كيف تعد خطبه

black ops

عضو
إنضم
8 يوليو 2010
المشاركات
1,500
التفاعل
77 0 0
كيف تعد عناصر خطبة الجمعة

يختلف مَنْ يُعِدُّون خطبهم بأنفسهم من الخطباء تبعًا لاختلاف اهتماماتهم وعلمهم وثقافتهم، ونوعية المصلين معهم، ومدى تفاعلهم مع الخطيب؛ فبعض الخطباء يكتفي بفِكَره وخطراته عن الرجوع إلى المراجع والمصادر، ويخط بنانه ما يوحي به ذهنه وقت الكتابة، بغض النظر عن أهمية ما يكتب من عدمه، أو ترابط الموضوع من تفككه.

وبعض الخطباء يكتفي بمرجع واحد ينقل منه، أو يختصره ويُعدِّل عليه، ويرى أنه أحسن من غيره ممن لم يكتب، أو كتب من ذهنه وخواطره. ومن الخطباء من لا يكتب خطبته حتى يقرأ في موضوعها عددًا من الكتب، ويراجع فيها مراجع كثيرة، وهؤلاء قلة، وفي الغالب تكون خطبهم متميزة ومفيدة.

كذلك يختلف الخطباء في مدى اهتمامهم بالخطبة؛ فبعض الخطباء لا يفكر في موضوع الخطبة إلا ليلة الجمعة أو صباحها، أو قبل صعود المنبر بوقت قصير. بل إنني سمعت مرة خطيبًا في مجلس يفاخر بأنه يصعد المنبر وليس في ذهنه موضوع محدد، فيطرأ عليه الموضوع والمؤذن يؤذن، وهذا فيه استخفاف بعقول الناس، واستهانة بخطبة الجمعة التي أوْلاها الشارع الحكيم عناية كبيرة.

بينما سمعت أن بعض الخطباء المتميزين يبدأ تفكيره بموضوع الخطبة منذ نزوله من المنبر في الخطبة الماضية. وبين هذا وذاك مراحل متفاوتة من الحرص والاهتمام والفائدة.

قبل عرض مقترح لكيفية إعداد الخطبة أحب التنبيه إلى أن الخطبة مثل الكتاب والخطيب مثل المؤلف، ولكل كاتب أو خطيب أو مؤلف أو باحث طريقته في البحث بيد أن عرض التجارب في هذه المجالات يحقق جملة من الفوائد، لعل من أبرزها:

1 - توجيه المبتدئ ومساعدته بإعطائه منهجًا مجرّبًا في إعداد الخطبة.

2 - قد تكون الطريقة التي يُعدُّ بها الخطيب خطبته فيها شيء من العسر، وهناك طرق أيسر منها، فإذا اطَّلع عليها أخذ بها.

3 - الإنسان في الأصل ناقص العمل معرض للخطأ، والناس يكمل بعضهم بعضًا بتبادل تجاربهم وخبراتهم، وفي اطلاع الخطيب على تجارب الآخرين وطرائقهم في إعداد الخطبة تكميل للنقص عنده، أو إصلاح لخطأ في طريقة الإعداد.

لهذا ولغيره فإنني أدعو كل خطيب أن يطرح على الخطباء طريقته في إعداد خطبته حتى تتلاقح الفِكَر، ويستفيد بعضنا من تجربة بعض. على أن لا يزعم الواحد منا أن طريقته هي أحسن الطرق لكـل الخطباء؛ فالطريقة التي تناسبني قـد لا تناسبك، وقد أستفيد من تجربتك كلها أو بعضها ولو كان قليلًا، والمسألة اجتهادية، ومهارات الخطيب وثقافته وعلمه وذوقه عوامل مؤثرة في ذلك.

ويمكن عرض الخطوات اللازمة لإعداد الخطبة على النحو الآتي:

1 - اختيار الموضوع.

2 - جمع النصوص والنقول والفِكَر والعناصر للموضوع المختار، وبعد الجمع سيتضح للخطيب أن مادة الخطبة إما أن تكون كثيرة فيقسمها إلى أكثر من موضوع، وإما أن تكون مناسبة فيكتفي بها. وإما أن تكون قليلة فيزيد البحث في مظان أخرى، فإن ضاق عليه الوقت أجَّل هذا الموضوع، وبحث عن موضوع آخر تكون مادته متوافرة.

وينبغي في الجمع مراعاة ما يأتي:

أ - البدء بالمصادر المتخصصة وجعلها أصلًا، ثم البحث عن مصادر أخرى مساعدة، فلو اختار مثلًا موضوع (الشكر) فإنه يبدأ بالكتب المتخصصة في ذلك ككتاب الشكر لابن أبي الدنيا، ثم يرجع إلى آيات الشكر في القرآن، وما قاله أهل التفسير، ثم الأحاديث وشروحها، ثم أبواب الشكر في كتب الآداب والمواعظ والأخلاق ...؛ لأن الكتب المتخصصة في الموضوع ستكفيه ما يقارب ثلثي الموضوع أو نصفه على الأقل فتخفف عنه مؤنة البحث والتقصي.

والكلام على مصادر الخطبة يحتاج إلى مقدمة مستقلة.

ب - أن ينطلق في عناصره وفِكَره من النصوص التي جمعها؛ فذلك أدعى للإقناع، وأيسر عليه. وبعض الخطباء قد تقدح الفكرة في ذهنه فتعجبه فيكتبها، ثم يعيا في البحث عن دليل يعضدها، ويقنع السامع بها؛ فيضيع وقته هدرًا في ذلك، ثم يشعر باليأس، وربما توقف عن الكتابة. أو يذكرها بلا دليل فلا تقنع السامع، وربما كانت خاطئة وهو لا يدري.

ولذا فإن صياغة الفِكَر، ووضع العناصر على ضوء النصوص والنقول التي جمعها يُؤَمِّنُه من الخطأ بإذن الله تعالى، ويريحه من التعب، ويقنع المستمعين؛ وبناءً عليه فإن جمع النصوص والنقول يكون قبل وضع الفِكَر والعناصر للموضوع.

3 - بعد اختيار النصوص والنقول التي سيجعلها في خطبته يضع لها عناصر مختصرة (عناوين تدل عليها)؛ فمثلًا عنده نص وهو قول الله تعالى: ﴿ وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ ( إبراهيم: 7. ) ، يجعل له عنوانًا أو عنصرًا (الشكر يزيد النعمة)، وهكذا في بقية النصوص والنقول.

4 - يرتب العناصر التي وضعها بنصوصها حسب رؤيته التي يراها مناسبة لوضعها في الخطبة، فيجعل العناصر المترابطة متوالية؛ فمثلًا في موضوع الشكر سيكون عنده عناصر في فوائد الشكر، وعناصر في عاقبة الكفر (كفر النعمة)، وعناصر في نماذج للشاكرين، وعناصر في نماذج لمن كفروا النعمة..، فيضم العناصر بعضها مع بعض تحت موضوعاتها.

ويكون هذا الترتيب بالترقيم والإشارة إلى العناصر لا بالكتابة من جديد، حتى لا يُثقِل على نفسه، ثم يسير في صياغة الموضوع وفق الأرقام التي لديه؛ فلا يفوته شيء، ويكون موضوعه مترابطًا منسجمًا.

5 - بعد الفهرسة والترتيب يقرر ما للخطبة الأولى، وما للثانية من العناصر المذكورة.

6 - ثم يبدأ بالصياغة حسب الخطة التي وضعها، والمادة التي جمعها.

وهناك أمور ينبغي التنبه إليها أثناء الصياغة منها:

أ - الإخلاص لله تعالى في كتابته، واستحضار النية الخالصة، ومجاهدة النفس في ذلك؛ فلا تعجبه نفسه أثناء الكتابة، أو يتذكر مدح المصلين له، وماذا سيقولون عن خطبته؛ فإنه إن أخلص لله تعالى بارك الله في كتابته وجهده، ونفع به الأمة.

ب - أن يعيش مع الخطبة بقلبه، ويضع نفسه محل السامع؛ أي كأنه المخاطَب بهذه الخطبة؛ لأن ذلك سيجعله يختار العبارات التي يرضاها ويحبها وتقنعه؛ فمثلًا لو كان يوجه نصيحة لواقعٍ في معصية معينة؛ فليضع نفسه مكان صاحب هذه المعصية، وكأنه المخاطَب بهذا الخطاب؛ فذلك أدعى للتأثر، وأجود في انتقاء الألفاظ المناسبة.

وبعض الخطباء الذين لا يراعون هذه الناحية تجدهم يترفعون على صاحب المعصية، ويخاطبونه من علو؛ فيكون عتابهم عنيفًا، وربما لا يقبله صاحب المعصية، لكنه لو وضع نفسه مكان صاحب المعصية، وبدأ بالعتاب فسيكون عتابًا رقيقًا، تقبله النفوس وتتأثر به.

ج - إنْ أحسّ الخطيب أن القلم لا يجاريه في الكتابة، وأن أفكاره مشتتة، وذهنه مشوَّش فليتوقف عن الكتابة حتى يزيل ما يشغله أو ينساه، ثم يعود إليها مرة أخرى.

د - إذا أشكلت عليه بعض الكلمات أو الجمل من جهة إعرابها، أو صرفها، أو دلالتها على المعنى الذي يريده، أو كونها غير فصيحة- فله خياران:

1 - الرجوع إلى المعاجم اللغوية للتأكد من صحة الكلمة، ومناسبتها للمعنى الذي أراده، أو سؤال من يعلم ذلك من أهل اللغة والنحو.

2 - استبدال الكلمة أو الجملة التي يشك فيها بكلمة، أو جملة أخرى يعلم صحتها، واللغة العربية غنية بالمترادفات من الكلمات والجمل.

وإن كنتُ أستحسن الطريقة الأولى؛ لكي ينمِّي الخطيب مهاراته اللغوية، وتزداد حصيلته من الكلمات والجمل.

هـ - العناية بعلامات الترقيم، وبداية الجمل ونهايتها؛ حتى يعينه ذلك على قراءة الخطبة بشكل صحيح، وعدم التعتعة والإعادة، وكثرة التوقف والتلكؤ.

? أجزاء الخطبة:

أولًا: المقدمة

وهي التي يستهل بها الخطيب خطبته، ويهيئ السامعين لسماعها، ويجذبهم بها إليه. ونجاح الخطيب فيها كفيل بالنجاح في بقية خطبته؛ إذ إن عسيرات الأمور بداياتها. وينبغي أن يراعي الخطيب فيها جملة أمور منها:

أ - أن تكون ذات صلة وثيقة بموضوع الخطبة، وممهدة له، ومهيئة الأذن لسماعه.

قال ابن المقفع: «وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك». وعلق عليه الجاحظ فقال: «فرِّق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة الواهب؛ حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه؛ فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت؛ والغرض الذي إليه نزعت».

ب - أن تكون مناسبة في طولها وقصرها لمجموع الخطبة، والملاحظ أن بعض الخطباء يطيل في المقدمة إطالة قد تستوعب أكثر الخطبة أو نصفها، وهذا قد يصيب السامعين بالملال، وربما يئسوا من الدخول في الموضوع، فانصرفت أذهانهم عن الخطيب. وعكس هؤلاء الخطباء مَنْ لا يعتنون بالمقدمة، فيشرعون في الموضوع مباشرة، ولـمَّا يتهيأ المستمعون بعدُ.

وكِلا الأمرين غير حسن، والمطلوب الاعتدال في ذلك.

ثانيًا: صُلْب الموضوع

فبعد أن يمهد الخطيب لموضوعه في المقدمة، ويتهيأ السامعون لسماعه- يبدأ في الموضوع، وينبغي أن يراعي ما يأتي:

أ - ترتيب الفِكَر وتسلسلها:

بحيث لا ينتهي من فكرة إلا وقد أعطاها حقها من الاستدلال والإقناع، سواء كان الاستدلال لها بالنقل أم بالعقل. ولا يقفز إلى فكرة أخرى، ثم يعود إلى الأولى مرة أخرى؛ فإن ذلك يُربك السامع ويشوش عليه. ولا يتأتى ذلك للخطيب إلا إذا جمع مادة الخطبة من نصوص واستدلالات ونقولات وفِكَر، ثم سلسلها ورتبها قبل أن يبدأ بصياغتها.

ب - التوازن بين الفِكَر:

فلا يُشبِع فكرة ويطيل فيها على حساب الأخريات. ومما يلاحظ عند كثير من الخطباء عدم التوازن في ذلك؛ فتراه في أول الخطبة يُشبِع كل فكرة ويطيل فيها، ويحشد النصوص لها، ثم لما يحسّ بأنه تعب، وأتعب السامعين، وأطال عليهم سرد الفِكَر الباقية سردًا بلا استشهاد ولا إقناع رغم أهميتها، وربما تكون أهم مما طرحه في الأول. وسبب ذلك أن الخطيب ليس عنده تصور كامل لخطبته وما فيها من مادة، وكم تستغرق من وقت.

وعلاج هذه المشكلة أن يقدر الخطيب وقت خطبته، ويُستحسن ألا تزيد عن ثلث ساعة، فإن زاد لأهمية الموضوع فنصف ساعة على الأكثر لكِلا الخطبتين. ويقدر كم تكون من ورقة حسب خطه وإلقائه، ويحسب كم فكرة عنده، وكم لها من نص، ومن ثم يسجِّل الفِكَر مع نصوصها، وما تحتاجه من صياغة على الأوراق التي قدَّرها من قبلُ، فلا تخلو حينئذ من إحدى حالات ثلاث:

1 - أن تكون الفِكَر بنصوصها وصياغتها متناسبة مع حجم المساحة التي قدرها أي زمن الخطبة، فيبدأ بالصياغة مرتبًا الفِكَر كما سبق ذكره، معطيًا كل فكرة حقها من الأسطر بلا زيادة ولا نقص إلا شيئًا يسيرًا لا يُخلُّ بالخطبة.

2 - أن تكون الفِكَر بنصوصها وصياغتها أقل من المساحة التي قدرها، وفي هذه الحالة له خيارات عدة:

أ - أن يقصر الخطبة فتكون أقلَّ من ثلث ساعة، فهو ينظر إلى استيعاب الموضوع، ولا يلتفت إلى الوقت.

ب - أن يزيد فِكَرًا ذات صلة بالموضوع بقدر المساحة المتبقية.

ج - أن يسترسل في الصياغة أي يطيل في صياغة كل فكرة بحيث يغطي النقص.

د - أن يزيد في الاستدلالات لكل فكرة.

وعلى الخطيب أن يقدر الأصلح في ذلك بما يتناسب مع أحوال المصلين معه.

3 - أن تكون الفِكَر بنصوصها وصياغتها أطول من المساحة المقدرة؛ فإن كان الطول يسيرًا فيمضي، وإن كان كثيرًا فلا يخلو من إحدى حالتين:

أ - أن يمكن قسمة الموضوع إلى موضوعين فأكثر بحيث يكون كل موضوع وحدة مستقلة، فيقسمه. ومثال ذلك: لو أراد الخطيب أن يتكلم عن حشر الناس يوم القيامة، وابتدأ حديثه منذ بَعْثِهم من قبورهم ثم حَشْرِهم في العرصات ... فسيجد أن موضوع البعث صالح لأن يكون موضوعًا مستقلًا؛ لكثرة ما فيه من نصوص، وهكذا موضوع الحشر، ثم ما بعد الحشر وهو فصل القضاء، فيجعلها موضوعات عدة.

ب - أن لا يمكن قسمته بهذا الشكل، كأن يكون الموضوع بطوله وحدة متكاملة لا تُجَزَّأ. ومثال ذلك الحديث عن فوائد الأمراض، وهي كثيرة، وفيها نصوص كثيرة أيضًا. فلو قدرنا أن فوائد الأمراض المنصوص عليها عشرون فائدة، وفيها من النصوص ثلاثون نصًا- فلا شك أن خطبة واحدة لا يمكن أن تستوعبها ولا اثنتين، لكن بالإمكان ذكر سبع فوائد في كل خطبة بحيث تصير ثلاث خطب، أو عشر فوائد في كل خطبة بحيث تصير خطبتين، فيسرد الخطيب في كل من الخطبتين أو الثلاث فوائد الأمراض جملة وتفصيلًا في الفوائد التي اختارها لهذه الخطبة بنصوصها. ثم في خطبة أخرى يسرد ما فصّله في الأولى جملة، ويفصل فيما لم يذكره وهكذا. ويكون عنده أكثر من خطبة في الموضوع.

ثالثًا: الخاتمة

بعضهم يجعلها في الخطبة الأولى، وينتقل في الخطبة الثانية إلى موضوع آخر في الغالب يكون موضوعًا وعظيًا معتادًا يذكِّر بالنار، ويحث على التقوى، ويكون مسجوعًا، وهذا الأسلوب كان مستخدمًا عند خطبائنا قبل سنوات، ولا يزال بعض كبار السن منهم ينهجونه إلى اليوم.

وأكثر الخطباء في هذا العصر حسب علمي يجعلون الخطبة الثانية موصولة بالأولى وفي موضوعها نفسه، وينهجون في ذلك منهجين:

أ - أن يلخص فيها موضوع الخطبة بعبارات مركزة فتكون كخاتمة مركزة للموضوع.

ب - أن يذكر المطلوب من السامعين حيال الموضوع الذي طرحه، ولعلّ هذا المنهج أحسن لتلافي التكرار، ولحصول الفائدة من عرض الموضوع؛ ذلك أن المستمعين استمعوا في الخطبة الأولى إلى عرض الموضوع بأدلته النقلية والعقلية، فاقتنعوا بأهميته، وهم ينتظرون من الخطيب أن يبين لهم ما يجب عليهم تجاهه؛ فإن كان الموضوع عن سُنَّة مهجورة حفزهم لإحيائها، وإن كان منكرًا حثهم على إنكاره، وإن كان نصرة للمسلمين بيّن لهم طرق النصرة ومسالكها.



? تنبيه مهم:

يلاحظ أن كثيرًا من الخطباء يجتهدون في جمع مادة الموضوع، وحشد النصوص له، وحسن الصياغة، وهذا يُقنع المستمع بما أُلقي عليه- لكنهم لا يذكرون واجب المستمع تجاه ما أُلقي حتى كأن الخطبة لم توجَّه للمستمع، ومن ثم لا تؤدي النتيجة المرجوة منها، وتجد أن الناس خرجوا من عند الخطيب متأثرين مثنين على خطبته وجمالها وقوتها، وأهمية موضوعها لكنهم لم يدركوا ما المطلوب منهم تجاه الموضوع المطروح.

وربما أن بعضهم لفطنته فهم أنه معنيٌّ بهذا الموضوع، ومخاطَب به، وعليه واجب تجاهه- لكنه لا يدري ماذا يفعل، أو ربما اجتهد فأخطأ؛ فينبغي للخطيب أن يلخص واجب كل مسلم تجاه الموضوع الذي أُلقي، سواء على وجه الإجمال، أو بشيء من التفصيل والبيان؛ إذ إن هذا هو مقصود الخطبة وهو أن يخرج الناس من المسجد وهم متشوقون إلى أداء ما يجب عليهم تجاه ما ألقاه الخطيب.
 
رد: كيف تعد خطبه

كيف تعد خطبة الجمعة

كثير من الخطباء لا يكتبون خطبهم التي يلقونها على الناس، ويكتفون بالارتجال - وبعضهم يضع عناصر أو رؤوس أقلام في ورقة صغيرة - أو بأخذ خطب غيرهم، وذلك باستعارتها أو تصويرها من كتبهم.

ومن سيئات الارتجال: أن الخطبة تُنسى وتَدْرس بانتهاء إلقائها، وبعض الخطباء المتميزين تسجل خطبهم وتباع في التسجيلات، وهذا أيضًا يحفظها مدة معينة، ثم تضيع بعد ذلك.. ولو سألت عن محاضرات أو خطب سجلت وانتشرت، وطارت في الآفاق قبل عشر سنوات لما وجدت لها أثرًا لا عند الناس، ولا في التسجيلات إلا عند بعض من يهتمون بحفظ مقتنياتهم، وهم قليل، ومع قلتهم أنّى لك العثور عليهم؛ لكنك لو سألت عن كتاب طبع قبل خمسين سنة أو أكثر، فالظَّنُّ أنك ستجده في المكتبات العامة، ومكتبات الجامعات، وعند أناس كثيرين.

وهذا يدلنا على أهمية الكتابة في حفظ جهود المحاضرين والخطباء؛ بل وطلاب العلم والعلماء. فكم من عالم طار صيته في الآفاق، إذا قرأت ترجمته عجبت من ثناء العلماء عليه، ليس له من التأليف إلا القليل؛ فكان أكثر نفعه مقصورًا على من حضروا زمنه، وتلقَّوْا عنه! وكم من عالم أَكْثَرَ من التأليف مع دقته وتحقيقه وجودة ما يكتب، فنفع الله تعالى الأمة بكتبه سنين عددًا؛ بل قرونًا متتابعة، وهذه كتب الأئمة: مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، انتفعت بها الأمة منذ أن كتبوها في المائة الثالثة والرابعة إلى اليوم؛ بل وإلى ما يشاء الله تبارك وتعالى!!

إن الخطيب قد يُعد خطبة فيتقنها ثم تؤخذ منه فتُصوَّر وتوزع أو تطبع في كتاب، أو تُدخل في الشبكة العالمية (الإنترنت) فيخطب بها مائة خطيب أو ألف خطيب أو أكثر في أنحاء مختلفة من الأرض؛ فينتفع بها خلق لا يعلم عددهم إلا الله – تعالى - لم يكن الخطيب وقت إعدادها يَتَصَوَّرُ انتفاع هذا العدد الهائل بها.

ولعلَّ ما سَبَقَ ذِكْرُه يدفع الخطباء إلى كتابة خطبهم، والعناية بإعدادها، مثل عناية المؤلف بكتابه؛ بل هم مُطالبون بما هو زيادة على ذلك؛ فإن المؤلف لا يستطيع أن يقرأ كتابه على عشرة ينصتون إليه باهتمام، والخطيب يقرأ خطبته التي كتبها على مئاتٍ يتعبدون الله – تعالى - بالإنصات إليه؛ وذلك من فضل الله - تعالى- على الخطباء، وواجب عليهم أن يشكروا الله - تعالى - على هذه النعمة العظيمة؛ وذلك بالإخلاص في إعداد الخطبة، والاجتهاد فيها، واحترام عقول من ينصتون إليهم، وإفادتهم قدر المستطاع.

لكل خطيب طريقته:

يختلف من يعدُّون خطبهم بأنفسهم من الخطباء؛ تبعًا لاختلاف اهتماماتهم، وعلمهم، وثقافتهم، ونوعية المصلين معهم، ومدى تفاعلهم مع الخطيب.

فبعض الخطباء يكتفي بأفكاره وخطراته عن الرجوع إلى المراجع والمصادر، ويخط بنانه ما يوحي به ذهنه وقت الكتابة، بغض النظر عن أهمية ما يكتب من عدمها، أو ترابط الموضوع من تفككه.

وبَعْضُ الخطباء يكتفي بمرجع واحد ينقل منه، أو يختصره ويُعدِّل عليه، ويرى أنه أحسن من غيره ممن لم يكتُبْ، أو كتب من ذهنه وخواطره.

ومن الخطباء من لا يكتب خطبته؛ حتى يقرأ في موضوعها عددًا من الكتب، ويراجع فيها مراجع كثيرة، وهؤلاء قلة، وفي الغالب أنَّ خُطَبَهُمْ تكون متميزة ومفيدة.

كذلك يختلف الخطباء في مدى اهتمامهم بالخطبة؛ فبعض الخطباء لا يفكر في موضوع الخطبة إلا ليلة الجمعة أو صباحها، أو قبل صعود المنبر بِوَقْتٍ غير كثير؛ بل إنني سمعت مرة خطيبًا في مجلس يفاخر بأنه يصعد المنبر، وليس في ذهنه موضوعٌ محدد، فيطرأ عليه الموضوع والمؤذن يؤذن، وهذا فيه استخفاف بعقول الناس، واستهانة بخطبة الجمعة، التي أولاها الشارع الحكيم عناية كبيرة.

بينما سمعت أنَّ بعض الخطباء المتميزين يبدأ تفكيره بموضوع الخطبة منذ نزوله من المنبر في الخطبة الماضية، وبين هذا وذاك مراحلُ متفاوتة من الحرص والاهتمام!

وقبل عرض مقترح لكيفية إعداد الخطبة، أحب التنبيه على أن الخطبة مثل الكتاب، والخطيب مثل المؤلف، ولكل كاتب أو خطيب أو مؤلف أو باحث طريقته في البحث؛ بيد أنَّ عرْضَ التجارب في هذه المجالات يحقق جملة من الفوائد لعل من أبرزها:

توجيه المبتدئ، ومساعدته بإعطائه منهجًا مُجَرَّبًا في إعداد الخطبة.

قد تكون الطريقة التي أُعدُّ بها الخطبة فيها شيء من العسر، وهناك طُرُق أيسر منها، فحين أطَّلع عليها آخذ بها.
الإنسان في الأصل ناقص العمل، معرض للخطأ، والناس يكمل بعضهم بعضًا بتبادل تجارِبهم وخبراتهم، وفي اطلاعي على تجارِب الآخرين وطرائقهم في إعداد الخطبة تكميلٌ لنقص عندي، أو إصلاح لخطأ في طريقة الإعداد.

لهذا ولغيره فإنني أدعو كل خطيب أن يطرح على الخطباء طريقته في إعداد خطبته؛ حتى تتلاقح الأفكار، ويستفيد بعضنا من تجرِبة بعض، على أن لا يزعم الواحد منا أن طريقَتَهُ هي أحسن الطرق لكل الخطباء، فالطريقة التي تناسبني قد لا تناسبك، وقد أستفيد من تجرِبتك كلها أو من بَعْضِها ولو كان قليلاً، والمسألة اجتهاديَّةٌ، ومهارات الخطيب وثقافته وعلمه وذوقه عوامل مؤثرة في ذلك.

ويمكن عرض الخطوات اللازمة لإعداد الخطبة في الآتي:

1- اختيار الموضوع: وقد كتبت فيه مقدمة كاملة يمكن مراجعتها.

2- جمع النصوص، والنقول، والأفكار، والعناصر للموضوع المختار، وبعد الجمع سيتضح للخطيب أن مادة الخطبة: إما أن تكون كثيرة؛ فيقسمها إلى أكثر من موضوع، وإما أن تكون مناسبة؛ فيكتفي بها، وإما أن تكون قليلة؛ فيزيد البحث في مظانٍ أخرى، فإن ضاق عليه الوقت أجَّل هذا الموضوع، وبحث عن موضوع آخر تكون مادته متوافرة.

وينبغي في الجمع مراعاة ما يلي:

أ - البدء بالمصادر المتخصصة وجعلها أصلاً، ثم البحث عن مصادر أخرى مساعدة، فلو اختار مثلاً موضوع (الشكر)، يبدأ بالكُتُبِ المتخصِّصة في ذلك؛ ككتاب "الشكر" لابن أبي الدنيا، ثم يرجع إلى آيات الشكر في القرآن، وما قاله أهل التفسير، ثم الأحاديث وشروحاتها، ثم أبواب الشكر في كتب الآداب والمواعظ والأخلاق.. لأن الكتب المتخصصة في الموضوع ستكفيه ما يقارب ثلثي الموضوع أو نصفه على الأقل؛ فتخف عليه مؤنة البحث والتقصي. والكلام على مصادر الخطبة يحتاج إلى مقدمة مستقلة.

ب- أن ينطلق في عناصره وأفكاره من النصوص التي جمعها؛ فذلك أدعى للإقناع، وأيسر عليه، وبعض الخطباء قد تقدح الفكرة في ذهنه فتعجبه فيكتبها، ثم يعيا في البحث عن دليل يعضدها، ويقنع السامع بها؛ فيضيع وقته هدرًا في ذلك، ثم يشعر باليأس، وربما توقف عن الكتابة، أو يذكرها بلا دليل فلا تقنع السامع، وربما كانت خاطئة وهو لا يدري.

ولذا فإن صياغة الأفكار، ووضع العناصر على ضوء النصوص والنقول التي جمعها يُؤمنه من الخطأ - بإذن الله تعالى - ويريحه من التعب، ويقنع المستمعين؛ وبناءً عليه فإن جمع النصوص والنقول يكون قبل وضع الأفكار والعناصر للموضوع.

3- بعد جمع النصوص والنقول يقدر كثرتها من قلتها بالنسبة لخطبته، فإن كانت كثيرة قسمها على أكثر من خطبة على ما مضى تفصيله في مقدمة سابقة.

4- بعد اختيار النصوص والنقول التي سيجعلها في خُطْبَتِه يضع لها عناصر مختصرة (عناوين تدل عليها) فمثلاً عنده نص وهو قول الله تعالى: (وَإِذْ تَأذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7]. يجعل له عنوانًا أو عنصرًا: (الشكر يزيد النعمة).. وهكذا في بقية النصوص والنقول.

5- يرتب العناصر التي وضعها بنصوصها حسب رؤيته التي يراها مناسبة لوضعها في الخطبة؛ فيجعل العناصر المترابطة متوالية.
فمثلاً في موضوع الشكر سيكون عنده عناصر في فوائد الشكر، وعناصر في عاقبة الكفر (كفر النعمة)، وعناصر في نماذج للشاكرين، وعناصر في نماذج لمن كفروا النعمة.. فيضم العناصر بعضها مع بعض تحت موضوعاتها، ويكون هذا الترتيب بالترقيم والإشارة إلى العناصر لا بالكتابة من جديد؛ حتى لا يثقل على نفسه، ثم يسير في صياغة الموضوع على وَفْق الأرقام التي لديه، فلا يفوته شيء، ويكون موضوعه مترابطًا منسجمًا.

6- بعد الفهرسة والترتيب يقرر ما للخطبة الأولى وما للثانية من العناصر المذكورة.

7- ثم يبدأ بالصياغة حسب الخطة التي وضعها، والمادة التي جمعها.

وهناك أمور ينبغي التنبه لها أثناء الصياغة منها:

أ - الإخلاص لله - تعالى - في كتابته، واستحضار النية الخالصة، ومجاهدة النفس في ذلك؛ فلا تعجبه نفسه أثناء الكتابة، أو يتذكر مدح المصلين له، وماذا سيقولون عن خطبته؛ فإنه إن أخلص لله – تعالى - بارك الله في كتابته وجهده، ونفع به الأمة.

ب- أن يعيش مع الخطبة بقلبه، ويضع نفسه محل السامع، أي كأنه المخاطب بهذه الخطبة؛ لأن ذلك سيجعله يختار العبارات التي يرضاها ويحبها وتقنعه. فمثلاً: لو كان يوجه نصيحة لواقعٍ في معصية معينة؛ فليضع نفسه مكان صاحب هذه المعصية، وكأنه المخاطب بهذا الخطاب، فذلك أدعى للتأثر، وأجود في انتقاء الألفاظ المناسبة.

وبعض الخطباء الذين لا يراعون هذه الناحية، تجدهم يترفعون على صاحب المعصية، ويخاطبونه من علو؛ فيكون عتابهم عنيفًا، ربما لا يقبله صاحب المعصية؛ لكنه لو وضع نفسه مكان صاحب المعصية، وبدأ بالعتاب فسيكون عتابًا رقيقًا، تقبله النفوس، وتتأثر به.

ج ـ إن أَحَسَّ الخطيب أنَّ القلم لا يجاريه في الكتابة، وأنَّ أفكارَهُ مُشَتَّتَةٌ، وذهنه مشوَّشٌ فَلْيَتَوَقَّفْ عن الكتابة؛ حتى يزيل ما يشغله أو ينساه، ثم يعود إليها مرة أخرى.

د ـ إذا أشكلت عليه بعض الكلمات، أو الجمل من جِهةِ إعْرابها أو صرفها، أو دَلالتها على المعنى الذي يريده، أو كونها غير فصيحة فله خياران:

1- الرجوع إلى المعاجم اللغوية؛ للتأكُّدِ من صحة الكلمة، ومناسبتها للمعنى الذي أراده، أو سؤال من يعلم ذلك من أهل اللغة والنحو.

2- استبدال الكلمة أو الجملة التي يشك فيها بكلمة، أو جملة أخرى يعلم صحتها، واللغة العربية غنية بالمترادفات من الكلمات والجمل.

وإن كنت أستحسن الطريقة الأولى؛ لكي ينمي الخطيب مهاراته اللغوية، وتزداد حصيلته من الكلمات والجمل.

هـ ـ العناية بعلامات الترقيم، وبداية الجمل ونهايتها؛ حتى يعينه ذلك على قراءة الخطبة بشكل صحيح، وعدم التعتعة والإعادة، وكثرة التوقف والتلكؤ.

أجزاء الخطبة:

أولاً: المقدمة: وهي التي يستهل بها الخطيب خطبته، ويهيئ السامعين لسماعها، ويجذبهم بها إليه، ونجاح الخطيب فيها كفيل بالنجاح في بقية خطبته؛ إذ إن عسيرات الأمور بداياتها.

وينبغي أن يراعي الخطيب فيها جملة أمور منها:

أ - أن تكون ذات صلة وثيقة بموضوع الخطبة، وممهِّدة له، ومهيِّئة الأذن لسماعه؛ قال ابن المقفع: "وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك".

وعلَّق عليه الجاحِظُ فقال: "فرِّق بين صدر خطبة النكاح، وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة الواهب؛ حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه؛ فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت؛ والغرض الذي إليه نزعت."

ب- أن تَكُونَ مناسبة في طولها وقصرها لمجموع الخطبة، والملاحظ أن بعض الخطباء يطيل في المقدمة إطالة قد تستوعب أكثر الخطبة أو نصفها، وهذا قد يصيب السامعين بالملل، وربما يئِسوا من الدخول في الموضوع؛ فانصرفت أذهانهم عن الخطيب، وعكسهم من لا يعتنون بالمقدمة؛ فيشرعون في الموضوع مباشرة، ولم يتهيأ المستمعون بعد، وكلا الأمرين غير حسن، والمطلوب الاعتدال في ذلك.

ثانيًا: صلب الموضوع: فبعد أن يمهد الخطيب لموضوعه في المقدمة، ويتهيأ السامعون لسماعه؛ يبدأ في الموضوع، وينبغي أن يراعي ما يلي:

أ - ترتيب الأفكار وتَسَلْسُلِها، بحيث لا ينتهي من فكرة إلا وقد أعطاها حقها من الاستدلال والإقناع، سواء كان الاستدلال لها بالنقل أم بالعقل، ولا يقفز إلى فكرة أخرى ثم يعود إلى الأولى مرَّةً أُخْرَى؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُرْبِكُ السَّامِعَ وَيُشَوِّشُ عليه، ولا يتأتى ذلك للخطيب إلا إذا جَمَع مادَّةَ الخطبة من نصوص واستدلالات ونقولات وأفكار، ثم سلسلها ورتَّبها قَبْلَ أنْ يَبْدَأ بصياغتها.

ب- التوازن بين الأفكار، فلا يُشْبِع فكرة ويطيل فيها على حساب الأخريات، ومما يلاحظ عند كثير من الخطباء عَدَم التوازُن في ذلك؛ فتراه في أول الخطبة يشبع كل فكرة ويطيل فيها، ويحشد النصوص لها، ثم لما يحس بأنه تعب، وأتعب السامعين، وأطال عليهم؛ سرد الأفكار الباقية سردًا بلا استشهاد ولا إقناع، رغم أهميتها، وربما أنها أهم مما طرحه في الأول، وسبب ذلك: أنَّ الخطيب ليس عنده تصوُّر كاملٌ لخطبته، وما فيها من مادة، وكم تستغرق من وقت.

وعلاج هذه المشكلة: أن يقدر الخطيب وقت خطبته، ويستحسن ألا تزيد عن ثلث ساعة، فإن زاد لأهمية الموضوع فنصف ساعة على الأكثر لكلا الخطبتين، ويقدر كم تكون من ورقة حسب خطه وإلقائه، ويحسب كم فكرة عنده، وكم لها من نص، ومن ثم يُسْقِطُ الأفكار مع نصوصها، وما تحتاجه من صياغة على الأوراق التي قدَّرها من قبل، فلا تخلو حينئذ من إحدى حالات ثلاث:

1- أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها متناسبة مع حجم المساحة التي قدرها ـ أي زمن الخطبة ـ فيبدأ بالصياغة مرتبًا الأفكارَ كما سبق ذكره، معطيًا كلَّ فكرة حقَّها من الأسطر بلا زيادة ولا نقص إلا شيئًا يسيرًا لا يُخلُّ بالخطبة.

2- أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها أقل من المساحة التي قدرها، وفي هذه الحالة له خيارات عدة:
أن يقصر الخطبة فتكون أقلَّ من ثلث ساعة، فهو ينظر إلى استيعاب الموضوع، ولا يلتفت إلى الوقت.
أن يزيد أفكارًا ذات صلة بالموضوع بقدر المساحة المتبقية.

أن يسترسل في الصياغة ـ أي يطيل في صياغة كل فكرة ـ بحيث يغطي النقص.
أن يزيد في الاستدلالات لكل فكرة.

وعلى الخطيب أن يقدر الأصلح في ذلك بما يتناسب مع أحوال المصلين معه.

3- أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها أطول من المساحة المقدرة؛ فإن كان الطول يسيرًا فيمضي، وإن كان كثيرًا فلا يخلو من إحدى حالتين:

أ - أن يمكن قسمة الموضوع إلى موضوعين فأكثر، بحيث يكون كل موضوع وحدة مستقلة فيقسمه، مثال ذلك: لو أراد الخطيب أن يتكلم عن حشر الناس يوم القيامة، وابتدأ حديثه منذ بعثهم من قبورهم، ثم حشرهم في العرصات... فسيجد أن موضوع البعث صالحٌ لأن يكون موضوعًا مستقلاً؛ لكثرة ما فيه من نصوص، وهكذا موضوع الحشر، ثم ما بعد الحشر، وهو فصل القضاء؛ فيجعلها موضوعات عدة.

ب- أن لا يمكن قسمته بهذا الشكل؛ كأن يكون الموضوع بطوله وحدة متكاملة لا تجزأ؛ مثال ذلك: الحديث عند فوائد الأمراض وهي كثيرة، وفيها نصوص كثيرة أيضًا، فلو قدرنا أن فوائد الأمراض المنصوص عليها عشرون فائدة، وفيها من النصوص ثلاثون نصًّا؛ فلا شك أن خطبة واحدة لا يمكن أن تستوعبها ولا اثنتين؛ لكن بالإمكان ذكر سبع فوائد في كل خطبة بحيث تصير ثلاث خطب، أو عشر فوائد في كل خطبة بحيث تصير خطبتين؛ فيسرد الخطيب في كل من الخطبتين أو الثلاث فوائد الأمراض جملة، ويفصل في الفوائد التي اختارها لهذه الخطبة بنصوصها، ثم في خطبة أخرى يسرد ما فصله في الأولى جملة، ويفصل فيما لم يذكره وهكذا، ويكون عنده أكثر من خطبة في الموضوع.

ثالثًا: الخاتمة: بعضهم يجعلها في الخطبة الأولى، وينتقل في الخطبة الثانية إلى موضوع آخر، في الغالب أنه يكون موضوعًا وعظيًّا معتادًا، يذكر بالنار، ويحث على التقوى، ويكون مسجوعًا، وهذا الأسلوب كان مستخدمًا عند خطبائنا قبل سنوات، ولا يزال بعض كبار السن منهم ينهجونه إلى اليوم.

وأكثر الخطباء في هذا العصر ـ حسب علمي ـ يجعلون الخطبة الثانية موصولة بالأولى وفي نفس موضوعها، وينهجون في ذلك منهجين:

أ - أن يلخص فيها موضوع الخطبة بعبارات مركزة؛ فتكون كخاتمة البحوث الإسلامية.

ب- أن يذكر المطلوب من السامعين حيال الموضوع الذي طرحه، ولعلّ هذا المنهج أحسن؛ لتلافي التَّكرار، ولحصول الفائدة من عرض الموضوع؛ ذلك أن المستمعين استمعوا في الخطبة الأولى إلى عرض الموضوع بأدلته النقلية والعقلية، فاقتنعوا بأهميته، وهم ينتظرون من الخطيبِ أن يبين لهم ما يجب عليهم تجاهه؛ فإن كان الموضوع عن سُنة مهجورة حفزهم لإحيائها، وإن كان منكرًا حثهم على إنكاره، وإن كان نصرة للمسلمين بيّن لهم طرق النصرة ومسالكها.

تنبيه مهم!! يلاحظ أن كثيرًا من الخطباء يجتهدون في جمع مادة الموضوع، وحشد النصوص له، وحسن الصياغة، وهذا يقنع المستمع بما ألقي عليه؛ لكنهم لا يذكرون واجب المستمع تجاه ما أُلقي حتى كأن الخطبة لم توجه للمستمع، وبالتالي لا تؤدي النتيجة المرجوة منها، وتجد أن الناس خرجوا من عند الخطيب متأثرين مثنين على خطبته وجمالها وقوتها، وأهمية موضوعها؛ لكنهم لم يُدْرِكُوا ما هو المطلوب منهم تجاه الموضوع المطروح..

وربما أنَّ بعضهم لفطنته فهم أنه معنيٌّ بهذا الموضوع، ومخاطب به، وعليه واجب تجاهه؛ لكنه لا يدري ماذا يفعل؟ أو ربما اجتهد فأخطأ؛ فينبغي للخطيب أن يلخص واجب كل مسلم تجاه الموضوع الذي أُلقي سواء على وجه الإجمال، أو بشيء من التفصيل والبيان؛ إذ إن هذا هو مقصود الخطبة: أن يخرج الناس من المسجد، وهم متشوقون لأداء ما يجب عليهم تجاه ما ألقاه الخطيب.
 
رد: كيف تعد خطبه

إعداد الخطبة وبناؤها

إن ذا الاطلاع الواسع والعلم الغزير إن لم يراجع نفسه حينا بعد حين ويفكر طويلا فيما يعتزم قوله ويزوق في نفسه أو قرطاسه من الألفاظ والعبارات المناسبة، فلسوف يهتز موقفه ويضعف أسلوبه ويتراخى أداؤه، ويتناقص عطاؤه، وينحدر في منجرف الابتذال السحيق وتكون معالجاته سطحية تفقد تأثيرها وتخسر جمهورها.
عناصر البناء
من المعلوم مما سبق ويتأكد فيما سيأتي أن الخطبة وسائر الأعمال العلمية والأدبية تحتاج إلى أسس ثلاثة:
قلب مفكر، وبيان مصور، ولسان معبر.
فالأول يكون به إيجاد الموضوع وابتكاره وتوليده، وبالثاني تنسيقه وترتيبه ورصه، وبالثالث عرضه والتعبير به.
وهذا بسط لهذه العناصر.
الإيجاد والابتكار: (القلب المفكر)
وقد يعبر عنه بالاختيار (اختيار الموضوع).
من المعلوم أن بواعث الاختيار متعددة، والخطيب كلما كان صادقا في قصده، مهتما بجمهوره وسامعيه، جادا في طرحه محترما لنفسه، فسوف يحسن الاختيار، ويقدح زناد فكره بجدية نحو الابتكار وحسن الاختيار، يضاف إلى ذلك الظروف المحيطة، والأحوال المستجدة، والأغراض الباعثة التي تستدعي الحديث عن بعض الوقائع والتعليق على بعض الأحداث والتفسير لبعض المواقف وتصحيح بعض المفاهيم، ونظر الخطيب الحصيف يدله على تقديم بعض وتأخير بعض وحسن التفسير ونوع التعليق.
التنسيق والترتيب: (البيان المصور)
لا يخفى أن طريق البيان المصور هو الأسلوب.
للأسلوب سلطان لا يضعفه العقل وأثر لا يمحوه الدليل، الأسلوب ألفاظ وجمل ينطق بها المتكلم ويتحدث بها الخطيب لا تكاد تخرج من فيه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين وتمتد الأعناق له احتراما، ألفاظ وجمل تثير في النفوس صورا لا حد لها ولا انحصار، محفوفة بالإكبار والتقدير، إذا كان هذا هو بعض أثر الأسلوب وتأثيره فكيف يكون الشأن في المعنى المحكم وقد كسي بلفظ جميل وألقي بلفظ منسجم وعبارات تثير في النفس أخيلة وأماني ؟
وينبغي أن يلحظ أن ثمت فرقا بين أسلوب الخطابة وغيرها من ألوان الكتابة والآداب، فالمستمع يتوجه نحو الخطيب بسمعه وذوقه وفكره فللكلمات أثر على السمع، وللجرس في النفس وقع، وللعقل فيه إدراك.
ومن أجل هذا فينبغي أن تكون ألفاظ الخطبة سهلة النطق لا يتعثر اللسان في إبرازها، ولا تتزاحم حروفها فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد، كما ينبغي أن تكون ذات جرس خاص يهز النفس ويثير الشعور، وتكون الجمل ذات مقاطع قصيرة كل جملة كاملة في معناها.
إن من أهم خصائص الأسلوب الخطابي عنصر الشعور والوجدان والإثارة والتشويق، وإذا فقد ذلك فقد أكبر خصائصه.
أسلوب التكرار والتفنن في التعبير عنصر في الخطابة هام، فالخطيب محتاج إلى تكرار فكرته ومغايرة تصويره، فمرة بالتقرير ومرة بالاستفهام وأخرى بالاستنكار ورابعة بالتهكم.
أما فن الإيجاز والإطناب فيختلف من حال إلى حال، فيراعى حال السامعين في إقبالهم ومللهم ونوع الموضوع وظروف الإلقاء وردود الفعل عند السامعين.
أما ألفاظ الخطبة وعباراتها فينبغي أن تتسم بالوضوح والبيان لتكون سهلة الإدراك من السامعين سريعة الإيصال إلى المقصود بعيدة عن الوحشي والتكلف.
وفي ذات الوقت تبقى محترمة غير مبتذلة تحفظ للخطيب وخطبته الهيبة والوقار وللموقف مكانته وجلاله.
فهي ألفاظ منتقاة في غير إغراب في أسلوب سهل ممتنع يفهمه الدهماء ولا يجفو عنه الأكفاء.
ومن الحذق في المعرفة أن يدرك الخطيب أن خطاب الحماس غير خطاب التألم، وحديث الترغيب غير حديث الترهيب، وأسلوب تعداد المفاخر وزرع الثقة غير أسلوب التواضع وذم الكبر والمتكبرين، والخطيب المتمرس هو الذي يضع كل نوع في موضعه ويختار لكل كلمة قالبها وميدانها.
أما السجع فيجمل منه ما ليس بمتكلف قصير الفقرات، سهل المأخذ يخف على السمع، ويحرك المشاعر بحسن جرسه، ويكون خفيفا سهلا إذا سلم من الغثاثة وجانب الركاكة، اللفظ فيه تابع للمعنى وليس المعنى تابعا للفظ، ذلك أن السجع حلية والحلية لا تحقق غرضها في الجمال ما لم تكن قليلة غير متكلفة حسنة التوزيع تبرز المحاسن ولا تغطيها.
ويرتبط بالسجع رعاية المقاطع والفواصل فتكون جملا قصيرة نظرا للفائدة عند الوقوف في آخرها، والجملة إذا طالت وتأخرت إفادتها للسامع أدركه الثقل والملل، وضاعت عليه الفائدة وحسن المتابعة.
اللسان المعبر:
ويقصد به الإلقاء وحسن الإجادة فيه، وقبل أن نبسط القول فيه يحسن التطرق لحديث مقارنة بين الارتجال والكتابة.
بين الارتجال والكتابة:
كثير من الكاتبين والناقدين يستحسنون في الخطيب أن يلقي خطبه ارتجالا، فهذا عندهم أعظم أثرا وأكثر انفعالا وأقدر على إعطاء الموقف متطلباته من خفض ورفع وتهدئة وزجر، وقد يدون المرتجل عناصر مقولته في كلمات أو جمل يعاود النظر إليها بين فينة وفينة.
وقد يوجد في الخطباء من يعد الخطبة ويحسن تحبيرها ثم يحفظها حفظا عن ظهر قلب.
والارتجال بأنواعه وطرقه لا يكون مؤثرا ما لم يسبقه إعداد محكم وحبك للعناصر في النفس على نحو ما سبق في الكلام على الأسلوب.
وثمت فئة من الناس تكتب الخطبة وتلقيها من القرطاس وهو مسلك مقبول، ولكن ذلك لا يؤتي ثمرته ولا يحقق غايته، ما لم يكن الخطيب أحسن الإعداد وتأمل فيما كتب وأعاد النظر فيه تأملا وقراءة وإصلاحا وتخيرا للألفاظ وانتقاء للعبارات، بحيث يكون في إلقائه متفاعلا مع ما يقول مستوعبا لما يلقي ليحرك المشاعر ويثير العواطف ويستحسن أن يكون في قراءاته وإلقائه مشرفا على السامعين بنظره بين فترة وأخرى ليعرف حالهم ويسبر مشاعرهم وانفعالاتهم.
الإلقاء:
هو الغاية التي ينتهي إليها الإعداد والبناء، وهو الصورة التي يتلقى بها السامع حصيلة ما جاد به خطيبه، فلا يبقى للخطبة أثرها ولا لحسن الأسلوب وقعه ولا لجودة التحضير ثمرته ما لم يصب في قالب من الإلقاء يحفظ الجهد ويبقي المهابة ويشنف الأسماع، ومن أجل تحقيق ذلك يحسن مراعاة ما يلي:
جودة النطق:
فيخرج الحروف مخارجها من غير تشدق أو تكلف فيلقيها حسنة صحيحة واضحة في يسر وترفق وتدفق.
مجانبة اللحن:
ينبغي للخطيب أن يعتني عناية تامة باللغة العربية صرفا ونحوا فينطق لغة عربية صحيحة فصيحة، فاللحن يفسد المعنى ويقلب المقصود.
وإذا فسد المعنى أو التبس ذهب رونق الخطبة وبهاؤها وحسن وقعها، إضافة إلى فساد المعنى من حيت يدري أو لا يدري.
التمهل في الإلقاء:
النطق السريع المتعجل يفقد المتابعة كما أنه قد يشوه إخراج الحروف فيختلط بعضها ببعض وتتداخل المعاني وتلتبس العبارات، وقد يؤدي به التعجل إلى إهمال الوقوف عند المقاطع ورعاية الفواصل.
ومن جهة أخرى فإن التمهل والترسل في الأداء من أول الدلائل على رباطة الجأش فيجمع للخطب الهدوء في الكلام، والأناة في النطق، والجزالة في الصوت.
وهذا التمهل الذي ندعو إليه لا ينبغي أن يقود إلى هدوء بارد وتثاقل مميت، ولكنه تمهل لا يعارض ما يطلب من الخطيب من خفض ورفع وعلو نبرات مما يبعث على الحياة وحسن المتابعة ودفع السآمة.
الحركات والإشارات:
للإشارات والحركات أثرها أثناء الحدث والخطابة، ومن هذه الحركات ما هو لا إرادي فالغاضب يقطب جبينه ويعبس وجهه، وذو الحماس تنتفخ أوداجه وتحمر عيناه، ومنهم من تنقبض أصابعه وتنبسط، ومنهم من يبكي خشوعا ورقة ويعلو صوته حماسا وتفاعلا.
وبعضها إرادي من إشارات توجيهية يحتاج إليها في تنبيه لبعيد أو قريب، إشارات تعكس الانفعال والمشاعر وتعين على مزيد من المتابعة والتوضيح.
وينبغي أن تكون إشارات منضبطة بقدر معقول وانفعال غير متكلف ومتساوقة مع الشعور الحقيقي.

طريقة البناء
تبنى الخطبة عادة من ثلاثة أجزاء: المقدمة والموضوع والخاتمة. وهى عناصر لا يصرح بها أثناء الكتابة أو الإلقاء، كما أنها عناصر متداخلة متناسقة، يبلغ الترابط بينها جودته حسب مقدرة الخطيب وغزارة علمه وخبرته فتنتظم أجزاء الخطبة ويحكم تركيبها.
وهذا الانتظام والإحكام يجعل المعاني واضحة والمقاصد ظاهرة، ويضمن للمتحدث حسن الإصغاء من سامعيه وكمال الانتباه من جالسيه.
وقد لا يلزم مراعاة هذه الأجزاء في كل خطبة لكن خطبة الجمعة غالبا ما تحتاج إليها نظرا لأنها خطبة طويلة غير قصيرة.
المقدمة:
ينبغي أن يهتم الخطيب بمقدمته وافتتاحيته، فيأتي بعبارات الاستهلال التي توحي للسامع بمقصود الخطبة، مما يشد الانتباه ويهيئ النفوس، وقد يكون ذلك بآيات قرآنية زاجرة أو مرغبة أو بعض الحكم البليغة، والافتتاحية هي أول ما يلقيه الخطيب على جمهوره، فإذا ما فاجأهم بحسن التقديم استطاع متابعة بقية خطبته بانطلاق ونشوة وعاش مع جمالها اللفظي وسبكها الفني ومعناها الدقيق.
وإن الناظر في افتتاحيات أوائل السور في القرآن الكريم يدرك ما تثيره في النفس من الإجلال والشوق والرغبة في المتابعة، فترى الافتتاح حينا بالثناء على الله عز وجل تسبيحه وتنزيهه، وحينا بالنداء أو الاستفهام أو القسم مما يولد الرغبة في المتابعة ويولد اللهفة في الاستكشاف لدى كل ذي ذوق رفيع وحس مرهف.
والمقصود أن يكون في صدر الكلام ما يدل على غاية المتحدث، على أن من المعلوم أن خطبة الجمعة تفتتح بحمد الله والثناء عليه والشهادتين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون في هذه الألفاظ من حسن الانتقاء ما يدل على موضوع الخطبة ومقصودها.
ومعروف عند المتقدمين من السلف -رحمهم الله- أن ما لا يبتدأ بالحمد فهو الأجذم الأبتر، وما لم يزين بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المشوه.
الموضوع:
وهو مقصود الخطبة الأعظم، وقد أشرنا في الكلام على أنواع الخطب إلى معظم مقاصد خطبة الجمعة.
وقد يكون من المناسب التصريح به في مبتدأ الخطبة كأن يقول: أريد أن أحدثكم عن كذا.. إذا كان من قضايا الساعة التي يخوض فيها المجتمع ويتطلع إلى كلام شاف فيها.
وقد لا يحسن التصريح به، إما لأنه شائك أو يوجب انقسام الناس، وفي هذه الحالة ينبغي أن يدخل إليه الخطيب دخولا متدرجا، ويتناوله تناولا غير مباشر، ليأخذ السامعين بتسلسل منطقي فيصل إلى مبتغاه باعتدال وتوازن متحاشيا الإثارة والانقسام، ومن ثم يبلغ الخطيب غايته من تهيئة النفوس إن كانت عنه معرضة وإليه غير مقبلة أو كان حديثا في غير ما تألفه نفوسها.
وموضوع الخطبة عادة ما يبتنى على ركنين أساسيين هما التعريف والإيضاح والاستدلال.
التعريف والإيضاح:
أما التعريف والإيضاح: فلا يقصد به ما يعتني به الباحثون المختصون من اللغة والاصطلاح، ولكنه يكون بذكر الصفات والخواص والمزايا لذات الموضوع وقد يكون الاستعارات والتشبيهات وضرب الأمثال والإجمال ثم التفصيل وبالصلة والتضاد والتقابل. وانظر إلى هذا التعريف من علي رضي الله عنه للمتقين من خلال أوصافهم ونعوتهم فهو يقول: " المتقون هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضوا أبصارهم عن الحرام، ووقفوا أسماعهم على النافع من العلم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب ".
الاستدلال:
أما الاستدلال: فغالبا يحتاج الموضوع إلى ما يدعمه بالأدلة والحجج والبراهين والشواهد وهي عادة ما تكون من الكتاب والسنة وأقوال السلف، وإيراد بعض الوقائع والأحداث من باب القياس والاعتبار بل إن زيادة الإيضاح والبسط والبيان نوع من التدليل وكسب إقناع المستمعين بصدقها أو أهميتها أو خطورتها، ومما يدخل في هذا الباب دخولا أوليا ربط الحاضر بالماضي وبخاصة تاريخ السلف الماضين، فإن من النفوس من تحفظ تقديرا وإكبارا لسلفها المجيد، وأصحابه الأماجد، ولأمر ما قال الكفار: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ)(1)، وقالوا: (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا)(2).
ويفيد في هذا الباب النقل عن مشاهير الأئمة وحكمائها ممن عرفوا بالصلاح والإمامة والمروءة والزهد والشجاعة والورع حسبما يقتضي المقام ويناسب المقال.
الخاتمة:
بعد أن يفرغ الخطيب من عرض موضوعه، وسوق أدلته، وضرب أمثلته وبيان دروسه، وعبره، وترغيبه وترهيبه، يحسن أن ينهي خطبته بخاتمة مناسبة تجمع أفكاره، وتلخص موضوعه، بعبارات مغايرة، وطريقة مختصرة؛ لأن الإطالة في هذه الحالة تجلب الملل وتشتت الفكر. ولا ينبغي أن تحتوي على أفكار جديدة وأدلة جديدة؛ لأنها حينئذ لا تكون خاتمة وإنما جزء من الخطبة وامتداد لها.
وتكون الخاتمة قوية في تعبيرها وتأثيرها، لأنها آخر ما يطرق سمع السامع ويبقى في ذهنه، وإذا كانت ضعيفة في تركيبها فاترة في إلقائها، ذهبت فائدة الخطبة، ذلك أن من نجاح الخطيب أن يلقي خاتمته بثقة وطريقة مؤثرة ومقنعة، وكأنه يشعر جمهوره بأنه قد انتهى إلى رأي ومسألة لا تقبل الجدل ولا تحتمل النظر.
وقد تكون الخاتمة آيات قرآنية لم يسقها من قبل تجمع موضوعه في الترغيب أو الترهيب أو التدليل والإثبات، وقد تكون حديثا نبويا يفيد ما تفيده الآيات القرآنية.
وقد يكون إعادة لعناصر الخطبة بأسلوب مغاير -كما أسلفت- وبطريقة جامعة واضحة ذات تأثير قوي.
هذا ما يتعلق في بناء الخطبة وثمت مسائل لا يسع الكاتب إغفالها من أجل استكمال التصور الشامل عن الخطبة وحسن إعدادها وهي مسائل ثلاث: وحدة الموضوع، الجدة والتغيير، طول الخطبة.
وحدة الموضوع:
ينبغي الاقتصار على موضوع واحد تستوفى عناصره، وتحبر كلماته وتعمق معالجته، لأن تشعب المواضيع وتعدد القضايا في المقام الواحد يشتت الأذهان، وينسي بعضها بعضا، ويقود إلى الإطالة المملة والصورة الباهتة وسطحية المعالجة.
الجدة والتغيير:
ويعني ذلك ألا يلتزم الخطيب طريقا واحدة أو وتيرة واحدة في أسلوبه وطريقة إلقائه، بل يكون استفهاميا تارة، وتقريريا أخرى، وضربا للأمثال، وتلمسا للحكم والأسرار، مع ما يطلب من معايشه الأحداث، ومتابعة المتغيرات، وتلمس حاجات الناس وتوجيههم وتبصيرهم تمشيا مع أثر هذه المتغيرات عليهم.
على أن الخطب المنبرية بطبيعتها قد تستدعي تكرارا لبعض مواضيعها إن لم يكن كثيرا منها ؛ لأن من أعظم أغراضها ومقاصدها الدعوة والتذكير. والتذكير في حقيقته يعني الحديث عن شيء سبق علم السامع به فهو تنبيه لغافل، وحث لمقصر، مما تستدعي التجديد في الطرق والأسلوب والمعالجة، كالتوحيد والعبادة والصلاة والصوم والزكاة وبر الوالدين والمحرمات من الربا والزنا والخمر والزور وأكل أموال الناس بالباطل وأمثالها مما يجب مراعاة التجديد في طرقها والتغيير في عرضها.
طول الخطبة:
من المعلوم أن معالجات المواضيع تختلف باختلاف محتواها وظروفها وسامعيها، ففي بعض الظروف يحسن البسط والإطناب، ويكون السامعون مستعدين لاستماع، كما هو مشاهد في ظروف الأزمات والأوضاع ذات النقاشات الحادة والأحوال المتوترة، كما أن بعض الخطباء عنده من الجاذبية وحسن العرض والإلقاء ولطف التودد والأخذ بالألباب ومجامع العقول ما يجعلهم يطلبون المكوث حول خطيبهم ويقبلون منه الإطالة، إن هذه ظروف وأوضاع لا تنكر ولكن الحال الأغلب والواقع الأعم أن النفوس لها حد تحسن فيه الاستماع وتدرك فيه المعاني، بعده تتشبع وتقف ويصبح الكلام عندها مملولا، والكلام ثقيلا، وينسي بعضه بعضا، فالوصية العامة للخطباء أن يجتنبوا الإطالة ويجنحوا إلى الاعتدال وتغليب جانب الاختصار على الإطناب في أعم الأحوال، وقد قال عليه الصلاة السلام: " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه "(3).
ويحسن من الخطيب أن يعود سامعيه على زمن معتدل ثابت يلتزمه فإنهم إذا خبروه بانضباطه ودقة التزامه أحبوه ولازموا حضوره.
ومن الخير للخطيب وجمهوره أن ينفضوا وهم متعلقون بخطيبهم من غير ملل أو سآمة.

موقع الاسلام

د. صالح بن عبد الله بن حميد


(1) سورة الزخرف آية: 22.
(2) سورة البقرة آية: 170.
(3) مسلم الجمعة (869)، أحمد (4/263)، الدارمي الصلاة (1556).
 
عودة
أعلى