؛ فعل الله ذلك بهم لتقوى أنفسهم على لقاء المشركين‏.‏ والتأويل الأول أولى؛ يدل عليه قوله تعالى‏{‏إذ يريكهم الله في منامك قليلا‏}‏الأنفال‏:‏ 43‏]‏ وقوله‏{‏وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا‏}‏الأنفال‏:‏44‏]‏ وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ قلت لرجل إلى جنبي‏:‏ أتراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ أظنهم مائة فلما أخذنا الأسارى أخبرونا أنهم كانوا ألفا‏.‏ وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا‏:‏ بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكافرين حتى كانوا عندهم ضعفين‏.‏ وضعف الطبري هذا القول‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وكذلك هو مردود من جهات‏.‏ بل قلل الله المشركين في أعين المؤمنين كما تقدم‏.‏ وعلى هذا التأويل كان يكون ‏{‏ترون‏{‏ للكافرين، أي ترون أيها الكافرون المؤمنين مثليهم، ويحتمل مثليكم، على ما تقدم‏.‏ وزعم الفراء أن المعنى ترونهم مثليهم ثلاثة أمثالهم‏.‏ وهو بعيد غير معروف في اللغة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا باب الغلط، فيه غلط في جميع المقاييس؛ لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له، ونعقل مثله ما يساويه مرتين‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ وقد بين الفراء قوله بأن قال‏:‏ كما تقول وعندك عبد‏:‏ أحتاج إلى مثله، فأنت محتاج إليه وإلى مثله‏.‏ وتقول‏:‏ أحتاج إلى مثليه، فأنت محتاج إلى ثلاثة‏.‏ والمعنى على خلاف ما قاله، واللغة‏.‏ والذي أوقع الفراء في هذا أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين يوم بدر؛ فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عدتهم، وهذا بعيد وليس المعنى عليه‏.‏ وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين‏:‏ إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك، لأن المؤمنين تقوى قلوبهم بذلك‏.‏ والأخرى أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وسيأتي ذكر وقعة بدر إن شاء الله تعالى‏.‏ وأما قراءة الياء فقال ابن كيسان‏:‏ الهاء والميم في ‏{‏يرونهم‏{‏ عائدة على ‏{‏وأخرى كافرة‏{‏ والهاء والميم في ‏{‏مثليهم‏{‏ عائدة على ‏{‏فئة تقاتل في سبيل الله‏{‏ وهذا من الإضمار الذي يدل عليه سياق الكلام، وهو قوله‏{‏يؤيد بنصره من يشاء‏{‏‏.‏ فدل ذلك على أن الكافرين كانوا مثلي المسلمين في رأي العين وثلاثة أمثالهم في العدد‏.‏ قال‏:‏ والرؤية هنا لليهود‏.‏ وقال مكي‏:‏ الرؤية للفئة المقاتلة في سبيل الله، والمرئية الفئة الكافرة؛ أي ترى الفئة المقاتلة في سبيل الله الفئة الكافرة مثلي الفئة المؤمنة، وقد كانت الفئة الكافرة ثلاثة أمثال المؤمنة فقللهم الله في أعينهم على ما تقدم‏.‏ والخطاب في ‏{‏لكم‏{‏ لليهود‏.‏ وقرأ ابن عباس وطلحة ‏{‏تُروهم‏{‏ بضم التاء، والسلمي بالتاء المضمومة على ما لم يسم فاعله‏.‏ ‏{‏والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏{‏ تقدم معناه والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏14‏)‏

‏{‏زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب‏}‏

قوله تعالى‏{‏زين للناس‏{‏ زين من التزيين واختلف الناس من المزين؛ فقالت فرقة‏:‏ الله زين ذلك؛ وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكره البخاري‏.‏ وفي التنزيل‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها‏}‏الكهف‏:‏ 7‏]‏؛ ولما قال عمر‏:‏ الآن يا رب حين زينتها لنا‏!‏ نزلت‏{‏قل أأنبئكم بخير من ذلكم‏}‏آل عمران‏:‏ 15‏]‏ وقالت فرقة‏:‏ المزين هو الشيطان؛ وهو ظاهر قول الحسن، فإنه قال‏:‏ من زينها‏؟‏ ما أحد أشد لها ذما من خالقها‏.‏ فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء‏.‏ وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها‏.‏ والآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏زُيِّن‏{‏ على بناء الفعل للمفعول، ورفع ‏{‏حُبُّ‏{‏‏.‏ وقرأ الضحاك ومجاهد ‏{‏زَيَّن‏{‏ على بناء الفعل للفاعل، ونصب ‏{‏حُبَّ‏{‏ وحركت الهاء من ‏{‏الشهوات‏{‏ فرقا بين الاسم والنعت‏.‏ والشهوات جمع شهوة وهي معروفة‏.‏ ورجل شهوان للشيء، وشيء شهي أي مشتهى واتباع الشهوات مرد وطاعتها مهلكة‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏{‏وآتيتم إحداهن قنطارا‏}‏النساء‏:‏ 20‏]‏ وهو العقدة الكبيرة من المال، وقيل‏:‏ هو اسم للمعيار الذي يوزن به؛ كما هو الرطل والربع‏.‏ ويقال لما بلغ ذلك الوزن‏:‏ هذا قنطار، أي يعدل القنطار‏.‏ والعرب تقول‏:‏ قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه؛ تقول العرب‏:‏ قنطرت الشيء إذا أحكمته؛ ومنه سميت القنطرة لإحكامها‏.‏ قال طرفة‏:‏
{‏فيه تسيمون‏{‏
‏[‏النحل‏:‏10‏]‏ قال الأخطل‏:‏
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله أولى لك ابن مسيمة الأجمال
أراد ابن راعية الإبل‏.‏ والسوام‏:‏ كل بهيمة ترعى، وقيل‏:‏ المعدة للجهاد؛ قاله ابن زيد‏.‏ مجاهد‏:‏ المسومة المطهمة الحسان‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ سومها الحسن؛ واختاره النحاس، من قولهم‏:‏ رجل وسيم‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ المسومة المعلمة بشيات الخيل في وجوهها، من السيما وهي العلامة‏.‏ وهذا مذهب الكسائي وأبي عبيدة‏.‏
قلت‏:‏ كل ما ذكر يحتمله اللفظ، فتكون راعية معدة حسانا معلمة لتعرف من غيرها‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى‏.‏ وحكى ابن فارس اللغوي في مجمله‏:‏ المسومة المرسلة وعليها ركبانها‏.‏ وقال المؤرج‏:‏ المسومة المكوية، المبرد‏:‏ المعروفة في البلدان‏.‏ ابن كيسان‏:‏ البلق‏.‏ وكلها متقارب من السيما‏.‏ قال النابغة‏:‏
وضمر كالقداح مسومات عليها معشر أشباه جن
قوله تعالى‏{‏والأنعام‏{‏ قال ابن كيسان‏:‏ إذا قلت نعم لم تكن إلا للإبل، فإذا قلت أنعام وقعت للإبل وكل ما يرعى‏.‏ قال الفراء‏:‏ هو مذكر ولا يؤنث؛ يقولون هذا نعم وارد، ويجمع أنعاما‏.‏ قال الهروي‏:‏ والنعم يذكر ويؤنث، والأنعام المواشي من الإبل والبقر والغنم؛، إذا قيل‏:‏ النعم فهو الإبل خاصة‏.‏ وقال حسان‏:‏
وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء
وفي سنن ابن ماجة عن عروة البارقي يرفعه قال‏:‏ ‏(‏الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ وفيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشاة من دواب الجنة‏)‏‏.‏ وفيه عن أبي هريرة قال‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج‏.‏ وقال‏:‏ عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى‏.‏ وفيه عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏اتخذي غنما فإن فيها بركة‏)‏‏.‏ أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم هانئ، إسناد صحيح‏.‏
قوله تعالى‏{‏والحرث‏{‏ الحرث هنا اسم لكل ما يحرث، وهو مصدر سمي به؛ تقول‏:‏ حرث الرجل حرثا إذا أثار الأرض لمعنى الفلاحة؛ فيقع اسم الحراثة على زرع الحبوب وعلى الجنات وعلى غير ذلك من نوع الفلاحة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا‏)‏‏.‏ يقال حرثت واحترثت‏.‏ وفي حديث عبدالله ‏(‏احرثوا هذا القرآن‏)‏ أي فتشوه‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ الحرث التفتيش؛ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أصدق الأسماء الحارث‏)‏ لأن الحارث هو الكاسب، واحتراث المال كسبه، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس، والجمع أحرثة، وأحرث الرجل ناقته أهزلها‏.‏ وفي حديث معاوية‏:‏ ما فعلت نواضحكم‏؟‏ قالوا‏:‏ حرثناها يوم بدر‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ يعنون هزلناها؛ يقال‏:‏ حرثت الدابة وأحرثتها، لغتان‏.‏ وفي صحيح البخاري عن أبي أمامة الباهلي قال وقد رأى سكة وشيئا من آلة الحرث فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ إن الذل هنا ما يلزم أهل الشغل بالحرث من حقوق الأرض التي يطالبهم بها الأئمة والسلاطين‏.‏ وقال المهلب‏:‏ معنى قوله في هذا الحديث والله أعلم الحض على معالي الأحوال وطلب الرزق من أشرف الصناعات؛ وذلك لما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله؛ لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها؛ فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة‏.‏ ألا ترى أن عمر قال‏:‏ تمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وثبوا على الخيل وثبا لا تغلبنكم عليها رعاة الإبل‏.‏ فأمرهم بملازمة الخيل، ورياضة أبدانهم بالوثوب عليها‏.‏ وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مسلم غرس غرسا أو زرع زرعا فيأمل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة‏)‏‏.‏
قال العلماء‏:‏ ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس؛ أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار، وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك، وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي، وأما الحرث فيتمول بها أهل الرساتيق‏.‏ فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول، فأما النساء والبنون ففتنة للجميع‏.‏
قوله تعالى‏{‏ذلك متاع الحياة الدنيا‏{‏ أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى‏.‏ وهذا منه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة‏.‏‏"‏روى ابن ماجة وغيره عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة‏)‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ازهد في الدنيا يحبك الله‏)‏ أي في متاعها من الجاه والمال الزائد على الضروري‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء‏)‏ أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب‏.‏ وسئل سهل بن عبدالله‏:‏ بم يسهل على العبد ترك الدنيا وكل الشهوات‏؟‏ قال‏:‏ بتشاغله بما أمر به‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله عنده حسن المآب‏{‏ ابتداء وخبر‏.‏ والمآب المرجع؛ آب يؤوب إيابا إذا رجع؛ قال يؤوب إيابا إذا رجع؛ قال امرؤ القيس‏:‏
وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر‏:‏
وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب
وأصل مآب مأوب، قلبت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف، مثل مقال‏.‏ ومعنى الآية تقليل الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة‏.‏
 
سورة آل عمران

الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏2‏)‏


{‏الم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏

هذه السورة مدنية بإجماع‏.‏ وحكى النقاش أن اسمها في التوراة طَيْبة، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وعاصم بن أبي النجود وأبو جعفر الرؤاسي ‏{‏الم‏.‏ ألله‏{‏ بقطع ألف الوصل، على تقدير الوقف على ‏{‏الم‏{‏ كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد في نحو واحد، إثنان، ثلاثة، أربعة، وهم واصلون‏.‏ قال الأخفش سعيد‏:‏ ويجوز ‏{‏الم الله‏{‏ بكسر الميم لالتقاء الساكنين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا خطأ، ولا تقوله العرب لثقله‏.‏ قال النحاس‏:‏ القراءة الأولى قراءة العامة، وقد تكلم فيها النحويون القدماء؛ فمذهب سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين، واختاروا لها الفتح لئلا يجمع بين كسرة وياء وكسرة قبلها‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ حروف التهجي إذا لقيتها ألف وصل فحذفت ألف الوصل حركتها بحركة الألف فقلت‏:‏ الم الله، والم اذكر، والمِ اقتربت‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الأصل ‏{‏الم ألله‏{‏ كما قرأ الرؤاسي فألقيت حركة الهمزة على الميم‏.‏ وقرأ عمر بن الخطاب ‏{‏الحي القيام‏{‏‏.‏ وقال خارجة‏:‏ في مصحف عبدالله ‏{‏الحي القيم‏{‏‏.‏ وقد تقدم ما للعلماء من آراء في الحروف التي في أوائل السور في أول ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ ومن حيث جاء في هذه السورة‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏{‏ جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها‏.‏
روى الكسائي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى العشاء فاستفتح ‏{‏آل عمران‏{‏ فقرأ ‏{‏آلم‏.‏ الله لا إله إلا هو الحي القيام‏{‏ فقرأ في الركعة الأولى بمائة آية، وفي الثانية بالمائة الباقية‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ ولا يقرأ سورة في ركعتين، فإن فعل أجزأه‏.‏ وقال مالك في المجموعة‏:‏ لا بأس به، وما هو بالشأن‏.‏
قلت‏:‏ الصحيح جواز ذلك‏.‏ وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأعراف في المغرب فرقها في ركعتين، خرجه النسائي أيضا، وصححه أبو محمد عبدالحق، وسيأتي‏.‏
هذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار؛ فمن ذلك ما جاء أنها أمان من الحيات، وكنز للصعلوك، وأنها تحاج عن قارئها في الآخرة، ويكتب لمن قرأ آخرها في ليلة كقيام ليلة، إلى غير ذلك‏.‏ ذكر الدارمي أبو محمد في مسنده حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثني عبيدالله الأشجعي قال‏:‏ حدثني مسعر قال حدثني جابر، قبل أن يقع فيما وقع فيه، عن الشعبي قال قال عبدالله‏:‏ ‏(‏نِعم كنز الصعلوك سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ يقوم بها في آخر الليل‏)‏ حدثنا محمد بن سعيد حدثنا عبدالسلام عن الجريري عن أبي السليل قال‏:‏ أصاب رجل دما قال‏:‏ فأوى إلى وادي مجنة‏:‏ واد لا يمشي فيه أحد إلا أصابته حية، وعلى شفير الوادي راهبان؛ فلما أمسى قال أحدهما لصاحبه‏:‏ هلك والله الرجل‏!‏ قال‏:‏ فافتتح سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ قالا‏:‏ فقرأ سورة طيبة لعله سينجو‏.‏ قال‏:‏ فأصبح سليما‏.‏ وأسند عن مكحول قال‏:‏ ‏(‏من قرأ سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلى الليل‏)‏‏.‏ وأسند عن عثمان بن عفان قال‏:‏ ‏(‏من قرأ آخر سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ في ليلة كتب له قيام ليلة‏)‏ في طريقه ابن لهيعة‏.‏ وخرج مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران‏)‏، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال‏:‏ - كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حِزْقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما‏.‏ وخرج أيضا عن أبي أمامة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البَطَلة‏)‏‏.‏ قال معاوية‏:‏ وبلغني أن البطلة السحرة‏.‏

للعلماء في تسمية ‏{‏البقرة وآل عمران‏{‏ بالزهراوين ثلاثة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ إنهما النيرتان، مأخوذ من الزّهْر والزُّهْرة؛ فإما لهدايتهما قارئهما بما يزهر له من أنوارهما، أي من معانيهما‏.‏

وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة، وهو القول الثاني‏.‏

الثالث‏:‏ سميتا بذلك لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم؛ كما ذكره أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم والتي في آل عمران الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏)‏ أخرجه ابن ماجة أيضا‏.‏ والغمام‏:‏ السحاب الملتف، وهو الغَيَاية إذا كانت قريباً من الرأس، وهي الظلة أيضا‏.‏ والمعنى‏:‏ إن قارئهما في ظل ثوابهما؛ كما جاء ‏(‏الرجل في ظل صدقته‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏تحاجان‏)‏ أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة كما جاء في بعض الحديث‏:‏ ‏(‏إن من قرأ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو‏.‏‏.‏‏.‏‏{‏ الآية خلق الله سبعين ملكا يستغفرون له إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏بينهما شرق‏)‏ قيد بسكون الراء وفتحها وهو تنبيه على الضياء، لأنه لما قال‏:‏ ‏(‏سوداوان‏)‏ قد يتوهم أنهما مظلمتان، فنفى ذلك‏.‏ بقوله‏:‏ ‏(‏بينهما شرق‏)‏‏.‏ ويعني بكونهما سوداوان أي من كثافتهما التي بسببها حالتا بين من تحتهما وبين حرارة الشمس وشدة اللهب والله أعلم‏.‏
صدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران فيما ذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، وكانوا نصارى وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ستين راكبا، فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلا، في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يرجع أمرهم‏:‏ العاقب أمير القوم وذو آرائهم واسمه عبدالمسيح، والسيد ثمالهم وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم؛ فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر صلاة العصر، عليهم ثياب الحِبَرات جُبَب وأرْدية فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة‏.‏ وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشرق‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دعوهم‏)‏‏.‏ ثم أقاموا بها أياما يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى ويزعمون أنه ابن الله، إلى غير ذلك من أقوال شنيعة مضطربة، ورسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية؛ إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، حسب ما هو مذكور في سيرة ابن إسحاق وغيره‏.‏

الآية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏نزل عليك الكتاب‏{‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏بالحق‏{‏ أي بالصدق وقيل‏:‏ بالحجة الغالبة‏.‏ والقرآن نزل نجوما‏:‏ شيئا بعد شيء؛ فلذلك قال ‏{‏نَزّلَ‏{‏ والتنزيل مرة بعد مرة‏.‏ والتوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة فلذلك قال ‏{‏أنزل‏{‏ والباء في قوله ‏{‏بالحق‏{‏ في موضع الحال من الكتاب والباء متعلقة بمحذوف التقدير آتيا بالحق ولا تتعلق بـ ‏{‏نَزَّلَ‏{‏ لأنه قد تعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر، ولا يتعدى إلى ثالث‏.‏ و‏{‏مصدقا‏{‏ حال مؤكدة غير منتقلة؛ لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق، أي غير موافق؛ هذا قول الجمهور‏.‏ وقدر فيه بعضهم الانتقال، على معنى أنه مصدق لنفسه ومصدق لغيره‏.‏
قوله تعالى‏{‏لما بين يديه‏{‏ يعني من الكتب المنزلة، ‏{‏وأنزل التوراة والإنجيل‏{‏ والتوراة معناها الضياء والنور مشتقة من ورى الزَّنْد ووَرِيَ لغتان إذا خرجت ناره‏.‏ وأصلها تَوْرَيَة على وزن تفعلة، التاء زائدة، وتحركت الياء وقبلها فتحة فقلبت ألفا‏.‏ ويجوز أن تكون تَفْعِلة فتنقل الراء من الكسر إلى الفتح كما قالوا في جارية وفي ناصية ناصاة كلاهما عن الفراء‏.‏ وقال الخليل‏:‏ أصلها فَوْعَلة فالأصل وَوْرَيَة قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تَوْلَج، والأصل وَوْلج فوعل من وَلَجَت وقلبت الياء ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها‏.‏ وبناء فَوْعَلة أكثر من تَفْعَلَة‏.‏ وقيل‏:‏ التوراة مأخوذة من التورية، وهي التعريض بالشيء والكتمان لغيره؛ فكأن أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح، هذا قول المؤرج‏.‏ والجمهور على القول الأول لقوله تعالى‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين‏}‏الأنبياء‏:‏ 48‏]‏ يعني التوراة‏.‏ والإنجيل إفعيل من النَّجْل وهو الأصل، ويجمع على أناجيل وتوراة على تَوَار؛ فالإنجيل أصل لعلوم وحكم‏.‏ ويقال‏:‏ لعن الله ناجليه، يعني والديه، إذ كانا أصله‏.‏ وقيل‏:‏ هو من نجلت الشيء إذا استخرجته؛ فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم؛ ومنه سمي الولد والنسل نجلا لخروجه؛ كما قال‏:‏
إلى معشر لم يورث اللؤم جدهم أصاغرهم وكل فحل لهم نجل
والنجل الماء الذي يخرج من النز‏.‏ واستنجلت الأرض، وبها نجال إذا خرج منها الماء، فسمي الإنجيل به؛ لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا‏.‏ وقيل‏:‏ هو من النجل في العين ‏(‏بالتحريك‏)‏ وهو سعتها؛ وطعنة نجلاء، أي واسعة؛ قال‏:‏
ربما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء
فسمي الإنجيل بذلك؛ لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم ونورا وضياء‏.‏ وقيل‏:‏ التناجل التنازع؛ وسمي إنجيلا لتنازع الناس فيه‏.‏ وحكى شمر عن بعضهم‏:‏ الإنجيل كل كتاب مكتوب وافر السطور‏.‏ وقيل‏:‏ نَجَل عمل وصنع؛ قال‏:‏
وأنجل في ذاك الصنيع كما نجل
أي أعمل وأصنع‏.‏ وقيل‏:‏ التوراة والإنجيل من اللغة السريانية‏.‏ وقيل‏:‏ الإنجيل بالسريانية إنكليون؛ حكاه الثعلبي‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الإنجيل كتاب عيسى عليه السلام يذكر ويؤنث؛ فمن أنث أراد الصحيفة، ومن ذكر أراد الكتاب‏.‏ قال غيره‏:‏ وقد يسمى القرآن إنجيلا أيضا؛ كما روي في قصة مناجاة موسى عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏يا رب أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمتي‏)‏‏.‏ فقال الله تعالى له‏:‏ ‏(‏تلك أمة أحمد‏)‏ صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد بالأناجيل القرآن‏.‏ وقرأ الحسن‏{‏والأنجيل‏{‏ بفتح الهمزة، والباقون بالكسر مثل الإكليل، لغتان‏.‏ ويحتمل أن سمع أن يكون مما عربته العرب من الأسماء الأعجمية، ولا مثال له في كلامها‏.‏

الآية رقم ‏(‏4‏)‏

‏{‏من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام‏}‏

قوله تعالى‏{‏من قبل‏{‏ يعني القرآن ‏{‏هدى للناس‏{‏ قال ابن فورك‏:‏ التقدير هدى للناس المتقين؛ دليله في البقرة
{‏هدى للمتقين‏}‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ فرد هذا العام إلى ذلك الخاص‏.‏ و‏{‏هدى‏{‏ في موضع نصب على الحال‏.‏ و‏{‏الفرقان‏{‏ القرآن‏.‏ وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏5‏)‏

‏{‏إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏}‏

هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل؛ ومثله في القرآن كثير‏.‏ فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون؛ فكيف يكون عيسى إلها أو بن إله وهو تخفى عليه الأشياء‏.‏

الآية رقم ‏(‏6‏)‏

‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏هو الذي يصوركم‏{‏ أخبر تعالى عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات وأصل الرحِم من الرحمة، لأنها مما يتراحم به‏.‏ واشتقاق الصورة من صاره إلى كذا إذا أماله؛ فالصورة مائلة إلى شَبَه وهيئة‏.‏ وهذه الآية تعظيم لله تعالى، وفي ضمنها الرد على نصارى نجران، وأن عيسى من المصَوَّرين، وذلك مما لا ينكره عاقل‏.‏ وأشار تعالى إلى شرح التصوير في سورة ‏{‏الحج‏{‏ و‏{‏المؤمنون‏{‏‏.‏ وكذلك شرحه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود، على ما يأتي هناك بيانه إن شاء الله تعالى وفيها الرد على الطبائعيين أيضا إذ يجعلونها فاعلة مستبدة‏.‏ وقد مضى الرد عليهم في آية التوحيد وفي مسند ابن سنجر - واسمه محمد بن سَنْجر - حديث ‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‏}‏ الحجرات‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏وامتازوا اليوم أيها المجرمون‏}‏يس‏:‏59‏]‏ فلا أدري في أي الفريقين أكون‏.‏ ثم قال تعالى‏{‏لا إله إلا هو‏{‏ أي لا خالق ولا مصور سواه وذلك دليل على وحدانيته، فكيف يكون عيسى إلها مصورا وهو مصور‏.‏ ‏{‏العزيز‏{‏ الذي لا يغالب‏.‏ ‏{‏الحكيم‏{‏ ذو الحكمة أو المحكم، وهذا أخص بما ذكر من التصوير‏.‏

الآية رقم ‏(‏7‏)‏

‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب‏}‏

{‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا أبا أمامة، هم هؤلاء‏؟‏ قال نعم‏.‏ قلت‏:‏ أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ إني إذا لجريء إني إذا لجريء‏!‏ بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال‏:‏ وإلا فصُمَّتا - قالها ثلاثا - ‏)‏ ثم قال‏:‏ {‏كتاب أحكمت آياته‏}‏هود‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ كله متشابه؛ لقوله‏{‏كتابا متشابها‏}‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ وليس هذا من معنى الآية في شيء؛ فإن قوله تعالى‏{‏كتاب أحكمت آياته‏{‏ أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله‏.‏ ومعنى ‏{‏كتابا متشابها‏{‏، أي يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً‏.‏ وليس المراد بقوله‏{‏آيات محكمات‏{‏ ‏{‏وأخر متشابهات‏{‏ هذا المعنى؛ وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله‏{‏إن البقر تشابه علينا‏}‏البقرة‏:‏ 70‏]‏ أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر‏.‏ والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً‏.‏ وقيل‏:‏ إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما‏.‏ فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع؛ والمتشابه هو الفرع‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المحكمات هو قوله في سورة الأنعام ‏{‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم‏}‏الأنعام‏:‏151‏]‏ إلى ثلاث آيات، وقوله في بني إسرائيل‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا‏}‏الإسراء 23‏]‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به‏)‏ وقال ابن مسعود وغيره‏:‏ ‏(‏المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات‏)‏ وقاله قتادة والربيع والضحاك‏.‏ وقال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه‏.‏ والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد؛ وقاله مجاهد وابن إسحاق‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية‏.‏ قال النحاس‏:‏ أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره؛ نحو ‏{‏لم يكن له كفوا أحد‏}‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏}‏طه‏:‏ 82‏]‏‏.‏ والمتشابهات نحو ‏{‏إن الله يغفر الذنوب جميعا‏}‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ يرجع فيه إلى قوله جل وعلا‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏}‏طه‏:‏ 82‏]‏ وإلى قوله عز وجل‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏النساء‏:‏ 48‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان؛ وذلك أن المحكَم اسم مفعول من أحْكِم، والإحكام الإتقان؛ ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها؛ ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ للمتشابه وجوه، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى؛ كقول علي وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد أقصى الأجلين‏.‏ فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون وضع الحمل ويقولون‏:‏ ‏(‏سورة النساء القصرى نسخت أربعة أشهر وعشرا‏)‏ وكان علي وابن عباس يقولان لم تنسخ‏.‏ وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ‏.‏ وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه؛ كقوله تعالى‏{‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏النساء‏:‏ 24‏]‏ يقتضي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين، وقوله تعالى‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف‏}‏النساء‏:‏ 23‏]‏ يمنع ذلك‏.‏ ومنه أيضا تعارض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارض الأقيسة، فذلك المتشابه‏.‏ وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملا أو مجملا يحتاج إلى تفسير لأن الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه‏.‏ والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعا؛ كما قرئ‏{‏وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم‏}‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ بالفتح والكسر، على ما يأتي بيانه ‏{‏في المائدة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏
روى البخاري عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قال رجل لابن عباس‏:‏ إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي‏.‏ قال‏:‏ ما هو‏؟‏ قال‏{‏فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون‏}‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏ وقال‏{‏وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏الصافات‏:‏ 27‏]‏ وقال‏{‏ولا يكتمون الله حديثا‏}‏النساء‏:‏42‏]‏ وقال‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ فقد كتموا في هذه الآية‏.‏ وفي النازعات ‏{‏أم السماء بناها‏{‏ إلى قوله ‏{‏دحاها‏}‏النازعات‏:‏ 27 - 28 - 29 - 30‏]‏ فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال‏{‏أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏.‏‏.‏‏.‏ إلى‏:‏ طائعين‏}‏فصلت‏:‏9، 0 1، 11‏]‏ فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء‏.‏ وقال‏{‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏النساء‏:‏ 100‏]‏ ‏{‏وكان الله عزيزا حكيما‏}‏النساء‏:‏ 158‏]‏‏.‏ ‏{‏وكان الله سميعا بصيرا‏}‏النساء‏:‏134‏]‏ فكأنه كان ثم مضى‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏‏{‏فلا أنساب بينهم‏{‏ في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون؛ ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏.‏ وأما قوله‏{‏ما كنا مشركين‏{‏ ‏{‏ولا يكتمون الله حديثا‏{‏ فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون‏:‏ تعالوا نقول‏:‏ لم نكن مشركين؛ فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم؛ فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين‏.‏ وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين؛ فذلك قوله‏{‏والأرض بعد ذلك دحاها‏{‏‏.‏ فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين‏.‏ وقوله‏{‏وكان الله غفورا رحيما‏{‏ يعني نفسه ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد‏.‏ ويحك فلا يختلف عليك القرآن؛ فإن كلا من عند الله‏)‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏وأخر متشابهات‏{‏ لم تصرف ‏{‏أُخر‏{‏ لأنها عدلت عن الألف واللام؛ لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر؛ فلما عدلت عن مجرى الألف واللام منعت الصرف‏.‏ أبو عبيد‏:‏ لم يصرفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة‏.‏ وأنكر ذلك المبرد وقال‏:‏ يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش‏.‏ الكسائي‏:‏ لم تنصرف لأنها صفة‏.‏ وأنكره المبرد أيضا وقال‏:‏ إن لبداً وحطماً صفتان وهما منصرفان‏.‏ سيبويه‏:‏ لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الألف واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكان معرفة، ألا ترى أن سَحَرَ معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة عن السحر، وأمْسِ في قول من قال‏:‏ ذهب أمس معدولا عن الأمس؛ فلو كان أخر معدولا أيضا عن الألف واللام لكان معرفة، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة‏.‏
قوله تعالى‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ‏{‏ الذين رفع بالابتداء، والخبر ‏{‏فيتبعون ما تشابه منه‏{‏‏.‏ والزيغ الميل؛ ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار‏.‏ ويقال‏:‏ زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏الصف‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران‏.‏ وقال قتادة في تفسير قوله تعالى‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ‏{‏‏:‏ إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم‏.‏
قلت‏:‏ قد مر هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعا، وحسبك‏.‏
قوله تعالى‏{‏فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‏{‏ قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه‏:‏ متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن؛ أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلك؛ أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها، أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال‏.‏
فهذه أربعة أقسام‏:‏
‏(‏الأول‏)‏ لا شك في كفرهم، وإن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة‏.‏ ‏(‏الثاني‏)‏ الصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد‏.‏
‏(‏الثالث‏)‏ اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها‏.‏ وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون أمروها كما جاءت‏.‏ وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها‏.‏
‏(‏الرابع‏)‏ الحكم فيه الأدب البليغ، كما فعله عمر بصبيغ‏.‏ وقال أبو بكر الأنباري‏:‏ وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن، لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل‏.‏ فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عِسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء؛ فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل‏.‏ فلما حضر قال له عمر‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا عبدالله صبيغ‏.‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ وأنا عبدالله عمر؛ ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال‏:‏ حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي‏.‏ وقد اختلفت الروايات في أدبه، وسيأتي ذكرها في ‏{‏الذاريات‏{‏‏.‏ ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته‏.‏ ومعنى ‏{‏ابتغاء الفتنة‏{‏ طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم، ويردوا الناس إلى زيغهم‏.‏ وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ معنى ‏{‏ابتغاء تأويله‏{‏ أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله‏.‏ قال‏:‏ والدليل على ذلك قوله تعالى‏{‏هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله‏{‏ أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب ‏{‏يقول الذين نسوه من قبل‏{‏ أي تركوه - ‏{‏قد جاءت رسل ربنا بالحق‏}‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏ أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل قال‏:‏ فالوقف على قوله تعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏ أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله‏.‏
قوله تعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏ يقال‏:‏ إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أحطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ بلغنا أنه نزل عليك ‏{‏آلم‏{‏ فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة؛ لأن الألف في حساب الجمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏‏.‏ والتأويل يكون بمعنى التفسير، كقولك‏:‏ تأويل هذه الكلمة على كذا‏.‏ ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه‏.‏ واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه، أي صار‏.‏ وأولته تأويلا أي صيرته‏.‏ وقد حده بعض الفقهاء فقالوا‏:‏ هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه‏.‏ فالتفسير بيان اللفظ؛ كقوله ‏{‏لا ريب فيه‏}‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ أي لا شك‏.‏ وأصله من الفسر وهو البيان؛ يقال‏:‏ فسرت الشيء ‏(‏مخففا‏)‏ أفسره ‏(‏بالكسر‏)‏ فسرا‏.‏ والتأويل بيان المعنى؛ كقوله لا شك فيه عند المؤمنين أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك‏.‏ وكقول ابن عباس في الجد أبا، لأنه تأول قول الله عز وجل‏{‏يا بني آدم‏{‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏والراسخون في العلم‏{‏ اختلف العلماء في ‏{‏والراسخون في العلم‏{‏ هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع‏.‏ فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تم عند قوله ‏{‏إلا الله‏{‏ هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم، وهو مذ هب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد وغيرهم‏.‏ قال أبو نهيك الأسدي‏:‏ إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة‏.‏ وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم ‏{‏آمنا به كل من عند ربنا‏{‏‏.‏ وقال مثل هذا عمر بن عبدالعزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس‏.‏ و‏{‏يقولون‏{‏ على هذا خبر ‏{‏الراسخون‏{‏‏.‏ قال الخطابي‏:‏ وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه قسمين‏:‏ محكما ومتشابها؛ فقال عز من قائل‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ كل من عند ربنا‏{‏ فأعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يعلم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به‏.‏ ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه‏.‏ ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏ وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله ‏{‏والراسخون في العلم يقولون آمنا به‏{‏‏.‏ وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة‏.‏ وإنما روي عن مجاهد أنه نسق ‏{‏الراسخون‏{‏ على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه‏.‏ واحتج له بعض أهل اللغة فقال‏:‏ معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا؛ وزعم أن موضع ‏{‏يقولون‏{‏ نصب على الحال‏.‏ وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل؛ فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال؛ ولو جاز ذلك لجاز أن يقال‏:‏ عبدالله راكبا، بمعنى أقبل عبدالله راكبا؛ وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله‏:‏ عبدالله يتكلم يصلح بين الناس؛ فكان ‏{‏يصلح‏{‏ حالا له؛ كقول الشاعر - أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب - ‏:‏
{‏قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله‏}‏النمل‏:‏ 65‏]‏ وقوله‏{‏لا يجليها لوقتها إلا هو‏}‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ وقوله‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏القصص‏:‏ 88‏]‏، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره‏.‏ وكذلك قوله تبارك وتعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏‏.‏ ولو كانت الواو في قوله‏{‏والراسخون‏{‏ للنسق لم يكن لقوله‏{‏كل من عند ربنا‏{‏ فائدة‏.‏ والله أعلم‏.‏
قلت‏:‏ ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به؛ وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم‏.‏ و‏{‏يقولون‏{‏ على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين؛ كما قال‏:‏
{‏وروح منه‏}‏النساء‏:‏ 171‏]‏ إلى غير ذلك‏.‏ فلا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له‏.‏ وأما من يقول‏:‏ إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل؛ لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح‏.‏
والرسوخ‏:‏ الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ‏.‏ وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض؛ قال الشاعر‏:‏
{‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏النحل‏:‏ 44‏]‏ فكيف لم يجعله كله واضحا‏؟‏ قيل له‏:‏ الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يظهر فضل العلماء؛ لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض‏.‏ وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا، ويترك للجثوة موضعا؛ لأن ما هان وجوده قل بهاؤه‏.‏ والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏كل من عند ربنا‏{‏ فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه؛ والتقدير‏:‏ كله من عند ربنا‏.‏ وحذف الضمير لدلالة ‏{‏كل‏{‏ عليه؛ إذ هي لفظة تقتضي الإضافة‏.‏ ثم قال‏{‏وما يذكر إلا أولوا الألباب‏{‏ أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب، وهو العقل‏.‏ ولب كل شيء خالصه؛ فلذلك قيل للعقل لب‏.‏ و‏{‏أولو‏{‏ جمع ذو‏.‏

الآية رقم ‏(‏8‏)‏

‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏{‏ في الكلام حذف تقديره يقولون‏.‏ وهذا حكاية عن الراسخين‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى قل يا محمد، ويقال‏:‏ إزاغة القلب فساد وميل عن الدين، أفكانوا يخافون وقد هدوا أن ينقلهم الله إلى الفساد‏؟‏ فالجواب أن يكونوا سألوا إذ هداهم الله ألا يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال فيعجزوا عنه؛ نحو ‏{‏ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏النساء‏:‏ 66‏]‏‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ سألوا ألا يزيغوا فيزيغ الله قلوبهم؛ نحو ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏الصف‏:‏ 5‏]‏ أي ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا وألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو منقطع مما قبل؛ وذلك أنه تعالى لما ذكر أهل الزيغ‏.‏ عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في ألا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت هي وأهل الزيغ‏.‏ وفي الموطأ عن أبي عبدالله الصنابحي أنه قال‏:‏ قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏{‏ الآية‏.‏ قال العلماء‏:‏ قراءته بهذه الآية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة‏.‏ والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم، وفي كل صلاة أيضا إذا دهم المسلمين أمر عظيم يفزعهم ويخافون منه على أنفسهم‏.‏ وروى الترمذي من حديث شهر بن حوشب قال‏:‏ قلت لأم سلمة‏:‏ يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك‏؟‏ قالت‏:‏ كان أكثر دعائه ‏(‏يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك‏)‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال‏:‏ ‏(‏يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ‏)‏‏.‏ فتلا معاذ ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‏{‏‏.‏ قال‏:‏ حديث حسن‏.‏ وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم‏:‏ إن الله لا يضل العباد‏.‏ ولو لم تكن الإزاغة من قبله لما جاز أن يدعى في دفع ما لا يجوز عليه فعله‏.‏ وقرأ أبو واقد الجراح ‏{‏لا تزغ قلوبنا‏{‏ بإسناد الفعل إلى القلوب، وهذه رغبة إلى الله تعالى‏.‏ ومعنى الآية على القراءتين ألا يكون منك خلق الزيغ فيها فتزيغ‏.‏
قوله تعالى‏{‏وهب لنا من لدنك رحمة‏{‏ أي من عندك ومن قبلك تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل‏.‏ وفي هذا استسلام وتطارح‏.‏ وفي ‏{‏لدن‏{‏ أربع لغات‏:‏ لدن بفتح اللام وضم الدال وجزم النون، وهي أفصحها، وبفتح اللام وضم الدال وحذف النون؛ وبضم اللام وجزم الدال وفتح النون؛ وبفتح اللام وسكون الدال وفتح النون‏.‏ ولعل جهال المتصوفة وزنادقة الباطنية يتشبثون بهذه الآية وأمثالها فيقولون‏:‏ العلم ما وهبه الله ابتداء من غير كسب، والنظر في الكتب والأوراق حجاب‏.‏ وهذا مردود على ما يأتي بيانه في هذا الموضع‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ هب لنا نعيماً صادراً عن الرحمة، لأن الرحمة راجعة إلى صفة الذات فلا يتصور فيها الهبة‏.‏ يقال‏:‏ وَهب يَهَب والأصل يوهب بكسر الهاء‏.‏ ومن قال‏:‏ الأصل يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ لأنه لو كان كما قال لم تحذف الواو كما لم تحذف في يَوْجَل‏.‏ وإنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم فتح بعد حذفها لأن فيه حرفا من حروف الحلق‏.‏

الآية رقم ‏(‏9‏)‏

‏{‏ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏

أي باعثهم ومحييهم بعد تفرقهم، وفي هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون وأقروا به، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حتى أنكروه‏.‏ والريب الشك، وقد تقدمت محامله في البقرة‏.‏ والميعاد مفعال من الوعد‏.‏

الآية رقم ‏(‏10‏)‏

‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار‏}‏

معناه بَيِّن، أي لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا‏.‏ وقرأ السلمي ‏{‏لن يغني‏{‏ بالياء لتقدم الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏يُغْني‏{‏ بالياء وسكون الياء الآخرة للتخفيف؛ كقول الشاعر‏:‏
كفى باليأس من أسماء كافي وليس لسقمها إذ طال شافي
وكان حقه أن يقول كافيا، فأرسل الياء‏.‏ وأنشد الفراء في مثله‏:‏
كأن أيديهن بالقاع القَرِقْ أيدي جوار يتعاطين الوَرِق
القَرِقُ والقَرِقَة لغتان في القاع‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في قوله ‏{‏من الله‏{‏ بمعنى عند؛ قاله أبو عبيدة‏.‏ ‏{‏أولئك هم وقود النار‏{‏ والوقود اسم للحطب، وقد تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف ‏{‏وقود‏{‏ بضم الواو على حذف مضاف تقديره حطب وقود النار‏.‏ ويجوز في العربية إذا ضم الواو أن تقول أقود مثل أُقتت‏.‏ والوقود بضم الواو المصدر؛ وقدت النار تقد إذا اشتعلت‏.‏ وخرج ابن المبارك من حديث العباس بن عبدالمطلب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى تخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرؤون القرآن فإذا قرؤوه قالوا من أقرأ منا من أعلم منا‏؟‏ ثم التفت إلى أصحابه فقال‏:‏ هل ترون في أولئكم من خير‏)‏‏؟‏ قالوا لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أولئك منكم وأولئك من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏11‏)‏

‏{‏كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب‏}‏

الدأب العادة والشأن‏.‏ ودأب الرجل في عمله يدأب دأبا ودؤوبا إذا جد واجتهد، وأدأبته أنا‏.‏ وأدأب بعيره إذا جهده في السير‏.‏ والدائبان الليل والنهار‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وسمعت يعقوب يذكر ‏{‏كدأب‏{‏ بفتح الهمزة، وقال لي وأنا غليم‏:‏ على أي شيء يجوز ‏{‏كدأب‏{‏‏؟‏ فقلت له‏:‏ أظنه من دَئِب يدْأَب دَأَبا‏.‏ فقبل ذلك مني وتعجب من جودة تقديري على صغري؛ ولا أدري أيقال أم لا‏.‏ قال النحاس‏{‏وهذا القول خطأ، لا يقال البتة دَئِب؛ وإنما يقال‏:‏ دَأَب يدْأَب دُؤوبا ودَأْبا؛ هكذا حكى النحويون، منهم الفراء حكاه في كتاب المصادر؛ كما قال امرؤ القيس‏:‏
{‏لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏ أي لم تغن عنهم غناء كما لم تغن الأموال والأولاد عن آل فرعون‏.‏ وهذا جواب لمن تخلف عن الجهاد وقال‏:‏ شغلتنا أموالنا وأهلونا‏.‏ ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق‏.‏ ويؤيد هذا المعنى ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وحاق بآل فرعون سوء العذاب‏.‏ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏المؤمن‏:‏ 46‏]‏‏.‏ والقول الأول أرجح، واختاره غير واحد من العلماء‏.‏ قال ابن عرفة‏{‏كدأب آل فرعون‏{‏ أي كعادة آل فرعون‏.‏ يقول‏:‏ اعتاد هؤلاء الكفرة الإلحاد والإعنات للنبي صلى الله عليه وسلم كما اعتاد آل فرعون من إعنات الأنبياء؛ وقال معناه الأزهري‏.‏ فأما قوله في سورة ‏(‏الأنفال‏)‏ ‏{‏كدأب آل فرعون‏{‏ فالمعنى جوزي هؤلاء بالقتل والأسر كما جوزي آل فرعون بالغرق والهلاك‏.‏ ‏{‏بآياتنا‏{‏ يحتمل أن يريد الآيات المتلوة، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية‏.‏ ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب‏{‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏12‏)‏

‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏}‏

يعني اليهود، قال محمد بن إسحاق‏:‏ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود فقال‏:‏‏(‏يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم‏)‏، فقالوا‏:‏ يا محمد، لا يغرنك أنك قتلت أقواما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس‏.‏ فأنزل الله تعالى‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون‏{‏ بالتاء يعني اليهود‏:‏ أي تهزمون ‏{‏وتحشرون إلى جهنم‏{‏ في الآخرة‏.‏ فهذه رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏ وفي رواية أبي صالح عنه أن اليهود لما فرحوا بما أصاب المسلمين يوم أحد نزلت‏.‏ فالمعنى على هذا ‏{‏سيغلبون‏{‏ بالياء، يعني قريشا، ‏{‏ويحشرون‏{‏ بالياء فيهما، وهي قراءة نافع‏.‏ ‏{‏وبئس المهاد‏{‏ يعني جهنم؛ هذا ظاهر الآية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المعنى بئس ما مهدوا لأنفسهم، فكأن المعنى‏:‏ بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم‏.‏


الآية رقم ‏(‏13‏)‏

‏{‏قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏}‏

قوله تعالى‏{‏قد كان لكم آية‏{‏ أي علامة‏.‏ وقال ‏{‏كان‏{‏ ولم يقل ‏{‏كانت‏{‏ لأن ‏{‏آية‏{‏ تأنيثها غير حقيقي‏.‏ وقيل‏:‏ ردها إلى البيان، أي قد كان لكم بيان؛ فذهب إلى المعنى وترك اللفظ؛ كقول امرئ القيس‏:‏
برهرهة رؤدة رخصة كخرعوبة البانة المنفطر
ولم يقل المنفطرة؛ لأنه ذهب إلى القضيب‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ذكره لأنه فرق بينهما بالصفة، فلما حالت الصفة بين الاسم والفعل ذكر الفعل‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في البقرة في قوله تعالى
{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية‏}‏البقرة‏:‏ 180‏]‏
قوله تعالى‏{‏في فئتين التقتا‏{‏ يعني المسلمين والمشركين يوم بدر ‏{‏فئة‏{‏ قرأ الجمهور ‏{‏فئة‏{‏ بالرفع، بمعنى إحداهما فئة‏.‏ وقرأ الحسن ومجاهد ‏{‏فئة‏{‏ بالخفض ‏{‏وأخرى كافرة‏{‏ على البدل‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما‏.‏ قال أحمد بن يحيى‏:‏ ويجوز النصب على الحال، أي التقتا مختلفتين مؤمنة وكافرة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ النصب بمعنى أعني‏.‏ وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها، أي يرجع إليها في وقت الشدة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الفئة الفرقة، مأخوذة من فَأَوْتُ رأسه بالسيف - ويقال‏:‏ فأيته - إذا فلقته‏.‏ ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر‏.‏ واختلف من المخاطب بها؛ فقيل‏:‏ يحتمل أن يخاطب بها المؤمنون، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة؛ وبكل احتمال منها قد قال قوم‏.‏ وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع‏.‏
قوله تعالى‏{‏يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏{‏ قال أبو علي الرؤية في هذه الآية رؤية عين؛ ولذلك تعدت إلى مفعول واحد‏.‏ قال مكي والمهدوي‏:‏ يدل عليه ‏{‏رَأْيَ العين‏{‏‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏ترونهم‏{‏ بالتاء والباقون بالياء‏.‏ ‏{‏مثليهم‏{‏ نصب على الحال من الهاء والميم في ‏{‏ترونهم‏{‏‏.‏ والجمهور من الناس على أن الفاعل بترون هم المؤمنون، والضمير المتصل هو للكفار‏.‏ وأنكر أبو عمرو أن يقرأ ‏{‏ترونهم‏{‏ بالتاء؛ قال‏:‏ ولو كان كذلك لكان مثليكم‏.‏ قال النحاس‏{‏ وذا لا يلزم، ولكن يجوز أن يكون مثلي أصحابكم‏.‏ قال مكي‏{‏ترونهم‏{‏ بالتاء جرى على الخطاب في ‏{‏لكم‏{‏ فيحسن أن يكون الخطاب للمسلمين، والهاء والميم للمشركين‏.‏ وقد كان يلزم من قرأ بالتاء أن يقرأ مثليكم بالكاف، وذلك لا يجوز لمخالفة الخط؛ ولكن جرى الكلام على الخروج من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏}‏يونس‏:‏ 22‏]‏، وقوله تعالى‏{‏وما آتيتم من زكاة‏}‏الروم‏:‏ 39‏]‏ فخاطب ثم قال‏{‏فأولئك هم المضعفون‏}‏الروم‏:‏ 39‏]‏ فرجع إلى الغيبة‏.‏ فالهاء والميم في ‏{‏مثليهم‏{‏ يحتمل أن يكون للمشركين، أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد؛ وهو بعيد في المعنى؛ لأن الله تعالى لم يكثر المشركين في أعين المسلمين بل أعلمنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، فيكون المعنى ترون أيها المؤمنون المشركين مثليكم في العدد وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم ويقع التجاسر، وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، وقلل المسلمين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم فينفذ حكم الله فيهم‏.‏ ويحتمل أن يكون الضمير في ‏{‏مثليهم‏{‏ للمسلمين، أي ترون أيها المسلمون المسلمين مثلي ما أنتم عليه من العدد، أي ترون أنفسكم مثلي عددكم؛ فعل الله ذلك بهم لتقوى أنفسهم على لقاء المشركين‏.‏ والتأويل الأول أولى؛ يدل عليه قوله تعالى‏{‏إذ يريكهم الله في منامك قليلا‏}‏الأنفال‏:‏ 43‏]‏ وقوله‏{‏وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا‏}‏الأنفال‏:‏44‏]‏ وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ قلت لرجل إلى جنبي‏:‏ أتراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ أظنهم مائة فلما أخذنا الأسارى أخبرونا أنهم كانوا ألفا‏.‏ وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا‏:‏ بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكافرين حتى كانوا عندهم ضعفين‏.‏ وضعف الطبري هذا القول‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وكذلك هو مردود من جهات‏.‏ بل قلل الله المشركين في أعين المؤمنين كما تقدم‏.‏ وعلى هذا التأويل كان يكون ‏{‏ترون‏{‏ للكافرين، أي ترون أيها الكافرون المؤمنين مثليهم، ويحتمل مثليكم، على ما تقدم‏.‏ وزعم الفراء أن المعنى ترونهم مثليهم ثلاثة أمثالهم‏.‏ وهو بعيد غير معروف في اللغة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا باب الغلط، فيه غلط في جميع المقاييس؛ لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له، ونعقل مثله ما يساويه مرتين‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ وقد بين الفراء قوله بأن قال‏:‏ كما تقول وعندك عبد‏:‏ أحتاج إلى مثله، فأنت محتاج إليه وإلى مثله‏.‏ وتقول‏:‏ أحتاج إلى مثليه، فأنت محتاج إلى ثلاثة‏.‏ والمعنى على خلاف ما قاله، واللغة‏.‏ والذي أوقع الفراء في هذا أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين يوم بدر؛ فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عدتهم، وهذا بعيد وليس المعنى عليه‏.‏ وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين‏:‏ إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك، لأن المؤمنين تقوى قلوبهم بذلك‏.‏ والأخرى أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وسيأتي ذكر وقعة بدر إن شاء الله تعالى‏.‏ وأما قراءة الياء فقال ابن كيسان‏:‏ الهاء والميم في ‏{‏يرونهم‏{‏ عائدة على ‏{‏وأخرى كافرة‏{‏ والهاء والميم في ‏{‏مثليهم‏{‏ عائدة على ‏{‏فئة تقاتل في سبيل الله‏{‏ وهذا من الإضمار الذي يدل عليه سياق الكلام، وهو قوله‏{‏يؤيد بنصره من يشاء‏{‏‏.‏ فدل ذلك على أن الكافرين كانوا مثلي المسلمين في رأي العين وثلاثة أمثالهم في العدد‏.‏ قال‏:‏ والرؤية هنا لليهود‏.‏ وقال مكي‏:‏ الرؤية للفئة المقاتلة في سبيل الله، والمرئية الفئة الكافرة؛ أي ترى الفئة المقاتلة في سبيل الله الفئة الكافرة مثلي الفئة المؤمنة، وقد كانت الفئة الكافرة ثلاثة أمثال المؤمنة فقللهم الله في أعينهم على ما تقدم‏.‏ والخطاب في ‏{‏لكم‏{‏ لليهود‏.‏ وقرأ ابن عباس وطلحة ‏{‏تُروهم‏{‏ بضم التاء، والسلمي بالتاء المضمومة على ما لم يسم فاعله‏.‏ ‏{‏والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏{‏ تقدم معناه والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏14‏)‏

‏{‏زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب‏}‏

قوله تعالى‏{‏زين للناس‏{‏ زين من التزيين واختلف الناس من المزين؛ فقالت فرقة‏:‏ الله زين ذلك؛ وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكره البخاري‏.‏ وفي التنزيل‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها‏}‏الكهف‏:‏ 7‏]‏؛ ولما قال عمر‏:‏ الآن يا رب حين زينتها لنا‏!‏ نزلت‏{‏قل أأنبئكم بخير من ذلكم‏}‏آل عمران‏:‏ 15‏]‏ وقالت فرقة‏:‏ المزين هو الشيطان؛ وهو ظاهر قول الحسن، فإنه قال‏:‏ من زينها‏؟‏ ما أحد أشد لها ذما من خالقها‏.‏ فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء‏.‏ وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها‏.‏ والآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏زُيِّن‏{‏ على بناء الفعل للمفعول، ورفع ‏{‏حُبُّ‏{‏‏.‏ وقرأ الضحاك ومجاهد ‏{‏زَيَّن‏{‏ على بناء الفعل للفاعل، ونصب ‏{‏حُبَّ‏{‏ وحركت الهاء من ‏{‏الشهوات‏{‏ فرقا بين الاسم والنعت‏.‏ والشهوات جمع شهوة وهي معروفة‏.‏ ورجل شهوان للشيء، وشيء شهي أي مشتهى واتباع الشهوات مرد وطاعتها مهلكة‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏{‏وآتيتم إحداهن قنطارا‏}‏النساء‏:‏ 20‏]‏ وهو العقدة الكبيرة من المال، وقيل‏:‏ هو اسم للمعيار الذي يوزن به؛ كما هو الرطل والربع‏.‏ ويقال لما بلغ ذلك الوزن‏:‏ هذا قنطار، أي يعدل القنطار‏.‏ والعرب تقول‏:‏ قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه؛ تقول العرب‏:‏ قنطرت الشيء إذا أحكمته؛ ومنه سميت القنطرة لإحكامها‏.‏ قال طرفة‏:‏
{‏فيه تسيمون‏{‏
‏[‏النحل‏:‏10‏]‏ قال الأخطل‏:‏
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله أولى لك ابن مسيمة الأجمال
أراد ابن راعية الإبل‏.‏ والسوام‏:‏ كل بهيمة ترعى، وقيل‏:‏ المعدة للجهاد؛ قاله ابن زيد‏.‏ مجاهد‏:‏ المسومة المطهمة الحسان‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ سومها الحسن؛ واختاره النحاس، من قولهم‏:‏ رجل وسيم‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ المسومة المعلمة بشيات الخيل في وجوهها، من السيما وهي العلامة‏.‏ وهذا مذهب الكسائي وأبي عبيدة‏.‏
قلت‏:‏ كل ما ذكر يحتمله اللفظ، فتكون راعية معدة حسانا معلمة لتعرف من غيرها‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى‏.‏ وحكى ابن فارس اللغوي في مجمله‏:‏ المسومة المرسلة وعليها ركبانها‏.‏ وقال المؤرج‏:‏ المسومة المكوية، المبرد‏:‏ المعروفة في البلدان‏.‏ ابن كيسان‏:‏ البلق‏.‏ وكلها متقارب من السيما‏.‏ قال النابغة‏:‏
وضمر كالقداح مسومات عليها معشر أشباه جن
قوله تعالى‏{‏والأنعام‏{‏ قال ابن كيسان‏:‏ إذا قلت نعم لم تكن إلا للإبل، فإذا قلت أنعام وقعت للإبل وكل ما يرعى‏.‏ قال الفراء‏:‏ هو مذكر ولا يؤنث؛ يقولون هذا نعم وارد، ويجمع أنعاما‏.‏ قال الهروي‏:‏ والنعم يذكر ويؤنث، والأنعام المواشي من الإبل والبقر والغنم؛، إذا قيل‏:‏ النعم فهو الإبل خاصة‏.‏ وقال حسان‏:‏
وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء
وفي سنن ابن ماجة عن عروة البارقي يرفعه قال‏:‏ ‏(‏الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ وفيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشاة من دواب الجنة‏)‏‏.‏ وفيه عن أبي هريرة قال‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج‏.‏ وقال‏:‏ عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى‏.‏ وفيه عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏اتخذي غنما فإن فيها بركة‏)‏‏.‏ أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم هانئ، إسناد صحيح‏.‏
قوله تعالى‏{‏والحرث‏{‏ الحرث هنا اسم لكل ما يحرث، وهو مصدر سمي به؛ تقول‏:‏ حرث الرجل حرثا إذا أثار الأرض لمعنى الفلاحة؛ فيقع اسم الحراثة على زرع الحبوب وعلى الجنات وعلى غير ذلك من نوع الفلاحة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا‏)‏‏.‏ يقال حرثت واحترثت‏.‏ وفي حديث عبدالله ‏(‏احرثوا هذا القرآن‏)‏ أي فتشوه‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ الحرث التفتيش؛ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أصدق الأسماء الحارث‏)‏ لأن الحارث هو الكاسب، واحتراث المال كسبه، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس، والجمع أحرثة، وأحرث الرجل ناقته أهزلها‏.‏ وفي حديث معاوية‏:‏ ما فعلت نواضحكم‏؟‏ قالوا‏:‏ حرثناها يوم بدر‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ يعنون هزلناها؛ يقال‏:‏ حرثت الدابة وأحرثتها، لغتان‏.‏ وفي صحيح البخاري عن أبي أمامة الباهلي قال وقد رأى سكة وشيئا من آلة الحرث فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ إن الذل هنا ما يلزم أهل الشغل بالحرث من حقوق الأرض التي يطالبهم بها الأئمة والسلاطين‏.‏ وقال المهلب‏:‏ معنى قوله في هذا الحديث والله أعلم الحض على معالي الأحوال وطلب الرزق من أشرف الصناعات؛ وذلك لما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله؛ لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها؛ فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة‏.‏ ألا ترى أن عمر قال‏:‏ تمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وثبوا على الخيل وثبا لا تغلبنكم عليها رعاة الإبل‏.‏ فأمرهم بملازمة الخيل، ورياضة أبدانهم بالوثوب عليها‏.‏ وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مسلم غرس غرسا أو زرع زرعا فيأمل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة‏)‏‏.‏
قال العلماء‏:‏ ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس؛ أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار، وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك، وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي، وأما الحرث فيتمول بها أهل الرساتيق‏.‏ فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول، فأما النساء والبنون ففتنة للجميع‏.‏
قوله تعالى‏{‏ذلك متاع الحياة الدنيا‏{‏ أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى‏.‏ وهذا منه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة‏.‏‏"‏روى ابن ماجة وغيره عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة‏)‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ازهد في الدنيا يحبك الله‏)‏ أي في متاعها من الجاه والمال الزائد على الضروري‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء‏)‏ أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب‏.‏ وسئل سهل بن عبدالله‏:‏ بم يسهل على العبد ترك الدنيا وكل الشهوات‏؟‏ قال‏:‏ بتشاغله بما أمر به‏.‏
قوله تعالى‏{‏والله عنده حسن المآب‏{‏ ابتداء وخبر‏.‏ والمآب المرجع؛ آب يؤوب إيابا إذا رجع؛ قال يؤوب إيابا إذا رجع؛ قال امرؤ القيس‏:‏
وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر‏:‏
وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب
وأصل مآب مأوب، قلبت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف، مثل مقال‏.‏ ومعنى الآية تقليل الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏15‏)‏

‏{‏قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد‏}‏

منتهى الاستفهام عند قوله‏{‏من ذلكم‏{‏، ‏{‏للذين اتقوا‏{‏ خبر مقدم، و‏{‏جنات‏{‏ رفع بالابتداء‏.‏ وقيل‏:‏ منتهاه ‏{‏عند ربهم‏{‏، و‏{‏جنات‏{‏ على هذا رفع بابتداء مضمر تقديره ذلك جنات‏.‏ ويجوز على هذا التأويل ‏{‏جنات‏{‏ بالخفض بدلا من ‏{‏خير‏{‏ ولا يجوز ذلك على الأول‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه الآية والتي قبلها نظير قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏تنكح المرأة لأربع لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك‏)‏ خرجه مسلم وغيره‏.‏ فقوله ‏(‏فاظفر بذات الدين‏)‏ مثال لهذه الآية‏.‏ وما قبل مثال للأولى‏.‏ فذكر تعالى هذه تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها‏.‏ وقد تقدم في البقرة معاني ألفاظ هذه الآية‏.‏ والرضوان مصدر من الرضا، وهو أنه إذا دخل أهل الجنة يقول الله تعالى لهم ‏(‏تريدون شيئا أزيدكم‏)‏‏؟‏ فيقولون‏:‏ يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا‏؟‏ فيقول‏:‏ ‏(‏رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدأ‏)‏ خرجه مسلم‏.‏ وفي قوله تعالى‏{‏والله بصير بالعباد‏{‏ وعد ووعيد‏.‏


الآية رقم ‏(‏16‏:‏17‏)‏

‏{‏الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار‏}‏

‏{‏الذين‏{‏ بدل من قوله ‏{‏للذين اتقوا‏{‏ وإن شئت كان رفعا أي هم الذين، أو نصبا على المدح‏.‏ ‏{‏ربنا‏{‏ أي يا ربنا‏.‏ ‏{‏إننا آمنا‏{‏ أي صدقنا‏.‏ ‏{‏فاغفر لنا ذنوبنا‏{‏ دعاء بالمغفرة‏.‏ ‏{‏وقنا عذاب النار‏{‏ تقدم في البقرة‏.‏ ‏{‏الصابرين‏{‏ يعني عن المعاصي والشهوات، وقيل‏:‏ على الطاعات‏.‏ ‏{‏والصادقين‏{‏ أي في الأفعال والأقوال ‏{‏والقانتين‏{‏ الطائعين‏.‏ ‏{‏والمنفقين‏{‏ يعني في سبيل الله‏.‏ وقد تقدم في البقرة هذه المعاني على الكمال‏.‏ ففسر تعالى في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات‏.‏
واختلف في معنى قوله تعالى‏{‏والمستغفرين بالأسحار‏{‏ فقال أنس بن مالك‏:‏ هم السائلون المغفرة‏.‏ قتادة‏:‏ المصلون‏.‏
قلت‏:‏ ولا تناقض، فإنهم يصلون ويستغفرون‏.‏ وخص السحر بالذكر لأنه مظان القبول ووقت إجابة الدعاء‏.‏ ‏{‏سوف أستغفر لكم ربي‏}‏يوسف‏:‏ 98‏]‏‏:‏ ‏(‏أنه أخر ذلك إلى السحر‏)‏ خرجه الترمذي وسيأتي‏.‏ {‏وبالأسحار هم يستغفرون‏}‏الذاريات‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقال أنس بن مالك‏:‏ أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ بلغني أنه إذا كان أول الليل نادى مناد ليقِم القانتون فيقومون كذلك يصلون إلى السحر، فإذا كان عند السحر نادى مناد‏:‏ أين المستغفرون فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون فيصلون فيلحقون بهم‏.‏ فإذا طلع الفجر نادى مناد‏:‏ ألا ليقم الغافلون فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم‏.‏ وروي عن أنس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله يقول إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المتهجدين والمستغفرين بالأسحار صرفت عنهم العذاب بهم‏)‏‏.‏ قال مكحول‏:‏ إذا كان في أمة خمسة عشر رجلا يستغفرون الله كل يوم خمسا وعشرين مرة لم يؤاخذ الله تلك الأمة بعذاب العامة‏.‏ وذكره أبو نعيم في كتاب الحلية له‏.‏ وقال نافع‏:‏ كان ابن عمر يحيى الليل ثم يقول‏:‏ يا نافع أسحرنا‏؟‏ فأقول لا‏.‏ فيعاود الصلاة ثم يسأل، فإذا قلت نعم قعد يستغفر‏.‏ وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال‏:‏ سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول‏:‏ يا رب، أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي‏.‏ فنظرت فإذا هو ابن مسعود‏.‏
قلت‏:‏ فهذا كله يدل على أنه استغفار باللسان مع حضور القلب‏.‏ لا ما قال ابن زيد أن المراد بالمستغفرين الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال لقمان لابنه‏:‏ ‏(‏يا بني لا يكن الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم‏)‏‏.‏ والمختار من لفظ الاستغفار ما رواه البخاري عن شداد بن أوس، وليس له في الجامع غيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت - قال - ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليله قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة‏)‏‏.‏ وروى أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث ابن لهيعة عن أبي صخر عن أبي معاوية عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم قال‏:‏ ‏(‏ألا أعلمك كلمات تقولهن لو كانت ذنوبك كمدب النمل - أو كمدب الذر - لغفرها الله لك على أنه مغفور لك‏:‏ اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏18‏)‏

‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما نزلت هذه الآية خررن سجدا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ {‏وقل رب زدني علما‏}‏طه‏:‏ 114‏]‏‏.‏ فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم‏.‏ {‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏.‏ إن الدين عند الله الإسلام‏}‏آل عمران‏:‏ 18 - 19‏]‏، {‏وله الدين واصباً‏}‏النحل‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وفي قراءة عبدالله ‏{‏القائم بالقسط‏{‏ على النعت، والقسط العدل‏.‏ ‏{‏لا إاله إلا هو العزيز الحكيم‏{‏ كرر لأن الأولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت محل الحكم‏.‏ وقال جعفر الصادق‏:‏ الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، يعني قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم‏.‏

الآية رقم ‏(‏19‏)‏

‏{‏إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏{‏ الدين في هذه الآية الطاعة والملة، والإسلام بمعنى الإيمان والطاعات؛ قاله أبو العالية، وعليه جمهور المتكلمين‏.‏ والأصل في مسمى الإيمان والإسلام التغاير؛ لحديث جبريل‏.‏ وقد يكون بمعنى المرادفة‏.‏ فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر؛ كما في حديث وفد عبدالقيس وأنه أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال‏:‏ ‏(‏هل تدرون ما الإيمان‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم‏)‏ الحديث‏.‏ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله‏)‏ أخرجه الترمذي‏.‏ وزاد مسلم ‏(‏والحياء شعبة من الإيمان‏)‏‏.‏ ويكون أيضا بمعنى التداخل وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل ومسمى الآخر، كما في هذه الآية إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال؛ ومنه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان‏)‏‏.‏ أخرجه ابن ماجة، وقد تقدم والحقيقة هو الأول وضعا وشرعا وما عداه من باب التوسع والله أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏وما اختلف الذين أوتوا الكتاب‏{‏ الآية‏.‏ أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائق، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا‏.‏ قاله ابن عمر وغيره‏.‏ وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى‏:‏ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم؛ قاله الأخفش‏.‏ قال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ المراد بهذه الآية النصارى، وهي توبيخ لنصارى نجران‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ المراد بها اليهود‏.‏ ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعم اليهود والنصارى؛ أي ‏{‏وما اختلف الذين أوتوا الكتاب‏{‏ يعني في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏إلا من بعد ما جاءهم العلم‏{‏ يعني بيان صفته ونبوته في كتبهم‏.‏ وقيل‏:‏ أي وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل في أمر عيسى وفرقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد، وأن عيسى عبدالله ورسوله‏.‏ و‏{‏بغيا‏{‏ نصب على المفعول من أجله، أو على الحال من ‏(‏الذين‏)‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏20‏)‏

‏{‏فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن‏{‏ أي جادلوك بالأقاويل المزورة والمغالطات، فأسند أمرك إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ وعلى الله نصرك‏.‏ وقوله ‏{‏وجهي‏{‏ بمعنى ذاتي؛ ومنه الحديث ‏{‏ويبقى وجه ربك‏}‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏:‏ إنها عبارة عن الذات وقيل‏:‏ العمل الذي يقصد به وجهه‏.‏ وقوله ‏{‏ومن اتبعن‏{‏ ‏{‏من‏{‏ في محل رفع عطفا على التاء في قوله ‏{‏أسلمت‏{‏ أي ومن اتبعني أسلم أيضا، وجاز العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد للفصل بينهما‏.‏ وأثبت نافع وأبو عمرو ويعقوب ياء ‏{‏اتبعن‏{‏ على الأصل، وحذف الآخرون اتباعا للمصحف إذ وقعت فيه بغير ياء‏.‏ وقال الشاعر‏:‏
ليس تخفى يسارتي قدر يوم ولقد تخف شيمتي إعساري
قوله تعالى‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد‏{‏ يعني اليهود والنصارى ‏{‏والأميين‏{‏ الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب‏.‏ ‏{‏أأسلمتم‏{‏ استفهام معناه التقرير وفي ضمنه الأمر، أي أسلموا؛ كذا قال الطبري وغيره‏.‏ وقال الزجاج‏{‏أأسلمتم‏{‏ تهديد‏.‏ وهذا حسن لأن المعنى أأسلمتم أم لا‏.‏ وجاءت العبارة في قوله ‏{‏فقد اهتدوا‏{‏ بالماضي مبالغة في الإخبار بوقوع الهدي لهم وتحصيله‏.‏ و‏{‏البلاغ‏{‏ مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل، أي إنما عليك أن تبلغ‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مما نسخ بالجهاد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وهذا يحتاج إلى معرفة تاريخ نزولها؛ وأما على ظاهر نزول هذه الآيات في وفد نجران فإنما المعنى فإنما عليك أن تبلغ ما أنزل إليك بما فيه من قتال وغيره‏.‏

الآية رقم ‏(‏21‏:‏ 22‏)‏

‏{‏إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم، أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين‏{‏ قال أبو العباس المبرد‏:‏ كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون يدعونهم إلى الله عز وجل فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم؛ ففيهم نزلت هذه الآية‏.‏ وكذلك قال معقل بن أبي مسكين‏:‏ كانت الأنبياء صلوات الله عليهم تجيء إلى بني إسرائيل بغير كتاب فيقتلونهم، فيقوم قوم ممن اتبعهم فيأمرون بالقسط، أي بالعدل، فيقتلون‏.‏ {‏وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك‏}‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏‏.‏
دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة‏.‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف‏}‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ ثم قال‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏التوبة‏:‏ 71‏]‏‏.‏ فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين؛ فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه‏.‏ ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذ كانت إقامة الحدود إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب؛ فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة‏.‏ قال الله تعالى‏{‏الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر‏}‏الحج‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة، خلافا للمبتدعة حيث تقول‏:‏ لا يغيره إلا عدل‏.‏ وهذا ساقط؛ فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس‏.‏ فإن تشبثوا بقوله تعالى‏{‏أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم‏}‏البقرة‏:‏ 44‏]‏ وقوله‏{‏كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون‏}‏الصف‏:‏ 3‏]‏ ونحوه، قيل لهم‏:‏ إنما وقع الذم ههنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر‏.‏ ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى، كما بيناه في البقرة عند قوله تعالى‏{‏أتأمرون الناس بالبر‏}‏البقرة‏:‏ 44‏]‏‏.‏
أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبدالبر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وإنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره؛ فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك‏.‏ وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك‏.‏ قال‏:‏ والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا ولكنها مقيدة بالاستطاعة‏.‏ قال الحسن‏:‏ إنما يكلم مؤمن يرجى أو جاهل يعلم؛ فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال‏:‏ اتقني اتقني فما لك وله‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ بحسب المرء إذا رأى منكرا لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره‏.‏ ‏{‏وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك‏}‏لقمان‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وهذا إشارة إلى الإذاية‏.‏
‏"{‏فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله‏}‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شيء عليه‏.‏ ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به؛ حتى لقد قال العلماء‏:‏ لو فرضنا قودا‏.‏ وقيل‏:‏ كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء‏:‏ إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى‏.‏
‏"‏روى أنس بن مالك قال‏:‏ قيل يا رسول الله، متى نترك الأمر بالمعروف‏.‏ والنهي عن المنكر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم‏)‏‏.‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم‏)‏‏.‏ قال زيد‏:‏ تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏والعلم في رذالتكم‏)‏ إذا كان العلم في الفساق‏.‏ خرجه ابن ماجة‏.‏ وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في ‏{‏المائدة‏{‏ وغيرها إن شاء الله تعالى‏.‏ وتقدم معنى ‏{‏فبشرهم‏{‏ و‏{‏حبطت‏{‏ في البقرة فلا معنى للإعادة‏.‏

الاية رقم ‏(‏23‏)‏

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون‏}‏

{‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق‏}‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏‏.‏
في هذه الآية دليل على وجوب ارتفاع المدعو إلى الحاكم لأنه دعي إلى كتاب الله؛ فإن لم يفعل كان مخالفا يتعين عليه الزجر بالأدب على قدر المخالِف والمخالَف‏.‏ وهذا الحكم جار عندنا بالأندلس وبلاد المغرب وليس بالديار المصرية‏.‏ وهذا الحكم الذي ذكرناه مبين في التنزيل في سورة ‏{‏النور‏{‏ في قوله تعالى‏{‏وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون‏{‏ إلى قوله ‏{‏بل أولئك هم الظالمون‏}‏النور‏:‏ 48 - 49 - 50‏]‏‏.‏ وأسند الزهري عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له‏)‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا حديث باطل‏.‏ أما قوله ‏{‏فهو ظالم‏{‏ فكلام صحيح‏.‏ وأما قوله ‏{‏فلا حق له‏{‏ فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق‏.‏ قال ابن خويز منداد المالكي‏:‏ واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو يعلم عداؤه من المدعي والمدعى عليه‏.‏
وفيها دليل على أن شرائع من قبلنا شريعة لنا إلا ما علمنا نسخه، وإنه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا، على ما يأتي بيانه‏.‏ وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل بما فيها لأن من هي في يده غير أمين عليها وقد غيرها وبدلها، ولو علمنا أن شيئا منها لم يتغير ولم يتبدل جاز لنا قراءته‏.‏ ونحو ذلك روي عن عمر حيث قال لكعب‏:‏ إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها‏.‏ وكان عليه السلام عالما بما لم يغير منها فلذلك دعاهم إليها وإلى الحكم بها‏.‏ وسيأتي بيان هذا في ‏{‏المائدة‏{‏ والأخبار الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت في ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏24‏)‏

‏{‏ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون‏}‏

إشارة إلى التولي والإعراض، واغترار منهم في قولهم‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ إلى غير ذلك من أقوالهم‏.‏ وقد مضى الكلام في معنى قولهم‏{‏لن تمسنا النار‏{‏ في البقرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏25‏)‏

‏{‏فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏

خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته على جهة التوقيف والتعجب، أي فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم وقبيح أعمالهم‏.‏ واللام في قوله ‏{‏ليوم‏{‏ بمعنى ‏{‏في‏{‏؛ قاله الكسائي، وقال البصريون‏:‏ المعنى لحساب يوم، الطبري‏:‏ لما يحدث في يوم‏.‏

الآية رقم ‏(‏26‏)‏

‏{‏قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير‏}‏

{‏تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب‏}‏آل عمران‏:‏ 27‏]‏ فلو كان عيسى إلها كان هذا إليه؛ فكان في ذلك اعتبار وآية بينة‏.‏
قوله تعالى‏{‏قل اللهم‏{‏ اختلف النحويون في تركيب لفظة ‏{‏اللهم‏{‏ بعد إجماعهم أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة، وأنها منادى؛ وقد جاءت مخففة الميم في قول الأعشى‏:‏
{‏قل اللهم فاطر السموات والأرض‏}‏الزمر‏:‏ 46‏]‏ ولا يجوز عنده أن يوصف اللهم لأنه قد ضمت إليه الميم‏.‏ وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السري الزجاج فقالا‏{‏مالك‏{‏ في الإعراب صفة لاسم الله تعالى، وكذلك ‏{‏فاطر السموات والأرض‏{‏‏.‏ قال أبو علي؛ هو مذهب أبي العباس المبرد؛ وما قاله سيبويه أصوب وأبين؛ وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد ‏{‏اللهم‏{‏ لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت، والأصوات لا توصف؛ نحو غاق وما أشبهه‏.‏ وكان حكم الاسم المفرد ألا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع‏.‏ فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه ألا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت؛ نحو حيهل فلم يوصف‏.‏ و‏{‏الملك‏{‏ هنا النبوة؛ عن مجاهد‏.‏ وقيل، الغلبة‏.‏ وقيل‏:‏ المال والعبيد‏.‏ الزجاج‏:‏ المعنى مالك العباد وما ملكوا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى مالك الدنيا والآخرة‏.‏ ومعنى ‏{‏تؤتي الملك‏{‏ أي الإيمان والإسلام‏.‏ ‏{‏من تشاء‏{‏ أي من تشاء أن تؤتيه إياه، وكذلك ما بعده، ولا بد فيه من تقدير الحذف، أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، ثم حذف هذا، وأنشد سيبويه‏:‏
{‏وعزني في الخطاب‏}‏ص‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ‏{‏وتذل من تشاء‏{‏ ذل يذل ذلا إذا غلب وعلا وقهر‏.‏ قال طرفة‏:‏
{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏النحل‏:‏ 81‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ خص الخير لأنه موضع دعاء ورغبة في فضله‏.‏ قال النقاش‏:‏ بيدك الخير، أي النصر والغنيمة‏.‏ وقال أهل الإشارات‏.‏ كان أبو جهل يملك المال الكثير، ووقع في الرس يوم بدر، والفقراء صهيب وبلال وخباب لم يكن لهم مال، وكان ملكهم الإيمان، ‏{‏قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء‏{‏ تقيم الرسول يتيم أبي طالب على رأس الرس حتى ينادي أبدانا قد انقلبت إلى القليب‏:‏ يا عتبة، يا شيبة تعز من تشاء وتذل من تشاء‏.‏ أي صهيب، أي بلال، لا تعتقدوا أنا منعناكم من الدنيا ببغضكم‏.‏ بيدك الخير ما منعكم من عجز ‏{‏إنك على كل شيء قدير‏{‏ إنعام الحق عام يتولى من يشاء‏.‏

الاية رقم ‏(‏27‏)‏

‏{‏تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب‏}‏

قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي في معنى قوله ‏{‏تولج الليل في النهار‏{‏ الآية، أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر، حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، والليل تسع ساعات وهو أقصر ما يكون، وكذا ‏{‏تولج النهار في الليل‏{‏ وهو قول الكلبي، وروى عن ابن مسعود‏.‏ وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار، كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر‏.‏ واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى‏{‏وتخرج الحي من الميت‏{‏ فقال الحسن‏:‏ معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، وروي نحوه عن سلمان الفارسي‏.‏ وروي معمر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه فإذا بامرأة حسنة الهيئة قال‏:‏ ‏(‏من هذه‏)‏‏؟‏ قلن إحدى خالاتك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن هي‏)‏‏؟‏ قلن‏:‏ هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سبحان الذي يخرج الحي من الميت‏)‏‏.‏ وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا‏.‏ فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن؛ فالموت والحياة مستعاران‏.‏ وذهب كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية حقيقتان؛ فقال عكرمة‏:‏ هي إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة، وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة‏.‏ وقال عكرمة والسدي‏:‏ هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة، والنواة من النخلة والنخلة تخرج من النواة؛ والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه‏.‏ ثم قال‏{‏وترزق من تشاء بغير حساب‏{‏ أي بغير تضييق ولا تقتير؛ كما تقول‏:‏ فلان يعطي بغير حساب؛ كأنه لا يحسب ما يعطي‏.‏

الآية رقم ‏(‏28‏)‏

‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار فيتخذوهم أولياء؛ ومثله ‏{‏لا تتخذوا بطانة من دونكم‏}‏آل عمران 118‏]‏ وهناك يأتي بيان هذا المعنى‏.‏ ومعنى ‏{‏فليس من الله في شيء‏{‏ أي فليس من حزب الله ولا من أوليائه في شيء؛ مثل‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وحكى سيبويه ‏{‏هو مني فرسخين‏{‏ أي من أصحابي ومعي‏.‏ ثم استثنى فقال‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقاة‏{‏ قال معاذ بن جبل ومجاهد‏:‏ كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين؛ فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثما‏.‏ وقال الحسن‏:‏ التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل‏.‏ وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقية‏{‏ وقيل‏:‏ إن المؤمن إذا كان قائما بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم‏.‏ ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر؛ بل يجوز له ذلك على ما يأتي بيانه في ‏{‏النحل‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وأمال حمزة والكسائي ‏{‏تقاة‏{‏، وفخم الباقون؛ وأصل ‏{‏تقاة‏{‏ وُقَيَة على وزن فعلة؛ مثل تؤدة وتهمة، قلبت الواو تاء والياء ألفا‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا تقيا وكان له حلف من اليهود؛ فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة‏:‏ يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو‏.‏ فأنزل الله تعالى‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏{‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في عمار بن ياسر حين تكلم ببعض ما أراد منه المشركون، على ما يأتي بيانه في ‏{‏النحل‏]‏‏.‏
قوله تعالى‏{‏ويحذركم الله نفسه‏{‏ قال الزجاج‏:‏ أي ويحذركم الله إياه‏.‏ ثم استغنوا عن ذلك بذا وصار المستعمل؛ قال تعالى‏{‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏}‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك‏.‏ وقال غيره‏:‏ المعنى ويحذركم الله عقابه؛ مثل ‏{‏واسأل القرية‏{‏‏.‏ وقال‏{‏تعلم ما في نفسي‏{‏ أي مغيبي، فجعلت النفس في موضع الإضمار لأنه فيها يكون‏.‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏{‏ أي وإلى جزاء الله المصير‏.‏ وفيه إقرار بالبعث‏.‏

الآية رقم ‏(‏29‏)‏

‏{‏قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير‏}‏

فهو العالم بخفيات الصدور وما اشتملت عليه، وبما في السموات والأرض وما احتوت عليه، علام الغيوب لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يغيب عنه شيء، سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة‏.‏

الآية رقم ‏(‏30‏)‏

‏{‏يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد‏}‏

‏{‏يوم‏{‏ منصوب متصل بقوله‏{‏ويحذركم الله نفسه‏.‏ يوم تجد‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو متصل بقوله‏{‏وإلى الله المصير‏.‏ يوم تجد‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو متصل بقوله‏{‏والله على كل شيء قدير‏.‏ يوم تجد‏{‏ ويجوز أن يكون منقطعا على إضمار اذكر؛ ومثله قوله‏{‏إن الله عزيز ذو انتقام‏.‏ يوم تبدل الأرض‏}‏إبراهيم‏:‏47، 48‏]‏‏.‏ و‏{‏محضرا‏{‏ حال من الضمير المحذوف من صلة ‏{‏ما‏{‏ تقديره يوم تجد كل نفس ما عملته من خير محضرا‏.‏ هذا على أن يكون ‏{‏تجد‏{‏ من وجدان الضالة‏.‏ و‏{‏ما‏{‏ من قوله ‏{‏وما عملت من سوء‏{‏ عطف على ‏{‏ما‏{‏ الأولى‏.‏ و‏{‏تود‏{‏ في موضع الحال من ‏{‏ما‏{‏ الثانية‏.‏ وإن جعلت ‏{‏تجد‏{‏ بمعنى تعلم كان ‏{‏محضرا‏{‏ المفعول الثاني، وكذلك تكون ‏{‏تود‏{‏ في موضع المفعول الثاني؛ تقديره يوم تجد كل نفس جزاء ما عملت محضرا‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏{‏ الثانية رفعا بالابتداء، و‏{‏تود‏{‏ في موضع رفع على أنه خبر الابتداء، ولا يصح أن تكون ‏{‏ما‏{‏ بمعنى الجزاء؛ لأن ‏{‏تود‏{‏ مرفوع، ولو كان ماضيا لجاز أن يكون جزاء، وكان يكون معنى الكلام‏:‏ وما عملت من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا؛ أي كما بين المشرق والمغرب‏.‏ ولا يكون المستقبل إذا جعلت ‏{‏ما‏{‏ للشرط إلا مجزوما؛ إلا أن تحمله على تقدير حذف الفاء، على تقدير‏:‏ وما عملت من سوء فهي تود‏.‏ أبو علي‏:‏ هو قياس قول الفراء عندي؛ لأنه قال في قوله تعالى‏{‏وإن أطعتموهم إنكم لمشركون‏}‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏‏:‏ إنه على حذف الفاء‏.‏ والأمد‏:‏ الغاية، وجمعه آماد‏.‏ ويقال‏:‏ استولى على الأمد، أي غلب سابقا‏.‏ قال النابغة‏:‏
إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد
والأمد‏:‏ الغضب‏.‏ يقال‏:‏ أمِد أمَدا، إذا غضب غضبا‏.‏

الآية رقم ‏(‏31‏)‏

‏{‏قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم‏}‏

الحب‏:‏ المحبة، وكذلك الحب بالكسر‏.‏ والحب أيضا الحبيب؛ مثل الخِدن والخَدين؛ يقال أحبه فهو محب، وحبه يحبه ‏(‏بالكسر‏)‏ فهو محبوب‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وهذا شاذ؛ لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ والأصل فيه حَبُب كظرف، فأسكنت الباء وأدغمت في الثانية‏.‏ قال ابن الدهان سعيد‏:‏ في حَبّ لغتان‏:‏ حَبّ وأحَبّ، وأصل ‏{‏حب‏{‏ في هذا البناء حَبُب كظرف؛ يدل على ذلك قولهم‏:‏ حَبُبْت، وأكثر ما ورد فعيل من فعل‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ والدلالة على أحب قوله تعالى‏{‏يحبهم ويحبونه‏}‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ بضم الياء‏.‏ و‏{‏اتبعوني يحببكم الله‏}‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏ و‏{‏حَبّ‏{‏ يرد على فعل لقولهم حبيب‏.‏ وعلى فعل كقولهم محبوب‏:‏ ولم يرد اسم الفاعل من حب المتعدي، فلا يقال‏:‏ أنا حاب‏.‏ ولم يرد اسم المفعول من أفعل إلا قليلا؛ كقوله‏:‏
{‏إن الله لا يحب الكافرين‏}‏آل عمران‏:‏ 32‏]‏ أي لا يغفر لهم‏.‏ وقال سهل بن عبدالله‏:‏ علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة؛ وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة‏.‏ وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏{‏قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس‏)‏ خرجه أبو عبدالله الترمذي‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أراد أن يحبه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وألا يؤذي جاره‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء - قال - ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء أن الله يبغض فلانا فأبغضوه - قال - فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض‏)‏‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر سورة ‏{‏مريم‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقرأ أبو رجاء العطاردي ‏(‏فاتبعوني‏)‏ بفتح الباء، ‏{‏ويغفر لكم‏{‏ عطف على ‏{‏يحببكم‏{‏‏.‏ وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من ‏{‏يغفر‏{‏ في اللام من ‏{‏لكم‏{‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا يجيز الخليل وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرو أجل من أن يغلط في مثل هذا، ولعله كان يخفي الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏32‏)‏

‏{‏قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل أطيعوا الله والرسول‏{‏ يأتي بيانه في ‏(‏النساء‏)‏‏.‏
‏{‏فإن تولوا‏{‏ شرط، إلا أنه ماض لا يعرب‏.‏ والتقدير فإن تولوا على كفرهم وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله ‏{‏فإن الله لا يحب الكافرين‏{‏ أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم كما تقدم‏.‏ وقال ‏{‏فإن الله‏{‏ ولم يقل ‏{‏فإنه‏{‏ لأن العرب إذا عظمت الشيء أعادت ذكره؛ وأنشد سيبويه‏:‏
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

الآية رقم ‏(‏33‏)‏

‏{‏إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الله اصطفى آدم ونوحا‏{‏ اصطفى اختار، وقد تقدم في البقرة‏.‏ وتقدم فيها اشتقاق آدم وكنيته، والتقدير إن الله اصطفى دينهم وهو دين الإسلام؛ فحذف المضاف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم‏.‏ ‏{‏ونوحا‏{‏ قيل إنه مشتق من ناح ينوح، وهو اسم أعجمي إلا أنه انصرف لأنه على ثلاثة أحرف، وهو شيخ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات، ومن قال‏:‏ إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وهم على ما يأتي بيانه في ‏{‏الأعراف‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏
قوله تعالى‏{‏وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين‏{‏ تقدم في البقرة معنى الآل وعلى ما يطلق مستوفى‏.‏ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين‏}‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏ وقيل‏:‏ آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم‏.‏ وقيل‏:‏ آل إبراهيم نفسه، وكذا آل عمران؛ ومنه قوله تعالى‏{‏وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون‏}‏البقرة‏:‏ 248‏]‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏{‏ذرية بعضها من بعض‏}‏آل عمران‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد عيسى، لأن أمه ابنة عمران‏.‏ وقيل‏:‏ نفسه كما ذكرنا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هو عمران أبو موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر لن فاهاث بن لاوى بن يعقوب‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هو عمران أبو مريم، وهو من ولد سليمان عليه السلام‏.‏ وحكى السهيلي‏:‏ عمران بن ماتان، وامرأته حنة ‏(‏بالنون‏)‏‏.‏ وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء والرسل بقضهم وقضيضهم من نسلهم‏.‏ ولم ينصرف عمران لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين‏.‏ ومعنى قوله‏{‏على العالمين‏{‏ أي على عالمي زمانهم، في قول أهل التفسير‏.‏ وقال الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي‏:‏ جميع الخلق كلهم‏.‏ وقيل ‏{‏على العالمين‏{‏‏:‏ على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور، وذلك أن هؤلاء رسل وأنبياء فهم صفوة الخلق؛ فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة‏.‏ قال الله تعالى‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار أمانا للخلق، لما بعثه الله أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور‏.‏ وسائر الأنبياء لم يحلوا هذا المحل؛ ولذلك قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أنا رحمة مهداة‏)‏ يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله‏.‏ وقوله ‏(‏مهداة‏)‏ أي هدية من الله للخلق‏.‏ ويقال‏:‏ اختار آدم بخمسة أشياء‏:‏ أولها أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته، والثاني أنه علمه الأسماء كلها، والثالث أمر الملائكة بأن يسجدوا له، والرابع أسكنه الجنة، والخامس جعله أبا البشر‏.‏ واختار نوحا بخمسة أشياء‏:‏ أولها أنه جعله أبا البشر؛ لأن الناس كلهم غرقوا وصار ذريته هم الباقين، والثاني أنه أطال عمره؛ ويقال‏:‏ طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين، والرابع أنه حمله على السفينة، والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع؛ وكان قبل ذلك لم يحرم تزويج الخالات والعمات‏.‏ واختار إبراهيم بخمسة أشياء‏:‏ أولها أنه جعله أبا الأنبياء؛ لأنه‏"‏روى أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني أنه اتخذه خليلا، والثالث أنه أنجاه من النار، والرابع أنه جعله إماما للناس، والخامس أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن‏.‏ ثم قال‏{‏وآل عمران‏{‏ فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين حيث بعث على قومه المن والسلوى وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم‏.‏ وإن كان أبا مريم فإنه اصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لأحد في العالم‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏34‏)‏

‏{‏ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم‏}‏

تقدم في البقرة معنى الذرية واشتقاقها‏.‏ وهي نصب على الحال؛ قاله الأخفش‏.‏ أي في حال كون بعضهم من بعض، أي ذرية بعضها من ولد بعض‏.‏ الكوفيون‏:‏ على القطع‏.‏ الزجاج‏:‏ بدل، أي اصطفى ذرية بعضها من بعض، ومعنى بعضها من بعض، يعني في التناصر في الدين؛ كما قال‏
{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض‏}‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ يعني في الضلالة؛ قاله الحسن وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ في الاجتباء والاصطفاء والنبوة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به التناسل، وهذا أضعفها‏.‏

الآية رقم ‏(‏35‏)‏

‏{‏إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتتقبل مني إنك أنت السميع العلي‏}‏

قوله تعالى‏{‏إذ قالت امرأة عمران‏{‏ قال أبو عبيدة‏{‏إذ‏{‏ زائدة‏.‏ وقال محمد بن يزيد‏:‏ التقدير‏:‏ اذكر إذ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران‏.‏ وهي حنة ‏(‏بالحاء المهملة والنون‏)‏ بنت فاقود بن قنبل أم مريم جدة عيسى عليه السلام، وليس باسم عربي ولا يعرف في العربية حنة اسم امرأة‏.‏ وفي العربية أبو حنة البدري، ويقال فيه‏:‏ أبو حبة ‏(‏بالباء بواحدة‏)‏ وهو أصح، واسمه عامر، ودير حنة بالشأم، ودير آخر أيضا يقال له كذلك؛ قال أبو نواس‏:‏
يا دير حنة من ذات الأكيراح من يصح عنك فإني لست بالصاحي
وحبة في العرب كثير، منهم أبو حبة الأنصاري، وأبو السنابل بن بعكك المذكور في حديث سبيعة حبة، ولا يعرف خنة بالخاء المعجمة إلا بنت يحيى بن أكثم القاضي، وهي أم محمد بن نصر، ولا يعرف جنة ‏(‏بالجيم‏)‏ إلا أبو جنة، وهو خال ذي الرمة الشاعر‏.‏ كل هذا من كتاب ابن ماكولا‏.‏
قوله تعالى‏{‏رب إني نذرت لك ما في بطني محررا‏{‏ تقدم معنى النذر، وأنه لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه‏.‏ ويقال‏:‏ إنها لما حملت قالت‏:‏ لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني لجعلته محررا‏.‏ ومعنى ‏{‏لك‏{‏ أي لعبادتك‏.‏ ‏{‏محررا‏{‏ نصب على الحال، وقيل‏:‏ نعت لمفعول محذوف، أي إني نذرت لك ما في بطني غلاما محررا، والأول أولى من جهة التفسير وسياق الكلام والإعراب‏:‏ أما الإعراب فإن إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع، ويجوز على المجاز في أخرى، وأما التفسير فقيل أن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، وإنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا فتحركت نفسها لذلك، ودعت ربها أن يهب لها ولدا، ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها محررا‏:‏ أي عتيقا خالصا لله تعالى، خادما للكنيسة حبيسا عليها، مفرغا لعبادة الله تعالى‏.‏ وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم‏.‏ فلما وضعت مريم قالت‏{‏رب إني وضعتها أنثى‏{‏ يعني أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة‏.‏ قيل لما يصيبها من الحيض والأذى‏.‏ وقيل‏:‏ لا تصلح لمخالطة الرجال‏.‏ وكانت ترجو أن يكون ذكرا فلذلك حررت‏.‏
قال ابن العربي‏{‏لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده وكيفما تصرفت حاله؛ فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر له قول في ذلك؛ وإن كان حرا فلا يصح أن يكون مملوكا له، وكذلك المرأة مثله؛ فأي وجه للنذر فيه‏؟‏ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريد ولده للأنس به والاستنصار والتسلي، فطلبت هذه المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه؛ فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الأنس به متروك فيه، وهو على خدمة الله تعالى موقوف، وهذا نذر الأحرار من الأبرار‏.‏ وأرادت به محررا من جهتي، محررا من رق الدنيا وأشغالها؛ وقد قال رجل من الصوفية لأمه‏:‏ يا أمه‏:‏ ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت نعم‏.‏ فسار حتى تبصر ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت من‏؟‏ فقال لها‏:‏ ابنك فلان، قالت‏:‏ قد تركناك لله ولا نعود فيك‏.‏
قوله تعالى‏{‏محررا‏{‏ مأخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية؛ من هذا تحرير الكتاب، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد‏.‏ وروى خصيف عن عكرمة ومجاهد‏:‏ أن المحرر الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا‏.‏ وهذا معروف في اللغة أن يقال لكل ما خلص‏:‏ حر، ومحرر بمعناه؛ قال ذو الرمة‏:‏
والقرط في حرة الذفرى معلقه تباعد الحبل منه فهو يضطرب
وطين حر لا رمل فيه، وباتت فلانة بليلة حرة إذا لم يصل إليها زوجها أول ليلة؛ فإن تمكن منها فهي بليلة شيباء‏.‏

الآية رقم ‏(‏36‏)‏

‏{‏فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور، فقبل الله مريم‏.‏ ‏{‏وأنثى‏{‏ حال، وإن شئت بدل‏.‏ فقيل‏:‏ إنها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها؛ رواه أشهب عن مالك‏:‏ وقيل‏:‏ لفتها في خرقتها وأرسلت بها إلى المسجد، فوفت بنذرها وتبرأت منها‏.‏ ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام؛ ‏{‏وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏}‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏ والله أعلم بما وضعت؛ قاله المهدوي‏.‏ وقال مكي‏:‏ هو إعلام من الله تعالى لنا على طريق التثبيت فقال‏:‏ والله أعلم بما وضعت أم مريم قالته أو لم تقله‏.‏ ويقوي ذلك أنه لو كان من كلام أم مريم لكان وجه الكلام‏:‏ وأنت أعلم بما وضعت؛ لأنها نادته في أول الكلام في قولها‏:‏ رب إني وضعتها أنثى‏.‏ وروي عن ابن عباس ‏{‏بما وضعت‏{‏ بكسر التاء، أي قيل لها هذا‏.‏
قوله تعالى‏{‏وليس الذكر كالأنثى‏{‏ استدل به بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساويه في وجوب الكفارة عليها، ابن العربي، وهذه منه غفلة، فإن هذا خبر عن شرع من قبلنا وهم لا يقولون به، وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له به بينة حالها ومقطع كلامها، فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها‏.‏ ولم ينصرف ‏{‏مريم‏{‏ لأنه مؤنث معرفة، وهو أيضا أعجمي؛ قاله النحاس‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏
قوله تعالى‏{‏وإني سميتها مريم‏{‏ يعني خادم الرب في لغتهم‏.‏ ‏{‏وإني أعيذها بك‏{‏ يعني مريم‏.‏ ‏{‏وذريتها‏{‏ يعني عيسى‏.‏ وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه‏)‏ ثم قال أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم‏{‏وإني أعيدها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏{‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها‏.‏ قال قتادة‏:‏ كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأمه جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لها منه شيء، قال علماؤنا‏:‏ وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد؛ فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان، كما قال تعالى‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمريم وابنها وإن عصما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لها ومقارنته‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏37‏)‏

‏{‏فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏فتقبلها ربها بقبول حسن‏{‏ المعنى‏:‏ سلك بها طريق السعداء؛ عن ابن عباس‏.‏ وقال قوم‏:‏ معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار‏.‏ ‏{‏وأنبتها نباتا حسنا‏{‏ يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد‏.‏ والقبول والنبات مصدران على غير المصدر، والأصل تقبلا وإنباتا‏.‏ قال الشاعر‏:‏
{‏أيهم يكفل مريم‏}‏آل عمران‏:‏ 44‏]‏‏.‏ قال مكي‏:‏ وهو الاختيار؛ لأن التشديد يرجع إلى التخفيف، لأن الله تعالى إذا كفلها زكريا كفلها بأمر الله، ولأن زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته؛ فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان‏.‏ وروى عمرو بن موسى عن عبدالله بن كثير وأبي عبدالله المزني ‏{‏وكفلها‏{‏ بكسر الفاء‏.‏ قال الأخفش‏:‏ يقال كَفَلَ يَكْفُلُ وكَفِلَ يَكْفَلُ ولم أسمع كَفُلَ، وقد ذكرت‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏فتقبلْها‏{‏ بإسكان اللام على المسألة والطلب‏.‏ ‏{‏ربها‏{‏ بالنصب نداء مضاف‏.‏ ‏{‏وأنبتْها‏{‏ بإسكان التاء ‏{‏وكفلها‏{‏ بإسكان اللام ‏{‏زكرياء‏{‏ بالمد والنصب‏.‏ وقرأ حفص وحمزة والكسائي ‏{‏زكريا‏{‏ بغير مد ولا همزة، ومده الباقون وهمزوه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يمدون ‏{‏زكرياء‏{‏ ويقصرونه، وأهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون‏:‏ زكري‏.‏ قال الأخفش‏:‏ فيه أربع لغات‏:‏ المد والقصر، وكري بتشديد الياء والصرف، وزكر ورأيت زكريا‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ زكرى بلا صرف لأنه أعجمي وهذا غلط؛ لأن ما كان فيه ‏{‏يا‏{‏ مثل هذا انصرف مثل كرسي ويحيى، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لأن فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف‏.‏
قوله تعالى‏{‏كلما دخل عليها زكريا المحراب‏{‏ المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس‏.‏ وسيأتي له مزيد بيان في سورة ‏{‏مريم‏{‏‏.‏ وجاء في الخبر‏:‏ إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم‏.‏ قال وضاح اليمن‏:‏
ربة محراب إذا جئتها لم أَلْقها حتى ارتَقِي سلما
أي ربة غرفة‏.‏‏"‏روى أبو صالح عن ابن عباس قال‏:‏ حملت امرأة عمران بعد ما أسنت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران‏:‏ ويحك ما صنعت‏؟‏ أرأيت إن كانت أنثى‏؟‏ فاغتما لذلك جميعا‏.‏ فهلك عمران وحنة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حسن، وكان لا يحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي، على ما يأتي‏.‏ فكفلها زكريا وأخذ لها موضعا فلما أسنت جعل لها محرابا لا يرتقي إليه إلا بسلم، واستأجر لها ظئرا وكان يغلق عليها بابا، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا في قول الكلبي‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كانت أختها امرأة زكريا‏.‏ وكانت إذا طهرت من حيضتها واغتسلت ردها إلى المحراب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض‏.‏ وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال‏:‏ يا مريم أنى لك هذا‏؟‏ فقالت‏:‏ هو من عند الله‏.‏ فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال‏:‏ إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا‏.‏ ومعنى ‏{‏أنى‏{‏ من أين؛ قاله أبو عبيدة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا فيه تساهل؛ لأن ‏{‏أين‏{‏ سؤال عن المواضع و‏{‏أنى‏{‏ سؤال عن المذاهب والجهات‏.‏ والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا‏.‏ وقد فرق الكميت بينهما فقال‏:‏
أنى ومن أين آبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب
و ‏{‏كلما‏{‏ منصوب بـ ‏{‏وجد‏{‏، أي كل دخلة‏.‏ ‏{‏إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏{‏ قيل‏:‏ هو من قول مريم، ويجوز أن يكون مستأنفا؛ فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد‏.‏
 
عودة
أعلى