
مقدمة
لم يكن اندلاع القتال بين روسيا الاتحادية وجورجيا بالأمر الغريب، بل كان متوقعاً منذ شهور؛ ولكن الجديد كان ميدان المواجهة نفسها. فقد كانت التوقعات تميل إلى أن تندلع المواجهة انطلاقاً من إقليم أبخازيا، الذي تتشابه حالته بشكل كبير مع حالة أوسيتيا الجنوبية، إلاّ أن الأحداث تحولت لتبدأ المواجهة فوق أرض أوسيتيا الجنوبية.
بدأت جورجيا العمليات العسكرية ضد أوسيتيا الجنوبية، ثم تدخلت أبخازيا على الخط، ما استدعى روسيا إلى نجدتهما، وبدأ تدخل الكبار بعد أن فعلها الصغار. روسيا من جانب، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي من جانب آخر. ولم تفت الفرصة دول متوسطة أخرى، مثل تركيا وإسرائيل، وظهر هناك مستفيدون آخرون، مثل سورية وإيران.
إذا نظرنا إلى ما حدث، يمكن تحديد اللاعبين الرئيسيين على مسرح الأحداث، وغيرهم من اللاعبين الثانويين. اللاعبون المباشرون، واللاعبون غير المباشرين. لاعبون مستفيدون من الأزمة، وآخرون خاسرون. لاعبون يحاولون إيقافها، وآخرون يحاولون زيادة إشعالها. من هم هؤلاء اللاعبون؟ فضلاً عن دول تحاول فرض سيطرتها، وأخرى تدافع عن أمنها الوطني. دول تحاول حل مشاكلها بالقوة، ودول تحاول الحصول على استقلالها وتسعى لنيل الاعتراف بها.
خلال الشهور الماضية وقع العديد من المناوشات المسلحة المحدودة بين الطرفين، في أوسيتيا الجنوبية وجورجيا. وإمعاناً في التمهيد للصدام، اتجهت الآلة الإعلامية لكلِّ طرف نحو التصعيد، وسط فشل واضح لجهود التهدئة. إن الوضع في أوسيتيا الجنوبية له جذور تاريخية عميقة ومعقدة. فالأوسيتيون لهم علاقة تاريخية بروسيا والاتحاد السوفيتي السابق، وتقريباً كلّ سكانها يحملون جوازات سفر روسية، بمن فيهم رئيس البلاد، ومن ثَمّ فهم يشعرون بالانتماء إلى روسيا أكثر من جورجيا.
خاض الأوسيتيون الجنوبيين نضالاً طويلاً للاستقلال عن جورجيا، حتى حصلوا على حكم ذاتي موسع في الإقليم، إلاّ أن ذلك لم يرض طموحاتهم، فزاد سقف مطالبهم إلى درجة السعي إلى الاستقلال عن جورجيا. ومع تولي ميخائي سلكاشفيلي رئاسة جورجيا، وهو سياسي معروف بولائه للغرب ويحمل الجنسية الأمريكية، زادت حدة التوتر بين جورجيا وروسيا الاتحادية، خاصة مع إعلان حلف شمال الأطلنطي (الناتو) عزمه ضمّ جورجيا إلى عضويته، وهو الأمر الذي أثار استياءً كبيراً في روسيا. وساعد في زيادة حدة التوتر أيضاً أن روسيا اليوم لم تَعُدّ هي روسيا في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، بل أصبحت دولة تتمتع باقتصاد قوي وسط رغبة وطموح باستعادة مكانتها الدولية السابقة، التي كانت لها إبّان فترة الاتحاد السوفيتي السابق.
فروسيا، وريثة الإمبراطورية السوفيتية، لا تريد أن تتخلى عن وهج القطبية بشكل أو بآخر، وهي تَعُدّ جورجيا خنجراً في خاصرتها. كما أن جورجيا تحالفت رسمياً مع الولايات المتحدة في حرب العراق، التي عارضتها روسيا، وأصبحت جورجيا ثالث أكبر دولة لها قوات في العراق. ولهذا اشتد التوتر بين روسيا وجورجيا في أوسيتيا الجنوبية، ووصل إلى حد المواجهة العسكرية، التي أرادت موسكو من خلالها أن تبعث بعدة رسائل إلى العالم أجمع، رسائل مفادها: أنها عائدة إلى موقعها "قوة عالمية كبرى" لها مكانتها وقادرة على الدفاع عن مصالحها واستعادة مجدها القديم. كما كانت فرصة مواتية لترد عملياً على رفضها مشروع "الدرع الصاروخية الأمريكية"، الذي يهدد أمنها الوطني.
إن معركة أوسيتيا الجنوبية هي واجهة صغيرة تخفي ورائها ملفات متعددة ومتبادلة، منها: الملف النووي الإيراني، والدرع الصاروخية الأمريكية، وتوسيع حلف الناتو (ليطوق مناطق نفوذ تقليدية لروسيا)، ومأزقا العراق وأفغانستان، واحتمالات إعادة القضية الشيشانية. لذا، يمكن القول إن هذه الحرب (إذا أطلق على العمليات التي دارت صفة الحرب) تمثل بالون اختبار حقيقي لمرحلة جديدة في العلاقات الدولية.
خلفية تاريخية
1. إقليم أوسيتيا
يقع إقليم أوسيتيا في وسط منطقة القوقاز، وهو مقسم بين دولتي روسيا الاتحادية وجورجيا، وقد اتخذ القسمان من نهر "تيريك" حداً لتمييز الحدود الشمالية عن الجنوبية.
وأوسيتيا الشمالية، تُعَدّ جمهورية متمتعة بالحكم الذاتي، ضمن روسيا الاتحادية، وتقع في شمالي القوقاز، وعاصمتها "فلادي قفقاس Vladikavkaz"، ومساحتها 8000 كم2، وعدد سكانها نحو (700) ألف نسمة.
أمّا أوسيتيا الجنوبية، فإقليم يتمتع بالحكم الذاتي داخل دولة جورجيا، وقد أعلن نفسه جمهورية بسلطة الأمر الواقع، ولكنه لم يحصل على أي اعتراف دولي، ومن ثَمَّ لم ينل عضـوية الأمم المتحـدة. عاصمتهـا "تسخينفالي Tskhinvali "، ومساحتها 3900 كم2، ويُقدّر عدد سكانها من (70) ألفاً إلى (100) ألف نسمة.
ويغلب الطابع الجبلي على التضاريس في إقليمي أوسيتيا (الشمالية والجنوبية). والنشاط الغالب على السكان هو الزراعة. ومعظمهم يدينون بالمسيحية، ويعتنقون المذهب الأرثوذكسي، ويتحدثون لغة قريبة من الفارسية.
شهدت أوسيتيا، على مدى سنوات عديدة، تغيرات مهمة في وضعها القانوني وسيادتها؛ فتارة تصبح أقاليم مستقلة، وتارة أخرى تُقسم وتُضم إلى الجارتَيْن الجورجية والروسية، مع منح كل قسم حكماً ذاتياً. وتتركز معظم دعوات الأوسيتيين في المطالبة بالحفاظ على هويتهم القومية وثقافتهم ولغتهم وعاداتهم. ويشعرون أن هذا كله مُهدد من قِبل جورجيا، ومن ثَمَّ فإنهم يطالبون بالانفصال عن تبليسي Tbilisi، وإعادة توحيد شطري الإقليم، وإعلانه جمهورية مستقلة، أو جزءاً من الاتحاد الروسي.
ومن الناحية التاريخية، أصبحت أوسيتيا عام 1861، جزءاً من الإمبراطورية الروسية، وأُطلق عليها آنذاك اسم إقليم "تيريك". وفي عام 1918، وبعد قيام الثورة البلشفية، تحولت إلى جمهورية تابعة للاتحاد السوفيتي السابق. وفي عام 1920، أعُلنت جمهورية متمتعة بالحكم الذاتي. وفي عام 1922، ضُمَّ قسمها الجنوبي إلى جورجيا بوصفه إقليماً متمتعاً بالحكم الذاتي. وبعد عام 1924، أُلحق قسمها الشمالي بجمهورية روسيا. وفي عام 1936، أصبح جمهورية تتمتع بالحكم الذاتي.
في عام 1989، وَجَّه الزعماء السياسيون في أوسيتيا الجنوبية رسالة إلى المجلس السوفيتي الأعلى، مطالبين بالاتحاد مع أوسيتيا الشمالية. وأعلن مجلس أوسيتيا الجنوبية التحول من الإقليم ذي الحكم الذاتي إلى جمهورية ذات حكم ذاتي. وفي عام 1990، أعلن قادتها السياسيون، أن إقليمهم أضحى تابعاً للسيادة الروسية؛ فأسقطت جورجيا صفة الحكم الذاتي عنهم، ومنعت أغلب القيادات السياسية المُطَالِبَة بالاتحاد مع أوسيتيا الشمالية من الترشح للانتخابات البرلمانية، التي جرت في تلك السنة.
وفي يناير 1992، بعد أن هزمت القوات الأوسيتية الانفصالية الجورجيين، نظمت أوسيتيا الجنوبية استفتاءً شعبياً حول الرغبة في الانفصال عن جورجيا والالتحاق بروسيا. وكانت النتيجة أن الغالبية العظمى من السكان أيدت الانفصال. وفي 19 نوفمبر 1992، أعلن المجلس الأوسيتي الجنوبي، أن نتيجة الاستفتاء بمثابة إعلان رسمي للانفصال. وعقب ذلك اندلع قتال مسلح بين القوات الجورجية ومسلحي أوسيتيا الجنوبية، سقط فيه قتلى وجرحى من الجانبَيْن، كما نجم عنه عشرات الآلاف من اللاجئين والنازحين على جانبي الحدود الروسية ـ الجورجية. وفي يوليه 1994، أُعلن عن وقف إطلاق النار بعد وساطة الرئيس الروسي آنذاك "بوريس يلتسين"، والرئيس الجورجي "إدوارد شيفرنادزة".
وفي عام 1995، استعادت أوسيتيا الجنوبية وضعها في التمتع بالحكم الذاتي مرة ثانية، واستمر الالتزام بوقف إطلاق النار ساري المفعول. وفي عام 2004، اندلع قتال محدود بين القوات الجورجية ومسلحين من أوسيتيا الجنوبية، ولكن سرعان ما عاد الهدوء والحذر مرة أخرى، بعد وساطات إقليمية ودولية، وبمساعدة قوات مشتركة من جورجيا وروسيا وأوسيتيا، لحفظ السلام.
في إبريل 2008، أعلنت موسكو أنها ستقيم علاقات رسمية مع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ما أثارغضب جورجيا، وخشيتها من احتمال اعتراف موسكو مستقبلاً باستقلال الإقليمَيْن. عقد الرئيس الجورجي "ميخائيل ساكاشفيلي" ـ المُؤَيِّد للغرب عامة وللولايات المتحدة الأمريكية خاصة ـ جلسة طارئة لمجلس الأمن في بلاده، تعهد خلالها بإعادة السيطرة على الإقليمَيْن، ودعا إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي لبحث التوجه الروسي، كما قصد نائب رئيس الوزراء الجورجي مقر حلف شمال الأطلسي، طالباً دعم موقفه ضد موسكو.
سارع حلف الناتو إلى الإعلان عن تأييده لجورجيا ومعارضة أي خطوة روسية، من شأنها المسـاس بالسـيادة الجورجية. فَرَدَّ الرئيس "فلادمير بوتين"، بحزمة إجراءات تصب كلها في خانة ما وصفته موسكو بتطبيع العلاقات مع جورجيا، من بينها إزالة القيود على منح التأشيرات للمواطنين الجورجيين، والإعلان مجدداً عن عدم تراجع بلاده عن توجهها إزاء أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.
وفي 8 أغسطس 2008، اجتاحت القوات الجورجية إقليم أوسيتيا الجنوبية، وسقط المئات من القتلى والجرحى، فردت موسكو بعمليات قصف على مدينة جوري الجورجية Gori، ومطار مارنيولي العسكري (شرق جورجيا). واتسع نطاق العمليات، في اليوم التالي، فطال القصف الروسي مرفأ بوتي Poti الجورجي على البحر الأسود. وشاركت في الهجوم قوات من أبخازيا، التي أغارت على ممرات كودوري، وهو الجزء الوحيد في المنطقة الانفصالية الجورجية الموالية لروسيا والخاضعة لسيطرة الجورجيين. وبرر رئيس الوزراء الروسي "فلاديمير بوتين" هذا التدخل، أنه موجه ضد السياسة الإجرامية التي تنتهجها جورجيا، بينما طلبت جورجيا مساعدة دولية عاجلة .
في 10 أغسطس، قرر الرئيس الجورجي "ساكاشفيلي"، سحب قواته من الإقليم، تجنباً ـ كما قال ـ لكارثة إنسانية، فدخلت القوات الروسية العاصمة "تسخينفالي"، وبسطت سيطرتها، رغم دعوات الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، إلى وقف القتال. وفي الوقت نفسه، استمرت المعارك في أوسيتيا الجنوبية، وكذلك عمليات القصف الروسية على ممرات "كودوري" ومرفأ بوتي، والمطار العسكري قرب تبليسي. وقد أعلنت السلطات في أوستيا الجنوبية عن سقوط 1600 قتيل في تسخينفالي، أمّا روسيا فقد ذكرت أن ما لا يقل عن ألفي فرد مدني قُتلوا جراء القصف والهجوم الجورجي، كما نزح نحو (40) ألف شخص عن ديارهم بسبب هذا النزاع.
في الحادي عشر من أغسطس، قصف الطيران الروسي قاعدة عسكرية في ضاحية العاصمة الجورجية تبليسي، كما أعلنت جورجيا أن مدينة جوري الجورجية تعرضت لقصف كثيف من المدفعية والطيران الروسيين، وأن القوات البرية الروسية تستعد لشنِّ هجوم عليها.
في الثاني عشر من أغسطس، تجدد القتال بين القوات الجورجية والمقاتلين الأبخاز في منطقة كودوري. وفي الوقت نفسه، أعلن الرئيس الروسي عن وقف العمليات العسكرية في جورجيا، مؤكداً خلال لقائه مع الرئيس الفرنسي، أن بلاده مستعدة لبدء مناقشة التسوية النهائية للنزاع مع جورجيا.
2. إقليم أبخازيا
يُعَدّ إقليماً انفصالياً، وهو يقع في شمالي غربي جورجيا، ويتمتع بالحكم الذاتي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. يطل على الساحل الشرقي للبحر الأسود، وله حدود مع روسيا الاتحادية، وعاصمته "سوخومي Sokhumi"، ومساحته 8600 كم2 تُشكِّل أكثر بقليل من 12% من مساحة جورجيا، وعدد سكانه لا يزيد على (500) ألف نسمة، وغالبيتهم من المسيحيين الأرثوذكس، و10% فقط من المسلمين.
وتُعَدّ أبخازيا جمهورية مستقلة فعلياً عن جورجيا؛ لكنها لم تحظ باعتراف دولي حتى الآن؛ إلاّ أن موسكو تدعم إقليم أبخازيا ضد الحكومة المركزية في تبليسي. لذلك، فإن جورجيا تَعُدّ هذا الإقليم ورقة روسية للضغط عليها، وقد استخدمته بالفعل جبهة ثانية ضد جورجيا في الصراع الأخير، ونقطة لانطلاق قواتها منه إلى باقي الأراضي الجورجية.
عُرفت أبخازيا عند العرب قديماً باسم "بلاد الأباظة"، والصراع الدائر على أرضها له تاريخ طويل بسبب إصرار الأبخاز على الاستقلال والانفصال عن جورجيا، بينما تصر جورجيا على أن هذا الإقليم جزء من أراضيها.
ترجع بداية تصاعد الاضطرابات في الإقليم إلى فترة استقلال جورجيا عن الاتحاد السوفيتي السابق، إذ تزايد الشعور لدى الأبخاز بخطر فقدان الهوية مع إعلان قيام جمهورية جورجيا المستقلة، ما أدّى إلى تفجر الصدام بين الجانبَيْن عام 1989. بعد إعلان مجلس السوفييت الأعلى، في أغسطس 1990، أن أبخازيا دولة قومية ذات سيادة، وهو ما أدّى إلى إعلانها الاستقلال عن جورجيا، في يوليه 1992. وعقب الحرب بين أبخازيا وجورجيا، التي امتدت بين عامي 1992، 1993، أعلنت أبخازيا أنها دولة مستقلة بحكم الأمر الواقع، واستطاع الأبخازيون السيطرة على العاصمة "سوخومي"؛ لكن المجتمع الدولي لم يعترف بها حتى الآن، ولم تحظ بعضوية الأمم المتحدة، التي لا تزال تحث الطرفين، الجورجي والأبخازي، على حلِّ خلافهما بالطرق السلمية.
وفي عام 2005، عرضت الحكومة الجورجية على أبخازيا صلاحيات أوسع للحكم الذاتي، وشكلاً من أشكال التنظيم الاتحادي، ضمن حدود جمهورية جورجيا، وفي نطاق سلطتها؛ لكن الأبخازيين رفضوا هذا العرض، ولا تزال الأمور على حالها حتى الآن. فحكومة أبخازيا بدعم من روسيا، تسيطر على 83% من مساحة الإقليم، وتطالب العالم الاعتراف به، بينما جزء آخر من الإقليم مساحته نحو 17% مدعم من جورجيا، وتطلق عليه تبليسي "الحكومة الشرعية"، وترفض التعامل مع أي حكومة أخرى سواها.
وترى جورجيا أن هذا الإقليم، هو ورقة روسية للضغط عليها، وقد استخدمته روسيا بالفعل كجبهة ثانية في الصراع الأخير ضد جورجيا، ونقطة لانطلاق قواتها إلى الأراضي الجورجية. إن أبخازيا منطقة تنذر بالاشتعال متى سنحت الفرصة، وفي هذه الحالة فإن جورجيا لن تقاتل الانفصاليين وحدهم، وإنما الجيش الروسي كذلك، وهو ما يعني أن سيناريو 1993 يوشك أن يكتمل، بانسحاب القوات الجورجية من الإقليم، وربما من غير رجعة.
3. جورجيا
كانت جورجيا مملكة مسيحية، يتنازعها الفرس والعثمانيون، حتى ضمتها روسيا إليها عام 1801. وبعد قيام الثورة البلشفية في روسيا، عام 1917، أعلنت جورجيا استقلالها عام 1918. وفي عام 1920، نشب النزاع المسلح بين جورجيا وأوسيتيا الجنوبية، وأسفر عن مصرع خمسة آلاف أوسيتي، وتزامن ذلك مع انتشار أعمال التطهير العرقي والإثني في المنطقة. إثر ذلك، اجتاح الجيش الأحمر الروسي، في أوائل عام 1921، جورجيا واحتلها، وأصبحت فيما بعد جزءاً من الاتحاد السوفيتي وإحدى جمهورياته، كما أصبحت أوسيتيا الجنوبية أحد أقاليمها، في إطار الاتحاد السوفيتي السابق.
ومنذ تفكك الاتحاد السوفيتي، في ديسمبر 1991، انشق عنه إقليما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، مطالبين الانضمام إلى روسيا، وأصبحا إقليمَيْن مستقلَّيْن بحكم الأمر الواقع. واستمر القتال المتقطع بين جورجيا والإقليمَيْن الانفصالييْن في صيف عام 1992، حتى تم الاتفاق على نشر قوات حفظ سلام جورجية وأوسيتية وروسية.
وبعد تولي الرئيس "ميخائيل ساكاشفيلي" الحكم، أعلن عن رغبته في إعادة الأقاليم المتمردة إلى سيطرة الدولة. وعرض على الأوسيتيين الحوار والحكم الذاتي ضمن دولة جورجية واحدة، ولكنهم لم يوافقوا؛ ولم يكن مفاجئاً أن يصوت الأوسيتيون بأغلبية ساحقة لتأييد الاستقلال عن جورجيا، في استفتاء أجري في نوفمبر 2006، ومن ثم ظلت أعمال العنف والاشتباكات المتقطعة تقع في الإقليم. وتطالب جورجيا، منذ ذلك الوقت، باستبدال قوات حفظ السلام الروسية قوات دولية، بسبب دعم روسيا لعملية الانفصال.
وكرد فعل حول التدخل الروسي في أوسيتيا الجنوبية، عَدّت جورجيا الاجتياح الروسي، هو خرقاً لكل القوانين والأعراف الدولية، وانتهاكاً لسيادتها وتهديداً لوحدة ترابها الوطني. ودعت على لسان رئيسها "ميخائيل ساكاشفيليا المجتمع الدولي إلى مساندتها، فيما تواجهه من اعتداء، كما أعلنت حالة الحرب واتخذت قرار الانسحاب من كومنولث الدول المستقلة ، الذي تتزعمه روسيا (يضم 12 جمهورية من الـ15 دولة، التي كانت تحت مظلة الاتحاد السوفيتي السابق، أي باستثناء دول البلطيق الثلاث لاتفيا ولتوانيا واستونيا). واستمر الموقف السياسي لجورجيا على ما كان عليه قبيل الحرب، فهي ترفض التسمية الروسية لأوسيتيا ووصفها بالجنوبية والشمالية، وتعد ذلك خداعاً للرأي العام الدولي، وتؤكد على أن الإقليم هو جزء لا يتجزأ من محافظة "شيدا كارتي الجورجية".
ما ورد من روايات حول دوافع تلك الحرب، ثم الرد الروسي المسلح عليها
1. الرواية الأولى، روسية: تقول إن نائب الرئيس الأمريكي، ديك تشيني، هو الذي حرّض الرئيس الجورجي، ساكاشفيلي، على شنِّ تلك الحرب على أمل منه بدعم حملة "ماكين" الانتخابية.
2. الرواية الثانية، أوروبية: ترى أن تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية، كوندوليزا رايس، خلال زيارتها لجورجيا، قبل تلك الحرب بعشرة أيام فقط، حملت رسالتَيْن واضحتَيْن إلى رئيس جورجيا ووزير دفاعه، الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية أصلاً. أولهما، أن واشنطن ستبذل أقصى ما وسعها من أجل قبول جورجيا في عضوية حلف الناتو. وثانيهما، أن واشنطن ستقف دوماً إلى جوار أصدقائها المخلصين بلا تردد. (تذكرنا هذه الزيارة بزيارة مماثلة جرت في عام 1990 قبل غزو الكويت)
3. الرواية الثالثة، من خبراء سياسيين، إن واشنطن ظلت طوال الثمانية عشر شهراً الأخيرة تسعى جاهدة من أجل نشر نظامها الصاروخي الجديد في كل من تشيكيا وبولندا، في مواجهة معارضة روسية قاطعة وحاسمة. وكذلك معارضة أعضاء بارزين في حلف الناتو، مثل ألمانيا. وقد دفعت معارضة هؤلاء الحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن تتكفل بالمشروع وحدها بعيداً عن الحلف. لكنها وجدت معارضة واضحة من الرأي العام في كلا الدولتَيْن: تشيكيا وبولندا. فإذا نجحت جورجيا في استفزاز روسيا عسكرياً استفزازاً كافياً لإثارتها، وتصرفت روسيا برد فعل عسكري عنيف، فإن هذا سيتيح للدعاية الأمريكية استعادة أجواء الحرب الباردة، وانتقاد روسيا المتسلطة ضد جار صغير وضعيف عسكرياً. ومن ثمَّ، تستطيع الإدارة الأمريكية الغاربة أن تدعي أنها أنجزت الخطوة قبل الأخيرة في خطة استكمال محاصرة روسيا بالكامل. أمّا الخطوة الأخيرة فستكون انضمام الدولتَيْن إلى الحلف. وفي حالة جورجيا، ستصبح قوات الحلف بقيادة أمريكية على بعد (1200) كيلومتر من الكرملين، وفي حالة أوكرانيا ستكون قوات الحلف على مسافة (750) كيلومتراً منه فقط.
يتبع ....
